المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 881 - بتاريخ: 22 - 05 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٨١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 881

- بتاريخ: 22 - 05 - 1950

ص: -1

‌ليس بعد الدين وازع

كان كتاب التراجيدية من الإغريق وأتباعهم من أمثال كورني وراسين وشكسبير لا يتخيرون أبطال مآسيهم إلا من أصحاب القصور. وحكمتهم في ذلك أن وجيعة النفس لمصائب الملوك أقوى من وجيعتها لمصائب السوقة، فالاعتبار بهم يكون أبلغ، والتأثر لهم يكون أشد. والناس يومئذ لم يكونوا يظنون أن سلائل الآلهة هم كذلك أغراض لسهام القدر؛ فإذا رأوا أن المرء مهما يعظم قدره ويضخم أمره لا يعظم على النوائب، ولا يكبر على الأحداث، خفت عليهم أحكام القضاء، وساعت لديهم غصص الحياة.

والحق أن ما يصيب العامة كل يوم من فواجع العيش ومواجع القلب لا يقع من النفوس موقع ما يصيب الخاصة كل حين من بعض ذلك؛ لأن أولئك مظنة الخطأ والتبذل والاستهتار، فالعجب أن يسلموا؛ وهؤلاء مظنة الصواب والتصون والحفاظ، فالعجب أن يصابوا ولعلك لا تعدم كل صباح أو مساء خبراً عن فتاة خرجت على أسرتها فأفضلها الشيطان، كما لا يعدم الرعاة كل ضحوة أو عشية خبراً عن نعجة شردت عن قطيعها فأكلها الذئب. ولكن هذه الأخبار أصبحت من مألوف الآذان لكثرة ما في سواد المجتمع من ضعاف البصيرة والعقيدة والإرادة. أما الذي لم يؤلف ولن يؤلف فهو خروج الفتاة على دينها لشهوة متغلبة أو نزوة متحكمة.

وهذه الظاهرة على ندرتها قلما تجدها في الطبقتين الدنيا والوسطى، وكثر ما تجدها في الطبقة العليا؛ فإذا عددت واحدة أو اثنتين من غواني المدن تزوجتا من غير المسلمين، عددت سبع أميرات في العراق وإيران ومصر قد تزوجن من مسيحيين وهن يعلمن أن دينهن لا يجيز هذا الزواج ولا يرتب عليه حقا من حقوق الأسرة. وعلة الكثرة هنا والقلة هناك ضعف الوازع الديني في نفوس هؤلاء، وقوته في نفوس أولئك.

واستشعار الخوف من الله طبيعة في الشعب غرسها فيه افتقاره الدائم إليه، واعتماده المطلق عليه، ورجاؤه المتصل فيه. أما السراة فهم حريون لغناهم عنه بالسراوة والثراء ألا يخشوه ولا يرجوه إلا إذا حملوا منذ النشأة حملاً على تقواه بالتربية الدينية والثقافة الروحية والأسوة الحسنة.

والسنن الإسلامية التي ربت عائشة وأسماء، وسكينة ونفيسة، وزبيدة وشجرة الدر، لا تزال قادرة على أن تربي مثلهن إذا أقيم على قواعدها السماوية نظام البيت ومنهاج المدرسة

ص: 1

وشريعة الوطن.

إن المسلم الحق قد ينزل عن طبقته فيشكر، وقد يخرج من جنسيته فيعذر، ولكنه أبداً لا يفسق عن أمر ربه وفي قلبه نور وفي ضميره حياة.

ابن عبد الملك

ص: 2

‌قلوب من حجر

للأستاذ كامل محمود حبيب

قال لي صاحبي: كان ذلك منذ سنوات، والشباب نضير، والإهاب غض، والعود ريان، والزمان مبتسم، والحياة مشرقة؛ والقلب - إذ ذاك - معطل من نزوات الطيش. والفؤاد خلو من نزعات الحمق، والروح عارية من دفعات النزق، وأنا - حينذاك - أب وزوج. ولا عجب فلقد عشت عمراً من عمري قنوعاً أرى الدنيا حوالي تموج بالهوى والغرام، وأنا على حيد الطريق أنظر إلى الركب فلا أستطيع أن أمد يداً ولا لساناً لأني رجل ريفي النشأة قروي المربى، طبعتني روح الريف بسمات الخجل والانزواء، وموهت تعاليم الدين الحياة في ناظري فصبغتها بأفانين من الألوان القاتمة كبلتني بقيود زائفة ورثتها غصبا فدمغتني بالتزمت والانطواء، ثم اختار لي أبي الزوجة على نسق حرمني حق الاختيار والرأي، في حين أني كنت موظفاً في الحكومة أبدو رجلاً بين الرجال، فعشت إلى جانبها لا أشعر نحوها إلا بالسيادة والسيطرة، ولا تحس هي نحوي إلا بالخضوع والاستسلام، وانطوت الأيام.

وشعرت بأنني أعيش هنا - في القاهرة - غريباً لا أجد أهلي، وهم في القرية، ولا أستطيعأن أختمر في خضم المدنية، وأنا ريفي الروح، ولا أن أعاور زملائي في الديوان أسباب المتعة واللهو، وأنا أنكمش على نفسي وعلى ديني، فرحت أهيئ السلوى والعزاء في الدار، وأداري نقصي باللباس الأنيق والمسكن الجميل وعندي الخفض والسعة فلا تعوزني المادة ولا ينقصني المال

هذه الحياة الرتيبة كانت بغيضة إلى نفسي لأنها تبعث في الملل والضيق، وتنفث في الفراغ والدعة؛ فلا أجني اللذة في معترك الحياة ولا أرشف السعادة من تقلبات العيش؛ فركد ذهني وانحطت خواطري ووهى عقلي، ولكني لم أجد عنها مصرفاً إلا في أن أتنقل من مسكن إلى مسكن وأفزع من دار إلى دار لا أحس الهدوء ولا القرار.

وأستقر بي القلق - آخر الأمر - في مسكن من الطبق الثالث من عمارة ضخمة

وفي ذات صباح، خرجت - كدأبي - إلى عملي في الديوان، فما رعاني إلا أن أرى نفسي - على حين فجأة - قبالة فتاة هيفاء القد ريانة العود مشرقة الجبين ريقة الحسن، تختال في

ص: 3

روعة الشباب وتزهو في غضارة العمر، تتألق رونقاً يخطف البصر، وتشع جمالاً يسحر اللب، وتنفح عطراً يلفح الفؤاد؛ فوقفت - برغمي - لحظة. . . وأحست هي بي فلم تعرني اهتماماً - بادئ ذي بدء - ثم رأت نظراتي تغمرها بالنهم والرغبة فاندفعت صوب مسكن جاري تغلق الباب من دوني في هدوء.

وانطلقت أنا إلى عملي في حيرة وذهول أسائل نفسي وقد انطبعت صورتها في ذهني، وما في خاطري سوى فكرة واحدة تزحمه: يا لقلبي! إنها تفور شباباً وفتنة، شباباً يعصف العقل وفتنة تزلزل القلب فمن عسى أن تكون؟ لعلها ربة الدار!

وشغلتني الفتاة الجميلة عن عملي فما أنصرف عنها ولا يبرح طيفها خيالي وأنا أحس اللذة والسعادة كلما تراءت لي من خلال تصوراتي تبسم في رضا ورغبة، وأشعر بالضيق والملل كلما بدا لي أنها تدفعني عنها في غير هوادة ولا لين لأنها أغلقت من دوني الباب.

وترادفت الأيام وأنا أحتال للأمر فأنفتح أمامي الباب وتبسطت أسارير وجه الفتاة وخف جماحها، ثم سكتت نفس إلى نفس فاطمأن قلب إلى قلب وأرتبط سبب بسبب. واستبشرت روحي فبدت علي سمات الزينة والأناقة خيفة أن تقع عين الفتاة مني على ما يبعث فيها النفور والاشمئزاز. . . ورحت أتزين كل صباح فأسرفت في الزينة وأتأنق فأفرط في الأناقة، لا أعبأ بنظرات الريبة والشك تنطق بهما عيناً زوجتي الريفية المسكينة، وهي تنضم على أسى عاصف يوشك أن يقد قلبها. . . قلب الأنثى الضعيفة المستكينة. . . ولكنها لا تستطيع أن تكشف لي عن خبيئة نفسها خوفاً مني وفرقاً.

مسكين أنت يا من تطوي عمر الشباب في زاوية من الدار تعكف على خيالات من الفضيلة والشرف، تتعبد لها في خضوع وذلة، ثم لا تغتمر في لجة الدنيا بقلب الرجل ولا تكافح أعاصير الحياة بقوة العزم! مسكين أنت لأنك تعيش عمرك طفلاً في دنيا المردة وضاوياً، في جيل من العمالقة! مسكين لأنك لا تدري أيان تزل قدمك وأنت على حافة الهاوية لا تستطيع أن تتماسك من وهن.

مسكين أنت أيها الريفي الساذج حين تجمح بك نزوات اطيش وقد اكتملت رجولتك واستوى عودك وتجاوزت سن الحمق، فتسول لك نفسك أمراً فتطاوع أهواء قلبك فتطير في إثر فتاة المدينة. . . فتاة الشارع، فتصرفك عن الدار والزوجة والولد، وتسلبك هدوء النفس وراحة

ص: 4

الضمير!

وجذبتني ابتسامة الفتاة فانطلقت على آثارها أسلس وأنقاد، فسيطرت على قلبي وعقلي معاً، فما استطعت أن ارتدع عن غي، ولا أن أرعوي عن شطط، يوم أن علمت أنها زوجة جاري الذي لا أعرفه.

وتلاقينا على ميعاد في منأى عن الرقيب، نرشف معا رضاب الهوى المحض على حين غفلة من زوجي ومن زوجها، لا أحس الضعة ولا الخسة، ولا تستشعر هي سفالة الخيانة والسقوط. . . تلاقينا معاً في كنف الشيطان وقد مات فينا الضمير والشرف والكرامة جميعاً.

وغبرنا زماناً أخاتل زوجتي وتخدع هي زوجها. ولمست فيها الرقة والظرف فوجدت إلى جانبها السعادة التي افتقدت منذ زمان. وخيل ألي أن في حديثها رنات لحن موسيقى تهتز له أوتار قلبي في شدة وعنف، وأن في عينيها شعاعاً آسرا يجذبني إليها بأمراس، وأن في دلالها معاني من أسوار السجن تلفني في ثناياها فتحجبني عما عداها؛ فاستسلمت في رضا ولذة. على حين قد استحالت داري إلى مكان بغيض، واستحالت زوجتي إلى فتاة كريهة، وباء ابني مني بالإهمال والهوان.

وتواعدنا - ذات مرة - أن نتلاقى أصيل يوم معلوم من أيام الربيع، وكنا إذا تواعدنا لا نختلف في الميعاد، وجاء اليوم الموعود فخف قلبي للقيا الحبيبة، وهفا فؤادي نحو الحديث الساحر واشتاقت نفسي إلى اللذة الحرام فقضيت ساعات الضحى خفيف الحركة مشرق الوجه طلق المحيا، يهزني الخيال وتطربني الفكرة. ثم انطلقت عند الظهر إلى داري أهيئ نفسي للسعادة المنتظرة، ورقيت السلم أتوثب رشاقة وطرباً، فما أفزعني إلا صوت صراخ ينبعث مختنقاً من أعماق مسكن جاري. . . مسكن الفتاة التي احب، فدق قلبي دقات الرعب، وبدا على وجهي شحوب الخوف، وران على ذهني اضطراب الأسى، وسرت في مفاصلي رعدة الجزع؛ فوقفت لدى الباب أتسمع.

ترى ماذا عسى أن يكون خلف الباب؟ ووقفت حيناً متردداً انتفض وفي رأيي أن القدر يصنع حادثة ذات بال من وراء الجدار. وسولت لي مخافتي فدفعت الباب فاندفع. . . فإذا أنا أمام الفتاة التي احب، وإذا الخادم الصغيرة تلقى بنفسها بين يدي مستجيرة وهي تصرخ

ص: 5

صراخاً يفتت الكبد ويصم الأذن، وإذا بالفتاة الجميلة تندفع صوبي هائجة تهدر، تلطمني بكلتا يديها في غيظ، وتدعني خارج الدار في عنف، وتقذفني بأقذع الشتيمة وأحط السباب.

وفزعت من أمام الفتاة الثائرة، وبين يدي الخادم المسكينة تتشبث بي وتتضرع

وقالت لي الخادم بعد أن أفرخ روعها وهدأ خوفها: (أرأيت يا سيدي السجان وهو يقسو على السجين في غلظة وفظاظة لا تأخذه به رأفة أبداً؟ أما أنا فلقد دأبت سيدتي الجميلة على أن تقضي صدر النهار في الشارع وطرفاً من الليل في اللهو، لا تسكن إلى الدار إلا ريثما تطرى نفسها وتستكمل زينتها، ثم تنطلق إلى هدف أو إلى غير هدف؛ وسيدي رجل عمل لا يستقر في البيت إلا ساعة يطير بعدها إلى عمله؛ أما أنا فقد عشت بينهما زماناً ضحية الجوع والعرى والوحدة. وضاقت نفسي بالحياة في هذا السجن الوضيع وأنا ريفية طويت عمري في الحقل أنعم بالعمل والحركة وأنشق نسمات الحرية، لا أومن بالقيد ولا أطمئن إلى غل؛ فطلبت إلى سيدتي في خضوع أن ترسلني فأسافر إلى أهلي في القرية، فرفضت. وألححت فرفضت. وحين وجدت من العناد والإصرار خشيت أن أفر من الدار فيعجزها أن تجد خادماً غيري، فغلقت الأبواب وانفلتت هي إلى غايتها. وبلغ مني اليأس غاية نفذ عندها الصبر فثرت في وجهها، ورأت في ثورتي معاني التبجح وسوء الأدب فأمسكتني بيد من حديد وراحت تكويني بحديده محماة وإن عينيها لتضطرمان بنار القسوة والفظاظة، وأنا أتلوى وأبكي وأتضرع ولكن إنسانيتها كانت قد غابت فبدت فيها حيوانية جارفة تفترس بالناب والظفر ثم لا تهدأ إلا أن تلغ في الدم).

قالت الخادم كلماتها من خلال عبرات تتدفق أسى ويأساً، ثم كشفت عن ذراع مزقتها كيات النار التي لا تعرف الرحمة، أوحى بها قلب خلا من الرحمة والشفقة والإنسانية جميعاً.

وعجبت أن يكون هذا الجمال الفتان ستاراً يواري خلفه قلباً لا ينبض بالرأفة، وروحاً لا تخفق بالحنان، ونفساً لا تنضم إلا على الوحشية والافتراس.

ولكن، لا عجب - يا صاحبي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!

كامل محمود حبيب

ص: 6

‌السيدة نفيسة مقامها ومنزلتها

للأستاذ أحمد رمزي بك

(يا أبا إسحاق لا تعارض أهل مصر في نفيسة فإن الرحمة

تنزل عليهم ببركتها)

رؤيا المؤتمن

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحى مقفر العرصات

قفا نسأل الدار التي خف أهلها

متى عهدها بالصوم والصلوات

للحديث عن السيدة نفيسة رضي الله عنها (روعة خاصة) إذ هي ذات المنزلة الرفيعة العالية في قلوب أهل مصر، تهتز القلوب حين تنطق باسمها، وتعلو نفسك ومشاعرك حين تؤم مشهدها وتزور مقامها وتصلي بمسجدها.

ولقد شاءت إرادة الله، وما خطه تعالى في سجل رحمته وعنايته لمصر وأهلها، أن تكون هذه البقعة التي ترقد فيها السيدة الطاهرة، بقعة مباركة تفيض على الوجدان آيات الشعور والإخلاص، ومظاهر الخضوع والشمول.

فأنت إذا دخلت مسجدها ورأيت مقصورتها استقبلتك الآية الكريمة:

(قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)

وقليل من الناس مهما قست قلوبهم وتحجرت مشاعرهم من يتمالك عبراته أمام قدسية هذا المشهد، شعر بذلك كل من زارها في الأعصر القديمة، وكل من دخل مقامها في العصور الحديثة، وتحدث كل واحد منهم بما شعر به من النفحات التي تغمر نفس الإنسان، فتجعلها تتذوق حلاوة الإيمان، وتلمس عن قرب عظمة تراث ومجد هذه العزة النبوية، التي جاءت أرض مصر في مستهل عصور الهجرة، فاتخذت بلادنا لها مقاماً ومنزلاً، فشرفتها ورفعت من قدرها وأعلت مقامها فوق كل مقام، ومن وقتها عرفت مصر بأنها من منازل آل البيت الكرام صلاة الله وسلامه ورضوانه عليهم.

