الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 882
- بتاريخ: 29 - 05 - 1950
أدب اللذة.
. .
أسأل ويسأل معي كل قارئ يشفق على حاضر الأدب ومستقبل الثقافة: إلى أي طريق يدفع بنا أدب اللذة؟ والمراد بأدب اللذة ما يسميه الفرنسيون اليوم: وهو الأدب الذي يلذ ولا يفيد، ويسوغ ولا يغذي. ويشغل ولا ينبه، كالذي تقرأه في أغلب الصحف وفي بعض الكتب من غرائب الأخبار، وطرائف النوادر، وتوافه المعارف، مما يجذبك عرضه ويلذك تصويره ويلهيك موضوعه، فإذا فرغت من قراءته وصحوت من خدره، لا تجد له أثراً في نفسك ولا حاصلاً في ذهنك
طغى هذا الأدب على أوربا من بعد الحرب، فهزم الكتاب النافع ونفي البحث المفيد، فثارت ثائرة أقطاب الكتاب، وأنحوا بالفكر على معالجيه ومروجيه، وحاولوا أن يفتحوا أعين الناس على أخطاره بما نشروا وأذاعوا؛ ولكن العلة كانت أفدح مما ظنوا؛ فإن الأعصاب التي أوهنتها الحرب بفظائعها وفواجعها لم نعد قادرة على معاناة الجسد واحتمال التقصي، فرجعوا يتحاورون ويتشاورون ويطلب بعضهم البعض أن يدسوا الفائدة في اللذة، ويدوفوا المرارة بالحلاوة، تهوينا على الأعصاب المنهكة، وتسكينا للنفوس القلقة
ذلك هناك، أما هنا فالأمر مختلف. لا أعصابنا موهونة من حرب، ولا نفوسنا قلقة من ضيق؛ إنما هو الثقافة الخاوية، والأمية الفاشية، والتربية المهملة، والصبر الفارغ، والطبع السئوم، والهوى المتنقل، والوقت المضيع، والحياة الهازلة! خير ما في المدرسة الألعاب، وخير ما في المجلس النكت، وخير ما في الكتاب الأفاكيه، وخير ما في الصحيفة الصور، وخير ما في النزهة التهريج!
فإذا كان الناس في أوربا قد انصرفوا بعد الحرب إلى أدب اللذة، فإن ذلك وإن طال عرض سيزول، وحال ستحول؛ لأن ثقافة النفس في الغرب أصيلة، وحب المعرفة في أهله طبيعة.
أما القراء في مصر فأنهم إنما يعكفون على النوع من الأدب البهرج لأنه رضا السطحية الغالبة، وهوى العامية العريقة. وعلاج هذه الحال لا يكون بالتنبيه والتوجيه، وإنما يكون بتغيير العقلية وإصلاح التعليم وإعداد المعلم وتعميق الدرس وتعويد القراءة وتنشئة النفوس على استجلاء الغامض واستكشاف المجهول واستدناء القصي واستشراف الكامل؛ وهو علاج يراودنا اليأس من قرب حصوله، فلا بعضه في اليد، ولا كله في الأمل!
إن أدب اللذة عندنا هو الأصل، وما جاء على أصله لا يسأل عن علته ولا يتعجب من
وجوده. وإن أدب المنفعة عندهم هو الأصل، وما خرج عن أصله تناصرت كل القوى على كف ضلاله وكبح شروده.
أحمد حسن الزيات
مذكرات بادليو عن الحرب الحبشية
للأستاذ أحمد رمزي بك
وقع بين يدي أول أمس ملخص كتبته عام 1937 عن مذكرات المريشال بيترو بادليو القائد الإيطالي عن حرب الحبشية. وضع القائد مذكراته في كتاب عقب دخوله مدينة أديس أبابا، وقدمه إلى الزعيم موسوليني، وكان هذا كافيا أن يثير رغبتي في الإطلاع عليه بعد أن قضيت الشهور في قراءة خطب موسوليني ومقالاته. ويعترف صاحب الكتاب بأن ما كتبه لا يعد تاريخاً رسمياً للحرب لأن هذا التاريخ يتطلب مجهوداً طويلاً وجمع معلومات متفرقة، ولا ينتظر الفراغ منه قبل سنوات عديدة. ولكن الكتاب مقتصر على مجرد سرد لحوادث القتال في إثيوبيا، كما كانت تبدو لبادليو القائد العام الإيطالي، وهو ينظر للحوادث من قمة عالية، فهو يعرضها بطريقة إجمالية عامة كما يراها بنظرته الشخصية كإنسان، فيشرح الحرب وأدوارها كما كان يراها في مركز قيادته، وهو لا يتأخر أن يكشف عما كان يجول بخاطره: من إقدام وتردد، ويعرض علينا بصراحة طريقة تفكيره، وتطور هذا التفكير ثم مسايرته للحوادث. وقال إن الفكرة الأولى التي أوجدها وألزم نفسه بها هي إحراز النصر على أي وجه يكون، فكانت هذه الفكرة راسخة لديه رسوخ العقيدة التي تسلطت على لبه، وكان يستمد منها دوافع العمل والتصميم والأخذ بالقرارات الحاسمة السريعة، فلم تفارقه هذه العقيدة في أشد الأوقات والأزمات، وانتهى بها إلى قيادة القوات التي وضعت تحت إمرته بالنصر والظفر إلى النهاية.
ويقول بادليو في كتابه: (لعل أعظم ما واجه المسئولين عن قيادة الحرب الحبشية، هو ضرورة الحصول على نصر سريع حاسم بأقصى سرعة ممكنة، لأن عامل الوقت كان يعمل ضد إيطاليا) وقد كتب موسوليني في مقدمة الكتاب ما يأتي: (إن غاية كل حرب هو إحراز النصر؛ أما الحرب الحبشية فكانت تستلزم فوق هذه النتيجة الحتمية أن يكون إحراز النصر كاملاً في غير إبطاء أي بسرعة فائقة).
والمتتبع لحرب فلسطين يتفق معي في أن إحراز النصر فيها، كان يستلزم السرعة الفائقة والوصول إلى احتلال أكبر مساحة في أقصر وقت ممكن، وهذا ما لم يلتفت إلى تحقيقه المسئولون عن حملة فلسطين.
ويقول بادليو أنه تولى القيادة في 15111935 ودخل عاصمة
الحبشة في 551936 فكأنه لم يأخذ في العمليات التي قام بها
سوى 4 أشهر وأيام معدودات.
وللوصول إلى نتيجة مثل هذه حشدت إيطاليا أكبر قوة عسكرية في القارة الأفريقية إذ جمعت 300 ألف مقاتل إيطالي و 100 ألف عامل وقوة من الطائرات عمادها 400 طائرة كما جمعت أكثر من 100 ألف من الجنود الأفريقية الملونة (السمر والسود) - وكانت العمليات الحربية التي قامت بها تمثل في اتساعها وتفرعها أكبر حرب للاستعمار رأتها القارة السوداء حتى ذلك التاريخ. فإذا أضفنا وسائل الفن الحديث للقتال وسوق الجيوش وتعبئتها ونقل المؤن وإنشاء الطرق جاءت هذه الحرب بمثابة فتح جديد للحروب الأفريقية.
ولهذا فإن الدراسات التي قامت على معارك حرب الحبشة كانت ذات أهمية خاصة. ولا أتهم بالمبالغة إذا قلت أن قواد الحلفاء الذين خاضوا غمار الحرب العالمية الثانية استفادوا كثيراً من دروسها، ثم أقول أنه من دروس الحرب العالمية الثانية ومعاركها في القارة الأفريقية ما يدعو أيضاً إلى الاستفادة من ناحية الاستعداد للحرب ووضع خططها في المستقبل: لأن عمل كل فئة استفاد منه من جاء بعدها وهلم جراً. . .
ولقد تبين لي من الإطلاع على ما كتبه بادليو أن إيطاليا كانت تضع الخطط منذ سنوات طويلة للحصول على النصر في الحبشة في حالة اشتباكها بالحرب معها - ولقد أخذت أهبتها منذ سنة 1925 فبدأت تعيد النظر في أنظمة الجيش وتهيئة قواتها العسكرية بالمستعمرات.
واختارت لاتمام هذا العمل الإنشائي نخبة من ضباط الجيش الذين يعملون بهدوء وصمت: ومداومة وعناد.
وكان أول ما اهتمت به في نظامها الإنشائي العسكري تكليف وزارة الأشغال العامة بإنشاء شبكات محكمة لطرق المواصلات في إرتريا والصومال توصل إلى الحدود الحبشية.
وكان الاتصال دائما بين رئيس هيئة أركان حرب الجيش الإيطالي ووزارة الخارجية مباشرة - ولما تولى بادليو هذه الرئاسة كان يخول إليه حق الإطلاع باستمرار على دقائق
العلاقات السياسية وتطورها بل يؤخذ رأيه في أهم ما يدور البحث فيه بين بلاده وإمبراطورية النجاشي.
وكان من واجبه أن يرقب بانتباه وعناية تامة كل حركة يقوم بها النجاشي لتنظيم بلاده سياسياً أو محاولته تركيز السلطة في يده، وكان من أهم ما تخشاه إيطاليا هو أن تنجح الحبشة في مشروعها الذي يرمي لإيجاد جيش منظم على الأساليب الأوربية ومزود بالأسلحة الحديثة، فينتهي النجاشي أن يوفق في الاستفادة من مزايا وصفات قومه الحربية وطبيعية ارض بلاده.
وكانت الحبشة خالية تماماً من تلك الطبقة الممتازة من الضباط الوطنيين الذين يفكرون بتفكير الأوربيين أو يعرفون طرق الحرب الحديثة وخاصيتها وما تتطلبه من فن ومقدرة، وما تستلزمه من نظرة نافذة واعية، حتى يتمكن أصحاب هذه المهنة من وضع الخطط الحربية وتنفيذها.
ويذكرني هذا بما قرأته عن كلام مصطفى كمال الزعيم التركي الذي أسند أسباب نهضة تركيا الحديثة إلى تلك النخبة من الضباط العظام الذين لولا نظرتهم الإيجابية لضاعت بلادهم كما ضاع من قبل استقلال بخاري ومراكش وتونس ومصر: فهذه النخبة من الضباط الذين يجمعون بين العلم والفن العسكري الأوربي، والجرأة المستمدة من الشعور القومي هي التي كان بوسعها إنقاذ البلاد، وهي التي اطمأنت إيطاليا من عدم وجودها ولم يكن هناك من يحل الساسة للأمور محدود، ونظرتهم قاصرة وكل هذا يبعدهم عن فهم الحقائق وضرورات العصر الحالي فكانوا يحضرون أنفسهم للهزيمة والإبادة.
ويقول بادليو أن النجاشي أخذ في السنوات الأخيرة يلجأ إلى الاستعانة ببعض الأخصائيين من الأجانب الذين لبوا دعوته وقاموا يرسمون له الخطط، فاشتد قلق السلطات الإيطالية خوفاً من أن تستعد الحبشة عسكرياً تحت إشراف هؤلاء الضباط الأوربيين - فتنشئ لها جيشاً وطنياً قد يقف عقبة في سبيل أطماع إيطاليا أو يزيد مشاكل الفتح وتكاليف الحرب القادمة. ولذلك رأت الحكومة الإيطالية أن الساعة قد أزفت لمواجهة المسألة الحبشية بالفصل فيها قبل أن يستفحل أمرها: وأن تضرب الحبشة ضربات حاسمة وبسرعة لكي تضمن تصفية هذه المملكة تصفية نهائية وبطريقة لا تمكنها من القيام مرة أخرى.
ويستمر بادليو يحدثنا عن الحبشة فلا يستهين بها وإنما يقرر أن المعلومات كانت تصل إلى إيطاليا باستمرار من أنحاء البلاد المختلفة عن كل صغيرة وكبيرة فيها وقد أدى جمع هذه المعلومات وتصفيتها بيد الخبراء إلى أن إثيوبيا بوسعها أن تجند قوة محاربة تتراوح بين 200 و250 ألف مقاتل وأن تحشدها في الجبهة الشمالية وأن تسوق قوة أخرى تتراوح بين 80 و 100 ألف مقاتل لجبهة الصومال الإيطالي وفي طاقة البلاد تكوين احتياطي من القوات المقاتلة لشد أزر الجيشين: أما ناحية التسليح فقد أتت الأخبار الموثوق بها تقرر أن القوات مزودة بأسلحة حديثة خفيفة ولكنها من عيارات وطرز مختلفة مما يسهل وقوع الأخطاء في استعمال الذخيرة: (يلاحظ أن الدول الغربية كثيراً ما تلجأ إلى هذه الوسيلة بالذات لعرقلة القوة المقاتلة لدى الأمم الشرقية وهي: ناحية تعدد أصناف الذخيرة وتعدد أنواع الأسلحة المختلفة العيارات لما يلازم هذا التنوع من أخطاء في توزيع الذخائر على الوحدات المقاتلة)
وجاءت إلى رئاسة أركان حرب الجيش الإيطالي معلومات دقيقة عن كافة أنواع الأسلحة التي شحنت في السنوات السابقة للحرب من مدافع وبندقيات رشاشة وأسلحة للمشاة، وعدد الطائرات والسيارات المدرعة وما جاء للمدفعية من مدافع ميدان ومدافع مضادة للطائرات - مما أمكن أن يعطي فكرة عن محاولة إنشاء قوة من المشاة على الأقل منظمة على الأسس الأوربية.
ولكن المطلعين على الشئون العسكرية كانوا على ثقة تامة من عجز الحبشة عجزاً تاماً وعدم قدرتها على توجيه أية حملة كاملة الأهبة والاستعداد لاكتساح إحدى المستعمرتين الإيطاليتين. وذكر بادليو تبريرا لهذا العجز سببين أساسيين. الأول مادي راجع إلى طبيعة الأراضي وخلوها من طرق المواصلات التي تسهل الحشد وتمكن من سوق الجيوش وحشدها في أماكن التجمع اللازمة لها
الثاني أنه إذا وجدت هذه المواصلات فالبلاد مفككة داخلياً وظروفها السياسية والاجتماعية لا تمكنها، من أخذ هذا العبء عليها. وأخيراً فهي خالية من كل المسائل المادية والأدبية التي تجعل تجهيز هذه الحملة موضع تفكير.
إذن فهو مطمئن إلى أنه صاحب اليد الأولى في توجيه الحرب الوجهة التي يريدها وهي
بطبيعة الحال ستكون هجومية من جانبه، دفاعية من الجانب الآخر.
ولن تكون حرباً ثابتة وراء الأكمات والحصون والخنادق بل ستكون حرب حركة في أعلى مظاهرها فهي، في حاجة إلى إحكام التدبير والخطط وستحتم احتلال أماكن بعيدة والتوسع في الزحف بشكل غير معهود في السابق بل تفرض أشغال العدو وأحكام المباغتة والاستعداد لأخذ القرارات السريعة الحاسمة وما يستلزم ذلك من الجرأة والثقة في النفس حتى يضمن القائد سرعة التقدم وضمان الوصول إلى الهدف المعين في الوقت الذي تحدده القيادة العامة.
لهذا كله يشير بادوليو في القسم الأخير من كتابه إلى أن أول أمر تستلزمه حرب الحركة والاكتساح هو إيجاد قواد أكفاء ذوي شجاعة للاضطلاع بالمسئوليات الكبرى وليس من السهل العثور على هذه الفئة الممتازة في أي جيش أوربي إذا لم يدرب أفرادها من المبدأ لهذا الغرض وتعطى لهم حرية واسعة للعمل وقت التدريب. وأن يكون الاختيار منصباً أولا على الكفاءة والاستعداد الشخصي فليس كل ضابط يصلح لهذا الاختيار وليس كل قائد لديه الاستعداد الشخصي لمثل هذه الأعمال:
وقد نجح في إيجاد قوة من الضباط الأكفاء من الناحية الفنية أي في القيادة، وفي وضع الخطط للتعبئة وسوق الجيوش، وقد أشرف بنفسه على امتحان معلوماتهم، وعرف عن كثب مدى إدراكهم للأمور، ولذلك مهد لهم طرق الاشتراك في الحرب الحبشية مشيراً إلى أنها الفرصة الوحيدة التي سنحت لهم لإظهار صفاتهم العسكرية الممتازة ومقدار ما وصلوا إليه من معلومات وما أتقنوه من فن عسكري.
وأشار إلى ما لازم إيطاليا من توفيق في تموين جيشها (بكادر) أي مجموعة هائلة من ضباط الصف الذين لهم دراية خاصة ومقدرة على فهم التنظيم والعمل بوحيه وروحه وهي صفات تستلزم المران الطويل ويخلفها ويبرزها التدريب الفني والتربية العسكرية المبنية على أداء الواجب: وقال أن هذا الكادر هو عدة الجيوش المحاربة.
وهكذا استمر المريشال الإيطالي يحدثنا بأسلوبه الشيق ويقول إن الحرب الحبشية كانت تجربة ولكن قاسية دخلتها دولته وخرجت منها منتصرة بفضل العناية التي بذلت في رفع مستوى الجنود والضباط على السواء. وقال أنها كانت في وجهة نظره مواجهة المجهول
والتغلب على أشياء غير منظورة، ولا مفروض وقوعها. وكان كقائد واقعا تحت تأثير الزمن كعامل فعال فكان يطلب إليه إتمام عمل معين بأقصى ما يتطلب من السرعة وفي أقصر وقت؛ وكان يضع خططه ويجهز نفسه لسوق وحدات بقصد احتلال مراكز معينة، فتصدر إليه أوامر من روما بتغيير الخطة والسير بغير إمهال لناحية أخرى، فكان يلبي هذا الأمر ولكنه يسير بوحي نفسه فلا يغير خطته الأولى متحملاً المسئولية إلى النهاية.
