الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 880
- بتاريخ: 15 - 05 - 1950
أنا وابن الغرب
للأستاذ راجي الراعي
أنا الشرق أراك تختال علي يا ابن الغرب فبماذا تختال، بماذا؟
أبينا بيعك في التاريخ وقد ولد آدم في أرضنا؟
أبشرائعك وحمورابي من أجدادي؟
أبدخان معاملك وهذا دخان أحلامي؟
أبإيمانك ونحن مهد الأديان؟
أبجبالك وهذا لبنان؟
أبصدرك الرحب وعندي كل هذه الصحارى؟
أبأنهارك ولي دجلة والفرات وبردى والنيل؟
أبأمجادك والمجد مجدنا القديم؟
أبآثارك وهذه هياكل جبيل بعلبك وتدمر والأهرام؟
أبشمسك وأنا الشرق؟
أبشعرك وخيالك ونحن أخوان النجوم وأخوال القمر؟
أبمروجك وحدائقك وفي بلدنا أقام الله جنته الأولى؟
بماذا تختال علي أنا الشرق، بماذا؟
أبعدلك وساعة العدل عندنا خير من ألف شهر عبادة؟
أبلغتك وأين هي من فخامة الضاد وجمال العين وجلال الطاء؟
أبقمرك وأنت لا تراه وقد حجبه عنك البناء الشاهق الضخم؟
أبهياكلك وهياكلي لا تعد ولا تحصى؟
أبدهائك ونحن الدهاء كله؟
أبأبراجك وهذا برج بابل؟
أبأشجارك وأنا صاحب الأرز، أرز الرب، والنخيل؟
أبأهوالك وتهاويلك وهذا (أبو الهول)؟
أبحكمتك وفلسفتك وعندي كونفوشيوس وبوذا وبراهما وكريشنا وهرمس؟
أبفنونك وفي سمائنا ما لا تجده في متاحفك؟
أبخيراتك وخزائنك وأنا صاحب الآبار، آبار النفط في الحجاز؛ ومالك الذهب، ذهب
الأقبية في الهند وقد ضاقت به الخزائن.
أبالأخلاق وفي معجمي كلمة هي (المروءة) لا أجد ما يقابلها في معجمك ويأتي بسرها
ومعناها البعيد.
أبكهربائك والكهرباء قديمة لم تخترع سرها الذي كان وما يزال في العيون وفي الأدمغة
والقلوب.
أبكؤوسك وخمورك والخمرة المعتقة لا تجدها إلا في هذه الديار والأديار.
أبعبقريتك وعبقر الموضع الكثير الجن الذي ينسب إليه العبقري يقع تحت هذه السماء.
أبميراثك ونحن لم تبق أمة في الأرض ما ورثناها.
أبرياحينك وهذا عبير الشرق يضمخ السماء والأرض؟
أبعددك وأمامك الهند والسند والصين؟
بماذا تختال علي أنا الشرقي، يا ابن الغرب؟
لك نظرتك في الحياة ولي نظرتي. . .
لك تاريخك ولي تاريخي.
لك صفحتك من الكتاب ولي صفحتي. . .
أنت الغرب وأنا الشرق فليس لأحدنا أن يشمخ على الآخر ولا مجال بيننا للتيه
والغطرسة.
إن الله لا يؤيد غير الحق، ولا يحب غير الوادعين المنصفين. . .
راجي الراعي
الرافعي اللغوي
للأستاذ محمود أبو ريه
من المصادفات الطيبة أن تنشر هذه الكلمة في وقت الذكرى الثالثة عشرة لوفاة شيخنا الرافعي رحمه الله، ولا يسعنا بهذه المناسبة الكريمة إلا أن نبعث إلى روحه الظاهرة في فردوسها عند بارئها بأطيب التحية سائلين الله سبحانه أن يسيغ عليها من رحمته ورضوانه أنه سميع مجيب.
نشرت مجلة الرسالة الغراء كلمة للأستاذ محمود محمد بكر هلال بعنوان (تطور اللغة العربية) نقل فيها كلاماً لشيخنا الرافعي رحمه الله يشير فيه إلى مذهبه في الاجتهاد اللغوي، وقد رأينا أن نعزز هذا الكلام بأقوال أخرى لهذا الحجة الكبير تزيد مذهبه وضوحاً.
كان الرافعي رحمه الله إماماً في اللغة كما كان إماماً في الأدب. وقد وصل بهذه الإمامة إلى درجة الاجتهاد في اللغة لا يقلد أحداً ولا يتابع إنساناً.
قرأت له في أحد كتبه أنه نسب إلى (الأخلاق) فكتبت إليه أن النسبة - كما تقضي قواعد النحو - إنما تكون للمفرد لا إلى الجميع، فجاء منه خطاب مؤرخ أول يونيه سنة 1927 جاء فيه (ملاحظتك على النسبة إلى الأخلاق ليست في محلها، فإن النسبة حقيقة للمفرد ولكن في مثل هذه الكلمة يكون الأفصح أن ينسب إلى الجمع؛ لأنهذا الجمع أصبح كالحقيقة العرفية الدالة على مفرد؛ فالأخلاق علم معروف متميز بنفسه وبهذا صار كالحقيقة المفردة وكانت النسبة إلية أدل على المعنى المقصود، وتأتي الكلمة أبلغ، وتنزل من الأسلوب منزلة ترضي. والمدار عند العرب على الاستخفاف والاستثقال، فلو خالفوا القياس لهذه العلة لتكون الكلمة أخف وأفصح لكان ذلك وجهاً صحيحاً، فكيف وههنا الحقيقة العرفية التي ذكرتها لك)
واستعمل في كتاب أوراق الورد كلمة (أوحى لها) فكتبت إليه أن الأفصح كما جاء في القرآن الكريم أن فعل (أوحى) يتعدى (بالى) فجاء منه خطاب مؤرخ 14 ديسمبر سنة 1932 قال فيه (أما - أوحى لها - فهي بنصها كلمه شاعر أوراق الورد في مقالة له، فربما كان سبب وضعها هو تذكره وهي في موضعها أفصح من (إليها) كما يظهر لك من نطق الجملة من أولها مرة (بلها) ومرة (يا ليها) وأنا عادة أراعي موقع الحرف في
الأسلوب فإن كانت (اللام) أقوى استعملتها، وقد أراعي اعتبارات أخرى)
ولما ترجم لشوقي بك رحمه الله في المقتطف انتقد هذا البيت من شعر شوقي:
إن رأتني تميل عني كأن لم
…
تك بيني وبينها أشياء
وكان نقده أن شوقي رفع جواب الشرط وأن صواب (تميل)(تمل) فرد عليه الأستاذ العقاد وقال، إن كتب النحو قد أجازت ذلك. ولما أطلع الرافعي رحمه الله علة هذا الرد بعث ألي بخطاب مؤرخ 21 ديسمبر سنة 1932 قال فيه:
(العقاد انتقد في المقتطف كلمة كنت خطأت فيها شوقي، وهي: جواب الشرط حين يكون فعل الشرط ماضياً، والنحاة جميعاً أجازوا هذا فأنتهزها العقاد، ولكن النحاة في رأيي مخطئون، وقد كتبت رداً طويلاً. . .)
وقد جاء في هذا الرد الذي نشر في المقتطف ما يلي:
(يشير الكاتب إلى القاعدة المذكورة في كل كتب النحو من أن الجواب يرفع أو يجزم إذا كان الشرط ماضياً لفظاً أو معنى، والجزم هو المختار عند قوم والرفع جائز، وعند قوم العكس وعند آخرين يجب الرفع. ولم يقل أحد من النحويين إنهما (على السواء)
ولكن مع ورود هذه القاعدة في كل كتب النحو لا يزال بيت شوقي عندنا غلطاً لأننا لسنا من (الذين يعرفون النحو) معرفة النقل في الكتب والتقيد بالرأي خطأ وصواباً، ولا هذا مذهبنا في الأدب ولا في اللغة، ولا نقلد أحداً ولا نتابع أحداً بل لأن يمر ما في الكتب من هذا الرأس بدياً فيجئ مجيئه الأول من ناحية أهله، ثم مجيئه الثاني من ناحيتنا، وسنعرض هنا كل أقوال النحاة في رفع جواب الشرط على نسق من القضايا ونعترضها بالنقد
(1)
لا يمكن أن يجعل رفع الشرط في تلك الصورة قاعدة يقتاس بها إلا إذا سمع في الكلام المنثور دون المنظوم، إذ النظم محل الضرورة في أشياء كثيرة معروفة، أما النثر فهو على السعة ولا يجوز فيه إلا الجائز. فما هي الأمثلة التي نقلها النحاة عن العرب لتلك القاعدة، وعن أي القبائل سمعت؟ وهل هو السماع الذي يعضده القياس أم السماع الضعيف؟
(2)
لم يزيدوا في كتبهم على أن قالوا إن ذلك مسموع ولميزد سيبويه في كتابه على هذه العبارة وفيه تقول (تأمل) إن أتيتني آتيك أي آتيك إن أتيتني قال زهير:
وأن أتاه خليل يوم مسألة
…
يقول لا غائب مالي ولا حرم
فأنت ترى أن سيبويه يضع مثالاً ويأتي بالشاهد عليه من الشعر والشعر محل الضرائر يجوز فيه ما لا يجوز في الكلام ولا اضطرار في بيت شوقي، إذ يستطيع أن يقول: إن رأتني تصدعني. فلا شاهد في كلام سيبويه على رفع الجواب
(3)
إن أداة الشرط تجزم فعلين، فإذا كان الجواب مرفوعاً قيل في إعرابه أنه فعل مضارع مرفوع في محل جزم، فإذا لم تكن ثم ضرورة من الوزن فما الذي يمنع الجزم أن يظهر على الجواب في كلام هو من لغة النهار والليل، وما علة تقدير الجزم ولماذا يقدر في مثل: إن زرتني أكرمك وأنت تستطيع أن تقول أكرمك؟
(4)
من أجل هذه العلة يقول سيبويه ومن تبعه إن (أكرمك) في مثل هذه الصورة ليست هي الجواب بل الكلام على نية التقديم أي الأصل (أكرمك إن زرتني) فالجواب محذوف. وفي هذا الرأي (وهو أقوى الآراء وأسدها) لا يقال أن جواب الشرط مرفوع. ثم إن فرقاً في البلاغة بين قولك أكرمك إن زرتني وقولك إن زرتني أكرمك فلماذا يقلب سيبويه إحدى العبارتين إلى الأخرى على حين قائلها لم يرد إلا وجها بعينه. وما هي ضرورة التقديم ما دام الكلام على السعة؟
ومن أجل هذه العلة أيضاً يقول الكوفيون والبرد من البصريين أن (أكرمك) ليست هي الجواب والكلمة على تقدير الفاء؛ فالأصل إن زرتني فأكرمك؛ وبهذا يكون الجواب جملة اسمية. ولكن ما هي ضرورة حذف الفاء وتقديرها في وقت معاً والكلام ليس موزوناً يختل معه الوزن إن ذكرت الفاء، وقائلها لو أرادها لذكرها لأن الجملة من الكلام المبتذل الذي لا يراد منه شاهد في البلاغة؟ وهم قاسوا ذلك على مثل قوله تعالى: ومن كفر فأمتعه قليلاً. ومن عاد فينتقم الله منه. ومن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً. ولكنهم غفلوا عن سر هذه الفاء فقاسوا عليها ذلك أمثال المبتذل
(6)
ويقول بعض من ذهبوا إلى أن سبب رفع الجواب تقدير الفاء إن هذه الفاء تقوم في إفادة الربط مقام الجواب. . . فيصح رفعه وترك جزمه استغناء عنه بالفاء. . . وهذا كما ترى من الخلط
(7)
قال قوم من النحاة أن الكلام ليس على نية التقديم، ولا على تقدير الفاء ولكن لما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضياً ضعف عن العمل في الجواب. وهذا
على مذهب أن فعل الشرط هو الذي يجزم الجواب وهو غير الرأي الذي عليه التحقيق إذ يلزم أن يكون الجواب معمولاً لأداة الشرط لفظاً ولا تقديراً. والجزم وليس قوة ميكانيكية. . . بطل تأثيرها إذا انتهى إلى فاصل لا يتأثر بها فلا تتعدى إلى ما وراء هذا الفاصل. ثم أن فعل الشرط إذا كان مضارعاً مبنياً كان كالماضي في عدم ظهور الجزم فيه ومع ذلك لا يرفع الجواب بعده. فبطل هذا الرأي كله.
(8)
إن القرآن الكريم وهو أفصح الكلام لم يأت في رفع الجواب مطلقاً بل جاء بالعكس في قوله تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها. وقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها فيخلص من كل هذا أن أقوال النحاة ساقطة كلها وأن الأساس الذي ينبت عليه من السماع مجهول لم يأت به أحد وأنه لم يفرق لأحد منهم عن علة مقنعة في زعمهم رفع الجواب بل عارض بعضهم بعضاً، ومتى تعارضت الأقوال تساقطت. وأن الأصل الصحيح الذي بين أيدينا وهو القرآن الكريم ينكر هذه القاعدة فلم يأت بها ولا مرة واحدة وأتى بخلافها مراراً، فكيف يكون التأويل بعد هذا وما هو الوجه الصحيح وكيف يدفع السماع الذي نصوا عليه وكيف يكون الدفاع عن هؤلاء النحاة وهم قد عجزوا عن البرهان القاطع؟) آه
هذا قليل من كثير من آراء شيخنا الرافعي رحمه الله في الاجتهاد اللغوي نجتزئ به اليوم ولعل الله يعيننا على أن نأتي يوماً بكل آرائه وأن نحصى كل ما وصل إليه باجتهاده.
المنصورة محمود أبو ريه
العقل.
. .
للأستاذ محمد محمود زيتون
امتاز القرن السادس عشر بنزعة التحليل، ولعل (فرنسيس بيكون) كان حامل لوائها، فهو في القسم النقدي من (المنطق الحديد) يصف ما يسميه (أصنام العقل) وهي أغاليط تنتاب العقل وتحول بينه وبين الصواب ويسميها بيكون: أصنام الكهف، وأصنام السوق، وأصنام القبيلة، وأصنام المسرح. ولكي يكون العقل منتجاً لا بد من هدم هذه الأصنام.
وجاءت فلسفة ديكارت ثمرة طيبة لثورة بيكون، تأمل ديكارت في نفسه وفيما حوله، فشك في كل شيء طائعاً مختاراً حتى اهتدى إلى أول حقيقة هي (أنا أشك فأنا موجود) وعرف عن خاصية نفسه أنه (شئ يفكر) ورأى أن الناس سواء في (العقل) هو أعدل الأشياء توزيعاً بين الناس، ولكنهم متفاوتون في الوصول إلى الحقيقة لاختلاف مناهجهم، فاختط لنفسه (منهجاً لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم) ولئن لم يصرح ديكارت بأن منهجه إنما قصد به القضاء على المنطق المدرسي العقيم إلا أنه ينم عن هذه النزعة الثائرة، واستفاد حقاً من المنطق المدرسي ومنطق بيكون والتحليل الهندسي جميعاً.
وعلى كل حال فإن منطق أرسطو، وأرجانوم بيكون ومنهج ديكارت كلها آلات تعصم مراعاتها من الوقوع في الخطأ والزلل. وهذا اتجاه فكري له أصالته في تاريخ العقل من غير شك.
وما كان ديكارت - وهو المفكر الجريء - بقادر على أن يهدم التراث الفكري دفعة واحدة، فقد اصطلحت عليه العوامل الدينية والواجبات المدنية والتكاليف الاجتماعية فلم يقدر على دحضها، وإن كان قد مسها مساً هيناً ليناً. وبحسب العقل عنده أن يكون قوة الحكم الصحيح أي القدرة على التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والجميل والقبيح بشعور داخلي تلقائي مباشر. وأيا ما كان من سلوك ديكارت فإنه فوض كل تفسير إلى الله، وترجم بذلك عن روح مسيحي خالص.
ولقد سار على هذا النحو (بوسويه) فهو يقول: (الفهم حيث يبدع ويتداخل يسمى روحاً ومن حيث يحكم ويوجه نحو الحق والخير والجمال يسمى عقلاً أو ثم أن العقل حيث يجنبنا شر الإنسان الذي هو الخطيئة يسمى الضمير ويقول في نفس الكتاب (العقل هو
الذي أعطانيه الله لهدايتي) وموضوع هذا العقل الحقائق الباقية، وهي في الله بل هي الله ذاته، ويذكر من هذه الحقائق الباقية: حقائق الرياضة وقوانين الحركة والأصول الأخلاقية. ويقول: إن هناك صلة وثيقة بين القانون والعقل ولا يمكن أن يوجد نظام بين الأشياء ما لم يكن في العقل هذا النظام الذي نستطيع أن نفهمه بالعقل فقط، وما القانون إلا سبيل العقل وموضوعه المباشر).