وأنا ممن يعرف اختلاف المفسرين في تفسير الآية الكريمة التي أشرت إليها وفي تأويلها، وهم قد يذهبون في آرائهم شيعاً ومذاهب، ولكنني أحملها على ظاهرها وأخذها على النمط

ص: 7

الذي أختاره وأرتاح إليه لتستقر الآية في نفسي. فأقول إنني حينما أقف أمام المقام وأرتل الآية الكريمة، أؤدي واجب المودة لقربى هذا النبي العربي الكريم، معجزة الأجيال السابقة واللاحقة والقادمة، الذي بفضله ذقت حلاوة الإيمان وبهديه اهتديت وعلى سنته سلكت، فأصبحت في زمرة أتباعه، وأتباع آله وأنصاره وأصحابه أولئك جميعاً الذي اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

هانحن أولاء في أوائل القرن الثالث الهجري وقد ختمت المائة الثانية، فإذا في سماء مصر العربية ذات الفتوح، يلوح اسمان كنجمين لامعين يشقان أضواء الهداية على هذهالأرض الطيبة، هما السيدة نفيسة رضي الله عنها والإمام الشافعي رحمه الله. عاشا في مدينة القسطاط العربية، وحضر الإمام مجلس السيدة العظيمة القدر من وراء ستار، فتناولا بالبحث والمدارسة والمناقشة أمور الدين والدنيا.

وكان الشافعي يؤم صفوف الناس في الصلاة بالمسجد العتيق، وكانت تأتي هي في شهر رمضان فتحضر صلاته، وتقف وراء الصفوف تصلي وراء الإمام الذي أصبح مفخرة مصر ومعجزة من معجزات الإسلام في القرن الثاني الهجري بعلمه وفقهه وبيانه.

ومرت الأيام وجاءت سنة 200 هجرية فمات الشافعي، بعد أن ترك في العالم دويا وأضاء في أرض الكنانة شعلة، تسلمها تلاميذه من بعده ثم أتباعه فتلاميذه أتباعه وحملوها إلى يومنا هذا، تشع منها أنوار الهداية لمذهب باق على الأرض، ما بقيت الأرض؛ فهم إذن سدنة وحفظة ركن من أركان هذا التراث الخالد من مصر العربية الإسلامية حتى يرث الله الأرضومن عليها.

انتقل الشافعي لجوار ربه فحزنت مصر بأسرها عليه وسارت جنازته من المسجد العتيق، مسجد سيدنا عمرو بن العاص، فمرت بالمنزل الذي كانت تقيم به السيدة نفيسة، فصلت عليه ثم سارت جنازته إلى المكان الذي دفن فيه، وقالت رضى الله عنها كلمتها المعروفة (رحمة الله! إنه كان يحسن الوضوء).

ومن مظاهر القرن العشرين وعبقرية رجاله، أن تشغل السيدة نفيسة أهل مصر أكثر من أحد عشر قرناً من الزمن، بكرامتها ومنزلتها وعلمها وسؤددها فيكتب الناس عنها الكتب ويزور مشهدها الملوك والسلاطين والأمراء والقواد والعلماء، ومن كانت تهتز الدنيا

ص: 8

بعزائمهم وقوتهم وثباتهم، ثم أسمع منذ مدة أن بعض الكتب تعرض إلى تحقيق تاريخي يخلط فيه بين السيدة نفيسة صاحبة المقام العالي، والسيدة نفيسة الألفية التي عاشت في عهد الحملة الفرنسية. أما السيدة نفيسة الأولى المعروفة النسب الثابتة الأصول فكان أبوها الحسن بن زيد، وأمهاأم ولد. وأخوتها ومحمد القاسم وعلي إبراهيم وزيد وعبد الله ويحيى وإسماعيل واسحق وأم كلثوم، وزوجها اسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فهي شريفة حسينية وزوجها شريف حسيني.

وكان لهما ولدان: القاسم وأم كلثوم لم يعقبا ولكن لزوجها إسحاق عقب من غيرها. ذكر المقريزي أن لزوجها عقباً من غيرها عرف في زمانه بمصر بنو الرقى، وبحلب بنو زهرة.

وقد دخلت السيدة نفيسة الديار المصرية مع زوجها المؤتمن، فأقامت بها وكانت ذات مال وجاه، فأخذت تواسي الناس وتشملهم ببرها وخيرها وكانت عابدة زاهدة. ذكر المؤرخون كيف استقبلت عند مقدمها وأكثروا من الكلام على مآثرها وكرامتها وزهدها في الدنيا.

ولما توفاها الله سنة 208 هجرية عزم زوجها أن يدفنها بالمدينة فتقدم أهل مصر وسألوه أن يدفنها عندهم فدفنت بالدار التي كانت تقيم فيها. ومن يومها أعتز أهل مصر بها وبمقامها بعد أن أضاءت أرض مصر في أيام حياتها بأنوار هدايتها وصلاحها.

وإليك بعض ما ذكره القدماء عن السيدة نفيسة ومنزلتها ومقامها ومشهدها.

يقول شمس الدين محمد الزيات بكتاب الكواكب السيارة في ترتيب الريارة بالقرافتين الكبرى والصغرى (هي السيدة الطاهرة العالية القدر الرئيسة ابنة الإمام الحسن الأنور بن زيد الأبلج ابن الإمام حسن السبط (وهناك إجماع على إنها ولدت بمكة ونشأت بالمدينة وكانت لها صحبة بكثير من النساء اللاتي عشن مع الصحابيات أو سمعن عنهن وتلقين العلم عن طريقهن. وكانت السيدة نفيسة ممن قد أشبع قلبها بالعبادة فكانت لا تفارق حرم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل إنها حجت ثلاثين حجة أكثرها ماشية على أقدامها من المدينة إلى مكة. فكانت إذا دخلت البيت العتيق تعلقت بأستار الكعبة وأخذت تبكي بكاء شديداً وتقول (الهي متعني برضاك عني، فلا تسبب لي سبباً به عنك تحجبني) وقالت

ص: 9

زينب بنت يحيى المتوج (خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة فما رأيتها نامت الليل ولا أفطرت بنهار. كانت عمتي تحفظ القرآن وتفسيره).

ولا شك في أن الأثر الذي تركته السيدة نفيسة من يوم دخلت مصر إلى أن دفنت فيها كان بالغاً وأن أهل مصر تعلقوا منذ القدم بها وبآل البيت ولذلك أحلوا مقامها المقام الذي يتفق مع قدسية هذا البيت وعظمته في تاريخ الإسلام وأصبحت البقعة التي دفنت فيها بقعة يحيطها الناس بمظاهر الاحترام؛ فهي بقعة تحوي مشهد السيدة نفيسة بنت الحسن، والسيدة نفيسة بنت زيد، وتحي مشاهد الخلفاء العباسيين والسادة المالكية وكثيرين غيرهم مما ذكرهم السخاوي في كتابه صفحة 125 وما جاء في خطط المقريزي جزء 40. . وذكر ابن جبير الرحالة الأندلسي صفحة 15 قال:

(بتنا بالجبانة المعروفة بالقرافة وهي إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد أهل البيت رضوان الله عليهم والصحابة التابعين والعلماء والزهاد الأولياء والأولياء ذات الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة. ومشاهد أهل البيت أربع عشر من الرجال وخمس من النساء) انتهى كلام ابن جبير.

وذكر ابن بطوطة في رحلته صفحة 21 ما يأتي:

(ومن المزارات الشريفة المشهد المقدس العظيم الشأن حيث رأس الحسين بن علي عليها السلام، وتربة السيدة نفيسة بنت الحسن وكانت مجابة الدعوة مجتهدة في العبادة وهذه التربة مشرقة الضياء عليها رباط منثور) انتهى كلام ابن بطوطة.

وذكر ابن دقماق صفحة 120 جزء 4 (أن العمارة كانت متصلة في زمانه بين هذا الجامع والفسطاط والقاهرة، وحدد أماكن العمارة فقال: كانت إلى حدرة ابن قميحة والى الصليبة والى سوق الجمال بالرميلة والى القبة التي سماها بالصفراء) وقال (إن الجامع أو المسجد الذي أنشئ بالمشهد النفيسي - هو الذي لا تزال قبته فوق الضريح قائمة - أنشأه السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبو المعالي محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحي وكان ذلك سنة 714 وتولى الخطابة فيه القاضي علاء الدين أبو عبد الله محمد بن القاضي زين الدين نصر الله شاهد الخزانة السلطانية. وأول خطبة خطبها فيه كانت في يوم الجمعة 8 صفر سنة 714 وحضر الجمعة بالمسجد الخليفة العباسي أمير المؤمنين

ص: 10

المستكفي بالله أبو الربيع سليمان وولداه وابن عمه والكركي ناظر المشهد النفيسي والأمير سيف الدين كراوش شاد العمائر السلطانية وهما اللذان توليا عمارة هذا المسجد وأشرفا على بناء أروقته والفسقية المستجدة - رحم الله الناصر ورجاله وعصره.

إذن فاعلم أن هذه البقعة الخالدة الطاهرة قدسية النفحات بل هي بين الأماكن المباركة من هذه العاصمة الإسلامية الكبرى، والمصر الأكبر قاهرة المعز لدين الله الفاطمي وماذا أقول عنها، وقد كان أول ما وعيت في حياتي، إنني حملت يوماً إلى مقام السيدة نفيسة فكانت هذه الزيارة أول شيء وعيته، وأول ما علق بذاكرتي من أمور الدنيا في أيام الطفولة التي تبدأ بالخروج من المهد، حينما كنت لا أفرق بين اللون واللون ولا أعرف مظاهر الأشياء، فكان أن بدأت الذاكرة تحفظ ما أنطبع عليها، فإذا زيارة هذه البقعة الطاهرة والعودة منها إلى المنزل الذي كنا نقيم فيه هي أول ما وعيت في الدنيا.

ولذلك نشأت وبين هذه البقعة الخالدة ونفسي صلة روحية لا تنقطع ما دمت حياً، فقد قطعت العالم شرقاً ومغرباً واتخذت مقامي ببلاد الغرب أكثر من ربع قرن، وتعرفت إلى مذاهب الملاحدة والفلاسفة وعشت بين أنصار الفلسفة المادية وأتباع المذهب الشيوعي - ولكنني إذا جئت مصر زائراً ولو لمدة أسبوع واحد أركب خصيصاً لهذا المقام وأزوره خاشعاً لأحيي صاحبته وأقرأ الفاتحة لها، وأتقرب إلى الرسول بتقربي إليها، وأتوجه إلى الله تعالى أحمده وأشكره أن منحني الصحة والعافية والتوفيق وأعادني إلى مسقط رأسي لأقف هذا الموقف.

ولما أقمت بعاصمة الديار المصرية، وبعد استقراري بها جعلت من واجبي التيمن بالزيارة كل شهر مرة وأحياناً أراني مدفوعاً بقوة لا تغالب تدعوني إلى زيارة هذه البقعة الطاهرة وأن أتوجه فيها بالدعاء ليقيني بأن الدعاء فيها مستجاب وأن المنازل لله جميعاً ولكن هذه البقعة من المنازل التي أراد الله تكريمها.

وقد تطول بي الغربة بالشرق والغرب فأناجي بلادي وتتمثل لي مصر بأجمل مظاهرها وأهل مصر وشعبها وتاريخها في هذا المشهد النفيسي وهذه البقعة المباركة! وأود لو أتيت طائراً إليها فأحيي الزائرين والواقفين، وكل سائل ومحروم وكل ملح في السؤال ممن تقابلهم على بابها. إنهم جميعاً قطعة من هذه البقعة الطاهرة، وهذه البقعة قطعة من صميم

ص: 11

مصر الخالدة. فلا تؤاخذني أيها القارئ ولا تحرجني في موقفي وثباتي ولا تحاسبني على خطواتي وإشاراتي، فما أنا إلا بشر تشبع نفسه حوادث التاريخ وآثار القرون الماضية وأرى الجمال في كل شئ، وأراه ممثلاً في هذه البقعة بالذات. ولست أبالي بما أوصلك إليه عقلك وفكرك وعلمك من أشياء فأنت تقطع نفسك وتتجه الاتجاه الذي يرضيك ويرضي انقطاعك عن ماضيك وتنكره لحاضرك، أما أنا فأعرف نفسي وأعرف الخواطر التي تجول في قلبي فأعبر عنها بهذا الكلام وأضع كل ذلك تحية لصاحبة هذا المقام التي قال عنها القدماء نفيسة العلم السيدة الطاهرة العالية القدر الرئيسة. . .

هم أهل ميراث النبي إذا اعتزوا

وهم خير قادات وخير حماة

ملامك في أهل النبي فإنهم

احباي ما عاشوا واهل ثقاتي

أحمد رمزي

مراقب عام مصلحة التشريع التجاري والملكية الصناعية

ص: 12

‌الصحافة المصرية

هل الصحف مرآة معبرة. . أم موجهة مؤثرة. .؟

للأستاذ محمود الشرقاوي

قامت في الأشهر الماضية غضبة من جهات ومن هيئات لها نفوذ ولرأيها وزن فيما أصلح على تسميته (بالصور الخليعة) التي أسرفت صحف معينة في نشرها، حتى أمر وزير الداخلية بتذكير الصحف بما يمنع نشر هذه الصور من القوانين، وتذكيرها واجبها في رعاية الأخلاق والتقاليد وعدم الانسياق وراء المنافسة أو الربح أو التقليد ونسيان ما تجب رعايته من الملابسات والاعتبارات الخاصة. وما يزال أثر من هذه القضية قائماً عند بعض هذه الجهات وفيما ينشره بعض الكتاب والعلماء في ذلك.

ومع شعوري بشيء من الحرج إذ أعالج هذا الموضوع، فقد تملكتني الرغبة الغالبة في أن أكتب فيه، إن كنت سأتناوله من ناحية أخرى لا تقل في أثراً عن موضوع هذه الصور الغير مرغوب فيها.

الذين لا يرون بأساً ولا خطراً من نشر ما يجري في جميع نواحي الحياة المصرية والعالمية من ألوان النشاط الاجتماعي يقولون إن الصحافة مرآة لهذه الحياة بألوان نشاطها جميعاً، وكما تحرص الصحف على أن تنقل لقرائها صورة (صادقة) من ألوان النشاط المصري والعالمي في السياسة والاختراع والعلم والاقتصاد والأدب مثلاً، فمن تمام واجباتها أن تنقل إليهم هذه الصورة الصادقة من ألوان النشاط الاجتماعي.

فإذا كانت هذه الصورة الصادقة من ألوان النشاط الاجتماعي لا ترضي جهة من الجهات أو جماعة أو هيئة لها مقاييس خاصة وفهم خاص ومنهج للحياة خاص أيضا، فليس الذنب في ذلك واقعاً على الصحافة التي نقلت الصورة، فإنما هي تسجل ما يقع ويحدث.

ومما يقال في ذلك إن هذا اللون من الحياة الاجتماعية يكاد أن يكون مشتركاً ومتماثلاً في حيوات جميع الطبقات العليا في الأمم الراقية، وقد يؤخذ دليلاً على تقدمها ومقدار ما بلغته من حضارة ورفاهية. وما دمنا نقول إن مصر قطعة من أوربا أو يجب أن تكون قطعة منها، فإن هذا اللون من الحياة هو مما تصعب مقاومته؛ ومن الأفضل أن تتجه فيه الجهود إلى التهذيب وترقية الذوق العام وترفيه النفوس، بدلاً من القسر والقهر والإعنات والمنع

ص: 13

بقوة القانون لما لا يمكن أن يخضع لقانون.

لست في هذا الذي أقوله مدافعاً عن وجهة نظر معينة، ولكنني مقرر لهذه الوجهة من النظر ملخص لها لأستخدمها فيما أريد أن أصل إليه فيما يلي: -

الصحافة المصرية على وجه العموم ناجحة إلى حد كبير وصادقة في التعبير عن الحياة المصرية والأماني المصرية، كما هي ناجحة وصادقة ومستوفاة عندما تعطي صورة عن التيارات العالمية والاتجاهات الواضحة والغامضة للسياسة الدولية، بل جميع ما يتفاعل في هذا العالم المضطرب المتقلقل من المؤثرات والعوامل المختلفة والمتباينة بل المتناقضة.

ولكن هناك ناحية في الصحافة المصرية تشغل بالي وأعتقد أنها كذلك تشغل بال كثيرين من المفكرين الذين تشغل أذهان الناس بالنافع والمفيد على الدوام وليس بما يسليهم فقط ويزجي فراغهم.

وقد كتبت أن هذا يشغل البال، ولكني أريد أنه يقلق البال ولا يشغله فقط. ولست أريد أن أحدد مسؤولية ذلك، أهي واقعة على بعض الصحف، أم على بعض الكتاب، أم على الجمهور القارئ، أم هي موزعة مشتركة بينهم جميعاً أو بين هذه الصحف وهؤلاء الكتاب فقط، لا أحدد مسؤولية ولكني أنبه إلى ظاهرة.

