الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 884
- بتاريخ: 12 - 06 - 1950
2 - أدب المجون.
. .
أدب المجون يجوز إذن أن يقال، ولكن لا يجوز أبداً أن يعلن. والرقيب على هذا الأدب ضمير المنشئ وكرامة القارئ. فمادام للمنشئ ضمير يحييه الدين القويم والخلق الكريم فإنه يتكرم عن الهبوط إلى حضيض القوادين الذين يزينون الفحش، والمطاردين الذين يروجون الحشيش. وما دام للقارئ كرامة يقويها الحس اللطيف الشريف، فإنه يتنزه عن سماع الهجر ورؤية المنكر. والناس في الشرق والغرب، وفي القديم والحديث، كانوا كذلك قبل أن تقوم قيامة الحرب العالمية التي أهلكت فيما أهلكت تراث الإنسانية والمدنية من كريم الشمائل وحر الخلال.
هتك بشار في بعض شعره ستر الحشمة فنقم الناس منه ذلك وتمنوا موته صوناً للعذارى وغيره من المخدرات، وقال مالك بن دينار:(ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى الملحد) وانتهى المجون ببشار إلى أن أمر به الخليفة المهدي فضرب بالسوط حتى هلك. واستهتر أبو نواس في الغزل واسترسل في الفجور حتى حبسه الخليفة الأمين، ولم يكد يخرج من ظلام الحبس، حتى دخل في ظلام الرمس.
وألف أوفيد الشاعر الروماني كتابه (فن الحب ' ، فرأى فيه القيصر أغسطس فساداً للناس فنفى المؤلف في سرماسيا وقال لطيباريوس حين سأله العفو عنه: (لا أنكر أن أوفيد شاعر ميزته الآلهة بالذكاء البارع والقريحة النافذة، ولكنه أفسد بكتابه شباب روما فحق عليه أن يموت في سجن سرماسيا) وكتب فلوبير القصصي الفرنسي قصته (مدام بوفاري) فوجد الناس في أسلوبها خروجاً عن مذهب الحياء فرفعوا أمره إلى القضاء فحكم عليه بالكف عن معالجة هذا النوع من القصص.
ونظم بودلير الشاعر الفرنسي ديوانه (أزهار الشر) فثار على جرأته أهل الحفاظ والنخوة وساقوه إلى القضاء فحكم عليه بغرامة قدرها ثلاثمائة فرنك وإعدام ست قصائد من مطولاته.
فلما زلزل الله الأرض بالحربين العالميتين انقلبت الأوضاع، وتغيرت الطباع، واختلفت المقاييس، وبرد الدم الحار، وبلد الحس المرهف، وغلظ الجلد الرقيق، فشاع الإغضاء، وساغ البذاء، وقلت المبالاة، وسكنت الحمية، حتى صار الفجور ديناً له أنبياؤه ومبشروه؛ فمن الأنبياء فرويد وجيت وسارتر، ومن المبشرين لورنس وفكتور مرجريت. أما الأتباع
فهم مسوخ الحرب ومشوهوها والقوم هناك ومقلدوهم هنا مخلصون جميعاً للدين الجديد إلا من رحم ربك. ومن هؤلاء الذين أدركتهم رحمة الله فرنسوا مورياك؛ فقد حز به الأمر وشجنه الحال حتى ألقى ثلاثة أسئلة على صفوة من رجال العلم والأدب في أوربا يرجو أن يجد في الأجوبة عنها طباً لهذا الداء، وكشفاً لهذا البلاء. قال:
هل تجد في انصراف الأدب إلى التعبير عن شهوات الجسد العرمة خطراً على الفرد وعلى الجماعة وعلى الأدب نفسه؟ من هم الأدباء الذين تقع عليهم التبعة في انحطاط الأدب الحديث؟ وأي المذاهب قد ساعد على هذا الانحطاط؟
فإذا فرضنا أن هذه الأسئلة ألقيت علينا كما ألقيت عليهم فبماذا نجيب عنها؟
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
الدين والسياسة والوطنية
للأستاذ محمود الشرقاوي
في أصيل يوم من أيام الصيف من سنة 1938 - وكانت قد جزت في شتائها انتخابات عامة في مصر - كنت في زيارة المرحوم الشيخ المراغي في (العوامة التي كان يقيم بها على صفحة النيل في الزمالك، وجرى بيننا حديث لا أزال أذكره كأنه جرى بالأمس. فقد سألني، يرحمه الله، ماذا يقول الناس عنا. .؟ قلت: يقولون إن الأزهر انصرف شيئاً ما عن مهمته إلى السياسة، ويخشى الناس أن يجرفه تيارها فقال وما ذاك؟ إن رجل الأزهر ليس يضره شيء أن يشتغل بالسياسة بل يجب عليه أن يشتغل بها ككل مواطن، والدين لا يمنعه من ذلك بل يحضه عليه. فقلت: نعم يا مولاي، أن الدين لا ينهي بل هو يحض على الاشتغال بأمور الناس وبالشؤون العامة والعمل لخير الجميع في كل ميدان، وقد اشتغل علماء المسلمين وكثير من أئمتهم بسياسة عصرهم ولقي بعضهم العذاب والسجن في هذا السبيل، كما جرى لابن حنبل من المعتصم حين سجن في فتنة (خلق القرآن). فقد كان الرأي دينياً ولكن ملابسات الأمر كله كانت ملابسات سياسية، وكما سجن وأوذي أبو حنيفة وابن تيميه لاشتغالهما بسياسة عصريهما. فأنا معك في كل ما تقول مع فارق واحد دقيق ولكنه كبير، فما على رجل الدين من بأس إذ اشتغل بالسياسة، ولكن البأس والحرج والإيذاء له ولمكانته ورسالته أن يشتغل بالحزبية، وقد أردت أن أتلطف فيما يقوله الناس، فوضعت كلمة (السياسة) حينما كنت أريد أن أقول (الحربية).
وقد أجاب، يرحمه الله، جواباً ما أرى من الخير الآن أن أذكره.
وقد اذكرني هذا الحديث القديم ما نشرته صحفنا المصرية من قبل عن مشكلة جزيرة قبرص ورغبة أهلها في الانضمام إلى اليونان، فقد ذكرت هذه الصحف أن الكنيسة الأرثوذكسية أشرفت على استفتاء السكان ذلك الاستفتاء الذي ظهر من نتيجته أن وضحت رغبتهم في الانضمام لليونان بنسبة 95 في المائة وكانت الكنيسة واضحة الرغبة في إبراز هذا الاتجاه لسكان الجزيرة.
فهل لرجل الدين أن يشتغل بالأمور السياسية والوطنية. .؟
ويحسن بي هنا أن أوضح ماذا أريد بالوطنية. وهل السياسة شيء والوطنية شيء آخر. .؟
الوطنية التي أقصدها في هذه الكلمة هي الاشتغال بأمور الوطن، أو ما نسميه (بالصالح العام) بما ينطوي تحت هذا من الصوالح السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية وما دمنا شعباً لم يستطع بعد أن ينال جميع حقوقه الوطنية، فإن شواغلنا من هذه الناحية ستكون دائماً في المحل الأول.
وأما السياسة فهي، عندي، ما هو أعم من ذلك وأشمل، هي ما يتعلق بسياسة الوطن الأصغر الذي هو مصر والوطن الأكبر الذي هو العالم، وتدخل في ذلك طبعاً نظم الحكم ومحاسبة أصحاب السلطة الذين أخضعتهم القوانين العامة للمحاسبة،
فهل لرجل الدين، إذن، أن يشتغل بالأمور السياسية والوطنية. .؟
أما نحن في مصر والشرق، فالفهم السائد بين كثير من الناس ومن رجال الدين أنفسهم أن رجل الدين لا شأن له، أو يجب ألا يكون له شأن بذلك، ولكني أعتقد أن هذا الفهم بقية من بقايا الظروف والملابسات التي سيطرت على الشرق أزمنة طويلة وجعلت الابن، في بعض الأوقات يقتل أباه والأخ أخاه في سبيل الملك أو السيادة. تلك الملابسات التي جعلت الناس يؤمنون ويتوارثون بأن النجاة في السلامة والانكفاف عن المشاركة وقالوا وتواصوا: أنج سعد فقد هلك سعيد. وكانوا على حق. - وجعلت هذه الملابسات - من جهة أخرى أصحاب السلطان، في الزمن القديم، لا يؤمنون بأن لرجل الدين حقاً في الاشتراك أو المشاركة أو التوجيه، بل هو يوجه العامة إلى ما يقصد ويراد. وكلاهما، الموجه والموجه، لا (حق) له فيما سوى ذلك، لو صح أن ذلك (حق).
ولكن أحوال الناس وظروف الحياة قد تغيرت تغيراً كبيراً، وأصبحت السياسة والاشتغال بها حقاً مشاعاً لكل مواطن، وليست خاصة أو محصورة في طبقة معينة من الناس يسيرون مقادير الشعوب وأمورهم من وراء الحجرات.
رجل الدين له رسالة خاصة، لا شك في ذلك، وهي رسالة لو أديت على وجهها الصحيح لكانت من أهم الأسس التي يقوم عليها نظام المجتمع الشرقي وهدوءه وانسجامه، وكانت سبباً أو عاملاً في انحسام أو نقصان كثير من عوامل الشر والجريمة والتقلقل في هذا المجتمع.
ولكن هذه الرسالة الخاصة ليست مانعاً من اشتغال رجل الدين بالأمور العامة، بل قد تكون
داخلة ضمن رسالته تلك ومما يساعده على النجاح وقوة الأثر في هذه الرسالة نفسها. ولكن هناك شرط واحد لاشتغال، أو لجدوى اشتغال، رجل الدين بالسياسة، هذا الشرط هو (التجرد).
التجرد من العامل الشخصي والتجرد من التحزب لفرد أو لجماعة أو حزب خاص مهما يكن اثر هذا الفرد ووضعه، ومهما كانت الجماعة أو الحزب من العمل - حتى العمل الوطني - أو من الحكم.
رجل الدين يجب أن يكون وضعه بالنسبة للأمور السياسية في موضع الفيصل والحكم والميزان. يذكر الناس إذا انحرفوا في اتجاههم السياسي أو انحرفوا في الحكم، ويدعوهم للاستقامة والخير والتجرد كما يتجرد هو - أو كما هو المفروض أن يتجرد هو - من الغايات والرغبات. كما يدعو الناس إلى دعوة الله من البر والخير والمودة إذا انحرفت بهم نزوات النفس أو مالت بهم إلى الخروج أو البعد عن الغايات المثالية التي اصطفى الله رجل الدين الحق لرعايتها وتوجيه الناس لها.
رسالته في السياسة، كما هي رسالته في الدين والمجتمع، هي العودة بالناس من الانحراف إلى الاستقامة، والرجوع بهم إلى المثل أو ما هو قريب من المثل العليا إذا بعدت بهم النزوات والرغبات والخصومات عنها.
وأما الوطنية فلا شك أنه من الخير أو من الواجب أن يشتغل بها رجل الدين، على نفس هذه الأسس، وقد كانت السياسة المصرية نفسها قبل ثلاثين أو أربعين سنة قائمة على الدين وكانت دعوة الحزب الوطني تتجه هذه الوجهة وتقوم على هذا الأساس، وإن كنا لا نحب أن نرجع إليها، ولن نرجع.
والمفهوم من الوطنية طبعاً هو الدفاع عن الحق الذي سلب من أهله، والعمل على رد هذا الحق لأصحابه.
وماذا يكون رجل الدين إذن وماذا تكون رسالته إذا لم يدافع عن الحق ويعمل على نصرة أهله. .؟ فكيف إذا كان أصحاب هذا الحق بينهم وبينه ما أصحاب الوطن الواحد من الوشائج، والصوالح أيضاً.؟
محمود الشرقاوي
اللغة والفكر.
. .
للأستاذ محمد محمود زيتون
بقية ما نشر في العدد الماضي
الأصل في النسبة بين اللفظ والمعنى أن تكون المطابقة التامة أو التكافؤ بمعنى التساوي، أي أن لفظ كذا يساوي معنى كذا. ولكن التقدم الإنساني وتعقد الأمور استوجبا صعوبة اشتقاق ألفاظ جديدة لمعان جديدة فأطلق لفظ واحد على عدة معان كقولنا (العين) اسماً على عضو الإبصار، والماء الجاري، والسيد في قومه، والشيء المتحقق في الوجود! وغير ذلك من المعاني التي تطلق عليها كلمة عين.
غير أن هذا التعقيد في الحياة أدى إلى نتيجة عكس الأولى، فقد أصبح المعنى الواحد يحمله عدة ألفاظ كقول العرب على الأسد: ليث، ضرغام، غضنفر، هزبر، ضيغم.
ولا ندري مع ذلك إن كان تكثير اللفظ هكذا دليلاً على عهود الفوضى الاجتماعية، أو على الثروة اللغوية أو على تعدد القبائل الناطقة بلغة ما، وإن كنا نعلم أن البدوي في الحجاز الذي رأى السيارة لأول مرة فأطلق عليها فوراً وهو يشير إليها كلمة (الراكضة) بينما نقول (السيارة) وكما نقلنا لفظ (القطار) من المطر إلى القافلة إلى ذلك الذي يجري بعجلاته على قضبان الحديد.
ومن الواضح أن الاسم المنقول في انتقاله من معنى إلى آخر إنما يحمل معه ذكرى الحياة السابقة عليه، ولكنه مع ذلك يثير مشكلة كان الأجدر به أن يخمدها وقد يكون الإجماع القومي من السلطان والنفوذ بحيث يقضي على هذه المشكلة هي الخلط بين المعاني المرادة. فاللفظ (كفر) كان في الأصل بمعنى (غطى) ثم انتقل إلى معنى جديد يفهمه الآن كل الناس في لغتهم الدينية فيقولون: فلان كافر بنعمة الله. أو كافر فقط. وحتى هذه المرحلة لا يزال اللفظ مخلصاً لتراثه القديم وأصله الأول، ولو أردنا إحياء هذا الأصل - وهو مشروع - صادفتنا هجمات لا نقوى على احتمالها. فإذا قالت الأم لابنتها: يا بنت اكفري أخاك. بمعنى: غطي - وهو صحيح - لا تلبث البنت أن تعجب وتنفر من كلمات أمها وربما داخلها الشك في عقليتها.
والحد في - عرف المناطقة - ما يصلح لأن يخبر به وحده، أو يخبر عنه وحده، وهو
العنصر الأساسي للقضية أو الحكم. هذا الحد المنطقي الذي تتكون منه القضية يخالف العنصر الذي تتألف منه الجملة عند اللغوي وهو اللفظ أو الكلمة. فالمنطقي يطلق على كل واحد من الأسماء الآتية حدوداً: العميد، عميد الكلية، عميد كلية الآداب، عميد كلية الآداب سنة 1950. عميد كلية الآداب سنة 1950 لجامعة فؤاد الأول. أما اللغوي فلا يقول بهذا بل هو لا يعترف بعنصر الجملة إلا للفظ (العميد) فقط، الذي هو الحد الأول من الحدود المذكورة. وللمنطقي وجهة نظره، وللغوي وجهة نظره.
والإنصاف يقتضينا الفصل بينهما: فاللغوي أوفر نصيباً من الحق، لأن اللغوي هنا وضع اللفظ على قدر المعنى، فالمعنى ثابت واللفظ تابع، واقتضاه المعنى، وليس من البراعة في شيء أن ندل بجملة إشارات على شيء واحد إلا أن يكون عجزاً. وخير الكلام ما قل في اللفظ ودل في المعنى. قال ثعلب:
نسر الهوى إلا إشارة حاجب
…
هناك وإلا ما تشير الأصابع
بل يزيد شوقي في التعبير الرمزي دون اللفظي إذ يقول:
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت
…
عيني في لغة الهوى عيناك
أما إن كنا نعبر عن المعنى الواحد بألفاظ شتى فليس مما يتمشى مع طبيعة اللغة من حيث هي إشارات إلى المعاني حسب العرف والاصطلاح. ولهذا كلما كان الاختزال في اللغة متبعاً دل ذلك على رقي اللغة وأهلها. فاللغة العربية تضاهي اللغة اللاتينية في هذا المجال خصوصاً في التعبير عن الفعل والفاعل والزمان في لفظ واحد هو أي فعل ولا كذلك الإنجليزية ولا الفرنسية.
