المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 885 - بتاريخ: 19 - 06 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٨٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 885

- بتاريخ: 19 - 06 - 1950

ص: -1

‌3 - أدب المجون

يسأل نرنسوا مورياك عن ثلاثة أسئلة عن أدب المجون، أولها عن نتائجه، وثانيها وثالثها عن أسبابه. فأما سؤاله عن نتائجه فما أظن جوابنا عنه يختلف عن جواب زملائنا الأوربيين في شيء؛ لأن خطر الأدب الماجن على الفرد والجماعة وعلى الأدب نفسه لا يماري أحد فيه لا منا ولا منهم. وهل يماري أحد في أن البهيم الذي يساكن الإنسان في جسد واحد إنما يروضه ويكبحه الأدب القائم على العقل والدين والعلم، تارة بالفطام واللجام، وتارة بالسياسة والملاينة، فإذا فسدت طبيعة هذا الأدب، فانقلب القيد سوطاً يلهب، والشكيمة مهمازاً يحث، أفلت البهيم من ربقته فأفترس الإنسان الذي يعيش معه، وحطم المجتمع الذي يضطرب فيه. والأدب الذي أطلق هذا البهيم بتمليق غرائزه وتحريض شهواته سينتهي أمره لا محالة إلى أن يصير آفة تتقى وجرثومة تحارب؛ لأن في ابن آدم محكمة داخلية نسميها الضمير، إذا تعطلت حيناً فأن تعطل أبد الدهر

وأما سؤالاه عن أسبابه، فالأمر بيننا وبينهم في جوابيهما جد مختلف. ليس في أدبائنا أديب تلقى عليه التبعة في انحطاط الأدب الحديث كسارتر، وليس في أدبنا مذهب يساعد على هذا الانحطاط كالوجودية؛ إنما هي العدوى انتقلت إلى مصر من مكان الوباء فصار فيها المرضى وحملة المرض. ولا أقصد بالعدوى عدوى حدوث المجون، فإن المجون كما قلت أصيل في كل نفس، عريق في كل أدب؛ إنما أقصد بالعدوى عدوى نشره في الصحف والكتب والتمثيل بتوعيه المحقق والمصور.

ليس على المرء من حرج أن يماجن صحبه الأدنين في مجلسه

الخاص؛ وليس عليه من حرج أن يعري في غرفة نومه أو في حمام

بيته؛ وإنما الحرج كله أن يماجن في ملأ أو يعري في شارع. والذين

يسمعونه مفحشاً ولا يعترضون، أو يرونه عارياً ولا يعرضون، لا

يقلون مجوناً ولا جنوناً عنه.

فالمسألة في أدب المجون مسألة ضمير في الكاتب والناشر، وكرامة في القارئ والناظر. في وجودهما عدمه، وفي عدمهما وجوده. كنا قبل أن نعرف أوربا نتحرج أن نرى المرأة

ص: 1

في نافذة أو نماشيها في طريق، فأصبحنا نقبل أن نواجهها في دكان أو أن نجالسها في حان! وكنا قبل أن نقلد أوربا نذوب خجلاً إذا سقط قناع المرأة عن استحياء، أو انحسرت ذراعها عن غفلة، فأصبحنا نحترق شوقا إذا كشفت ظهرها في مرقص، أو خلعت ثوبها على الشاطئ!

ومن أعجب العجب أن نرضى رضا الغبطة واللذة إذا رأينا الأمهات والزوجات والبنات عاريات على (البلاج)، ثم نغضب غضب التقى والورع إذا رأينا الراقصات والممثلات والمومسات عاريات على الورق! لماذا نقبل ما يفعل في الشواطئ والحفلات، ولا نقبل ما يقال في الصحف والمجلات؟!

إن الطبيعة موضوع الفن؛ وإن الحياة مادة الأدب. والفنان الحق يصور بحق، والأديب الصادق يعبر بصدق. فإذا شئتم أن يطهر أدبكم من المجون والبذاء، فطهروا مجتمعكم من الفجور والرياء. إن الأدب صورة، جمالها من جمال الأصل، وقبحها من قبحه.

أحمد حسن الزيات.

ص: 2

‌صور من الحياة:

قلب أب!

للأستاذ كامل محمود حبيب

- 1 -

أتذكر - يا صاحبي - يوم أن عرفتك أول مرة فحن لك قلبي، وصبت إليك نفسي، ورقت مشاعري، يوم أن كنت عند مشرق الحياة صبياً ضاوي الجسم ناحل العود معروق العظم، تهاوى من ضعف وهزال، وتساقط من ضنى وحزن، فلا تجد اليد الرفيقة التي تمسح على أشجانك، ولا القلب الرحيم الذي يعطف على أسقامك، لأنك كنت قد فقدت أمك فما استطاع أبوك أن يصبر على الوحدة، وإنه ليحس التشعث والضياع، ويستثمر الضيق والملل، والدار من بين يديه خاوية تصفر، والخادم من أمامه لا ترعوى عن تراخ ولا عن إهمال، والدنيا في ناضريه تضطرب في حيرة وقلق، وقلبه يخفق بالأمل والرغبة وهو شاب في ميعه الصبا ووفرة المال، تتدفق في عروقه ثورة الشباب وتتألق في أعصابه دواعي الفتوة. . وضاقت به الحيلة، فانطلق يتلمس الخلاص في فتاة من ذوي قرابته يبوئها عرش داره وقلبه معاً لتملأ فراغاً خلفته أمك منذ شهور وشهور. وجاءت الزوجة الجديدة فأحست كأنها تزحمك بالمنكب وتدفعك بالقوة وتغلبك بالحيلة، لتستلبك من دارك ومن أبيك في وقت معاً، فحملت لها بغضاً؛ ثم انطويت على خواطر مضطرمة يتأجج لظاها في ذهنك.

واستحالت خفة الصبا فيك إلى رزانة كرزانة الشيخ عركته الخطوب وصقلته الحوادث، وتعكر صفو الطفولة في نفسك ممثل هم الرجل ينوء كاهله تحت عبء السنين العجاف؛ فانزويت تكتم أشجاناً غمرت حياتك على حين غفلة منك، وأنت ما تزال عند مطلع العمر.

وأفزع أباك أن يرى حالك تتغير، فتركن إلى الصمت وأترابك هناك في الشارع يملون الدنيا ضجة وصياحاً، وتسكن إلى الوحدة والدار تموج بالأهل من كل سن فلا تهدأ إلا ساعة القيلولة، وتستطيب الخلوة وأنت في سن الهرج والحركة تحبو إلى الشباب في غير ريت ولا جهل، وتنفض يديك من حاجات الغيط والدار فلا تسلى الهم بالعمل ولا تسرى عن النفس بالشغل. فجلس إليك - في خلوة - يحدثك حديث تجاربه، ويوحي إليك - وأنت

ص: 3

أكبر بنيه الثلاثة - إنك رب هذا المال وسيد هذه الدار وصاحب هذا السلطان، ثم أقامك على بعض شأنه لترضى، فانفجرت أسارير نفسك وهدأت جائشة قلبك وانجابت عنك غمة أوشكت أن تعصف بك في غير رحمة ولا شفقة.