والصحف المصرية على كثرتها وابتكارها وجمال رونقها يشغل بعضها صفحات منه بأشياء من المعلومات والمقالات والصور قد تكون شيقة وقد تكون جذابة وقد تكون مبتكرة بارعة، ولكنها يمكن أن توصف في كثير منها بعدم التعمق والبعد عن الجدية. وأنا أتكلم عن ناحية الأدب والفكر فقط.

وبينما الصراع الفكري والسياسي والاقتصادي والمذهبي يكاد يقتحم على جميع بيوتها وأمورها وخاصة حياتها ويستولي على عقولها، نجد كتاباً في مصر يلجئون إلى قصص مترجمة أو موضوعة مما يلبي الرغبات السهلة العاجلة أو يتملق الغرائز عند الشباب من النوعين، وآخرين يفتشون في بطون الكتب للبحث عن كلمة أو نقل (طرائف) لا تحرك الذهن ولا تشغله بالتفكير في هذا العالم وما فيه. ولا بالتفكير في حياتنا المصرية هذه وما فيها، وهو كثير.

ولا أنكر أن هذا لون لا بد منه من ألوان النشاط الأدبي، ولكني أكاد لا أجدالآن من يشتغل

ص: 14

بسواه أو بما يماثله في القيمة من الكتاب - إلا من ندر -

وقد نشرت في (الأهرام) منذ شهرين مقالاً أعتقد أن فيه تفكيراً وآراء تعرض للبحث والإفادة، ولكن رجلاً، مفروض أنه من خاصة المثقفين، يبادر فيسألني - لا عن رأي أو فكرة - ولكن ليسألني عن كلمة (نضوج) هل بحثت عنها في القاموس لأعرف أنها واردة فيهأم لا. . .؟

وهذا هو الفراغ، فراغ الذهن.

هذه الأمور الجدية التي تشغل - أو يجب أن تشغل - المفكرين في مصر من الأدب والفن والإصلاح، أحد كثيرين من الخاصة والمثقفين يتحدثون فيها ويشغلون نفوسهم وعقولهم بها ولكني أجد أثر ذلك في الصحف المصرية قليلاً، وبعض الصحف يراعي الكثرة الغالبة - مع رأي خاص فيها - فهي في اعتقادي ليست معبرة تمام التعبير عن هذه الناحية من نواحي النشاط والتفكير المصري، وليست (مرآة) واضحة لها. وكثيرون من المفكرين والمشتغلين بالجد من الأمور يتحرجون من الكتابة لبعض الصحف اعتقاداً منهم بأنها تتقبل أو تنشر لمستوى خاص، وتعني بالمظهر دون الجوهر، وتبحث عن الكم لا عن الكيف.

وبقي أن نقول: هل الصحف تكتفي بأن تكون (مرآة) ناقلة معبرة فقط! أم هي دافعة موجهة مؤثرة. . .؟

وربما كان قصور هذه الظاهرة على الناحية الأدبية والاجتماعية والفكرية سببه اتصال هذه النواحي خاصة بتفكير الجماعة وما يلابس حياتنا من التقاليد وبعض الأمور الأخرى.

أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة صحف ومجلات فيها مقالات لكتاب لهم اسم لامع واهم ألقاب كبيرة ولكنها تتناول مواضيع وأمور مما يقال إنه يقرأ عادة عقب الغداء أو قبل النوم للتسلية و (قتل الوقت) وبين يدي وأنا أكتب هذه الكلمات مجموعة أعتز بها من جريدة (السياسة الأسبوعية) من بدء صدورها (سنة 1926) وإذا قلبت صفحة من صفحاتها لا بد أن تجد بحثاً جدياً مدروساً في الأدب (أدب الفكرة) لا لأدب، الفراغ أو في الإصلاح أو الاجتماع يستفيد منه قارئه فائدة لذهنه وعقله وتفكيره وثقافته. ولدي مجلات أخرى كانت تصدر لخدمة الفكر والإصلاح والتقدم ثم توقفت لأنها لم تساير التيار الجارف المكتسح من الصحافة التافهة الرخيصة، وما تحول منها إلى أداة لهو وسخف ظل منتظم الصدور دائم

ص: 15

(التقدم)

وعندما نقارن بين صحف كهذه كانت تصدر منذ ربع قرن وبين ما كانت تعني به وتنشره، وما ينشر الآن في بعض الصحف لوجدنا تفاوتاً بينا ليس مما يرضى عنه من يرى أن التفكير الأدبي والثقافي يجب أن يساير التقدم العام.

في تاريخنا الأدبي لهذه الفترة - قبل أن تتجه بعض الصحف المصرية هذا الاتجاه الأخير ويشاركها فيه كثير من الكتاب أو ينساقون معا إليه - في تاريخنا الأدبي هذا نجد عشرات الكتب لمؤلفين من الطبقة الأولى جمعت وكانت معيناً للنهضة الأدبية والثقافية في مصر والشرق، وهي في الأصل بحوث نشرت في الصحف وكانت في وقتهاأيضاً من الدوافع المحركة لهذه النهضة. فكم نجد الآن بين ما ينشر في بعض الصحف المصرية مما يمكن أن يجمع في كتاب يقرؤه ويفيد منه مثقف ممتاز الثقافة أو متوسطها. . .؟

ومن الأنصاف أن أذكر بعض الصحف القليلة - كالرسالة والثقافة - بقيت على عهدها لم تنحرف ولم تساير وظلت محافظة على رعاية ما أنشئت له من العناية بالأدب الخالص على طريقتها الخاصة، ومنهجها الذي لم تتحول عنه يوماً.

إني - كما ذكرت - أشعر بالحرج حين أكتب هذا الذي أكتبه، فإني أحترم حق الزمالة، ولكني من ناحية أخرى أريد أن يحترم حق الفكر.

وناحية أخرى من نواحي الحرج أشعر بها فيما أكتب، فإني إذا قلت إن صحيفة واحدة، هي الأهرام، ظلت - وأكاد أقول وحدها - لم تشارك في الاتجاه الذي ذكرناه، وبقيت كما كانت يجد فيها قارئها كثيراً مما يشغل الذهن بالتفكير والعقل بالتأمل والإفادة، ومما يفيد الذوق بالترفيه والإحساس بالتهذيب والبهجة، ولم تنحرف إلى ناحية التسلية و (قتل الوقت) وتملق الغرائز، إذا قلت إن (الأهرام) بقيت هكذا فقد يقال إني أجامل وأمدح، والله ما إلى هذا قصدت، بل قصدت أن أضرب مثلاً.

وماذا يضرني بعد ذلك لو أني مدحت من أعتقد أني أنا صادق في مدحه. . .؟

محمود الشرقاوي

ص: 16

‌لنكن قوة تفعل لا مادة تنفعل

للدكتور محمد يوسف موسى

بقية ما نشر في العدد الماضي

وإذا كانت هذه بعض الآثار السيئة للتأثر بالغير إلى درجة التقليد الذليل، وإذا كان التقليد لا بد منه، مع ذلك، في كثير من الأحيان والأحوال، فإن على الأم أو المعلم أو ما كان من ذلك بسبيل واجباً من جهتين:

ا - أن يعني بأن يكون كاملاً في خلقه حتى يكون قدوة طيبة لمن يتأثر به. ومن هنا نرى تشدد الزعماء والمصلحين في أن يجعلوا أنفسهم بمنجاة من المآخذ أو المغامر، وإلا كان عليهم وزر ما يعملون ووزر من يتخذون منهم مثلاً علياً.

ب - أن ينشئ في أنفس من هم بسبيل أتباعه في بعض ما يعمل روح الاستقلال. إنه ليس من الخير في شئ أن يحاول المعلم تنشئة تلميذة على غراره، أو الأب ابنه على شاكلته، بل ذلك شر كله. يستطيع المربي أن يذكر لمن وكل إليه أمره رأيه في هذه المسألة أو تلك، ومذهبه في أمور السياسة أو الاجتماع، وطريقته في الحياة بصفة عامة. ولكن على أن يعنى بتفهيمه بأن ذلك رأي أو مذهب له قد يكون صواباً كما قد يكون خطأ؛ وإذا من الضروري وزنه بتفكيره الخاص، ثم له بعد هذا أن يقبل منه ما يقبل وأن يرفض منه ما يرفض.

بهذين الأمرين يستطيع الأب، والمعلم والمربي بصفة عامة، أن يصل إلى تربية إنسان يقبل ما يقبل من الرأي عن بينة، ويرفض ما يرفض من ذلك عن بينة؛ ولا يأبى أن يقبل بعض ما لدى الآخرين من خير عن اقتناع لا عن تقليد. ولا يكون مادة تنفعل، بل عقلاً يفكر ونفساً لها شخصيتها وإرادتها الخاصة.

ثم، ينتهي المرء من التعليم، ويبدأ التعرف للحياة العملية، يجد نفسه قد صار عضواً في بيئة جديدة، وأصبح عليه أن يجتمع بأناس مختلفين هن وهناك كلما اضطر بسبب عمله للانتقال من بلد إلى آخر. وهو مع هذا كله يستبدل دائماً زملاء بزملاء وأصدقاء بأصدقاء ورئيساً برئيس. هنا، في هذه الفترة وبسبب هذه العوامل، تظهر مسألة الانفصال أو الاستقلال في الفكر تمام الظهور، وتكون عاملاً قوياً في زوال الشخصية أو تكوينها

ص: 17

وتقويتها، ومن ثم تكون عاملاً قوياً أيضاً في رجولة الإنسان وسعادته أو ميوعته أو شقائه. والأمر للإنسان، من قبل ومن بعد، في حياته يصوغها كما يشاء، وفي شخصيته يكونها كما يريد.

من الناس من لا يرى أن يعمل عقله ويجهد فكره في المسائل ذوات الطابع الخلافي، أي المسائل التي لا يبين فيها وجه الحق فهي لهذا قابلة للنقاش والأخذ والرد. إن هذا الصنف من الناس يرى حينئذ أن من الأيسر له أن ينحاز لهذا الرأي أو ذاك لأن فلاناً الذي يقول به معروف بسمة العقل وجودة التفكير، أو لأن فلاناً له اسمه الذائع ومركزه المرموق. وهذا نموذج لكثير من الناس، وهو نموذج رديء، كما نرى.

ومن الناس، وهم القليل، من يرى رأيه في هذا الضرب من المسائل، ولا يكتفي برأي غيره إلا إذا رضى به عقله واطمأن له قلبه. وهذا، كما ترى، مثال طيب، لما فيه من أعماق العقل والتفكير، وعدم الاكتفاء بأن يرى الناس له الرأي الذي يرون.

على أن هناك مسائل كثيرة يجب فيها الأتباع. لأنها تقوم على حقائق ثبت منذ طويل صحتها فلا تقبل من يعد جدلاً، وذلك مثل حقائق العلوم المختلفة. ولو راح امرؤ يبرهن بعقله على صحة كل حقيقة من هذه الحقائق، لأتفق عبثاً جهداً كبيراً من وقته ومقداراً ملحوظاً من طاقته العقلية. وليس في هذا شئ من العقل أو الحزم، لأنه لا أحد يفكر في إعادة إنشاء العلوم من جديد

إن الذي نعيبه من الأتباع أو الانفعال برأي الغير، هو ما كان ناشئاً عن كسل عقلي ورغبة في أن يرى المرء بعقل غيره، وما كان في المسائل القابلة للنقاش وأوجه الرأي المختلفة. ومن ذلك مثلاً مشكلة اختلاط الفتى والفتاة في مرحلة التعليم العالي، ومشكلة إعطاء المرأة حق الانتخاب، ومشكلة حل أو حرمة التعامل مع البنوك للحاجة الماسة لذلك مع تعامل البنوك بالربا.

في هذه المسائل، وأمثالها كثير، وهي فيما بينها تتفاضل أهمية وخطراً، يكون القادر على تكوين رأي خاص فيها بتفكيره الخاص، ثم لا يفعل ويكتفي بالتأثر برأي الغير وتقليده، قد آثر الكسل العقلي، ورضي أن يكونإممةتابعاً لهذا اليوم ولذلك غداً، وما ذلك من الرجولة في شيء.

ص: 18

وهناك بعد هذا كله ضرب آخر من الانفعال أسوء عاقبة وأشد أثراً، تعنى به انفعال الأمة بأمة أخرى في كثير من مقومات حياتها وإلهام من أمورها. وقد افرد ابن خلدون هذه الناحية بفصل من مقدمته، هذه المقدمة التي يجب أن تقرأ مراراً ومراراً بالتفات وفهم عميقين:

لقد ذكر مؤسس علم الاجتماع سببين لهذا الداء يرجع ثانيهما للأول، وكلاهما مرده سوء ظن المغلوب بنفسه، وحسن ظنه بالغالب في كل أموره.

وهذا الذي يراه فيلسوف علم الاجتماع صحيح في جملته وتفصيله، صحيح اليوم كما كان صحيحاً في الماضي. على أني أبادر فأقول بأن الغرب قد أخذ عنا الكثير في العصور الوسطى من الفلسفة والعلوم، فلا تثريب علينا أن نأخذ عن أمة أخرى بعض مظاهر حضارتها. ولكن العيب كل العيب أن تفني شخصية الأمة، أو تكاد، في أمة أخرى بما تقلدها في أمور وأوضاع هامة خطيرة وبما تطرح من مقوماتها الأصلية في سبيل ما تصطنع من ذلك عن الأمم الأخرى. وكل ذلك لا لشيء إلا لأنها تحس ضعفها وقوة تلك الأمم فتعتقد فيهم كمال الجنس والتقاليد، متناسية أن الله يداول في الأيام بين الناس، وأن من الممكن الأخذ عن الغير دون الفناء فيه.

إن أول مقوم للأمة من الأمم دينها، وديننا وهو الإسلام هو كما تعرف عقيدة وشريعة، وقد أشتمل على ما يمكن أن تحتاج إليه دولة من نظم وتشاريع. وقد نسي أولو الأمر فينا هذه الحقيقة البديهية فراحوا منذ زمن بعيد يلتمسون لدى الغرب كثيراً من نظمه وتشاريعه؛ مع أن كثيراً من هذه النظم والتشريعات ثبت إفلاسه، ومع أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عما إذا كان الإسلام يحتوي خيراً منها أم لا.

إن هذا الصنيع، أي الأخذ عن الغرب وأتباعه في كثير من الأمر لم يقف في حدود ما هو ضروري مثل الصناعات والأمور الفنية، ولكن تعدى إلى العادات والتقاليد التي ترجع في أسسها إلى الدين، كما تعدى إلى الشرائع والقانون كما أشرنا إليه من قبل.

حقاً، لقد فشا عندنا منذ زمن بعيد عادات وتقاليد ليست في شيء من الإسلام أو من تقاليدنا المستمدة من التاريخ، وهي آخذة في الانتشار والذيوع من طبقة إلى أخرى، وكل هذا ليس من شأنه إلا أن يحط منا كأمة لها دينها وتاريخها وتقاليدها الخاصة بها. ولست أراني في

ص: 19

حاجة إلى بيان هذه التقاليد الأجنبية والضارة التي استشرت فينا، ويكفي الإشارة إلى الحفلات الراقصة، والخمر تقدم في كثير من المناسبات في أوساط إسلامية معروفة.

وفي خارج مصر نجد الأمر يزيد شناعة وخطراً، نجد التشبه بالغرب إلى حد الأنمياع فيه يكاد يكون التقليد لوحيد لممثلينا هناك، وذلك أمر تحققناه بأنفسنا في تلك البلاد. حقاً أن أكثر ممثلي مصر بأوربا لا يكاد يشعر الواحد منهم بأنه يمثل أمة إسلامية شرقية لها تقاليدها الطيبة التي يجب أن تحرص عليها. كما تحرص كلأمة أخرى على الطيب من تقاليدها، والتي بدونها لا تكون لها شخصية أو تكون شخصيتها مذبذبة لا لون لها، وليس بهذا نستوجب احترام الأمم الأخرى التي نعيش فيها ممثلين لمصر الشرقية الإسلامية!

هذا، وإذا كان لا بد لكل حديث من نهاية، ولكل بحث من غاية، فإني احب أن أجمل هذه الغاية في كلمات:

ا - لو لم يكن من غرائز الإنسان أو من طبيعته التأثر بالغير وتقليده، لكان عسيراً كل العسر إن لم تقل لكان متعذراً في كثير من الحالات، أن يصل الإنسان وهو يجتاز مراحل حياته واحدة بعد أخرى إلى كثير من المعارف وإتقان من الأعمال. ولولا هذه الغريزة الطبيعية، أو الظاهرة الاجتماعية، لعز على المربي أن يبلغ بطفله أو تلميذه إلى ما يريد له من كمال.

ب - ولكن ينبغي أن نحذر في الإفادة من هذه الغريزة فلا نسرف في الانفعال بالغير والتأثر به إلى حد تقليده بلا تفكير أو اقتناع. ذلك إثمه أكبر من نفعه، وحسبنا أنه ينتهي بمحو شخصية المقلد وصيرورته تابعاً لغيره في تفكيره وطرائق حياته الاجتماعية على الأقل.