قال إن أكبر عوامل النجاح هو التنظيم الذي مكنه من عمل المستحيل والذي بدأ بتفريغ ونقل ملايين الأطنان من الذخائر والمؤن في بلاد لم تستعد لتلقي هذه الكميات الهائلة من العتاد، ثم سار في التغلب على الطبيعة بإنشاء المواني والأرصفة والطرق والكباري وتحريك نصف مليون رجل ودفع ملايين من الدواب وآلاف السيارات. كانت الحرب آلة محكمة الوضع، ولذلك تغلبت على العقبات وأخضعت الطبيعة. وتلمح من ثنايا كلماته: إن أرادته تغلبت في النهاية على أوامر روما وما تحمله من متناقضات وجهل بشئون الميدان، وقرر أن مثل هذه المصاعب أولى مظاهر المشاكل والمتاعب التي تواجه القائد في الحروب، والتغلب عليها أول مظهر لصفات القيادة الحاسمة الجريئة التي إذا وضعت الأقدار بين يديها مقدرات المعارك والحروب فعليها أن تستفيد منها والى النهاية.
أن الأقدار تأتي بها مرة واحدة في حياة الشعوب والقادة ولن تتكرر مرة أخرى فمن العبث التردد والوقوف والتراجع إزاءها لأنها تخضع للمثل اللاتيني القائل.
إن الحظ يبتسم دائما لأصحاب القلوب الجريئة والعزائم الصادقة
أحمد رمزي
مراقب عام مصلحة التشريع التجاري والملكية الصناعية
تفريط
للدكتور محمد يوسف موسى
تفريط تحس به حيث تكون، وتحس به حيث تلتلفت حواليك. تفريط من كل طبقة وفريق: طبقة الطلاب، وطبقة الشيوخ والأساتذة، وطبقة السادة رجال الإدارة والرياسة. تفريط من كل هؤلاء وأولئك، إلا من عصم الله وهم قليل نادر. ولولا ذلك، لصار الأزهر منذ أزمان وأزمان تاريخا من التاريخ، ولصار يتحدث عنه كما يتحدث عن كائن طالت به الحياة، وأثر فيها وتأثر بها، ثم صار أثرا بعد عين وغظة في الحاضر والمستقبل!
نعم! ذلك حال الأزهر اليوم، وقد نشأ أول أمره مقراً للدعاية لمذهب ودولة، ثم - لفرط حيويته - تمرد على ما أريد به وله، فصار منارة عامة ترسل أشعتها هنا وهناك في أرجاء العالم الإسلامي ثم تقدم به الزمن فصار، فترة طويلة من التاريخ، المعين الوحيد للمعرفة والعلم، وصاحب الأثر الكبير في تصريف شؤون البلد والقول الفصل في المشاكل التي تجد. وكان من رجالاته من عرف التاريخ لهم فضلهم، إذ عرفوا لأنفسهم كرامتهم وللعلم حقه، حتى كان منهم من رفض أن يمد يده لصاحب السلطان، بعد أن لم ير حرجاً في أن يمد بحضرته رجله! ثم مرت أزمان، وجاءت أزمان، وإذا بالأزهر لا يلتمس رأيه فيما يجب أن يكون له الرأي فيه، حتى لقد غدا كما يقول الشاعر:
ويقضي الأمر حين تغيب تيم
…
ولا يستأذنون وهم شهود
وأحب قبل الكلام الجاد فيما أنا بسبيله، أن أسارع فأطمئن المشفقين من الأبناء الأوفياء والزملاء الأفاضل، هؤلاء وأولئك الذين يخافون على عقبى صراحتي في زمن يتهم فيه كل صريح، أنني، علم الله، لا أقصد بحديثي هذا رجال عهد معين قريب أو بعيد، إنما أعني الأزهر ورجاله في هذا العهد الذي نعيش فيه منذ سنوات وسنوات. ولست بالذي ينقص إجلاله لفضيلة الأستاذ الأكبر عن أشد الناس حباً له واتصالاً به. غير أني صريح بحكم منبتي وطبيعتي، وحديث عهد ببلاد تصدع بالحق متى هديت له، وأشعر في قوة بما علي وعلى أمثالي من تبعات للأزهر في حاضره ومستقبله، تبعات لا يفتأ الإخوان يذكروننا بها في كل مناسبة.
فليهدأ، إذاً، بالاً الأبناء والإخوان المشفقون، فالله متم أمره، ولن يقف حذر دون قدر. ولست
بما أقول، اليوم أو بعد اليوم، إلا في مقام الناصح الأمين. وليس مناي - وقد جاوز مثلي الخمسين - بأقل من أن ينصح بما يراه حقاً، وليس إنسان مهما علا قدره بأكبر من أن يتقبل الرأي الحق يتقدم به ناصح أمين.
1 -
لطلاب الأزهر في الكليات والمعاهد مطالب يضربون من أجلها عن الدروس فترة طويلة كل عام، ويلحون في سبيل تحقيقها ملتمسين كلما يرون من سبل ووسائل. وهم جميعاً لا يكلف أحدهم نفسه النظر فيما يطلبون: أحق كله؟ أو يلتبس فيه الحق بالباطل؟ وهل رائدهم الإخلاص فيما يرجون؟ أو هي أصابع الفتنة تدفع بهم في غير الطريق السوي؟
ويحاول هؤلاء الطلاب المساكين التماس عون أساتذتهم وشيوخهم فلا يجدون منهم إلا ازورارا وأعراضاً، لأنهم يخافون التهمة بتحريك الطلاب، أو لأنهم لا يعرفون كيف يوجهونهم سواء السبيل. والمشيخة من ذلك في شيء من الحيرة والكرب؛ لا تقدم إلا إذا أشتد الخطب، ولا تقرر إلا تحت الضغط.
ولو كانت الأمور تجري عندنا في الأزهر على استقامة، لكان يسيراً كل اليسر على أولى الشأن في الكليات تعرف ما فيه الخير للطلاب في ثقافتهم ومستقبلهم، والأهداف التي يجب أن يعدوا الإعداد الطيب لبلوغها، ووسائل تحقيق هذه الأهداف. وحين إذ لا يكون الطلاب ما يشكون منه، وما يضربون عن دروسهم من أجله.
ولو كانت الأمور تجري عندنا في الأزهر على استقامة، من الطلاب والأساتذة وأولى الأمر، لكان للكليات (اتحاد) كاتحاد الكليات في الجامعة، ولكان هذا الاتحاد وسيط خير بين الطلاب والمشيخة، ولكان وسيلة يمرن بها الطلاب على المشاركة في إدارة شئونهم، وعلى المسئولية والاضطلاع بها. ولكن كيف السبيل إلى تكوين مثل هذا (الاتحاد)، ومن إليهم الأمر يظنون كل صيحة عليهم، ويرون في تكوين هذا (الاتحاد) بدء ثورة وانقلاب؟! ثم كيف السبيل إلى مثل هذا (الاتحاد)، ومن الشيوخ من يستحل اتخاذ الطلاب الأبرياء وسيلة لقضاء حاجة أو حاجات في نفوسهم! ومن أجل هذا يزور المدرسون عن الطلاب، فلا يرى الطلاب - وقد حرموا التوجيه الصالح - إلا أن يصدروا عن عقولهم التي تنقصها الإحاطة بالأمور، وعن خبرتهم وتجاربهم وهي ناقصة، وعن مطالبهم الخاصة دون رعاية للحق أو
للصالح العام في نفسه.
2 -
وبعد الطلاب، الذين شغلتهم الامتحانات والاستعداد لها عن مطالبهم، جاء بكل أسف دور المدرسين والأساتذة.
نعم! هاهي ذي المعركة حامية الوطيس بين فريقي المدرسين في المعاهد والكليات، المعركة التي استعمل فيها كل سلاح وإن رغم الحق! المعركة التي وصل أمرها للصحف والديوان الملكي وللبرلمان أخيراً كل فريق يدافع - على طريقته - عن حقه وكيانه ومستقبله، ويرى كل الوسائل مشروعة ما دامت تحقق الغاية أو تدنى منها. وفيما بين هؤلاء وأولئك تضيع كرامة الأزهر، وتتزلزل سمعته في مصر والعالم الإسلامي كله.
ولو كانت الأمور تجري في الأزهر على ما ينبغي من عدل واستقامة لصدر منذ طويل (كادر التدريس) حين صدر القانون بإنشاء الكليات. وإذاً، لعرف كل من أعضاء هيئة التدريس حقه، ولوضع في موضعه الذي تؤهله له دراسته وكفايته، ولما كان من الممكن أن تقوم هذه الخصومة العنيفة بين الأخوة الزملاء أبناء المعهد الواحد، ولشغل الكل بالبحث والإنتاج العلمي الذي تخلفنا فيه حتى صرنا ساقه بعد أن كنا القادة.
ذلك ما كان يجب أن يكون، لولا اشتغال الرؤساء بالحاضر، يصرفون مسائله في ارتجال، عن المستقبل - حتى القريب منه - يعدون له ما لا بد منه من عدة ووسائل. ولله الأمر من قبل ومن بعد!
3 -
وفي الأزهر اضطراب شديد أيضاً فيما يتصل بعدم تركز السلطان وتصريف الأمور في المسئولين وحدهم بكل مناصبهم، بل صار نصيب كبير من هذا إلى غير هؤلاء المسئولين، فنظمت البلوى وعمت الشكوى.
ولو كانت الأمور تجري عندنا على استقامة، لأنشئ منذ زمن طويل مكتب فني بالرياسة يكون لأعضائه من الثقافة والكفاية والروح الأزهرية والحب للصالح العام، مما يجعلهم أهلاً بحق لاقتراح المشروعات التي تفيد الأزهر، ولبحث ما يحال إليهم من مشاكل، ولتقديم المشورة الطيبة فيما يجد من أمور.
ولو كانت الأمور تسير عندنا على ما ينبغي، لوضعت منذ طويل قواعد عامة للنقل للكليات، ولكان من هذه القواعد ألا ينقل مدرس - مهما كانت درجته العلمية - من الثانوي
لكلية من الكليات إلا إذا شهد له بالعلم والبحث مؤلفات منشورة
ولكن؛ منع من هذا وذاك فيما مضى، وربما يمنع منه أيضاً هذه الأيام وفي المستقبل، ما ركب في النفس من حب الاستثئار بالبت في كل أمر وبالإعطاء والمنع، ولعل الله ينظر للأزهر نظرة رحمة فيغير من هذا كله.
4 -
وقد نظر الله للأزهر في بعض ما مر به من عهود، فألهم القائم بأمره حين ذاك - وهو المغفور له الأستاذ الشيخ المراغي - أن يرسل بعوثاً لأوربا يقبسون من علم الغربيين وطرائقهم في لبحث والدرس! ومضى الزمن، وعادت البعوث من فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وانتظر الناس أن ينتقل الأزهر خطوة إلى الأمام؛ وحق لهم أن ينتظروا في ثقة واطمئنان. ولكن، ها هو الزمن يمر، وهلا هو الأزهر في جملته يسير نفس سيرته قبل أن يكون له أعضاء بعثات جمعوا بين ثقافة والشرق والغرب. نعم! ها هو الأزهر لا يزال كما نعهد من قبل في مناهجه وطرائق التدريس فيه وعدم غنائه في علوم الدنيا والدين.
ولماذا؟ لأن المشيخة لم تحب، ولا تحب، أن ينتفع الأزهر بمبعوثيه، لأنها لم تحب، ولا تحب، أن تستعين بهم - كما تفعل الجامعة ووزارة المعارف - في التوجيه الصحيح في المعاهد والكليات؛ لأنها لم تحب، ولا تحب، أن تجعل لهم الإشراف على ما يواجه الأزهر هذه الأيام من الاتصال الشديد بالعالم الإسلامي والعالم العربي في أوربا وغير أوربا.
وبهذا، صار للأزهر شكل الجامعة، دون أن يكون له حقيقتها، ما دام لا يسير على نظم الجامعات! وصار له أعضاء بعثات حازوا أكبر الدرجات العلمية من الأزهر ومن أوربا، ولكن لا يحاول أن يفيد منهم! وأصبح من العبث إرسال بعثات أخرى، نكلف أعضائها كثيراً من الجهد وتنفق عليهم كثيراً من المال، حتى إذا عادوا تركوا دون الإفادة منهم كإخوان لهم من قبل!
إن الأزهر لا يسير منذ سنين طويلة في الطريق الصحيح؛ وتلك حقيقة تعرفها الأمة وقادة الرأي فيها، كما يعرفها الأزهريون أنفسهم. وإن من دلائل ذلك ما نراه من تخلف الأزهر في ميدان الإنتاج العلمي، حتى حين يتصل بالتراث الإسلامي. وإن من دلائل ذلك عدم القدرة حتى الآن على عرض الإسلام عرضاً سليماً واضحاً يجد فيه العقل رضى والقلب هدى، ونتعرف منه الرأي الحق في المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تنوعت كثيراً
هذه الأيام. وإن من دلائل ذلك ما حدثني به جمع من تلاميذي، من أنهم لا يحسون الأمة تضعهم في المنزلة التي تضع فيها طلاب الجامعة. ذلك بأن الأزهر، كما قلت أول الحديث، تسوده روح التفريط: تفريط من الطلاب في الإخلاص للعلم، وتفريط من الأساتذة في مد يد العون لهم وتوجيههم الطريق السوي، وتفريط من الرؤساء - إلا من عصم الله وهم قليل نادر - في طلب الرأي ممن يراه وفي الاستماع للنصح حين يتقدم به الثقة الأمين.
ولعل الله يعرفنا الباطل باطلاً فنجتنبه، ويرينا الحق حقا فنتبعه. وأدعو الله لأستاذنا الأكبر شيخ الأزهر، قابساً من دعاء للدكتور طه حسين بك لرفعة سرى باشا حين كان رئيساً للوزراء فأقول:
رزقك الله سداد الرأي، وألهمك صواب القول، وكتب لك التوفيق في العمل، وجعل سيرتك عزاء عن سيرة من كان قبلك، ورضا لمن عاش معك، وقدوة لمن جاء بعدك
محمد يوسف موسى
دكتوراه الدولة في الفلسفة من السوريون وأستاذ بكلية أصول
الدين بالأزهر
الفيزيوقراطيون.
.
للأستاذ محمد محمود زيتون
سادت فرنسا في القرن الثامن عشر موجة فكرية تدعو إلى الطبيعة واشتدت هذه الموجة بفضل ما كتبه أدباء فرنسا ومفكروها سواء صدروا في كتاباتهم عن الإنجليز المعاصرين أمثال أو تأثروا بحالة بلادهم فتمثلوها وترجموا عنها أدباً وفلسفة واقتصاداً وسياسة إلى غير ذلك من نواحي النشاط الإنساني.
ترددت تلك الدعوة إلى الطبيعة على كل لسان وقلم، وامتزجت بها كل وحدة من وحدات المجتمع الفرنسي. وكان من بين تلك الدوائر جماعة الطبيعيين (الفيزيوقراطيين) الذين كانوا خير من تبنوا هذه الدعوة وأنموها وأوصلوها إلى نتائج وقفت الحضارة الفكرية عندها طويلا، لأن هذه الجماعة سوغت لنفسها أن تتخذ (العلم العام للمجتمع) مذهباً لها.
نشأت هذه الجماعة في فرنسا حوالي سنة 1750 م وكان مؤسسها (كيسنس الذي ساهم في قيامها بكتبه التي تحوي جميع العناصر الرئيسية للمذهب، من ذلك: مبدأ الحق الطبيعي، ونظرية الإنتاج الزراعي الخالص، ونظرية الشركة العادلة بين الملاك والمنتجين، ونظرية الاستبدال الطليق، ونظرية الحكومة الاستبدادية المستنيرة. وقد انتشرت هذه التعاليم بحذافيرها حينا، ومعدلة حينا، ومغيرة حينا في خارج فرنسا بل في داخلها. وكل ما كتب بصددها في المرحلة التالية للفيزيوقراطيين مباشرة إنما كان مستمدا من مؤلفات (كيسني) وقائما على الأصول التي وضعها.
نعم سبقه كثير من الماديين، وسار على نهجهم واعتنق بعض مذاهبهم، وحقا إن (لوك) وغيره من الإنجليز كانوا أسبق من (كيسني) فيما ذهب إليه، فلوك هو القائل بنظرية الحق الطبيعي، والمدافع عن حرية التجارة، ولكن هذه الآراء وإن تسربت كلها أو بعضها إلى فرنسا إلا أنها لم تعمل على خصوبة الفكر الفرنسي، ولم تكن هي الباعث على قيام هذه المدرسة وتعاليمها، وذلك لأن مركز فرنسا المادي حينذاك كان منحلاًا لما كانت تعانيه من فساد النظام التجاري، فضلا عن انحطاط الحالة الزراعية والصناعية جميعاً.