وإنه لنصر كبير للإنسانية يوم تزدحم ألفاظ اللغة بأكبر عدد ممكن من المعاني وليت الحاجة التي دعت إلى الإيجاز التلغرافي تعن لنا فنوجز اللفظ حتى يزخر بالمعاني فنتخلص أفراداً وجماعات من الثرثرة والتشدق والتفهيق.
والخلاصة أن النسبة بين اللفظ والمعنى تبدو في إحدى ثلاث:
1 -
أن يتكثر المعنى ويتحد اللفظ.
2 -
أن يتكثر اللفظ ويتحد المعنى.
3 -
أن يتكثر اللفظ والمعنى معاً.
ومن هنا بدأ الخلاف يدب بين المنطق واللغة، ولهذا الخلاف مظاهر:
أولاً من حيث الموضوع.
المنطق يتناول المعاني، وإن كان لا يجوز له الإخلال بألفاظ المطلقة عليها؛ واللغة تتناول الألفاظ، وإن كان لا يسوغ لها الإخلال بالمعاني المعبر عنها. واللغوي أشبه بالصحافي يترقب الأخبار ويتوخاها، فاللغة عبد الفكر تخضع لحركاته وسكناته وصحوة ويقظته، وهي تحقق المعنى بالعقل. وقد يزول اللفظ إلى اللفظ، والمعنى ثابت لا يزول. وقد يحول اللفظ إلى اللفظ والمعنى لا يحول. أما المعنى فإنه إذا حال زال، ولم يعد له حال.
ثانياً: من حيث الغاية:
لا شك في أن الحاجة إلى المنطق تلت الحاجة إلى اللغة، لسبق اللفظ على المعنى بالطبع، ولأن الطبع أسبق من أحكام العقل. ففي أوائل حياتنا نحن نتكلم وننطق كلاماً منطوقاً قاصراً على صاحبه، أما في انتقاله من شخص إلى آخر فهو في حاجة إلى أسس وقواعد يرسمها المنطق لذلك. وأية إشارة أو صرخة أو حركة من الطفل يعتبرها اللغوي لغة ذات معنى مفهوم، وذلك ما لا يعترف به المنطقي بحال، وإن كان الإفهام والتفاهم غاية كل من المنطقي واللغوي.
ثالثاً: من حيث المنهج:
اللغة ترتب اللفظ ترتيباً خاصاً يؤدي إلى مألوف القول والعادة؛ أما المنطق فإنه يرتب المعنى ترتيباً يؤدي إلى الحق المعترف به من غير عادة سابقة. ترتيب اللغة هو النحو والصرف، وترتيب المنطق هو الاستدلال. اللغوي لا يهمه من لغات الناس بقدر ما يهمه من لغته هو. أما المنطقي فله لغة عالمية ذات أجرومية دولية، نحاة اللغات يختلفون ولكن المناطقة على وفاق وإن اختلفت أجناسهم ودياناتهم وميولهم الإنجليزي يقدم الفعل على الفاعل، والعربي يجيز الأمرين، والمنطق يفترض شيئاً واحداً فقط هو وجود فعل وفاعل يركبان بهيئة يتفق عليها النحاة لتؤدي معنى، والمنطق يفترض عقلاً واحداً سليماً مجرداً هو العقل الإنساني، أما اللغة فتخضع للظروف والأحوال. وعلى ذلك فالمنطق مطلق واللغة نسبية.
رابعاً: من حيث القوانين:
ينتهي اللغوي من بحوثه في الألفاظ إلى ضوابط عامة لها، إذا لم تراع سمى لحناً، والمرجع فيه إلى العرف، أما المنطقي فإنه ينتهي إلى قوانين أساسية عامة مطلقة غير استثنائية إذا لم تراع سمى الخطأ فيها إحالة أو تناقضاً بمعنى عام، والمرجع فيه إلى العقل وحده. قوانين الفكر مطلقة عامة لكل الناس، أما قوانين اللغة فهي نسبية تخضع لظروفها وتتأثر بها مضطرة راغمة.
خامساً: من حيث التدخل:
اللغة تتدخل في شؤون المنطق لترتب له معداته الأولى وهي (التصورات) وعند ذلك تنتهي مهمتها ولا تزيد. والمنطق له الحق في الإشراف على اللغة ليحقق لها أغراضها الأساسية. ولذلك فنحن نستطيع أن نفهم معنى واضحاً من لغة لا نحو لها، ولكن لغة لا منطق لها تعود صراخاً وضوضاء. فحاجة اللغوي إلى المنطق أشد وأنفع من حاجة المنطقي إلى اللغة. تكلم ما استطعت من لغات، ولكن المنطق فيها جميعاً واحد هو هو المنطق، ففي مجتمعات ما قبل المنطق ' يجوز أن يكون الشيء كذا ولا كذا في آن واحد، وليس كذلك الحال في أي لغة متحضرة ذات منطق كريم.
يقول متى بن يونس القنائي المنطقي لأبي سعيد السيرافي النحوي وهو يحاوره (لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق، لأن المنطقي يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ؛ فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض. وإن مر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى).
والمنطق أحياناً يضرب بالقاعدة النحوية عرض الحائط، فإذ يفرق النحوي بين الظرف الذي لما يستقبل من الزمان، وبين حرف الامتناع لامتناع، وبين حرف الامتناع لوجود، وبين حرف الشرط الجازم. نرى المنطقي يعتبر: إن وإذا ولو ولولا، ولو ما كلها أداة شرط وحسبه هذا.
وأحياناً يقول النحوي إن الخبر يطابق المبتدأ إفراداً وتثنية وجمعاً وجنساً، ولكن المنطقي لا يحد من نطاق الحمل، ولا يقيده كالنحوي، فالمنطقي يقول: العالم عالمان، ومصر فخر الجيل، والولد فلذة أبيه. فالمبتدأ والخبر عند اللغوي اسمان، أو أحدهما أو كلاهما جملة في محل المبتدأ أو الخبر، ولكن الموضوع والمحمول عند المنطقي حدان.
ومن أجل التفاهم يعني المنطقي بالفكر من حيث الكيفية، أما اللغوي فيعني به من حيث الكمية. وإذا كانت اللغة أداة التعبير، فإن المنطق أداة التفكير، ولا بد للتعبير من الاستناد إلى التفكير.
واللغوي يعمل عالة على المنطقي، وينشط على حساب اكتشافاته وإلا لم يكن ثمت داع لإنشاء المجامع اللغوية، والمؤتمرات الدولية للإنفاق على المصطلحات العلمية والفنية المستحدثة في ضروب العلم والعرفان.
الفكر شرط اللغة، لأن لغة من غير فكر صراخ وعويل، والجملة هي وحدة اللغة، هكذا يرى ، ' واللغة شرط في الفكر لأن الفكر كلام صامت في الباطن؛ هكذا يرى (لويس دي بونالد) إذ يقول (إن الإنسان يفكر كلامه قبل أن يتكلم فكره)
ونعترض عليه بأمرين:
1 -
لا حاجة إلى اللغة في التذكر والتصور والتخيل للمعاني.
2 -
قد توجد معان ذهنية لا ألفاظ لها في الوجود كالغول والعنقاء والخل الوفي، والأقمار والشموس مجموعة.
فإذا استغنى الفكر عن اللغة أحياناً فهو غالباً ما يحتاج إليها بحيث يصح قول (دي بونالد) من أن الفكر كلام باطني، وكل تفكير هادئ هو حديث النفس تتابع فيه الجمل بألفاظ أصواتها خافتة. فاللغة شرط للفكر الواضح الجلي، وإلى هذه الفكرة سبق الأخطل إذ يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
…
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ويتمثل العقل الإنساني في المنهج العربي القائل (العاقل من يجعل لسانه وراء عقله، والأحمق من يجعل عقله وراء لسانه).
ولا شك في أن المعرفة سعة وإحاطة وإلمام بأمور الكون، والبحث عن أوسع العوالم المعانية، وذلك هدف الفكر، واللفظ عامل مساعد في تنمية المعرفة من حيث الدراسة اللفظية: بكثرة تحصيل الألفاظ، ودراسة مشتقاتها ومصادرها الفيلولوجية وأصولها وجذورها مما يزيدنا خبرة، وعرفة، فالقواميس والمعاجم ذخيرة حافلة بالمعرفة. ولكن لا يخفى أن المعرفة الآتية عن طريق الفكر تحتاج إلى العرف لتعميمها، ولا تحتاجه من حيث قصرها على صاحبها، ولكن المعرفة مشاركة وتبادل فهي تشترط اللغة. أما المعرفة الآتية
من اللفظ فيجب مراعاة أطوارها، وبذلك يكون التفاعل بين اللغة والفكر قائماً على قدم وساق.
والإنسان عارف، لا لأنه متكلم، ولكن لأنه مفكر، فنحن نتفاهم مع الأخرس بالفكر لا بالكلام، ونعمة الكلام أوفر من نعمة التفكير. ولو قد أنعم الله علينا بالفكر أكثر مما أنعم علينا من الكلام لتبدلت الأرض غير الأرض والسماوات، ولكنا من السعداء الذين يتفاهمون بمجرد السوانح والخواطر ونسلك في هذه الحياة عن قوة الأفكار التي لا تعدها قوة، ومن يدري لعل الله يستجيب لرأي (الفريد فوييه) في نظرية (الفكرة قوة) فننعم في الدنيا بالفردوس الموعود، ونحظى بأقرب وسائل التفاهم وهي (التلباتي) في غير عسر، يوم تتحد الرغبة والتنفيذ في جنة الخلد (لهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون) وما ذلك على الله بعزيز.
محمد محمود زيتون
الاجتهاد في التشريع الإسلامي
للأستاذ محمد بك سعيد أحمد
الاجتهاد هو الأصل الثالث للإسلام ولفظ اجتهاد مشتق من جهد ومعناه لغة: جد وتعب.
وقد كان للعقل واستعمال الفكر والتدبر شأن هام في أمور الفقه والدين كما اثبت القرآن أهميتها في كثير من الآيات الكريمة. والقرآن يرد الناس إلى العقل دائماً ويهيب بهم أن يستعملوه في تصريف أمور دينهم ودنياهم في مثل قوله تعالى (أفلا يتدبرون)(أفلا يعقلون)(الهم عقول يفقهون بها)(إن في ذلك لآيات لقوم يتدبرون) وهكذا لقد شبه القرآن هؤلاء الذين لا يستعملون عقولهم بالأنعام وقال عنهم إنهم صم بكم وعمي قال تعالى (ومثل الذين كدروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) وقال تعالى (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل 70 - 179 وقال تعالى (إن شر الدواب عند الله الصم البكم العمي الذين لا يعقلون) 8 - 22 وقال تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) 25 - 44
وبينما لا يرضى القرآن عن هؤلاء الذين لا يستمعون عقولهم ويصفهم بالوصف الذي ذكر في الآيات السابقة، إذ يمتدح الذين يتفكرون ويتدبرون ويستملون جوهرة العقل الثمينة فيما وضعت له. قال تعالى (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار 3 - 189 - 190
ويرشد القرآن إلى أن الله سبحانه وتعالى يلهم الإنسان أصول العلم والمعرفة وبكلفة باستعمال عقله لفهمها وتدبرها ويرشده كذلك إلى ضرورة الاجتهاد في الرأي للوصول إلى أي حكم من الأحكام. قال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) 4 - 83 وكلمة (يستنبطون) مشتقة من نبط البئر يعني (حفرها ليخرج منه الماء) واستنباط القاضي معناه إظهار الشيء الخفي، وبعبارة أخرى (الاجتهاد في الأمر) ومثل ذلك استخراج القاضي ومعناه (الحكم بالقياس) وعلى ذلك فهذه الآية تشير إلى مبدأ الاستنباط الذي يجب الأخذ به
والذي لم يخرج عن كونه الاجتهاد الذي نحن بصدده.
ويعترف الحديث الاجتهاد كأصل من أصول الدين عند افتقاد النص على الحكم في الكتاب أو السنة؛ فقد حدث لما أرسل رسول الله (ص) معاذ بن جبل إلى اليمن أن قال له: بم تحكم فيهم؟ فقال بكتاب الله، فقال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسوله. فقال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد برأيي. فقال النبي أصبت يا معاذ) ويدل هذا الحديث على أن النبي (ص) قد أقر مبدأ الاجتهاد، وأن الصحابة كانوا يعرفون عنه ذلك، وان هذا المبدأ كان يطبق عند الحاجة إليه لضرورة في حياة الرسول.
ومن الخطأ أن نعتقد أن الاجتهاد في الرأي إنما ظهر مع ظهور الأئمة الأربعة المعترف بهم في العالم الإسلامي، فالاجتهاد قد ظهر في عهد الرسول إذ كان من العسير الرجوع إليه في كل أمر من الأمور. ثم ازداد ظهوراً وانتشاراً بأتساع الأرض الإسلامية وزيادة عدد المسلمين مع ما لازم ذلك من الاحتياج إلى التوسع في الأحكام الخاصة بأمور دينهم ودنياهم. كما أن الخلفاء وأمراء المؤمنين لم يحتفظوا بالسلطة كلها في أيديهم فقد كانت لهم مجالس للحكم في أمهات المسائل وكانت تؤخذ الآراء وتصدر الأحكام بأغلبية الأصوات ويقرها الخلفاء ويقبلها الرأي العالم الإسلامي وفي ذلك قال السيوطي في كتابة (تاريخ الخلفاء) عن أبي بكر نقلاً عن أبي قاسم اللغوي عن ميمون بن مهران.
كان أبو بكر يرجع إلى كتاب الله في كل مسألة تعرض عليه ويحكم بما جاء به، فإن لم يجد كان يرجع إلى السنة ويحكم بما جاء بها، فإن لم يجد كان يجمع المسلمين ويسألهم عله يجد من بينهم من يذكر أنه سمع رسول الله في مسألة مماثلة فكان كل واحد منهم يقول ما سمعه عن الرسول. ويقول أبو بكر الحمد لله الذي أوجد بيننا من يذكر كلام الرسول فإن لم يجد في السنة جواباً للمسألة كان يجمع علية القوم في مجلس ويستشيرهم فإذا ما اتفقوا على رأي بأغلبية الأصوات أقره وأمر باتباعه.
وواضح أن هذا المجلس لم يكن مجلساً تشريعياً بالمعنى الحديث إلا أنه يحمل معناه وطريقته فقد كان يتخذ قرارات في كل المسائل الهامة، وكان يضع القوانين عند الضرورة، وكان المرجع الأعلى في كل المسائل الدينية والزمنية وظل الحال كذلك في عهد عمر ين الخطاب الذي كان يرجع إلى الصحابة المشهود لهم بالعلم والمعرفة فيمدونه بآرائهم فيما
يعرضه عليهم من المسائل فإذا اختلفت آراؤهم في أمر من الأمور اخذ برأي أغلبيته. وإلى جانب هذا المجلس كان يوجد نخبة من العلماء الإجلاء اللامعة آراؤهم أمثال السيدة عائشة وابن عباس وابن عمر وغيرهم من مجتهدي ذلك العصر وكان الخليفة يعتمد على هذه الآراء ويأمر بالعمل بها على شريطة أن لا تكون مخالفة للقرآن أو للسنة. وقد قدر قضاة الشريعة اللاحقون آراء أسلافهم وحكموا بها بما لم يخالف كتاب الله وسنة رسوله.