ويقول أيضاً (نحن نتلقى توا وعلى الدوام عقلاً هو أسمى منا كما نستنشق الهواء الذي هو غريب عنا) ويستطرد قائلاً (كل منا يحس في نفسه عقلاً محدوداً ومتغيراً، وهو لا يصحح خطأه إلا إذ اتصل بعقل أسمى كلى لا يتغير. أين هذا العقل السامي؟ هو الله الذي أبحث عنه، هو ذلك الموجود الكامل كمالاً لا نهائياً يتمثل في نفسي مباشرة عندما أدركه، وذاته هي الفكرة التي لدي عنه)
وقد تأثر (فينيلون)(بوسويه) عن (وجود الله) وصبغ نظريته صبغة صوفية مثالية، وبوسويه وفينيلون وملبرانش متفقون على أن كل صلة بين العقل والحق الخالد هي صلة مباشرة بين العقل الإنساني والله. وليس يهمنا هنا ما كان بينهم من تعاوت تفريعي غير أن ملبرانش أنكر كل ما سوى الله، وكأنه يقول بلسان عربي قويم (ألا كل شئ ما خلا الله باطل)، فالله وحده هو الذي ندركه مباشرة وهو مصدر الحقيقة، ومحل المعاني، وحينما نفكر بوضوح وجلاء أو بلغة ملبرانش حينما (نصلي صلاة طبيعية) نكون في الله ونراه. فيه انطوى العالم المعقول.
ويقسم (سبينوازا) إلى أنواع أربعة: سمعية، وتجريبية، وحدسية، وعقلية. والمعرفة العقلية هي المعرفة الحقة لأنها لا تعتمد على الأفكار العامة، وإنما تعتمد على خواص مشتركة يمكن تجريدها من كل تجربة حسية كالامتداد والشكل والحركة. ووظيفة العقل هي أن يعمل على ربط الأشياء بهذه العناصر المعقولة، والعقل كان تحت تأثير الحس والتخيل، إن كان يولد حركة الطبيعة من الفكر الإلهي الذي عنه يصدر كل شئ.
وحين يعترف (ليبنتز) الفطرية يستلزم التجربة قبل أن يصل ما لدينا بالقوة إلى الفعل، أي بأسبقية التجربة الحسية على التعقل.
أما (لوك) عارض مذهب المعاني الفطرية، وانعكس على نفسه، وبالقياس التمثيلي انتهى
إلى فكرة عقل خالق، وبتوسيع معاني القوة، والدوام والعلم والقدرة إلى ما لا نهاية ننتهي إلى تكوين فكرة عن الله. العقل عنده هو ملكة التجريد التي ليست للحيوان. وأوضح ما نستدل به على معنى العقل عند (لوك) قوله (إن القوة التي تكتشف الوسائل وتطبقها على صواب لكي تكتشف الحقيقة في إحداها، والاحتمال في الأخرى، تلك القوة هي ما يسمى: العقل
ويضع للعقل أربعة درجات:
الدرجة الأولى وهي أرقاها: اكتشاف الحقائق.
الدرجة الثانية: تميل إلى ترتيب هذه الحقائق ترتيباً منهجياً لتحقيق قوتها والصلة فيما بينها وإدراكها في وضوح ويسر.
الدرجة الثالثة: إدراك هذه الصلة.
الدرجة الرابعة: عمل النتيجة الصحيحة.
وهذه الدرجات كما يقول (لوك) يمكن مشاهدتها في البرهان الرياضي، ثم هو يجعل الأشياء بالنسبة للعقل ثلاثة: -
1 -
أشياء وفق العقل: كالقضايا التي نكتشف صدقها باختيارنا وبتتبع الأفكار التي لدينا عن الحس والتفكير، وبالاستذلال الطبيعي تكون إما حقيقية أو محتملة.
2 -
أشياء فوق العقل: وهي القضايا التي صدقها أو إمكانها لا نستطيع استنتاجه من هذه المبادئ.
3 -
أشياء ضد العقل: وهي القضايا التي تتنافى مع أفكارنا الواضحة. وعليه يكون وجود إله وفق العقل، ووجود أكثر من إله ضد العقل، وبعث الموتى فوق العقل.
وقد عنى (هيوم) الإنسانية، وعالج الشك واليقين، وأنكر العلية التي ليست في نظره عادة عقلية، وبذلك تبنى الحركة الإلحادية بطريق فلسفي سيكولوجي.
أما (كانت) أيقظه (هيوم) من سباته، فكان أول ناقد منظم للعقل، يقول (أقصد بالعقل كل ملكة سامية للمعرفة.) والعقل النظري والعملي عنده هو (صورة العمومية) أما الفهم ينتج عن الأول باتصال هذه الصورة بالمكان والزمان والحدس الحسي.
وللعقل خاصية اللانهائي، وللحدس خاصية النهائي، وبذا يميز بين العقل والفهم تفرقة هي
عمود المذهب العقلي عند كل من (كانت) و (هيجل).
وكما أن العقل هو القوة السامية التي تؤلف بين المدركات الذهنية، كذلك الفهم يؤلف بين العناصر الحسية، وهو يعرف العقل في مواضع مختلفة من (نقد العقل النظري) بأنه القدرة على التفكير وبأنه القدرة على الحكم. العقل إذن هو قوة المطلق الذي لا يتقيد بزمان ولا مكان ولا إنسان ولا فلك. أما صلة العقل، ولا نبحث في الأشياء عن قوانين العقل.
ولقد وجد كل من فخت نقد (كانت) وفلسفته إلى القول بالأنا المطلق أنكروا الأشياء ما داموا لا يعرفون عنها شيئاً. الأنا المطلق هذا هو مصدر اليقين، والعقل بالتجريد يحصل على الشعور بالأنا المطلق باعتباره الحقيقة الوحيدة ومبدأ المبادئ. وزاد (شلنج) بألا فرق بين الشيء والشخص ولا بد بين المعرفة والوجود، كل شيء متضمن في العقل متحد بالمطلق ذاته، ومنه يستنبط كل شيء، وظيفة العقل هي العلم المطلق، وقال (التفلسف في الطبيعة هو خلق الطبيعة)
ويقول (هيجل) بأن مقولات الفهم تتناقض إذا ما أريد تسويتها بالعقل، فإذا تغير الفهم كان للعقل أن يحدد اتجاه هذه التغيرات كما يحدد التغيرات التي في قواعد الأخلاق، ثم هو لا فرق عنده بين الميتافيزيقا والمنطق، بين الواقع والمعقول
ويقول (فيكتور كوزان) كتابه (الحق والجمال والخير) ما يأتي (نحن نتوصل إلى حكم خلو من أي استدلال وإلى بداهة مباشرة هي البنت الشرعية لقوة الفكر الفطرية كإلهام الشاعر، وبراعة البطل. . . وما الاستدلال إلا مسرح للمعارك يسببها العقل بالشك والسفسطة والخطأ. . . ولكن فوق التفكير علم من النور والسلام، فيه يدرك العقل الحقيقة من غير أن يدور حول نفسه، وبهذا وحده تكون الحقيقة حقيقة، وذلكلأن الله قد خلق العقل لندرك به كما خلق العين للنظر، والأذن للسمع). والعقل عنده تلقائي وغير شخصي، وإذا كان قوة فردية كان حراً كالإرادة، أو متغيراً ونسبياً كالحواس، وما العقل التلقائي إلا الإلهام.
أما (رافيسون) وحد بين العقل والشعور، بين مبادئ المعرفة ومبادئ الوجود، وجعل للشعور قوة ميتافيزيقية بينما سبقه (مير دي بيران) أن الشعور يعطينا معنى السبب الذي يصير مبدأ للسببية.
ويعرف (كوليردج) بأنه (قوة اليقينيات الكلية الضرورية، ومصدر وجوهر الحقائق التي هي أسمى من الحس بعد حصولها على الجلاء فيما بينها).
أما (برجسون) ميز بين العقل والغريزة وافترض تشابها بين الغريزة والحدس، هذا الحدس غريزة مفكرة إذ يقول:(إن الحدس يقودنا إلى صميم الحياة نفسها، وأقصد بذلك أن الغريزة وقد أصبحت مفكرة ومنفعلة قادرة على الانعكاس على موضوعه وتوسيعه إلى غير حد)
وبرجسون في معالجة السيكولوجية للجهد العقلي قد فتح باباً جديداً لمعرفة خصائص العقل عن طريق الكشف عن وظائفه.
وثمت مدرسة الأمريكان أصحاب (البرجماترم الذين رفضوا العقل كوسيلة للحقائق، وكأداة للمعرفة، رفض (هربرت سبنسر كل فكرة ليس لها صورة حسية فأنكر الحرية والاختيار كمعان عقلية، وجاء (برس) ورفض كل فكرة غير صالحة للعمل، وما الفكرة عنده إلا مشروع لعمل وليست في ذاتها حقيقة، ثم زاد عليه (وليم جيمس) بأن كل عقيدة تؤدي إلى نتيجة مرضية فهي مقبولة وتوسع في دائرة النتيجة الحسنة فأتخذ من العقل وسيلة للمحافظة على الحياة أولاً، وتنميتها واطرادها ثانياً وإذا بالإنجليزي (شيلر) يتخذ من الإنسانية مقياساً لصحة الفكرة.
هذه لمحة خاطفة طرقنا بها أبواب المدارس الفلسفية، ومنها تبين لنا أن صرخة سقراط لم تذهب مع الريح، بل وجدت أصداءها بين الفلاسفة في شتى العصور، ولكل وجهة هوموليها
أما رجال الدين، فالعقل عندهم وسيلة لمعرفة الله، التي (بالعقل تحصل وبالسمع تجب). وما كان رجال الدين ليرفعوا من قيمة العقل حتى يطغي على الوحي الذي هو مصدر العلم اللدنى. ومعنى العقل بوجه عام هو مجموع الملكات الروحية من فكر وعاطفة وإرادة، ففي القرآن الكريم: العقل والقلب مترادفان، وقد ورد في الإسلام أن العقل حجة الله على عباده، ودل القرآن على أن هذا العقل أمانة عرضها الله سبحانه على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً. هذه الأمانة هي العقل، وكل أمانة لا شك عبء لا يتحملها إلا كل نبيل، وإن كان في تحملها ظلم لنفسه،
وجهل بما قدر له الحجاب. . .
ولا قيمة للعقل عند المتصوفين عامة، لأنه وسيلة العوام، أما خير وسيلة فهي الحدس والكشف، فلا بد من رياضة النفس وأخذها بالمجاهدة والتجرد حتى تتصل بالمنبع الأصلي وهو الله.
سئل (ذو النون المصري) كيف عرفت ربك؟ فقال (عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي) وقال (أبو الحارث المحاسبي) في كتابه المخطوط (مائية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه) ما نصه (إن العقل عند الله تعالى لا غاية له لأنه لا غاية لله عز وجل عند العاقل بالتحديد بالإحاطة بالعلم بحقائق صفاته ولا بعظيم بقدر ثوابه ولا عقابه)
وثمت جانب هام في التصوف هو اعتبار النفس الإنسانية سراً وكل سر لا سبيل إلى معرفته أو التعريف به إلا باللغز، ومن هنا كانت الكتب الرمزية مثل (حي بن يقظان) لابن طفيل و (سلمان وأبساله) التي ترجمها عن اليونانية (حنين بن إسحاق) ورسالتا (الطير) لابن سينا والغزالي، و (غربة الغربية) للسهروردي، ولقد امتزج في هذه الرمزيات العقل والروح والعمل والوحد.
والأخلاقيون اعتمدوا على معرفة النفس وقواها في كسب الفضيلة وهجر الرذيلة، واتخذوا من العقل مقياساً للأحكام الخلقية، ورتبوا عليها الأوامر والنواهي. ويعتبر (كانت) أول عالم أخلاقي صميم في تمييزه بين الأحكام المعللة، والأحكام المطلقة التي لا تتعلق بقوالب الزمان والمكان، وإنما هي من شأن العقل المطلق، ولا شك في أن هذه نزعة مثالية إلى أبعد حد مردها الأخير إلى العقل لأنه وسيلة الحكم على السلوك بالخير والشر والقبح والجمال.
ورجال الاجتماع فطنوا إلى وجود روح هي نتيجة تفاعل الأفراد والجماعات؛ وهذه الروح خاصيتها أنها ملكة التقويم الاجتماعي وتسمى في عرفهم (العقل الجماعي
وزعيم هذه الفكرة (دور كيم) صاحب المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة.
ورجال السياسة نظروا إلى الحاكم نظرتين مختلفتين: الذكاء والدهاء. فافترض بعضهم في الحاكم أن يكون ذكي القلب حسن التدبير، بصيراً بالأمور النظرية والعملية وافترض البعض الآخر أن يكون الحاكم داهية مراوغاً مصانعاً غير عابئ بالأوضاع المرسومة إذ
الغاية تبرر الواسطة، هذه هي السياسة الميكافيلية المعروفة في كتابه (الأمير)
ومن فلاسفة الاجتماع السياسي (منتسيكو) الذي كاد يتفق مع ابن خلدون على وجوب اشتقاق القوانين من (روح القوانين) وهو ما قال بهأيضاً (جوستاف ليبون).
وثمت مدرسة تعاونت على تفهم العقل كملكة إنسانية لها قيمتها. فاستعانوا بالتشريح على هذه الغاية فعرف البيولوجيون الجهاز العصبي في نشوئه وارتقائه، ووقفوا على تكامله الداخلي والخارجي، وتتبعوا الأمخاخ في كل الفصائل الحيوانية حتى عرفوا مراكز المخ، وبذلك ساعدوا رجال علم النفس على رد أنواع السلوك إلى مراكز كانت من قبل وهماً وضرباً من التخمين. غير أن علماء النفس لم يهتموا بالعقل إلا على أنه ملكة الإدراك العام، ودرسوه باسم أما الفيزيقيون فقد استقرءوا الظواهر وتوصلوا إلى قوانين ضرورية ثابتة هي غاية ما يطمح إليه العقل البشري، وهم بوسائلهم المعروفة في النظر والتجريد والاستدلال أعانوا على كشف الحياة والسيطرة عليها؛ غير أنهم لا ينكرون الفكرة السعيدة التي تأتي الواحد منهم في ساعة التجلي والتجرد فيلهم الجواب على المشكلة التي طالما عصر من أجلها ذهنه، كما أتاحت لنيوتن فرصة كشف قوانين الجاذبية، وكما اكتشف أرخميدس قانون الضغط إذ هو في الحمام.
أما أهل الفن فقد نظروا إلى الناحية الوجدانية من النفس الإنسانية دون الجوانب الأخرى فعبروا عن أصداء الحياة في النفس تعبيرات شتى بالتصوير والنحت والنقش والموسيقى والغناء والشعر. وكل واحد يتمنى لو طار بجناحين إلى ذلك الوادي الذي يومض إليه من حين إلى آخر بومضات ينفذ إليها الخيال مسترقاً ما يستطيع من روائع الفن وآيات الجمال.
وبعد: فهل للعقل وجود حقيقي؟ لا شك أني موجود، ولاشك أيضاًفي أني أعرف أني موجود. وهل معرفة من غير عقل؟ قد يقال إن الحيوان يعرف أنه موجود، فهل معنى ذلك أنه ذو عقل؟ نقول: لو ظل الإنسان كالحيوان في مجرد معرفته الواهمة - كما قول ابن سينا - لما زاد عليه شيئاً. وإنما الإنسان يعرف ويعرف أنه يعرف، ولا كذلك الحيوان.
ولكن إذ نحاول معرفة هذا العقل نحن نرجع إلى العقل. أليس في ذلك دور كما يقول المناطقة: نريد أن نعرف ما لا نعرف بهذا الذي لا نعرف. نحن إذن واهمون في هذه الحياة، وكل ما لدينا من معرفة هو أننا واثقون من هذا الذي نحن فيه واهمون.