ففي مثل هذه الحالة، يتجه الاهتمام أول ما يتجه نحو (حقوق الإنسان) التي تربطه بالمجتمع، تلك الحقوق الطبيعية التي لا مصدر لها غير الطبيعة وحدها. ومن الواضح أن
طبيعة الإنسان لها الحق في كل شيء يتعلق بوجوده وسلوكه، حتى إذا قام للمجتمع كيان، عانى هذا الحق تحديدا لا بد منه وقد يصبح هذا التحديد خطيراً ما لم تفسيره صيغة الحق والصيغة الوحيدة لهذا التحديد المطابقة للعدالة والعقل معاً هي حق كل فرد في نصيب من الخيرات التي يستطيع أن يمارسها عن طريق العمل والخدمات العامة.
وبتحليل هذا الحق الطبيعي ينتهي إلى عنصرية: الحرية المطلقة، والملكية المطلقة، ولكن هذه الحقوق من غير شك تفترض تبادل الواجبات. واجب العمل، وواجب احترام الغير، وواجب العمل على خير الغير. وعلى ذلك ينبغي أن يكون القانون الوضعي تفسيراً لهذين الجانبين من الحق الطبيعي. وهكذا تنتظم الروابط بين الأفراد بعضهم بعضا، ولكن يبقى تحديد موقفهم من المجتمع ليكون الحق العام متمشياً مع الحق الطبيعي غير متعارض معه، وهذا يتطلب تنظيماً.
عالج الفيزيوقراطيون هذا التنظيم، ففي الاقتصاد (ترتيب طبيعي) هو موضوع البحث في المجتمع. وفي الاقتصاد قوانين طبيعية، معرفتها أمر ضروري، وكاف لإقامة نظرية الإنتاج، ونظرية الاستهلاك، وهما النصفان اللذان يتألف منهما الاقتصاد.
ولم يكن (شارل جيد حين قال (أداء الواجبات، واستغلال الحقوق، وإرضاء الرغبات، تلك هي الأغراض الثلاثة المختلفة للنشاط الإنساني، والأخير منها موضوع علم الاقتصاد، ولذا نستطيع القول بأن الاقتصاد السياسي له أن يعالج الروابط بين الناس العائشين في مجتمع من حيث تعمل هذه الروابط على إرضاء رغبات الحياة المتعلقة بالجهود العاملة على تزويد الجميع بالثروة المادية).
والأرض هي أساس الاقتصاد، والقاعدة التي عليها يرتكز، وحسب الفيزيوقراطيين أن يشاهدوا الطبيعة وأن يستمعوا لها، فهي وحدها التي تفسر توزيع الدخل، ودورة الثروة، وقوانين المحصول الصافي وغير ذلك. ومن كل هذا استنبطوا نتائجهم، وإن كانوا فيما بعد قد ظنوا أن القوانين التي يجب أن يتوجهوا إليها، واضحة وضوح القوانين الطبيعية.
لقد تردد ذكر (الطبيعة) طوال القرن الثامن عشر. فعلى أي وجه ردده الفيزيوقراطيون؟ إنهم اعتبروا في الطبيعة جانبا ماديا، وأرادوا أن يربطوا القوانين الأخلاقية والقضائية بقوانين فيزيقية ربطا مباشرا. يقول (ميرابوا (لقد عولج الحق الطبيعي باعتباره حقاً عقلياً
دون التفكير في خضوع قوانين النفس لقوانين فيزيقية متصلة بها اتصال الجسم بالروح)
وهنا تختلف وجهة نظر الاقتصادي، عن وجهة نظر الأخلاقي، فهنا يريد (ميرابو) الانتقال مما هو مادي إلى ما هو أخلاقي، وذهب إلى القول بأن (الناس تحكمهم الأشياء) ` ` هذه الأشياء عند (ميرابو) هي (الحبوب) إذ يقول (وكما أن حبة القمح مرآة تتحدث عن حكمة الخير الإلهي وعظمته ولطفه، فكذلك هي مرآة تتحدث عن الكواكب والعوالم إلى ما ينتهي، فينبغي كشف عظمة القوانين الإلهية بفخامة القوانين المادية).
وهذه النزعة - وإن بدت مادية - إلا أنها فكرة فلسفية قال بها من الفلاسفة من قال بالعناية الإلهية، وكذلك من اعتبر دورة الثروة كالدورة الدموية، من حيث لها قوانينها الطبيعية في الحياة الإنسانية.
وهنا نتساءل: لماذا أهتم الفيزيوقراطيون بالطبيعة والقول بالعناية الإلهية! الجواب سهل يسير، ذلك أنهم رأوا في الطبيعة قوة أسمى من قوة الإنسان، لأن عمل الإنسان تافه، أما الطبيعة فذات قوى منتجة هي عمل إلهي، ونوع من المنحة والنعمة.
وجد الفيزيوقراطيون إذن في القوانين المادية قوانين إلهية، واستطاعوا في جرأة وإقدام أن يربطوا بين النظام الأخلاقي والنظام الفيزيقي، لأن في نفوسهم استحساناً له مفعوله فيها، ويفسر (كسني) ذلك بقوله: (المقصود بالنظام الفيزيقي هو المجرى العام لجميع الأشياء الفيزيقية، أي هو النظام الطبيعي الأكثر نفعا للجنس البشري. وبهذا القول نكون قد وفقنا على جوهر المذهب الفيزيوقراطي، إذ القاعدة العامة لكل فعل إنساني تنطبق على أنفع نظام فيزيقي للإنسان وهذه القواعد كلها تكون قانوناً طبيعياً، واضعه الله، وهذه القوانين ثابتة دامغة، وهي أحسن ما يمكن أن يكون.
بفضل هذا الاستحسان استطاع الفيزيوقراطيون أن يقربوا بين القوانين الطبيعية الضرورية وبين القوانين الفيزيقية وأفهمونا بذلك الحقوق الطبيعية.
وكان مذهب الأحرار منطوياً في مبدئهم العام والخاص على وجوب ترك القوانين الاقتصادية حرة طليقة، وعلى ترك الباب مفتوحاً للتجارة الحرة، فاشتهر في الأوساط الاقتصادية مبدؤهم المشهور أي (دع القوانين تعمل، ودع التجارة تمر) وكان أيضاً داعياً إلى القوانين الطبيعية، والحقوق الطبيعية، ومستتبعاً لنظريتهم في الطبقات
ولقد جاء الفيزيوقراطيون بفكرتين جديدتين هما:
1 -
سمو الزراعة على التجارة والصناعة.
2 -
إيجاد (نظام طبيعي أساسي للمجتمعات الإنسانية) كما يدل على ذلك نص عنوان كتاب للفيزيوقراطي الشهير (مرسييه دي لارفيير)
أما الزراعة فقد أعطاها الفيزيوقراطيون من الأهمية ما لم يعطوه لغيرها، لأن الزراعة في نظرهم ليست مصدر الغلة الصافية فقط، بل هي المصدر الوحيد للثروة، وما عداها عقيم والإنتاج الزراعي أجل من غيره من الأنتاجات لأن الأرض تحتوي على جميع أسرار سعادة الإنسان.
والزراعة أولاً وبالذات هي التي تخلق الثروة، أما الصناعة والتجارة وسائر الحرف فكل عملها أن تحول الثروة، وشتان بين الخلق والتحويل ثم إن العمل الزراعي - دون سواه - يعالج المواد من أجل الثروة.
والتعدين والقنص والسماكة كل ذلك تابع للعمل الزراعي ويندرج تحت اسم (استخدام الطبيعة) ولو أمكن استخدام الهواء والسماء لحسبهما الفيزيوقراطيون أيضاً من هذا العمل.
وضع الفيزيوقراطيون لهذه الأعمال جداول، ووضعوا لها قواعدها وشروطها ووسائلها، أما التجارة فإنها لا تزيد من قيمة المنتجات بتحويلها، فقالوا:(إنك حين تنصرف عن المحراث لتكون تاجراً، فإن التجارة لن تجعلك تنتج قمحا) وأما الصناعة فهي كالتجارة تحول ولا تخلق.
ولنا أن نقول هنا إن ما يسميه الفيزيوقراطيون نظرية لا يعدو أن يكون مجرد رغبة أو رأي، حفزهم إليه النزوع الأدبي قبل كل شئ، وليس أدل على ذلك من كتابات (روسو) الأديب السياسي معاً، وقد سارت السياسة والأدب في عصره جنباً إلى جنب.
والنفس بطبيعتها تنزع إلى الطبيعة بما فيها من وداعة واطمئنان بعد الشعور بالمادية الطاغية وعند النفور من لجب المدينة وضوضائها. على أن القول بأن الزراعة تخلق الثروة غير صحيح، لأن الفلاح لا يخلق شيئاً، وإنما هو يحول في المواد إلى التربة والهواء ويؤلف بينها، فهو يستنتج القمح من الماء والبوتاسيوم والسليكون والفوسفات والنتروجين، شأنه في ذلك شأن الصبان يصنع الصابون من المواد الدهنية والبوتاسا. وإذن
لا فضل للزراعة على غيرها من هذا الاعتبار. ولذا لم يتردد (آدم سمث وغيره في اعتبار الصناعة عملاً منتجاً، بل أول عمل منتج، وأكثر من ذلك فإن الخدمات حتى الفنية منها لم يتردد الاقتصاديون في اعتبارها أعمالاً منتجة.
وإذا كان رأيهم في الزراعة - على النحو الذي بينا - يمثل المذهب الاقتصادي لمذهبهم، فثمت مظهر اجتماعي له، يمثله رأيهم في طبات المجتمع، وهو نتيجة محتومة للنظرة الاقتصادية.
فكما أن ما عدا الزراعة - في نظرهم - عمل عقيم، فكذلك كل طبقة ما عدا الزراع طبقة عقيمة. ولما كان الفلاح هو المساعد المباشر للقدرة الإلهية، وممون الأمة جميعها، فهو وحده الذي يستحق أن يندرج في قائمة المنتجين. يقول (ميرابو) في هذا (إن الرجل الذي يجتهد في استخراج محاصيل الأرض هو الرجل الأول في المجتمع، فكيف يستطيع الملك والقواد والوزراء أن يعيشوا من غير الفلاح، وإن كان الفلاح يستطيع أن يعيش بدونهم؟)
كل الطبقات - مهما علت أو سفلت - عالة على الفلاح، وليس الفلاح عالة عليهم، وهذا ما سيقرره فيما بعد أنصار مذهب - مثل (سيس) وأنصار الصناعة مثل (سان سيمون) الذي قرر (أن فرنسا إذا فقدت الملك والوزراء فإنها لا تفقد شيئاً ذا بال، أما إذا فقدت النجارين والنساجين والعمال عامة تعطلت الحياة، وفقدت كل شئ). وهكذا يكون قد تابع (كني) و (ميرابو) على نحو آخر.
ما عدا الزراع في الطبقات عقيم، لأنهم لا يأتون - كالزراع - بإنتاج جديد، إذ العامل والعاطل عندهم سيان، وبذا ظل الفلاحون وحدهم المنتجين بمعنى الكلمة.
أما الملاك فلم يلق الفيزيوقراطيون بهم في سلة الطبقات المهملة لأنهم حين أرادوا النهوض بالزراعة، احتاجوا إلى رؤوس الأموال فوجدوها عند الملاك، وبذلك كان مذهبهم مناهضاً للاشتراكية وهم - إذا حرموا العمال شرف الإنتاج في الطبقات المنتجة - كانوا ضد العمالية
وهم - حين أرادوا التقرب إلى الفلاحين واستغلال منتجاتهم - فتحوا الباب لمنح الامتيازات لهم، بعدم دفع الضرائب، والإقرار بأن الفلاحة من الحرف ذات الامتيازات.
وإذا كان من الواجب على الاقتصادي أن يحقق التضامن الاجتماعي بالقضاة على الفردية
النهمة من جهة، والطائفية الغالبة من جهة أخرى، فإذا بالفيزيوقراطيين - وهم الساعون إلى الحقوق الطبيعية والمنادون بالحرية - يعملون على انحلال اجتماعي خطير، بإقامتهم حواجز وفواصل بين الطبقات لا تعاون بينها ولا تضامن.
تطور المذهب الفيزيوقراطي - شأن كل مذهب - إلى لون سياسي اقتصادي في آن واحد، يناهض الاشتراكية، وتوارثته الأفكار حتى انحدر إلى أتون الثورة الفرنسية، وأجج نيرانها وعارض فلاسفة القانون.
قال (منتسكيو) بالسلطات الثلاث، وألحقها (روسو) بالإرادة العامة، وحقا استنكر الفيزيوقراطيون الحكم الاستبدادي غير أنهم التمسوا العذر لإمبراطور الصين المستبد لأنه في ساعة معينة من السنة يضع المحراث بنفسه بالأرض يحرثها.
ومهما يكن من شئ، فقد كانت هذه الأنظار الفيزيوقراطية إرهاصا بمجهود فكري مجيد، احتمله فلاسفة الإصلاح، وعلى رأسهم (روسو) و (هوبز) و (متتسكيو) وقد أفادوا من المذهب الفيزيوقراطي أصوله السياسية كالحقوق الطبيعية، وأصوله القانونية والاجتماعية كالإرادة العامة، وساروا بها شوطاً بعيداً حتى جاء (دوركيم) زعيم المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة، فعمل على تجريد البحث الاجتماعي من الجانب النفعي، وضم البحث الاقتصادي إلى فروع علم الاجتماع البحت، واكتشاف القوانين الصارمة، ورسم البرامج لذلك كله.
محمد محمود زيتون
خواطر جغرافية
للأستاذ محمد محمد علي
إن اعتماد الناس في ممارسة الحرف على ظروف كثيرة. ظاهرة ملحوظة؛ ففي بعض الأقاليم نجد مجال اختيار الحرف محدوداً وفي أقاليم أخرى نجده كبيراً. وفي أغلب مناطق أمريكا الجنوبية حيث يسكن بقايا من الهنود لا يزالون صيادين، ويضيعون وقتهم في تحقيق رغبات بدائية، وهم لا يستغلون كل موارد الثروة في بلادهم. وواضح أن الفرق عظيم بين هذه الحياة البدائية البسيطة والحياة الحديثة في نيويورك مثلاً. وتتميز هذه الحياة بوجود ترابط بين مختلف الحرف، وهذا الترابط ونمو رغبة الإنسان المتزايدة وقدرته على استغلال الموارد الطبيعية.
كان الناس في الأزمنة الغابرة يعيشون في أراضيهم، ويتبادلون مع جيرانهم بما يزيد عن حاجاتهم، أي كان اعتمادهم على الأرض التي يقطنونها. فيمكن القول بوجه عام أن النشاط التجاري ليس بجديد. فالحضارات القديمة مثل الحضارة المصرية والبابلية في العالم القديم، وحضارة الأزت والمابا والانكا في العالم الجديد، أقامت نظماً في التبادل مختلفة. وبانتقال الحضارات من غرب آسيا إلى البحر المتوسط وشمال غرب أوروبا حدثت تغييرات ملحوظة في النظم الاقتصادية. ولقد كان الفينيقيون والإغريق والقرطاجيون والرومان يتاجرون في العطور والأحجار الكريمة ومنتجات الغابات، ووصلوا إلى الشواطئ الغربية والشمالية للبحر الأسود فضلاً عن قيامهم بدور الوسيط بين تجارة الشرق والغرب. فلما كسدت التجارة القديمة في البحر المتوسط جاء الصليبيون في أوائل العصور الوسطى واشتغلوا بالتجارة، ثم قامت جنوه والبندقية وأصبح لهما أهمية تجارية عظمى، وكانت أساطيلهم تمخر عباب كل أجزاء البحر المتوسط. ومع أن سكان أوربا قد عرفوا كثيراً من المنتجات التي كانت مجهولة لديهم من قبل، فإن التجارة لم تكن نشيطة إذا قورنت بما حدث في عصر الاستكشاف، والانقلاب الصناعي. وفي أوائل القرن الخامس عشر واجهت مجموعات المدن التجارية صعوبات متزايدة في الحصول على منتجات الشرق، إذ أن استيلاء الترك على مصر والقلاقل السياسية سبب ركوداً في التجارة. فولى تجار أوربا وجوههم شطر الأطلنطي لعله يؤدي إلى طريق مضمون لتجارة الشرق. وأول من فعل ذلك
الأسبان والبرتغال ثم الإنجليز والفرنسيون والهنولنديون. وعلى الرغم من الحروب فقد فاضت خزائن الأوربيين بالذهب والفضة. ثم كانت بذور النهضة الصناعية فترك الصناع اليدويين منازلهم إلى المصانع، وبعد أن كانت الريح والمجاري المائية مصدر للطاقة أصبح الفحم هو المصدر ثم الكهرباء. وقد أدى الانقلاب الصناعي إلى التخصص والتركز، وأدت التغيرات التي صحبته إلى زيادة السكان في العالم من 500 مليون نسمة سنة 1700 إلى أكثر من بليونين في الوقت الحاضر. ولا شك أن أساس الزيادة هو التقدم والارتقاء من جراء التبادل والاحتكاك.