وقد ظهر في القرن الثاني للهجرة أئمة وضعوا من القوانين ما يلائم حاجات الناس في ذلك الوقت وعلى رأس هؤلاء الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت المولود بالبصرة عام 80هـ (699م) وهو من أصل فارسي ويتبع مذهبه كثرة من مسلمي العالم. وكان مركز نشاطه بالكوفة وتوفي عام 150هـ (717م) وكان القرآن رائدة في الأحكام وأساس قياسه. ولم يأخذ من الحديث إلا ما كان مقتنعاً تمام الاقتناع بأنه صحيح وكان ذلك الوقت لم يكن قد بدء العمل في جمع الحديث ونقده وتدوينه، ولم تكن الكوفة بالمركز الثقافي الهام لدراسة الحديث فكان من الطبيعي أن يكون اجتهاد أبي حنيفة قاصراً على قرآن ولم يأخذ من الحديث إلا النذر اليسير. ولما تم جمع الحديث وتدوينه وأصبح في متناول المسلمين أدخل أتباع أبي حنيفة على مذهبه كثيراً من الأحكام المأخوذة من الحديث، وأشهر هؤلاء الإمام محمد والإمام أبو يوسف ولآرائهما المكانة الأولى في المذهب.
وكان أبو حنيفة مستقل الفكر لا يعمل إلا بوحي ضميره. ولقد آثر في أواخر أيامه السجن والجلد على السير في ركاب الحكومة مخافة أن يؤثر ذلك على استقلال فكرة وحرية ضميره - كما أبى أن يلي القضاء وقد جلد أحد عشر يوماً متتابعة في كل يوم عشر جلدات على أن يلين فأبى إلا حرية الفكر - ومذهب أبو حنيفة أول المذاهب المعروفة وأوسعها انتشاراً ويدين به أغلب المسلمين. وإن آراءه وأحكامه يصح أن تكون دعامة لصرح تشريعي متين ينتفع به العالم الإسلامي لو أن المسلمين في مختلف العصور نهجوا نهجه وسلكوا سبيله في الاجتهاد والتشريع. وكان أبو حنيفة أول من أشاد بفضل القياس في الأحكام ووضع للأمة مبدأ الاستحسان والاستصلاح فاستطاع به وضع أحكام جديدة موافقة للعدالة لمواجهة حاجات الناس المتزايدة وبذلك أمكن استبعاد كل حكم بعيد عن العدالة غير ملائم للبيئة والجماعة. وهو أول من أقر الأخذ بالعرف والعادة. وكان في كل ذلك كما قدمنا
مستقل الرأي حر الفكر غير متأثر بغيره مما دعا أتباع المذاهب الأخرى حينذاك أن يصفوه هو وتلاميذه بأنهم (أهل الرأي).
وتبعه الإمام مالك بن أنس الذي ولد بالمدينة عام 93 هجرية (713 ميلادية) وعاش ومات بها وسنة 82 سنة وقد أقام نفسه لدراسة الحديث وفق ما كان سارياً بالمدينة وجارياً بين أهلها فكان أساساً لمذهبه وكان الإمام مالك حريصاً أشد الحرص في أحكامه فإذا تشكك في صحة أمر من الأمور قال (لا أدري). وكتابه الموطأ فريد في بابه وهو من أوثق الكتب في الحديث وإن كانت مجموعته صغيرة وقاصرة على الأحاديث المتداولة بين أهل المدينة.
ثم قفاه الإمام الشافعي وهو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ثالث الأئمة ولد بفلسطين عام 150 هجرية (767 ميلادية) وقد قضى أيام شبابه بمكة وعاش أغلب أيامه بمصر وتوفى بها عام 204 هجرية. وكان الإمام الشافعي واحد عصره في علوم القرآن وأجهد نفسه في دراسة السنة وتحمل المشاق متنقلاً بين مختلف البلدان باحثاً وراءها. وكان يحفظ المذهب الحنفي والمذهب المالكي ويختلف المذهب الحنفي عن المذهب الشافعي بأن الأول كان يستند دائماً إلى القرآن ولم يركن إلى الحديث إلا قليلاً؛ والثاني كان جل سنده الحديث والسنة. ويمتاز الشافعي من مالك بأن مجموعة الحديث التي استند إليها كبيرة ومجموعة من نواح متعددة بخلاف مالك الذي اكتفى من الأحاديث بما وجده بالمدينة وحدها.
وتلاه الإمام أحمد بن حنبل وهو آخر الأئمة الأربعة؛ ولد ببغداد عام 164هـ وتوفى بها عام 241هـ وللإمام أحمد دراسات واسعة في علم الحديث كما هو ظاهر من كتابه الشهير (بمسند أحمد بن حنبل) الجامع لثلاثين ألف حديث - وكان جهد الإمام في جمع الحديث أساساً للمجموعة القيمة التي قام بها ولده عبد الله. وقد رتبت الأحاديث في المسند بحسب اسم الصحابي الذي يرجع إليه الحديث لا بحسب الأحاديث نفسها وغير ذلك فإن الأحاديث الواردة فيه لم يراع في جمعها الدقة التي توخاها البخاري ومسلم في صحيحهما. والواقع أن ترتيب الأحاديث بحسب موضوعاتها يكشف للباحث عن مواطن الضعف ويسهل تعرف أوجه النقد. وهذا أمر غير ميسور إذا كانت المواضيع مبعثرة في مختلف صفحات المجموعة المرتبة أحاديثها بحسب ترتيب أسانيدها؛ وهذا ما جرى عليه أحمد في مسنده فكان بذلك غير موثوق به بالنسبة لمجموعات المحدثين الآخرين وظاهر من مجهود أحمد
وطريقته أنه جعل كل اهتمامه في جمع الحديث، ونتج عن ذلك أنه أخذ بأحاديث ضعيفة فإذا قارناً أبا حنيفة الذي جعل القرآن رائدة الأول واجتهد في الرأي مستضيئاً بنوره ومستنبطاً أحكامه من آياته بابن حنبل الذي لم يجتهد في الرأي إلا قليلاً، وجدنا أن هناك فتوراً في الاجتهاد الذي هو أصل من أصول الإسلام بين أول الأئمة وأخرهم هذا فضلاً عن أتباع مذهب أبي حنيفة من قضاة الشريعة الإسلامية لم يترسموا خطى أمامهم في الاجتهاد والاستنباط فأقفل بذلك باب الاجتهاد ووجدت حالة جمود في التشريع الإسلامي. وسنتحدث إن شاء الله في مقالنا التالي عن طريق التشريع المختلفة في للاجتهاد.
محمد سعيد أحمد
الأسس الجغرافية والتاريخية للوحدة اللوبية
الأستاذ مصطفى عبد الله بعيو
احتلت القضية اللوبية في الأعوام الأخيرة مكانة دولية هامة استرعت أنظار العالم مما ترتب عليه انصراف عدد كبير من المختصين إلى دراسة شئونها كل فيما يختص فيه؛ وخرجت إلينا المطبع الإفرنجية بأبحاث شتى بخصوصها كان أهمها بالنسبة لموضوع اليوم ما يتعلق بتاريخها وجغرافيتها. على أن أهم ما يلفت النظر في هذه المؤلفات العلمية الحديثة اتجاهها اتجاهاً خاصاً في دراسة البلاد. هذا الاتجاه قائم على الدراسة المؤدية لأقسام البلاد الثلاثة بحيث أن كل قسم منها قائم بذاته وله خصائصه التي ينفرد بها. وليس التخصص أو الخوف من تضخم الكتب هو الذي دفع معظمهم إلى هذا المنهج ولكن هي الروح الانفصالية والتمهيد لذلك عن طريق العلم حتى تنتشر الفكرة وتعم فتكون نواة صالحة لتسهيل تنفيذ الأغراض السياسية وهكذا وجدنا الحقائق تلوي لياً وتطمس طمساً في سبيل الوصول إلى هذه الغاية. وهكذا وجدنا رجال السياسة يتخذون من هذه الحقائق على حالتها هذه عماداً لتأييد نظريتهم الرامية لتقسيم البلاد حتى يفوز كل منهم بنصيبه من هذه الفريسة التي وضحت أهميتها للعيان بعد الحرب العالمية الأخيرة.
كانت أهم النقط التي استند عليها بعضهم في التفريق بين برقة وطرابلس مثلاً أن الأولى خضعت للإغريق بينما الثانية خضعت للفينيقين، فقرطاجنة وأن الأولى كانت تكون ولاية رومانية أحياناً مع مصر وأحياناً مع جزيرة كريت في الوقت الذي كانت فيه طرابلس تلحق بأفريقية؛ وأن عرب الأولى معظمهم من قبائل سليم ومعظم عرب الثانية من بني هلال؛ وأن سكان الأجزاء الشمالية من لوبيا يرجعون إلى جنس البحر الأبيض، أما سكان فزان فيرجعون إلى السلالة الأثيوبية. وهكذا من الأدلة التاريخية المبعثرة التي يمكن أن يأخذ بها الإنسان إذا قرأها قراءة سريعة دون فحص أو تحليل.
وعلى العموم أن مثل هذه الدلة وغيرها وإن صحت حقيقتها لا تصلح أن تكون مؤيداً لهذه النظرية الانفصالية، لأنها تمثل الحالات الشاذة التي مرت بها البلاد، والتي لا يخلو منها تاريخ أي بلد. وماذا يكون الأمر إذا ثبت عكسها وأتت الأدلة بنقيضها؟
فنحن إذا نظرنا إلى خريطة لوبيا الطبيعية لا نجد من المظاهر الطبيعية كالبحار والأنهار
والجبال ما يصلح لأن يكون حداً طبيعياً بين هذه الأجزاء الثلاثة هذا الاتصال الطبيعي هو الذي جعل بعد الجزائريين القدامى يختلفون في تحديد كل إقليم ويخلطون بينه وبين الآخر؛ فهذا المؤرخ عندما يؤرخ للنزاع بين قورينا وقرطاجة يقول: (كان هناك سهل رملي على الحدود فيما بين البلدين ذو سطح متشابه خال من المعالم. ليس به جبل أو نهر حق يمكن بواسطته تحديد حدود هاتين المملكتين. . . وهذا ياقوت الحموي في معجم البلدان عندما يتكلم عن طرابلس يقول بأنها مدينة في آخر أرض برقة وأول أرض أفريقية وهكذا يجعل برقة تمتد غرباً حتى مدينة طرابلس، ويذهب بالوحدة بينهما إلى حد بعيد، حتى أنه أطلق برقة على معظم إقليم طرابلس. وهذا ابن وستة في كتابه الأعلاق النفيسة عند كلامه عن سرت يعتبر توزعه حد برقة الغربي. وهذا أبو الفدا في كتابه تقويم البلدان يتخذ من قصر أحمد ميناء مدينة مسراتة حداً غربياً لبرقة. وهذا ليون الأفريقي يصف المنطقة الممتدة من مسراتة إلى الإسكندرية تحت عنوان برقة، فكأنه يجعل من مسراته حداً غربياً لها. الرحالة المستر بتش وأخوه اللذان قاما برحلة علمية جغرافية من طرابلس إلى درنة في أيام يوسف باشا القرهمانلي يشاركان الرحالة ليون الأفريقي في هذا التحديد.
اختلفت هؤلاء المؤرخون والرحالة في تعيين الحدود بين هذين الإقليمين، ولهم الحق في هذا الاختلاف لأن الطبيعة وحدت بينهما وجعلت من الصعب الجزم بأي حد بينهما. وساعد على الربط خليج سرت الكبير بشكله المعروف. فنحن إذا نظرنا إلى خريطة لوبيا لاحظنا خلوها من الخلجان الفرعية والثنيات التي تصلح أن تكون أساساً لاتخاذها نقطة للفصل بين ساحلي الإقليمين، بل أن خليج سرت بشكله المقوس المستقيم يربط بين مسراته وبنفازي بنهايتيه.
ومن المسلم به بين علماء الأجناس أن الأساس الجنسي لكل من برقة وطرابلس يقوم على سلالة البحر الأبيض المتوسط. وكان من المعتقد قديماً أن قبائل الجرامنت صاحبة الحضارة الراقية والتي كانت تسكن في فزان في العصور القديمة ترجع في أصولها للسلالة الأثيوبية؛ ولكن النتائج الأخيرة التي وصلت إليها إحدى البعثات الإيطالية لدراسة الناحية الجيولوجية والبشرية لمنطقة فزان أثبتت عدم صحة هذا الرأي بعد زيارة وادي الاجال بقران وفحص مقابره العديدة، أرجعت أصولها الجنسية إلى سلالة البحر الأبيض مستدلة
على ذلك بالحضارة الراقية التي كانت عليها القبائل الجرمنتية والتي لا بد أنها قد وصلت مع أهلها من الشمال. وهكذا كانت هذه الوحدة الجنسية في أساسها صالحة فيما بعد لأن تكون منسجمة أمام ما جد من تطور في الجغرافية البشرية لهذه البلاد وعدم اختلال التوازن الجنسي بين سكان هذه الأقاليم لما جد من فتح وغزوات كان لها أثرها الطبيعي في تكون الشعب اللوبي بصفة عامة.
يرى الذين يؤيدون فصل لوبيا الغربية عن لوبيا الشرقية أن هذا الفصل شيء طبيعي كانت له سابقة في التاريخ القديم تصلح أن تكون أساساً لهذه النظرية؛ فبينما خضعت برقة للإغريق انفرد الفينيقيون فالفرطاجنيون بطرابلس. وهذا التأييد التاريخي لحركة الانفصال صحيح إذا أخذنا به على علاته دون بحث أو تحقيق. ولكن إذا حللنا الأسباب التي دعت هذا إلى الفصل تبين لنا عدم صحة هذا الأساس الذي بنى عليه هذا التقسيم. فمن المعلوم أن الفينيقيين قد اضطروا لهجر الجزء الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط أمام نشاط الإغريق وتحفزهم ولجئوا إلى الحوض الغربي وكان من حظهم أن أتوا إلى طرابلس. ولا شك أنهم فكروا في الساحل البرقي قبل أن يصلوا إلى الساحل الطرابلسي بحكم قربه إلى موطنهم الأصلي؛ ولكنهم رأوا في النزوح إلى الساحل البرقي ما يعرضهم لخطر الإغريق بشكل أفظع نظراً لواجهة برقة لبلاد اليونان مباشرة وهو الذين تركوا لهم شرق البحر الأبيض حتى لا يواجهوا الإغريق؛ ولهذا اضطروا إلى التخلي عن برقة والاكتفاء بساحل طرابلس. وليس معنى هذا التخلي التسليم بالتقسيم، ولكن الظروف هي التي أجبرت الفينيقيين على أنه إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للفينيقيين فإن الإغريق بعد أن استوطنوا برقة حاولوا ضم طرابلس إلى برقة والتوحيد بينهما. فالتاريخ يحدثنا أن دوريوس الإسبرطي قد نزل بفريق من أتباعه عند مصب وادي كعام إلى الغرب من بلدة ظلي تن، وهناك أسس مستعمرة إغريقية عرفت بأسم قدر لها أن تعيش فترة من الزمن كانت كافية لأن تكون نواة لزحف الإغريق إلى طرابلس والتوحيد بينها وبين برقة. ولكن قرطاجة وهي التي هجر مؤسسوها شرق البحر الأبيض أمام الخطر الإغريقي لم تقف ساكنة أمام هذا الخطر الزاحف بل عملت على طرد الإغريق من هذا الجزء والقضاء على مستعمرتهم الناشئة.