ورحت أنت تبسط سلطانك على شؤون الدار في شطط لا عرف الاعتدال، وتصرف الأمر في حمق لا يعرف العقل، وتلقي الرأي في طفولة لا تعرف الحصافة، غير أن أباك كان من ورائك يهدهد من غلوائك في رفق، ويكبح من جماح أهوائك في لين.

لقد كانت زوجة أبيك - ولا ريب - تطمع أن تكون سيدة الدار وصاحبة السلطان، وهي ترى الدار تفهق بالنعمة وتشرق بالثراء، ولكنك كنت تسد أمامها المنفذ في قسوة، وتغل يدها في غلظة، فما تنال من مال أبيك إلا بقدر لا يشبع التهم ولا يشفى الغلة، فراحت ترفقك في غيظ يحمل في ثناياه مقتاً وكراهية. وأبن أنوثتها أن تستلم وتخضع فهبت تحتال للأمر في مكر وخديعة، واندفعت تنفث سمومها في قلب أبيك في هوادة وفي رقة؛ وأبوك يلقي السمع حيناً ويغضى عن الحديث حيناً، والشيطانة لا تهدأ ولا تستكين، وأنت في لهو يشغلك الغرور وتعميك الغواية.

واستطاعت الزوجة أن تجذب إليها الرجل رويداً رويداً لينأى عنك رويداً رويداً، وأنت في لهو يشغلك الغرور وتعميك الغواية.

وسرت في أضعاف الدار ثورة مكفوفة توشك أن تنفجر فتبعثر الهدوء والراحة، وتذري السلام والأمن: فأبوك يجلس إلى زوجته كل مساء في خلوة يستمع إلى حديثها في صمت، وهو يستشف من خلال كلماتها روح الختل والخداع آناً، ويلمس فيه سمات الصراحة والحق آناً، فيتهم زوجه ويرميك أنت بالطيش والنزق. والزوجة تلبس ثوب الثعلب فتلقاك في بشاشة واستبشار على حين أنها تنشر من حواليك شباكاً محبوكة الأطراف لتعكر صفو ما بينك وبين أبيك، وهو يسلس وينقاد. وأنت. . . أنت أيها الصبي. . . لا يستطيع عقلك الصغير أن ينحط إلى بعض ما يدور حولك مما ينسجه عقل شيطان حصيف مرن على المداهنة والمكر، فلا ترى ولا تسمع، غير أنك تتشبث بسلطانك في الدار مثلما الطفل بلعبة عزيزة على نفسه يخشى أن يستلها مارد جبار من بين يديه الصغيرتين.

وسافر أبوك - ذات مرة - إلى المدينة لبعض شأنه، فجلست أنت في مكانه من الدار وقد

ص: 4

صورت لك أخيلتك الطائشة أنك قد لبست ثوب الرجل الذي فيه، فاندفعت تأمر في كبرياء وجفوة، والفتاة تبسم في عبث ساخرة من نزواتك الطفلية ولكنها لم تمتنع عن رغبتك خشية أن تندلع من حماقتك نار حامية يلتهم أوارها سعادة تثر جاها في هذا الدار، فخضعت وهي تسر في نفسها أمراً. وجاءك الغداء - بعد ساعة - ينضم على أطايب الطعام: على البيض والسمن والزبدة والجبين والعسل و. . . مما يتحلب له الريق وتثور له شهوة البطن. . . وجلست إلى الطعام، بين أخويك، تريد أن تشبع النهم والكبرياء في وقت معاً.

ورأيت أباك يدلف إلى الدار - في هذه اللحظة - فقلت لأخويك، (انتظرا حتى يأتي أبي فينعم معنا بهذا الطعام الشهي، فهو - ولا شك - في حاجة إليه بعد هذا الضنى والنصب. أنه لا يلبث أن ينفي عنه وعثاء الطريق وعناء السفر) فأمسكا عن الطعام وأمسكت.

يا عجباً! هذه هي نوازع الصبية؛ صافية كالجوهر الخالص، نقية كالسلسبيل الطاهر، لطيفة كالظل الوارف ساعة الهاجرة، ندية كهبات نسيم الفجر الساحر، آه، لو عاش الإنسان عمره في سريرة الصبي وشعور الطفل، إذن لتوارت من الحياة شوائب تزعج النفس وتفزع القلب!

وخرج أبوك - بعد لحظات - من لدن زوجته يستحث الخطى نحوك وقد اكتسى وجهه بنبرات من الحزن والضيق لم تشهدها وأنت تهش للقياه. وأفزعك أن ترى على وجهه أثر الغضب فأمسكت عن الحديث. ولكنه أقبل في ثورة عارمة يأمر الخادم أن يرفع الطعام من بين يديك أنت وأخويك أحوج ما تكونون إليه. آه لقد وسوست الشيطانة، وأذهلتك المفاجأة فشرقت بريقك، وماتت الكلمات على شفتيك، ودارت الدنيا بك من شدة الصدمة فسقطت متهالكاً على كرسي بجوارك، وآذاك أن يبدو ضعفك بين يدي أخويك الصغيرين وأنت - كرأيك - رب المال وسيد الدار وصاحب السلطان، فتماسكت تماسكت لترى أباك والطعام يتواريان في طرفة عين، فنظرت إلى أخويك من عبرات حرى تتدفق على خديك تنطق بالأسى واللوعة واليأس جميعاً.

وبكى أخواك الصغيران فاحتضنتهما في عطف وحنان لتشعرهما بأنك أنت أمهما حين ماتت الأم، وأنك أنت أبوهما حين قسا الأب. واختلطت عبرة بعبرة، وخفق قلب لقلب، وتعانقت زفرة وزفرة، واجتمع الرأي على أمر، ثم اندفع الركب يسير.

ص: 5

وبدا لك - يا صاحبي - إذ ذاك، أن أباك كان يختلك عن نفسك، وأن زوجته كانت تسخر من طفولتك، وأنت لست شيئاً في هذه الدار.

وتبعتكم - يا صاحبي - بعبراتي، وأنا - إذ ذاك - صبي مغلول اليد واللسان، فرأيت أطفالاً ثلاثة شردتهم القسوة ففزعوا عن دار أبيهم في ذله وانكسار، وقد هدهم الأسى وأضناهم الحزن وأرهقهم الجوع، على حين قد ترفعوا عن الشكوى فأبوا على وسموا على الخسف وتبعتكم بعبراتي، ولكن إلى أين - يا صاحبي - إلى أين؟

كامل محمود حبيب

ص: 6

‌أبن تيمية والمنطقيون

للأستاذ إبراهيم الابياري

أتعرف الشيخ المحجاج المغلب حجة الحنابلة غير مدافع أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميه. يعرفه الشوكاتي محمد بن علي فيقول: أنا لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما أظن الزمان سمح ما بين عصري الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما.

ويسبقه أبن حجر أحمد ابن علي فيقول فيه: وفاق الأقران وسار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول.

ومن قبله يقول الحافظ المؤرخ شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن أحمد الذهبي. واللفظ يكاد يكون لي: كان آية من آيات الله، السنة نصب عينيه، لم ير أشد منه استحضاراً للمتون، ولا أقدر في مسائل الخلاف.

وقريب من هذا ما قاله ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر، ثم ابن رجب الحنبلي عبد الرحمن بن أحمد.

وغير هذا فقد أفرد غير واحد كتاباً، فخصه المقدسي محمد أبن أحمد بالعقود الدرية في مناقب الشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وصفي الدين البخاري بالقول الحلي في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي، والكرمي مرعي بن يوسف بالكواكب الدرية في مناقب الإمام ابن تيميه.