اكتشف الإنسان الموارد الطبيعية واستطاع أن يستغلها؛ ولم تتغير فقط نواحي نشاطه بل إن البيئة الطبيعية اعتراها التغيير؛ فمثلاً تستجيب الحياة النباتية والحيوانية لذبذبات المناخ والاختلافات الجوية. ويمكن للإنسان أن يتغلب على الصعوبات الطبيعية، فهو يجفف البرك ويروي الصحارى ويخصب التربة المجدبة، بل ويستنبت النباتات في البيوت الزجاجية ويشق القنوات ويفتح الممرات ويطير في الهواء!. ولئن كان هذا يكشف عن قدرة الإنسان على تغلبه على البيئة فإن من الضروري أن يكيف نفسه مع ظروفها. فالمناطق المدارية والتندرا لا تزال كما هي بالرغم من كل ما أمكن الإنسان أن يفعل. إذ يستحيل استنبات الموز في مناطق التندرا (الصحارى الجليدية) أو رعى الرنة في الغابة الاستوائية. وإذ يعتبر الإسكيمو نفسه سعيد الحظ إذا حصل على غذاء كاف ومأوى دفئ، فإن ساكن المناطق المدارية يكافح ليحمي نفسه من الوحوش الضارية والحشرات المؤذية والحرارة المرتفعة والرطوبة العظمى.
إن قدرة الإنسان على الاستفادة من الموارد الطبيعية في تغير؛ ففي الأيام الخالية كانت المجاري المائية مورد الغذاء لكنها كانت تعوق حركات السكان، ثم أصبحت طرقاً هامة فمصادر للري والطاقة وهناك مثل حي للدور الذي تلعبه البيئة في الاقتصاد؛ فمنذ أقل من قرن كانت اليابان أمة أبناؤها 30 مليون نسمة. كان معظمهم يكفي نفسه بنفسه. واليوم يقطن اليابان الأصلية أكثر من 75 مليون نسمة بالإضافة إلى ثمانية وعشرين في إمبراطوريتها الاستعمارية. باستثناء منشورياً وما أخذ من الصين (وهذا طبعا كان قبل الحرب العالمية العظمى الثانية) ومع أن البيئة المحلية هي كما كانت منذ قرن فإنها مع
تطور التجارة تلعب دوراً خطيراً، لأن اليابان ربطوا اقتصادهم بالبيئة العالمية. وقد استغلوا أنهارهم القصيرة في توليد الكهرباء للصناعات، وهذا مع رخص الأجور وضع أساس النهضة الصناعية. فكان المستورد من الصوف والقطن والمعادن يصنع ويصدر ثانية. كل ذلك جعل من اليابان القوة الوحيدة بالشرق الأقصى.
والجغرافيا الاقتصادية من أهم فروع الجغرافيا، فهي تدرس الحرف المختلفة وتحاول أن تشرح سبب تفوق مناطق خاصة في إنتاج وتصدر مختلف السلع، في حين تتفوق أقاليم أخرى في الاستهلاك والاستيراد. ومن البديهي أن هناك أسبابا طبيعية لنشاط الإنسان في حصوله على حاجياته الرئيسية: الغذاء والكساء والمأوى والوقود. فلن يبحث الصائد عن الدب القطبي في مناطق السفانا المدارية، أو السباع في أقاليم التندرا. ولا تنمو الحبوب في الصحراء المجدبة، إنما يبحث الإنسان عن المياه الضحلة قرب الأرصفة القارية من أجل السمك، وعن حقول الفحم وآبار الزيت وعن الغابات الدفيئة وعن السهول الخصبة المستوية للزراعة. وإذا عرفنا أثر العوامل الطبيعية فلا يمكن أن نتجاهل العوامل البشرية، فالمؤثرات الجنسية والتقاليد الموروثة تؤثر في مختلف نواحي نشاط الإنسان، فالمواهب الفنية للفرنسي، وصبر العامل الصيني، وعادات الفراغ في أمريكا اللاتينية. . هي تؤثر في الزراعة والصناعة والتجارة، ولا يمكن أن تكون أقل أهمية من العوامل الطبيعية.
إذن يمكن القول بوحه عام إن الصلة بين عوامل البيئة الطبيعية والأحوال الاقتصادية من جهة، وبين الحرف المنتجة وتوزيع إنتاجها من جهة أخرى، هذه الصلة هي موضوع دراسة الجغرافيا الاقتصادية. ثم إن الناس اليوم في كل مكان لا يتأثرون ببيئاتهم المحلية فحسب بل يتأثرون أيضاً بالبيئات الأخرى وبالأحوال الاقتصادية في شتى بقاع العالم.
محمد محمد علي
شعر القرن التاسع عشر بين التجديد والتقليد
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
بقية ما نشر في العدد القادم
لقد كان هؤلاء الشعراء مقلدين لمن سبقوهم من ضعاف الشعراء في عصور الانحطاط، بعد أن فترت همتهم عن التحليق في سماء التجديد وذابت شخصياتهم، فلم يعد لهم قدرة على الخلق والابتكار، بل وضعوا أنفسهم في مقام التابعين للضعفاء، والمرء حيث يضع نفسه. وليس أدل على التقليد وفتور القريحة، من اتخاذ شعر الأقدمين مجالاً للتشطير والتخميس وما شابه ذلك فاستمع إلى حسين بيهم المتوفى سنة 1881 يقول:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
…
وحباكها من فضله الرحمن
نادك طائر يمنها وسعودها
…
نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبالة
…
وأملك بها الغبراء فهي سنان
وأصعد بها العلياء فهي معارج
…
واقتد بها الجوزاء فهي عنان
والشاعر في مثل هذا متقيد بمنهج غيره، ملزم بإحساس شاعر آخر مجار له فيما يقول، فهو يضع شطراً مقابل شطر، فأين في مثل هذا تصوير العاطفة والإحساس.
وقد يلجأ الشاعر إلى طريقة أخرى؛ فهو يقلد من سبقه في معانيه ووزنه وقافيته، ولا يزال يلح في التقليد حتى ينقل إليك من كلام السابقين ما حلا له، ومن ذلك قول (فارس الشدياق) فيما سماه (دمعة على طفل)
الدمع بعدك ما ذكرتك جاري
…
والذكر ما وراك ترب وار
يا راحلا عن مهجة غادرتها
…
تصلي من الحسرات كل أوار
خطأ وهمت فأين بعدك مهجتي
…
ما في حشاي سوى لهيب النار
رمقا أقل الجسم مني فادحا
…
فكأنه وقر من الأوقار
ما بعد فقدك رائعي أو رائقي
…
شيء من الظلمات والأنوار
أبني ما يجدي التصبر أقوله:
…
حكم المنية في البرية جار
كلا ولا بي قر بعدك من حمى
…
ما هذه الدنيا بدار قرار
وهكذا يمضي الشاعر مقلداً مرة وناقلاً مرة أخرى إلى آخر القصيدة. ومن التأثر بشعر
الأقدمين قول السيد علي الدرويش يذم بلدة منفلوط وكان قد زارها فلم يلاق فيها ترحيباً ولا براً:
وردنا منفلوط فلا سقاها
…
وردناها فأظمأنا الورود
فمالي قد بعثت لقوم عاد
…
كأني صالح وهم ثمود
أراهم ينظرون إلى شزرا
…
كعيسى حين تنظره اليهود
ومن الألوان التي أسرفوا فيها، وبعدوا فيها عن منهاج الشعر الصحيح ما سموه (بالتاريخ الشعري) ومن أمثلة هذا قول أحدهم يؤرخ تولي الخليفة للخلافة:
تولى التخت سلطان البرايا
…
وأيده الإله بمرتقاه
فصاح الكون لمل أرخوه
…
نظام الملك (محمود) بهاه
فتأمل كيف يضيع الشاعر وقته، وينفق مجهوده في وضع حرف مكان حرف، وكلمة مكان أخرى حتى يخرج مجموع الحروف في قوله:(نظام الملك محمود بهاه)(1223) وأية ناحية من نواحي الجمال في مثل هذين البيتين.
وراح الشعراء لنضوب الأذهان من المعاني الجليلة يطرزون اللفظ والمعنى بشتى ألوان المحسنات، فكان بعضهم يوفق في اصطياد المحسنات فتأتي سهلة لا يشق وقعها على السمع، ولا تنبو على الذوق. من مثل الاقتباس في قول البرير حينما هجاً تاجراً سها عن الآخرة:
يا تاجرا لا يزال يرجو
…
ربحا ويخشى الخسارة
عبادة الله كل حين
…
خير من اللهو والتجارة
وكان يخطئهم التوفيق أحياناً فيسمجون. فتأمل قول الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاوي في وصف دار للجبرتي:
سما في سماء الكون فأنتهج العلا
…
برفعته وازداد سرا سروره
ومن مجد بانيه تزايد بهجة
…
وقلد من دار المعالي نحوره
ودام بعد سعد المعالي مؤرخا
…
حمى العز بالمولى الجبرتي نوره
وقول علي الدرويش في وصف قصر أيضاً:
وقصر كالسماء به نجوم
…
مطالعه السعادة والبدور
على أقطاره تبكي عيون
…
إذا ابتسمت لوارده زهور
فليس بوافد وافاه نهر
…
وقد نضدت لمدحه البحور
لئن أضحى لمبناه متون
…
فقد شرحت لرونقه الصدور
ولقد كان هؤلاء الشعراء أنفسهم ومن في طبقتهم إذا تجاوزوا هذه الموضوعات إلى موضوعات أخرى فيها حديث النفس وتصوير العواطف؛ أصابوا بعض التوفيق فتأمل قول السيد عمر اليافي وكان من المتصوفين:
أنا بالله اعتصامي
…
لا أرى في ذاك شكا
موقنا أن لا سواه
…
كاشف ضرا وضتكا
راجيا فيه نوالا
…
ورشادا ليس يحكى
لم أزل لله عبدا
…
وبهذا أتزكى
ولعلك واجد في هذه الأبيات طبعاً وانسجاماً وسهولة لا تحسها في الأشعار السابقة.
ولا بأس من أن نعرض هنا صوراً من استجابة هؤلاء الشعراء إلى عواطفهم؛ في موضوعات الفكاهة والدعاية ووصف الطبيعة وشكوى الزمان، ففيها على أي حال طلاقة وإحساس، وقوة ملامح الشاعر التي تميزه عن غيره من الشعراء. ونحن لا ننكر أننا سنجد في هذا كله سذاجة في بعض المعاني، وسنقع على بعض الضعف في الأسلوب، ولكننا مع هذا سنستجيب لاحساس الشاعر وسنقبل عليه متأثرين بكثير مما قال - وتتضح لنا شخصيته التي كانت تختفي في الأغراض السابقة وراء حجب كثيفة من التقليد. ستتضح لنا بين الحين والحين ويختفي ضعفه وفتوره، كما تختفي علة المريض أحياناً في ومضات من عودة الصحة وسلامة العافية. قال الشيخ صالح التميمي ينعى على أرض أقام فيها فلم يطب له فيها المقام:
ما إن تحركت الغصون بأرضها
…
إلا تحرك في الحسوم أذاها
أشجارها خضر وأوجه أهلها
…
صفر محا كسف السقام بهاها
لولا قضاء الله حتم واجب
…
أبت المروءة أن أدوس ثراها
وقال أحدهم يشكو الدهر:
رمت قلبي رمال الدهر حتى
…
رأيت دمي يسيل من العيون
فلو كان الزمان يصاغ جسما
…
لكنت أذيقه كأس المنون
وقال الشيخ يحيى المروزي العمادي العراقي:
على ثياب لو يباع جميعها
…
بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تباع بمثلها
…
نفوس الورى كانت أعز وأكبر
ومن ذلك قول الحاج عمر الأنسي البيروتي المولود سنة 1822 في وصف ثقيل اشتكى من كثرة الذنوب:
شكا ثقل الذنوب لنا ثقيل
…
فقلت له استمع لبديع قيلى
ثلاث بالتناسب فيك خصت
…
فلم توجد بغيرك من مثيل
ذنوبك مثل روحك ضمن جسم
…
ثقيل في ثقيل في ثقيل
ولعلك تدرك شيئا من ضعف الأسلوب في هذه الأبيات.
وفي الأبيات التي سنعرضها عليك فيما يلي، خفة روح، وتصوير فكه وهي لنيقولا الترك يتحدث عن سرواله وعمامته.
وسروال شكا عتقا وأمسى
…
يراودني العتاق فما عتقت
وكم قد قال لي: بالله قلني
…
وهبني وكنت عبدا وانطلقت
أما تدري بأني صرت هرما
…
وزاد علي أني قد فتقت
فدعني حيث قل النفع مني
…
وعاد من المحال ولو رتقت
ولا تعبأ بتقليبي لأني
…
بممر أبيك نوح قد لحقت
ولم يبرح يجدد كل يوم
…
على النعي حتى قد قلقت
وقلت له: عتقت اليوم مني
…
لأني في سواك قد اعتلقت
فأشعرت العمامة في مقالي
…
له فاستحسنت ما قد نطقت
فراحت وهي تشدو فوق رأسي
…
لي البشرى إذا وأنا عتقت
نعم في هذه الأبيات مرح وإحساس، ولكن فيها بجانب ذلك
عسراً في القافية، واضطراباً في الأسلوب؛ لأن الصياغة لم
تسلس بعد للشاعر، ولم يمرن على الأسلوب السهل الرصين.
ومن أمثلة وصف الطبيعة الجميل في هذا العهد - وإن تعمد
فيه الشاعر المحسنات - قول أمين بن خالد الجندي:
يا حبذا الربوة من دمشق
…
بالفضل حازت قصبات السبق
كم أطلعت بها يد الربيع
…
من كل معنى زائد بديع
وفتح الورد الكفوف إذ دعا
…
داعي الصباح للها ورجعا
وفككت أنامل النسيم
…
أزرار زهر الرند والشميم
وسقطت خواتم الأزهار
…
من فتن الأغصان كالدرارى
والتف سيف البرق في أوراق
…
مذ شام خيل الريح في سباق
ما بكت السماء بالغمام
…
إلا وصار الزهر في ابتسام
ونحن إذا ما تتبعنا الشعر خلال هذا القرن، وبخاصة بعد أن انقضى عهد منه؛ لحظنا فيه بدوراً من بوادر النهضة توشك أن تظهر في وضوح وجلاء مع توالي الأيام. فما الذي أحدث هذا يا ترى؟! وما البواعث التي جعلت الشعراء يعزفون عن التقليد شيئاً فشيئاً، ويقبلون على ألوان جديدة من الشعر، توشك أن تحمل مميزات الشعر وصفات التجديد؟
نحن لا نشك في أن العلم الذي قطرته البعثات، ومهدته الترجمة قد وجد طريقه إلى الشعر ففرزت معانيه، ودقت ورقت أخيلته، وسمت وتعددت آفاقه، فخاض في ألوان جديدة، وطرق معاني لم يكن يطرقها من قبل. وعندئذ التفت الشعراء إلى ثقافة الماضي فوجدوها آلية، قد تقيم اللسان، ولكنها لا تقدر على البيان، وقد تدرب على الصرف والعروض، ولكنها لا تجلو لعيني الشاعر أسرار الحياة، ولا تمده بالخيال الخصيب والمعاني البديعة، ولهذا عابوا على النحو والنحويين، وانتقدوا العروض والعروضيين. فاستمع إلى الشيخ الأسير يعيب على شعراء اللفظ:
خليلي كم قد جاء في الناس شاعر
…
وليس له بيت من الشعر عامر
واستمع إلى إلياس صالح وهو يتهكم على المبالغة في النحو:
ماذا الذي يهمني
…
إن قام زيد أو قعد؟
أو إن ذهبت ماشيا
…
أو راكبا نحو البلد؟
أو كان زيد مبتدا
…
أو فاعلا سد المسد؟
أو إن يكن ذا الاسم يب
…
ني أو يكن هذا يهد!
تصالح الفعلان أو
…
تنازعا طول الأبد
في النحو لا تقهرني
…
إلا تفاصيل العدد
وأفضل التفضيل كم
…
قد شذ فيه وشرد
وغير هذى عقد
…
تبا لها تيك العقد
ترى بها قواعدا
…
بدون معنى وزبد
مختومة جميعها
…
يقس عله ما ورد
وهذا ولا شك إعلان للحرب على القديم، حيث كان الناس يعدون من لا يبالغ في دراسة النحو والصرف والعروض لا يحق له أن يغامر في ميدان الشعر. وقد آمن الكثير من الأدباء ومنهم الأستاذ العقاد والدكتور هيكل باشا بأن أول من جمع بين الطريقتين ولفق بين الاتجاهين الساعاتي الشاعر؛ فقد كان وسطاً بين الناسجين على طريقة القدامى، والناقدين لمذاهبهم في المبالغة لدراسة النحو والعروض فهو القائل:
فدعني من قول النحاة فإنهم
…
تعدوا لصرف النطق من غير لازم
إذا أنا أحكمت المعاني خفضتهم
…
وأرفعها قهرا بقوة جازم
وما أنا إلا شاعر ذو طبيعة
…
ولست بسارق كبعض الأعاجم
ومن بواعث التجديد في النصف الثاني من هذا القرن، أن الناس قد استروحوا شيئاً من نسيم الحرية الشخصية، بعد أن كمت الأفواه وغللت الأقلام قروناً طوالاً، فوجد الشعراء في خلال هذه الحرية منفذاً إلى تصوير العواطف والانطلاق على السجية؛ فعبروا عن النفس في انقباضها وبسطها، وهتفوا بالمعاني الكريمة التي تصور المآرب والآمال. وأنا أعني بهذه الحرية ما عناه الشاعر وترجمه المنفلوطي حيث قال: (أريد أن أعيش حراً طليقاً أضحك كما أشاء، وأبكي كما أريد، واحتفظ بنظري سليماً، وصوتي رناناً، وخطواتي منتظمة، ورأسي مرفوعاً، وقولي صريحاً، أنظم الشعر في الساعة التي أختارها، وفي الشأن الذي أريده، فإن أعجبني ما ورد منه فذاك، وإلا تركته غير آسف عليه، وأخذت في نظم غيره، بدلاً من أتوسل إلى الطابعين أن ينشروه، والأدباء أن يقرظوه، والممثلين أن
يمثلوه، والعظماء أن ينوهوا به، ويرفعوا من شأنه.