هذه ولا شك محاولة إيجابية قام بها الإغريق للتوحيد بين الإقليمين وإن كان النجاح لم يكن حليفاً لها، فعلى العموم تصلح أن تكون نواة لحركة أخرى أقوى وأكثر وضوحاً فيما بعد. يتبين لنا ذلك عندما نرى البطالسة ملوك مصر وقد بسطوا سيادتهم على برقة أخذوا يزحزحون حدودها إلى الغرب حتى أوصلوها إلى سرت، ثم يقوم حاكم قروبنا المسمى إفلاس بحركة جريئة كان الغرض منها ضم طرابلس إلى برقة عندما تعهد بمساعدة اجاثوكليس الإغريقي طاغية سيراكوز بصقلية في حربه مع قرطاجة على أن تطلق يده في لوبيا الغربية في حالة النجاح. وبدأ إفلاس فعلاً في تنفيذ خطته وسار بجيشه عبر الساحل الطرابلسي إلى تونس وإن كانت هذه المحاولة الجريئة التي قام بها إغريق برقة لضم طرابلس لم تنجح هذه المرة كذلك؛ فإن ذلك لا ينفي هذه المحاولة الرامية لتوحيد الإقليمين بإخضاعها لسلطة واحدة، إذ أن عدم التمسك بتحقيق شروط هذه الاتفاقية وروح الخيانة بين الحليفين هي التي وقفت دون تحقيقها.
وبعد أن فشلت محاولات التوحيد التي قام بها الإغريق واستقر كل فريق في الجزء الخاص به رأينا المنازعات والمشاكل تقوم بين البلدين على الحدود لعدم وضوحها ووجود ما يصلح أن يكون حداً فاصلاً بين الإقليمين. وسرعان ما اتخذت هذه المنازعات شكل الحروب المنظمة. فالتاريخ يحدثنا أن الحرب قامت بين قروبنا وقرطاجة من أجل هذه الحدود عندما كانت قروبنا تتزعم المدن الخمس بإقليم برقة، وعندما كانت قرطاجة تبسط سيادتها على طرابلس. وهكذا كان في شطر هذه البلاد في ذلك الوقت مدعاة للحرب والمنازعات. ويحدثنا أيضاً كيف انتهت هذه الحرب بين الطرفين وبقصة التحكيم وتضحية الأخوين فلياني من أهالي قرطاجة وإقامة مشهد تذكاري لهما في المكان المعروف الآن (بالقوس) ولا شك أن الرضى بهذا الحد الصناعي لم يكن كذلك إلا خوفاً من تجديد الحرب بينهما وإفناء قوتهما وتعريضهما للفناء أمام خصم جديد أخذ يظهر للوجود متمثلاً في روما وقوتها، وإلا ما كانت هذه الحدود الصناعية تصلح أن تكون حدوداً وافية بالغرض الذي أقيمت من اجله ولا أدل على ذلك من نشاط تجارة التهريب بين الإقليمين عندما فصلاً عن بعضهما بعد هذه الاتفاقية وكيف قامت مدينة (كاراكس) المعروفة الآن (بسلطان) كنتيجة لهذه التجارة وكيف نشطت هذه الحركة خصوصاً فيما يختص بتجارة نبات السلفيوم الذي كانت تنتجه برقة
وعصير العنب الذي كانت تنتجه طرابلس. ولا شك أن في إقامة مثل هذه الحدود الصناعية إعادة لحركة التهريب هذه على أشد ما يكون. ولنا فيما نراه في الأعوام الأخيرة ما يثبت ذلك، فكيف يكون الحال إذا أقيمت حدود معينة يصعب تخطيها إلا بأذن خاص. لا شك أن الحياة الاقتصادية ستصاب في نشاطها كما أصيبت في السابق ولكن وجه الخطورة أشد في العصر الحديث.
وما لنا نذهب بعيداً، فلنترك العهد الإغريقي الفينيقي جانباً لنرى البلاد وقد جاءها العرب فاتحين مبشرين بالدين الإسلامي سنة 22هـ. جاءت الجيوش العربية ففتحت برقة وتقدمت منها إلى طرابلس فاستولت عليها وفي أثناء ذلك كان بعض الجند يتوغلون جنوباً إلى زويلة وفزان ولم تذكر لنا المصادر التاريخية أن عمرو بن العاص قد أستأذن الخليفة في فتح طرابلس وفزان بعد استيلائه على برقة، ولكنها تذكر لنا وتؤكد أن عمرو بن العاص أراد أن يتابع فتوحاته غرباً بعد طرابلس بالاستيلاء على افريقة لولا معارضة الخليفة لذلك على أثر ما دار بينهما من مكاتبة في هذا الخصوص. ومعنى هذا أن عمرو بن العاص في فتحه لطرابلس وفزان بعد الاستيلاء على برقة لم يفعل أكثر من إتمام فتح هذه البلاد التي بدت له وحدتها منذ ذلك التاريخ، حتى إذا ما أتم فتحها وأراد الانتقال لغيرها شعر بضرورة الاستئذان قبل الإقدام على هذا العمل. وهكذا كان هذا التوحيد في الفتح نتيجة لوحدة البلاد الطبيعية التي أدركها القائد العربي منذ ذلك التاريخ مقدمة لأحداث أخرى متتابعة ربطت بين الأقاليم الثلاثة وجعلتها أقرب ما تكون لبعضها من البلاد المجاورة.
للكلام صلة
مصطفى عبد الله بعبو
خريج جامعة فاروق ومعهد التربية العالي
عضو الجمعية التاريخية لخريجي كلية الآداب
مدير مدرسة النهضة الثانوية بالزاوية بطرابلس الغرب
أسامة بن منقذ وشعره
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
في يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 488هـ (يولية سنة 1095م) ولد أسامة بن منقذ في أسرة توارثت إمارة (شيزر) وهي مدينة في الشمال الغربي لحماة، تبعد عنها خمسة عشر ميلاً، وتقع على هضبته يحيط بها نهر العاصي من جهات ثلاث، وتنهض فيها قلعة شامخة حصينة، وكان لهذه القلعة قيمتها في عصر الحروب الصليبية، لمركزها الحربي الحصين، ومكانها بين الولايات السورية، فكانت مطمع الطامعين من أمراء المسلمين والصليبيين.
ولد أسامة لأب صالح يقضي وقته بين تلاوة القرآن، والصيد في النهار، ونسخ كتاب الله في الليل، ووالدة شهرت بالشجاعة، والنخوة، والأقدام، وقد تركه والده منذ صغره يقتحم الأخطار، ويركب الصعب من الأمور، فلا ينهاه عن أن يمضي إلى حية يحز رأسها، ويلقي بها في الدار ميتة، وهو ثابت رابط الجأش، ولا يحول بينه وبين مصارعة الأسود بشيزر، وقتل ما يصرعه منها، وهكذا شب جريئاً لا يهاب. ومما ساعده على ذلك أنه كان يشترك مع أبيه في رياضته المفضلة عنده وهي الصيد.
إلى جانب هذه النشأة التي تعد للحرب والنضال، تلقى أسامة الثقافة التي كان يتلقاها الأمراء في ذلك العصر، فدرس الحديث والأدب، والفقه، والنحو، واللغة، وحفظ الكثير من الشعر، وأخذ من ذلك بنصيب واف، يشهد له به كتبه، وما ضمنت من أحاديث كثيرة، متنوعة الأغراض، ومن مأثور كلام البلغاء من المتقدمين، وما استشهد به من شعر ومنثور، وما أورده في شعره من ألفاظ لغوية استعملت في معانيها الدقيقة مما لم يكن يجري إلا على أقلام كبار البلغاء، أخذ ذلك عن كبار الأساتذة، كما كانت البيئة التي عاش فيها بيئة أدبية ممتازة، فقد كان الأمراء من بني منقذ ممن يقصدهم الشعراء والأدباء، كما أنهم كانوا علماء شعراء، ويحتفظ الأدب بكثير من أشعار أبيه وأعمامه وأجداده.
كان أسامة أثيراً لدى عمه أبي العساكر سلطان حاكم (شيزر) ولما لم يكن له عقب اتخذ أسامة ابناً له، وكان يرى فيه الأمير المستقبل لشيزر، ووارث الملك من بعده، فكان يكلفه
من الأمور ما يتطلب شجاعة وجرأة. واشترك أسامة في المعارك التي دارت بين أسرته وبين الصليبيين دفاعاً عن مدينتهم شيزر. وعاش أسامة في تلك المدينة بين حب والده وعطف عمه، غير أن هذا لم يلبث بعد أن رزق أولاداً في آخر أمره، أن دب الوهن والفتور إلى العلاقة التي تربطه بأسامة، وبدلاً من حبه وعطفه عليه، بدأ الحسد والحقد يأخذان مكانهما من قلبه، خوفاً على أولاده من مكانة أسامة، وحذرا أن يئول الملك إليه دونهم، فمضى أسامة إلى الموصل لدى عماد الدين زنكي الذي صار أكبر أبطال الحروب الصليبية في وقته، وأول خطر حقيقي داهم للصليبيين، فأنتظم أسامة في جنده، وحارب تحت قيادته في عدة معارك، ولكنه لم ينس وطنه الأول شيزر، عندما هاجمه الإفرنج والروم، سنة 532هـ (1138م)، فقد مضى إليه، وأبلى بلاءً حسناً في الدفاع عنه. وربما كان قد عزم على البقاء في شيزر بين أهله الذين فقدوا والده سنة 531هـ، غير أن عمه أبا العساكر لم يرض عن مقام أسامة بشيزر، فقد أيقن أنه أصبح خطراً على ملكه، وأن ليس لأبنائه سلامة إذا ظل أسامة في شيزر، فأمره وأخوته بالرحيل، فتشتتوا في البلاد، وكان في ذلك الخير لهم، فأنهم نجوا من الزلازل التي هدمت شيزر، وقضت على بني منقذ بأسرهم وذهبت بملكهم سنة 552هـ.
مضى أسامة يوم أخرج من شيزر إلى دمشق، واتصل بحاكمها معين الدين أنر، واعتمد هذا الحاكم على أسامة في تصريف الشؤون السياسية، وقد نجح أسامة في ذلك نجاحاً رفع مكانته في دمشق، واستطاع في تلك الحقبة أن يتصل بالإفرنج عن قرب وأن يعرف الكثير من عاداتهم وأخلاقهم، ولكن المقام لم يصف لأسامة بدمشق. ويظهر من القصيدة التي أرسلها إلى معين الدين أنر يعاتبه فيها - أن السر في نبو المقام بأسامة يعود إلى وشايات حملها الساعون إلى معين الدين فصدقها، فأنحرف قلبه عنه، يدلنا على ذلك قول أسامة:
بلغ أميري معين الدين مالكة
…
من نازح الدار، لكن وده أمم
هل في القضية يا من فضل دولته
…
وعدل سيرته بين الورى علم
تضييع واجب حقي بعد ما شهرت
…
به النصيحة والإخلاص والخدم
وما ظننتك تنسى حق معرفتي
…
(إن المعارف في أهل النهى ذمم)
ولا اعتقدت الذي بيني وبينك من
…
ود، وإن أجلب الأعداء ينصرم
لكن ثقاتك مازالوا بغشهم
…
حتى استوت عندك الأنوار والظلم
والله ما نصحوا لما استشرتهم
…
وكلهم ذو هوى في الرأي متهم
كم حرفوا من مقال في سفارتهم
…
وكم سعوا بفساد ضل سعيهم
ويبدو من تلك القصيدة، وما فيها من حياة وحرارة وقوة، أن أسامة كان يضمر في قلبه فيضاً من الحب لمعين الدين، وقد ختم قصيدته بعد عتاب طويل بقوله:
فاسلم، فما عشت لي فالدهر طوع يدي
…
وكل ما نالني من بؤسه نعم
ترك أسامة دمشق، وسافر إلى القاهرة، فوصل إليها في جمادى الثانية سنة 539هـ (نوفمبر سنة 1144م) في عهد الخليفة الحافظ لدين الله، وكان معه والدته وزوجته وأخوه محمد نجم الدولة، فأكرمه الخليفة أيما إكرام، وأقطعه إقطاعاً عاش به في رغد من الحياة، وخفض عيش. ولم يشأ أسامة في أول الأمر أن يزج بنفسه في الأحداث السياسية المصرية، حتى إذا ولى الظافر ألقي بنفسه في خضم هذه الأحداث، حتى ليروي المؤرخون أنه اشترك في المؤامرات التي انتهت بقتل الوزير ابن السلار، والخليفة الظافر، ورأى أسامة أن يعود بعد هذه الخطوب والحوادث إلى دمشق، برغم أن الصلة كانت وثيقة بينه وبين الوزير المصري الجديد: طلائع بين رزيك.
عاد أسامة إلى دمشق سنة 549هـ (1154م) ومضت عشيرته لتلحق به، ولكن السفينة التي كانت تحملهم أصابها عطب عند عكا التي كانت في يد الصليبيين، فنهب الإفرنج ما معهم من المتاع، وساموهم سوء العذاب، حتى إذا وصلوا إلى دمشق، كانوا قد فقدوا كل ما حملوه معهم من مصر، وكان لذلك أكبر الأثر الأليم في نفس أسامة.
واتصل أسامة في دمشق بحاكمها نور الدين محمود، أكبر أبطال الحروب الصليبية في عصره، وكثيراً ما أرسل إليه الوزير المصري طلائع قصائد يحثه بها على أن يتوسط لدى نور الدين، حتى تجتمع كلمة سوريا ومصر على جهاد العدو المشترك، ولكن هذه القصائد لم تثمر ثمرتها. ويظهر أن كبر سن أسامة قد حال بينه وبين الاشتراك في الوقائع الحربية التي شنها نور الدين! وإن كان قد ساهم في بعضها، فقد حدثنا أبو شامة في كتابه الروضتين عما أبداه أسامة من ضروب البسالة في حصار قلعة حارم.
ويظهر أنه وجد بعد زهاء عشر سنين قضاها في دمشق، أنه في حاجة إلى الراحة والبعد
عن تكاليف السلطان وخدمة الملوك، فمضى إلى حصن كيفا، وهناك عكف على البحث والدرس والتأليف. وربما اختار أسامة هذا المكان لما كان فيه من مكتبات ضخمة غنية. ولكن هذه العزلة التي ارتضاها أسامة قطعها عودة صلاح الدين إلى دمشق، وقد رأى فيه أسامة البطل المنقذ للبلاد، فمضى إليه واستقبله صلاح الدين استقبالاً حسناً، فقد كانت تربطه به صلات وثيقة عندما كانا معاً في بلاط نور الدين محمود، فأعطاه صلاح الدين داراً وإقطاعاً دارة، وجالسه وآنسة وذاكرة في الأدب، وكان يستشيره فيما يلم به، وإذا مضى غلى الغزو كاتبه، وأخبره بوقائعه، وكان صلاح الدين معجباً بشعر أسامة، مشغوفاً بقراءة ديوانه، وتأمل خواطره، واستحسان روائع قصائده، وكان ولده مرهف جليس صلاح الدين، وصاحبه في الحل والترحال.
عاش أسامة في دمشق يشكو الكبر، وقد ثقلت عليه الحياة، لطول عمره، حتى إذا كان الثالث والعشرون من رمضان سنة 584هـ (نوفمبر سنة 1188م) توفى أسامة بعد أن أربى على التسعين، ودفن في سفح جبل قاسيون، بدمشق.
- 2 -
ترك أسامة عدة كتب عرفنا منها:
1 -
كتاب الاعتبار الذي نشره المستشرق الفرنسي هرتويغ درنبورج، وقد سجل فيه أسامة ذكرياته، ومشاهداته، من معارك حربية، وأحداث سياسية، في مصر والشام، ويصور الوقائع التي دارت بينه وبين الإفرنج في صدق وإخلاص، ويعلق على ما يرى، ويشيد بالبطولة،، سواء أكانت من المسلمين أم من الصليبيين، ويدون ما يراه من أعمال الأبطال، ولو كانوا من صغار الجند، ويقيد الحوادث الفردية والغربية، وينقل إلينا ضوضاء المعارك، ويصف صلة المسلمين يومئذ بالفرنج، في السلم والحرب، ويصور طبائع الإفرنج وأخلاقهم وعقائدهم، ويحوي تأملات لأسامة بشأن طول العمر، وألحق بالكتاب قصصاً ونوادر شاهد بعضها، وسمع بعضها من ثقة، وقيمة الكتاب في أن ما رواه من حوادث تاريخية ومعارك، سجلها بعد أن رآها، فكان فيها شاهد عيان، ولذا كان من أهم ينابيع التاريخ لتلك الحقبة من عصر الحروب الصليبية، وقد كتبه أسامة وهو ابن تسعين سنة.