وتقرأ للمستشرقين عنه ما كتبه (غولد زيهد) في دائرة المعارف. ثم تلك الدراسة الممتعة الجامعة للأستاذ الكبير (هنري لاوست).

وإن لم تغن فإليك جملة مما ألف الرجل تنبيك عن همة لا تفتر وقلم لم يجف وعمر حافل معمور الأيام والليالي ذكروا أنها تزيد على أربعة آلاف كراسة، كما قالوا أنها بلغت ثلاثمائة مجلد. أسمي منها. الجوامع في السياسة الإلهية والفتاوى، والإيمان. والجمع بين النقل والعقل، ومنهاج السنة، والفرقان في أولياء الله وأولياء الشيطان. والواسطة بين الحق والخلق، ومجموع رسائله، وقد أحصيت فيه تسعا وعشرين رسالة. ثم كتابه الذي هو قطعة منة عقله وفكره (الرد على المنطقيين).

ابن تيمية من هؤلاء النفر الذين أكدتهم عقولهم وعاشوا لما يدينون به ينفحون عنه

ص: 7

ويجارون به، يستثمرون ما يعافه الوادعون، ويحلو لهم ما يمر على مذاق الخانعين، يصمدون للإحن لا يهنون، وللنكبات لا يريمون، ثم إذا هم باخرة قد اجتمع الناس لهم على الرأي الذي كافحوا له وغالبوا.

وكذلك كانت حياة ابن تيمية، سعى به بيبرس الجاشنكيز، فضمه السجن أعوام فما استكان، وكأنه ما خرج منه إلا ليعود إليه ثانية وثالثة، وهو هو إلى أن مات رحمة الله سنة 728 هـ وإذا الألسن كلها ثناء، وإذا ما كتب وألف متنه الأعين، وإذا ما رأى حديث المجالس.

جلست إلى أبن تيميه وهو آخذ بخناق المنطقيين في كتابه (الرد على المنطقيين) يبادلهم بالرأي رأياً، وبالحجة حجة، فآنست بالرجل عقله وتفكيره، وما كنت أعرف قبل ذلك أن أبن تيميه يقوى لأر سطو فيوهن من مقاييسه ويضعف من أدلته.

وأنت إذا استمعت إلى ابن نديم في الفهرست حفظت عنه كتب أر سطو الثمانية في المنطق وهي، المقولات، والعبارة، وتحليل القياس، والبرهان، والجدل، والمغالطون، والخطابة، والشعر. ثم إذا جريت معه قليلاً عرفت من ترجم هذه الكتب إلى العربية ومتى نقلت.

وتعجب حين لقى جمهرة من المفسرين والمحدثين والفقهاء كتاب المنطق لأر سطو في حذر، وكادوا ينسبون من نظر فيه إلى الزندقة. ولن ننسى رسالة السيوطي جلال الدين في تحريم علو المنطق، ثم لا ننس تلك الحرب الصاخبة التي حمى أوارها بين المنقولين والمعقولين والتي خرج منها علماء المعقول زنادقة ملحدين.

وعز على صفوة من المفكرين أن ينتهي الخلاف بين النقليين والعقليين عند هذا فشمروا للتوفيق بين الرأيين. مؤولين ما استطاعوا إلى التأويل سبيلاً، متخففين من أقوال الحكماء ما لا يجد دليله من كتاب أو سنة، فمنهم من أبعد ومنهم من قارب. وقد كانت محاولات أدلى فيها بالدلو إخوان الصفا ومن لف لفهم كالباطنية والإسماعيلية. وإذا ذكرنا الإسماعيلية ذكرنا ابن سينا الذي تربى في حجورهم وغذوه بتعاليمهم وكان له جولة في هذا الميدان كان فيها كالظل لأر سطو.

وتمخضت الأيام عن شيخ من شيوخ الإسلام نشأ والباطنية في عنفوانها فجال في هذا الميدان جولات على نهج من التوفيق والجمع بين الرأيين، أسلم مغبة وأقرب إلى أنصاف أهل السنة وإرضاء المتدينين، وكان هذا الشيخ الحجة أبا حامد الغزالي.

ص: 8

ويمضي الغزالي عام خمس بعد الخمسمائة والعالم الإسلامي في لهفة إلى مفكر يقف إلى أر سطو في منطقه موقفاً أكثر إرضاء وأقوى إشباعاً، فقد انطوت النفوس على شيء لم تملك برهاناً يغلبه وحجة تزلزله، ومضت مع راسخ ما تؤمن به وتعتقد تغالب ما يوسوس به الفكر ويهمس، وهي لا تجد بين يديها مفكراً يواجه أر سطو ويقف له.

وفي عام واحد وستين وستمائة من الهجرة ظفرت (حران) بمولود أسمه أحمد، لم يكن العالم يقدر أن فيه البغية المنشودة، ولكنه ما شب وترعرع وبدهت بوادهه حتى علقت به الآمال في ذلك المصال، ولم يكن غير أبن تيميه.

ومن قبل أبن تيميه كلف أبو البركات البغدادي بمحاجة أر سطو في منطقه وصال معه صولات. وتكاد تظفر بأول فرسان هذا الباب، وكتابه المعتبر فيه الكثير من هذه المواقف.

إلا أن ابن تيميه، وإن جاء لاحقاً، يكاد يكون المحجاج المعول عليه والند المكافئ، وبودي أن أشرك القارئ معي فيما أفدت، ولكني لم أجد في صفحات الرسالة ما يسعف، وحسبي من ذكره ما يحفز كل مفيد أن يرجع إليه، ليعرف عن أبن تيميه ما عرف لأر سطو.

إبراهيم الابياري

ص: 9

‌دراسات أدبية:

موقف النقاد من الشعر الجاهلي

للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجة

1 -

الشعر الجاهلي الذي اتخذه الشعراء في مختلف العصور أصلاً يحتذون حذوه، وينهجون منهجه، ويبنون عليه ويقلدونه في مناحيه الفنية والأدبية تقليداً كبيراً، هذا الشعر هو الذي نريد أن نتحدث عن موقف النقاد منه آرائهم فيه، ومذاهبهم حياله، حديثاً يجمع من الإيجاز أطراف هذا الموضوع المتشعب الدقيق.

2 -

وأول ما نذكره في هذا البحث آراء الجاهلين أنفسهم في الشعر الجاهلي ونقده، وهذه الآراء كثيرة متعددة، طائفة منها تتحدث عن منزلة بعض الشعراء الأدبية في الشعر، وطائفة أخرى فيها نقد لبعض الشعراء.

فأنت تعلم أن كل قبيلة في الجاهلية كانت ترفع منزلة شاعرها على الشعراء، وتذهب إلى أنه إمامهم وأولهم في دولة الشعر، فكان اليمنيون يذهبون إلى أن امرأ القيس هو إمام الشعراء، وكأن بنو أسد يذهبون إلى تقديم عبيد، وتغلب تقدم مهللا، وبكر تقدم المرقش الأكبر، وأباد ترفع من شأن أبى دؤاد وهكذا. وكان أهل الحجاز والبادية يقدمون زهيراً والنابغة، وأهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحداً، وأهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحداً، وكان العباس ابن عبد المطلب يقول على أمرؤ القيس وهو سابق الشعراء، ورأى لبيد أن أشعر الناس امرؤ القيس ثم طرفة ثم نفسه.