أريد أن أعيش حراً طليقاً أناضل من أشاء، وأجادل من أشاء، وأنتقد من أشاء، وأن أقول كلمتي الخير والشر للأخيار والأشرار في وجوههم، لا متملقاً أولئك، ولا خاشياً هؤلاء. .)
وقد يكون مصدر هذه الحرية الشخصية التي أدركها الناس فيما يقولون وما يدركون؛ راجعاً إلى الحرية السياسية التي أصاب الناس بصيصاً منها على يد الحكام، بعد أن انتقصها السابقون وجار عليها السادة الغابرون، فقد عرف إسماعيل باشا أنه مسئول عن رقي الأمة المصرية، فعمل على إحياء ما يبعث الأمل في قلوبهم ويقوي الرغبة في نفوسهم، فمنحهم بعض الحقوق الدستورية، وقد حدث ما يشبه هذا في الشام والعراق، على يد مدحت حينما طالب الناس بالدستور، ولكن ذلك كله لم يطل أمره، فقد تغيرت الأحوال وتبدلت الشئون.
وقد يكون مصدر هذه الحرية العلم الذي انتشر وذاع وتملأه الناس: فالعالم أحرص الناس على كرامة نفسه، والاعتزاز بمكانتها، ولهذا أنف الشعراء بعد هذا أن تسد في وجوههم طرق الصراحة والتماس الحق، والتغني بالجمال حيث كان.
وقد ساعد على نمو هذه الحرية، رخاء العيش في ذلك الزمان كما أدركوا إعجاباً وتشجيعاً من الجمهور، فطبعوا ما أنتجته قرائحهم، ووجدوا من يقدر هذا الإنتاج، ويقبل عليه، فحصلوا على المال دون إراقة لماء الوجوه.
ومن أسباب رقي الشعر في هذا العهد، أن الناس قد شعروا بشيء من الكرامة والعزة، فانتبهوا إلى ماضيهم المجيد يقلبون صفحاته، وينقبون عن صفاته، فوجدوا الفخر كل الفخر في مجد آبائهم العرب، فالتمسوه في أخبارهم وأشعارهم وكتبهم؛ وساعدهم على هذا الاتجاه المطبعة التي صارت تقذف إليهم كل يوم بذخائر المسابقين وكنوزهم - فعلموا بعد هذا - أنهم أضاعوا المجد وعبثوا بالتراث، وأنه من الخير لهم أن يقووا أنفسهم عن طريق التعصب للقومية العربية، فهي خير القوميات وأكرمها، فكان هذا التعصب من أسباب قوة الشعر ونهضته وما هتف هاتف قبل الشيخ إبراهيم اليازجي بمثل قوله:
وما العرب الكرام سوى نصال
…
لها في أجفن العليا مقام
لعمرك نحن مصدر كل فضل
…
وعن آثارنا أخذ الأنام
ونحن أولو المآثر من قديم
…
وإن جحدت مآثرنا اللئام
فقد علم العراق لنا قديما
…
أيادا ليس تنكرها الشام
وفي أرض الحجاز لنا فيوض
…
يسيل لها إلى اليمن انسجام
وفوق الأندلوس لنا بنود
…
لهامات النجوم بها اعتصام
وسل في الغرب عن آثار فخر
…
لها في جبهة الزمن ارتسام
ولسنا القانعين بذكر هذا
…
وليس لنا بعروته اعتصام
ولكنا سنجري في المعالي
…
إلى أن يستقيم لها قوام
والالتفات إلى مجد العرب لفتهم إلى مجد قومي آخر يتصل بالماضي القديم، وكان هذا أكثر ظهوراً في مصر؛ لما لها من مجد عريق، فها هوذا السيد الدرويش يحاول أن يتحدث عن الهرمين وخلودهما ولكن الأسلوب لا يسعفه فيقول:
أنظر إلى الهرمين واعلم أنني
…
فيما أراه منهما مبهوت
رسخا على صدر الزمان وقبله
…
لم ينهضا حتى الزمان يموت
وها هوذا الشيخ نجيب الحداد يتحدث عن مجد مصر فيقول:
أرض إذا لم يعل في أرجائها
…
علم فإن كرامها أعلام
لبست من المجد التليد مطارفا
…
ولها من المجد الطريف وسام
وتعانقت والفخر من قدم كما
…
قد عانقت ألف الكتابة لام
مجد به هرم الزمان ولم يزل
…
غضا وقد شهدت به الأهرام
ومن حقك الآن أن تسأل: إذا صح أن الالتفات إلى القومية والاعتزاز بالكرامة، قد جعلا الشاعر يخوض في أغراض غير التي ألفها الشعراء من قبل، ويتناول من المعاني ما غاب عن السابقين، وند عن الغابرين، فكيف نفسر قوة الأسلوب الطارئة، والعزوف عن المحسنات البديعية التي فتنت الناس عهوداً طوالا!؟ وأنا أجيب بأن الاتجاه إلى الأمور الجدية يصرف المرء دائما عن الصغائر، ويبعده عن العبث الذي لا طائل تحته، فما قيمة مراعاة الجناس والطباق والتورية فيما يتطلبه صاحب الهمة من الإصلاح، وما قيمة مراعاة النظير وحسن التعليل لراغب في تصوير عواطفه والانبعاث على سجيته. لقد كبرت آمال الشعراء ونفوسهم فترفعوا عن كل صغير تافه، والتمسوا تحقيق المآرب من أقرب المسالك فأزالوا ما يعترضهم من عقبات، وألبسوا معانيهم الأسلوب السهل الجميل، وهو لا يحملهم
عناء، ولا يصرف وقتهم في التماس الزينة، واصطياد الزخارف. على أنهم وجدوا طلبتهم فيما بعثت به المطبعة من أشعار الفطاحل في عصور العربية الزاهرة: فقد وجدوا جريراً والفرزدق والأخطل والكميت وقطري بن الفجاءة وإضرابهم إذا ما عالجوا الشعر، دفعوا إلى المعاني في أسلوب قوي رصين لا يشوه من جماله، ولا يحد من بلاغته تلك الزخارف الكثيرة التي مسخت طبيعته بعدهم نحو ألف من الزمان، وحالت دون تحليقه في كل سماء، واندفاعه إلى كل غاية
وبعد فإنه لا يختلف اثنان في أن البارودي بما انتج من شعر رصين كان بداية عهد جديد للشعر حط عنه قيوده وأغلاله، وبعث فيه الحياة فجال في كل فن، واستبق إلى كل غاية، فلم يقصر دون اللحاق بالفحول السابقين، ولم يدركه ما أدرك شعراء زمانه من فتور القريحة وركود الذهن.
بل لا يختلف اثنان، في أنه أول شاعر أحس قيمة الشعر وقيمة النفس؛ فترفع بهما عن سفساف المطالب، وزري المقال وتغنى كما يتغنى صادح الأيك على سجيته: فبكى وابتهج واشتكى وافتخر وعاتب وحن إلى الديار، وصور الجمال ولم يمدح إلا عن يقين، أو لرد جميل سلفت أياديه عليه؛ فكان بهذا نسيج وحده في القرن التاسع عشر. وإن لم يطلب بشعره كل ما نريده من الشعر في وقتنا الحاضر، ويكفيه أنه رائد الركب إلى الغايات الكريمة، ولا نذكر هنا من شعره المثل أو المثالين؛ إلا لنعرض في هذا المقام لوناً جديداً من شعر جديد، لم يشنف الأذن في الكلمة شبهه، ولم يطرق القلب نظيره، والحق أن كل شعره فاتن خلاب، يحمل المتخير على الحيرة فيما يأخذ وما يدع
ومن الأمثلة التي تدل على تيقظه السياسي قوله يخاطب الخديو:
سن المشورة وهي أكرم خطة
…
يجري عليها كل راع مرشد
فمن استعان بها تأيد ملكه
…
ومن استهان بأمرها لم يرشد
أمران ما اجتمعا لقائد أمة
…
إلا جنى بهما ثمار السؤدد
جمع يكون الأمر فيما بينهم
…
شورى وجند للعدو بمرصد
فالسيف لا يمضي بدون روية
…
والرأي لا يمضي بغير مهند
ومن قوله من قصيدة يتشوق إلى وطنه:
هل من طبيب لداء الحب أوراقي
…
يشفى غليلا أخا حزن وإبراق؟!
قد كان أبقى الهوى من مهجتي رمقا
…
حتى جرى البين فاستولى على الباقي
حزن براني وأشواق رعت كبدي
…
يا ويح نفسي من حزن وأشواق
أكلف النفس صبرا وهي جازعة
…
والصبر في الحب أعيا كل مشتاق
لا في سر نديب لي خل ألوذ به
…
ولا أنيس سوى همي وإطراقي
أبيت أرعى نجوم الليل مرتفقا
…
في قنة عز مرقاها على الراقي
بهذا الروح القوي، والأسلوب الجزل الرصين، يمضي شاعر القرن التاسع عشر في قصائده؛ فلا تحس قلقاً ولا ترى ضعفاً، ومن الحديث المعاد أن نطيل في إطرائه والثناء على مكانته، ولكنا لا ننسى على أي حال أنه كان كثير التقليد لفحول النابغين. وآمل أن أوفق - أو يوفق غيري - إلى إيضاح التقليد والتجديد والتجديد في الشعر الحديث من لدن البارودي إلى وقتنا الحاضر، لندرك ما أصابه من القوة، وما بعد به عن الغاية المرجوة. والله وحده المسئول أن يأخذ بيد الشعر إلى أقوم طريق.
(واد مدني)
أحمد أبو بكر إبراهيم
المدرس الأول بحنتوب
أستاذ جامعي يتبنى تحريف وراق
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان الشيخ فرج الله زكي الكردي طالب علم بالأزهر، وقد بدا له أن يجمع إلى هذا الاشتغال بطبع الكتب الأزهرية ونشرها فابتدع في ذلك بدعة جديدة: أن يجمع في نسخة واحدة عددا من الشروح والحواشي الموضوعة على المتن الأزهري، ليسهل على الأزهريين الإلمام بجميع المماحكات اللفظية في تلك الشروح والحواشي، ويزيدوا في هذا على من سبقهم في عصر المطبعة وانتشار الكتب، وسهولة اقتنائها على طلاب العلم
وقد بدا له في سنة 1317 هـ - 1899 م أن يفعل هذا في متن التلخيص، فجمع في نسخة واحدة عدداً من شروحه وحواشيه، وهو الذي يعرف في البيئة الأزهرية بشروح التلخيص فوضع في صلبها شرح المختصر على متن التلخيص للسعد التفتازاني، ومواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح لأبن يعقوب، وعروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح لبهاء الدين السبكي، وهي على هذا الترتيب في الصلب، ثم وضع بالهامش الإيضاح لتلخيص المفتاح، وهو لصاحب متن التلخيص، وقد جعله في أعلى الهامش ووضع حاشية الدسوقي على شرح السعد التفتازاني في أسفله، وقد ميز بين هذه الشروح والحواشي بفواصل أفقية، وعنى رحمه تعالى بتصحيح هذه المجموعة، وبوضع هذه الفواصل في كل صفحة منها، في الطبعة الأولى، واختار لها المطبعة الأميرية ببولاق زيادة في الاعتناء
فلما نفدت هذه الطبعة من هذه المجموعة أعيد طبعها بعد هذا في مطبعة السعادة الموجودة بجوار محافظة القاهرة، ولكن الطبعة الجديدة لم تكن جيدة التصحيح كالطبعة الأولى، فوقع بعض التحريفات فيها ونسى وضع الفواصل الأفقية بين شروحها وحواشيها في بعض صفحاتها، وكان هذا سبباً في التحريف الذي وقع في كتاب الإيضاح، وفيما له من هذه القصة الظريفة التي يتبنى فيها أستاذ جامعي ذلك التحريف، فقد قررت دار العلوم وكلية الآداب وكلية اللغة العربية دراسة كتاب للإيضاح في علم البلاغة، فرأى حضرة محمد صبيح أفه دي أن يقوم بطبعه منفصلاً عن تلك المجموعة، لأن تلك المعاهد تريد دراسته وحده، وتريد أن تبعد طلابها عن شروح التلخيص وحواشيه، ليتخلصوا في دراستهم العالية للبلاغة عن مماحكاتها اللفظية، ويتربى فيهم شيء من الذوق والنقد البلاغي يعلو على هذه
المماحكات، وهذا الوراق الفاضل من أشهر المشتغلين بنشر الكتب في مصر لكنه يتساهل أحياناً فيختار لتصحيح ما ينشره من غير ذوي الدراية في التصحيح. فلما قام بطبع كتاب الإيضاح اعتمد مصححه على النسخة الموجودة بأعلى هامش تلك المجموعة في طبعة مطبعة السعادة، فلم يرجع في ذلك إلى نسخة خطية من الايضاج، ولم يرجع إلى الطبعة الأولى لتلك المجموعة، فلما وصل إلى آخر الكلام على وصف المسند إليه من الإيضاح لم يجد فاصلاً أفقياً بين الإيضاح وحاشية الدسوقي، وكان ما تحت الإيضاح من هذه الحاشية في تلك الصفحة تتمة لتعليقة في الصفحة السابقة على شرح السعد فأضافها ذلك المصحح إلى كتاب الإيضاح، مع أن سياقه ينبو عنها ومع أنها تتصل بكلام في شرح السعد، فلا تكون إلا من الحاشية الموضوعة عليه، وقد تمت هذه الطبعة من الإيضاح سنة 1342 هـ - 1923 م، وتناولها الطلاب والمدرسون فأثار هذا التحريف من المشاكل بينهم ما أثار، حتى إني رأيت واحداً منهم يرجع إلى نسخة خطية من الإيضاح في دار الكتب الملكية فلا يجد فيها هذه الزيادة الموجودة في الإيضاح المطبوع، فيضع عليها تعليقاً بخطه مرجحاً فيه أن الزيادة التي في طبعة محمد صبيح أفندي من حاشية الدسوقي.
ولما كانت 1353 هـ - 1935 م قمت بوضع شرح على الإيضاح، وكان بين يدي من نسخة طبعة الكردي الأولى في أعلى هامش مجموعته، وطبعة صبيح أفندي، فلما وصلت إلى التحريف علمت أمره، وحذفته من الإيضاح في شرحي عليه، وتوالي طبعه ثلاث مرات وأنا أحذف منه هذه الزيادة في ذلك الموضع، وقد أعاد صبيح أفندي طبع الإيضاح بعد أن نفدت طبعته الأولى، فاعتمد على نسختي، وحذف منه تلك الزيادة في موضعها، إلى تحريفات كثيرة كانت في طبعته الأولى.
وأخيراً قام بعض مدرسي كلية اللغة العربية في هذا العام بوضع شرح على الإيضاح، فلما وصل إلى ذلك الموضع منه وقع أيضاً في ذلك التحريف، وهنا موضع الطرافة في هذه القصة، لأن صاحب هذا التحريف وهو صبيح أفندي رجل وراق، وليس مدرساً في كلية، فلم ير شيئاً في أن يقع في ذلك الخطأ، ولا في أن يرجع عنه بسهولة، فيصححه في طبعته الجديدة، أما مقلده في ذلك التحريف فأستاذ مدرس في كلية، لا في معهد ابتدائي أو ثانوي، فلا يصح أن يسجل على نفسه مثل ذلك الخطأ، ولا يصح أن يرجع عنه بالسهولة التي
رجع بها ذلك الوراق، بل يجب أن يتبناه لنفسه، وأن يدافع عنه بما يليق بأستاذ جامعي.
والحقيقة أني استكثرت في أول الأمر مثل هذا على ذلك الأستاذ، واعتراني الشك في خلو نسختي من هذه الزيادة التي تبلغ نحو سبعة أسطر، وكنت قد نسيت بطول الزمن وقوع ذلك في طبعة صبيح أفندي القديمة، فأعدت بحث ذلك من الناحية العلمية، فوجدت سياق حاشية الدسوقي يحتم أنها منها. ولم اكتف بهذا بل أخذت أبحث في نسخة أخرى من شروح التلخيص غير نسختي، فوجدت تلك النسخة التي لم تضع فاصلاً في ذلك الموضع بين الإيضاح وحاشية الدسوقي بمكتبة كلية اللغة العربية. ووجدت بعض من طالعها قام بوضع ذلك الفاصل في موضعه، فعلمت من أين وقع ذلك الأستاذ في ذلك التحريف، ونبهت على ذلك في كتابي - دراسة كتاب في البلاغة - ولكن فاتني أن أرجع أيضاً إلى طبعة صبيح أفندي القديمة، لتنتقل القصة من هذه الطرافة إلى طرافة أعجب منها، ويعلم من بقى من زمننا القديم كيف يكون الإصرار على الخطأ في هذا الزمن الجديد.