وليس لأحد منا أن يتعلل بما يذكره بعض الأخلاقيين من أن سعادة الإنسان هي أن يحسن التكيف بما تكون عليه بيئته، أي في القدرة على هذا التكيف وإحسانه في غير عتت أو مشقة. إنه لا ينبغي لنا هذا، لأنه فرق كبير بين رعاية الوسط الاجتماعي فيما هو خير، وبين الانفعال بهذا الوسط خير وشره كما هو ملحوظ في حالات كثيرة هذه الأيام. إن هناك من الناس من يغير الواحد منهم رأيه في هذه المسألة أو تلك، بعدد ما يغير من جلساته مع غيره.

ص: 20

ح - وأخيراً، من الواجب، ونحن في نهضة وطنية واجتماعية، ألا يكون الواحد منا مادة تنفعل بغيره وبما يكون من ذلك الغير من أحداث. بل يجب أن يكون في نفسه قوة تفعل، قوة لها أثرها الطيب المحمود هنا وهناك.

أن عامة الغربيين يرون فينا، معشر الشرقيين جماعات لم يعد لها كيان مستقل ولا شخصية خاصة، ما دام الكل يرى في الغرب مثله الأعلى، يقلده في كثير من أوضاع الاجتماع وطرائق الحياة. أما الخاصة من رجال الغرب، أعني العلماء الذين لهم بصر يتجاوز ظواهر الأمور إلى حقائقها واللباب منها، فيرون أن هذا الأتباع من الشرق للغرب أتباع ظاهري، ولكن للشرق وراء هذا روحه الخاصة به، هذه الروح التي لا تلبث أن تظهر من جديد ناصعة قوية يفيد منها الشرق والغرب معاً، بعد أن صار هذا الأخير - وقد أنهكت قواه الحضارة المادية بحاجة إلى بعث جديد يقوم على روح ومبادئ جديدة يلتمسها لدى الشرق والإسلام.

فلنبين إذا لعامة الغربيين خطأ ما يعتقدون من أن الشرق أضاع روحه وشخصيته في إتباع الغرب وتقليده، ولنحقق للخاصة منهم، وهم العلماء الذين لهم بصر نافذ وبصيرة ألمعية، ما يلتمسونه لدينا من خصائص في الطابع والشخصية والروح! خصائص لا قوام للشرق بدونها، ولا غنى للغرب عن الإفادة منها.

بهذا، يعود من الممكن لنا أن نحتفظ بما لنا من كيان خاص، وأن نساعد العالم على اجتياز الأزمة أو المحنة التي تطحنه طحنا هذه الأيام. وبهذا نكون قد ساهمنا في تقدم العالم وسعادته، والله ولي التوفيق

محمد يوسف موسى

ص: 21

‌من عبث النحاة

التعجب

للأستاذ كمال بسيوني

(مهداة إلى صاحب إحياء النحو الأستاذ الصديق إبراهيم بك

مصطفى عميد كلية دار العلوم)

في الحق أن النحاة يكلفون أنفسهم شططاً ويرهقونها عسراً حينما يريدون أن يحللوا كل شيء، فلا ينتهي بهم التحليل والتعليل إلى التعريف والتقريب، وإنما ينتهي بهم إلى التجهيل والتضليل.

ولم أر النحاة قد ضلوا في باب من أبواب النحو ضلالهم في باب التعجب. وأكون مقرراً للواقع حين أقول: أن واحداً منهم لم يفهم من قريب أو بعيد صيغتي التعجب، ولم يتصل بهما بسبب ظاهر أو خفي. وليس ذلكلأن صيغتي التعجب صيغتان عميقتان تدقان على الإفهام، أو تستعصيان على العقول، وإنمالأن هاتين الصيغتين لم تخضعا للقواعد التي أثبتها النحاة وقرروها، والنحاة لا يطيقون أن يروا شيئاً في اللغة العربية لا يخضع لقواعدهم وقوانينهم، لأنهم لم يضعوا قواعدهم وقوانينهم لتهمل وتنبذ، وإنما وضعوها لتطبق وتنفذ، وإذن فليخترقوا كل طريق، وليشقوا كل سبيل، حتى يخضعوا الجامح ويذللوا النافر، فإن جاءوا بعد هذا كله بما يحزن طوراً، ويضحك طوراً آخر، فليس الذنب ذنبك أنت لأنك لم تفهم ما قالوا، أو لأنك لم تؤت هذه القريحة النفاذة التي تستطيع بها أن تستسيغ هذا الغثاء، وأن نفهم هذا الهراء

رأى النحاة هاتين الصيغتين في اللغة العربية (ما أجمل الورد، وأجمل بالورد) ولا أريد بادئ ذي بدء أن أفزعك بما قال النحاة فيها، وإنما أريد أن أسألك أنت عما تفهم إذا قلت لك - ونحن سائران في الحديقة - (ما أجمل الورد) أو قلت لك (أجمل بالورد) ستفهم من غير شك أني أريد أن أقول لك: إن الورد جميل جداً، وستلمح من كلامي أني معجب بجمال الورد، لا متعجب من جماله، فجمال الورد لا يثير تعجبي لأنه ليس أمراً غريباً، وإنما يثير إعجابي، لأنه فاتن خلاب.

ص: 22

ولا تظن أني أريد من هذا أن أسمي باب التعجب باب الإعجاب، وإلا، فماذا تقول إذا قلت ما أقبح الشر، أو أقبح بالشر؟ أتظن أني معجب بقبح الشر أو متعجب من قبحه؟ كلا، فما أنا معجب ولا أنا متعجب لأن قبح الشر لا يثير عجباً ولا تعجباً، وإنما هو أمر طبيعي؛ ولكنك ستفهم من غير ما شك أني أريد أن أقول إن الشر قبيح جداً، وستلمح من كلامي أني ساخط عليه مشمئز منه.

ولا تقل: إن الأمر لا يخلو من إعجاب أو اشمئزاز، فلا مناص لك من أن تسمى باب التعجب باب الإعجاب والاشمئزاز، وإلا فماذا تقول في قولي لك: ما أكثر الورد في الربيع وما أعظم النزهة في الحدائق، وأنا لم أقصد إلى الإعجاب ولا اشمئزاز. ولم أقصد في الوقت نفسه إلى تعجب، وإنما أقصد إلى أن الورد في الربيع كثير جداً، وأن النزهة في الحدائق عظيمة جداً.

وأظنك قد لمحت من هذا كله أن هاتين الصيغتين إنما تدلان على الكثرة والمبالغة، فالورد جميل جداً، والشر قبيح جداً، والورد في الربيع كثير جداً، والنزهة في الحدائق عظيمة جداً، وعلى هذا النحو. وأظن أني وفقت في هذا الكلام إلى أن أنبهك إلى أن تسمية هذا الباب بباب التعجب تسمية غير سديدة، وأظنكأيضاًقد لمحت من هذا الكلام معنى هاتين الصيغتين.

واسمع بعد هذا ما يقول النحاة في معناهما، وتمالك نفسك أن تقهقه واكظم الضحك في قلبك أن ينفجر.

لم يتفق النحاة على معنى (ما أجمل الورد) والعجب أنهم بعد اختلافهم هذا لم يفهموا معنى هذه الجملة، ولم يمنعهم من فهمها إلا أنهم أرادوا أن يطبقوا عليها القواعد النحوية التي وضعوها.

لقد أنفقوا على اسمية (ما) وابتدائيتها، ثم اختلفوا: فقال الفريق الأول إن (ما) في ما أجمل الورد نكرة تامة بمعنى شيء والجملة بعدها خبر، والتقدير شيء أجمل الورد أي جعله جميلاً. وقال الفريق الثاني: إن (ما) استفهامية مشوبة بتعجب، وما بعدها خبر أيضاً، والتقدير أي شيء اجمل الورد؟ وقال الفريق الثالث:(ما) معرفة ناقصة أي أسم موصول بمعنى الذي والجملة بعدها صلة والخبر محذوف (والتقدير الذي أجمل الورد شيء عظيم.

ص: 23

وقال الفريق الرابع: (ما) نكرة ناقصة والجملة بعدها صفة والخبر محذوفأيضاً والتقدير شيء أجمل الورد عظيم، هذا ولم أتجاوز (ما) إلى (أجمل الورد).

واختلفوا أيضاً في (اجمل الورد) فقال بعضهم: إن (أجمل) فعل للزومه مع ياء المتكلم نون الوقاية نحو ما أفقرني إلى عفو الله، ففتحته فتحة بناء كالفتحة في نحو على أكرم محمداً، (والورد) مفعول به. وقال الفريق الآخر إن (أجمل أسم لمجيئه مصغراً في نحو قول الشاعر (ياما أميلح غزلانا شدن لنا) ففتحته فتحة إعراب كالفتحة في نحو (على عندك)(والورد) مشبه بالمفعول به لوقوعه بعد ما يشبه الفعل في الصورة.

هذا ما قاله النحاة في (ما أجمل بالورد) فإذا كنت قد فهمت من هذا الكلام كله معنى هذه الجملة فأنت موفق سعيد، أما أنا فلم أفهم من هذا الكلام إلا أنه لغو من القول يجب أن تنزه عنه الأسماع والعقول تنزيها.

أما ما قاله النحاة في (أجمل بالورد) فقد اتفقوا على فعلية أجمل، ثم اختلفوا فقال بعضهم لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر، وهو في الأصل فعل ماض على صيغة افعل بمعنى صار ذا كذا، فأصل (أجمل بالورد) أجمل الورد أي صار ذا جمال ثم نقل إلى إنشاء التعجب فغيرت الصيغة من الماضي إلى الأمر ليكون بصورة الإنشاء، ثم زيدت الباء في الفاعل، وعلى هذا فأجمل مبني على فتحة مقدرة منع من ظهورها مجيئه على صورة الأمر، وقال البعض الآخر (أجمل) لفظه ومعناه الأمر، وفيه ضمير مستتر مرفوع على الفاعلية والباء للتعدية داخلة على المفعول به، ثم اختلفوا في مرجع الضمير المستتر فقيل الضمير للجمال المدلول عليه بأجمل، وقيل الضمير للمخاطب.

أرأيت إلى أني لم أكن مخطئاً حين خفت عليك أن تضحك أو أن تقهقه حين تسمع هذا الكلام - أستغفر الله - وكنت خليقاً أن تحزن وأن تتألم حين تعلم أن شيوخ النحو في مصر ما زالوا يلوكون هذه السخافات، وما زالوا يخدعون الطلاب بهذا الدجل العلمي، وما زالوا يفسدون العقول والأذواق، ويميعون الملكات الأدبية في نفوس الشباب، وما أسرع ما ينخدع الشباب بهذا التخريف، فيظن حين يعلك هذه الألفاظ أنه قد فهم قواعد العربية، وهو لم يفهم إلا قواعد الجهل إن كان للجهل قواعد يتسنى للمرء أن يفهمها.

إن من يريد أن يدرس قواعد اللغة العربية يجب أن يستلهم الذوق العربي والبيان العربي

ص: 24

حين يدرس هذه القواعد، لا أن يستلهم القواعد ويحكمها في الذوق والبيان العربيين. ومن ذا يستطيع أن يقول إن معنى (ما أجمل الورد) شيء أجمل الورد أو أي شيء أجمل الورد؟ أو الذي أجمل الورد شيء عظيم أو شيء أجمل الورد عظيم - من ذا يستطيع أن يقول هذا؟ ما ضر هؤلاء القوم لو فهموا الأساليب العربية أولا ثم حاولوا على ضوء هذا الفهم أن يطبقوا ما شاءوا من القواعد بشرط أن تكون هذه القواعد موضحة للمعنى المقصود لا مخفية له، فأنا لا أفهم إلا أن (الورد) في كل من المثالين السابقين مسند إليه، وكل من (ما أجمل) في المثال الأول وأجمل في المثال الثاني بمعنى جميل جداً مسند، أما كيف نعرب (ما) وهل أجمل أسم أو فعل وهل فتحتها فتحة إعراب أو بناء، وبماذا انتصبت كلمة (الورد) في المثال الأول وهل (أجمل) في المثال الثاني فعل ماض جاء على صيغة الأمر أو فعل أمر صيغة ومعنى، وهل الباء داخلة على الفاعل أو الفاعل محذوف والباء للتعددية داخلة على المفعول - كل هذا لا يعنيني أن أعرفه بل لعل من الجهل أن أعرفه إن صح أن تسمى المعرفة جهلاً.

إن المقصود من علم النحو إنما هو تقويم اللسان والتحرز من اللحن والخطأ، وأنا ما دمت أنطق هذه الجملة (ما أجمل الورد) صحيحة هكذا، وأعرف معناها سليماًأيضاً هكذا فماذا على بعد ذلك؟

وبعد: فهذا نقد سريع لبعض ما قاله النحاة في هذا الباب الذي سموه باب التعجب وهو في الوقت نفسه نوع جديد من البحث العلمي الصحيح لو تأثره القائمون بأمر النحو في مصر لكان ذلك إيذانا بانبثاق فجر جديد لقواعد العربية، ولكانت نهضة نحوية مباركة كهذه النهضة الأدبية المباركة التي تعم مصر الآن.

كمال بسيوني

ص: 25

‌شعر القرن التاسع عشر

بين التجديد والتقليد

للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم

عهد زاخر بالأحداث، وأيام تتلاحق بالأعاجيب، وشئون يجرفها الزمن فيدركها الذبول، وأخرى تشرق في صفحة الحياة فيقبل عليها الناس، وصراع عنيف بين القديم والحديث لا يلبث أن ينتصر فيه ثانيهما بعد شئ من التهذيب. وعناء يحسه من عاشوا في ظل الماضي قانعين بما فيه من خير أو شر، ونشاط للمجددين يحاولون به دفع الناس إلى الأمام ليدركوا قافلة الزمان

هذا هو حال الشرق خلال القرن التاسع عشر، بعد أن وصلته الأحداث بالغرب ودفعته في تياره، على فرق ما بينهما في العادات والأخلاق والعلوم، والتجارب والسياسة وظروف الحياة

ونحن نكلف الأشياء ضد طباعها، إذا تطلبنا من الشرق أن يقف موقف الجمود، والحياة من حوله صاخبة تأتي بكل عجيب، كما لا نحسن الحكم إذا رجونا منه الإسراف في التغير والانقلاب، فالعادات والتقاليد والقديم المألوف في شتى صوره ومظاهره، أمور محببة إلى النفس وصور عالقة بالفؤاد، لا يهجرها الإنسان إلا مرغماً أو مقتنعاً وكثيراً ما يقلق عقله دون الاقتناع، وإن وضح الدليل وسطع البرهان.

ولا نود أن نشق عليك - أيها القارئ الكريم - فنعرض هذا السفر الحافل بموضوعات التغير في التقاليد والدين والسياسة والاجتماع، ولكنا نلم بها في عجالة علها تفيد في شرح ما نحن بصدده من التغير الذي طرأ على الشعر خلال هذا القرن.

أرأيت إلى الشرق وكيف وقف عند تقاليده وحافظ على عاداته قروناً عدة، لا يحاول أن يربم عنها أو يرجو بها بديلاً؟ فلما تهيأ له أن يتصل بالغرب، ورأى ما رأى من عادات القوم وأساليبهم وقف المتحرجون المتزمتون في سبيل هذه العادات والتقاليد، وهتف بضرورتها المجددون، والتقى الفريقان في صراع عنيف دام عهداً طويلاً، ورأينا كتباً تؤيد وأخرى تندد، بل ما زال أثر هذا الصراع قائماً إلى الآن ونرى أثره في ظهور المرأة على مسرح الحياة ومحاولتها الوثوب إلى كثير من الحقوق.

ص: 26

فإذا انتقلنا إلى ميدان العلم، وجدنا صراعاً مثل هذا الصراع بين القانعين بعلوم الأزهر وتراث الأجيال السابقة، والمتطلعين إلى الغرب وعلوم المادية التي فتنت قلوبهم، وهزت نفوسهم، وينتهي أمر هذا الاختلاف إلى مدارس دينية وأخرى مدنية، ولا تزال قائمة إلى وقتنا هذا.

والدين نفسه لم يسلم من آثار هذا العهد، فقد نادى المنادون بضرورة التجديد، واستمسك القدامى بمبادئهم، فظهر على مسرح الحياة رجل الإصلاح جمال الدين ينادي بمبادئه التي تجعل الدين صالحاً لكل زمان ومكان. خشية أن يتقول المتقولون: إنه قد مضت أيامه وانتهى برهانه وقد حدث مثل هذا في السياسة والحضارة وقد تجد تصويره فيما كتب علي مبارك ومحمد المويلحي. وخليق بنا أن نذكر أن الوعي الاجتماعي والقومي قد بدت مظاهره واضحة جلية في النصف الثاني من هذا القرن فقد شعر الناس بمطالب المجتمع وأدركوا واجباته فهبوا يصلحون من أمره ويقومون من معوجه: فها هي ذي الأندية العلمية والأدبية، وها هي ذي جماعات الطباعة تلبي مآرب الناس بإبراز التراث العربي القديم ونشر العلم الحديث، وها هي ذي الشعوب تنادي باشتراكها في الحكم وإدارة البلاد، حتى لقد تحقق لهم بعض ما أرادوا في فترات من الزمان على يد (مدحت باشا) في الشام والعراق، وعلى يد (إسماعيل باشا) في مصر.