ومع هذا فإن العقل يدعى معرفة الحياة وما وراءها ويدعي الحرية والطلاقة، أليس في هذا مرة أخرى دليل على أن العقل كلما ازداد وثوقاً بنفسه ازداد وهما لو كان لدينا محك للنظر لاستطعنا التخلص من هذا الوهم، ولكن شاء العقل أن يتوهم من نفسه مقياساً على نفسه. ولو أن الغزالي عرف سبب حيرته ما بقى في حيرة كما يقول في (المنقذ من الضلال) ولكن يجب على العقل أن يعرف حدود نطاقه فلا يتعداها، وما أشبه العقل - كما يقول ابن خلدون - بميزان الذهب في دقته، فهل من العقل أن يتخذ هذا الميزان المرهف الحساس في وزن الجبال؟ كذلك يجب ألا يتطال العقل على الآفاق الإلهية فيدعى معرفتها ويقتحمها في ادعاء صارخ.
اصطحب موسى الخضر فعلمه ثلاثاً هي في حدود العقل مرذولة ولكنها في علم الله غير ذلك، وحسب الإنسان (ترضية فكرية) تطمئنه في عجاج الحياة، فلئن هفاً إلى ما فوق الحياة فلن يكون كموسى عليه السلام إذا تجلى ربه للجبل فحر موسى صعقاً.
محمد محمود زيتون
(كذلك) في القرآن الكريم
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
وردت (كذلك) في القرآن الكريم، في أكثر من مائة موضع. ولوجود الكاف، وهي للتشبيه، فيها ظن كثير من العلماء أنها لا تكون إلا للتشبيه ومضى في كل آية ورد فيها هذا التعبير، يبين التشبيه في الجملة، وفي كثير من الأحيان لا يبدو معنى التشبيه واضحاً، فيلتمس مقوماته، ويتكلف تفسيره تكلفاً. يوحي بضآلة هذا التشبيه، وأنه لم يزد المعنى جلاء، وهو الغرض الأول من التشبيه.
وقد تتبعت هذه العبارة فيما وردت فيه من الآيات، فوجدتها أكثر ما تأتي لمعان ثلاثة:
أولها التشبيه، وذلك عندما يراد عقد الصلة بين أمرين ولمح ما بينهما من ارتباط، وهنا يؤدي التشبيه رسالته في إيضاح المعنى وتوطيده في النفس، تجد ذلك في قوله تعالى:(وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون)؛ فالصلة وثيقة بين بعث الحياة في الموتى، وبين بعث الحياة فيالأرض الميتة، فتنبت من كل الثمرات. وإن فيما نراه بأعيننا من هذه الظاهرة الطبيعية التي نشاهدها في كل حين، إذ نرى أرضا ميتة لا حياة فيها، ثم لا يلبث السحاب الثقال أن يفرغ عليها مطره، فلا تلبث أن تزدهر، وتخرج من كل زوج بهيج - إن في ذلك لما يبعث في النفس الاطمئنان إلى فكرة البعث، والإيمان بها، فلا جرم انعقد التشبيه بين البعثين، وزاد التشبيه الفكرة جلاء.
واقرأ قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الحنة، إذ أقسموا ليصر منها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك، فأصبحت كالصريم، فتنادوا مصبحين، أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين، فانطلقوا وهم يتخافتون، ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، وغدوا على حرد قادرين، فلما رأوها قالوا: إنا لضالون، بل نحن محرومون، قال أوسطهم: ألم أقل لكم لولا تسبحون، قالوا: سبحان ربنا، إنا كنا ظالمين، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين، عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون، كذلك العذاب، ولعذاب الآخرة أكبر، لو كانوا يعلمون)، أرأيت أصحاب هذه الجنة وقد أقسموا أن يستأثروا بثمر جنتهم، وأن يجنوا ثمارها مبكرين في الصباح، ولم يدر
بخلدهم الاستعانة بالله في عملهم، وبينما هم يستعجلون قدوم الصباح، ويحلمون بالثروة التي ستدرها عليهم حديقتهم، طاف على تلك الجنة طائف أباد ثمرها وهم نائمون، وفي بكرة الصباح أسرع بعضهم ينادي بعضاً أن الخير في البكور، فانطلقوا لا تكاد تسمع لأقدامهم وقعاً، يتهامسون وهم يتحدثون، كي لا يسمع مسكين صوتهم فيتبعهم، ولقد وصلوا إلى حديقتهم، واطمأنوا إلى أنهم سيقدرون على إحراز غلنهم. ومنع المساكين منها، فما راعهم إلا أن وجدوا أشجارهم بلا ثمار، وجنتهم جرداء مقفرة؛ هنالك ملأ الندم قلوبهم، وأخذ بعضهم يلوم بعضا، يتحسرون على أمل قد ضاع، وعلى ما اقترفوه من ظلم وطغيان. أرأيت هذا العذاب الذي صار إليه القوم، عذاب من فقد أمله، وقد كان قريباً من يده، وعذاب من يؤنبه ضميره على جرم اقترفه، وقد رأى جزاءه أمام عينيه. ألا ترى أن هذا العذاب النفسي الأليم جدير بأن يكون مثالاً ينذر به الله كل من يتصرف تصرف أصحاب هذه الجنة.
وهي أيضاً للتشبيه في قوله سبحانه: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً؛ تبتغون عرض الحياة الدنيا، كذلك كنتم من قبل، فمن الله عليكم، فتبينوا)، وقوله تعالى: قالوا: بل وجدنا آباؤنا كذلك يفعلون (وما على نسق هذه الآيات، مما تعقد فيه الكاف صلة بين أمرين.
وتأتي كاف (كذلك) في كثير من الآيات بمعنى مثل، في قولك: مثلك لا يكذب، تريد: أنت لا تكذب، وفائدة مجيء مثل الإشارة إلى أن من له صفاتك لا يليق به أن يكذب. تجد ذلك في مثل قوله تعالى:(ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتاً من أنفسهم، كمثل جنة بربوة، أصابها وابل، فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل، والله بما تعملون بصير، أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب، تجرى من تحتها الأنهار، وله فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار، فاحترقت؛ كذلك يبين الله لكم الآيات، لعلكم تتفكرون)، فالمعنى على أن الله يبين الآيات، ذلك البيان الجلي الواضح المؤثر، لعله يثمر ثمرته، فيدعو سامعيه إلى التفكير والتدبير، ذلك هو ما أفهمه من هذا التعبير، ولا أفهم أنه يريد أن يبين آيات غير هذه الآيات، بياناً يشبه بيان الآيات السالفة، وإذا أنت حاولت عقد التشبيه على حقيقته، رأيت فيه تفاهة وقلة غناء. وخذ قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا، واستكبروا عنها، لا تفتح لهم أبواب
السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وكذلك نجزي المجرمين)، فليس المراد - على ما يظهر لي - أن المجرمين يجزون جزاء يشبه الجزاء المصوف في الآية الكريمة، وإنما يجزون هذا الجزاء نفسه ومن غلق أبواب السماء في وجوههم وأنهم لا يدخلون الجنة أبداً. واقرأ قوله تعالى:(تلك القرى نقص عليك من أبنائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين)، تر المراد أن الله يطبع على قلوب الكافرين، ذلك الطبع الذي يحول بينهم وبين الإيمان بما كذبوا من قبل. وإذا أنت حاولت عقد تشبيه، لم تجد فيه كبير غناء، إذ يصير المعنى، يطبع الله على قلوب الكافرين طبعاً يشبه طبعه على قلوب الكافرين وفي ذلك ما فيه من ضياع قيمة التشبيه.
فمن هذا يبدو أن التشبيه في هذه الآيات وأمثالها غير ملحوظ، وإنما يراد توجيه النظر إلى ما سبق هذه الأداة فحسب وتأتي الكاف حينئذ إشارة إلى أن ما ذكر في الآيات وأشير إليه، قد بلغ من الكمال مبلغا عظيما لدرجة أنه صار نموذجاً كاملاً، يمكن أن يتخذ مثالاً، يشبه به سواه، فقد أفادت الكاف بلوغ المعنى تمامه.
وتأتي (كذلك) أيضاً لتحقيق المعنى وتثبيته، ولا يبدو فيها التشبيه، كما تجد ذلك في قوله تعالى:(قالت: أنى يكون لي غلام، ولم يمسسني بشر، ولم أك بغياً، قال: كذلك، قال ربك هو على هين، ولنجعله آية للناس، ورحمة منا، وكان أمراً مقضياً).
ومحاولة خلق تشبيه من هذه العبارات لا يؤدي إلا إلى التكلف والتفاهة معاً. ويقدر بعض العلماء في مثل هذا التركيب أن كذلك خبر لمبتدأ محذوف تقديره الأمر كذلك، ونحن نوافق على هذا التقدير وليس في كذلك تشبيه هنا، وإنما المراد: الأمر هو ما أخبرت به لا ريب فيه، ومن (كذلك) هذه التي للتحقيق والتوكيد، تولدت كلمة (كده) في اللغة العامية للدلالة على التحقيق أيضاً، ونحن نستخدمها في ذلك المعنى عندما نقول: الحق كذلك، تريد الحق والصواب هو ذلك، ولعل السر في المجيء بكاف التشبيه هنا هو بيان تمام المطابقة بين الحقيقة الخارجية والحقيقة الكلامية، أي أن ما يكون في الواقع يطابق ما دل عليه الكلام.
تفيد (كذلك) التحقيق إذا كونت هي ومبتدؤها جملة مستقلة كما في الآيتين السالفتين وما على شاكلتهما. وتفيد التحقيق وتأكيد الجملة في غير هذا الموضع أيضاً، ويكثر ذلك عندما
يليها فعل ماض، كما في قوله تعالى: أو من كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون، وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميناً، ليمكروا فيها؛ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون)؛ فلا تجد للتشبيه موضعاً في هذه الآية، وإذا أنت حاولته وجدته لا يعي في التصوير شيئاً، (وكذلك) هنا تؤدي معنى (قد) ولها أمثلة كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال، فأنى تصرفون. كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون)، وقوله تعالى: ثم ننجى رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين)،:(وقوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب، كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك)، وربما جاءت إفادتها للتحقيق من كثرة مجيئها لبيان التطابق فتنوسى ذلك التطابق، واستعملت في لازم معناها الأصلي الذي تنوسى.
واستعمال (كذلك) للتحقيق والتوكيد، لا يقل عن استخدامها في التشبيه، وكثير من المفسرين يتكلف جعلها في تلك المواضع أيضاً للتشبيه، فيتمحل، ويمضي في تأويلات لا نصيب لها من البلاغة، وقوة الفن.
ومما ذكرناه يبدو أن تلك العبارة لا تقف عند حد الشبيه، بل لها هذه المعاني الثلاثة التي شرحناها.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم
منزلة العبقرية الدينية بين العبقريات
للأستاذ محمد خليفة التونسي
وإذا مضينا في اتخاذ المقياس السابق: وهو تمييز العبقرية بآثارها التي من شأنها أن تؤثرها في الناس سواء أظهرت هذه الآثار أملمتظهر فعلاً - لكي نميز بين عباقرة العقائد - لوجب أن نضع في الصف الأول عباقرة العقائد الدينية وهم الأنبياء، لأن آثارهم في المجتمع وصلاتهم به من الوجوه الستة التي فصلناها قبل أوضح وأعمق وأشيع مما هي عند غيرهم من عباقرة العقائد. وفوق ذلك فإن وضع امتيازهم يختلف عن وضع غيرهم من العباقرة:
1 -
فالنبي حين يعلم الناس عقيدته الدينية، ويفجر في نفوسهم بواعث الإيمان بالروابط التي تربطهم بالكون وما وراءه، فتتفجر معها كل البواعث في بنية النفس الإنسانية - يبدو كأنه روح جبار تجسد لتخليص أرواح الناس من ضعف البشرية المطبق عليهم، ويظهرون هم بإيمانهم كأنهم مردة ولدوا ولادة جديدة، وهذا التغير الشامل لا تحققه إلا العقيدة الدينية.
2 -
والملكات الأزمة للدخول في العقيدة الدينية هي الملكات النفسية المفرطة في العادية، وليست كذلك الملكات اللازمة مثلاً لقبول العقائد الفنية أو الفلسفية أو الصوفية ونحوها، ومن ثم كان من شأن العقيدة الدينية أن تلقى من الرواج بين النفوس أكثر مما يلقى غيرها، وكانت العقائد الدينية موجهة إلى الكافة لا إلى طبقة ولا فئة خاصة، لأنها في مداخلها البسيطة إنما هي دعوة إلى تسليم وسلوك بسيطين، لا عويص فيهما على العقول، ولا مشقة فيهما على النفوس، وبخاصة إن كانت الدعوة إليها في بدء أمرها على يد عبقريها الأول الذي جاء بها، فهو يملك من أمرها ويملك من صياغتها في الصورة المناسبة للطبائع والقوى والأموال ما لا يملك القائمون بها بعده، كما أنه يفهم الطبائع والقوى والأموال خيراً مما يفهمها القائمون بها بعده. فهذه فروق ثلاثة بين حال المؤسس وحال التابعين ينبغي الالتفات إليها هنا. ولكن ليس معنى أن مداخلها بسيطة، وأنها دعوة إلى تسليم وسلوك بسيطين، وأنه لا عويص في فهمها ولا إحساس يثقل في حمل تبعاتها، وأنها موجهة إلى الكافة - أنها لا تصلح للممتازين، فإن من وراء مداخلها البسيطة آفاقاً سامية من الشعور والذوق والفكر لا يعيها إلا الممتازون، وفيها لهم شاغل ورضاً.
3 -
والداخل في العقيدة الدينية يرى نفسه صورة مصغرة من النبي له كل حقوقه وعليه كل واجباته، غير دعوى النبوة، وخليفة الله في أرضه بين عباده ينطق لهم بلسانه ويبلغهم رسالاته وفي ذلك ما فيه من عزاء لنفسه مهما تكن مواهبه تافهة، وإرضاء لكبريائه، وإشباع لغروره ورضاه عن نفسه، فهو يشعر بأنه ند فيها وفي امتيازاتها والتعصب لها والغيرة عليها، والدعوة إليها لأعظم المنتسبين إليها حتى النبي، وله بعد ذلك مكافأتها في الدنيا، وثوابها في الأخرى، وليس ثواب أعظم من الثواب الموعود به في العقائد الدينية ولا سيما الثواب الأخروى.
4 -
وإذا كان صاحب العقيدة بعامة لا يشعر ولا يفكر ولا يعمل في معزل عن الجماعة، ولو كان خالياً بنفسه، وفي ذلك ما فيه مما وضحناه قبل، فصاحب العقيدة الدينية بخاصة إنما يشعر ويفكر ويعمل وهو على أوثق الصلات بالجماعة وبالكون كله وبما وراء الكون أيضاً، فالداخل في العقيدة الدينية يشعر ويفكر ويعمل وهو مستند إلى الله، مراقب له، مطمئن إليه، منفذ لأمره، مهتد بهديه، مستغرق في حبه، فإن فيه. هذا إلى صلاته القوية بالمجتمع الذي يظهر فيه، ونظرته إليه نظرة شاملة، وإحساسه به إحساساً عاماً. والعقيدة الدينية تربط الجماعة أقوى مما تربطها عقيدة أخرى، وتشعر الإنسان بروابط أقوى وأكثر مما تشعره عقيدة أخرى، ومن ثم كان صاحب العقيدة الدينية أشد شجاعة واطمئنانا وأعظم استعداداً للبذل والمفاداة، وأصبر على احتمال المشقات، وأدق فهما لغايته منهجه من كل من عداه ولو كان من المعتنقين لعقيدة أخرى وطنية أو عنصرية أو سياسية ونحوها. فهو لا يحس بالوحشة ولا القلق ولا الضعف ولو تبرأ منه جسمه الذي يلبسه، أو قدم روحه فداء لعقيدته، فهو يستشهد وعلى فمه ابتسامة النصر، وفي قلبه فرحته.