2 -
كتاب لباب الآداب، نشره الأستاذ أحمد محمد شاكر، وقد رتبه مؤلفه على سبعة كتب: الأول في الوصايا، والثاني في السياسة، والثالث في الكرم، والرابع في الشجاعة، والخامس في الأدب بمعنى كرم الخلق، وقسمه خمسة عشر فصلاً، وهو يورد في هذه الكتب ما يتعلق بها، مما جاء في القرآن الكريم، ثم ما ورد من أحاديث تتصل به، ثم يورد المأثور من أقوال الحكماء. والكتاب السادس في البلاغة، تحدث فيه عن إعجاز القرآن، وأوردوا جوا مع كلم الرسول، ونماذج من كلام البلغاء، وجاء بكثير من محاسن الشعر الموجز البليغ الدال على مكارم الأخلاق، وقطعاً لأعراض مختلفة من الشعر. والكتاب السابع في الحكمة نهج فيه نهج سلفه من الأبواب، والكتاب يدل على اطلاع واسع، وذوق دقيق في الاختيار.
3 -
كتاب العصا. وقد أورد فيه شواهد نثرية وشعرية تتحدث عن العصا التي عرفت في التاريخ، وأثبت فيه أيضاً كثيراً من شعره.
4 -
كتاب البديع، وقد جمع فيه ما تفرق في كتب العلماء المتقدمين، المصنفة في نقد الشعر، وذكر محاسنه وعيوبه، وقد انتقد هذا الكتاب ابن أبي الإصبع في كتاب بدائع القرآن، ومن الكتاب نسخة خطية بدار الكتب.
5 -
كتاب المنازل والديار، قالت عنه دائرة المعارف الإسلامية، إنه ترجمة كتبها عن نفسه عام 568هـ (1172م) في أثناء إقامته في حصن كيفا، والدافع له على كتابته زلزال أغسطس سنة 1157م، وهو يتضمن شواهد شعرية كثيرة عن المنازل والديار والأطلال والربع والدمن والرسم وغيرها، وبالمتحف الأسيوي بلننغراد نسخة منه.
6 -
مختصر مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي.
7 -
مختصر مناقب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي أيضاً. والكتابان مخطوطان بدار الكتب.
8 -
تاريخ القلاع والحصون.
9 -
أخبار النساء.
10 -
التاريخ البدري، وقد جمع فيه أسماء من شهد بدراً من الفريقين.
11 -
التجائر المربحة والمساعي المنجحة.
12 -
النور والأحلام.
13 -
الشيب والشباب.
14 -
التأسي والتسلي.
15 -
ذيل يتيمية الدهر.
16 -
أخبار النساء.
17 -
نصيحة الرعاة.
وهذه الكتب العشرة قد نسبها إليه مؤرخوه، أو أشار إليها في كتبه التي بين أيدينا.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي
صورة من الريف
للأستاذ كامل السيد شاهين
الشيخ محمود العلمي من فقهاء قريتنا، يحفظ القرآن الكريم لا تشتبه عليه آية، ولا يؤخذ عليه لحن. ويروى فقه أبي حنيفة، لا يغيب عنه حكم، ولا تلتوي عليه فتوى. لم يختلف بعد الكتاب إلى معهد من معاهد العلم، فكان أستاذ نفسه في النحو، تنخل كتبه ونفضها. أستاذ نفسه في الأدب، وأستاذ نفسه في الكلام والجدل والتفسير والحديث؛ لكنه كان مع ذلك مستصغراً محتقراً، أسلمه إلى هذا الهوان جنايات تمالأت عليه، من الفقر وإرهاف الحس والحدة الرعناء!.
كنت استفتبىء إلى ظل السابعة، وكان هو مشرفاً على الثلاثين. وكانت معرفتي له آنذاك معرفة الحدثان بالشذاذ، فهم مغرمون بمتابعتهم والتصفيق وراءهم والتندر بهم. كنت لا أراه أنا وأترابي حتى نشد وراءه عدواً، فإذا انقلب إلينا راجعاً، تهاربنا تهارب الفيران، ولاذ كل منا بزقاق أو دار أو مسجد. وكان الشيخ محمود أعمى أو شبه أعمى، لا يفتأ يحدث نفسه وكثيراً ما تظهر انفعالاته في رفع يديه إلى صدره تفرك إحداهما الأخرى زهواً وإعجاباً، أو غيظاً وتحرقاً.
فتن الشيخ محمود بسعد زغلول، وكان سعد عنده أرفع من أن يمدح بالشعر المنظوم أو الخطب المرسلة، ولم يكن يليق به إلا سورة على نهج القرآن، تسير بها الركبان، ويتلوها الناس على مر الزمان.
وأصبح أهل القرية ذات يوم، فإذا الشيخ محمود عند باب المسجد جالساً متربعاً وقد تنحنح ثم سعل، ثم بصق عن يمين وشمال، ثم رفع عقيرته يتلو ويرنم هذه السورة الجديدة. (ع. د، إنك لمن المنصورين، إنا شددنا عزمك المتين، وآزرناك بمكرم المبين، واصطفينا لك النحاس الأمين، وباركنا عليك في الآخرين، سلام على سعد في العالمين، أنه من عبادنا المجاهدين.) ولو يتلو ويتمايل، ويؤتي المدحقة والغنة حقها، ويعدل النحاس مرة، ويميله مرة، ويحقق همزة الأمين تارة، ويخفيها تارة؛ ولو رأيته واضعاً يده على صدغه، مدخلاً سبابته في أذنه، وصدره يعلو ويهبط، وعروق رقبته تبرز وتختفي، لهالك هذا الجلال، ولأخذ بمجامع قلبك أخذاً. فلما فرغ من سورته قال:(صدق محمود الحكيم) فتناول الناس
بما خف وما ثقل من عصا أو سوط أو حذاء أو حجر، فمن لم يجد فصفعة بكف، أو ركلة بقدم. فمن لم يستطع فبصقة من فم، أو مخطة من أنف. وكان أمره هذا أحدوثة الموسم. ولكن الشيخ محموداً استوحش فلم يعد يأنس لأحد ولم يعد يأنس إليه أحد.
وشببت عن الطوق، وشدوت شيئاً في المعرفة، واتصلت بالشيخ محمود، إذ كان يختلف إلى أبي ليوضح له مشكلاً، أو يستعير منه كتاباً، أو يقرأ عليه مقالاً، فأكبرت الرجل وعرفت له حقه. وجاء يوماً وقد دس صحيفة في كمه، ثم نشرها وقال: أقرأ، فإذا هو مديح للنحاس وللوفد، جاء فيه:
أستنصر الله للنحاس مأوانا
…
نصر النبي الذي بالدين آوانا
وأسأل الله تأييداً لصحبته
…
من أصبحوا تحت ظل الوفد إخوانا
لو خير الناس يوم الحشر مسكنهم
…
لاخترت بيتك يا نحاس ديوانا
فلما بلغت هذا المكان من القصيدة قال: أكفف!، فكففت، ثم قال: أتظن النحاس باشا يعلم أن كلمة (ديوان) منقولة من الفارسية، وأن أصلها (دوان) قلبت الواو الأولى ياء شذوذاً؟ فأردت أن أمكر به، فقلت: إنا لله! إذا لم يعرف هذه فكيف يصح أن يكون رئيس الوفد، وخليفة سعد؟ ففرك يديه، وجال بعينيه، ثم قال: في الحق أنني أحترم النحاس باشا، ولكني أحب عبد الحميد عبد الحق، وفرق بين الاحترام والحب، فبعد الحميد صفى روحي، وإن كنت لم أره ولم يرني، وقد عتبت عليه ببيتين فقلت:
عبد الحميد كفى! فلست بعالم
…
ماذا يثور اليوم في وجداني
والله ما هز الفؤاد وشفه
…
إلاك - يا عفريت - من إنسان!
قلت: أو أرسلت بهما إليه؟ قال: سأبلغهما له بنفسي وعلى طريقتي. سوف استحضره الليلة قبل نومي، فإذا عن لي في الحلم، أنشدته إياهما، فيصبح وقد نقشا على قلبه نقشاً.
وكان الشيخ قد مال إلى دراسة الإنجليزية، فلقيته على فترة من السنين، فقلت له: ما أحدثت؟ فقال: أحدثت جللاً!، قلت ذلك هو العهد بك والأمل فيك. قال: نعم، وجدت صغارنا يتعبون في حفظ الإنجليزية، فرأيت أن أضمنها أبياتي، حتى تسهل وتهون. قلت: فعلت، فلله أنت!. ثم اتخذنا سبيلنا غلى بائع (جزر) على حمار، فالتفت الشيخ وقال: فما الامتحان (ببقلاوة) كمثل التي عند (يور فذر)! وما يستوي النابغ العبقري ومن كان يا ابني يبيع
(الجزر)! قلت: الله أكبر!، هذا هو النبوغ العبقري لو كان يجد من يقدره، فزفر وقال: آه يا كامل:
لو كان خالي الهلالي
…
أو طاهة بن حسين
ما (شخلعتني) الليالي
…
وشفت ظهر المجن!
وتضاحكنا، وخبط الأرض برجله مرتين، وأصغينا إلى المذياع، فإذا عبد الوهاب يغني:
أما رأيت حبيبي
…
في حسنة كالغزال
يطوف بالحب قلبي
…
فراشة لا تبالي!
فطرب الشيخ محمود وكان طروباً وأخذ ينشد ويمطط، ويتأوه ويهز عطفه راقصاً، ويعارض في الأصوات كما يعارض بالأبيات ويقول:
بلى رأيت حبيبي=في (تخنة) كالشوال
إن قلت (ولعت) قلبي
…
يقول لي: (ونا مالي)!
ومضت أعوام ثلاثة لم ألق فيها وجهه الكريم، وعدت إلى البلد بعدها، فلم يخف للقائي، ولم يستبشر بوجودي، ولم يعبأ بما كنت أخفض له من جانبي، وكأنه زهد فيما كنت أفيضه عليه من ثناء وأتحفه به من إقبال، وأكرمه به من تحية، فسألت عنه حين لم يسأل هو عني، فجاء متثاقلاً بطيئاً، وألقى تحيته في تعاظم وتكلف، وجلس في اعتزاز واستعلاء، وبدرت في عينه حمرة الشر، فلما استوى به المجلس، بدأت الكلام خائفاً أترقب وصحت بالخادم: هات شراب ليمون مشعشعاً بالثلج!، فقال: يا هذا، ما زلت تذهب إلى مصر وتعود، وأنت في ضلالك القديم، لا ينفتق عقلك عن جديد، وأنا هاهنا قابع في عقر (كفر عليم) ومع ذلك أثب كل يوم فأحك بيافوخي السماء. قلت: لا جرم إذا انحرفت فقومني، قال بلى، إذا طلبت ماء بليمون غلا تقل هات شراب الليمون، وإلا كنت ساقطاً تافهاً ركيكاً كهذا الذي يقول:
أكلت (بطاطة) وشربت ماء
…
كأني ما شربت ولا أكلت
ثم يزعم أنه شاعر. ولكن قل هات الماء المليمن، وليمن الماء يا فتى!، وإذا خلط الماء بعصير البرتقال فهو مبرتق، والغلام يبرتق الماء. أما سمعتهم يقولون (الرز المفلفل)(والسمك المملح؟) فلماذا ندعهم يشتقون من الفلفل والملح، ولا نشتق نحن من الليمون
والبرتقال؟ قلت: أفادك الله، فما زلت راشداً مرشداً. قال: ليس هذا في شيء وإنما الشيء ما أسوقه إليك، فقد هداني النظر الفاحص إلى ضرب من الشعر يفهمه العربي الذي لا يعرف الإنجليزية، والإنجليزي الذي لا يفهم العربية، واستوى لي ذلك وأنا أنظر في ديوان شعراء الجاهلية، قلنا: وكيف كان ذلك؟، قال: نظرت فوجدتني أقرأ البيت فأجد فيه الكلمة والكلمتين لا أعرفهما، ولم يسبق لي الوقوف عليهما، ثم أعيد النظر وأفحص الكلام، أتشمم فحواه، فأهتدي إلى معنى الكلمتين غير راجع إلى القواميس والمعجم. فقلت في نفسي لو جعلنا الكلمة العربية، وإلى جوارها الإنجليزية، فأنشدنا عربياً وإنجليزياً بيتاً على هذا النسق لفهما جميعاً، اسمعوا إلى قول الشاعر:
لها جسم برغوث وساقا بعوضة
…
ووجه كوجه القرد بل هو أقبح
فلو أتى نظمه هكذا: لها (بودي) برغوث (لجز) بعوضة= (وفيس) كوجه (المنكي) بل هو أقبح
لفهم الإنجليزي والعربي جميعاً، قال قائل: بل لضل الإنجليزي والعربي جميعاً، واستغرقنا ضاحكين، فتحسس العكاز وتلمس الباب، وخبط الأرض بقدمه، وانطلق فما نسمع إلا همهمته (حمير، جهال، سفلة). ونظرنا فلم نر أثراً.
وفي هذا العام سعيت إليه، ولم يسع إلي، فقد كان رهين جدثه ومثواه الأخير، ووقفت على قبره أنشد:
لا يبعد الله إخواناً لنا ذهبوا
…
أفناهم حدثان الدهر والأيد
نمدهم كل يوم من بقيتنا
…
ولا يؤوب إلينا منهم أحد
كامل السيد شاهين
مبعوث الأزهر بالسودان
رسالة الشعر
التخنث
للمغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وهذه قصيدة أخري لنابغة الأدب السيد مصطفى صادق
الرافعي رحمه الله لم تنشر في ديوانه نتحف بها قارئ الرسالة
الغراء.
أبو ريه
أفي الشبان قد مسخ الشباب
…
أم الدنيا اعتراها الانقلاب
غصون في رياض العلم تنمو
…
وتثمر بعد ذلك بما يعاب
فلا يغرنك شكل العود وانظر
…
فإن لناره صنع الثقاب
أمما علموا أن يستكينوا
…
لدهرهم ودهرهم غلاب
أمما علموا أن يستميتوا
…
على كسل ودنيانا اكتساب
أمما علموا أن يستهينوا
…
بما قد أخطئوا وبما أصابوا
لنا دين يقوم به كتاب
…
وغيهم كل ذي رأي كتاب
وقد جمعوا العلوم وقد أجيزوا
…
وقد زاروا مواطنها وآبوا
ومنهم من أتانا مستضيئاً
…
كما يهوي ليحترق الشهاب
(شهادات) ولا عمل يزكى
…
كأن حضور حاضرهم غياب
وإن خبرتهم الأعمال يوماً
…
رأينا السيف تكسره الرقاب
أرى قفلاً على باب كبير
…
ولكن خلفه أرض خراب
فما علم الحساب وهم قعود
…
وما الوقت عندهم (حساب)
وما علم اللغات وهم بلاء
…
على اللغة الكريمة بل مصاب
وما نفع اليقين بما علمنا
…
وفي الآداب شك وارتياب
وأفضل من علوم المرء خلق
…
تحب به الفضيلة أو تهاب
بأي معلم في الطير هذا
…
حمام يستمر وذا غراب
بنفسك لا يعلمك أنت منا
…
وأنت لنا ثواب أو عقاب
ألا إن الشراب له إناء
…
فإن دنسته دنس الشراب
وألين ما يكون زمان قوم
…
إذا احتملته أخلاق صلاب
لكان الليث أسهل ما ركبنا
…
إذا لم يحمه ظفر وناب
ألا يا قوم للفتيان فينا
…
وزينتهم وما حمدوا وعابوا
رأيت لبعضهم أمراً عجاباً
…
وليس كمثله أمر عجاب
يسيل تخنثاً ويذوب لطفاً
…
فهل في أرضنا رجل مذاب
(ولان) كأنه فينا اعتذار
…
تقدمه حوادثنا الصعاب
(وهذبه) الزمان لمصر شعراً
…
رقيقاً منه بينهما عتاب
على خديه للمرآة نور
…
فهل في الحسن بينهما انتساب
ويحملها المخنث أين يمشي
…
وبين الشكل والشكل اصطحاب
ويطرح وجهه فيها سؤالاً
…
ليأتيه (على الوجه) الجواب
وفيه من الذكورة نوع حسن
…
يتم به أنوثتها الكعاب
ومطمحه الذي يرنو إليه
…
من (العمياء) نافذة وباب. . .