فكان نسياني وقوع ذلك التحريف في طبعة صبيح القديمة فرصة سانحة لذلك الأستاذ، ولا يصح أن يترك انتهازها وهو مدرس في كلية، فطلب مني أن أطلع على تلك الزيادة فيها في ذلك الموضع، وإن كان قد جعله في باب التعريف باللام لا في باب الوصف، ولكنه يعرف أن طبعة صبيح ليست حجة في ذلك ولا سيما بعد رجوعه عنه في طبعته الجديدة، فلا بد أن يضيف إلى ذلك نسخة خطية للإيضاح في دار الكتب الملكية، من غير أن يعين رقمها، وهو ممن يعنى بتعيين أرقام المراجع، لأنه يعرف غفلة الناس في هذا الزمن، وسرعة تصديقهم لكل دعوى حتى صار العلم بيننا غريباً ذليلاً لا يجد من يغار عليه، أو يهمه تحقيق مثل هذا فيه، ولكن كان على الأستاذ أن يعرف مع هذا أنه لا يزال في الناس من لم يصل في الغفلة إلى ذلك الحد. ومن يبعث الشك في نفسه عدم تعيين رقم تلك النسخة الخطية للإيضاح في دار الكتب الملكية، إذا لم يأخذ منه بيقين أنه لا يوجد فيها تلك النسخة.
وقد رجعت فعلاً إلى نسخ الإيضاح الخطية بدار الكتب الملكية، فلم أجد ذلك التحريف الذي أدعى وجوده فيها ذلك الأستاذ، ولا يمكن أن توجد نسخة خطية للإيضاح فيها ذلك التحريف، لأن مصدره معروف وهو طبعة صبيح القديمة، وسبب وقوعه فيها معروف
وهو عدم وجود ذلك الفاصل بين الإيضاح وحاشية الدسوقي في نسخة مطبعة السعادة من شروح التلخيص.
ولينظر بعد هذا صديقي الأستاذ عباس خضر في كتابي - دراسة كتاب في البلاغة - فسيجد بين ما فيه من مماحكات لفظية كنت مضطراً إليها كثيراً من مثل تلك القصة الطريفة وسيجد فيه مجالاً لدعاباته العلمية البريئة، كما يجد أن معركة القزويني لا تخلو من فوائد، أقلها حمل بعض الناس على التدقيق في التأليف وتصحيح الكتب وإن كان لها مضار بين الطلاب من جهة ما وقع فيها من الإسفاف، ولو كنت متصلاً بالرسالة في ذلك الوقت لدار فيها ذلك النقد فمضت المعركة القزوينية بريئة بفضل حكمة صاحبها، وضنه بصفحاتها على غير النقد البريء.
عبد المتعال الصعيدي
معركة القزويني في الأزهر
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
نشر الأستاذ الكاتب الموهوب عباس خضر رأيه في هذه المعركة؛ وقد تفضل أستاذنا الجليل فضيلة الشيخ عبد المتعال الصعيدي، فنشر في الرسالة تعقيبا على كلمته. ويبدو أن أستاذنا الجليل يريد أن ينقل المعركة إلى ميدان الرسالة الغراء، إذ بدأ فنشر واتهم. وإني إنصافاً للحقيقة أضع أمام القراء الحقائق الآتية:
1 -
ليس شرح الأستاذ الصعيدي للإيضاح مقرراً في الكلية، ولا شرحي أيضاً.
2 -
لكثير من كبار الأساتذة في كلية اللغة كتب متعددة في علم واحد ومقرر سنة واحدة، فلم يؤد ذلك إلى أن يهاجم السابق اللاحق ولا العكس؛ بل إني أثنيت في شرحي على الأستاذ الصعيدي ومجهوده في شرح الإيضاح.
3 -
وأساتذتنا في الكلية يحرصون على إباحة حرية البحث والتأليف لطلبتهم، فكيف يحجر أستاذ على زميله أن يؤلف في البلاغة لأن له كتاباً فيها؟
4 -
وعندما ظهر الجزء الأول من شرحي بدأني الأستاذ الجليل بالخصومة، وطاف على الطلبة في الفصول ينبههم إلى أن كتابه هو المعتمد للدراسة وكتابي مملوء بالأخطاء ثم نشر بياناً للطلبة سماه (تنوير لطلبة كلية اللغة) يندد فيه بأخطاء مزعومة في الجزء الأول من شرحي.
5 -
وقال له كثير من الأساتذة: أنه يهتم في نقده مهما كان، لأن هذا النقد لا يحمل على شيء أكثر من أنه دفاع عن كتاب.
6 -
ورأى أنه لا يصح أن يلحق بغباره أحد، لأن له عشرين مؤلفاً. والطريف أن أحد الأساتذة الإجلاء ذكر له أن هذا ليس موضعاً للفخر، لأن الذي بنقده - خفاجي - أكثر من عشرين كتاباً بعضها مراجع ومصادر، مع أنه أستاذ ناشئ.
7 -
وليت شعري بعد ذلك كله كيف انقلبت هذه المعركة العلمية إلى خصومة شخصية عند أستاذنا الجليل الشيخ الصعيدي، فامتنع عن مصافحتي كلما مددت له يداً، بل امتنع عن رد السلام كلما ألقيت عليه السلام؛ ونشرت بحثاً في الرسالة عنوانه:(موازنة أدبية) فنشر رداً عليه باسم مستعار لطالب زعم أنه من كلية الآداب؛ ونشر أخيراً كتاباً مطولاً سماه (دراسة
لكتاب في البلاغة)، ظن أنه بهذا الكتاب يهدم زميلاً له، فكان حجة عليه لا له.
8 -
وإني أعيذ القارئ من أن أطيل عليه، وأكتفي ببعض ملاحظات صغيرة أنشرها توضيحاً لمذهب أستاذنا الجليل في إصلاح البلاغة:
ا - ذكر أستاذنا الجليل الجاحظ في شرحه، فعرفه بأنه عمود بن بحر الأصفهاني!! ونسب فيه بيت حافظ المشهور:(الأم مدرسة إذا أعددتها) لشوقي؛ ورأى أن جميع الآراء والمذاهب البلاغية مماحكات لفظية ساقطة؛ وأن الخلاف بين عبد القاهر والسكاكي في التقديم والتأخير مثلا جدل ممل، إذ ليس بينهما نزاع حقيقي في التقديم وإفادته التخصيص أو التقوى؛ وعبد القاهر عند أستاذنا الجليل اضطرب كلامه في البلاغة، وكذلك أبو هلال. فإذا ما ذكرت الآراء والمذاهب البلاغية ووازت بينهما في شرحي كان ذلك عملاً يستحق النقد من أستاذنا الجليل؛ وكذلك إذا كتبت بعض بحوث جديدة عن نشأة البلاغة وعلمائها ومصادرها كان ذلك خطأ كبيراً مني لأنه يهدم مذهب أستاذنا الجليل في إصلاح البلاغة، وإذا ما حققت الكلام على متعلقات الفعل آلامها كسورة أم مفتوحة كان ذلك عملاً لا داعي إليه في عصر الذرة، وإذا ورد ذكر الكناية مثلا في علم المعاني فشرحت معناها في شرحي كان ذلك ذكراً للشيء في غير موضعه، والبيت:
ومهمه مغبرة أرجاؤه
…
كأن لون أرضه سماؤه
صدره زيادة زدتها أنا على الإيضاح كما يرى أستاذنا الجليل والطريف أن البيت موجود كما هو أيضاً في شرحه هو على للإيضاح
ب - ومن مذهب أستاذنا الجليل في إصلاح البلاغة أن ينشر إيضاح القزويني ويكتب على الكتاب ما نصه: (تأليف عبد المتعال الصعيدي المدرس في كلية اللغة العربية) وأن يفصل بين كلام صاحب الإيضاح بعناوين وتطبيقات دون أن ينبه على أن ذلك مزيد على الكتاب.
ح - ويذكر أستاذنا الجليل في شرحه هذا البيت
ظعنوا فكان بكاي حولا كاملا
…
ثم ارعوبت وذاك حكم لبيد
وقال إن فيه تعقيداً معنوياً، فلفت نظره إلى أنه ليس فيه شيء من التعقيد، فخطأني وقال أنه ليس هو الذي يقول بذلك وحده، ولكن صاحب الصناعتين صرح بذلك، فرجعت إلى كلام
صاحب الصناعتين، فوجدته ذكر البيت، ووصله ببيت ثان هو:
أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها
…
بالدمع أن تزداد طول وفود
وقال أبو هلال: هذا خلاف ما يعرفه الناس لأنهم قد أجمعوا على أن البكاء يطفئ الغليل الخ، والمتذوق للأدب يفهم أن كلام صاحب الصناعتين إنما هو عن البيت الثاني (أجدر الخ) ولكن أستاذنا الجليل صرف كلامه إلى البيت الأول (ظعنوا الخ) فذكره وحده وحذف موضع الشاهد. وبدل كلام صاحب الصناعتين فنسب إليه القول بأن في البيت تعقيداً معنوياً، وأبو هلال لا يعني أكثر من أنه معنى جديد مبتدع.
وذكر أستاذنا الجليل أن بيت الخطيئة (أولئك قوم إن بنوا أحسنوا إلينا الخ) قد نسبه السبكي لأبن الرومي، فلفت نظره إلى أن السبكي ينسبه للمتنبي لا لأبن الرومي فرد على بأنه نقل ذلك عن السبكي لوجود ابن الرومي فيه بجوار المتنبي!!!
وقال أستاذنا أنه كان يريد أن يؤاخذني في تكرار التعليق على بيت أبو نواس (وصيرني هواك الخ) وإن كان قلمه قد سبق إلى بيت آخر بجواره!!!
أليس في ذك وغيره مما لم أذكره يا سيدي القارئ ما يصلح أن يكون دعامة مذهب جديد في إصلاح البلاغة، ويجب أن ننسبه إلى أستاذنا الجليل، ولا يصح أن يؤلف فيها أحد بعده لأنه صاحب مذهب جديد فيها.
محمد عبد المنعم خفاجي
مدرس في كلية اللغة العربية
رسالة الشعر
إلى مؤلف كتاب الغدير
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
أقامت الرابطة العلمية الأدبية في العراق حفل تكريم الأستاذ العلامة الكبير الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني بمناسبة موسوعته الضخمة المسماة بالغدير وقد ألقيت القصيدة التالية في ذلك الحفل للأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن، وفيها يحيي جهد العالم المؤلف، ويشير إلى وجوب اتفاق المسلمين على إعلاء شأن الإسلام مهما اختلفت مذاهبهم وفرقهم.
حي الأميني الجليل وقل له
…
أحسنت عن آل لنبي دفاعاً
أرهفت للدفع الكريم مناصلا
…
وشهرت للحق الهضيم يراعا
وجمعت من طول السنين وعرضها
…
حججا كآيات الصباح نصاعا
وأذيت من عينيك كل شعاعة
…
كالنور ومضاً، والشموس شعاعا
وطويت من ميمون عمرك حقبة
…
تسع الزمان رحابة وذراعا
ونزلت ميدان البيان مناضلاً
…
وشأوت أبطال الكلام شجاعا
ما ضقت يوما بالدليل ولم تكن
…
بالحجة الغراء أقصر باعا
لله من قلم لديك موثق
…
كالسيل يجري صاخبا دفاعا
يجلو الحقيقة في ثياب بلاغة
…
ويزيح عن وجه الكلام قناعا
يشتد في سبب الخصومة لهجة
…
لكن يرق خليقة وطباعا
وكذلك العلماء في أخلاقهم
…
يتباعدون ويلتقون سراعا
في الحق يختلفون إلا أنهم
…
لا يبتغون إلى الحقوق ضياعا
يأيها الثقة الأمين تحية
…
تجتاز نحوك بالعراق بقاعا
تطوي إليك من الكنانة أربعا
…
ومن العروبة أدؤرا ورباعا
أنا لتجمعنا العقيدة أمة
…
ويضمنا دين الهدى أتباعا
ويؤلف الإسلام بين قلوبنا
…
مهما ذهبنا في الهوى أشياعا
ونحب أهل البيت حبا خالصا
…
نطوي القلوب عليه والأضلاعا
يجزيك بالإحسان ربك مثلما
…
أحسنت عن يوم الغدير دفاعا
محمد عبد الغني حسن
عذراء. . .
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
عذراء في عمر الزهور
…
في روحها ألق البدور
أحلامها متع الهوى
…
وشبابها. . . عطر ونور
مرت على قلبي، وفي
…
نظراتها وله مثير
فرنا إليها، ثم حن
…
وكاد من صدري يطير
من أنت يا عذراء، يا
…
سر الملاحة والجمال؟
يا زهرة لما تزل
…
نورا تعانقه الظلال
يا من أتيت وللهوى
…
شغف بقلبك وابتهال
وبمقلتيك ضراعة
…
مما لديك من الملال
لا تطلبي حبي، فكم
…
أخشى عليك من العذاب
ما زلت في فجر الربي
…
ع، وفي بواكير الشباب
وسلى العذارى عن هوا
…
ي، ودمعهن هو الجواب
جربنه فشربنه
…
خمرا من اللهب المذاب
أخشى على الجسد الرشي
…
ق توقد اللهب الدفين
أخشى على القلب الرقي
…
ق توهج الوله الحزين
أخشى على عينيك من
…
دمع الصبابة والأنين
وأخاف من سهد يطو
…
ل إذا استبد بك الحنين
والفكر. . . ما أقساه! نا
…
ر في الدماء، ولا دخان!
والغيرة الحيرى إذا
…
أبصرتني أمل الحسان
ورأيت أني لا أخص
…
ك بالحنين وبالحنان
قلبي تملكه الجما
…
ل، فكيف تملكه يدان؟!
وأخاف يا عذراء من
…
ليل من القلق الرهيب
ومن الرحيل إذا دعا
…
ني صوته عما قريب
لا تسأليني عن حيا
…
تي، إنها رؤيا غريب
إني كشمس في السما
…
ء، تسير لكن. . . للمغيب!
وأخاف حين يمسني
…
برد الملالة والسأم
فأطير عنك مخلفا
…
لك في الهوى نار الألم
أهوى إلى الوادي السحي
…
ق، ارتقى نحو اقمم
بحثا عن السر العمي
…
ق، ولا أبالي بالعدم
لا تمزجي أيامك النش
…
وى، بأيامي الحزينه
ودعي حياتك تلتقي
…
فيها المسرة بالسكينة
إني أعيش كأنني
…
وهج لنيران دفينة
وكأنني وله على
…
كبد مولهة طعينه
هذي حياتي: لهفة
…
حيرى، ووجد وانطلاق
ومدامع مسجورة
…
في القلب، لكن لا تراق
خوفا عليك من الهوى
…
لم يبق لي إلا الفراق
أما أنا فقد احترق
…
ت، وما الهوى إلا احتراق
فدعي الهوى. . . أن الهوى
…
سر التعاسة والعناء
ولقد ننال به السعا
…
دة، ثم يغمرنا الشقاء
يا ليتني ما ذقته
…
وسلمت من سحر النساء
واليوم - واأسفاه -
…
لا يجدي التمني والرجاء!
تبكين مما قلته؟
…
هل قلت شيئاً محزنا؟
وتؤكدين بأن جس
…
مك شف من فرط الضنى
وبأن قلبك كان يك
…
تم حبه، فاستعلنا
وبأن روحك إنما
…
يحيا على نور المنى
وبأن عمرك زهرة
…
والحب وضاح السنا
وندى ترقرقه الحيا
…
ة على زهور شبابنا
وبأنك اخترت الحبي
…
ب، ولم يكن غيري أنا
ما دمت قد جربت أش
…
جان الهوى. . . هيا بنا!
إبراهيم محمد نجا
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
مصر العروبة
نشرت صحيفة (المصري) يوم السبت من الأسبوع الماضي مقالين عن مكان مصر من سائر البلاد العربية، لأستاذين كبيرين هما المفكر العربي ساطع الحصري بك، والأديب المصري الدكتور أحمد زكي بك؛ والمقالان يمثلان وجهتي النظر المختلفتين في هذا الموضوع، الأول يقول بالقومية العربية وبأن مصر هي زعيمة هذه القومية، والثاني يقول كما ينطق عنوان مقاله (ما العرب وما الفراعنة، إنما نحن قوم مصريون) ولا أدري هل قصدت الصحيفة أن تملأ الكفتين في عدد واحد أو هو مجرد اتفاق، والمحقق أن كلا من الكاتبين كتب مقاله وهو لا يعلم شيئاً عن مقال الآخر.