5 -
والنبي في وعيه البديهي للنفس الإنسانية خوافيها وظواهرها، وتقديره لكل شيء فيها قدره يبدو كأنه روح سرمدي وعي إبداع لله إياها، وتقديره أقدارها، ووعي إبداع الله الحياة كلها، وتقديره لكل شيء فيها قدره، فلا تخفى عليه خافية من جانب ولا وظيفة لجزء في النفس ولا الحياة، فلا جهل بشيء، ولا جهل بطاقته ولا بوسائل استثارته، ولا خطأ في تقدير حي ولا في التشريع له، ولا تضارب بين التنديرات والتشريعات المختلفة أشد الاختلاف. فالنبي - يشرع للنساء والأطفال وهو رجل، وللمستعبدين وهو حر، وللضعفاء
وهو قوي، وللقاصرين وهو رشيد، ولكل الطوائف والمراتب الذين ليسوا من طائفته ولا مرتبته كأحسن ما يمكن أن يشرع هؤلاء المختلفون عنه لأنفسهم لو وكل إليهم التشريع لأنفسهم والتزموا ما يلتزم من الحزم والعزم والعدل والضبط والتوفيق بين وجهات النظر المختلفة لشتى الطوائف في شتى الدرجات. فهو إنسان كامل له أن يحس بكل ما يحس به كل إنسان وأن يفكر فيما يفكر فيه كل إنسان مهما اختلف عنه في خلقه وتفكيره وشعوره وطاقته على اختلاف الأزمنة والأمكنة.
6 -
والنبي - في شخصيته القوية الشاملة وسيرته العالية وأقواله النابغة يبدو كأنه روح جبار تجسد ليطبع الناس على صورته طبعاً لا فكاك لهم منه، ويظل ماثلاً للناس حتى بعد موته كأنه خالد لا يموت، وكأن كل إنسان من أتباعه صورة مصغرة ناقصة له فيما يأخذ به نفسه في شخصيته وسيرته وأقواله وهو يحتذى نبيه سواء أكان بين الناسأم خالياً بنفسه، وكأنما النبي رقيب عليه ملازم له يحصي كل أعماله وأقواله ونياته.
وكأنما النبي فيما يكشف للناس بشخصيته وسيرته يكشف لهم من ناحيتين متقابلتين أوسع وأسمى ما يمكن أن تمتد إليه الإنسانية حتى تتصل بالسماء، وأضيق وأدنى ما يمكن أن تنكمش إليه حتى تتصل بالأرض، وفيه تنكشف لهم الصلة كلها من أقصى طرفها بين السماء والأرض، أو بين الله والإنسان وأمثاله من الأحياء. وبانكشاف هذين الجانبين ينداح الأمل من جانب أمام أصاغر الناس حتى لا يفقدوا ثقتهم بأنفسهم ولا ييأسوا من روح الله، كما يتقاصر الغرور والكبرياء من جانب أمام أعاظم الناس حتى لا تبلغ بهم الثقة بأنفسهم حد التأله وعدوان الحدود البشرية، والاستعلاء على غيرهم من البشر فيخسروا بذلك أنفسهم ويخسرهم المجتمع. فالنبي يحمي كل صغير من السقوط إلى حيث يتحطم، ويحمي كل عظيم من التحليق إلى حيث يضيع ويتبدد، كما تحفظ جاذبية كل كوكب ما عليه من أجسام.
7 -
والامتياز مثار الحسد والحقد، ولا سيما الامتياز الذي يكون مرجعه اختلاف عنصر الممتاز عن غيره، فهو امتياز لا أمل فيه مثله مهما أسرف طالبه في الجد والمثابرة، لأن الامتياز لاختلاف العنصر موجب للغربة والبعد بين الممتاز وغيره فيما لا حيلة لهما فيه من الطبائع والأمزجة والمشاعر وغيرها مما لا يقبل التغيير.
وإذا كان امتياز الأنبياء من هذا القبيل الذي يستلزم بطبيعته إثارة أشد الحسد والحقد إلا أن
وضع النبي يختلف عن وضع غيره من العباقرة
فالعباقرة مشغولون غالبا بإخراج آثار عبقرياتهم عن مزاحمة الناس على مناعم الحياة ولذائذ الدنيا. وما من عبقري شغله ما يشغل غير العباقرة وزين له كما زين لهم (حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث) لأنله في تحقيق رسالته المستمدة من عبقريته شاغلاً يستغرق كل اهتمامه أو يكاد، عن كل هذه المطامع العابرة التي تستغرق كل اهتمام من لم توكل إليهم رسالة من رسالة الغيب، وقد تذهل العبقري رسالته عن أموره الخاصة، فيزهد في كل ما في أيدي الناس مما لا يعنيهم غيره. وفي هذا الزهد ما يخفف حسد الناس وحقدهم على العباقرة، بما يتركون لهم من التفوق عليهم في الأمور التي تعنيهم، وعدم منازعتهم إياهم في ميادينهم التي تستلفت كل اهتمام، ولا حيلة لهم ولا مطمع في التبريز إلا فيها كجمع الأموال واقتناء العقار والقبول عند النساء وترف المعيشة وتحصيل العلوم ونحو ذلك مما يخرج عن نطاق الرسالة وليس ركناً فيها ولا شرطاً من شروطها، وقد ينزلون عن أملاكهم وسلطانهم، وفيها من كان ملكاً فعدل عن أن يسوس رعيته سياسة الملوك، وساسهم سياسة الأب أبنائه أو الأخ أخوته في تواضع وزهد ومحبة، وتمسك بنشر عقيدته كما يؤمن بها معرضاً بذلك ملكه ونفوذه الدنيوي للضياع فداء عقيدته.
ووضع النبي يختلف أمام الناس عن وضع غيره من العباقرة ولو كانوا من دعاة العقيدة من حيث حسد الناس إياه على ما يتمتع به من امتياز، لأن امتيازه بالنبوة - كما يفهم هو ويفهم من حوله ليس إلا منحة من الله لا فضل له فيها، وهو في غيرها - كما يفهم هو ويفهم الناس حوله - ليس إلا إنساناً مثلهم لا يميزه منهم فضل (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) وفي ذلك ما فيه مما يهون أو يمحق حسد الناس إياه وحقدهم عليه في فضله عليهم بالنبوة.
هذا إلى أن النبي أزهد من كل من عداه من العباقرة في تلك المطامع التي أشرنا إليها قبل، فهو يعيش عيشة إزهاد المتقشفين في طعامه ولباسه ومركبه وأداته وسائر حاجات حياته اليومية، ويلزم أهل قرابته معيشة كمعيشته، مما لا يصبر عليه إلا (أولو العزم) ولو نشئوا على الترف والبذخ في قصور السيادة والإمارة وهو في سعة أفقه الروحي، ومعرفته البدهية للناس أكثر من معرفتهم أنفسهم، وعلمه بما ينطوون عليه من ضعف وسخافة
وقصور، وحرصه المخلص على منفعتهم - إنما ينظر إليهم نظر الأب الكريم إلى أطفاله القاصرين لا إلى انداده الراشدين، ويعاملهم كما يعامل الأب أطفاله لا أنداده، فيتواضع لهم، ويرحمهم في ضعفهم وغرورهم ويتصاغر لهم وهو يشرف عليهم من عل دون أن يشعرهم إلا بأنه طفل مثلهم أو دونهم، ويفسح لهم إلى جانبه أوسع ما يمكن أن يفسح تشجيعاً لمواهبهم على الحرية والعمل، بينما هو يأخذ نفسه - إذا ضيق عليهم أو شدد - بأضيق وأشد مما يأخذهم به، بل هو يضيق على نفسه ويوسع عليهم، ويحمل نفسه عبئه وعبئهم، ويكون لهم ملجأ وسكناً في كل محنة، فيرون أنفسهم أكثر منه مغانم واقل مغارم، وأنعم حالاً وأهدأبالا مهما غلوا وأسرفوا على أنفسهم في التحنث والتعفف وفي ذلك ما يلطف نيران الحقد ويسكت شياطين الحسد والموجدة عليه فيما يمتاز به عليهم مهما يبلغ امتيازه من السمو والجلال.
وأقرب العباقرة إلى الأنبياء أشبههم به في هذه المزايا العالية التي تستغرق الإنسانية والحياة وتتطلع إلى ما وراء العالم المشهود طبيعة وعملاً.
ولا شئيفجر في النفس الإيمان الكامل الخالص إلا العبقرية لا سيما الدينية، ولا أحد يغدق عليه هذا الإيمان إلا العباقرة ولا سيما الدينيين.
الإنسانية بعباقرتها عالم سماوي جميل شريف خير حقيق بالحب والتقديس.
والإنسانية بغير عباقرتها عالم طيني كريه حقير لا يستحق إلا المقت والاحتقار.
ومزاولتنا الحياة في رعاية العبقرية لعب طليق تتفتح له الرغبات وتنشط به القوى، فيشتهى ويستزاد.
ومزاولتنا الحياة في غير رعايتها كدح ذليل في الأغلال يميت الرغبات، ويشل القوى، فيعاف ويستعجل الخلاص بالموت منه قبل الأوان.
محمد خليفة التونسي
لنكن قوة تفعل لا مادة تنفعل
للدكتور محمد يوسف موسى
من الظواهر الاجتماعية التي تراها في كل عصر وبيئة. ظاهرة الفعل والانفعال، أو التأثير والتأثر، أو بكلمة واحدة ظاهرة التقليد، فانفعال الطفل بأبويه واخوته، وانفعال التلميذ بمعلمه، وانفعال المريد بشيخه؛ كل ذلك، وما منه بسبيل، مشاهد غير منكور
وإذا كان لكل ظاهرة سبب أو مجموعة أسباب، تظهر بظهورها وتذهب بذهابها، فإن سبب هذه الظاهرة مزيج من القوة أو التفوق من جانب، وضعف الإرادة أو الشخصية من جانب آخر وقد يضاف إلى هذا وذاك كسل العقل الذي يمنع من التفكير والاستقلال في الرأي.
على أنه قد يكون الشخص الواحد منفعلاً أو متأثراً في بعض ما يذهب إليه بآبائه والعلية من قومه المعاصرين له، وإن اعتقد مع هذا أنه من المستقلين في الفكر والرأي، ومن المحافظين على هذا الاستقلال والمعتزين به، وذلك واضح لا يحتاج لضرب الأمثال.
ومع هذا لا عاب في التأثر بالغير في فكرة من الفكر، أو مذهب من المذاهب، أو طريقة من طرائق الحياة. بل إن هذا قد يكون ضرورة أحياناً كثيرة، في حياة الفرد أو الجماعة، ضرورة يمليها الواقع وتفرضها الطبيعة.
يتأثر الطفل بأبويه، ثم يتأثر بلدانه، ثم يتأثر - متى صار تلميذاً - بمعلميه ويتخذ منهم مثله العليا. وهذا الضرب من الانفعال بالغير على هذا النحو، أمر لا بد منه ولا حيلة فيه. إنه ضروري ليصل الصغير إلى معرفة كثير من الأمور، ثم لينفذ من ذلك إلى تكميل نفسه فيما بعد؛ بمعرفة أن له شخصية مستقلة يجب أن تتكون وأن تكون مستقلة على قدر ما يمكن أن يكون هذا الاستقلال؛ وبمعرفة أن له عقلاً يجب أن يفكر به ليصل إلى إدراك أن هذا العمل شر وقبيح وإن أجمع عليه أبواه ومعلموه والناس جميعاً، وإن ذاك خير وجميل وإن كان قليل الأنصار. والنتيجة لهذا أن ينأى عن التأثر بالغير إلى درجة التقليد، وأن يأخذ في الاستقلال في التفكير والرأي والعمل.
ومن الواضح، يعد هذا، أن الانفعال بالغير في هذه المرحلة من الحياة بصفة خاصة سنة من سنن الطبيعة لابد أن تنزل على حكمها. ثم علينا متى تقدمت بنا السن ونضج العقل، أن نحد منها، وبمقدار ما نحد منها تتكون الشخصية ويظهر الاستقلال.
والانفعال بالغير كما نراه على أشده في المراحل الأولى من حياة الفرد الذي لا يزال في دور تكوين الشخصية، تراه في حياة الجماعات في أول أمرها، وفي حياة الأمة التي تحس ضعفها إزاء غيرها من الأمم. وفي هذا كله، قد يكون التمثل بالغير في الخير، كما قد يكون في غير الخير. وإلينا بعض المثل.
كان الأزهر إلى مفتتح هذا القرن العشرين شخصية خاصة به تتمثل، فيما تتمثل فيه، في طابعه الخاص في دراساته وامتحاناته ينتسب إليه من يريد غير مقيد بكثير من القيود التي نعرفها اليوم، ويتلقى فيه العلم الذي يريد على من يحب من الشيوخ، ثم متى أحس أنه وصل من المعرفة والعلم إلى ما يجيز له أن يكون من علمائه تقدم للامتحان. شأنه في ذلك، إلى حد كبير، شأن (السوريين) أو كلية الآداب بجامعة باريس هذه الأيام!
ثم أرادت الحكومة إصلاحه (أو إفساده لا أدري!)، متأثرة بثورات الطلاب ومطالبهم، فأدخلت عليه - في الانتساب والدراسة وشئون الامتحانات - الكثير من القيود شيئاً فشيئاً متمثلة بذلك وزارة المعارف في معاهدها ودور التعليم بها، حتى أصبحنا في هذه الأيام نجده يحتذيها في كل شئ تقريباً: مثل عدد سني الدراسة ونظمها ونظم الامتحانات، وبهذا - في رأيي فقد الأزهر الكثير من شخصيته وطابعه وأصالته.
أما انفعال الأمة كلها بالغير في كثير من أمورنا العامة، والخطيرة، فأوضح من أن نحتاجلأن ندل عليه. ومع هذا، فإني أشير إشارة عابرة إلى أثر ذلك في التعليم والدستور والقوانين ونظم القضاء. وليس ببعيد منا ما كان من فرض قانون مدني جديد قدمه واضعه بعد أن صاغه من مزق مختلفة من قوانين أمم مختلفة من أمم أوربا. متناسياً أن ما تصلح بهأمة في الغرب قد لا تصلح بهأمةأخرى في الشرق، لاختلاف الدين والتقاليد وإن كان في هذا قدر كبير من الإثم على الأزهر، إذ لم ييسر كتب الشريعة الإسلامية للراغبين في معرفتها، والمعنيين بدراستها، من غير الأزهريين.
على أنه من الضروري أن تنتفع الأمم بعضها ببعض في الفكر ونظم الحياة، ولكن الخطر أن يكون التأثر من طرف واحد دائماً.
إن الانفعال أو التأثر بالغير بإفراط يضيع استقلال من منى به فرداً أو جماعة، ويذهب باستقلال الفكر وأصالة الرأي والعمل. ذلك بأن من يتطلع دائماً إلى غيره ويسأله ماذا يرى
وماذا يعمل، يجعل من نفسه مادة يصورها ذلك الآخر كما يريد، ويجعل نفسه في رتبة البهيمة يصرفها الحدث من الغلمان على ما يشاء ويهوى. إنه بذلك يلغي ما وهبه الله له من عقل يستطيع به، إن أراد، أن يجعل له حياة خاصة وفكراً مستقلاً به ولكنه رضى لنفسه أن يفكر له الآخرون، وأن يخط له هؤلاء الآخرون مجرى حياته التي تضطرب فيه. إن هؤلاء الذين يتبعون دائماً الأغيار، يجعلون من أجسامهم مقابر لنفوسهم التي أماتتها التربية السيئة والتقليد المقيت، بدل أن تكون هياكل لنفوس إنسانية لها حريتها واستقلالها. والجناية في هذه واضحة، وإنها جناية على الفرد والجماعة والدين نفسه.
ذلك، بأننا نجمع على أن الإسلام دين كل زمان ومكان، دين صالح لكل عصر وبيئة. ومع هذا فقد منعنا إتباع الماضين، والجمود على ما كتبوا عن الإسلام لعصور غير هذا العصر الذي نعيش فيه، من أن نحاول عرض الإسلام كما يجب: عقيدة وتشريعاً وأخلاقاً واجتماعاً واقتصاداً وأقول: (واقتصاداً) عامداً، لأن الإسلام، وهو تشريع عام شامل، ما كان يستطيع أن يهمل هذه الناحية الخطيرة التي تعتبر بحق مشكلة أمس واليوم والغد في العالم كله.