والأدب في جميع أحواله مرآة تعكس الأحداث، وصحيفة تسجل مواكب الحياة، إذا منح أهله الصدق فيما يقولون، ويسرت لهم المطالب التي تهي لهم القدرة على التصوير والتسجيل، بل هو خفقات النفس وخلجات الفؤاد ومشاعر المجتمع وآماله يذيع بها الموهوبون وينطق بها الأدباء المحسنون.

فهل - يا ترى - تضطرب الحياة ولا يضطرب؟ وتسير الأمور ويجمد؟ إن من يستقصى الأحداث في إعصار الزمن ويتتبع حياة الأدب في هذه الأحداث، يجد ارتباطاً وثيقاً بينهما. وهكذا وجدنا أحوال الناس في القرن التاسع عشر تنعكس على مرآة الأدب فيبدو فيه التقليد والتجديد، والجمود والتوثب؛ حتى هيئ له آخر الأمر أن يثب وثبته المعروفة، فلم ينته هذا القرن إلا وهو في ثوب جديد يختلف عن ثوبه القديم كل الاختلاف.

وقد مر على الشعراء قبل القرن التاسع عشر قرون أصيبوا فيها بتبلد الذهن وجدب

ص: 27

العاطفة، ونضوب القرائح لأمور كثيرة يرجع بعضها إلى تضاؤل الشخصية وكم الحرية وانحسار العلم واستبداد السلطان وكساد الأدب وغلبة الأعاجم، فصار الشعر بعامة لا يصور أمل النفس وحياة الجماعة ولا ينتشي لمظاهر الجمال ولا يهتف بالعاطفة الصادقة والإحساس الدقيق. وقد ظل الشعراء أمداً طويلاً في دائرة ضيقة من التقليد الضعيف لضعفاء الشعراء الذين سبقوهم، وانتقل الشعر إلى ضرب من العبث، لا يثير عاطفة ولا ينبه إحساساً، وصار إلى رياضة لفظية كثرت زينتها وفسد طبعها، فأصبح جسداً بلا روح وكلاماً خالياً من المعاني إلا في القليل الذي يجود به الزمن في أقسى أيامه وأشقى أحواله.

ولكي يتسنى لنا تمييز شعر التقليد من شعر العاطفة، يجب أن نوضح الشعر بمعناه الصحيح كما نرتضيه ويرتضيه نقده الكلام فهو تصوير لعاطفة حساسة، ووحي لوجدان مرهف، وحديث قلب خفاق يدرك من دقائق الأشياء ما لا يدرك غيره من القلوب، وإبراز لهذه الأحاسيس في صور من اللفظ والخيال البديعين، حتى ليخيل إليك وأنت تسمعه أن نفس الشاعر تسيل في ألفاظه، وتتدفق في بيانه فلا تلبث أن تؤاخي هذه النفس، بل لا تلبث أن تسيل معها في هذه النفحات، وتصبح وتراً من الأوتار يردد هذه الأحاسيس، فتتجاوب نفسك ونفس الشاعر، وتحلفان معاً في جو من الخيال البديع: تعيشان تارة بين الخمائل النضر والرياض الأريضة، تبتهجان للحياة وتريان فيها المسرة والإنياس، وقد يجذبك إلى جو من التشاؤم والضيق بالناس، فتضيق، وتتمنى أن لو عشت فريداً وحيداً.

هذا هو الشعر كما يجب أن يكون، فإذا بعد عن هذا الأفق وزل عن هذه المكانة، كان تكلفاً وتقليداً لا غناء فيه، واستبان الناظر فيه فساد السليقة وفتور العاطفة. ونحن نعرض هنا مثلاً من شعر التقليد في القرن التاسع عشر، وستدرك فيها انحداراً عن المستوى الرفيع وتجافياً للمنهج المستقيم.

طلب أحدهم من الشيخ شهاب الدين أن يكتب له أبياتاً لينقشها على مائدة الطعام، فقال أبياتاً منها:

أيها السيد الكريم تكرم

وتناول ما شئت أكلاً شهيا

وتفضل بجبر خاطر من هم

أتقنوا صنعه وخذ منه شيا

وبدهي أن يأتي هذا الكلام (ولا أسميه شعراً) فاتراً بارداً لا يحمل خيالاً كريماً، ولا معنى

ص: 28

لطيفاً، إذ لم يتجاوز القلم واللسان إلى ما وراءهم العاطفة والشعور، ولا يزيد قائلهما إحساساً بهما عن إحساس الكتبة الذين يقتعدون منافذ المحاكم، ومكاتب البريد: إنما هي كلمات مرصوصة، وصور باهتة محفوظة، تحبر في الورق بريشة جف دهانها وحركتها يد مسخرة مأجورة، فجاءت لا تحمل من شخصية الفنان قليلاً ولا كثيراً.

وأطرف من هذا قصة شاعر آخر هو عبد الجليل البصري المتوفى سنة 1844 فقد طلب منه أحد الشحاذين أبياتاً يتكفف بها الناس، وينال بإنشادها إحسانهم فكتب له:

يا ماجد ساد عن فضل وعن كرم

وهمة بلغت هام السماك علا

يا من إذا قصد الراجي مكارمه

نال الأماني وبراً وافراً عجلا

إنا قصدناك والآمال واثقة

بأن جودك ينفي فقر من نزلا

جئنا ظماء وحسن الظن أوردنا

إلى معاليك لا نبغي بها بدلا

لقد أضر بنا جود العداة وما

أودى بنا الدهر يا بؤس الذي فعلا

عسر وغربة دار ثم مسكنة

وذلة وفراق قاتل وبلا

إلى آخر ما قال في ذلك.

ولست أرى في هذه الأبيات إلا ما يثير العجب، ويدعو إلى الإشفاق على الشاعر الذي أضاع وقته فيما لا يجدي ولا يفيد. وإنه ليخيل إلى أن الشاعر حينما أراد أن ينظمها كان يضع كلمة بجانب كلمة، ويتصيد الكلمات الأخرى ليتم الوزن، ولعلنا نحس هذا في الشطر الثاني من كل بيت.

والشاعر لا يجيد، ولا يتيسر له أن يجيد، إذا حمل على الشعر حملاً، وطلب إليه أن يقول في غرض لم تهتف به نفسه، ولم تستجب له عواطفه؛ وإنما يحسن ويصيب إذا انطلق على سجيته ولبى رغبة نفسه فيكون مثله عندئذ مثل الطائر يغرد إذا شاء ويتوقف إذا أراد، أو كالزهرة تعبق إذا ما اجتمعت فيها عناصر الشذا وتفتحت عنها الأكمام.

هذا وقد طغي على هذا العصر لون من الشعر شغل الناس عن كثير مما عداه؛ ذلك اللون إنما هو مدح، ولهذا أطلق على هذا القرن قرن المديح. نعم، إن هذا الغرض كان قد فتن الناس به منذ العصر العباسي الثاني ولكنهم تركوه إلا قليلاً في عهد المماليك والعثمانيين، يوم كدست سوقه وبارت بضاعته. ثم عادوا فمهدوه مرة أخرى في العصر الحديث

ص: 29

للوصول إلى المال وأسفوا فيه حتى أزجوه لمن يستحق ومن لا يستحق ومن الحديث المعاد أن نذكر أن في شعر المديح إلا قليلاً تكلفاً ورياء يبعدان به عن منهاج الشعر، فإذا أنضم إلى هذا ضآلة في الثقافة وضعف في اللغة جاء ضعيفاً هزيلاً. ومن الخير أن نسوق هنا كلاماً ترجمه المنفلوطي في رواية الشاعر يستبين منه القارئ، كيف يعرض الشاعر المطبوع عن المدح، وكيف يقبل عليه بغير قلبه فلا يوفق فيه:(أتريد أن أحمل نفسي على عاتقي كما يحمل الدلال سلعته، وأدور بها في الأسواق منادياً عليها. من منكم أيها الأغنياء والأثرياء والوزراء والعظماء وأصحاب الجاه والسلطان يبتاع نفساً بذمتها وضميرها وعواطفها ومشاعرها بلقمة عيش وجرعة ماء. أتريد أن تستحيل قامتي إلى قوس من كثرة الانحناء، وأن تتهدل أجفاني من كثرة الإطراق والإغضاء، وأن تجتمع فوق ركبتي طبقة سميكة من كثرة السجود والجثو بين أيدي العظماء أتريد أن يكون لي لسانان لسان كاذب أمدح به ذلك الذي صنعني واجتباني، ولسان أعدد عيوبه وسيئاته، وأن يكون لي وجهان: وجه راض عنه لأنه يذود عني ويحميني ووجه ساخط عليه لأنه يستعبدني ويسترقني؟ ذلك ما لا يكون)

إذا علمت هذا فاقرأ معي مديحاً لعبد الرحمن الزيلمي لتدرك فيه مقدار التكلف في اللفظ والمعنى على السواء:

بلغت مقاماً لم تنله الأوائل

وحزت كما لا تبتغيه الأفاضل

ولست براء غير فضلك يرتجى

لكل ملم فيه تدمى الصياقل

ولولاك لم تدر العلوم بأنها

تجل وأن قد بان منك دلائل

يطول لسان الفخر في فضلك الذي

بنيت له ركناً ليرجع ثاكل

وليس في هذا الكلام شئ إلا أنه كلام، لا يحمل من المعاني إلا ما يقع للعامة ولا من الخيال والألفاظ إلا ما يضحك كما في قوله (يطول لسان الفخر. وأقبح من هذا خيال الشاعر عبد الحميد الموصلي يمدح ناصيف اليازجي:

كبش الكتائب والكتاب وإنه

بالنحو ينطح هامة ابن خروف

متوقد الأفكار يوشك في الدجى

يبدو له المستور كالمكشوف

فطن تمنطق بالفصاحة وارتدى

جلباب علم النحو والتصريف

ص: 30

وهذه الأخيلة من مثل قوله (بالنحو ينطح هامة ابن خروف)(وارتدى جلباب علم النحو) وإن كانت تؤدي معاني إلا أنها عارية عن الذوق، خالية من مراعاة المقام.

للكلام بقية

أحمد أبو بكر إبراهيم

ص: 31

‌رسالة الشعر

بغداد

للأستاذ إبراهيم الوائلي

بغداد إن طال الفراق وشفني

ظمأ فحسب تعلتى ذكراك

أنا إن بعدت فلي خيال هائم

عبر الفضاء يطوف في مغناك

وجوانح لم تحو في أعماقها

ما يستجيب له الهوى إلاك

روح تهم على شواطئ دجلة

وتحوم فوق جمالها الضحاك

وتعود يحملها الجوى خفاقة

لتصيخ مني للنشيد الباكي

بغداد اشتاق النسيم متى سرى

حلو المهب معطراً بشذاك

وإذ أطل الفجر يمسح ناظري

مترفقاً أبصرت فيه رؤاك

أو طاف ما بين الخمائل صادح

أحسست في شفتيه رجع صداك

بغداد ما أحلى المساء ودجلة

تنساب كالنسمات بين رباك

في كل ضاحية فتون طافح

ملء الفضاء يشيعه مرآك

وعلى الشواطئ من دجاك مناظر

لم تتشح إلا بسحر دجاك

نشرت على الأفق الرحيب ظلالها

ومشت خطاها تلتقي بخطاك

وتناثرت على جانبيك مواكب

تستقبل الأحلام في دنياك

فهنا مشاهد للجمال طليقة

جلت روائعها عن الادراك

وهناك سرب من مهاك وليت لي

كبدا تذوب على خدود مهاك

أنا من سفكت على الصخور مآربي

ونثرت آمالي على الأشواك

ومضيت كالطير الجريح مروعاً

في الفقر بين مخالب وشباك

أطوى الدجى يقظان ملء جوانحي

حرق وفي ثغري صداها الحاكي

بغداد ما أحلاك باسمة المنى

للسامر النشوان. ما أحلاك

تلقاك بالمرح النفوس ولم تكن

لولا المباهج والمنى تلقاك

وعلى الضفاف الحالمات موائد

قد نضدتها في الدجى كفاك

رق النخيل لها وفاض مدامعاً

كالفجر يلمع في متون فضاك

ص: 32

وحنا عليها الكرم يسفح لبه

فيها ويخضب بالدماء ثراك

فلكم خيال كالنسيم يروقه

ألا يسامر غير شهب سماك

يختال في الأفق الرحيب محلقاً

بجناح طير أو جناح ملاك

بغداد يا طيف المهوم إن دجا

ليل ويا ألق الشعور الذاكي

كم في صباحك قد بعثت خواطري

شعراً ورحت ايثه لمساك

وكم احتوتني والليالي سمحة

لحظات صفو لم ترق لولاك

متع نهزت بها انتهازه عابر

وصحبتها ذكرى معي لأراك

وهبي نسيت من الصبا أحلامه

افهين في الحب أن أنساك

أنا من يقيم على العهود ولم أجد

أولى بحفظ العهد غير هواك

مرت يداك على شفافي خلسة

يوم الوداع وتمتمت شفتاك

ثم أنثنيت مودعاً فإذا على

قلبي تطل مع الدحى سيماك

وتموج في شفتي نغمة حائر

يطوي الظلام مردداً نجواك

بغداد والألم الدفين يهزني

فاذا شكوت فلست أول شاكي

لي مثل ما للشاعرين تعتب

لو تستجيب لعاتب أذناك

أتبيت دنياك الضحوك مدلة

وعلى مآسيها تبيت قراك

فتذكري الريف الحزين ومن به

والقاطنين صوامع النساك

الحاصدين من السهول رمالها

والنائمين على الطوى الفتاك

واللابسين من الشتاء عراءه

في حين طاب لسامر مشتاك

والزارعين ودون ما جهدوا به

رصد يبث لهم من الأشراك

ريف لو أدكرت حياتك أنها

ضيف عليه لساءها مجراك

يشقي ليحرس منك ليلاً باسماً

ويعيش في غلس لكي يرع اك

بغداد هذا اللحن نجوى شاعر

نساجه في الذكريات سواك

أنات قلب أن أثارك شجوها

أو لم يثرك فإنها ذكراك

إبراهيم الوائلي

ص: 33

‌رسائل ضائعة!

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

- 1 -

وكنت وإياها على البعد تلتقي

رسائل حب ليس يخبو أوارها

فكنت كأني - وهي مني بعيدة

أرى وصلها يدنو، ويدنو مزارها

فلما انتهت تلك الرسائل أصبحت

إذا رمت لقياها تناءت ديارها

وصارت رسالاتي إليها مدامعاً

أرى ليلها يبكي، ويبكي نهارها

فيا قلب دعها؛ ليس لي من وسيلة

إليها فألقاها، ولا أنا جارها

ويا حبها. . . هب لي سلوا أريقة

على كبدي الحري، فتبرد نارها

- 2 -

وقيدني حبي لها واسترقني

فصرت لها عبدا وقد كنت سيدا

وكانت على قلبي نشيداً مرنماً

فصارت على قلبي نشيجاً مرددا

وكانت لقلبي فرحة أبدية

فصارت لهذا القلب حزناً مخلدا

وكنت سعيداً حين كانت مقيمة

على عهدها. . . ترعى الفؤاد المقيدا

فلما أضاعت عهدها وتغيرت

تغير قلبي في الهوى وتمردا

وقلت لها إن كنت أشركت في الهوى

فشيمة حبي أن يكون موحدا

وإن كان شيء قد بدا لك فانطوت

أمانيك في حبي، فأنت وما بدا

ظلمت الهوى! ما أنت أهل لناره

ونار الهوى أسمى من النور محتدا

وأسرفت في لومي بريئاً، وإنما

أحق بهذا اللوم من جار واعتدى

وأنت التي غنى فؤادي بحبها

وناح. . . فلم تحفل بما ناح أوشدا!

وأنت التي أغريت بي السهد والأسى

فهاأنذا أحيا حزيناً مسهدا

وأشقيت أحلامي، وكانت سعيدة

وحيرت أيامي، وكانت على هدى

وجئت إلى زهر الهوى وهو ناضر

فأذويته بالهجر حتى تبددا

وكانت حياتي في يديك وديعة

تمنيتها تبقى، فضيعتها سدى

ص: 34

فيا محنتي! ياسر يأسى وغربتي

عن الناس! يا حزناً بقلبي توقدا!

ويا ألماكم رعته بتجلدي

فما زال بي حتى عدمت التجلدا!