وقد ثنى الأستاذ الحصري موضوعه بمقال آخر نشرته الصحيفة يوم السبت من هذا الأسبوع. في المقال الأول أعرب عن إيمانه بأن مصر تعتنق الفكرة العربية وأن الطبيعة ودتها بكل الصفات والمزايا التي تحتم عليها أن تقوم بواجب الزعامة والقيادة في إنهاض القومية العربية. وقال أنه لم يقنط من انتشار فكرة القومية العربية في مصر يوماً من الأيام، وإن إحجام مصر عن الاشتراك في الثورة العربية التي قامت ضد السياسة العثمانية إنما كان لظروف سياسية وعوامل تاريخية، وهي ظروف وعوامل عارضة كان طبيعياً أن تتغير بعد مدة، كما كان طبيعياً أن يتبدل موقف مصر والمصريين من حركات القومية العربية تبدلاً ظاهراً تبعاً لتغير تلك الظروف، وأخذ الشعور بالعروبة في مصر يغمر نفوس المصريين شيئاً فشيئاً، حتى اشتد خلال الحرب العالمية الثانية، وبلغ حده الأقصى بعد تأسيس جامعة الدول العربية وعند بدء الحركات السياسية والحربية لإنقاذ فلسطين من براثن الصهيونية. ولكن الإخفاق الذي منيت به هذه الحركات أثر في هذا التيار الفكري تأثيراً سيئاً وعرض فكرة العروبة لنكسة أليمة جداً. إلى أن قال: إني أقدر مرارة الآلام التي شعر بها المصريون بحق من جراء سير الوقائع الحربية في فلسطين ولا سيما صفحتها الأخيرة. ولكني أعرف أن جميع المؤمنين بالقومية العربية شاركوا المصريين في هذه الآلام، وإن المثل العليا القومية لا يمكن أن تتحقق في حملة واحدة. ثم ارجع الأستاذ عدم
تقدير هذه الحقيقة - في أهم أسبابها - إلى اختلاط مفهوم (الفكرة العربية) بأعمال (جامعة الدول العربية) في أذهان الكثيرين من الخاصة والعامة. وبعد ذلك أوضح الفرق بين جامعة الدول العربية) التي تأسست سنة 1945 بموجب الميثاق المعلوم، وبين (الجامعة العربية) التي لا تزال فكرة تعيش في أذهان الذين يؤمنون بوحدة الأمة العربية إيمانا صحيحا، قائلا بأن كل من يتهجم على فكرة الجامعة العربية من جراء أعمال جامعة الدول العربية، يكون قد ارتكب ظلماً فادحاً
وأذكر بهذا رأي الأستاذ الحصري أن القوميات إنما تقوم على اتحاد اللغة قبل كل شيء، وقد فصل هذا الرأي وطبقه على نشوء، القوميات بأوربا في المحاضرات التي ألقاها بدار الجمعية الجغرافية الملكية من نحو سنتين، وقد أتخذ من القوميات الأوربية أمثلة خلص منها إلى فكرة القومية العربية التي تقوم على لغة الضاد في جميع بلاد العروبة.
وكان المقال الثاني للأستاذ الذي نشر يوم السبت الماضي تطبيقاً لفكرته في أساس القوميات إذ رد به على حديث لسعادة الأستاذ لطفي السيد باشا أدلى به إلى مجلة (المصور) أيد فيه مصرية المصريين مستشهداً باليونان في تمسكهم بقوميتهم وتحقيق استقلالهم عن الأتراك.
قال الأستاذ الحصري: إن اليونان لم يندمجوا في الأتراك بسبب اختلافهم عنهم في اللغة وفي الدين، وقد تعرضت اليونان بعد انفصالها عن الدولة العثمانية لخطر الاندماج في الشعوب السلافية في أوروبا التي يجمعها بها المذهب الأرثوزكسي، ولكنها تغلبت على الاعتبارات الدينية واستجابت لنداء اللغة والوطن، فاليونانيون مدينون بكيانهم السياسي الراهن - قبل كل شيء واكثر من كل شيء - إلى تمسكهم بلغتهم القومية. وقال: ألا يدل ذلك على أن سعادة لطفي السيد باشا قد حاد عن جادة الصواب عندما استصغر وتجاهل شأن اللغة فساوى بين العروبة وبين التركية خلال دعوته إلى المصرية على أن هناك ما هو أهم من ذلك، فبلاد اليونان لم تستقل كلها دفعة واحدة، فقد استقل سنة 1830 أقل من خمس بلاد اليونان الحالية، وظل الباقي ولايات عثمانية ثم أصبحت من الدولة اليونانية فيما بعد، ومع ذلك فإن المفكرين وزعماء اليونان ومفكريهم لم يحصروا مفهوم الوطن الياباني داخل الحدود التي خطتها السياسة الدولية، ولم يقولوا: فلنحصر جهودنا داخل هذا الوطن الذي يرفرف عليه علمنا الرسمي، ولم يتنكروا لهذه الأقطار المختلفة فيخرجوها من
نطاق جهودهم الثقافية ومن حدود أهدافهم السياسية. بل ظلوا يحلمون بالوطن الأكبر الذي يضم جميع المتكلمين باليونانية، حتى تكللت جهودهم بالنجاح التام. ألا يظهر من ذلك كله أن تاريخ اليونان الحديث لا يؤكد الرأي الذي أبداه سعادة لطفي السيد باشا، بل أنه - على عكس ذلك - يشهد شهادة صريحة ضد ذلك الرأي ويفنده تفنيدا قاطعا. أما مقال الدكتور أحمد زكي بك فقد أشتمل على العناصر الآتية:
1 -
تفنيد القول بأصول الأمم وأن الفكر الحديث قد أطرح هذه الأصول، وأستدل بأمة الولايات المتحدة التي تكونت من أمم مختلفة، ولم يمنعها اختلاف الأصول أن تكون أمة مرتبطة مشتركة الأحساس، يتسابق أفرادها في الذود عنها.
2 -
الجماعات الإنسانية تأخذ بالوراثة القليل الأقل من الآباء، وتأخذ بالمران الكثير الأكثر من البيئات: الجغرافية والإنسانية والثقافية والتاريخية الزمانية فأثر البيئة يغلب على أثر الوراثة حتى لا يكاد الثاني يبين.
3 -
المصريون لا تصلهم بقدمائهم صلة، فالقبط الذين يقال إنهم اخلص أنساباً لا يتفق بياضهم وخضرة عيونهم مع ما عرف عن القدماء، وليس بينهم وبين المسلمين فروق بينة وقد هضم الوادي كل من دخله
4 -
العربية عنصرية لا ترتكز على حقيقة، فقد اختلطت الأنساب في كل بلادها والإسلام رفض الأنساب ورفض الأحساب.
والخلاصة التي انتهى إليها الدكتور زكي بك أن مصر أمة بالذي فيها اليوم من أهل، كانت أصولهم ما كانت، مساكها روابط مما يربط الأمم الحديثة، وأكبر هذه الروابط رغبة أهلها في أن يكونوا أمة واحدة ويداً واحدة على الخير وعلى الشر، ومن هذه الروابط شركة في أسلوب الحياة الواحدة والتفكير الواحد، ومن وراء التفكير الواحد الثقافة الواحدة، ومن وراء العواطف الواحدة التاريخ القريب الواحد)
والواقع أن هذه العناصر التي تحدث فيها الدكتور أحمد زكي بك لا تنفي عنا القومية العربية ولا تقتضي انعزالنا مصريين خالصين من العروبة والعرب، فالفكر العربي الحديث لا يقيم القومية العربية الحديثة على الأصول والأنساب، فإذا قلنا إننا عرب فليس يلزم لصحة ذلك أن نكون منحدرين من أصلاب القحطانية أو العدنانية. ويظهر من ابتداء المقالة
أن الدكتور بنى كلامه على تصريح (الملك الهاشمي) القائل: إن المصريين قوم أفريقيون، فهم لا يفهمون العرب، وليسوا أهلاً لتزعم العرب. ولكن الملك الهاشمي إذ يقول ذلك يعزب عن باله مفهوم القومية العربية الحديثة، وهو الوحدة المبنية على اللغة الواحدة والثقافة الواحدة المستندة إلى التاريخ الواحد. والعربي الحديث ليس هو فقط الذي يستطيع أن يثبت نسبه إلى إحدى القبائل العربية، وإنما هو الذي يتكلم العربية ويشارك قومه العرب في كل أمة عربية مشاعرهم ويرتبط بروابطهم، والمثل الذي أتى به الدكتور زكي بك، وهو الولايات المتحدة الأمريكية التي تكونت من أمم مختلفة الأصول، ذلك المثل الذي ضيقه بالتطبيق على مصر التي تكونت من عناصر مختلفة، ينطبق في اتساعه وحجمه على قد الأمة العربية التي يرجى أن تتكون من أمم مختلفة الأصول، والبيئات (الجغرافية والإنسانية والثقافة والتاريخية الزمانية) تعطيها الوحدة والتماسك، إلى جانب عامل الوراثة الذي يتمثل في اللغة والثقافة، ولا أقول في الدم والعصب، فالقومية العربية تتوافر لها البيئة والوراثة جميعا؛ وقد نفى الدكتور صلة المصريين بقدمائهم، وهذا حق لأن حاضرنا في كل النواحي بعيد عن ذلك الماضي كل البعد، وإن كنا أحيانا نتكلف الاتصال به مجاراة للغربيين الذين يصرون على تمجيد قدمائنا الفراعنة، لأنهم لا يحبون كلمتي (العروبة والإسلام) ولم يتعرض الدكتور بشيء من هذا القبيل بالنسبة لصلتنا بالعرب وما كان ينبغي له أن يفعل، لأن الدكتور زكي نفسه بلغته التي كتب بها المقال وأسلوبه الأدبي العربي، حقيقة ماثلة شاهدة على تلك الصلة الخالدة. .
ولو لم يكن عنوان مقال الدكتور أحمد زكي بك (ما العرب وما الفراعنة، إنما نحن قوم مصريون) لصلح المقال لتأييد القومية العربية ودخول المصريين فيها. وذلك بتعديل يسير في بعض الأجزاء مثل إبدال (العرب) بكلمة (مصر) في الخلاصة التي انتهى إليها، فالعرب أمة بالذي فيها اليوم من أهل الخ، فعناصر الخلاصة كلها تنطبق على العرب بما فيها من (رغبة أهلها في أن يكونوا أمة واحدة ويداً واحدة على الخير وعلى الشر) وأبرز هذه الفقرة بالذات لأقول إن هذه الرغبة موجودة يستطيع رؤيتها من ينفذ بصره إلى الحقيقة خلال غبار الأحداث الأخيرة، الذي أثاره (حكام) بحوافر مطامعهم ورغباتهم الشخصية.
العواذل:
وكتب الدكتور حسين مؤنس بأهرام يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، كلمة بعنوان (أهل الهوى) عذل فيها من بهوون العروبة من المصريين، فأتبع طريقة (العواذل) المعروفة، في تقبيح الحبيبة والتنفير منها، والدعوى أنها لا تبادل محبها هواه، وإظهار الشماتة لما ينال المحب من بعض الأذى في سبيل التمسك بمحبوبه، وتصوير المحب في صورة المتهالك على حبيب يعرض عنه ويزدريه، ويلتمسون بذلك الحبة ليجعلوا منها قبة، وقد اتخذ دكتورنا من قولة (الملك الهاشمي): إننا أفريقيون - مادة لعذله، كأن هذا الملك هو سادن العروبة الأوحد، وكأن كلمته هي الفيصل في أمر العرب. . .
وطالما عذل العاذلون ولاموا، وأهل الهوى ثابتون على هواهم، لا يزيدهم العذل واللوم إلا إمعانا في الحب وتعلقاً بالحبيب. ولم يخل حب من عاذل، فليعذل العاذلون في هوى العروبة، وليثلبوا الحبيبة، وليصفوا فتاها بما يمليه الوهم عليهم، وليفتنوا في ذلك ما شاءوا، فإن الفتى لن يحيد عن هواه، ولن يثنيه عن عزمه ما يلاقيه من المكاره، ولا يفزعه من عذل العاذلين إلا أنه يسر الأعداء.
عباس خضر
رسالة النقد
بسمارك
تأليف أميل لودوج
ترجمة الأستاذ عادل زعيتر
لا يكاد الشتاء يأزف حتى يشخص إلى القاهرة الأديب العالم الأستاذ عادل زعيتر، ولا يكاد يهبط مصر حتى يتساءل المفكرون والأدباء عما يحمل الأستاذ في وطابه، وكانت رحلة الشتاء هذا العام مباركة، فقد أتحف الأستاذ زعيتر مكتبتنا العربية بكتب خمسة ذات قيمة وفيها نفع جليل، وهي حصيلة عام واحد قضاه في جهد موصول ودأب غير مقطوع؛ إنها (بسمارك) و (الحياة والحب) لأميل لودج، و (السنن النفشية لتطور الأمم) و (روح الجماعات) و (اليهود في تاريخ الحضارات للفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون.
لقد قرأت (بسمارك) وهو سفر ضخم، طبع في مطبعة المعارف، وتبلغ صفحاته 787 صفحة لم أكد أقرأ أولى فصوله حتى رأيتني مسوقاً إلى الانكباب على مطالعته، وإذا حدث أن اضطررت إلى التوقف فما أسرع ما يعاودني الشوق إلى استئناف القراءة. وأشهد أني أسف حين أوفيت على نهاية الكتاب ووددت لو استطالت بي المتعة.
يعرف القارئ أميل لودوج كاتب عالمي شهير، امتاز بأسلوبه الشائق في كتابته سير العظماء، ومن حق القارئ أن يعرف كذلك أن لودوج، حين يعرض سيرة العظيم، يحرص على أن يصل بين حياته الخاصة وحياته العامة وصلاً محكماً، زهو ينقل القارئ إلى صميم بيئة العظيم في غير اصطناع أو تكلف حتى ليحسبن القارئ نفسه صديقا للبطل أو هو من ذوي قرباه، ويكون تجاوب بين القارئ والعظيم، فيحاوره ويبين ما يرتسم على وجهه ويسبر ما ينطبع في ذهنه!
ولقد رأيتني ألمس في الكتاب هواجس بسمارك طفلاً، وأرافقه صغيراً، واجلس على رحلته المدرسية وأزامله رياضياً وأراقبه موظفا، وأرى ما أرى من تعاليه وكبريائه يافعاً، وأحار في تراوح الرجل بين الإلحاد والتقوى، وبين الشك واليقين، ورأيتني أمعن الفكر في التناقض الذي يتجلى في طبيعة بسمارك. . تلك الطبيعة التي لا يرضيها أي مقام. . ثم
رأيت بسمارك في اللندتاغ وسمعته خطيباً، تتبعت حيله، وكان يرمضني أن ألحظ في مطلع حياته مناوأته للأحرار، ونزعته البروسية الإقليمية، وكدت أنحاز إلى خصومه لولا ما كان يجذبني إليه من إعجاب بشجاعته وإقدامه، ولولا تلك المتعة التي كنت أظفر بها حين أقرأ رسائله التي اتسمت بالبيان المشرق والقول الساحر ووصفه البليغ تلك المحن النفسية التي كان يعانيها حين يختلف والملك والملكة وولي العهد والشعب والضباط. . ثم قدرته سياسياً بارعاً حين غدا سفيراً لبلاده في بطرسبرج فباريس، وأعجبت أي إعجاب بدوره في قضية شلزويع وهولشتاين وما كان من أمره في حرب النمسا؛ وأكبرته حين قال قولته المشهورة:(أعرف أنني ممقوت ولكن الحظ متقلب تقلب رأي الناس، وأجازف برأسي، وألعب لعبتي وإن أسفرت عن سوقي إلى المشنقة، ولن تبقى بروسية ولا ألمانية كما كانتا ولا بد لهما من سلوك تلك السبيل وصولاً إلى ما يجب أن تكونا عليه، ولا تجد سوى هذه السبيل!).
وجاء نصر الله في سادوا ووثبت الوحدة الألمانية أشواطاً، ورأينا عبقرية بسمارك في حرصه على تجنب ما ينكأ قروح النمسا من الذكريات الجارحة، وأخذه النمسا المغلوبة بالرفق والهوادة، ليحول دون توثيق صلاتها بفرنسة، ذلك لأنه أبصر في الأفق حرباً أخرى سيحمل عليها طوعاً أو كرهاً. . . ورأى التاريخ في أعقاب ذلك من شجاعة بسمارك وصموده لتهديدات المجلس وريب الملك ومعارضة الملكة وأركان القصر ودسائس السفراء ووسوسات المثالين ما دون معه أن هذا العظيم رجل يخضع خياله لواقعيته فيزن كلامه ويهيئ أفعاله، ويؤثر عظائم الأمور على الصور، مستعداً للعمل مع أية أمة وأية دولة إذا ما لاءم هذا هدفه ورأى بسمارك بعد سادوا أن ألمانيا لن تظفر بوحدة أوسع نطاقاً بغير العنف أو بغير خطر مشترك يثير غضب الألمان كلهم، فأعد العدة لحرب السبعين. . . ثم كان الفتح المبين في سيدان وتوج في باريس قيصر بروسيا إمبراطوراً لألمانيا الموحدة في احتفال وصفه لودوج وصفاً أثار فيه الألم لما لقيه بسمارك فيه من جحود سيده. ومن هو بسمارك المجحود المنكور أنه (الرجل الذي يلاعب الدول العظمى في أوروبا ملاعبة الحاوي الماهر) أنه الرجل الذي رأيناه حديدياً في الشؤون الداخلية وامرن الدبلوميين كافة في الصلات الخارجية. وكان لودوج يحلل خلال ذلك نفسية العظيم وآراءه في الكنيسة والبيت والطبيعة والتاريخ وولعه بالغابات والكلاب، ويأخذ القارئ العجب من تنبؤات
بسمارك واستنتاجاته حول المستقبل حتى ليظن أنه كان يرى بنور الغيب حين قال عن روسيا: (فالثورة والجمهورية أمران قد يلمان بروسية في أقرب وقت، وفي روسيا أناس كثيرون يعلقون آمالهم على كارثة حربية تصاب بها تخلصاً من النظام القيصري).