كما تعلم أن الجاهليين أنفسهم كانت لهم آراء كثيرة في نقد الشعراء. فكان النابغة تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ. فتأتيه الشعراء وتنشده أشعارها، أتاه الأعشى يوماً فأنشده، ثم أتاه حسان فأنشده، فقال: لولا أن أبا بصير - أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والأنس، فقال: حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك وجدك؛ فقبض النابغة على يده وقال: يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول:

فانك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

ثم أنشدته الخنساء:

قذى بعين أم بالعين عوار

أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار

ص: 10

فلما بلغت قولها:

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

قال: ما رأيت امرأة أشعر منك، قالت ولا رجلاً

وحكومة أم جندب الطائية بين أمرؤ القيس وعلقمة الفحل الشاعرين، وتفضيلها علقمة على زوجها امرئ القيس، مشهورة ولا داعي لذكرها، فلها حديث آخر إن شاء الله.

ومر امرؤ القيس بكعب أخويه الغضبان والقعقاع، فانشدوه فقال إني لأعجب كيف لا تمتلئ عليكم ناراً جودة شعركم، قسموا بني النار.

وروى المرزباني في كتابه (الموشح) إن الزبرقان وعمرو وبن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبل السعدي تحاكموا إلى ربيعة بن حذار الأسدي الشاعر في الشعر، أيهم أشعر، فقال للزبرقان: أما أنت فشعرك كلحم أسخن؛ لا هو أنضج فأكل، ولا ترك نيئا فينتفع به. وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر، نقص البصر. وما أنت يا مخبل فإن شعرك عن شعرهم وأرتفع عن شعرهم وارتفع كمزداة أحكم خروها فليس تقطر ولا تمطر.

كما روي أيضاً أن هؤلاء الشعراء اجتمعوا في موضع، فتناشدوا أشعارهم؛ فقال لهم عبدة! والله لو أن قوما طاروا من جودة الشعر لطرتم، فأما أن تخبروني عن أشعاركم وإما أن أخبركم؛ قالوا: أخبرنا، قال: فإني أبدأ بنفسي: أما شعري فمثل سقاء شديد وغيره من الأسقية أوسع منه، وأما أنت يا زبرقان فإنك مررت بجزور منحورة فأخذت من أطايبها وأخباثها

إلى غير ذلك من مواقف النقد والنقاد للشعر في العصر الجاهلي؛ والتي لا تخرج عن الاستحسان والاستهجان لشعر والشعراء.

3 -

وجاء الإسلام فكان له ولرسوله الكريم موقف جليل من الشعر الجاهلي، أنكر بعضاً وعرف بعضاً؛ أنكر هذا الشعر الذي ينافي الأخلاق الكريمة والمثل العليا، من الغزل الفاحش، والمجون الخليع، والهجاء الكاذب، والمدح المغرق، والفخر الممعن في الغلو والمبالغة؛ وعرف هذا الشعر الذي يدعو إلى الفضائل والأخلاق والدين، ويحث على الأدب والطموح وأداء الواجب وحب الجماعة والتضحية في سبيل الأمة والإنسانية؛ فكان هذا

ص: 11

الموقف الخالد للإسلام ونبيه العظيم توجيها جليلاً لرسالة الشعر، وتهذيباً نبيلاً للشعراء ليسموا بفنهم الرفيع إلى مجال الطهر والخير، ومجال الحق والعدل والحرية والنور، وكان نقداً عميقاً للشعر والشعراء والجاهليين، وإنكاراً لاتخاذ الشعر وسيلة للكسب وظهر أثر الإسلام والقرآن في تهذيب أسلوب الشعر وألفاظه، وفي البعد به عن الحوشية والغرابة وطبعه بطابع القوة والجلالة والروعة مع الحلاوة والبلاغة والسلاسة. كما ظهر أثر القرآن والحياة الجديدة في عقلية الشعراء وتفكيرهم ومعانيهم وخيالاتهم

4 -

وفي عصر دولة بني أمية انتشرت العصبيات، وكثرت الخلافات السياسية والدينية، وتغير نهج حياة العرب وتفكيرهم، فعادوا إلى مذهب الجاهليين في الشعر، اتخذوه أداة للدفاع عن الرأي والعقيدة، ولساناً لإذاعة محامدهم ومفاخرهم، وشجعوا الرواة على رواية الشعر الجاهلي، والشباب على درسه وتعلمه والتأدب بأدبه، ووضعت في هذا العصر أصول النحو العربي، فأخذ العلماء ينقدون الشعر الجاهلي نقدا يتصل بالأعراب، (كان أبى إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان عليهم، وكان عيسى يقول: أساء النابغة في قوله:

فبت كأني ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السم ناقع. ويقول موضعه: ناقعا).

5 -

ومن أشهر رواة الشعر الجاهلي ونقاده في القرن الثاني الهجري. أبو عمر ابن علاء البصري م 154هـ، وحماد (الراوية الكوفي (75 - 156هـ)، وخلف (الأحمر البصري م 180هـ، ويونس البصري م 182هـ، والمفضل الضبي م 189هـ وهو أقدم من جميع المختار من شعر العرب في كتاب (المفضليات) وأول من فسر الشعر بيتاً بيتاً. ويقال أنه أول من جمع أشعار الجاهليين وإن كان الراجح إن حماد اسبقه في هذا الميدان. ومنهم ابن الكلى م 204، وأبو زبد الأنصاري صاحب كتاب الجمهرة م 215هـ، وأبو عبيدا البصري م 209هـ صاحب (النقائض) و (مجاز القرآن)، والأصمعي البصري م 216 هـ.

كان أبو عمر بن العلاء أشد الناس إكباراً للجاهليين وتعظيماً لشأنهم، جلس إليه الأصمعي عشر سنين فما سمعه يحتج ببيت إسلامي. ويروي عنه: لو أدرك الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً. وكان لا يعد الشعر إلا للجاهلين، وكان كما يقول ابن سلام في طبقات الشعراء: أشد الناس تسليماً لهم وكان المأمون على رغم ثقافته الواسعة يتعصب

ص: 12

للأوائل من الشعراء مع ملك بني أمية.

وكان الأصمعي مع تحامله على المحدثين وشعرهم معتدلاً في عصبيته للشعر الجاهلي، كان يحب الجيد منه، وينقد الرديء، عاب امرأ القيس في قوله في وصف الفرس:

وأركب في الروع خيفانة

كسا وجهها سعف منتشر

والخيفانة في الأصل هي الجرادة وتشبه بها الفرس في الخفة،

قال الأصمعي: شبه شعر الناصية بسعف النخلة، والشعر إذا غطى العين لم يكن الفرس كريماً، كما عاب غير امرئ القيس من الشعراء. وكان يقول: ختم الشعر بالرماح، وهو شاعر أموي مشهور.