لقد آن أن أحيا كطير مرفرف

يرى بهجة الدنيا، فيمضي مغردا

سأوليك مهما عشت هجراً وسلوة

وقد كنت لا أوليك إلا تعبدا

غداً ينتهي الحب الذي كان بيننا

فليس له بقلبي ولا صدى

فلا تعجلي أن تصبحي اليوم فتنة

لغيري، وصبرا. . إن موعدنا غدا

وأقسم إني أوثر الموت طائعاً

إذا كان لا ينسى هواك سوى الردى

- 3 -

غداً سوف أنساك فيمن نسيت

وأطوي غرامك فيما انطوى

غداً سوف أنسى عذاب البعاد

وشجو السهاد، ونار الجوى

وأنسى الهوى كله صارخاً

كفاني عذابا بهذا الهوى!

غداً. . . غير أن غدا طائر

هنالك في وكره قد ثوى

سيبعثه الغيب من وكره

أكون انتهيت. . . كغصن ذوى!

إبراهيم محمد نجا

ص: 35

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

حول معركة القزويني

قرأت كلمة صديقي الأكبر الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي التي عقب بها على ما كتبته بعنوان (معركة القزويني في الأزهر) وهي المعركة التي دارت ولا تزال دائرة بينه وبين الأستاذ الشيخ محمد خفاجي على كتاب (الإيضاح) في علوم البلاغة. وقد صورت المعركة على أنها منافسة بينهما بناء على ما تبادلاه في مناقشاتها المطبوعة من عبارات تدل على أن كلا منهما - في رأي الآخر فرض شرحه على الطلاب وحارب شرح الآخر بغية الاستئثار بالكسب المادي. وطبيعي أن يهتم الأستاذ عبد المتعال بنفي ذلك عن نفسه، ويقرر ما يليق به من أنه لا يبغي إلا طريقة يختطها في الإصلاح العلمي، وقد تلقيت كتابه (دراسة كتاب في البلاغة (شاكراً له تفضله بإهدائه، وتصفحت الكتاب فرأيت به نقداً لشرح الشيخ خفاجي، وهو يشير في خلاله إلى تفضيل شرحه على شرح زميله بأنه جرى فيه على طريقة موضوعية تجانب المماحكات اللفظية، على خلاف زميله الذي عنى بنقل عبارات الحواشي والخلافات اللفظية. أما الشيخ خفاجي فإنه يقر بأنه فعل ذلك بل يفخر به، وأما الشيخ عبد المتعال فليس جديداً علينا أن نعلم أنه عالم مطلق الفكر وكاتب صاحب رأي، وأنا لم أر شرحه للإيضاح وأعتقد مع ذلك أنه سلك فيه المسلك الذي وصف. ولكني رأيته في كتاب (دراسة كتاب في البلاغة (يعني بالمماحكات اللفظية بينه وبين زميله، كما يعنى زميله بها أيضاً، فمن الأمور التي اختلفا عليها الفرق بين الكون الموصوف بالفصاحة والبلاغة للكلام وكون الموصوف بهما المتكلم، وهل الإيضاح في (علم) المعاني والبيان أو في (علمي) المعاني والبيان، وهل كتاب الأطول للسيد أو للعصام، وذكر الأستاذ عبد المتعال غلطات نحوية وإملائية وقع فيها زميله. وهكذا نرى الأستاذين متأثرين بمماحكات الخطيب والسكاكي وقبيلهما. والمؤسف أن هذه المطبوعات التي يتبادلها الأستاذان يتداولها الطلاب بل هم قراؤها المقصودون، وما أظنها ذات أثر حسن في نفوسهم ولا في عقولهم. أريد بعد ذلك أن أخرج من هذه الدائرة الضيقة، دائرة المعركة الأزهرية إلى مجال أوسع يشمل دراسة البلاغة على وجه عام وهي خواطر أثارها في نفسي قول الصديق الأكبر:

ص: 36

(وصديقي الأستاذ عباس خضر يرى كما أرى أن هذه الحواشي ومماحكاتها هي التي أفسدت البلاغة. وإذا كان في الإيضاح بعض المماحكات فإنه مع هذا خير ما ألف في البلاغة بعد كتابي عبد القاهر - دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة - لأنه يجرى غالباً في طريقهما، وإن كان متأثرا بطريق السكاكي في تبويب علوم البلاغة وتقسيمها، وقد عنيت في شرحي له بمجاراته في طريق عبد القاهر، واختيار ما هو من صميم البلاغة في تلك الحواشي، وإهمال مماحكاتها اللفظية، مع التنبيه على ما في الإيضاح من هذه المماحكات)

فأنا وإن كنت أشارك الأستاذ في هذا القدر الضئيل من الرأي إلا أنني أذهب إلى أبعد كثيراً مما يرى. . فأنا أعرف الإيضاح وأعرف أن مؤلفه صاحب (التلخيص) بؤرة إفساد البلاغة العربية بشروحه وحواشيه، وأعرف جناية هذه الكتب - سواء مماحكاتها اللفظية وما يسميه الأستاذ صميم البلاغة - على الملكة البيانية العربية، وليكن الإيضاح جارياً في طريق دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة في الغالب أو في غير الغالب، فهل نتخذ بلاغة عبد القاهر نبراساً يضيء زيته في عصر الكهرباء؟ أني أعلم أن أنوفاً ترعد من هذا الكلام. . ولكن مهلاً لقد كان لعبد القهر فضله التاريخي الذي لا يجحد. كان أول مؤلف مزج النقد الأدبي بالقواعد العلمية وكان صاحب ذوق أدبي في علمه. فجاء مؤلفون من بعده مجردون من ذلك الذوق، فجعلوا البلاغة علما جافاً ومجالاً لأفساد الملكة الأدبية بالجدل العقيم والفكر المعقد السقيم. ولا نزال إلى الآن نعاني أعباء هذه التركة وان كان الأزهر يحمل أقدح أثقالها، لأن رجال التعليم في وزارة المعارف خففوا منها بالتأليف العصري أولاً ثم بتعديل مناهجها إلى نواحي أشبه بالنقد والدراسة الأدبية، ولأن بعض أساتذة الجامعة أو هو أستاذ واحد (الأستاذ أمين الخولي) توجه بها إلى وجهة أدبية نفسية تطابق الدراسات الحديثة. ولعل الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يشير إلى هذه الاتجاهات بقوله في مقدمة كتاب (دراسة كتاب في البلاغة) يصف صنيع الشيخ خفاجي (بل خرج على تقليد عصرنا الذي أحيا دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة بعد أن أماتتهما الطريقة التقريرية، وكان لإحيائهما أثر صالح في تهذيب دراسة علوم البلاغة، ظهر أولاً في غير بيئتنا الأزهرية، ثم أخذ يغزو بيئتنا ويوجهها إلى الإصلاح شيئاً فشيئاً)

وعلى ذلك نرى أننا نعود إلى طريقة عبد القاهر بأن (نؤدب) علوم البلاغة، أي نصغها

ص: 37

بالصيغة الأدبية. وقد كان من سوء الحظ أن يخلف عبد القاهر أولئك المؤلفون الذين خففوا البلاغة فتبخر منها ماء الأدب، فلو كانوا من ذوي الملكة الأدبية لنقوها وصقلوها وجعلوها نقداً أدبياً صرفاً ونحن الآننلف لفة طويلة لنصل إلى هذا الغرض الذي لم نبلغه بعد إذ أننا الآن عند عبد القاهر فقط!! كأننا نريد أن نثبت أن البلاغة كروية. . ينتهي المسير فيها إلى حيث نقطة البدء. . .

سيقول أذكياء يدركون من ذلك ما أرمي إليه: إذن فأنت تدعو إلى نبذ علوم البلاغة جملة واحدة. أقول: ولم لا مادمنا نهدف إلى الملكة اللغوية الأدبية التي نقتدر بها على الكتابة والقراءة والنطق بلسان عربي أدبي جميل؟ انظروا إلى المعاصرين من كتابنا (البلغاء) الذين لم يشغلوا أنفسهم بتلك العلوم فمنهم من مر بها ومنهم من لم يكن سيره عن طريقها - كم من أولئك الذين عكفوا على دراسة علوم البلاغة وعنوا بعض الخلافات والمنازعات بين الخطيب والسكاكي والجرجاني - يستطيع أن يجاري كتابنا في (بلاغتهم) التي تكون هذا الأدب العربي الحديث؟

أقول ذلك ما دامت الوجهة هي الملكة اللغوية الأدبية، أما دراسة التاريخ والوقوف على تطورات الحركات العقلية فشيء آخر، ولكن يجب الالتفات إلى أن هذه الدراسة لا تتطلب الانصراف الكلي إلى الجزئيات والتفيصلات، وهي وإن كانت ملامحها العامة مطلوبة في المعاهد العالية إلا أنها في المدارس العامة عبث أي عبث.

يوسف وهبي والفرقة المصرية

قامت في الأسابيع الأخيرة. ولا تزال، ضجة حول استقالة الأستاذ يوسف وهبي بك من الفرقة المصرية، تلك الاستقالة التي أريد عليها، إذ أبلغه أولو الأمر رغبتهم فيها. وقد تكاثفت في جو هذه الضجة عجاجات أثارتها الحملات المتبادلة في الصحف والمجلات بين الأستاذين زكي طليمات ويوسف وهبي. وليس عجيباً أن يختصم هذان الأستاذان، وإنما العجب أن يتفقا وأن تجمعهما فرقة واحدة، فكل منهما في الفن المسرحي مذهب وأسلوب يختلفان عن مذهب الآخر وأسلوبه؛ فهما ضدان من الهدوء والصخب، والتحليل والتهويش، والخاصية والعامية؛ وهل يجتمع الضدان؟

وقد تعرض بعض الصحف للأسباب التي دعت إلى إخراج يوسف وهبي من الفرقة

ص: 38

المصرية، أو التي يظن إنها أسباب. وتجمع الكلام في هذه النقطة عند الرحلة التي قامت بها الفرقة أخيراً في بلاد المغرب، فذكر أن يوسف وهبي خطب في تونس فخلع مصريته وانتسب إلى تونس، وأنه تدخل في الأسماء التي منحت أوسمة تونسية، فغير فيها وبدل حتى طلب أوسمة لبعض المتعهدين من اليهود وأهمل بعض ممثلي الفرقة، وأنه تعمد إطالة الرحلة ليكسب من رواياته التي ينال فيها 25 % من مجموع الدخل ومن بدل السفر الذي يمنح له خمسة جنيهات في اليوم الواحد، وانه أرسلت إليه برقية من مصر للعودة فتباطأ. . . الخ

وقد يكون ذلك الذي ذكر أو غيره، أموراً مباشرة أستند إليها لإبعاد يوسف وهبي عن الفرقة المصرية، ولكن السبب الحقيقي أعمق من كل ذلك وأبعد، فليس ذلك المسلك وليست تلك التصرفات جديدة من الأستاذ يوسف وهبي بك، فإن كان قد قام برحلة شهور إلى شمال أفريقية، فقد قام من قبل برحلة أطول منها في مصر. . . صنع فيها ما صنع في الرحلة المغربية بل أكثر! إذ استغرقت الرحلة المصرية عامين قدم فيهما رواياته القديمة، وهي نفس الروايات التي أخذها معه إلى بلاد المغرب، وهي أيضاًنفس الروايات التي يختص فيها بخمسة وعشرين في المائة من دخل (شباك التذاكر) ودأب في الرحلة المصرية كما فعل في الرحلة المغربية على إبراز نفسه واختصاصها بأكبر نصيب من الإعلان والدعاية إلى جانب النصيب المادي الأكبر الذي يستولي عليه من مرتبه الكبير وربع الدخل العام، وطغى في كل ذلك على زملائه من ممثلي الفرقة وممثلاتها، وفيهم أعلام ونبغاء في فن التمثيل، وهم جميعاً مغبونون في أرزاقهم لا يتقاضون من الفرقة ما يقوم بحاجتهم ويحفظ كرامتهم، بل طغى الأستاذ يوسف وهبي بك على الفرقة كهيئة معنوية فجعل نفسه الفرقة ومديرها العام!

وكان يمكن التغاضي عن ذلك لو أن يوسف وهبي قدم عملاً فنياً يضاف إلى الإنتاج المسرحي ويعمل على أحياء فن التمثيل وتقدمه، ولكن الذي حدث أنه جعل يكرر المجهود الذي قام به منذ ثلاثين سنة على مسرح رمسيس، ذلك المجهود الذي يقوم على تملق جماهير العامة بإثارة العواطف على طريقة وعظية أو (مأتميه) بعيدة عن هدف الفن الخالص، وأقل ما فيها من مجافاة الفن البعد عن الصدق، فكلنا يعرف النغمة التي ظل

ص: 39

يضرب عليها يوسف وهبي في مسرحياته وأيضا سينمائياته، وهي إيجاد مفارقات بين الأغنياء والفقراء، وتصوير الأولين ظالمين مستبدين والآخرين ملائكة بررة على طول الخط، كما في قصص أبي زيد الهلالي من حيث إنه رجل مثالي لا يخطئ ولا ينهزم على خلاف خصمه الزناتي خليفة الذي تسند إليه كل نقيصة لأنه خصمأبي زيد!

ويوسف وهبي ليس من الفقراء، لا أصلاً ولا فصلاً، وإنما هو يعشق الجمهور، فهو يخلع أرستقراطيته طلباً لعطف الجمهور في مصر كما خلع مصريته أمام الجمهور في تونس، بل هو يخلع الفن الرفيع ويصدم أذواق المثقفين لاجتذاب طبقات أخرى من المتفرجين. وهو يعتبر مقياس النجاح - كما قال في مقالاته أخيراً - إقبال هؤلاء المتفرجين وكثرتهم، فهو عندما يذكر آثاره في الفرقة يجعل في مقدمتها أن الإقبال على مشاهدة الروايات كثر في عهده فزاد دخل الفرقة.

ظل يوسف وهبي يقدم في الفرقة المصرية ذلك المجهود، ولكن الفرقة المصرية لم تكن لمثل ذلك، فالغرض الأساسي منها ترقية التمثيل العربي، وليس ذلك من ترقيته في شيء، ولو أن مدار الأمر على الرواج وكثرة الرواد لكان في مثل (شكوكو) غناء وجدوى أكثر من الأستاذ يوسف وهبي بك. ووزارة المعارف - مثلاً - تترجم إلى اللغة العربية أمهات الكتب العالمية التي لا يقبل الجمهور العادي على قراءتها، ولو أنها أرادت إقبال هذا الجمهور لكان في روايات أرسين لوبين وشرلوك هولمز ما يحقق المقصود.

إذن فالسبب الحقيقي لإخراج يوسف وهبي بك من الفرقة المصرية، هو انضمامه إلى الفرقة المصرية. . . فقد أتى به إليها ولم يكن لها ولم تكن له، فلم يكن بد من تنحيته عنها لما تهيأت الظروف واتجهت الرغبة إلى تصحيح الأوضاع. والرجل له طابعه وله جمهوره ويمكن أن يؤدي مجهوداً في مجاله، والمسرح الآن لا يستطيع أن يعيش بدون الرعاية الحكومية، فمن الإنصاف أن يمكن يوسف وهبي من العمل على رأس فرقة تؤلفها أو تعينها لحكومة، ليقدم ما عرف به لمن يطلبه، أما الفرقة المصرية فتحتاج إلى تكوين جديد لتؤدي أغراضاً أخرى.

عباس خضر

ص: 40

‌البريد الأدبي

الشيخ محمد رفعت

حدثني رجل ذو مكانة أنه بصر بالمغفور له الشيخ محمد رفعت يتقاضى أكبر أجر تقاضاه مرتل للقرآن الكريم، فقد دفع له أحد أعيان الصعيد خمسمائة جنيه لقاء إحياء ليلة واحدة في أسيوط. وهذا المبلغ - فيما نحسب - أكبر مبلغ حصل عليه أحد مرتلي القرآن.

ولم يكن الشيخ رفعت يعنى بالمال عنايته بالحفاظ على كرامته؛ فخلافاته الكثيرة مع إدارة الإذاعة الحكومية إنما كان مردها أن الإذاعة تفضل عليه فلاناً أو فلاناً في المكافأة أو في عدد مرات الإذاعة، فكان الرجل ينسحب محتجاً في سكون، وتقوم من خلفه قيامة الرأي العام، فتضطر الإذاعة إلى استدعائه من جديد!

وكانت الإذاعة تضيف إلى اسم الشيخ محمد رفعت لقب (الأستاذ) ثم حذفته، ولما قيل لها في ذلك أجابت بأن بقية المرتلين في الإذاعة طالبوا بمثل هذا اللقب، فلم تجد بداً من حذفه من إمام القراء.