وهمته الثياب فليس يمشي
…
إذا ما سار بل تمشي الثياب. . .
ملونة مصبغة لوجه
…
له في لونه منها اقتراب
ولا عجب فذا قمر المعالي. . .
…
(تسفل) والثياب له سحاب
يسائلني أتم الزي حسناً
…
وظرفاً قلت بل نقص النقاب. .
كأن بلادنا قفر فمنهم
…
ومن أثوابهم فيها سراب
كأن فحار مصر عاد أنثى
…
قعيدة بيتها ولها حجاب
فأسودهم. . وأحمرهم حمال
…
فذا كحل لمصر وذا خضاب
وما يمشي الفتى مغروراً منهم
…
لأمر في عواقبه ثواب
تراهم تابعين لكل أنثى
…
وبين الشبه والشبه انجذاب. . .
إذا طلعت طلوع الصبح فيهم
…
بدا من برد وجوههم ضباب
ومدوا في (حلاوتها) لحاظا
…
أخف طبيعة منها الذباب
وفي أفواههم لفظ خبيث
…
وهل أفعى وليس لها لعاب
إذا كان التراب قذى لعيني
…
فبعض القول في أذني تراب
أذى أفعال من ولدته أم
…
وهل أخطي وفي بيتي الصواب
أما في هذه الدنيا أمور
…
سوى الشهوات تحرزها الطلاب
أما في هذه الدنيا أسود
…
كما في هذه الدنيا كلاب
أما خافوا الطبيعة في صعار
…
ستورثها الطبيعة ما استعابوا
وكم طفل يعاقب عن ذويه
…
ولم ينفعه أن ذويه تابوا
كما خبثت أصول واستطابت
…
كذلك فروعهم خبثوا وطابوا
وأية ذئبة ولدت خرافاً
…
ومن أي النعاج أتت ذئاب
رويداً يا بني مصر رويداً
…
وكونوا خير من شبوا وشابوا
متى ذهب الشبان سدى أقامت
…
معائبه فليس لها ذهاب
طفولتكم لمصركم ديون
…
وعهد وفائها هذا الشباب
مصطفى صادق الرافعي
خواطر مرسلة
مروض القردة
للأستاذ حامد بدر
من الشعراء النظامين شاعر أسمه (مروض القردة) ووجه الشبه بين كل منهما أن هذا يكره الألفاظ والمعاني علة الخضوع، وقد تألبت عليه، فيأخذها مرة بالحيلة، ومرة بالعنف، حتى يتمكن من استخدامها راضية أو غاضبة، طائعة أو كارهة؛ وذاك يكره القرود على الخضوع كذلك، وقد تشق عصا الطاعة، وتخرج على إرادته، ولكنه يروضها أيضاً، تارة بالحيلة، وأخرى بالعنف، حتى يتمكن من استخدامها راضية أو غاضبة، طائعة أو كارهة، وكلتا الطريقتين صنعة لا تمت إلى الفن الخالص بصلة.
فإذا آمنت بأن هذا الشاعر - إن صح اعتباره شاعراً - قادر على النظم من كل بحر، ومن كل قافية، وفي كل مناسبة، وفي كل غرض، حسبما تقتضيه المنفعة، كمدح من يمنح، وهجاء من يمنع. . فلست مؤمناً بأنه يحس حين ينظم، وإن أحس فإنما هو إحساس بينه وبين نظمه تباين تام!
وإن آمنت بأن الإنسان يخضع القرود ويستخدمها ويروضها على ألعاب عجيبة، فلست مؤمناً أبداً بأن القرد يحب من يروضه، ولا بأن العلاقة بينهما طيبة، بل إنني أخشى على هذا الإنسان الجريء، من غدر القرد المسكين الذي حكم عليه الزمان، ووقع في حكم بني آدم! ولا شك في أن الوحشية كامنة في دمائه، وإن خدع إنساناً محدود التفكير بأنه يشبهه شكلاً ولا يختلف عنه إلا قليلاً!
ومروض قرود الألفاظ والمعاني ظلم نفسه، إذ حشرها في زمرة الشعراء، وغش نفسه بما يقدمه إليهم على أنه شعر، وما هو من الشعر غلا في أنه كلام موزون مقفى!
وكثيراً ما أرثي له إذا رأيته، وقد أكد العزم على نظم قصيدة عاجلة مستعجلة، محدودة الموضوع والزمان والمكان. . . بتكليف لا ينقذ من التكلف، ولا يعفى من قول نعم. . .
وقد يكون الشاعر في هذا الظرف معكر المزاج لسبب ما، والأسباب ما أكثرها! ولكن ما للناس وهذه الأسرار التي قد يحرص على إخفائها، ويضن بالبوح بها. . .
إن المزاج غبر رائق، ومرآة الذهن ليست صافية، هذا هو الأمر الواقع. ولكن لا بد من
نظم القصيدة المطلوبة، أليس صاحبنا شاعراً قديراً، وخالقاً عبقرياً! أليس مالكاً لزمام البيان! فلماذا يترك هذا الزمام يفلت من يده لحظة واحدة؟!
إنه لن يأتي بما لم تأت به الأوائل، ولكنه سيحاول أن يأتي بكل ما أتى به الأوائل. ها هو الآن يتأهب للنظم، وبينا يفكر في المطلع إذا بأحدهم يطرق الباب فيستقبله:
- أهلاً وسهلاً. . تفضل. .
- شكراً
- هل فرغت من نظم القصيدة؟
- أكاد. .
- كم بيتاً باقياً لتكون القصيدة كاملة؟
- شيء يسير!
وينظر الزائر في الأوراق التي أمام صاحبنا ثم يقول:
- أنت لم تكتب شيئاً مطلقاً! فما لك تزعم أنك موشك على التمام!؟
- إن القصيدة كلها شيء يسير
- إذا كنت تعني أن نظم القصيدة شيء يسير عليك فلتكن قصيدة عصماء!
- وهل يأتي مثلي بغير العصماوات؟!
وابتدأ ينظم كالآلة، وهو مقطب الوجه، متصبب العرق. . وأقسم وأنا واثق من صدق يميني أن أول خاطر جال بفكره هو الخاطر:(ترى ماذا تكون النتيجة لو لم أفرغ من نظم القصيدة المنتظرة في الوقت المحدد. . يا للخجل. . . يا للورطة. . . لعنة الله على الشعر!).
هذا الكلام هو الذي جال حقيقة برأس الشاعر القرودي، وأما الكذب فهو ما يعالج نظمه. . . وأخيراً فرغ من منظومته في الميعاد المحدد. وتنفس الصعداء!
وصفق له الجهل تصفيقاً طويلاً. . وصفعه الفن صفعة واحدة تلاشى في صداها صدى التصفيق الطويل.
حامد بدر
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
اليوم، وأنا أعود بالقلم إلى هذا المكان الحبيب من الرسالة، أرى لزاماً علي أن أذكرك. . وإذا كنت قد عدت، فإنما هي استجابة لصدق محبتك ولطف مودتك، وما لمسته فيك من جمال الوفاء. . وكل تلك القيم النادرة في عالم الصداقة كان لها أعمق الأثر في نفسي، لقد دفعتني دفعاً إلى أن أحمل قلمي وأعود. . .
من حقك علي إذن أن أذكرك، لأنك ما فتئت تذكرني طيلة هذه القطيعة بيني وبين الرسالة. . . تذكرني بقلبك حين اقتصر غيرك على أن يذكرني بلسانه، وما أبعد الفارق بين لغة القلب ولغة اللسان! صدقني لقد كانت هذه القطيعة امتحاناً قاسياً لصداقة الأصدقاء وخصومة الخصوم، وما أكثر الذين (سقطوا) في الامتحان من كلا الفريقين. . . وصدقني أنه لا يهمني كثيراً أمر هؤلاء (الساقطين)، ولكن الذي يهمني هو أن أحبى الأصدقاء الأوفياء والخصوم الشرفاء، وحسبك أنك كنت في الطليعة من الفريق الأول!
أنت إنسان مخلص لصداقتك إخلاصك لفنك. . وأنا من الذين يربطون بين الوفاء للصداقة والوفاء للفن، لأنهما لازمتان من لوازم الحكم الصادق على طبائع النفوس إن جمال الصداقة لا يقل أبداً عن جمال الفن، والحق أن كليهما يا صديقي فن جميل. . . وكل فن جميل قطعة من النفس الشاعرة بخلود بعض الحقائق في كون كل ما فيه منته إلى الزوال.
أتذكر هؤلاء الذين صادفتهم يوماً ثم انقطع ما بينك وبينهم من أواصر الود وأسباب الصفاء؟ لقد اتهموك بأنك تنكرت للصداقة، وتخلفت عن الركب، وطمست بيديك سطور الذكريات. . . ولو أنصفوا الحقيقة والضمير لما اتهموك: لقد أغلقوا قلوبهم في وجهك فأغلقت قلبك، وكفوا ألسنتهم عن ذكرك فكففت لسانك، ومضوا في طريقهم لا يعرجون فمضيت في طريقك. . . وكأن الوفاء في رأيهم أن تلقاهم بعطر الزهور حين يلقونك بواخزات الشوك، وأن تحملهم إلى ارض الظلال وليس في أرضهم غير سفي الرمال، وأن تعترف بالماضي الأثير ولو دفنوه تحت أكوام التراب!
أتذكر هذا الذي كان؟ إنني أسجله هنا ليصحح بعض الناس موقفهم منك وماضيهم معك،
على ضوء موقفك من صاحب هذا القلم وحاضرك معه. . . لقد كان آخر لقاء بيننا هو ذلك الذي لم تشأ أن تودعني فيه إلا بعد أن وعدتك بأن أعود إلى الرسالة. ولقد كان الأمر يهمك حتى لكأن القلم الذي انقطع عن الكتابة هو قلمك، وكأن القراء الذين انصرفت عن لقائهم هم قراؤك. . . وحسبي أن أقف في التدليل على وفائك عند هذا المعنى ولا أزيد!
أما الزيات الصديق فأنت أعلم الناس بما بيني وبينه من قرابة الروح وأصالة المودة. . ولولا هذه الأصالة وتلك القرابة لترتبت على اختلافك الآراء فرقة الوجوه والقلوب، ولكن هذه الفرقة لم تخطر لأحدنا فيبال، لأن اختلاف الرأي كما يقول شوقي العظيم لا يفسد للود قضية!
ولقد كنت أود أن أذكر بعض الخصوم الشرفاء في معرض التقدير ومجال التحية، ولكنني آثرت أن أمسك القلم عن ذكرهم خشية أن يتهمهم بعض الناس. . . بعض الناس الذين لا يقدرون شرف اليد التي تمتد لتصافحك - أنت الخصم القديم - وقد جردت يداك من السلاح! اشهد لقد صافحني بعضهم وأنا مجرد من سلاحي، وهو قلمي. وبذلك انتقلوا من صحراء الخصومة إلى دوحة الصداقة، وضمخوا بأرج العاطفة هذا القلب الذي يذكرهم، ويحمل لك ولهم اصدق الشكر وأخلص التحية.
جيل شهيد:
بالأمس أطلق طالب في كلية الطب رصاصة من مسدسه على أستاذه لينهي حياة تريد أن تهب له الحياة. . . إن دل هذا الحادث على شيء فإنما يدل على أن أخلاق هذا الجيل من الشباب الجامعيين لا تبشر بالخير! ولست أجد في وصف هذا الجيل الجامعي أصدق ولا أبلغ من أنه جيل شهيد. . ولو لم يكن جيلاً شهيداً لما أقدم أحد أبنائه على مهاجمة رجل ما كان اجدره بأن يحني له الرأس حياء من فضله وإجلالاً لأستاذيته!
أية جامعة تلك وأي شباب؟ أقسم لقد كدت أنفض يدي من الجامعة وما تهدف إليه رسالة، ومن الشباب وما يبتغون من مثل. . إن رسالة الجامعة كما أفهمها هي أن تقدم دعائم الأخلاق لتنهض عليها صروح العلم وإن مثل الشباب كما أعلمها هي أن يستضيئوا بنور من هنا ونور من هناك، وعلى هذين يتوقف تقدير القيم والمصير!
ولابد من سؤال يجيش في الخواطر لتهجر به الشفاه: من المسئول عن هذا الإهمال في
تكوين مثل عليا من الأخلاق في نفوس الجامعيين؟ سيقول أناس إنهم الآباء. . هذا حق ولكنه ليس كل الحق، لأن هناك رجالاً يتحملون من تلك المسئولية أوفى نصيب، ونعني بهم الأساتذة الذين وكلت عليهم مهمة الإشراف الثقافي على هؤلاء الشباب. ويدخل الواحد منهم إلى قاعة المحاضرات وليس في جعبته غير شيء واحد، هو أن يلفي على الطلاب درساً في الطب أو درساً في الأدب أو درساً في الاقتصاد أو القانون، وتلك في رأيهم هي الأمانة العلمية، ولكن أين الأمانة الجامعية؟ الأمانة التي تصرخ في وجوههم بأن الجامعة ليست تثقيفاً بالعلم وإنما هي إلى جانب ذلك تهذيب بالأخلاق؟!
إن الجامعة هي مرحلة الإخراج إلى الحياة، مرحلة الإعداد للمستقبل، مرحلة التهيئة لخلق جيل يفهم ما له من حقوق ويؤدي ما عليه من واجبات، وتلك أمور لا يجدي فيها التلقين الذي ينشئ بناء العقول ما لم يقترن بالتوجيه الذي يصقل معادن النفوس!
لو أدرك الأستاذ الجامعي أي أمانة في عنقه نحو الشباب الجامعيين، لما اقتصر على أن يدفع إلى رؤوسهم بدروس الأدب والعلم والفن، وهم محتاجون إلى من يبث في نفوسهم معاني الحق والخير والجمال. . . إن علماً بغير خلق لهو سلاح مفلول في معركة المصير، وأسلوب منبوذ في لقاء الناس، وسراب نضلل في صحراء الحياة، وهذه هي الحقائق السافرة التي توجب أن يعلمها شباب الجامعة في هذه الأيام!!
حول مكتبة الإسكندرية:
في العدد (853) من الرسالة، وجه الأستاذ الفاضل كمال السيد درويش المدرس بالرمل الثانوية كلمة حول مكتبة الإسكندرية، ثم بقيت الكلمة حتى الآن في انتظار التعقيب ولعل الأستاذ صاحب الكلمة قد أدرك الظروف التي نشرت فيها كلمته وحالت بيني وبين الرد عليها في ذلك الحين، وهي الظروف التي أحاطت بوفاة الشاعر الصديق علي محمود طه، وفرضت على ذلك الدراسة المطولة لشعره قياماً بواجب الوفاء.