6 -

وفي القرن الثالث الهجري نجد النقاد في موقفهم من الشعر الجاهلي طائفتين:

فطائفة تعجب بالجاهليين وشعرهم إعجاباً شديداً، ولا ترى الشعر إلا لهم، ومن هؤلاء ابن الأعرابي م 231هـ، وكان يزري بأشعار المحدثين ويشيد بشعر القدماء. وكان يعيب شعر أبي نؤاس وأبي تمام، ويقول: ختم الشعر بابن هرمة. وقال في بشار، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير من الشعراء. ومنهم إسحاق الموصلي م 240هـ، وكان في كل أحواله ينصر الأوائل، وكان شديد العصبية لهم، وكان لا يعتد ببشار. ولم يكن موقفه قاصراً على الشعر وحده، بل كان كذلك في الغناء، كان يتعصب للغناء القديم، وينكر تغييره ويعظم الأقدام عليه. ومثل التعصب للقديم موجود في الآداب الأوربية، فقد كان هوارس الشاعر الروماني يرى أن شعراء اليونان هم النماذج الذي يجب أن تدرس ليلاً ونهاراً، فإن الشعر يجب أن ينظم كما كانوا ينظمونه. وأعتذر البقلاني عنهم بأنهم إنما كانوا يميلون إلى الذي يجمع الغريب والمعاني. وأعتذر ابن رشيق عنهم بحاجتهم إلى الشاهد والمثل وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون. ولكن الجرجاني في الوساطة يذكر أن ذلك أثر لتعصب علماء اللغة ورواتها للشعر القديم، وإنكارهم لفضل المحدثين وشعرهم. (49و50 وساطة ط بيروت)

وطائفة أخرى من النقاد حكموا الذوق الأدبي والطبع وحده في الشعر، وحكموا بالفضل لمن يستحقه. جاهلياً كان أو إسلامياً أو محدثاً، فلم يفضلوا الجاهليين لسبقهم في الزمن، ولم يغضوا من شأن المحدثين لتأخر عصرهم. ومن هؤلاء: الجاحظ م 255هـ وأبن قتيبة

ص: 13

المتوفي 276هـ والمبرد م 285هـ وابن المعتز م 296هـ.

يقول ابن قتيبة في أول كتابه الشعر والشعراء: (ولا نظرت إلى المتقدم بعين الجلالة لتقدمه، ولا للمتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلا حقه، ووفرت عليه حظه؛ فإني رأيت من العلماء من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب عنده إلا أنه قيل في زمانه، ورأى قائله، ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوم دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده وجعل كل قديم منهم حديثاً في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل يعدون محدثين، وكان أبو عمر يقول: لقد نبغ هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته.

قال المبرد: ليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحد ثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطي كلاما يستحقه.

وأنكر ابن المعتز عصبية هؤلاء النقاد للشعر القديم وذمهم لشعر المحدثين، وقال أنها عيب قبيح، ومن فعل ذلك إنما غض من نفسه وجعل هذا ناشئاً عن جهل بنقد الشعر وتمييزه.

وكان الجاحظ هو السابق إلى إقامة نقد الشعر على أسس فنية خالصة، وحارب هذا التعصب الممقوت للقديم لقدمه، وآراؤه في ذلك كثيرة في (البيان والتبيين) و (الحيوان) وسواهما، ففي (الحيوان) ينكر الجاحظ على المتعصبين للقديم فعلهم فيقول: ولو كان لهم بصر لعرفوا موضع الجيد ممن كان وفي أي زمان.

(للكلام بقية)

محمد عبد المنعم خفاجة.

ص: 14

‌الشخصية والفردية

للأستاذ محمد محمد علي

كلمتان كثيرا ما يخلط بينهما، فتستعمل إحداهما في موضع الأخرى، وفي الواقع أن هناك اختلافاً بينهما. . فلقد زعم الأقدمون أن الشخصية قوة غامضة، لا يمكن أدراك كنهها أو تحليلها. إنما هي مجموع صفات الفرد، الموروثة والمكتسبة، فتشتمل على شكله الظاهري ودرجة ذكائه وثقافته واستعداداته ومواهبه، والمثل الذي يستهدف إليها، والمبادئ التي يعتنقها، والعادات التي يكتسبها، كل تلك العناصر والمقومات تؤلف الشخصية. وأحدث تعريف للشخصية هو أنها نظام متكامل من مجموعة الخصائص الجسمية والوجدانية والنزوعية والادراكية، التي تعين هوية الفرد وتميزه عن غيره من الأفراد تمييزا بيناً. وللشخصية جانبان. جانب ذاتي يعبر عنه بالآنية، وهذا الشعور يتطور من الشعور بالذات الجسمية فالنفسية والاجتماعية. والجانب الآخر موضوعي، ويعرف بالخلق وهو نظام متكامل من السمات والميول النزوعية تتيح للفرد أن يسلك - إزاء المواقف الخلقية وأوضاع العرف - سلوكاً متفقاً مع ذاته، على الرغم مما يواجهه من عقبات.

ومن دلائل النضج العقلي تكامل الشخصية، وهو عبارة عن تضامن مقوماتها المختلفة وتوافقها وتضافرها وانتضامها، حتى يكون سلوك الفرد ثابتا متزنا لا تنافر بين مظاهره، الأمر الذي يجعل الفرد يتكيف مع أفراد المجتمع الذي يعيش فيه. ويساعد على تكامل الشخصية؛ التربية الرشيدة مع التوجيه السديد في بيئة منظمة تكفل حياة هادئة. وليس أضر بتكامل الشخصية من التربية الغاشمة القاسية حيناً، والمتسامحة أحياناً، مما يميت في الطفل قوة الاعتماد على نفسه، في بيت محطم أنعدم الانسجام بين أفراده.

وليس من شك في أن الشخصية خير مقياس لنمو الفرد، ومكانته في المجتمع.

أما الفردية فهي صفة أو ميزة للفرد. وهي أن يسلك الفرد سلوكاً يختلف عن سلوك غيره. فلا يتأثر بالغير إلا قليلاً، وقلما يطيع العادات أو ينقاد إلى التقاليد. ذلك أن تأثره بالبيئة يكون مبنياً على فهم وتبصر بالغرض من سلوكه. وحتى لو اتبع أمراً اتبعه غيره، فإنما يفعل ذلك على عقيدة ودراسة وليس طاعة أو تقليد أعمى. ولا شك أن الحياة البدائية تعوق الفردية بتقاليدها الموروثة الجامدة التي تتبع نظام الطوطمي ينظر إليها البدائي نظرة

ص: 15

الإجلال والاحترام يتخذها رمزاً للأب أو الجد الأعلى وتحميه من الأخطار) واللاماسات هي تحريمات وقيود تفرض بازاء إنسان أو شيء أو عمل.

ولولا الفردية لما كان هناك تقدم ولا مدينة. فلو أن الناس كانوا يفكرون تفكيراً متشابهاً ويعتقدون في أشياء خاصة ولهم أغراض وغايات واحدة، دون أن يتساءلوا عن صحتها أو يجتهدوا في تغييرها، لما كان هناك أمل في التطور والرقي. والفردية هي التي تدفع إلى التجربة والمخاطرة، والاختراع والابتكار. ولعل خير مقياس لرقي المجتمع هو مدى ما يعطيه للأفراد من فرص لظهور فردياتهم المختلفة. وكثيراً ما يحدث صراع بين التقاليد والفردية فتحدث اضطرابات خطيرة، وذلك حين تقف التقاليد حائلاً دون ظهور الفردية.