ولم يبتئس الشيخ رفعت إلا يوم أحس بالفواق يحبس صوته الندي الحنان في تلك الحنجرة الذهبية فلا يعود إلى الانطلاق، ولم يشعر أحد بمحنة الرجل العظيم إلا في صيف العام الماضي، وكل ما استطاع الناس أن يفعلوه أن جمعوا له مبلغا قارب ألفاً من الجنيهات، رده إليهم لم يمسسه سوء. وما كان الرجل - علم الله - على خصاصة موارده في حاجة إلى المال، وكل حاجته أن يعود صوته الندي إلى الانطلاق، وهذا ما عجز عنه الناس!

وبعد، فسوف نرتقب طويلاً حتى يجود علينا الزمان (بمحمد رفعت) جديد، فقد كان - أجزل الله مثوبته - من الأفذاذ الذين لا يجود بهم الدهر إلا على رءوس الأحقاب، فيا طول حزننا على رجل أدخل إلى القلوب حلاوة الإيمان، وجعل من تلاوة كتاب الله فناً من الفنون التي يتطاول إليها الإنسان!

منصور جاب الله

حجة العلماء على الزعماء

جاءتنا هذه البرقية من صاحب الفضيلة الأستاذ حبيب العبيدي

ص: 41

مفتى الموصل ننشرها بنصها:

أيها المسئولون عن شرف العروبة والإسلام وعن فشلها إزاء أشد أعدائهما اليهود أو ذل الأمم وأنذل الأقوام إنما يغسلون عار الفشل بالاتحاد وننذ الأنانية والأحقاد، وبإزاحة الستار عن الأسرار بين بريطانيا وأمريكا منذ تمزقت إمبراطورية الوعود والعهود إلى دويلات وصار بأسنا بيننا ولا فرق بين أبطال الرواية لويد جورج وتشرشل وآتلي البريطانيين وروزفلت وترومان الأمريكيين. اقرؤوا كتاب التجربة والخطأ لحايم وايزمان قطب الصهيونية ومذكرات بطرس الناسك أعني الحاج عبد الله فيلبي سمسار الصهيونية لتعرفوا الدسائس والمؤامرات التي مزقت شمل العرب وكانت إحدى ضحاياها فلسطين منذ بضع وعشرين سنة. مصر كناية الله والعراق تراث الخلافة العباسية، وفي الحديث الشريف اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا وفيه أيضاً ملحمة فلسطين بين اليهود والمسلمين فاعتصموا بحبل الله جميعاً واحفظوا جامعتكم من كيد الخادعين والخائنين الدين النصيحة وبرقيتي هذه إليكم هي حجة العلماء على الأمراء أمام الله والتاريخ اللهم أشهد.

المفتي العبيدي

التبرج

عثرنا على قصيدة عصماء من شعر نابغة الأدب مصطفى صادق الرافعي رحمه الله وصف فيها تبرج النساء وصفاً بليغاً لاذعاً وقد أخرجها على هذا الروى اللين الناعم الظريف حتى يكون خطابه للجنس اللطيف في أسلوب رقيق يوافق مزاجهن ورقتهن وهي من القصائد التي لم تنشر في ديوانه.

محمود أبو ريه

دلالك في التبرج من ضلالك

وما عاب الدلال سوى دلالك

كملت تبرجاً فكملت حسناً

ولكن جاء نقصك من كمالك

لمن تتبرجين وذي سبيل

وما هي أفق شمسك أو هلالك

أما تخشين أنك في طريق

يرف بها الحرام على حلالك

ص: 42

وأن ذئاب هذا الحسن تمشي

مسعرة اللحاظ على غزالك

وأن الناس قد شهدوا نساء

سواقط كلهن على مثالك

عرضت لكي نرى فلقد رأينا

هناك الحسن إلا في فعالك

أهذى مشية الحفزات أمقد

غداً الشرف المفدى في فعالك

كأنك لست بنتأبوإلا

فما لأبيك لم يخطر ببالك

أأخت أنتأمزوج وأم

فما منهن واحدة كذلك

وحالك للأبوة كل عار

وعار للبنوة كل حالك

(برزت) لقتل ذلك أم لهذا

فما هذا وذلك (من رجالك)

وماذا في اختيالك من معان

يصورها شبابك في اختبالك

أيثبت ذا الحياء على أساس

وقد ملكته زلزلة أخبتالك

قبيح أن تسير في اعوجاج

على أن العدالة كاعتدالك

نقاب ذلك أم لون رقيق

نراه بين ألوان احتيالك

كأنك إذ صبغت الوجه روضاً

جعلت لنا نقابك من ظلالك

وما هذا (الدهان) لناظريه

سوى روح التلون في خلالك

ألا إن الغبار أدى فمن ذا

يظن (غبار وجهك) من جمالك

عليك حجاب دينك فالزميه

فأنك في الحياة حياة آلك

وقار أب وعرض أخ وزوج

ومرآة السجايا في (عيالك)

وأنت إذا هفوت فكل مجد

لهم طرا يؤول إلى مآلك

ولم يحجبك دين الله الا

ليحجب كل سوء عن جلالك

فأن الناس ناس حيث كانوا

وأعينهم وألسنهم مهالك

ومالك تسألين الحق منا

وخلقتك الجواب على سؤالك

يريد الله منك الأم أما

سواء في رضاك وفي ملالك

وخصك في الطبيعة بالمزايا

تعين كل ما هو في احتمالك

فلا تتعلقي بمحال أمر

سيذهب ممكناتك في محالك

سهول الخصب أنت لذا سهول

الا فدعى التخشن في جبالك

ص: 43

أغرك فتية هم عار قوم

إذا قيسوا بفتيان الممالك

حبالهمو مهيأة لكيد

فكيف إذا التففن على حبالك

تراهم ههنا وهناك دعوى

وهم ليسوا هناك ولا هنالك

وكل قائل فالقول حي

وكل عاجز فالفعل هالك

وظنوا الدين قد أمسى (طريقاً)

فكل (شارع) في الدين (سالك)

وفقه (الشافعي) بلا شفيع

ولا نعمى (لنعمان) بذلك

أهم أحرار هذا الدين فينا

وما بلغوا عبيداً عند (مالك)

أأعمى ثم يفتى في طريق

بفتوى (عن يمينك عن شمالك)

بربك يا مهندس أن حمدنا

حسابك وافتتانك في مجالك

وقبل الدين ضاق بسالكيه

فلا تقل افتحوا فيه مسالك

مصطفى صادق الرافعي

ص: 44

‌رسالة النقد

الأعماق للخميسي

للأستاذ يوسف الحطاب

لا نريد أن نقول أن فن القصة القصيرة الذي ولدته ظروف معينة مرت بأوربا فن مستحدث في أدبنا ككل لون فني جاءنا ضمن ألوان الثقافة الغربية، ولكنا نريد أن نسجل ظاهرة غريبة هي أنه رغم الأزمة التي يعانيها هذا الفن هناك، فأنا نجده هنا يلقى انتعاشا كبيراً عند آبائنا الشيوخ والشبان على السواء. وليس لهذه الظاهرة من تعليل سوى أن هؤلاء الأدباء يمرون بالحالة التي ولدت هذا اللون من الفن بأوربا.

نسوق هذا الكلام بمناسبة كتاب (الأعماق) - آخر مجموعة من القصص القصير ظهرت لعبد الرحمن الخميسي وذلك حتى نتبين دوافعه إلى كتابة القصة وطريقته في كتابتها وأسلوبه فيها وتحقيقه لها.

وكل من يقرأ هذه المجموعة يدرك أنها سجل تجارب مؤلفها في الفن. فالقصة الأولى قصة شاعرة وتتلوها قصة مؤلف موسيقي وقصة ممثل. ولا أدري لماذا وقف الكاتب عند هذه الفنون ولم يتناول بقية الفنون الأخرى! أهو ارتباطها بالجو القصصي؟ أم أن المؤلف لا يريد إلا أن يصور التجارب التي مرت به والفنون التي عالجها؟.

ولعل مما يؤكد الرأي الأخير العنوان الذي اختاره لكتابه ليدل به على محاولته في الاستبطان والوقوف عند تصوير الحالات النفسية للشخصيات التي يعرضها. وسنناقش هذه المسألة بعد أن نقول إنه لا يقف عند رجال الفن ويترك سواهم من رجال المجتمع بل إنه ليتناولهم ومجتمعهم من خلال نظرته إلى الفن والفنانين.

أما الاستبطان فيحتاج إلى وقفة كبيرة يحسن أن نترك ضيحها للمؤلف الذي يرى أن القصة جولة نفسية لا تتحقق إلا إذا استحضر القصاص إلى خياله حالة شعورية لبطل القصة ينزلها إلى وجدانه ويديرها في أعصابه وذهنه. حتى لينقلب الكاتب إلى شخص آخر. . وأن عليه بعد أن يخرج من ذاته. أن يصبح شخصين. ولا يستطيع الناقد إلا أن يقف عند هذا التعريفلأن المؤلف ينقد نفسه ويحدد اتجاهه، وهو اتجاه طيب إذا نظرنا إلى سيل القصص الذي أخذت المكتبة العربية تغص به، لأن أصحابه لم يتحددوا بعد ولم يقفوا جدياً

ص: 45

عند اللون الفني الذي يتفق وإمكانياتهم.

أما (الخميسي) فله شأن آخر: فهو حين بدأ حياته الفنية كان يصوغ تجاربه النفسية قصائد شعرية، ولم يتزحزح عن موقفه في كل ما كتب حتى إننا نستطيع أن نقول دون تحرز أن قصصه ذات طابع شعري، وأن القصاص فيه امتداد للشاعر القديم مع تغير الشكل الفني - هذا الشكل الذي أمده به الأدب الأوربي الحديث والذي يبدو وعي المؤلف به واضحاً حتى أنه حين يؤرخ المجموعة في مقدمة الكاتب يروي هذا التاريخ بشكل قصصي بديع، بل أنه في أكثر قصصه يمهد لجو القصة بخلق راو لها يكسبها طابع الحكاية الفنية. ثم لا يقف عند هذا بل أنه يبدأ القصة من قمتها حتى يثير شوق القارئ إلى متابعته في روايتها، ويظل في إثاراته للقارئ، بأن يملأ القصة بالمواقف والعقد حتى ليقطع بالقارئ شوطاً طويلاً تنبهر فيه أنفاسه - أن لم تتقطع. ولكنه رغم ذلك يظل محتفظاً بالقارئ إلى آخر الرواية دون أن يدعه يفلت من يده حتى يشهد له بأنه كامل السيطرة على طريقة أدائه للقصة. وهو إذ يصنع كل هذا لا يصطنع الرواية كالكتاب الذين يفتعلون جو القصة حين يسيرون حسب قواعد البناء القصصي المحبوك، بل لأن القصة تعيش في نفسه وتمسك به دون هوادة إلى حد يدفعه إلى أن يظهر نفسه بأن يكتبها يرويها لغيره. ولهذا تراه يبدأ الكثير من قصصه من النهاية حتى يعيش القارئ التجربة معايشته الزمنية لها في اللحظة الصادقة التي يكتبها فيها. ولا نريد أن نقول إن هذا أسلوب العصر الذي نعيش فيه ونستشهد بالقصة السينمائية - آخر أشكال القصة الفنية، ولكنا نقول أن هذه هي الرواية وهذا هو فن الراوي الصحيح.

ويحق لنا وقد أبدينا إعجابنا ببدايات قصصه أن نتناول بالتحليل طريقة إنهائه لها. وهنا نجده يجعل تلك النهايات في بعض القصص نهايات حاسمة ليس فيها فرجة يستطيع القارئ أن ينفذ خلالها. وهذه طريقة يخرج عليها في بعض القصص الأخرى ولا يسعنا إلا أن نشير عليه بضرورة استمراره في الطريقة السليمة التي تجعل القصة مفتوحة أمام القارئ بما تحمله من عناصر الرمز والإيحاء.

وتخلص من الشكل الفني للقصص إلى الجانب الموضوعي فيها فنجد أنه يخشى أن يفوت القارئ ما ترمي إليه القصة من فكرة، ولذا نجد عنصر الفكر واضحاً في قصصه حتى إنه

ص: 46

يقول في المقدمة (كل ما أرجو هو أن أكون قريبا من جوهر الفن. من حقيقة الفكر. . وعندئذ تهون كل قرابين الحياة) ورغم أننا لا نستطيع أن ننفي أن الأدب فيه جانب فكري فإن المؤلف لا يفكر أن القصة موضوعها الحياة، والحياة أرحب من أن تضغطها فكرة.

وندع هذا كله لتنتقل إلى مضمون القصص نفسه، ومعظمه يدور حول اليأس والانتحار والموت: فهذه (رسالة المنتحرة) و (رأيت بعد موتي) و (ليتني ما كنت) و (الموتى يتحكمون في الأحياء) الخ. . . وهذا تشاؤم أملاه التزامه لجانب الفكر وطلبه لأعماق المجتمع الذي تتحرك فيه شخصياته. ومن هنا تراه يهتم بالواقع النفسي لهذا المجتمع ليصور من خلاله واقع الناس. وعالم الأعماق مهما كان الكاتب موضوعياً في تصويره فإنه لا يستطيع إلا أن يقدم نماذج من الشخصيات القريبة إلى نفسه، ولا يستطيع إلا أن يلونها بألوان هذه النفس. ولكن المؤلف استطاع أن يخرج مع كل ذلك بأن ابتعد عن الرموز والغوامض التي تهوم في عالم الأعماق السحيق.

ويأتي بعد ذلك الأسلوب وهو أسلوب مشرق يغلب فيه ضمير المتكلم بحكم أن عالم الأعماق لغته الأنا ولا بدمعه من تقديم المونولوج الداخلي الذي تمتلئ به نفوس الشخصيات وتجد ألا مندوحة لها عن الإفضاء إلينا به. وهنا نجد المؤلف يصل إلى القمة التي يهدف إليها من تقديم هذا اللون النفسي من القصص.

وعبد الرحمن الخميسي الذي لم يقفز إلى عالم القصة طفرة كما قفز سواه - بل دخله دخولاً طبيعياً: بعد أن عالج الشعر وأعاد صياغة بعض قصص ألف ليلة، قد حقق بهذه المجموعة القصة الفنية كأحسن ما تكون القصة في المادة والشكل.

يوسف الحطاب

دنيا الناس

تأليف الأستاذ نقولا يوسف

للأستاذ منصور جاب الله

حرص الأستاذ نقولا يوسف أن يثبت في ذيل كتابه (دنيا الناس) هذه العبارة التي نوردها بنصها وهي: (مل ما ورد في هذا الكتاب من أسماء الأماكن والأشخاص خيالي ولا يصف

ص: 47

شخصية معينة بالذات. فنرجو المعذرة إذا وقع تشابه غير مقصود بين الأسماء أو الصفات أو الحوادث).

وكان لا بد من هذه اللفتة من المؤلف، فقد جاء في المقدمة التي وضعها الأستاذ محمود تيمور بك لهذا الكتاب قوله (لا نرى صاحبنا - أي المؤلف - في كتابه هذا يتابع لنا مناجياته العاطفية التي ألفناها من قبل في شعره المنثور. . . فقد نزل إلى الشارع، وخالط خلق الله، وعاد إلينا في (دنيا الناس) يسجل استجابته النفسية لما رأى وما سمع، فتجلت مهارته في التقاط الصور، وانتزاع المشاهد، والتفطن إلى المواطن الاجتماعية التي تلين للغمز واللمز.

فالطابع الواقعي هو الذي يغلب على أقاصيص دنيا الناس، بل هو الذي يرين عليها جميعاً، من قصته (شوكت المثال) إلى قصة (الباشا الأديب) وحسنا فعل الأستاذ نقولا يوسف بتوجيهه ذهن القارئ إلى أن الأسماء والأماكن كلها خيالية، وإلا لتركه في تيه يخبط خبط عشواء وهو يبحث عن الأستاذ بهلول الأديب (النائب) أو عنبر أفندي الذي أفنى حياته في التدريس أو الأستاذ رمزي الشعرور!

وأكبر الظن أن الذي أعان الأستاذ نقولا يوسف على النجاح في أقاصيصه أمران: فهو مدرس استطاع أن يخالط شكولاً من الناس وأنماطاً من الخلائق، أما الأمر الآخر فإنه تنقل بين طائفة من الأقاليم في مصر، فقد ولد في دمياط ودرج في المنصورة ثم دلف إلى الصعيد الأعلى والقاهرة، وأخيراً استقر به النوى في الإسكندرية. فهذه الرحلات المتقاربة صقلت مواهبه، وبصرته بالطبائع وعرفته غرائز الناس ومواطن القوة والضعف فيهم.

فالمؤلف حين يصف جلسة تحضير الأرواح في منزل (الأستاذ الدقدوسي) يتكلم عن علم ويشرح مشاهد رآها بنفسه، وكذلك حين يصف (بابا خميس) إنما يصف رجالاً نعرفهم بذواتهم، يجمعون المال في مصر ثم ينفقونه على نزواتهم في أوربا.