إن علينا أن نكتب كتباً جديدة نعرض فيها الإسلام من تلك النواحي، ونبين فيها كيف يجب أن نعمل لتحقيق العدالة الاجتماعية؛ فإنه لا تزول هذه الفوضى، ولا تتقي الشيوعية إلا بالقضاء على سبيلها الوحيد وهو الظلم الاجتماعي. تلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
بذلك، وبذلك وحده، نكون قد أديناً واجباً كبيراً للأمة للإنسانية كلها، وبذلك نكون صالحين للتعاون مع ممثلي المسيحية في تكوين جبهة لمحاربة الاتحاد والمبادئ الهدامة. أما بالعكوف على القديم باعتباره وحده الحق، وبالتقليد في كل شئ حتى في التفكير ومناهج الدرس، فإننا لن نستطيع أن نصل إلى خير، ونكون جناة على أمتنا وأبنائنا، وتلك جناية يثقل علينا حملها ووزرها. نعم، إنها جناية نكراء أن نجمد على ما ورثناه من تراث، فلا نتناوله بالتوسعة والتعديل بما يناسب حاجات هذا العصر الذي نعيش فيه. وهل فعل أئمة التشريع من المسلمين، الواحد بعد الآخر، غير هذا؟ إن هؤلاء الأئمة رضوان الله عليهم لو كانوا متبعين جامدين على ما ورثوا مقلدين لمن سبقهم، لما كان لناالآن إلا مذهب واحد في التشريع، بينما صار لنا من ذلك بفضل استقلالهم واجتهادهم في الرأي مذاهب عديدة،
مذاهب نرجوا أن تتجدد وتزيد حتى نجد فيها توسعة وتلبية لحاجات الزمن في العالم الإسلامي كله.
وهنا أجد من الواجب أن نرفع الصوت عالياً بأن كل من تقدمنا في الحياة، ما عدا الأنبياء والمرسلين، فيما أرسلوا من أجله، يخطئون ويصيبون. لا معنى إذاً للتأثر والإتباع في كل شئ، ولعل بعضنا يكون أفهم للأمر وأقرب للحق وأهدى إلى الصواب من كثير من هؤلاء السابقين. ومن أجل ذلك يكون فرضاً على كل منا أن يعنى باستعمال عقله وأن يطلب لنفسه الاستقلال في الرأي الذي يتبعه الاستقلال في الشخصية، وإلا كان مقصراً في طلب الكمال الذي جعل الله وسائله.
(للكلام بقية)
محمد يوسف موسى
ولي الدين يكن
للأديب عبد الخالق عبد الرحمن
هنالك صحائف مطوية لشعراء عاشوا في العصر الأخير لم يذكر لنا الكتاب عن سيرتهم ما يروي الغلة وقد أثرت أن أجمع بعض الأشتات فأكون مقالة عن الشاعر الأديب المرحوم ولي الدين يكن. فهو شاعر في كلا الفنيين المنظور والمنثور يصوغ كلامه المرسل كأنه شعر موزون ويسبك الشعر كأنه النثر سهولة وطلاقة وطبيعة وانقياد قواف، حتى لو حللت نظمه ما جئت بأسهل منه، فأنت بين هذا النثر الأنيق وذلك الشعر الطلى لا تدري أولي الدين أشعر في هذا أمفي ذاك، لازمه لأنه لم يجر قلمه إلا بما خفق به قلبه. وهو في كلا الفنين ذو القلب المتألم مما حوله ولمن حوله. ولأنه قلب حساس شريف تخدمه مخيلة ترى ما لا يراه الغير حتى أصبح كما قال هو عن نفسه
قلبي يحس وهذه عيني ترى
…
ما حيلتي فيما يحس وما يرى
كان ولي الدين شاعراً في قصائده العصماء يحلق في عالمه العلوي بجناحي الخيال والشعور، وينظم في سلك بيانه الابتسامات والدموع درراً أين منها الجواهر التي تزين النحور.
كان شاعر في (معلومة ومجهولة) وقد ضمنه مذكراته عن منفاه فظهر كأنه المغلوب الغالب والمقهور القاهر.
كان شاعراً في (صحائفه السود) وهو يئن من الظلم الذي انتابه والحيف الذي لحقه، والجهالة التي سدت عليه منافذ الحرية، فكان في أنينه دوي التهديد، وفي شكواه وعد الوعيد.
كان شاعراً في (تجاريبه) وما استفاد تجربة - ككل مجرب - إلا وقد امتلكها بشيء يخسره من الأمل حتى جاءت كما يقول وكما هي (ألام مصوره وشكاوى متجسدة)
كان شاعراً ملء روحه الشعرية وملء قلمه الفصاحة، يستهوى النفس بسلاسة ألفاظه ورقة قوافيه وعذوبة أسلوبه، ويملك القلب بلطف معانيه التي يصورها تصويراً كله سلامة في الذوق ونزاهة في الفن وجزالة في التعبير الرائع، وقوة في التركيب الفني وموسيقية الألفاظ المنتقاة فتراه يسترضي القارئ ساعة حتى ليملأ قلبه سروراً وصفاء. ويستبكيه حين
يبكى ويتألم حتى ليجعله يلمس دموعه لمس اليد ويحس بناره تتأجج من خلال ألفاظه.
لقد مازجت شاعرية ولي الدين يكن نفساً عزيزة حساسة وقلباً شريفاً رقيقاً فكان إذا تأثرت نفسه وخفق فؤاده قال الشعر فيرسله دون أتعاب فكر ولا إجهاد قريحة. وقد ظهرت خصائص هذه الشاعرية في امتداد نفس القول لديه امتداداً لم يدرك فيه عاطفته المندفعة ضعف ولا فتور، وفي استقصاء الموضوع استقصاء يشمل جميع نواحيه في روعة الأسلوب الذي يهز المشاعر هزاً عنيفاً ويترك في النفوس أثراً عميقاً.
هذا قليل من كثير وغيض من فيض عن ولي الدين الشاعر الكبير. أما ولي الدين الحر الشريف المخلص بين أشرف الأحرار فلا تقل منزلته عن منزلة ذاك.
كان حراً في تفكيره وأقواله. كان في طليعة أحرار الشرق متعطشاً إلى الحرية والاستقلال والانعتاق من القيود التي ثقلت عليه فقد صهر أغلال التقيد فكسرها ورفع فوقها علم الاستقلال الفكري عالياً خفاقاً فكان لا يقول إلا ما يوحيه إليه يقينه ووجدانه حتى كان كالشاعر الملك الضليل أمرئ القيس لا يقول الشعر رهبة ولا رغبة فأمكنه أن يباهي فيقول:
إذم فلا أخشى عقاباً يصيبني
…
وامدح لا أرجو بذاك ثواباً
وهكذا كان شأنه في كل ما كتب ونظم وهذا ما كان يريد أن يكون لسان حال الغير قال (لا أبالي الثناء ولا أبالي الهجاء وإنما أبالي أن يصدق في أحدهما) ولطالما أضرت حريته هذه بمصلحته بين قومه بل وبين عشيرته كما يعرف ذلك معاصروه. ولو شاء ولي الدين أن يضحي ولو بالقليل من حرية رأيه واستقلاله الفكري لكان له شأن كبير في تركيا أولاً وفي مصر ثانياً؛ ولكنه أثر على كل ذلك أن يعيش حراً طليقاً فيقول:
وأعتلى كرسي مستكبرا
…
كالملك فوق العرش إذ يعتلى
فكان جزاؤه على ضفاف البسفور النفي سبع سنوات؛ وكان جزاؤه على ضفاف النيل أن يستكن في داره منسياً أحياناً من أقرب الناس إليه ولكنه لم يطأطأ رأساً ولم يحن ظهراً ولم يحد قيد شعرة عن مبدئه وسنته
وقلما تخلو قصيدة من روائعه أو صفحة من كتاباته عن مثل هذا الإباء المجسم وتلك الأنفة العالية. والحقيقة أنه كان حراً في سياسته كما كان حراً في كتابته.
(بغداد)
عبد الخالق عبد الرحمن
رسالة الشعر
الشاعرة
للآنسة الفاضلة ن. ط. ع
نفس هذه الشاعرة فيعه الهوى تنزع إلى سماء الأدب، وتطمح إلى مجد القريض؛ ولكن عزلتها التقليد جعلتها تسير في فلكها الضيق لغير مستقر، وتطير في جوها المحصور إلى غير مدى. وفي هذه القصيدة التي كتبتها وهي تكابد سام النفس القاتل، وألم الجسم المبرح ما يعبر عن هذه الحال.
إلى أين مسراك يا شاعرة
…
متى تهتدي روحك الحائره
إلام انجذابك نحو السماء
…
وتغضين عن نفسك الثائره
وما المجد إلا خداع المعاني
…
ألم تسأمي النظرة الساخره
رأيتك مذ كان فجر الشباب
…
يهيمين بالمثل العاليه
وفي زورق حالم تبحرين
…
ونفسك واثقة راضية
وأنت تخالين وادي الكمال
…
قريباً وأثماره دانيه
وقلنا سلاحك، هل من سلاح؟
…
لديك به تقهرين العباب
طريقك أختاه وعر طويل
…
وسوف تلاقين شتى الصعاب
فقلت سلاحي صدق الوفاء
…
وهذا الطموح وهذا الشباب
وفي الزورق ما يروق النفوس
…
ويبعث فيها الرضا والسرور
مجاريه مكفولة بالهدى
…
مراسيه موكولة للضمير
يرف عليه لواء القريض
…
فيدنوا له كل قاص عسير
وسار الشراع بأثقاله
…
وقلب يضيق بهذا العذاب
يجوب الحياة فتمضي السنون
…
وتذوي الأماني ويبلى الأهاب
وما من شعاع ينير السبيل
…
ويهدي النفوس خلال الضباب
وصاح الفؤاد ضللنا الطريق
…
دعيني أسير هذا الشراع
وأمضي به نحو شط النجاة
…
وأعفيك من هول هذا الصراع
فأنت تسيرين ضد الرياح
…
بهذا اليفاع وهذي البقاع
أأنت على موعد صادق
…
تجيلين في العابرين النظر
ألم تيأسي من خداع الليالي
…
ألم تسأمي مجدك المنتظر
ألم تسمعي وقع خطو الزمان
…
ألم تفزعي من نداء الحفر
لقد مالت الشمس نحو المغيب
…
إلى أين مسراك يا فانية
فما زال شعرك رهن القيود
…
وكلت مجاديفك الواهية
فلا نلت بالشعر ما تنشدين
…
ولا عشت هانئة راضية
نشدت الخلود مع الخالدين
…
ولكن أسأت اختيار السبيل
فهيهات بالشعر أن تدركي
…
من الدهر غير العناء الطويل
فلو كنت في زمرة الراقصات
…
لأثنوا عليك الثناء الجميل
وأطنب في مدحك المادحون
…
ونجمك أمسى حليف الصعود
وقالوا إلهة شتى الفنون
…
وأعجوبة في سجل الخلود
وذلل فنك كل الصعاب
…
وهون شقوة هذا الوجود
ن. ط. ع
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الإصلاح الحقيقي للأزهر:
نشرت الأهرام منذ خمسين سنة ما يلي: (ارتأى فضيلة الإمام الشيخ محمد عبده، بعد أن درس (بروغرامات) تعليم الأزهر وغيرها من (بروغرامات) الدروس، إدخال تعديلات كثيرة على (بروغرام) الأزهر، فقدم تقريرا بذلك، وضمنه (البروغرام) الواجب التدريس بمقتضاه، ومن أحكامه إدخال جميع العلوم، من كيمياء وفلسفة وهندسة وغيرها، ورفع هذا التقرير إلى السدة الخديوية، فأحالته إلى لجنة العلماء المؤلفة من ثلاثين إماماً من الأزهر الأفاضل، فاجتمعت هذه اللجنة برياسة حضرة المفتي، لأن سماحة العلامة المفضال شيخ الأزهر الرئيس الشرعي لهذه اللجنة ترك رياسة هذه الجلسة لفضيلة الشيخ محمد عبده، ليكون أطلق يدا في تأييد مبادئه الجديدة المعارض لها شيخ الأزهر)
كان ذلك منذ خمسين سنة، وكانت تلك أول خطوة نحو إخراج الأزهر من عزلته ليساير ثقافة العصر الحديث. أدخلت العلوم الحديثة إلى الأزهر منذ ذلك الحين، وقد تحايل المصلحون إذ ذاك على جذب الطلبة إليها بمختلف الوسائل، فألفوا فيها ودرسوها على الطريقة الأزهرية القديمة، فكانوا مثلا يعرفون مصطلحات علم الحساب كالجمع والطرح ويخرجون محترزات التعريف فالجمع هو ضم عددين أو أكثر من جنس واحد لينتج ناتج يسمى حاصل الجمع، و (الأس) هو عدد صغير يوضع فوق عدد آخر للدلالة على حاصل ضربه في نفسه مرة أو أكثر. . . وهكذا. وقد نظم بعض الطلبة مسائل الجغرافيا ليسهل عليه حفظها كما يحفظ المتون المنظومة، ومن ذلك قول الناظم:
أفريقيا يا عالما بالحال
…
تحد بالبحر من الشمال
وتعاقب أساتذة العلوم الحديثة في الأزهر، حتى كان عهد المغفور له الشيخ المراغي الذي نقل الطلبة من المسجد إلى أبنية مدرسية، وجعل برامج دراسة العلوم الحديثة مطابقة لبرامج المدارس الابتدائية والثانوية، واحضر لتدريسها نفس أساتذة هذه المدارس، وأدخل كذلك على مناهج الدراسة في الكليات ما يناسبها من الدراسات العصرية وندب لتدريسها أساتذة من الجامعة وبعض المدارس العالية.
وصار الأزهر - كما نراه الآن - يدرس العلوم الحديثة بفضل ذينك المصلحين العظيمين، وقد خطا كل منهما الخطوة (الممكنة) في زمنه. ولكن هل هذا هو الإصلاح الحقيقي المنشود للأزهر؟
قلت فيما مضى إن العلوم الحديثة في الأزهر (روافد) ثقافية، وأقصد بذلك أنها تمد المجرى الأصيل وهو علوم الشريعة الإسلامية، ولن يكون الأزهر حديثاً ومسايراً لركب الزمن ومحققاً لما يطلب من جامعة إسلامية في القرن العشرين، إلا إذا عرض هذه العلوم بأسلوب حديث وطبق أصولها على مسائل العصر الحديث. وهذا هو ما أعنيه بالإصلاح الحقيقي للأزهر، وهو يتطلب مصلحاً (ثالثاً) يخطو الخطوة (الثالثة) وهي الخطوة التي ستكون في الصميم.
إن الأزهري الحديث يشعر بأنه ذو شخصية مزدوجة: من قديم ومن حديث، فهو يشارك الناس في المجتمع العصري كثيرا من ألوان النشاط العصري، على اختلاف حظوظ الأشخاص من ذلك، ويسايرهم فيها، ويجيد في بعضها. ولكنه مع كل ذلك يشعر بشخصية ثقافية قديمة لا يكاد يبديها لأنها لا تلائم العقلية التي تحيط به. ولو أنه تلقى ثقافته الإسلامية بطريقة عصرية، وبتطبيق عصري، لما أحس بهذا الحاجز القائم في عقله بين ثقافتين مختلفين.
وأريد أن أقول لأولئك الذين كتبوا كلمة هنا وكليمة هناك: إن الأزهر ليس مقصوراً على من ينتسبون إليه ويحملون شهاداته، بل هو للجميع باعتباره منبع المعرفة الإسلامية، ولم أقصد فيما أوردته من رسائل الطلبة وما عقبت به إلا الصالح العام عن طريق تكوين جيل إسلامي جديد يعرض الثقافة الإسلامية عرضاً جديداً ويلائم بينها وبين مقتضيات العصر.
وقد قصدت في كتابتي السابقة أن أشرك الطلبةوأفسح لهم كييعبروا عن مشاعرهم ويبدوا أفكارهم، وأتبعت الطريقة (الأستنتاجية) فاستنبطت منهم عناصر الموضوع حتى بدا تناوله جديداً وإن كانت الأقلام تعاورته من قبل، وقد قصدت بذلك أن أستحث الجيل القائم من علماء الأزهر على أن يخرج كنوزه للناس، فقد قضوا أشطاراً من أعمارهم في دراسة تلك الكتب وإدراك مراميها، وهؤلاء العلماء هم الذخيرة الحية الباقية والطلبة في هذا العصر تؤودهم المناهج المزدحمة وقد أصبحوا لا يسيغون أساليب التأليف القديم وصارت نفوسهم
منصرفة عنها فلن يقبلوا عليها مثل أسلافهم، فواجب أولئك العلماء أن يؤدوا الأمانة التي تلقوها عمن قبلهم بطريقة تناسب العقلية الجديدة عقلية من يراد منهم أن يتسلموها، ولا ينبغي أن نيأس من قعود الأساتذة عن هذا الغرض، فإنا وإياهم ننتظر المصلح الثالث الذي قد يكون شيخا للأزهر، وقد يكون رجلاً آخر من رجال الأزهر يفسح له الشيخ الأكبر، وإن كان يعارضه، ليكون أطلق يداً. . .