على أن للفردية بجانب هذه المنافع - أضرار، فقد كان لانتشار فكرة الفردية - وخاصة في أوائل القرن الماضي - أثر في تفكك أوامر الأسرة التي تسودها سيادة الأب - رجعية (مودة قديمة) وأن من الممكن أن ينكث الزوجان أو أخذهما العهود المقطوعة حيال الزواج.

ثم إن التمادي في الفردية يجعل الفرد ينظر إلى الأمور بالنسبة إلى آرائه وملذاته - مما يؤدي إلى الاستخفاف بنظام الأسرة. وهذه الروح المستهترة كان لها أثرها في زعزعة النظم الاجتماعية وعدم استقرارها.

محمد محمد علي

ص: 16

‌صورة رمزية

رسالة إلى امرأة!

للأستاذ غائب طعمه فرمان

(الصراع بين الواقع والخيال صراع خالد. . فكثيراً ما يهرب المرء من واقعة المرير مع أحلامه إلى عالم الخيال الرحيب. . ولكن. . لا يستقر فيه إلا قليلاً حتى يرى الحياة في رحابه الفسيحة قاسية!!. . فيرجع إلى أحضان واقعة ليراه أشد مرارة من قبل!. . .)

هاأنذا جالساً لوحدي والدجى يرسم أمام ناضري عالماً رهيباً. . . هاأنذا صامتاً كأنني انتظر ساعة مفزعة، أو أرتقب حكماً قاسياً، والكون من حولي أخرس سكران بخمرة السكينة، والهواء البارد يلفح وجهي، ويبث القشعريرة في كياني، فأحس من أعماق نفسي بهمسة حائرة مضطربة، وتضطرب في نفسي لواعج وأشجان، وتختلج في رأسي أفكار وصورة قاتمة!.

هاأنذا جالساً على صخرة تعرفني، حبيبة إلى، عزيزة على نفسي. . . وقد صرخت من أعماق روحي قوة تدفعني إلى أن أقبلها وأبلل جسمها البارد بدموعي، وأركع تحت قدميها أستجدي الذكريات!.

والنهر أمامي يتهادى بسكون كأنه في موكب عزاء، وعلى سطحه لآلاء مرتجف كأنه مآل اليائس، وقد شعرت برهبة وخشية، فكأنني واقف على شاطئ مسحور. مجهول. . مبهم. . تلفه الأسرار، وتوغل في أرجائه أصداء مبهمة كأنها أرواح ضائعة تنشد أجسادها بين الرمم، أو كأنها أسئلة ليس لها ردوداً. وعلى يساري تلك الشجرة الأمينة كقلب أبيض، تصلي معي بخشوع وضراعة في محراب الوحدة المقدس، وقد سجدت أغصانها على النهر تقبله، وقد داعبتها نسمة حنون، فراحت تميل بطراوة!.

كل ما حولي عميق لأنه يطوي تأريخ قلبين فرقهما الدهر، فتاها في متاهات الحياة حائرين يبحثان عن مأمن رحيم. . . كل ما حولي حزين كأنه يبكي على مأساتنا، ويندب حضنا العاثر، ويبعث إلى قلبين ضالين سلوه وعزاء، وكل شيء يمر على ذاكرتي واضح المعالم، مؤثراً، مرهقاً، عميقاً، ويتجسم في هذا الفضاء اللانهائي لي شبح الماضي الجميل الكئيب! وتبرز لي ذكريات الأيام الماضية، تلك التي طمرها القلب، وأخرجها الإحساس المتوثب،

ص: 17

وصرخ بها الضمير الغصوب!.

يا لها من ذكرى. . . تلك التي انطوت على شواظ من نار، ولفت ريقاً من العمر كان القلب، والعاطفة، والضمير قضاته العادلون.

إنني لأذكره. . وأنا وحدي أحييه، وأبعثه من أعماق قلبي على القرطاس، وأحاول أن أبث فيه من حياتي. روحاً، ومن جوانحي قبساً، ومن اضطراب فكري حركة!.

وأنت أيتها المرأة التي أخاطبك - أتمثلك جالسة وحدك على الشاطئ. . . شاطئ العالم المهجور، كأنك تنتظرين غريباً يؤوب إلى وطنه، أو أملاً يولد مع موج الأحلام المسحور!. . . أتمثلك غارقة في الظلمة كأنك تناجين الأطياف، وأتمثلك ساهمة كأنك تصلين، وأتمثلك غارقة في لجج الصمت الذاهل!.

أتذكرين ذلك اليوم الكئيب الجميل، القاتم المنير، الباكي المبتسم؟!. . عندما تقدمت إليك مدفوعاً برهبة وخشوع عظيمين، مدفوعاً برغبة وشوق آسرين، كأنني مدفوع إلى عالم المستقبل المكنون!!.

جئت إليك، وقد نفضت يدي من العالم، ومن كل رغبة من رغبات الحياة، ومن كل خفقة من خفقات الأمل، ومن كل شوق من أشواق النفس في الخوض في غمار الحياة!.

وكنا قد تواعدنا على القدر، واتفقنا على موعد! وقد هربت من جحيم حياتي، وإسار رقبتي. . إليك. . وأنت تعرفين أن الماضي الذي أتكلم عنه شيء قاس مؤلم.

تقدمت إليك بقلب واجف. . كأنني في حضرة من ملك حياتي، فرأيتك جالسة غريقة في بحر لجي من الهواجس والظنون ويدك ممتدة إلى الظلمة، أو إلى شعرك الفاحم!

وخيل إلي أنني أمام امرأة ساحرة تلفها الأسرار، كأنني لم أعرفك، ولم تتواشج الأواصر الروحية بيني وبينك. . . وسمعتك تتمتمين كأنك تقرئين تعويذة لطرد الأشباح المحيطة بك كأنها الأقدار. . وسمعتك أخيراً تقولين:

- أهذا أنت؟!

فأجبتك: - نعم. . أنا الوحيد الذي قطع كل صلة له بالعالم! فنظرت إلي كأنك تنظرين إلى شيء غريب. . بليد. . مبهم لا يعرف أمراً من أمور الحياة وقلت:

- هل ارتكبت الحماقة؟. .! هل اشترتك مملكة الشيطان!؟

ص: 18

- نعم. . لقد فعلتها وأنا لست بنادم ولا خزيان. . نعم لقد فعلتها بكل إرادتي. . فإنني لا أحبها، ولا أشعر بميل نحوها بل أنا أمقتها كما أمقت الشيطان!.

وساد الصمت، وكلانا لا يعرف ما يقول. . كأن السكينة ألفت إسارها علينا. . ومشينا على الشاطئ. . ونحن مطرقان. . قلت:

- ولكنها زوجتك. . أم أولادك. . إن ضميري ليعذبني!!

- وليكن. . فأنا لا أقبل منطق الحياة الأعوج، فأنا أكره زوجتي أشد الكره

- ليتني ما عرفتك!!

- أتريدين الحق؟! إنني يئست من حياتي لولاك. . ومن يدري!. لولاك لفارقت لا حياة منذ زمن بعيد!.

يالك من امرأة غريبة كالجباة، غامضة كالموت. إنني لم أشعر بالإهانة والضعة مثل شعوري بهما في تلك اللحظة. . لقد حملتني الجريمة وحدي، وهربت أنت لائذة بالعفة والطهارة. . وليس هناك جريمة في الوجود يشترك فيها شخص واحد. . حتى السارق في جنح الظلام يشترك معه المجتمع في سرقته!.