وأعود اليوم إلى لفتة الأستاذ درويش، لأن موضوعها ليس موضوع الأمس حتى تنتهي بانتهائه، ولكنه موضوع الأمس واليوم والغد بلا جدال.
(أردت النظر في ميثاق جامعة الأمم العربية وفي ميثاق هيئة الأمم، وقراءة بعض ما كتب من تعليق عليهما فتوجهت بطبيعة الحال إلى مكتبة الإسكندرية فهل وجدت من ذلك شيئاً؟
كلا! بل خرجت منها وأنا أتساءل فيما بيني وبين نفسي: أيتجشم الإنسان مشقة الانتقال وضياع الوقت في الذهاب إلى المكتبة العامة ليقرأ رواية (اللص الظريف) أو (المرأة الغادرة)؟ وأين إذن أستطيع قراءة الوثائق والكتب العلمية إن لم أجدها في المكتبة العامة؟ ولم أطلب شيئاً عسيراً بل شيئاً مشهوراً لا تخلو من الحديث عنه صفحات الجرائد كل يوم. ثم دعاني داعي الإنصاف إلى الاعتذار عن المكتبة بعد ظهور كتب تتناول نشر الميثاقين أو الحديث عن الهيئتين. وأردت التأكد بنفسي فما هي إلا جولة حتى خرجت من عند بائع الكتب وأنا أتأبط كتابين، ولشدة حاجتي للإلمام بالموضوع دفعت فيهما ما يقارب من جنيهين.
وتساءلت مرة أخرى ألا يتمكن الفرد من معرفة ما يعرض له أثناء البحث على كثرة ما يعرض له إلا إذا كان يملك الوسيلة غلى الشعراء؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإلى أي حد تتحمل مالية الإنسان مهما عظمت تكاليف الكتب مع تعددها وارتفاع أسعارها!؟
وإذا كانت وزارة المعارف سامحها الله قد ألجأتنا بإقفار مكتباتها المدرسية إلى المكاتب العامة، فلا أقل من أن نجد لدى الأخيرة بغيتنا وإلا فنحن المبتدئين بالحجة التي لا تدفع عنهم لوم اللائمين ثم لنسلكهم بعد حين في عداد الجاهلين حقاً أنه لموضوع يستحق من قلم صاحب (التعقيبات) تعقيباً يكون له عند المسئولين صداه، عسى أن تستأنف المكاتب العامة سيرها في ركب الحياة).
هذه المشكلة التي يعرضها علينا الأستاذ درويش، هي كما قلت لك مشكلة الأمس واليوم والغد، وكل ما نملكه هو أن نعرضها بدورنا على من بيدهم أمر المكتبة العامة بالإسكندرية عسى أن يترفقوا بجيوب الراغبين في العلم والساعين إلى المعرفة، أولئك الذين نحن رؤوسهم غلى المعلومات وتفتقر جيوبهم إلى الجنيهات. . . الجنيهات التي لا يستطيع بغيرها الحصول على الكتب في هذه الأيام!
أما نحن فيما يختص بأمر المكتبات المدرسية فإن نقص الكتب النافعة فيها ليدعو إلى الأسى والأسف. . . ترى هل يستجيب معالي الدكتور طه حسين بك لرجائنا فيخص تلك المكتبات بشيء من رعايته؟ إننا نخاطب فيه الشخص الأديب قبل شخص الوزير، وفي يد الشخصيتين مزية التقدير والتنفيذ على كل حال!
مشكلة النقد والنقاد
الدكتور أحمد فؤاد الإهواني صديق عزيز، ولكنني لن أجامله كما يجامل بعض أصدقائه فيسرف في المجاملة. . . أقول هذا بعد أن قرأت له مقالين في نقد ديوان من الشعر، ظهر أحدهما في الثقافة وظهر الآخر في الرسالة. ولا ضير في رأيي من أن يكتب الأصدقاء عن كتب الأصدقاء، ولا ضير أيضاً من الكتابة هنا والكتابة هناك، لأن لكل مجلة قراءها الذين قد يقتصرون عليها دون غيرها من المجلات. لا ضير من هذا كله مادام النقد الأدبي نقداً سليماً من الوجهة الفنية، أعني أن يكون رائده إبراز القيم التعبيرية في الأثر المنقود إبرازاً لا يتسم بالتجني ولا يتصف بالمغالاة!
ترى هل حقق الدكتور الصديق شيئاً من هذا الذي أشرت إليه؟ كلا. . بل اندفع وراء عاطفته يسجل المحاسن حتى لقد بدا الديوان وكأن لم يكن به مأخذ من تلك المآخذ التي يقف عندها النقاد! وليته قد رد تلك المحاسن إلى مصادرها من القواعد المذهبية في نقد الشعر، إذن لحمدنا له هذا الاتجاه وشكرناه. . ولكنه قدرها إلى الطريقة (الإنشائية) في النقد، تلك الطريقة التي تذكرنا بنقاد العرب القدامى عندما كانوا يقولون: أشعر الناس الذي يقول. . ثم لا يذكرون لنا لماذا كان صاحبنا أشعر الناس!!
أريد أن أقول للدكتور الإهواني أرجو أن يتسع صدره لما أقول إنني قد أحتمل المجاملة مادام النقد قائماً على أصول فنية، وإنني قد أحتمل المهاجمة مادام النقد مرتكزاً على دراسة مذهبية، وبغير هذا لا أستطيع أن أحتمل، ولا أستطيع أن أتقبل هذا الذي يكتب من حين إلى آخر! وقد يعتذر الدكتور الصديق بأنه رجل قد وجهت ملكاته إلى الاشتغال بالفلسفة وعلم النفس وما يدور في محيطهما من دراسات نقدية. إذا اعتذر بهذا فلا عليه إذا ترك ميدان النقد الأدبي لمن يحسنون الخوض فيه. . أما إذا خطر له أن يناقش هذه الكلمة ليثبت لنا أنه يحسن الخوض في نقد الآثار الأدبية، فنحن على استعداد لمناقشته، وبيننا وبينه موازين النقد وهذا الذي كتب. . وديوان الأستاذ محمد عبد الغني حسن!!.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حوادث الطلبة وانعدام المثل
وقعت في موسم الامتحانات الحالي حوادث من بعض الطلبة، كان بعضها دامياً وكانت كلها داعية إلى الأسى والأسف، فقد أطلق طالب بكلية الطب الرصاص على لجنة الامتحان، واعتدى طالب بكلية الآداب على أستاذ منعه من الغش، وهجم طلبة كلية التجارة على لجنة الامتحان ليختطفوا أوراق الإجابة وضبط طالب (كبير) في كلية الحقوق - وهو موظف في الدرجة الأولى بإحدى الوزارات - وهو ينقل الإجابة من كراسة كان يخفيها.
وقد كانت هذه الحوادث موضع أحاديث المجالس، كما كانت أنباوها من مواد الصحف الهامة في هذا الأسبوع، وقد ذهب المعلقون عليها مذاهب شتى، فمنهم من يمصص شفتيه أسفاً على ما وصلت إليه أخلاق الجيل الجديد، ومنهم من ينحي باللائمة على مناهج التعليم المزدحمة بما لا تساوي فائدته ما بتجشمه الطلاب في وحفظه بلا وعي، ومنهم من يذكر مضار الإفراط في تناول القهوة والشاي والأقراص المنبهة التي تنهك القوى وترهك الأعصاب.
وكل ذلك صحيح، ولكنها أعراض ظاهرة وأمور مباشرة يستطيع المتأمل أن يلمح وراءها عاماً قلقاً، فتلك الحوادث تجتمع كلها عند الرغبة في الأخذ الهين دون بذل الجهد الذي يقتضيه النجاح، وليست هذه الروح في جو الطلبة فقط، بل تجدها في مختلف الطوائف والطبقات، أنظر إلى هذا الموظف الطالب (الكبير) لم تكفه الدرجات التي نالها حتى وصل إلى الدرجة الأولى، بل (سمت همته) إلى الحصول على مؤهل عال بطريقة هينة لعله يقفز إلى وكيل وزارة مثلاً أو غير ذلك مما تداعبه به أحلامه. . .
فما مبعث هذه الظاهرة؟ ومن أين جاءت تلك الروح؟ وهل هي تنزل على نفوس الطلبة مثلاً من السماء أو تتسرب إلى نفوسهم من الجو المحيط بهم على سطح الأرض؟ ممن يتلقى الشباب مثلهم في مطلع حياتهم؟ أليس ذلك من الآباء والأساتذة والزعماء والحاكمين؟ أليست عيونهم تتفتح على الوساطات في دخول المدارس والجامعات وفي الإعفاء من المصروفات بل في النجاح في الامتحانات؟ أليسوا يسمعون عن حظوظ من سبقوهم في
التخرج من الوظائف والترقيات، ى لجهودهم أو كفاياتهم بل للقرابات والمصاهرات وغير ذلك من وسائل (التنطيط) في مختلف العهود؟
والأساتذة - وهم الأدنون من الطلبة - شملهم الروح العام، فأصبحوا يبتغون الوسائل عن غير طريق البحث والإنتاج والابتكار لا تظفر بتشجيع ولا تقدير. والنتيجة المحتومة التي تدعو إلى الأسف أن تعي نفوس الشباب ذلك أكثر مما تعي مواد الدراسة، فيبعث في نفوسهم القلق، وهو في الحقيقة المفسد الأصيل لأعصابهم لا القهوة ولا الشاي ولا الأقراص المنبهة.
إن الشباب يقرؤون ويسمعون ما ينشر وما يقال عن مجرى الحياة في الغرب وتقدير القيم هناك بما يبعث الطمأنينة على الحقوق والمصائر وينشر العدالة والتماسك في المجتمع، ويقرؤون في تاريخ الإسلام ويسمعون من الأساتذة عن الأبطال وأعمالهم وتضحياتهم في سبيل المجموع. ثم يقارنون بين هذا وذاك وبين ما يقع تحت أبصارهم، فتهولهم الهوة الواسعة وتصدمهم الحقائق الراهنة المؤلمة إذ نحن لسنا من أولئك ولا من هؤلاء في شيء.
الداء كله في فقد الأسوة الحسنة وانعدام المثل الطيبة التي يحتذيها الشباب.
شهادة الموسيقى
تقدم أحد الموسيقيين للشهادة في قضية أمام إحدى المحاكم الشرعية فرد القاضي شهادته، لأنه موسيقي. . . محتجاً بالنص الفقهي القائل:(الزمار والطبال وكل من يشتغل في اللهو لا يصح أن تسمع شهادته)
دهش الرجل الموسيقي، ودارت بينه وبين القاضي مناقشة، قال له فيها: إن الموسيقي فنان له اعتباره في المجتمع والدولة تعترف به وتقدره. فلما أورد له القاضي ذلك النص؛ قال الموسيقي: إذن فالمحكمة لا تقبل شهادة عبد الوهاب أو أم كلثوم. . . قال القاضي: نعم، وإنني معجب بأم كلثوم وأحب أن أسمع غناءها في قصائد شوقي، ولكن هذا كله لا يغير النص!
ونحن نرى أن موقف القاضي سليم من حيث تمسكه بحرفية النص، ولكن ما هذا النص؟ وما سنده؟ وهل يلائم حياتنا العصرية؟ أنه ولا شك من اجتهاد، الفقهاء ولابد أنهم قالوا به بعد أن نظروا في أحوال عصورهم، والأصل في ذلك ألا تقبل الشهادة إلا ممن يدل ظاهر
حاله على أنه عدل، وقد رأوا أن حالة الطبالين والزمارين ومن إليهم من أهل اللهو في زمنهم لا تدل على العدالة.
والآن أين نحن من ذلك؟ إن الموسيقى والغناء والتمثيل فنون رفيعة، والموسيقيين والمغنين والممثلين لهم في المجتمع بحق مكانة ملحوظة، ومنهم أعلام ذوو أقدار كبيرة، فكيف ترفض شهادتهم لا لشيء إلا لأنهم موسيقيون أو مغنون أو ممثلون. نعم إن في بيئة المشتغلين بهذه الفنون بعض ذمي السلوك المنحرف، ولكنهم كغيرهم ممن لم ينص على عدم قبول شهادتهم، والعبرة بحال الفرد لا الطائفة.
لقد دهش ذلك الموسيقي حينما رفض القاضي قبول شهادته، بل لا بد أنه شعر بألم عميق في نفسه، لأنه وهو يشعر بقدره وسمو فنه يرى أن القضاء لا يعرفه إلى منزلة أي رجل عادي جاهل من ذوي الحرف والمهن التي لا تقبل المحكمة شهادته! فكيف يستطيع فنان محترم أن يوفق في عقله وفي شعوره بين منزلته الفنية والاجتماعية وبين تحقيره بعدم قبول شهادته في المحاكم الشرعية؟
هذا مثل لما وضع لزمن غير زماننا، وأصبح لا يوافق زماننا، ولا تمنع أصول الدين، بل تقتضي، أن نغيره إلى ما يوافقنا، بمقتضى إنزال الناس منازلهم وتحقيق الكرامة لذوي نفوس ومشاعر كريمة. وهو مثل نسوقه إلى علماء الدين، وفيهم من يحيون حياة عصرية يسمعون فيها الغناء والموسيقى ويشهدون التمثيل، ومنهم معجبون بأهل هذه الفنون، كذلك القاضي الفاضل، وقد سمعت مرة عالماً جليلاً يقول في مجلس يتحدث عن المغنين والمغنيات: نحن أم كلثوم. . إلى آخر كلامه، وهو يقصد أنه ممن يعشقون أم كلثوم في الغناء، وهؤلاء العلماء يخالفون في ذلك بحق نصوصاً فقهية تحكم بتحريم الغناء، وأذكر ما كنت قد قرأته في كتاب من كتب الفقه من (قول) لأحد الفقهاء مضمونه أن مجرد السماع حرام أما التلذذ بالنغمة فهو كفر!
ولا شك أنني أرى في مسلك علمائنا العصريين الذين يستمتعون بتلك الفنون ويعجبون بأهلها أي حرج، ولكن الذي آخذه عليهم أنهم يزاولون حياة (علمية) غير الحياة العلمية.
التكلم بالفصحى:
تناول بعض الكاتبين هذا الموضوع أخيراً على صفحات الصحف، وكان قد أثاره في
(الأهرام) الأستاذ عمر عبد العال يوسف، إذ دعا إلى اتخاذ اللغة العربية السليمة لساناً للخطاب وللتعليم في المدارس، وعالج الموضوع علاجاً تربوياً منطقياً حسناً. وقد ردد الدعوة بعده آخرون، وكتب الأستاذ علي الجندي ذاهباً إلى أن اتخاذ الفصحى أداة للخطاب بين الناس غير ممكن.
وأحب أن أحصر الكلام هنا في نقطة أراها هامة في هذا الموضوع عرض لها الأستاذان الأنفان، إذ ندد الأول بالسخرية ممن يتحدث باللغة العربية الفصيحة ولا سيما المعلمون في المدارس، واتخذ الثاني هذه السخرية سبباً لما رآه من أن هذه المحاولة مخفقة، واستدل بأمثلة مأثورة عن بعض من التزموا التكلم بالفصحى كالشيخ حمزة فتح الله، فسخر منهم الناس. والواقع أن الناس كانوا محقين في هذه السخرية، لأن أولئك المتفصحين كانوا ينطقون ألفاظاً غريبة تدعو إلى الضحك والسخرية حقاً، ومن هنا جنوا على اللغة من حيث أرادوا أن يحسنوا إليها، ومن دواعي السخرية أيضاً بعض المشايخ الذين كانوا ينطقون القاف من أقصى الحلق في كلمات عامية. . . وقد تغيرت هذه الروح، بانقراض هذه الصور، وبانتشار التعليم ووسائل الاتصال بالجمهور، التي تتخذ الفصحى أداة للتعبير. فصار التحدث ببعض العبارات الفصيحة من المظاهر الدالة على الثقافة والأناقة اللسانية.