واحدة بواحدة:
تتجه وزارة المعارف الآنإلى العمل على نشر الثقافة الفرنسية في مصر، وذلك بجعل اللغة الفرنسية اللغة الأجنبية الأولى في بعض المدارس إلى جانب اعتبار الإنجليزية اللغة الأجنبية الأولى في البعض الآخر وبالإكثار من البعوث العلمية إلى فرنسا وخاصة بعد التوسع في إنشاء الجامعات المصرية وما يقتضيه من الحاجة إلى الأساتذة، وبمساعدة المدارس والهيئات الثقافية الفرنسية الموجودة في مصر على تأدية رسالتها.
والتمكين للمصريين من الانتفاع بالثقافات الأجنبية المختلفة وعدم الاقتصار على بعضها هو رأي معالي وزير المعارف الدكتور طه حسين بك، ومن الطبيعي أن يعمل على تنفيذه وتحقيقه في النطاق الرسمي وهو على رأس وزارة المعارف، كما دأب على العمل به في الميدان الأدبي العام.
هذا جميل ومفيد، ولكن هناك شيئاً آخر يعرفه معاليه ولا أحسبه إلا يوليه اهتمامه ذلك أن السلطات الفرنسية في شمال أفريقية تمنع وصول الثقافة المصرية والعربية إلى هناك وقد طلبت بعض البلاد المغربية أخيرا من وزارة المعارف المصرية أن تنشئ فيها مدارس تسير على المناهج المصرية، وأن تمدهم بطائفة من الكتب الأدبية والعلمية والفنية لتكون نواة لمكتبات عامة يتردد عليها أبناء تلك البلاد. ولكن السلطات الفرنسية عارضت - كدأبها - في إجابة هذه المطالب، وجرت اتصالات بين الوزارة وبين تلك السلطات الفرنسية في هذا الشأن لم تنته إلى حل.
وقد استطاع معالي الوزير الأريب أن يحل مسألة مراقب التعليم المصري في السودان على وجه أرضي الكرامة المصرية، فسافر المراقب إلى السودان بعد ما وقف الإنجليز في سبيل دخوله إليه. وهذا المثل يجعلنا آملين في أن يستغل معاليه مركز الثقافة الفرنسية بمصر في
حمل الفرنسيين على التعقل وعدم الوقوف في وجه الثقافة المصرية المتجهة إلى شمال أفريقية، تلك البلاد التي تجمعنا بها روابط لا انفصام لها.
مسابقة مختار في النحت والتصوير والرسم
احتفل يوم الثلاثاء الماضي بافتتاح معرض الأعمال الفنية التي قدمت إلى مسابقة مختار في النحت والتصوير والرسم، وهي المسابقة السادسة عشرة التي أقيمت لتخليد ذكرى مثال مصر الأول، وذلك في متحف الفن الحديث بشارع قصر النيل بالقاهرة. وقد استقبلتنا في مدخل المتحف بالحديقة تماثيل مختار نفسه معبرة موحية، كأن الفنان العظيم هو الذي يستقبلنا في الاحتفال بذكراه. .
والمعرض يحتوي على ثلاث مسابقات، الأولى في النحت وموضوعها (اللاجئون العرب) والثانية في التصوير الزيتي وموضوعها (الطفولة المتشردة) والثالثة في الرسم، ولم يحدد لها موضوع، ولكن رسومها تتجه أيضاً نحو الطبقات المعذبة، وقد فاز بالجائزة الأولى فيها رسم يمثل فرقة من الشحاذين يشاركها في طعامها التافه كلب على طوار بجوار مسجد، فالمعرض كله يصور البؤس والألم فهو جدير بأن يسمى معرض البؤساء
وأعمال هذا المعرض متوسطة، وبعضها جيد، وهي وإن كانت خالية من الروائع الفنية الممتازة التي تستوقف المشاهد وتستحوذ على إعجابه، إلا أنها ذات أصالة، لعراقة موضوعاتها في بيئاتنا الزاخرة بهذه الصور، فليس فيها محاكاة أو اقتباس، وهي من هذه الناحية تدل على شخصيات أصحابها وعلى مواهبهم التي تبشر بالخير.
والذي أعجبني في المعرض الصورة التي فازت بالجائزة الأولى في التصوير الزيتي، وهي تمثل أخوين: أخ يدفن وجهه بين ذراعيه المشتبكتين وشعره الأشعث الأغبر ينطق بالبؤس والحرمان وأخت جلست إلى جانبه موزعة بين العطف على أخيها والإحساس بالألم. وأعجبتني كذلك الصورة رقم 4، وفيها طائفة من الأطفال المشردين يسوقهم شرطي وقد ربطهم بحبل كما يساق قطيع من السائمة إلى المذبح. . . وأمسك المخبر بأسمال أحدهم فبدت سوأته في شكل مؤثر، وهي حركة معبرة بارعة.
أما التمثال الذي فاز بالجائزة الأولى في مسابقة النحت فهو يمثل أسرة من المهاجرين راحلة، وهو تمثال لا بأس به، ولكن أعجبني هناك تمثال (رقم 24) لم يفز بجائزة. . .
وهو الذي يمثل أسرة من زوجين وطفلين أضناهما السير والتعب، فحطوا رحالهم إلى جذع نخلة قد بتر رأسها، وفي ذلك إيحاء بانقطاع الخير حتى مما لجئوا إليه. . .
عباس خضر
البريد الأدبي
تعقيب
كتب صاحب العزة أحمد رمزي بك مقالاً في العدد الماضي من الرسالة بعنوان (محاضرة عن الإسلام) وهي المحاضرة التي كتبت عنها قليلا في كتاب (حياتي)
وقد فصلها الأستاذ تفصيلاً دقيقاً وافياً وصحح لي أسم المدرسة الإسلامية التي ألقيت فيها محاضرتي الأولى وعتب على أني لم أذكر ما قامت به القنصلية المصرية في القدس من مجهود مشكور.
وإني أبادر - أولاً - بشكره على تنبيهي إلى خطئي، وثانياً قبول عتبه وإعلاني شكره على ما بذل من مجهود لإنجاح هذه المحاضرة.
وإني أؤكد لحضرته أنه لم يحملني على هذا التقصير إلا النسيان وبعد العهد واعتمادي على ما بقي من الحادث في ذاكرتي. بينما اعتمد حضرته - على ما يظهر - على مذكرات يومية دونها، وأخيراً أقدم لحضرته شكري ومعذرتي وسلامي.
أحمد أمين
معركة القزويني في الأزهر:
لا أوافق صديقي الأستاذ عباس خضر على تصوير ما دار بيني وبين الأستاذ الشيخ محمد خفاجي بأنه معركة حول كتاب الإيضاح يفضها أحد أمرين: أن تلغى دراسته من كلية اللغة، فيرفع اللحاف بين المتنازعين عليه، أو يرجع به إلى أحد أحفاد صاحبه بقزوين لأنه أحق به منهما. فالمعركة ليست بهذا التصوير، وإنما هي معركة بين عمل متواضع في الإصلاح قمت به في شرح الإيضاح، وعمل لا يؤمن بحاجة الأزهر إلى إصلاح في علوم البلاغة أو غيرها، ويقول صاحبه إنه جد فخور بحشوه بمماحكات الحواشي اللفظية، ويصفها بأنها بحوث علمية خصبة في رأي كل دارس للبلاغة وباحث فيها، وصديقي الأستاذ عباس خضر يرى كما أرى أن هذه الحواشي ومماحكاتها هي التي أفسدت البلاغة.
وإذا كان في الإيضاح بعض المماحكات فإنه مع هذا خير ما ألف في البلاغة بعد كتابي عبد القاهر - دلائل لإعجاز وأسرار البلاغة - لأنه يجري غالباً في طريقهما. وإن كان
متأثراً بطريق السكاكي في تبويب علوم البلاغة وتقسيمها، وقد عنيت في شرحي له بمجاراته في طريق عبد القاهر، واختيار ما هو من صميم البلاغة في تلك الحواشي، وإهمال مماحكاتها اللفظية، مع التنبيه على ما في الإيضاح من هذه المماحكات، وقد قصدت من هذا الشرح أن أمهد الطريق لعمل يكون أتم في الإصلاح، ولا يرجع بنا القهقري إلى مماحكات الحواشي، وهذا كله قليل من كثير ذكرته في كتابي - دراسة كتاب في البلاغة - وسأترك لصديقي الأستاذ عباس نسخة منه في إدارة الرسالة الغراء، وله شكري على قبول هذا الإهداء.
عبد المتعال الصعيدي
وفاة الأستاذ أمانويل مونييه
أصيب الأدب الفرنسي ولا نبالغ إن قلنا الأدب العالمي بوفاة أحد كبار الكتاب العصريين بفرنسا وواضع مذهب الأستاذ أمانويل مونييه
ولد هذا الفكر المشرق الوضاح بمدينة جرونويل سنة 1605 وما عتم أن عين مدرساً للفلسفة وظهرت على حداثة سنه شخصيته الحرة القومية الجذابة.
وقد تمكنت هذه الشخصية القوية من جمع نخبة من الكتاب حولها فأبرزت مجلة (الفكر) الذائعة الصيت
وذهب مونييه يذيع في مجلته أفكاره وآراءه في مشاكل العصر الحاضر واضعاً أسس مذهبه العامة الذي أسماه (بمذهب الذاتية) وإن لم يكن راضياً على هذا اللفظ مضطراً لاتخاذه تعبيراً أقرب من كل عبارة أخرى للدلالة على جوهر مذهبه الفلسفي العام.
وهذا المذهب الفلسفي الجديد الذي أثر وما زال يؤثر تأثيراً بعيداً في اتجاه الشباب المثقف في فرنسا وخارج فرنسا يعتمد في جوهره على اعتبار الإنسان في ذاته وشخصيته أولاً وقبل كل اعتبار آخر؛ فالإنسان في نظر مونييه محور كل شيء في هذه الحياة؛ وهذا الإنسان في نظره ذات شخصية قبل أن يكون فرداً وقبل أن يكون جزءاً من أجزاء المجتمع
فمذهب مونييه غير مذهب ومذهبه أيضاً غير مذهب الشيوعية المطلقة التي تعتبر - في
نظره - الإنسان جزءاً من المجتمع لا شخصية لها مميزاتها تعيش في المجتمع.
وعلى هذه القاعدة يخالف مونييه ويقاوم الرأسمالية نتيجة الفردية المبالغة ويخالف أيضاً مذهب ماركس. وعلى هذه القاعدة قضى مونييه جل حياته في تفكير عميق واجتهاد متصل محاولاً أن يضع حسب تعبيره أسس مذهب خاص به يوفق بين وجود الإنسان وجوداً شخصياً وحياة نفس هذا الإنسان في مجتمع لا بد له من الامتثال لسننه وقوانينه.
وقد وفق مونييه إلى حد بعيد إذا ما اعتبرنا أنه أولاً نجح في وضع الأصول الكبرى لمذهبه، وثانياً في نشر مذهبه وتكوين أنصار له من الكتاب في فرنسا وخارج فرنسا قادرين على المسير بمذهبه في طريق الاكتمال بفضل مجلة (الفكر).
رسالة إلى ولدي
ها أنت ذا تبلغ العام الأول يا بني: عاماً ككل الأعوام التي تمر من حياة الناس مليئة بالاصطخاب والتنافس والتنازع، طافحة بالشهوات والنزعات والرغبات.
عاماً من أعوام هذا العصر الحاضر المشبع بأوضار المادة والمفعم بسموم النزاع: ومنذ اللحظة الأولى التي تفتحت فيها عيناك على النور ذهل البيت الآمن الوادع: وتغيرت في الحال منه وجهة الطريق، فأنقلب النظام وتغير الجو وتبدلت الغايات.
كان يشق طريقه يا بني في عتمة الأزل لا يهتدي إلى غايته المتوخاة: ويدرج في دروب الحياة لا يرى الساحل الأمان، وينتظم في صفوف القافلة لا يحس نهاية الغاية، حتى أتيته يا بني وولدت فيه وانتظمت في أسرته فإذا به غناء وشعر وطفولة، وإذا به رسالة وجهاد وأبوة
لقد كشفت للبيت السبيل يا بني فهديته إلى غايته في لحظة، وأنرت للبيت الطريق فوجهته في سهولة، وبعثت فيه الحياة والحماس والفتوة فأندفع كالسهم المراش يمضي ويمضي نفاذاً لا يلوى على شيء.
لقد رطبت طفولتك يا ولداه جو البيت فلان بعد قوة، وتلطف بعد تحجر، واستندي بعد يبس: وهذه الطفولة السحرية العجيبة غيرت وجه التاريخ من دون عناء، وبدلت لون الكون من غير تعب، واستبدلت بقلوب الآباء والأمهات قلوباً أخرى تنبض بالحب بعدما كانت تنبض بالدم؛ وتجيش بالعطف بعدما كانت تجيش بالرضى والغضب، وتقبل على
الوجود بالتضحية والفداء والإيثار بعدما كانت تقبل عليه ملأى بالحرص مغمورة بالأثر والمنفعة وحب الذات؟!
لقد بدلت يا بني لون هذا العام الذي مر من حياتك وحياتي فهو عام كغيره محشو بالأيام كما تحشى سنابل القمح بحباتها، ولكن لون أيامه تغير وشكل لياليه تبدل فلم يعد هذا الصخب الذي مر ذكره يصل إلى مسامع البيت، ولم تعد هذه المادية تكبله بسلاسلها القاسية وتضرب حول فنائه ألف نطاق
فقد طهرته طفولتك يا ولداء وسكبت عليه من إكسيرها بلسماً يعطى منه السقيم فيبرأ ويداوي فيه العليل فيشفى
لقد أوضحت لي يا بني كثيراً من معاني الحياة، وكشفت لي جوانب من أسرارها فاستوضحتها بعد إبهام، وتبينتها بعد لبس، فلم تعد الوطنية معاني معقدة الفهم ضعيفة المدلول كما كانت في فجر الحياة، ولم تعد الحياة ملهاة قليلة الشأن بسيطة القيمة كما كانت في مطلع الشباب، ولم يعد المستقبل غموضاً وضرباً من الخيال والوهم كما كان في أبان الطفولة.
لقد علمتني يا بني كثيراً وألقيت علي دروساً ذات قيمة كما أنك هذبت نفسي وقلبي وصقلتهما صقلاً جميلاً مصقولاً!! ترتسم عليهما الصور بسهولة. ولولاك يا بني لبقي العقل ضالاً جاهلاً قدسية الأسرار العليا؛ ولبقى القلب حجراً قاسياً ما أكثر ما يحتاج إلى تهذيب.
لقد أصبح قلبي وهو مهدك خزاناً يعج بأسمى العواطف، وبركاناً يجيش بأقدس النزعات. لقد طهرته من الرجس وأزلت عن جنباته أدران الصدأ. لقد علمته أنشودة الأبوة الرقيقة الحواشي البديعة النغمات فغداً صباحه شعراً وأمسى مساؤه موسيقى.
ولو أدركت يا بني كم في نظراتك الطاهرة وحركاتك البارعة من سمو إلهام لقلبي وارتياح لخاطري ونشوة لنفسي لنطقت قبل أوان، ولعقلت قبل رشد ولأحسست قبل إحساس
لو أدركت يا بني وعلمت ما يخامر الآباء من حب وعطف وحنان حيال أطفالهم الصغار لتمنيت أول ما تتمنى ولطلبت أول ما تطلب وعياً ومعرفة ورشداً لتذوق معنى السعادة التي يسعى إلى تذوقها الضالون ويهيم في طلابها المدجلون
إن طفولتك يا بني شعر، بل هي أسمى من الشعر إنها عروس من عرائس الخيال
للشاعرين يندفعون في الدنو منها محاولين الوصف، ويحترقون في الاقتراب منها معالجين القريض، فإذا بهم يتخبطون ويحترقون كما تحترق الفراشات المتواثبة حول النور!
لست أدري يا بني لم تتزاحم الصور والمعاني أمام خاطري حينما أنظر إليك، ولست أدري لم هذا النهم كله في حبك، ذلك أن فيضك يا ولدي وسع آفاق قلبي كثيراً وبسط جوانب نفسي كثيراً وزودني بأعماق بعيدة الغور لا يدرك لها مدى ولا تحدها حدود!!