قلت لك: - لا تثيري الماضي. . فالذي تلفه الأكفان لا تستقر فيه الحياة مرة أخرى. إنني ضحيت بكل شيء من أجلك. . أنت يا صورة أحلامي ولحن هواي. ضحيت بامرأتي وهي مخلوقة يائسة ضعيفة. . وضحيت بأولادي وهم محتاجون إلى من يأخذ بأيديهم. . . وضحيت بكل شيء من لأجلك. . فقد ضقت ذرعاً بحياتي الرتيبة، ودنياي الكثيرة الأوحال. . لقد ضقت ذرعاً بهذا الواقع المليء بالمتناقضات. . هذا العمر الذي يذبل بذلة. . واشتقت إلى عالم ثان اكثر بهجة وأنظر وجهاً. . وأنت جناحي الذي أحلق به في الأجزاء السامقة وارتفع به عما ينخر في جسمي ويستبد في فؤادي. . فتعالي معي ولا تثيري شجني لنتسلق هذا التل لعله يقضي بنا إلى العالم الجديد!.

وعندما تسلقنا المرتفع لنبلغ المدينة كنت تستندين إلى ذراعي وقد أيقضت حرارتك في روحي نشوة نائمة، وخيل إلي أن هذا الطريق طويل. . وهو طريق حياتنا. . وأنا أساعدك على السير فتغلبني العزة برجولتي، وأستجيب إلى دواعي نفسي، وأنصت إلى ذلك الإيقاع الروحي. . . إلى صوت قلبينا!. ونزلنا من الجهة الثانية ونحن صامتان. . . وبدت لنا

ص: 19

المدينة كبيت مهجور مخيف تسكنه الأفاعي والوحوش!.

أيمكن أن ندخل هذه المدينة؟! إن الناس سيعرفوننا، وسيقولون هذا رجل لا ضمير له، فقد ترك زوجته ليعيش حياة مخجلة. . وتلك فتاة لا حياء لها فقد هربت مع رجل متزوج!. أما نحن فنصمت أمام تلك الأقوال الجائرة. . لأننا لا نملك القوة على مجابهة المجتمع والحرية في التعبير عن عواطفنا. . غير أننا يجب أن نصرخ في وجوه هؤلاء: إن الحياة أرفع من أن تعاش مع الملل، وأسمى من أن تذبل في صمت. . الحياة سر مقدس لا يكون في الأوحال، ولا أن ترهق تحت أعباء من أوضارنا. .

أنا رجل شقي يعرش حياتي الملل، ويستبد بي ضجر عميق. إن عيني ترى دائماً أشباح السآمة، وطيوف الضيق المهيمن على روحي. . فماذا لو حاولت أن أمسح عن روحي الملل، وأنقذ حياتي من دنيا الطيوف والأشباح؟!. . ماذا لو هربت بذلك السر المقدس إلى ملكوت من الصفاء والحرية؟! ماذا لو صرخت في عنصر الفناء صرخة الجريح المستغيث؟!.

غير أن الناس جروا على عادة سخيفة كأنهم شعروا بتفاهة أنفسهم فحاولوا أن يقنعوا أنفسهم بأن الحياة تافهة لا تستحق أية تضحية، ولا تستأهل أي أقدام!.

وأخيراً دخلنا المدينة، فراحت عيون الناس تلتهمنا، وتصعد فينا، كمجرمين هرباً من السجن، وعليهما شارته، وفي سيمائهما بريق الذل، وفي نظراتهما افتقار النفس إلى عزة!.

وقد تحيرنا إلى أين نذهب؟. . ونحن لا نملك الوقود الذي نحرقه قرباناً للمجتمع!. .

لقد حاولنا أن نعيش، وأن نتكئ على العاطفة التي أسرتنا، وأن نجعل الحب نبراساً يضيء لنا الطريق. . لقد حاولنا أن نعيش في أجوائنا السامقة دهراً، وأن ننسى الماضي والناس جميعاً، وأن نتغذى بالعاطفة المضطربة، ونسترشد بالإحساس المشترك، ونقيس الأشياء بمقاييسنا نحن. . تلك المقاييس التي صغناها من رحيق نفوسنا. . غير أن الهوة كانت سحيقة ظلت تصرخ فينا: مجرمون. مجرمون!.

وحاولت أن نتشبث بأسباب الحب. . غير أن حبل الحب قد رث ولم تبق أمامنا إلى حياة مظلمة. . وإذا الحب عملة زائفة في سوق المراوغة والخداع!.

ونحن - دائماً - نركض وراء الحب. ذلك المعبود الوهمي. . حتى يضنينا التعب، وينال

ص: 20

منا الجهد. . حتى إذا ظفرنا به في النهاية. . رأيناه قائماً على منطق أعوج، وأدركنا أننا ارتكبنا في سبيله حماقة صارمة.

ولما لم نستطيع الحياة معاً حين بلغ بنا اليأس مبلغاً بعيداً. . تنصلت مني، وتنصلت منك. . وتركنا الحب كأثر من آثار الجريمة!.

ولم نملك حتى كلمات الوداع. فكأننا شعرنا بأن عاطفتنا أصبحت من التفاهة بحيث لا تقيم جملة من جمل الوداع!.

وهكذا انفصلنا. ورجعت إلى نفسي أحاسبها بعد رحلتي الطويلة. . وأخذت أستعرض الماضي بكل ما فيه من أشجان وآلام. . ورأيتني أمام صور واختلطت ألوانها، وتشابكت خطوطها. . وأصبحت لا تعبر إلا عن الخيبة!.

أتذكرين عندما التقينا أول مرة؟!. . لقد خيل إلي في ذلك الحين إنني سأضع حداً لاضطرابي وواقعي المر، وأبني حياة أكثر بهجة وائتلافاً. . وهكذا أنا أتمنى كل يوم أن أحيا حياة جديدة. أن عمري ملئ بالأخطاء حتى لأتمنى دائماً أن تكون لي القوة على نسيان الماضي جميعه، وتغيير مجرى عمري!. . فعندما رأيتك حطمت بكل جبروتي ماضي كله، ونسيت بما أملك من قسوة واقعي جميعه. . فلم أشعر بالدنس لأني متزوج، ولأن لي أولاداً. . ولكنني شعرت بالغبطة تطفح على وجهي، وأنت تتراءين لي أينما قلبت ناظري. . وكنت أتملى طيفك كأنني أرتشف روح السكينة!.

عندما عرفتك أنقلب بيتي إلى جحيم، وصارت امرأتي في عيني شيطاناً مريداً، وران التذمر على روحي، وضج الضجر في كياني.

أنني عندما أسترجع الماضي يهز نفسي ما تضمنه من خيبة جارحة أورثتني عدم الثقة في نفسي، وزرعت في بذور السخط الطائش!.

كنت أقول دائماً أن قلباً من غير حب كهف يرن في أرجائه فراغاً أبله. . ولكن متى ما يعلق الحب في قلباً يصبح كالطائر الجريح يخفق في جناحيه كأنه بنعم بالغبطة وكأنه لا يعرف أن قواه الخائرة ستهبط به من حالق!.

وهكذا أنا. . عندما علق حبك في قلبي لم أكن أشعر إلا بوجودك. . وطفقت أسعى لكي أدبر شيئاً في سبيل سعادتي ولو على حساب الآخرين!. . وكنت أنت تشجعينني وتذكرينني

ص: 21

بالإسار الذي يطوق عنقي.