ولم يوفق الأستاذ المؤلف في سبك القصص فحسب وإنما تجلت براعته في الأسماء التي يضفيها على أبطاله إذ يتحدث عن (حسين الكشكي) السباك و (عبد النبي البحرة) الحلاق صاحب (صالون البرنسات) و (فجلة)، (مكوحي الفنون الجميلة) وغير ذلك من الأسماء المتداولة في الأحياء ذات الطابع (البلدي). . .

ص: 48

ولقد وصف تيمور بك المؤلف بأنه كان (رفيقاً بالكثير من شخصياته، لا يدعها سادرة تشرب كأسها حتى الثمالة، وإنما تدركه بها رحمة فيوقظ ضميرها. ويردها إلى صوابها، حتى يسدل عليها الستار وقد رضى عنها المجتمع الموقر، وأنست بها مراسم الأخلاق!)

ويا ليت الأستاذ نقولا فعل هذا في كل أقاصيصه، إذن لأرضى المثل العالي الذي يستهدفه، بيد أننا نستميحه عذراً إذا زعمنا أنه أطلق لقلمه العنان في بعض الصور التي نشرها على الناس، فإنزلق انزلاقاً يسيراً كما في قصة (الغارة الجوية). ولكن مؤلفنا رجل حصيف رزين، فلا يكاد قارئه يأخذه البهر، ويحتقن وجهه خوفاً على (البطل) حتى يردء إلى سواء السبيل، ويأخذ بيده من هوة كاد يتردى فيها، فإذا هو في طريق الأمان.

وإذ غضضنا الطرف عن هفوات يسيرة في (دنيا الناس) كان لنا أن نقول مع تيمور بك (مصرية هذه الأقاصيص بموضوعاتها مصرية بشخصياتها، مصرية بما تناولت من التعبير عن أهواء النفوس، وما أبانت عنه من مزاولة تجارب الحياة. . . ولكن المصرية في هذه الأقاصيص تتمثل على أر في ما تكون في تلك الروح المرحة النقادة التي تبرأ من التكلف والتعقيد، وفي ذلك الحديث الفكه الذي يحسنه ظرفاء المصريين في مجالس السمر، يبتغون المؤانسة والإمتاع).

منصور جاب الله

هذا هو الإسلام

تأليف الأستاذ محمد عبد القادر العماوي

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

الكاتب الأديب الأستاذ محمد عبد القادر العماوي من شبابنا المثقف ثقافة ممتازة. وقد اتجه في كتابه هذا اتجاهات جديدة فبعد أن قدم لنا كتابه (أيامي وفلسفة الحياة). (ومحاكمة الزمن أو طه حسين (وهل أفلست حضارة أوربا) وكتاب سادس آخر هو (مع عقلاء الإنس ومجانين الجن) بعد كل هذه الكتب التي اعتزت بها المكتبة العربية أخرج لنا هذا الكتاب بعد غيبة طويلة وأتى فيه بنظريات دينية جديدة. فاستعرض أولاً الثورات الفكرية ولماذا كانت توجه ضد الدين، ثم حمل رجال الدين المسئولية في ذلك فقال (إن الذي يتحمل

ص: 49

المسئولية وتنصب عليه كل التبعات في الانقلاب على الدين ومحاولة محوه من الوجود ووصفه بكل هذه الصفات كما رأيت، إنما هم رجال الدين أنفسهم لأنهم لم يحاولوا أن يفسروا الدين بعقلية حرة تجديدية وعلى ضوء نظام التطور والارتقاء). ثم يلي ذلك فصل آخر هو (هل الدين لازم للبشر) وفيه تأريخ لتطور العقيدة الإلهية، نشأتها وبواعثها عند الإنسان الأول والمؤثرات التي أثرت فيها ثم تكلم عن حالة الإنسانية قبل الإسلام. وأتى بنظرية أن التطور في الديانات يسير جنباً إلى جنب مع التطور البشري. وتكلم عن مكانة الإسلام بين الديانات. بعد دراسة طويلة منطقية الديانتين السماويتين (اليهودية والمسيحية) وما جاءتا تنشدان تحقيقه من غايات تختلف عن الغايات التي جاء يحققها الإسلام. ثم ختم هذا الفصل بقوله (والخلاصة التي نستطيع أن نخرج بها من موضوع دراستنا لمكانة الإسلام بين الديانات أنه الدين الذي جاء متمشياً مع العقل في تطوره ونهضاته. وأنه الدين الذي جاء يقرر الأخلاق الإنسانية، ويعمل للكرمة البشرية التي تلزمها الحضارات. والمدنيات الكبرى)

ونحن وأن كنا لا نوافقه على كل تلك الآراء والنظريات التي استنتجها وأتى بها، والتي جعلها محوراً لتفكيره في هذا الكتاب لا يمكن أن نخفي إعجابنا من هذه الاتجاهات التجديدية التي اتجه إليها الأديب الشاب.

وكنا نود ألا يغلو الأستاذ العماوي عند بحثه في فصل (لماذا تأخر المسلمون في أمر عثمان بن عفان) كما غلا غيره من المؤلفين الذين تناولوا تاريخه في عصرنا ونسوا أنه في خلافته يبين لنا ما في الإسلام من استعداد لمظاهر المدنية. إذ تمت الفتوح في عصره. وانتقلت ثروة الأكاسرة والقياصرة إلى أيدي المسلمين. فلم يعد يليق بهم حياة التقشف، ولم يعد يليق بهم مظاهر البداوة، وقد كان عثمان أجدر بأنصافنا له في مظاهر المدنية الحديثة، وأن تكون خيراً له من أولئك البدو المتقشفين الذين ثاروا عليه ظلماً باسم الدين، ولم يقدروا ظروف خلافته ولم يعرفوا أنها كانت غير ظروف خلافةأبيبكر وعمر. وعلى كل حال فهذا الكتاب يدل على عظيم إخلاص هذا الأستاذ لدينه كما يدل على دراسة واسعة لأحوال هذا الدين، وعناية عظيمة بالبحث عن أسباب نهوضه وانحطاطه، ليتوصل بهذا إلى الطريق الذي يعيد له مجده، وينهض به في هذا العصر.

ص: 50

عبد المتعال الصعيدي

ص: 51

‌القصص

بنات الهيدروجين. .!

عن المجلة القصصية

بقلم الأستاذ يوسف يعقوب حداد

تزوجت - جاك هرسن - كما تتزوج الفتيات في عصر الذرة والهيدروجين!. . أي أننا، أنا وجاك، تزوجنا في مكتب من مكاتب الزواج المنبثة في الشوارع، كأنها دكاكين الفاكهة، أو بيع السلع القديمة!!

لم يكن ذلك الزواج كما تخيلته في ساعة من الساعات التي تستلقي فيها العذارى على مضاجعهن، ويطلقن لأفكارهن العنان تصور لهن مستقبلهن كما تشاء رغباتهن الساذجة، وعقولهن التي لم تهذبها الحياة بعد!

لا شك إنكم تعرفون أن أسعد أيام المرأة هو ذلك اليوم الذي ترتدي فيه ثوبها الحريري الناصع البياض، ومن حولها ضيوفها، يشاركونها نشوتها ويتمنون لها سعادة كاملة، وحياة طيبة!. . مع ذلك، حين خرجنا من مكتب الزواج، واحتوتنا السيارة وصرنا وحدنا، شعرت أنني سعيدة كل السعادة، وأحسست بالنشوة تتمشى في جسدي، حين راح جاك يهمس في أذني بكلمات الحب - مرحبا بزوجة - جاك - الجميلة. . . إنها تستحق أن يسجد لها هذا العالم، وتنثر على قدميها ما فيه من زهور ورياحين!

وأقلتنا السيارة تواً إلى لندن، حيث أجر جاك شقة (صغيرة) لنقضي فيها شهر العسل القصير الأجل!

قال لي جاك، إنه أحد رؤساء شركة كبيرة للإعلان، وأنه سينقل عن قريب إلى الجنوب ليترأس فرعاً من فروع الشركة. . . هنالك ستستقر بنا الحياة، أو نعمل على ترويض الحياة، ليلين قيادها، ونكيفها كما نشاء، ونجعلها لنا أمةذليلة، لا أن نكون لها إماء أذلاء!

هكذا تزوجنا، وهكذا استقر بنا المقام زوجين سعيدين. وتبخر الوقت كما تتبخر الأحلام من الرؤوس!. . . لقد عاملني - جاك - كما تعامل الملكات السعيدات، ذهبنا إلى كل مكان جميل يسره أن يحتضن عاشقين، وتمتعنا بكل منظر يسر العشاق أن يتبادلوا الحب بين

ص: 52

أحضانه!. . ولم يكن أمر المال أو العمل يعنينا كثيراً، فقد شئنا أن نستغل الوقت للمتعة، بعيداً عن ضجة الأعمال، حتى كان ذلك اليوم الذي تلقى فيه - جاك - رسالة قصيرة. تلاها بسرعة، ثم دسها في جيبه، وجاء إلي، وجلس على حافة المقعد الذي كنت غارقة فيه، وطوق خصري بذراعه القوية، وهمس في أذني - ايف. . يا حياتي. . أريدك أن تساعديني هذا الصباح. يجب أن أذهب لأرى محامياً عجوزاً وسأصحبك معي. . المسألة مسألة فلوس، فقد شاء والدي. وقد رآني لا أعير الزواج شيئاً من اهتمامي، أنلا أصيب شيئاً من ثروته إلا إذا استقرت بي الحياة إلى جانب زوجة، لهذا أريد أن أصحبك معي إلى المحامي لتكوني دليلاً ناطقاً على استحقاقي!. . سيريدونك أن توقعي على أوراق كثيرة، ولكن لا تقلقي. . آه، لشد ما كرهت أن أتزوج من أجل الحصول على المال!. . . أتدرين أنني في وقت ما كنت قد قررت أن أفرط في هذه الثروة الطائلة لرغبتي الشديدة عن الزواج بواحدة من النساء!. . ولكن أنت، أنت وحدك يا ايف العزيزة، استطعتي أن تهدمي ما شيدت من رغبات، وما بنيت من مستقبل، ابتسامة واحدة من شفتيك استطاعت أن تقلب الأمور رأساً على عقب. . أوه! يا لأسلحة النساء!

وسألته في سذاجة - ولكن كم تبلغ هذه الثروة، وماذا سنفعل بها؟

أجابني - أظنها عشرة آلاف جنيه، وحتى حصلنا عليها وأصبحت في قبضتنا، فسنرحل بعيداً، إلى بلاد جميلة، فنقضي شهر عسل حقيقي!. . ألا يروقك هذا؟

فألقيت برأسي على صدره، وقلت له - أوه يا عزيزي، لا يهمني أن نرحل أو نبقى هنا. . إن كل مكان أكون معك وتكون فيه معي لهو جنة التي وعدنا بها!

وفي طريقنا إلى المحامي، أصدر إلي تعليمات جديدة:

. . عزيزتي، إن الأعمال الرسمية شديدة التعقيد عادة، ويلوح لي أن والدي من هواة التعقيد في جميع أعماله. . ولا شك أنهم سيطلبون شهادة الزواج، فهل لكي أن تتركيها معي؟. . لم لا تتركين كل شئ لي؟

فسألته - أتعني حتى حين يوجهون إلي بعض الأسئلة؟ فقال - نعم، سأرد على أسئلتهم السخيفة بدلاً عنك!

وجرت المعاملات بسهولة، وحين انتهينا منها، قال لنا المحامي - ستستلمون المال عن

ص: 53

طريق المصرف، وسيصلكم دفتر الشيكات بعد يوم أو يومين!

وهتفت في دهشة - دفتر الشيكات؟!!

ولكن - جاك - عاجلني بنظرة محذرة، وقال - نعم، يا عزيزتي. . فأنا أريدك أن تكوني كالمليونيرات، تشترين حاجة ثم تكتبين للبائع شيكاً!!

ولكن دفتر الشيكات المزعوم لم يصلني، لا بعد يوم ولا بعد يومين، وإنما حمل إلى جاك المزيد من الأوراق لتوقيعها!. . . لم يكن قد مضى على زواجنا أكثر من أسابيع معدودة. وكنت غارقة في الحب حتى أذني. . . لو سألني جاك أن أوقع على ورقة إعدامي، لفعلت

ومضت أيام أخرى، وذات يوم أعطاني جاك بضع جنيهات وسألني أن أشتري بها ما أشتهي ثم التقى به في أحد المطاعم التي اعتدنا تناول الطعام فيها.

لقد قضيت وقتاً طويلاً انتقل من مخزن إلى مخزن، الصق أنفي بزجاجها، وأحلق بعيني في معروضاتها. . لقد وقع اختياري على أشياء كثيرة، أقسمت أن أشتريها بعد أن نستلم الثروة مباشرة، واشتريت جملة أشياء لم تكن بينها حاجة واحدة ضرورية، اللهم إلا الهدية التي اشتريتها لجاك!

وذهبت إلى المطعم، واتخذت مجلسي في الركن الذي اعتدنا الجلوس فيه، وانحنى لي الخادم الفرنسي وعلى شفتيه ابتسامة طويلة، وقال بلغة إنكليزية تشوبها اللهجة الفرنسية الساحرة - لست أرى المسيو معك هذا اليوم؟. . هل تأمرني سيدتي بشيء؟

فابتسمت له، وقالت - سأنتظر قليلاً ريثما يحضر زوجي!

ولكن ساعة مضت، وتلتها أخرى، ولم يظهر أي أثر لجاك، والخادم الفرنسي لا ينفك النظر إلي. وعندئذ أشرت إليه وأمرته أن يقدم إلي الطعام، فقد كان الجوع قد استفحل أمره، ولكني مع شدة رغبتي في الطعام، لم أجد شهية له، لم أجد له طعماً في فمي. كنت أشعر سحابة من الانقباض قد خيمت على صدري. . رباه، ما الذي أخر جاك عن الحضور؟

وقفزت من مكاني كالمذعورة، حتى كدت أقلب المائدة بما تحمل، وأسرعت إلى التليفون أطلب مكتب الإعلانات الذي يشتغل فيه زوجي، ولكن عاملة التليفون أجابتني بأنها لا تعرف مكتباً للإعلانات بهذا الاسم الذي قدمته إليها!. . سألتها في توسل أن تجرب الرقم مرة أخرى، ولكن جوابها الثاني لم يختلف عن سابقه!

ص: 54

وكدت أنفجر باكية، وأسرعت أريد الخروج للبحث عن جاك، ولكن خادم المطعم استوقفني عند الباب، وسألني أن أدفع له الحساب!. . ولكني لم أكن أحمل نقوداً معي، ورجوته أن يتركه لفرصة أخرى!

وبسحر ساحر ظهر المدير أمامي، فأشر إليه الخادم بشيء التفت إلي على أثره، وقال لي - لا شك أن للمدام حاجة تتركها هنا. . إن الناس لا يؤمن جانبهم في هذه الأيام. . لا، لست أنت، ولكن الأخضر يذهب بسعر اليابس!

ورأيته يوجه نظراته إلى يدي. . إلى أناملي، فتذكرت عندئذ أن جاك لم يشتر لي خاتماً يوم زفافنا، فقد ادعى أن دكاكين الصاغة لا تضم خاتماً يليق أن يزين يد امرأة مثلي!!

قلت لمدير المطعم - ولكن زوجي زبون دائم يتردد كثيراً هنا؟!

فابتسم المدير ابتسامة ساخرة، وقال - والسيد جاك يأتينا بنساء كثيرات. . كلهن ادعين أنهن زوجاته!!

واضطررت إلى أن أترك ما كنت أحمله معي من حاجات، وخرجت إلى الشارع كالعاصفة المزمجرة، وذهبت تواً إلى (شقتنا) حيث يمكن أن أجد جاك، ولكن مفاجأة مدهشة كانت تنتظرني هناك!

استقبلتني صاحبة الشقة بوجه مقطب، وسألتني بقحة أن أعيد إليها مفاتيح الشقة - هل لسيدتي أن تعيد إلي مفاتيح الشقة لأعيد لها حقائبها التي تركها هنا السيد جاك قبيل رحيله؟

فصحت فيها كالمجنونة - هل رحل جاك من هنا؟!

فابتسمت المرأة، وأجابتني - إنها عادته يا سيدتي. . لقد خدع نساء كثيرات من قبلك. .

ثم ابتعدت عني وهي تداعب سلسة المفاتيح، وسمعتها تقول - مسكينة!!

وحملت حقائبي، ونزلت درجات السلم في خطوات مشلولة. . كل درجة كنت أنزلها. كنت أحس أنني أفقد معها سنة من شبابي!

وما كدت أرتمي بين أحضان الشرع، حتى كان المذياع يذيع شيئاً عن عصر الهيدروجين.

وسمعت أحد المارة يعلق على ذلك، قائلاً: - لم يعد في الدنيا شئ عجيب!

البصرة

عراق

ص: 55

يوسف يعقوب حداد

ص: 56