لو عرفت يا بني كيف يدفع التعب، وكيف تهون المشقات، وكيف يسهل الصعب، وكيف تقرب الغاية لعلمت أنك دواء من الله لم تحتوه صيدلية ولا ركبه العلم، يعين به الله الهمة المجهدة ويرشد به الله البصيرة الضالة! ويحل به العزيمة محل الخور والأمل بعد اليأس والرجاء بعد القنوط
ثم ها أنت ذا يا بني تدلف إلى عامك الثاني تسرع الخطى وعندما تضحي على أعتابه يا بني سيكون لي معك حديث وأي حديث.
بنت جبيل - لبنان
حسن محمد عبد الله شرارة
الكتب
صديقي مويز
تأليف الأستاذ حسن المخزومي
للأستاذ علي محمد سرطاوي
هذا كتاب وضعه الأستاذ العالم حسن المخزومي بالفرنسية ووزع في باريس حينما كانت هيئة الأمم المتحدة تنظر القضية الفلسطينية في مرحلتها الأخيرة. وقد نقله إلى العربية وطبع في بيروت في مطابع الكشاف عام 1948.
يقول الأستاذ عبد الله مشنوق في الكلمة التي قدم بها الكتاب لقراء العربية: (هذه فصول قيمة موجزة كتبها صديقي حسن المخزومي عن الصهيونية منذ نشأتها حتى اليوم، على لسان صديقه اليهودي موييز، بأسلوب قصصي ممتع، يمتاز بوضوحه وسهولته كما يمتاز برصانته العلمية ونقده اللاذع الساخر. ضمنه خلاصة وافية عن الصهيونية وأحلامها ومزاعمها، مستنداً إلى الوثائق والمراجع التاريخية ومفنداً هذه المزاعم - على لسان اليهودي دائماً - بإنصاف واتزان يبرز فيهما للقارئ حسن المخزومي العالم الرياضي والمهندس المدفق لا يسرف ولا يغلو، ولا تتغلب فيه العاطفة على العقل).
ويقول في مكان آخر: (لقد صدر متأخراً عن موعده ربة قرن على الأقل، ولو أنه صدر في موعده الصحيح لتغير وجع التاريخ. . . ولو أن كل عربي عرف مرامي الصهيونية وأغراضها منذ ربع قرن لما أخذ العرب على حين غرة. . . ولما ظهروا بذلك المظهر الارتجالي في ميادين السياسة والقتال. .)
والكتاب لا يزيد في صفحاته على الستين في حساب الحجم، ولكنه في حساب الحقائق خلاصة مركزة لعشرات المجلدات التي تحدثت عن قصة تاريخ الإنسان في عشرات القرون. والكتاب في مجموعه لمحات عابرة في رأي صائب، واتزان عميق، وبيان مشرق، وفي إشراق الفكرة المركزة يتراءى الجهد المضني الذي يبذله الغواص في أعماق اليم وفي تبسيط المقعد من مشاكل التاريخ تبدو الطاقة المبذولة في تحويل أطنان من الأتربة والحجارة إلى ذرات صغيرة من الذهب الوهاج.
وفي الكتاب لفتات ذهنية بارعة، ومفاتيح لغرف نفسية لشعوب انطوت على أنفسها - على حد تعبير الأستاذ الفنان المعداوي -، ونتائج يكاد ينفرد بالوصول إليها، ومشاهد من صور يعبد التاريخ نفسه فيها.
وقلائل جداً، هم الذين نصدوا لكتابة التاريخ وخلق بهم الفكر النير على أجنحة الفهم العميق والإدراك المتزن إلى الآفاق التي توحد فيها حقائق الأرواح الخالدة، وقلائل جداً هم الذين لم تفح من آثارهم روائح القبور، ولم تبد وراء كلماتهم جثت الموتى وعظام الغابرين.
وثقافة الأستاذ المخزومي العلمية، وإطلاعه العميق على مصادر التاريخ في أكثر من أربع لغات أجنبية يتقنها، إلى جانب ما يتحلى به من ذوق مترف، وحسن ملهم في الأدب والفن، كل ذلك يطل عليك من وراء كلمات الكتاب النابضة بالحياة، فيخيل إليك أنك لا تقرأ كتاباً، وإنما تسمع حديثاً مبسطاً عن المشاكل المعقدة في العلم والفن، في سخرية لاذعة واتزان عميق.
تبتدئ المسرحية الصهيونية التي ذهب ضحية فصلها الأول مليون ونصف من العرب الآمنين، التي سيذهب اليهود مجتمعين في فلسطين ضحية الفصل الثاني منها حينما ترخى يد الزمن أطراف الستار، في مكانين متباعدين في الشرق والغرب.
وقف على طرف المسرح الغربي في بريطانيا لويد جورج وزملاؤه، يعاونهم بلفور وشركاؤه على الإيقاع باليهود عن طريق وعد بلفور الغاشم؛ ووقف على طرف المسرح الشرقي مكماهون ولورنس يحاولان الإيقاع بالشريف حسين عن طريق استقلال العرب. . .
وفي الوقت الذي كان فيه مكماهونيقطع الوعود المعسولة للشريف حسين، كان جورج بيكو الفرنسي، ومارك سايكس الإنجليزي قد أتما تقسيم البلاد العربية إلى مناطق نفوذ بينهما، ولم يتركا للعرب غير الصحراء - الصحراء فقط - لأنهم خرجوا منها وإليها يرجعون. . .
ويقول المؤرخ الإنجليزي هـ. ر. تامبرلي: (كانت ثقة العرب في بريطانيا العظمى من القوة بحيث لم يفلح إفشاء بعض البنود من المعاهدات السرية في إفساد العلاقات الحسنة بين الطرفين. . .)
آمن إبراهيم وهو في العراق بفكرة التوحيد، وتبنى اليهود من بعده هذه الفكرة وتعالوا بها على سائر الشعوب التي تحيط بهم وانطووا على أنفسهم فكرهتهم الشعوب واكتوى إبراهيم نفسه بنار هذه الفكرة التي آمن بها فكانت وبالاً عليه واضطر أن يفر من الصحراء إلى فلسطين. كان محبوباً فأعلن كثير من الأقوام أنه جدهم كالأبدوميين، والأموريين، والإسماعيليين. أما اليهود فيبدءون من يعقوب أو إسرائيل الذي اضطرته المجاعة إلى الهجرة إلى مصر، وهناك ابتدأ الاضطهاد الأول في التاريخ لليهود. وهنا نتساءل: أكان الخطأ عند اليهودأمكان عند المصريين؟
واضطر اليهود إلى الهرب من مصر، وقد انضم إليهم من كان من غير اليهود، ولعل موسى من هؤلاء. وقد أضاف إلى عقيدة التوحيد وصايا أخلاقية عشراً لم يتبعها اليهود، بل شاكسوا الأنبياء، وأشركوا بالتوحيد؛ فقدموا القرابين لأرباب آسيا، وعبدوا عشتاروت ويعل ومولوخ والعجل الذهبي، ووضعوا أولادهم في افران مولوخ، وسلموا نساءهم للبغاء المقدس على الروابي والتلال.
لقد رأى موسى أن بقاءهم في تيه صحراء سينا، قد يقوم المعوج من أخلاقهم، ويثير رجولة الشجاعة في نفوسهم، ولكن ذلك البقاء في التيه لم يفلح إلا في إجاعتهم. . . وتسللوا إلى فلسطين أفراداً وجماعات تسللاً بطيئاً، ولم يكن صحيحاً أنهم أخذوها بالقتال لأنها كانت معمورة بجبابرة من الكنعانيين والأشمونيين والجابوسيين، كانوا أصلب منهم مراساً وأقوى عوداً، وأمتن أخلاقاً. . .
وللمرة الأولى في التاريخ أصبحت لهم مدينة، زمن داود وسليمان، ولكن الذي يلفت النظر أنهم لم يستطيعوا الإتيان بعمل فني، فاستعانوا بجيرانهم على بناء الهيكل. وإذا استثنينا المزامير خرج اليهود من حساب التراث الفني خاسرين. . .
واليهود كالنار، تأكل بعضها أن لم تجد شيئاً تأكله وحينما لم يجدوا بينهم شعوباً يدبرون لها الشر، ويبيتون لها المكر، دبروا ذلك لأنفسهم، فانقسموا إلى شماليين في السامرة، وجنوبيين في أورشليم، وقضى سرجون ملك نينوى على الشماليين عام 722 ق. م، ونبوخذ نصر على الجنوبيين عام 586 ف. م، ونفاهم إلى بابل، وبذلك أزاحت يد التاريخ عن مسرح الدنيا تمثيلية لم يصلح الممثلون لأداء أدوارها، ولم يرتح النظارة لمشاهدتها. ونتساءل مرة
ثانية: أكان الخطأ عند اليهودأم عند البابليين والآشوريين؟
يبتدئ تاريخ اليهود الحقيقي بسبي بابل، وحينما فتحها كورش الكبير وقضى على أمجادها عام 539 أصدر أوامره بإعادة اليهود إلى فلسطين (وهاهو التاريخ يعيد نفسه بنزوح يهود العراق إلى فلسطين عن طريق إيران). لقد رفض عدد كبير منهم العودة رغم مساعدة كورش العظيم لهم، ورغم تبرع الذين لا يريدون العودة بنفقات الراجعين. . . والذي يلفت النظر فيها إن فلسطين لم تتأثر بنفيهم إلى بابل. كانت الحياة فيها هادئة ومزدهرة بعدهم.
وبرجوع اليهود من السبي البابلي تحققت نبوءة دانيال. وهذه النبوءة لا تعني رجوع اليهود مرة أخرى، لأنه لم يبعث إليهم نبي بعد أن شتتهم تيطوس في السنة السبعين من الميلاد.
عاد اليهود إلى فلسطين من العراق فابتدأت المتاعب لهم ولجيرانهم وللرومانيين. لقد عاشوا عيشة الضنك والفساد والشغب والفوضى، ورأت روما وهي سيدة الدنيا وجبارة التاريخ أن نضع حدا لهذا العبث والاستهتار فدلف إليهم تيطوس بجيوشه وشتتهم في العام السبعين من ميلاد المسيح. وهنا نتساءل مرة ثالثة: لقد قضت روما على قرطاجنة لأنها كانت تهدد حياتها، أما اليهود - اليهود المستضعفون - فلماذا قضت عليهم روما؟ وكان الخطأ عند اليهود أم عند الرومان؟
ظهر المسيح يبشر بكلمة الله فضيع اليهود الفرصة الذهبية التي أتاحها لهم القديس بولس في الطمأنينة ونشر عقيدة إبراهيم وشريعة موسى، وتعاليم يسوع السامية بين الشعوب بدلاً من وقفها عليهم. ضيع اليهود هذه الفرصة بدافع من تعصبهم الضيق المغرور، وكبريائهم العنصري.
وهكذا تم الفراق والتباعد بين اليهودية والمسيحية، ونشأ الكره بين الطائفتين لأن اللهلم يخلق العالم ليجعل منه عبيداً لأبناء يعقوب. وبنبذهم النصرانية عاشوا منبوذين مكروهين في العالم، واضطروا النصارى إلى مقابلتهم بالاضطهاد والعذاب بدلاً من إظهار العرفان بالجميل. . .
في هذه الفترة من الاضطهاد اضطر اليهود إلى العيش مجتمعين فنفروا من الزراعة وحرموا من الوظائف العامة والجيش، وانصرفوا بكليتهم إلى التجارة والربا الذي يحرمه دينهم عليهم، فجمعوا المال وكدسوه غير ملتفتين إلى ما يحيق بهم من عذاب واضطهاد.
وأقبلت الثورة الفرنسية تلتهم الأخضر واليابس، وتدمر معالم الحياة، وأطلت البرجوازية، وحل المال محل سائر القيم الروحية والاجتماعية والأخلاقية، فوجد اليهودي نفسه فجأة فوق قمة المجتمع الإنساني بما لديه من مال، وانفتح أمامه مستقبل لم يحلم به أبداً.
وفي هذه المرة كان بإمكان اليهود النجاة بأنفسهم والعيش هادئين، ولكن الغرور سول لهم أن يفرضوا أنفسهم على الدنيا وأن يستعبدوا العالم بأسره.
وظهر رد الفعل شديداً في أسبانيا، وذاق اليهود من الكنيسة ألواناً من العذاب فهاموا على وجوههم، ووجدوا في العالم العربي الصدر الرحب الذي لا يضيق، والتسامح الديني الذي يفرض على المسلم احترام أهل الكتاب، والقلب الرحيم الذي يضع البلسم على الجرح الدامي، وحذت البلاد النصرانية حذو أسبانيا فوقع اليهود أمام اضطهاد منظم رهيب. كان اليهود على الدوام يلقون اللوم على مضطهديهم، ولم يدر بخاطرهم أن يوجهوا بعضاً من التقريع إلى أنفسهم.
وهنا تبتدئ مرحلة جديدة أمام اليهود في التاريخ، تلك هي مرحلة التردد بين الاندماج والتكتل.
أن الاضطهاد المنظم، والمال الوافر، جعلهم يفكرون في موطن أو دولة وخرجوا من التفكير الطويل فرأوا أنفسهم أمام حلين لمشكلتهم:
الحل الأول: أن يندمجوا بسكان البلدان التي يعيشون فيها وتختفي مع الزمان العلامة الفارقة التي تميزهم عن الناس.
الحل الثاني: أن يبقوا منعزلين انتظاراً للوقت الذي يفتشون فيه عن وطن لا ينازعهم في ملكيته أحد. وفي الحيرة بين هذين الحلين بقي اليهود هائماً في الظلام يتخبط في تيار الزمن متردداً.
وإذا عدنا إلى الماضي البعيد، منذ ألفي سنة، نرى، نرى فيلسوف الإسكندرية اليهودي قيلون ينتصر لفكرة اندماج اليهود بالشعوب التي يعيشون بينها حين يقول: (لم يعد اليهود بسبب عددهم قادرين على أن يعيشوا في بلد واحد. ثم أنهم يعيشون الآن في أغنى البلدان من أوربا وآسيا فينبغي أن ينظر اليهود إلى أورشليم اليوم وغداً على أنها مقر أصله الخلقي وإنها مكان مقدس، على حين أن البلد الذي يسكنه هو وطنه الذي يعيش فيه كما عاش أبوه
وجده من قبله). وقد تحققت مخاوف فيلون وأدت إلى خراب اليهود في معظم البلدان التي عاشوا فيها.
وحينما صدر وعد بلفور الذي يمنح اليهود في الظاهر وطناً روحياً، وفي الباطن دولة يهودية، احتج عقلاء اليهود عليه، ولكن احتجاجهم ذهب صرخة في واد، واعتبر المحايدون ذلك الوعد افدح ضربة وجهت إلى اليهود في التاريخ. والذي يرجع إلى المذكرات التي كتبها هربرت صموئيل أول مندوب سام على فلسطين يجد صورة واضحة المعالم فيها من أعماق قلب يهودي شديد الاتزان، بعيد النظر.
وأقبل القرن الرابع الميلادي وأصبحت المسيحية دين الدولة الرومانية، وأصر اليهودي المتعصب على القطيعة وبقى على معتقده القديم، ولم يحاول اليهود العودة إلى فلسطين بعد عام 135 م حتى لم يذهب إليها حاج واحد ولم يأتوا إلا بعد اضطهاد الأسبان لهم، وجاءوا لاجئين لا حجاجاً.
وعلى أثر اضطهاد اليهود وطردهم من إنجلترا عام 1290 وفرنسا عام 1306، وأسبانيا عام 1492، فتح ملوك ألبانيا أبواب بلادهم لهم، ولكن اليهودي العتيد بقى نفس ذلك اليهودي المطرود بكل ما فيه من تعصب لجنسه، يعيش منفصلاً عن الأمة البولونية ويمتص دماءها وأموالها، فنشأ البغض هناك وأطل الاضطهاد برأسه. ونتساءل دائماً لماذا؟ لماذا؟ لماذا يضطهد اليهودي ويبغض، الخطأ عند الناس لخطأ في طبيعته؟
وتحسنت أحوال اليهود بعد القرن الثامن عشر بسبب الهجرة إلى أمريكا، ولكن المهاجرين اليهود حملوا إلى الدنيا الجديدة معهم بذور الاضطهاد فنبتت حولهم هناك.
ونشأت فكرة الدولة اليهودية من الخوف من تكاثر عدد اليهود المنصهرين في الشعوب، ثم لإيواء اليهود المضطهدين. تلك هي التربة التي نمت فيها بذور الحركة الصهيونية.
يحدثنا التاريخ أن نابليون بونابرت في العام السابع من الثورة الفرنسية قد دعا يهود آسيا وأفريقيا للانضواء تحت لوائه لاسترجاع أورشليم.