وإذا كنا نتحدث باللغات الأجنبية في بعض المواطن فإن مما يؤسف له أن الحديث الكامل باللغة العربية لا يوجد في مجلس من المجالس، حتى مجالس المثقفين والأدباء، بل إن كثيراً من هؤلاء يخطبون ويحاضرون بخليط من العامية والعربية، وأهم أسباب ذلك، التهاون، لا العجز؛ ولو أننا اهتممنا بأن نتخاطب ولو في بعض الأحيان بهذه اللغة التي تقرؤها ونكتبها لجرى عليها اللسان واستعذبها وإن تعثر في أول الأمر.
عباس خضر
البريد الأدبي
كرد علي يسبح بذم المصريين
تلقينا من دمشق كتاباً لأستاذ فاضل ينقل فيه بعض ما يقيئه كرد علي في ذم مصر والمصريين نذكره بنصه. . .
(إني الآن في دمشق وفي هذه الأثناء زرت المجمع العلمي فوجدت السيد كرد علي وحوله بعض الناس، فسألني عن مصر وكنت قد علمت النقمة عليه هناك فأخبرته بها فثارت ثائرته. واشتد الحوار بيني وبينه، أنا أنتصر للمصريين وهو يحمل عليهم حتى خرجت غضبان أسفاً.
وأرى أن هذه الثورة بلسانه البذيء في هذه المجالس لا ينبغي أن تترك سدى، غذ أرى أن في ذلك ما يزيد بذاءته ونحن في أمس الحاجة أن لا يشيع مثل هذا التحامل ثم لا يسمع الناس تأديب من يشيعه في المجتمع. وعلينا أن يفهم المجمع وأعضاؤه سوء ما يأتيه رئيسه وأن هنالك من قومه وممن هم قريبون منه من لا يقره على قوله البذيء.
ولقد تطرف وتمادى في بذاءته حتى لم يتورع عن قوله بالنص: (إن هؤلاء المصريين الذين يحاولون السيادة في عالمي العلم والأدب لم يخرجوا عن كونهم كلاباً خلقت للتهويش). ذلك بعض ما رواه الكاتب الفاضل؛ وقد ثارت بي الحمية واندفعت أنبته كثيراً في المجلس ثم خرجت. .)
وقد تلقينا كثيراً من الكتب في هذا المعنى طلب مرسلوها الأفاضل أن يتسع لهم صدر الرسالة لرد مفترياته وصد هجماته. والرسالة تشكر لهم هذا الفضل وتعدهم أن تنشر ما يكتبون إزهاقاً للباطل وإحقاقاً للحق.
دمشق باب البريد
السيد جواد الزيات
ثم للحوماني
إلى الدكتور إبراهيم ناجي
قرأت كتابك الجديد (أدركني يا دكتور) في شغف وإعجاب، فتبين لي بحق أن (ناجي) الشاعر الموهوب قد برهن على أنه كاتب مصور بارع، وباحث اجتماعي موفق، ومحلل نفسي حصيف. كما أثبت عملياً (أن الأطباء لو كتبوا أجادوا، ولو أذاعوا ما علموا لأحدثوا رجة في الأدب، وتغييراً في أساليب الحياة. . .).
غير أني لاحظت بوضوح أن قصتك قصة (ميلاد عبقري) هي نفسها قصة (ميلاد فنان) والأخيرة إحدى طرف القصصي الفرنسي الفذ (أندره موروا) مع شيء قليل من التغيير والتحريف فهل من إيضاح؟؟
هذا وأكرر إعجابي بسفرك القيم الممتع، راجياً ألا تغضبك الصراحة التي يزدريها العصر المودرن!! ثم السلام عليك من المشوق إليك.
محمد سلامة مصطفى
أساتذتي الإجلاء
قرأت ما نشر في مجلة الرسالة الغراء وأعجبني لأنه من هذا الطريق وحده نصل إلى الحقائق ويتضح الصواب، وخاصة لو كان نقاشاً حول تصحيح خطأ وقع في مسائل علمية، والمتناقشون من أساتذة ذلك الفن ضربوا فيه بسهم وافر وتتلمذ على أيديهم طوائف متعددة. ولكن يؤلمني كثيراً أن ينتقل الجدل بعد هذا إلى أمور شخصية؛ فمثلاً يذكر الأستاذ خفاجي أن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يأبى أن يرد عليه سلامة، أو أن يمد إليه يده؛ ثم يذكر بعد هذا أنه فعل ذلك لا غيرة على العلم ولا ضنابة بل لأن الأستاذ الناشئ خفاجي خرج على الكلية بكتاب في البلاغة في أم ذلك الأستاذ عبد المتعال الصعيدي لأن له كتاباً آخر يتناوله الطلاب ومر على حجرات الدراسة محذراً الطلاب من الكتاب الجديد. أقرأ ذلك متألماً فأجد المتخاصمين أستاذ جليل تعلمت العلم على يديه وأشهد الله أني ما رأيت منه إلا كل خير وما تعلمت منه إلا الخلق العظيم والأدب الكريم. وأما الأستاذ خفاجي فزميلي عاشرته في معهد الزقازيق فلم أر منه إلا كل ما يزين أساتذتي ما بال هذا وأنتم الأمة وضعناكم في البرج العاجي ثم اتخذناكم مثلاً تحتذي ونوراً يستضاء به.
محمود إبراهيم موافي
يوميات طفل
قرأت بهلال شهر يونيو الصادر في أول هذا الشهر قصة (يوميات طفل) للكاتب الهنغاري (جوزيف بارد) وقد دهشت لزعم المجلة أن هذه القصة تقع في كتاب لحضه لها تحت عنوان (كتاب الشهر) الأستاذ حلمي مراد بينما ورد سهواً في التعريف بالكتاب - وهو تعريف مترجم عن الأصل المنقول عنه القصة - (يوميات طفل) هي أروع قصص الكاتب القصار - وهذه الحقيقة. . فإن (يوميات طفل) ليست سوى قصة قصيرة بعنوان (قصة طفل) كتبها جوزيف بارد باللغة الإنجليزية وهي تقع نحن خمس عشرة صفحة من الحجم الكبير فهي أذن أقصوصة وليست قصة طويلة تستغرق كتاباً بأكمله كما زعمت المجلة المذكورة.
وبقي أن نعرف هل هذا الذي زعمته المجلة خطأ غير مقصود أم أنه متعمد فإن كان الأولى فقد وجب على المجلة أن تبادر باستدراكه في العدد القادم وإن كانت الثانية فهي سقطة شنيعة لا يحمل أن تصدر عن مجلة من مجلات الخاصة (كالهلال) لأنها توحي بخداع القارئ والتغرير به. . . وهذا ما لا أحب أن يوحم به (الهلال) بمال من الأموال.
كمال رستم
إلى رجال التصوف
هل أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الخزار القواريري الصوفي الزاهد المشهور من أصل عربي؟؟ وإذا كان عربياً فهل هو من سلالة الأشراف؟
عبد الرؤوف الشريف
(الأبحاث)
مجلة تصدر عن الجامعة الأمريكية في بيروت أربع مرات في السنة
يحررها أساتذة الجامعة الأمريكية وغيرهم. وهي منبر حر للمفكرين في جميع الأقطار العربية.
اشتراكها السنوي في لبنان وسوريا 8 ليرات لبنانية أو سورية وفي الخارج اشتراكها
السنوي جنيه استرليني واحد.
تطلب من سكرتير التحرير - الجامعة الأمريكية في بيروت لبنان.
القصص
الخادم
للكاتب الروسي ص. سيمونوف
للأستاذ جمال الدين الحجازي
عاد جيرسيم إلى موسكو في زمن كانت فيه البطالة منتشرة في البلاد، وكان يأمل أن يجد عملاً، إلا أنه مكث يبحث ثلاثة أسابيع دون جدوى! وقد آلمه أن يبقى عاطلاً عن العمل وهو لا يزال في عنفوان شبابه وكامل صحته، فمكث مع بعض أقاربه القرويين مدة وجيزة عله يجد عملاً. كان جيرسيم قد قضى حداثته خادماً في أحد البيوتات، ثم اشتغل خادماً لأحد التجار إلا أن الخدمة العسكرية أجبرته على ترك عمله، ولما انتهى تدريبه عاد إلى موسكو، فآلمه أن يجد عمله منتهياً، وكانت كل ساعة تمر عليه يحس بها كيوم، إذ أن شوارع المدينة كانت قد أسأمته لكثرة تجواله فيها عبثاً، وكان يستوقف الناس في الشوارع ويسألهم عن إيجاد عمل له ولكن دون جدوى. وأخيراً شعر بأن أقاربه قد سئموا منه وشعر بأنهم يستثقلون ظله لكثرة التردد عليهم فآثر الابتعاد عنهم، مفضلاً الجوع والارتماء في الشوارع.
التقى جيرسيم في أحد الأيام بأحد الأيام أصدقائه وكان يسكن في ضواحي موسكو قرب سوكولنك ويعمل حوذياً لتاجر غني يدعى شاروف منذ مدة طويلة كان فيها مثال الرجل المخلص الأمين في عمله، فأحبه شاروف وأولاه ثقته التامة لاخلاصه وتفانيه في العمل وجعله مسئولاً عن جميع خدمة ولما وقعت عيناه على صاحبه حياه بحرارة ورجا منه أن يجد له عملاً فقد مكث مدة طويلة عاطلاً فسأل (ياجور) صديقه وهل رجعت غلى التاجر الذي كنت تعمل عنده ليعيدك إلى العمل؟
- أجل لقد رجعت إليه ولكنه كان قد أحضر شخصاً آخر بدلاً مني!
- وهكذا أنتم أيها الشباب لا تخلصون في أعمالكم وتكون عاقبتكم وخيمة وكان من الخير لكم أن تخلصوا في عملكم تكسبوا محبة رؤسائكم.
- نعم القول ما تقوله يا صديقي، ولكنك تعلم إن الإنسان ليس معصوماً من الخطأ وأنه ليس
ملاكاً، فدعنا من هذا اللوم الذي لا يجدي نفعاً، وقد عهدك الصديق المحب للخير، فأرجو أن تجد لي أي عمل فأكون لك من الشاكرين! فابتسم ياجور من هذا الثناء وشكره على ذلك وطلب منه الانتظار قليلاً. . . رجع يا جور واخبر صديقه بأن سيده سيسافر إلى بلدته بعد نصف ساعة وأنه أعد الخيول لذلك وقال له:
- أترغب في أن تعمل خادماً معي عند شاروف؟
- وهل يريد السيد شاروف خادماً؟
- أجل إن خادمه السابق قد بلغ من الكبر عتيا وهو لا يقوى على أداء عمله.
أكون شاكراً لو تمكنت من إيجاد عمل لي إذ لا أستطيع أبقى طويلاً عاطلاً عن العمل.
- حسن! سأتحدث مع شاروف في هذا الموضوع فاذهب الآن عد غداً لأخبرك بما تم. فشكره على ذلك وسار في طريقه. . .
. . . أعد يا جور الخيل وارتدى ملابس الحوذية المعتادة وساق العربة إلى الخارج، وكان شاروف جالساً في العربة يسرح الطرف في مزارعه الواسعة وأمارات الغبطة مرتسمة على محياه، ولما رآه يا جور علة هذه الحالة وجد الفرصة سانحة ليحدثه عن صديقه فقال له:
- إن لي صديقاً في مقتبل العمر يا سيدي. وهو يرجو أن تجد له عملاً فقد مكث ردحاً من الزمن عاطلاً.
- حسن، ولكنك تعلم أنه لا عمل عندي.
- إن صديقي يجيد جميع الأعمال التي يقوم بها (بولكرتش) الذي أصبح مسناً لا يقوى على العمل!
- لا أستطيع ذلك فقد مكث خادمنا مدة طويلة وأفنى زهرة شبابه وهو يعمل عندنا وهو يعمل عندنا ويقوم بخدمتنا خير قيام وليس من العدل أن أطرده من عمله دون ذنب جناه.
- أنه ولا ريب قد ادخر بعض النقود التي يمكنه أن يعيش بها الأيام الباقية من حياته.
- لا. أنه لم يدخر شيئاً إذ أن راتبه لا يكفيه، وإن له زوجة تقاسمه العيش.
- أعتقد يا سيدي أنه من الخير الاستغناء عنه، إذ أنه لا يجيد عمله، وقد شوهد مرات عديدة وهو يشرب الشاي مع صحبه، تاركاً عمله، وراء ظهره. أليس من العبث أن نقدم له
راتبه وهو لا يعمل شيئاً!
- لا أوافقك على ذلك أبداً - فليس من الحق ولا العدل أن نستغني عن خدمات هذا العجوز بعد أن مكث في خدمتنا خمسة عشر عاماً. إن الاستغناء عنه وهو في هذه السن جريمة لا تغتفر!
فألح ياجور على سيده بأن يجد لصديقه أي عمل كان، ولم يسع شاروف أخيراً إلا القبول وطلب منه أن يبعث إليه لمقابلته، فشكره على ذلك وأعلمه بأنه سيجده مثال الخادم النشيط.
وفي الغد عاد جيرسيم إلى صديقه كما وعده وتناولا الشاي معاً وبعد ذلك سارا إلى سيده شاروف، ولما وصلا سأل شاروف جيرسيم عن العمل الذي يجيده فأخبره بأنه يستطيع القيام بأي عمل يطلب منه، فطلب شاروف منه أن يأتي في الغد ليتسلم عمله الجديد.
فرح جيرسيم فرحاً شديداً. وأوصى ياجور صديقه بأن يقوم بعمله خير قيام حتى يكسب ثقة سيده فوعده خيراً. خرج جيرسيم ليهيئ بعض ما يحتاج إليه، ولما سار بضع خطوات وجد بيت (بولكرتش) وقد غطاه الثلج فلم يلق بالا إليه وواصل سيره، ولكنه سمع صوتاً من الداخل يقول:(وما العمل الآن يا بوالكرتش؟ وماذا سيكون مصيرنا؟ إننا فقراء لا نملك شروى نقير. لقد عملنا طويلاً وكان جزاءنا بعد هذه الأعوام الطويلة التي قضيناها غير شريف!) فأجابها زوجها بأن شاروف لا ينظر إلا لمصلحته الخاصة شأن غيره من الناس؛ وهو لا يختلف عن غيره من القوم الذين ينظرون إلى الطبقات الفقيرة نظرة ألد لعبده؛ فما دام العبد قوياً يستطيعون حلبه كالنعاج فهو بخير وإذا ما ضعف أو تقدمت به السن قليلاً شعروا بثقله عليهم وجعلوا يتحينون له الفرص للتخلص منه! فقالت زوجة، وكانت الدموع تبلل وجنتيها، إن يا جور قد سبب لنا كل هذا الضر - ولكني سأقوم بدوري في إبعاد هذا الشاب من الخدمة واتهامه بسرقة الشعير والكلأ وبيعه فنتمكن بذلك من التخلص منه ومن صديقه الذي أراد بنا سواءاً!
سمع جيرسيم كل ذلك فحزن حزناً شديداً إذ سبب لهذه العائلة الوادعة هذا الضيق وأبدلهما من بعد أمنهما وسعادتهما خوفاً وشقاء؛ فمكث مدة وجيزة شارد الذهن ثم سار حتى وجد نفسه إلا في بيت صديقه يا جور، فقال له وهو مطرق الرأس: (أشكرك يا صديقي على ما بذلته لي من خدمات ولكنني لا أستطيع أن اعمل هنا. . . أجل لا أستطيع أن أعمل
وسأبحث بنفسي عن عمل آخر في غير هذا المكان!) فغضب يا جور غضباً شديداً وطلب منه الخروج من غرفته حالاً.
فلما خرج جيرسيم من الغرفة شعر بفرح وسرور عظيمين.
جمال الدين الحجازي ل