والقارئ يخرج من مطالعة الكتاب قانعاً أن ألمانية لو أخذت بآراء بسمارك وسلكت، بعده، سياسته لما أصيبت بما أصيبت به في الحربين العالميتين الكبيرتين. . . ويقنع القارئ كذلك، أن من واجب قادة الحركة القومية، وحملة الفكرة العربية، ودعاة الوحدة العربية أن يقرئوا كتاب بسمارك باني الوحدة الألمانية، ففيه دروس وعبر. وأحب أن أنصف الأستاذ المعرب، فأشيد بالجهد العظيم الذي بذله في نقل هذا السفر الضخم إلى لغة الضاد بلاغة ورواء وفتنة، وأن أنوه باشتقاقاته اللغوية الموفقة وبقدرته على اكتشاف اللفظ الذي يغني عن الجملة، وأن أشير إلى أنه أول من قال دبلمي بدلاً من دبلوماسي أو دبلوماتي، وكلاسي بدلاً من كلاسيكي، والبلطي بدلاً من البلطيكي، فأرجع كل كلمة إلى أصلها واجتنب تكرر النسبة هذا التكرر الذي لا يتنزه عنه كبار الكتاب.
وإذا كان لنا ما نأخذه عليه فهو أغراب في كلمات قليلة في الكتاب لها ما يماثلها في العربية معنى وما يفوقها سلاسة. وبعد فإننا نعتقد ان الأستاذ الجليل عادل زعيتر قد خدم العربية وزود - وحده - مكتبتها بما تنوء بمثله عصبة من الأدباء والفضلاء ذلك لأنه يترجم عن الكتب ما لا تجد لها مثيلات في اللغة العربية، ومالا ينتظر أن يؤلف مثلها كتاب العربية، وفي لغة إن لم تكن في مستواها أعلى من الأصلية فليست دونها في حال. . . فمن حقه إذن أن نهنئه بما أصابه من توفيق عظيم. ومن حقنا أن نتطلع دائماً إلى المزيد من ثمرات جهده الفذ في إعجاب وتقدير.
عربي
تلخيص كتاب النفس
للفيلسوف أبن رشد
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
لا أنكر أن نشر أثر عربي قديم يحمل من المعنى اللغوي لكلمة النشر ما يحمله البعث بعد
الموت من معان وما أحوجنا اليوم إلى الانبعاث من جديد. . . وما أحوج ميراثنا العربي العتيق إلى أن تزاح عنه الأكفان، وينفض غبار السنين من فوقه، فإن العروبة اليوم تقف في ساحة النشور.
وقد كتبت عن هذا الكتاب الجديد للصديق الدكتور الأهواني كتابة باعدتها عن محيط الصداقة، وأدخلتها في دائرة الصدق، خشية أن يضيع شيء منهما على حساب صاحبه. وما أظن في الذي فعلت إخلالا يحق الصداقة، أو إغفالاً لأمر المودة. وما أظن الدكتور الأهواني إلا راضياً بما صنعت، فقد عودنا دائماً أنه يحب سقراط ولكنه يجب الحق أكثر منه.
وفي الكتاب جوانب ما كان يتسع لها مقام محدود في مقال واحد، فإن هذا الكتاب هو في الحق خمسة كتب في كتاب واحد، وما ظنك أيها القارئ الكريم بخمسة مخطوطات في الفلسفة الإسلامية أتيح لها أن ترى النور دفعة واحدة في كتاب واحد؟؟ أليس من حق هذه الكتب علينا - وهي لأربعة من كبار فلاسفة الإسلام - أن نقف معها ونطيل الوقوف ولا نجد في ذلك الوقوف بأساً؟ فإن الشعراء كانوا يقفون على الأربع الأدراس ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما يصنعون، ولا بأساً فيما يفعلون. ونحن هنا - أمام هذه المخطوطات العربية الخمسة - نقف على أطلال من الفلسفة الإسلامية أعادها النشر شيئاً جديداً، ورد لها الحياة التي زايلتها حينا من الدهر، ونمر على تلك الديار الخمسة وقد نضر التحقيق شبابها، وأعاد لها رحابها، فنقبل ذا الجدار وذا الجدار، لا حباً في المكان، ولكن شغفاً بالسكان. . . وما السكان هنا! إلا تلك المعاني الفلسفية التي تعبر عن تصور فلاسفة المسلمين للنفس والعقل، وكيف اتصلت العقول بالأجسام.
وأول هذه الرسائل تلخيص كتاب النفس لأبن رشد، وليس التلخيص للدكتور الأهواني ولكنه لأبي الوليد محمد بن رشد نفسه! ومعنى هذا أن وراء هذا الملخص مطولاً، وأن خلف هذا الموجز محيطاً، ويدل عليه قوله. (وهذا كله قد بينته في شرحي لكتاب أر سطو في النفس، فمن أحب أن يقف على حقيقة رأيي في هذه المسألة فعليه بذلك الكتاب). ونبحث نحن عن هذا الكتاب، ونمني النفس أن نجد فيه من البسط للرأي والبيان في الشرح ما تحل به طلاسم التلخيص فإذا الدكتور الأهواني ييئسنا من هذه الغاية ويقطع منها مناط
الآمال ويقول (ولم نعثر على هذا الكتاب في العربية). فإذا قام بخاطرك هذا التساؤل الآتي: ولماذا لا نترجم هذا الكتاب المطول في النفس عن اللاتينية؟ وجدت جواب الدكتور الأهواني يرد على هذا التساؤل بقوله: (والرجوع إليه في الترجمة اللاتينية لا يخلو من التضليل، لأن التراجم اللاتينية كثيراً ما ابتعدت عن الأصل ولم تكن أمينة في النقل). وهذه التهمة الخطيرة للتراجم اللاتينية لا أجرؤ على التسليم بها ولا أدعي لنفسي الدفاع عنها، لأنها مما لا يصل إليه جهلي المطبق باللاتينية.
ولست والحمد لله لاتينياً، ولا أمت إلى اللاتين بعرق، فكل ما يجري في دمي عربي صميم. ولكني أكره الاتهام الجزاف لغيري تقية أن أكون أنا نفسي موضعاً للاتها! ولا زلت أذكر أن كثيرا من التراجم العربية للفلسفة اليونانية كان كثير الفساد والقلق والغموض، حتى لقد باعد ذلك بين التراجم العربية وبين أصولها اليونانية، وحتى أصبحت هذه التراجم بعيدة عن الناس غريبة عليهم، وحتى ذكر أحد تلامذة أبن رشد عن أستاذه أنه قال:(استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي. سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطاً طاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فأفعل. واني لأرجوا أن تفي به، لما أعمله من جودة ذهنك وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة. وما يمنعني من ذلك ألا ما تعلمه من كبر سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبن رشد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطاطليس).
فأبن طفيل يشكو بلسان أمير المؤمنين من قلق التراجم العربية لأر سطو وغموضها، وابن رشد يقر إقراراً ضمنياً بالشكوى بدليل إقدامه على تلخيص ما لخص من كتب المعلم الأول. ولعل شيئاً - قليلاً أو كثيراً - من الاعتداد بالنفس هو الذي حمله هذا المحمل من التلخيص حتى يكون له فضل تقريب الفلسفة من الإفهام بعد أن باعد الغموض بينهما وبين الناس. ولكني أخشى أن أبن رشد كان في التلخيص اكثر غموضاً مما كان غيره في التطويل.! ولعله تنسى قول ابن طفيل له:(يقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيداً) وآفة ابن رشد في هذا الغموض إما أن يكون مأتاها من ناحية فهمه أو من ناحية مقدرته على
التفهم! وأخشى أن يكون ذلك آفة الفلاسفة جميعاً.
إلا أن الدكتور الأهواني صنع في الحق شيئاً لم يصنعه ابن رشد في التلخيص الغامض! فقد جعل للتلخيص تلخيصاً في المقدمة التفسيرية التي قدم بها بين يدي الكتاب. وهي مقدمة نفيسة وقد زاد في نفاستها أن صديقنا الأهواني استعان فيها بآراء طائفة من كبار المشتغلين بالفلسفة، مثل (جويتيه) و (تيري) و (سلسون) و (والاس) و (بريهيبه) و (دوهيم).
ولعلك تلاحظ أيها القارئ الكريم أعجمية هذه الخفنة من الإعلام التي أخذ عنها الأهواني. فتجزع أن كتاباً في الفلسفة الإسلامية يفيض بهذه الأسماء، وتسأل نفسك: أليس بين هذه الأعلام علم عربي واحد في ميدان هو في الحق حلبة للتراث الفكري عند المسلمين. ولكن الجزع لا يطول بك: لأنك تصادف من مراجع البحث في المقدمة الجليلة للدكتور الأهواني مرجعاً ثميناً باللغة الفرنسية للدكتور إبراهيم بيومي مدكور. طبع في باريس سنة 1934. وعنوانه مترجماً. (مكان الفارابي في المدرسة الفلسفية الإسلامية).
هذه كلمة حق أخرى في تلخيص كتاب النفس لأبن رشد الذي أخرجه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني مع كتب أربعة أخرى تتصل بالنفس والعقل والاتصال والمعرفة. ومن حق كتبنا القديمة أن لا نستكثر عليها كلمة أو كلمتين في مجلة أو مجلتين. أو أن نمن على محققيها بأن نتهم من الصديق عباس خضر بأننا نتبادل الثناء ونتقارض الإهداء، ونتقايض التعريف بآثارنا الأدبية. ولو أطلع (العباس) على كتابي (بين السطور) لرآني محاولاً قدر جهدي أن أنتصف للحق ممن أعرفهم ومن لا أعرفهم من الأدباء والباحثين، الذين أتشرف بعرض أفكارهم ونقد آثارهم. وكدت لا أذكر هنا صداقة وعداوة، لأن مراد النفوس الكبيرة أكبر من أن نتعادى فيه أو أن ننغص فيه القلوب، بذكر بغيض وحبيب. . .
محمد عبد الغني حسن
القصص
قصة من الحياة
قلوب من حجر
للأستاذ يوسف يعقوب حداد
كان اسمه (محمود) ولكن الناس ينادونه (أبو شوارب)! ولعل الناس على حق؛ فهم لا يدعونه بمحمود لأنه في الحقيقة لم يكن محمود الصفات. وكانوا ينادونه (أبو شوارب) لأن خمسة عشر سنتمتراً من الشعر الأسود الكثيف كانت تغطي أعلى شفتيه!
ولو أردت نموذجاً، صادق التعبير، لصورة مجرم خطر، لما ترددت في أن أقدم إليك محموداً، فهو بعينيه الواسعتين، وشاربيه الطويلين، وأنفه الذي يشبه منقار الديك، وشعر رأسه الكث، الطويل، ليبدو لك ما يبدو المجرم الخطر في فيلم من الأفلام المصرية
وفوق ذلك كان يشتغل بالتهريب، وهو عريق في مهنته، يعرف كيف يضلل رجال الجمارك ويفلت من شباكهم، فكان ربحه كثيراً، ولكن مال الحرام للحرام - كما يقولون - فبقدر ما كان (أبو شوارب) يربح من طريق الحرام، كان ينفق من ربحه على الحرام أيضاً، حتى لم تبق في المدينة راقصة أو بائعة جسد إلا ذاقت لذة دنانيره الدسمة!
والمصيبة أنه كان متزوجاً، وله من زوجه ثلاثة أولاد أكبرهم في العاشرة، وأصغرهم في ربيعه الأول. . ولكنه والله لم يكن يدري أنه زوج لامرأة، وأب لثلاثة أولاد، اللهم إلا ساعة واحدة في كل أربع وعشرين ساعة!. . فهو في النهار يمارس مهنته في الخارج. وربما في خارج البلد، وفي المساء يقصد الملاهي والحانات ينشد المتعة بين كؤوس الخمر وأحضان الراقصات، فإذا عاد إلى بيته في ساعة متأخرة من الليل، عاد ثملاً، فاقد الوعي، فيرمى بجسده المتهالك على فراشه وكأنه خرقة بالية. . وقد لا يعود إليه رشده، إلا قبيل الشروق، ساعة يلتف حوله أولاده الصغار، يوقظونه ليتناول فطوره، لا هناه الله بفطور!
وزوجه المسكينة قد أذاقها صنوف العذاب، وجرعها كؤوس العلقم، حتى باتت المفجوعة تبتهل إلى الله في كل ساعة من ساعات يومها، وتطلب منه، أما أن يعيد زوجها إلى صوابه، وأما أن يميتها فينتهي في الأرض عذابها!. . ودموعها، ما كانت تجف لحظة من
مآقيها!. . كيف لا تبكي، وهذا زوجها لا يكاد يلتفت إليها أو يحسب حساباً لبيته ولأولاده!
كانت تخافه وتخشاه لما عرفت فيه من خشونة وقسوة، ولكنها كثيراً ما كانت تضيق ذرعاً بأساها، وينفذ معين صبرها فتروح تعاتبه، أو تلومه، فتتلقى من يده الفولاذية عشرات اللكمات، وينزل على أم رأسها آلاف اللعنات!. . ولولا أنها كانت تنتهز فرصة سكره، واستغراقه في النوم، فتمد يدها إلى جيوبه، تبحث في زواياها عما أفلت من يد الراقصات أو المومسات، لما كانت تلقى ما تنفقه على أولادها وبيتها!
كانت الزوجة المسكينة تعاني كثيراً من العذاب والأسى والمرارة، ولشدة ما كانت تعاني جف اللبن في ثدييها وطفلها الثالث لا يزال رضيعاً، فاضطرت إلى الإسراع في فطامه وظل في حاجة إلى اللبن، وكان غذاؤه بسيطاً يعوزه الكثير من العناصر التي تساعد على النمو، فهزل جسده، وذبل عوده، ثم ما لبث أن لحقه السقام، ولم يعد يكف عن الأنين والتوجع. . . وكان كبد أمه يتفتت، ونياط قلبها يتمزق، حين تسمع أنين ولدها وتعجز عن تخفيف الألم عنه، وأبعاد الأذى عن جسده النحيل وأبوه القاسي القلب، لا يريد أن يعرف أن ولده يكاد يموت، وأنه في حاجة إلى الطبيب؛ لأن ذلك يكلفه مالاً! فراحت المسكينة تحمل ولدها من عجوز إلى عجوز، تطلب عندهن الدواء الرخيص والشفاء الكاذب!
وذات يوم كنت في مقصورة جانبية في أحد الملاهي، فرأيته يدخل الملهى مع أثنين من زملائه الأشرار، واتخذوا مجلسهم في مقصورة مجاورة لي، فكنت اسمعهم يتحدثون، وأراهم يشربون ويعبثون، حتى قفزت إلى المسرح راقصة فارسية راحت تبدي من فنها الرخيص ما يلهب الحواس وفي جسدها المكشوف ما يسير الشهوات، فإذا صاحبنا كله عيون وكله آذان، وإذا هو يبدي إعجابه بالراقصة ويعلن لزميله رغبته في مجالستها، وفعلاً ما كادت الفارسية تنتهي في أداء (نمرتها) حتى أشار إليها أحد الصديقين إشارة فهمت معناها، فأقبلت ضاحكة لاهية، وجلست على ركبتي صاحبنا (أبو شوارب) فإذا هو يفرط نشوته، يأمر بزجاجة كاملة من (الويسكي) يشهد الله أن سعرها لم يكن يقل يومئذ عن العشرين ديناراً إن لم يزد!
قلت لنفسي وأنا أرقبها من بعيد: (يا لها من خبيرة! إنها تعرف دخائل النفوس، وتجيد قراءة الوجوه. لقد رأت رغبة الرجل، وأحست بالنار المتأججة فيه، فعرفت كيف ترضيه، وكيف
تسلبه محفظته المنتفخة بالدنانير.
كنت أرقبها خلسة، فرأيتها تضع رأسها وشعرها وتدفن عطرها ودلالها في صدر الرجل، وتداعب بأناملها اللطيفة وجهه وتفرك بلطف أذنيه، وسمعتها تتحدث إليه بالفارسية وقد رسمت على وجهها صورة صادقة التعبير لغرام عنيف وحب عظيم، وسمعت أحد الصديقين يفسر (لأبو شوارب) كلمات المرأة الفارسية على أنها غزل وغرام عاصف به، فانتشى (أبو شوارب) وانتفخت أوداجه، وتراقصت على شفتيه شواربه، وما كان منه إلا أن دس بين نهديها بورقة مالية ذات مائة دينار!
وفجأة. . رأيت صبياً صغيراً. أقترب من المقاصير وراح يتفرس في وجوه الجالسين، فلما وقعت عيناه على (أبو شوارب) أسرع إليه يصيح. . بابا. . بابا. . أسرع بربك. . . إن أمي لفي حاجة إليك.
ولكن بابا ساعتئذ كان في عالم آخر. . . قد أفقدته الخمرة شعوره، وسلبته الفارسية وقاره، فأخذها من يدها ومضى بها إلى مقصورة جانبية ليتم معها السهرة، ولما سمع صوت ولده وهو يبكي ويولي هارباً لفظ من فمه كلمة سباب ثقيلة استأنست بها الراقصة الفارسية - فأطلقت هي الأخرى كلمة مقابلة اتبعتها بضحكة فاجرة وسارت مع صيدها الثمين.
ومع خيوط الفجر الحمراء. . . عاد (أبو شوارب) إلى داره ولكنه ما كاد يقترب منه بضع خطوات، حتى ألفى الناس متجمهرين على بابه، وسمع صراخ النسوة يتعالى من داخله. . . فأطلق ضحكة طويلة، وقال: مات؟. . . الحمد لله.؟
وتابع سيره من غير أن يدخل الدار!
البصرة. عراق
يوسف يعقوب حداد