وتجنس عام 1840 اليهودي الإيطالي موييز حاييم مونتفيورى بالجنسية الإنجليزية ومنح لقب سير وهو صاحب فكرة إقناع الإنجليز بحماية اليهود في الدولة العثمانية، ولكن إنجلترا في ذلك الوقت لم تجد مصلحتها في جانبه فلم تساعده، وحاول إيقاف هجرة اليهود إلى
أمريكا وتحويلها إلى فلسطين، ولكنه لم يفلح.
وتأسست عام 1880 في الأستانة جمعية صهيونية روسية سمت نفسها (بيلو) قالت في بياناتها: (يا إسرائيل ماذا ضعت منذ ألفي سنة، لقد نمت نوماً عميقاً وحلمت برؤيا الاندماج الفارغة. إن مستقبلك في الغرب لا أمل فيه ولا رجاء - هناك مستقبلك في الشرق حيث يلمع نجمك في السماء. .)
وكان الدكتور بانسكو الروسي اليهودي من دعاة الاندماج، ولكنه غير رأيه بعد اغتيال اسكندر الثالث وعودة الاضطهاد، ورجع ينادي بالدولة اليهودية، ولكنه حذر قومه من الاتجاه شطر الأرض المقدسة. ومن أقواله:(لقد قاسينا من الويلات على هذه الأرض المقدسة ما فيه الكفاية. ولنا فيها من الذكريات الأليمة ما يصرفنا عن التفكير في سكناها والتعرض لأخطار الطرد منها كما حدث في الماضي.)
وقام في نفس الوقت البارون هيرش الألماني يدعو إلى الدولة اليهودية ولكن في بلاد الأرجنتين تحت شعار العودة إلى الزراعة، لكن هذه الفكرة ماتت بمعارضة المتطرفين ومات مشروع البارون.
ثم ظهر على المسرح مويبزهس الألماني. كان هذا شديد الإعجاب بالثورة الفرنسية فدعا إلى اتحاد فرنسي يهودي للسيطرة على الشرق الأدنى وطريق الهند ومحاربة الإنجليز، لكن قضية دريفوس الشهيرة جعلته يغير رأيه.
وفي هذه البلبلة ظهر هرنشل، وهو يهودي نمساوي. كان صحفياً ومؤلفاً مسرحياً. أصدر عام 1891 كراساً عنوانه الدولة اليهودية) أحدث ضجة كبرى.
جرب هرنشل أن يوحد المذهبين المسيحي واليهودي عن طريق تنصير اليهود ووضع حد لمسلكهم الشاذ في المجتمع البشري ولكن أصدقاءه صرفوه عن هذا الرأي لاستحالة قبول اليهودية.
وإزاء هذا الفشل خطرت له فكرة تأليف شركة يهودية للاستعمار في أرضيستطيع أن يمتلكها اليهود وأن ننظم إليها الهجرة تنظيماً كثيفاً. ومن المحقق أن أرض الميعاد لم تخطر لهرتسل على بال. لكن المتطرفين قلبوا فكرته وحملوه على تقديم مشروع على أساس الهجرة إلى فلسطين. فحاول الحصول على فلسطين من السلطان عبد الحميد، لكنه باء
بالفشل وكان جواب السلطان لوسيطه: (قل للدكتور أن يعدل عن الإصرار على هذا الأمر فأنا لا أستطيعالتنازل عن شبر واحد من أرض السلطنة لأن هذه الأرض هي ملك لشعبي لا ملكاً لي وقد أهرق هذا الشعب دمه للاستيلاء عليها فليحتفظ اليهود بملايينهم، ولعلهم يتمكنون من الفوز بفلسطين بدون مقابل متى قطعت أوصال السلطنة. أما أن أقبل طوعاً بأن ننتزع منها أحد أجزائها فلا. . .
(أنني لا أستطيع أن أرضى بتشريحها وهي لا تزال على قيد الحياة. . .)
لكن هرتسل استعمل الأساليب الملتوية رغم هذا الجواب الصريح وخرج على مبادئ الهجرة الكثيفة. . . وكان في الوقت الذي يدعو فيه إلى اتحاد يهودي إسلامي للتفوق على المسيحيين، كان يفاوض إمبراطور ألمانيا ويحاول إقناعه بالفوائد التي تجنيها ألمانيا من إيجاد فلسطين، إذ لا بد أن تمهر بطابع من الثقافة الألمانية، ومع ذلك فلم يكتب له التوفيق، ففشل مع غليوم وعبد الحميد، لكنه لم ييأس وأدار وجهه إلى إنجلترا، وكانت تعاني من كثرة تدفق المهاجرين اليهود عليها، فرحبت بالفكرةلأنفيها الحيلولة بينها وبين السبل الجارف من المهاجرين - ولكن إنجلترا لم ترد إغضاب السلطان، فاقترح هرتسل جزيرة قبرص أو العريش لكن جوزيف شمبرلين وزير المستعمرات اقترح عليه (اليوغندا) لتكون موطناً يهودياً. . . ولما تألفت لجنة لدرس هذا المشروع كان هرتسل قد مات فقضى على الفكرة نهائياً ورفضها مؤتمر 1905 رفضاً باتاً.
وهنا ظهرت أقلية يهودية أسمت نفسها منظمة الأراضي وأسلوبها شراءالأرضوإقامة المستعمرات والمدارس والهجرة بأسلوب خفي تقوم الدولة اليهودية ويطرد العرب من فلسطين
وهكذا لعب اليهود بالنار التي احترقت وستحرق في لهيبها أرواح بريئة من بني الإنسان ففازو خداعاً بالجولة الأولى، واستقروا على فوهة بركان من حقد أربعين مليوناً منأمةأحسنت لليهود في أوقات المحن التي مروا بها؛ نغلي في أعماق ذلك البركان حمم رهيبة من الثأر وويل للظالم من المظلوم. . .
وهذه جولة خاطفة في رياض هذا الكتاب النفيس، طفناً بالقارئ فيها حول وروده ورياحينه، ومررنا بتلك اللفتات الذهنية البارعة. يقص المؤلف كل ذلك على لسان اليهودي
موبيز صديقه الخيالي.
وهنا لك إشارات عابرة في الكتاب إلى تلك الحركات الفكرية الهدامة التي كان ولا يزال اليهود يقومون بها في عصور التاريخ، لهدم القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية التي ترفع أعين البشر إلى النور.
وتعاليم الثلمود توجب على اليهودي كره كل من كان من غير بني جنسه. . . وأن يكون قاسياً حقوداً.
وأما قصة (برونو كولات شيوخ صهيون العلماء) فقد جلاها مترجمة لقراء الرسالة الأستاذ محمد خليفة التونسي في أعداد الرسالة الغراء اعتبارا من العدد (856)، ومنها عرف القراء اليهود عارين بعد أن نزعت عنهم تلك الوجوه المستعارة.
ونرى أن ننوه في نهاية هذا الحديث إلى المقال الرائع الذي كتبه الأستاذ عدنان الكيالي ونشر في عدد الرسالة (860) ففيه تفصيل لبعض المشاكل التي أشرنا إليها ونرى أن نقتبس القسم الأخير من المقال المذكور.
قال الأستاذ الكيالي: (وإني أعتقد أن العالم لن يصيب الراحة والهدوء ولن يسوده السلم والاستقرار ما دام اليهود عنصراً فعالاً فيه، وما دام بين الناس من لا يزالون ينخدعون بهم وينظرون إليهم نظرتهم لسائر أبناء البشر الآخرين. ولا مفر للبشر من أتباع أحد وجهين لا ثالث لهما لوضع حد لمفاسد اليهود وشرورهم، فأما أن ينبذوهم نبذاً تاماً ويقصوهم عن مراكز العمران في العالم ويحصروهم في بقاع نائية حصراً لا مجال لهم معه إلى بث سمومهم في الناس. وأما أن يصدقو النية في تغيير عقلية اليهود ومعتقداتهم بأخذ الأجيال الناشئة منهم وتربيتها تربية بعيدة كل البعد عن معتقدات آبائهم وأجدادهم بحيث يهدون إلى دين جديد كالإسلام أو المسيحية أو البوذية أو الكونفوشية أو أية عقيدة أخرى يهذبون ويوجهون توجيها جديدا يتفق مع الخلق الكريم والمثل الإنسانية العليا لتصبح نفوسهم مثل نفوس سائر البشر)
وبعد فلك يا صديقي المخزومي شكر العربية على كتابك النفيس ونرجو أن لا تحول أعمالك الهندسية الواسعة بينك وبين التفرغ لمشكلة أخرى من مشاكل الأمة العربية فندرسها درساً عميقاً فيه الرأي الصائب والتسيد والتوجيه. . .
علي محمد سرطاوي
بغداد - دار المعلمين الريفية
القصص
حب!. .
ثلاث صحائف من مذكرات رجل رياضي
مختصرة عن
كانت تلك الليلة شديدة البرد، حالكة الظلام، فجلسنا للعشاء في غرفة فسيحة، بدت لي كمعرض من معارض الحيوانات، فقد كان أبن عمي حريصاً على تعليق كل طير جميل يصطاده على جدران هذه الغرفة بالذات، أو يدليه بالحبال من سقفها!. . حتى أبن عمي بدا لي تلك الليلة، في هيئة غريبة هو الآخر!. . . كان يرتدي معطفاً (جلدياً) سميكاً بدا لي به كواحد من تلك الحيوانات التي تعيش في المناطق المتجمدة الشمالية!
كان أبن عمي - كارل دي روضي - قد دعاني إلى الصيد معه. فلما جلسنا حول المائدة راح يحدثني عن كل الترتيبات والاستعدادات التي دبرها أو أتخذها لهذه الرحلة. . . فعلينا أن نبدأ الرحلة في ساعة مبكرة في فجر اليوم التالي. . . وعلى مسيرة ساعة من هنا أقام أبن عمي كوخاً من قطع الجليد الكبيرة، وأعده لنحتمي به من شدة الزمهرير!
فرك أبن عمي راحتيه، وقال - آه. . . لم أر طول حياتي مثل هذا الجو البارد! ثم أستأذنه، ودلفت إلى فراشي مبكراً، وما كدت أستقر بين أحضان الفراش الدافئة، حتى نمت نوماً عميقاً هادئاً ولم أستيقظ إلا على يد أبن عمي ووجهه الأحمر، والفجر لما يطلع بعد.
وسرنا أنا وأبن عمي وكلابه، نتبع رجلاً استأجره أبن عمي لحمل الصيد وما كدنا نخرج من البيت حتى شعرت بالرياح تلطم وجهي بشدة، وأحسست بالبرد يسري في أوصالي. وكانت الطيور الصغيرة تتهاوى إلى الأرض، وهي جثث هامدة جامدة!
كنا نسير، أنا وأبن عمي جنباً إلى جنب وقد انحنى ظهرانا، ولاذت بالجيوب أيدينا. . . وكنا قد تأبطنا بنادقنا وسرنا في صمت وسكون. حتى وقع أقدامنا لم يكن يسمع قط، فقد عمدنا إلى لف أقدامنا بالصوف خشية الانزلاق على الجليد. وكنت أتلهى بالنظر إلى مياه النهر المتجمدة، والى البخار الكثيف المتصاعد من أنوف الكلاب.
ووصلنا غابة كثيفة اختارها أبن عمي للصيد، وأوغلنا بين أشجارها المتعانقة، وأحراشها
المتكاثفة، فكان إذا ما مس جسد أحدنا غصناً من الأغصان انحطم محدثاً صوتاً مدوياً يبعث الرعب إلى قلبي. . . يا للسكون، إنني أحس الآن في أعماق نفسي احساسات غريبة لم يسبق لي أن أحسست بمثلها من قبل. إن هذه الاحساسات التي تملأ نفسي لن تبرح ذاكرتي طوال أيام حياتي.
ولاح لعيني ذلك الكوخ الجليدي الذي أقامه أبن عمي لنحتمي به من شدة البرد. وكان وصولنا إليه مبكراً، فدخلناه لنسترجع أنفاسنا ونرتاح قليلاً، وانتهزت هذه الفرصة فتدثرت بغطاء سميك من الصوف، واستلقيت على الأرض محاولاً التماس الدفء، ولكن جدران الكوخ الشفافة ما كانت قادرة على صد هجمات الرياح الباردة، فبرد جسدي، وانتابتني نوبة من السعال أثارت اهتمام ابن عمي، فقال مداعباً ليس من الضروري أن نصطاد كثيراً اليوم. . . إنني أخشى عليك من الزكام!. . دعنا نشعل ناراً لعلك تدفأ!
وارتفع لهيب النار، ومس جدران الكوخ الشفافة كالبلور الصافي، فأخذت قطرات الماء تنهمر علينا كالمطر. وكان كارل خارج الكوخ حين ناداني في لهفة - تعال. . . تعال وأنظر! فعدوت إلى الخارج مسرعاً، وسرعان ما وقفت مدهوشاً ذاهلاً. . . يا للروعة!. . .
كان كوخنا الجليدي ذو الجدران الشفافة، والنار تتأجج فيه، يبدو كالجوهرة التي وقع عليها الضوء الساطع. فراحت تشع وتتلألأ!
وبينما كنا مسحورين بهذا المنظر الأخاذ، وكل شئ ساكن من حولنا، إذا بنا نسمع دوياً هائلاً ينبعث سريعاً خاطفاً من فوق رؤوسنا فيتبدد ذلك السكون الثقيل الذي كان يخيم على الحياة من حولنا!
ورفعنا أعيننا إلى السماء، فاستطعنا أن نرى سرباً كبيراً من الطيور يحلق غير بعيد عن رؤوسنا، ولمع في ظلام الفجر سيف من النور. . لقد أطلق كارل بندقيته، وهرولت كلابنا نحو الغابة ثم تناوبنا إطلاق النار كلما لاح لنا سرب من أسراب الطيور المهاجرة وكانت كلابنا تلهت من شدة التعب. . إلا أنها كانت مسرورة لممارستها هذه الرياضة المسلية. وكانت تحضر لنا الطيور المضرجة بدمها الحار، تلك الجريمة التي كانت ترمقنا دائماً بنظرات كلها أسى ويأس وعتاب!
وأشرقت الشمس، وبدأت ترتفع في الأفق بتثاقل، وكنا نهم بالعودة حين لاح لنا في الجو الصافي، طائران يطيران على مهل وقد اشرأبت منهما الأعناق، وانفردت الأجنحة. . وكان قد مرقا من فوقنا، حين أطلقت النار من بندقيتي، فسقط أحدهما على مقربة مني، وكان جثة هامدة قد مزقها الرصاص!
كان صدر الطير فضياً لامعاً، وحين رفعته بيدي أتفحصه في إعجاب، سمعت صوتاً يتردد من فوق رأسي في نغمات قصيرة ذات وتيرة واحدة استطعت أن أحس بالحزن ظاهراً فيها بكل وضوح. . وقد بقي هذا الطير المحزون يحوم حولنا ويرمق زميله المضرج في دمه في ألم قاتل وهم مرير.
كان كارل راكعاً على إحدى ركبتيه، مسدداً فوهة بندقيته نحو الطير المحلق فوق رؤوسنا. قال كارل - لقد قتلت الأنثى. . . وبقى الذكر يحوم حولنا ولا أظنه سيتركنا.
والحقيقة أن الطائر لم يذهب بعيداً عنا، ولم ينقطع نواحه الذي أحزنني كثيراً واشعرني بالندم على ما فعلت!
وابتعد عنا قليلاً فخيل إلي أنه قد ركن إلى الفرار بعد أن أدركه اليأس من أنثاه، ولكنه سرعان ما عاد إلينا وقد تجدد عزمه، واستأنف البحث عن إلفه والنواح على أنثاه، كأن هذا الفراق قد عز عليه، ولم يحتمله!
قال كارل - اتركها على الأرض، فهو حين يراها سيقترب منها وفعلا، ما كدت أتركها حتى اقترب منها غير مبال بالخطر المحدق به. . فقد أعماه حبه لأنثاه عن رؤية البندقية المفتوحة الفم وأطلق كارل بندقيته، فهوى الطير كالحجر!
ووضعت الاثنين في كيس واحد. . . كانا باردين كالثلج وقد خمدت منهما الأنفاس. . . وشعرت بالأسى يغمر قلبي. . فلم أطق رؤيتهما.
وعدت في المساء إلى باريس!
البصرة: العراق
يوسف يعقوب حداد
ص. ب. رقم 15