ومرة رجعت إلى بيتي بعد لقاء معك. . وكانت عندي فكرة ظالمة، فقد نويت أن أصرخ في وجه زوجتي: أنني لا أحبك بل أمقتك اشد المقت!!.

صدقيني لم تكن لي رغبة في مثل هذه الحياة، ولا في مثل هذه الزوجة. لقد كنت أتوق إلى حياة أرفع من هذه الحياة المليئة بالمتناقضات. . لقد كنت دائماً أحلم بالحوريات، وأغرق في نشوة حلمي. . لقد كنت دائماً أتصور تصورات زاهية مزهرة. . وابني القصور في مخيلتي. غير أن حلمي لم يتحقق، فقد جاء أبي بجبروته يمسخ حلمي، ويهدم تصوراتي. . فزوجني بامرأة بلهاء لا أحس نحوها بأية عاطفة!.

دخلت بيتي. . العالم الذي أمقته أشد المقت. . لكم هو كريه إلى نفسي ثقيل على قلبي مليء بالأشباح!!.

وكنت أنت يا من تصورتك حورية من حوريات أحلامي تزيدين كراهيتي لبيتي، ونفوري منه، وسخطي عليه. . وكنت أنا الهائم الذي لا يستقر على قرار. أمنيك، وابعث في نفسي الحرارة والقوة لكي أهم حياة أسرتي الآمنة. في سبيلك أنت يا من تركتني وحيداً منبوذاً في نهاية الأمر!

كان دخان الجريمة يملأ صدري بعد أن عرف الناس حبنا، وأصبحت حياتي في بيتي لا تطاق!.

وجئت زوجتي مرة فرأيت المنكودة تبكي على الحب الذي لم يخلق، ورأيتها تصرخ معولة:

- طلقني. . يا ظالم. يا حقود أنني لأن أتحمل كلام الناس!.

وفي تلك اللحظة وقف خيالك كالشيطان يدبر لي أمراً. . فقلت تلك الكلمة القاسية وخيل إلي أنها ستصنع لي جناحين لأطير بهما إلى عالمي السامي. . وخيل إلي كذلك أنها الكلمة السحرية التي ستنقلني إلى دنيا الحرية والأحلام!

وخرجت من البيت إلى غير رجعة. . وهربت من الجحيم إليك!!. وكان لقائنا في عشنا الأول. . على شاطئ النهر. . وقد ابتدرتني قائلة:

- أهذا أنت؟!.

ص: 22

- نعم!. . أن الوحيد الذي قطع كل صلة له بالعالم

وكانت آمالنا كباراً في أن نحيى حياةً جديدة. . ولكننا لم نستطع. . وحاولنا أن ننسى الماضي ومرارته ولكن الماضي ظل يلاحقنا وينغص علينا حياتنا.

وبعد رحلة طويلة مضنية في عالم الأوهام انفصلت عني، وانفصلت عنك، إذا أنا وحدي أهيم في عالم غريب عني. . فقير إلى الرحمة والحنان الطاهر فقيراً، إلى الأمن والطمأنينة الجميلة، فقيراً إلى الراحة واستقرار الضمير!.

ولم تكن لي وجهة أتجه إليها، ما دمت قد قطعت كل صلة لي بالعالم.

يا ويحي!. . أهذا الحطام يستطيع أن ينهض بي من الهوة التي أتردى بها؟!.

يا ويحي!. أتلك الخطيئة تمحوها كفارة من حيرتي وعذابي؟!.

وأخيراً. دخلت مدينتي. . واتجهت إلى بيتي الذي هدمته بيدي لأشهد حطام حياتي الماضية، ورأيت البيت الذي يخيم عليه السكون!. زوجتي. . زوجتي. . شريكة حياتي، ضحية جبروتي. . أيتها المرأة المحطمة ها هو الجلاد. . جاء إليك. ولكن من غير سيف. . فقد حطمت الحياة سيفه. . لقد جئت إليك أحاول بناء حياتي من جديد. . انظري. . انظري. . ولكنني لم أسمع جواباً. لأن زوجتي تركت بيتها!!. فتسللت من الباب كاللص بعد أن زودت ناظري بمناظر المأساة وجئت إلى الشاطئ. . لا لأنني أحبه. . ولا لأنني مشتاق إليه. . ولكنني لا أملك ملجأً غيره. وها أنذا جالساً وحدي والدجى يرسم أمام ناظري عالماً رهيباً.

(القاهرة)

غائب طعمه فرمان

ص: 23

‌أسامة بن منقذ وشعره

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 3 -

لم يكن معروفاً من شعر أسامة سوى ما تفرق في كتبه الاعتبار والعصا، ولباب الآداب، وما تفرق في كتب مؤرخيه كخريدة القصر، والروضتين، في أحبار الدولتين، وتاريخ الإسلام للذهب، وجمهرة الإسلام، وشذرات الذهب، وجمهرة الإسلام، ذات النثر والنظام، ولكن أسامة كان له ديوان جمعه بنفسه، وعنى به من بعده ابنه مرهف، وكان صلاح الدين مشغوفاً به كما ذكرنا، وقد رآه ابن خلكان، وذكر أنه بأيدي الناس، وقد عثرت دار الكتب على نسخة خطية من هذا الديوان.

وقد رتب أسامة ديوانه على حسب الأغراض، فباب للغزل وآخر لشكوى الفراق، وغيرهما للوصف، إلى غير ذلك من أغراض الشعر الغنائي ولكن ديوانه قد خلا من الهجاء، ويظهر أنه قد أصر على ألا يكون في شعره هذا اللون برغم الدوافع التي كانت تسوقه إلى أن يهجو، حتى لقد قال:

ظلمت شعري، وليس الظلم من شيمي

يطيعني حين أدعوه، وأعصيه

يهم أن يذكر القوم اللئام بما

فيهم، فأزجره عنهم، وأثنيه

وليس من خلقي ثلب الغنى وإن

جنى، ولا ذكر ذي نقص بما فيه

وفي ذلك مسحة من ترفع الأمارة، التي تحول بينه وبين النزول إلى مستوى التشاتم والمهاترة.

ولما اختار أسامة أن يرتب ديوانه على الأغراض، كان يجزئ القصيدة الواحدة، فيضع غزلها مثلاً في باب الغزل، ومديحها أو فخرها في باب المديح أو الفخر، وكان هو يشير إلى ذلك حين يعرض قصائده، ولهذا النظام فائدته في تتبع الدراسة الفنية لكل فن من فنون الشاعر على حدة، وإن كانت الحاجة تدعو، عند دراسة بناء القصيدة، إلى دراسة أجزائها كلها، لمعرفة الجو الذي توحي به، وإدراك مدى الصلة التي تربط بين عناصرها.

ويبدو لأول ما تقرأ أن أسامة لم يدون كل ما قاله من الشعر، لأنه لم يرض عن كل ما يصدر منه، فحذف منه ما لم يرقه، حيث يقول:

ص: 24

كلما رددت في شعري النظر

بان ضعف العي فيه، وظهر

ليس يرضيني، ولا يمكنني

جحد ما قد شاع منه، واشتهر

فأجيل الفكر في تقليله

فإذا قل اختصرت المختصر

وبه فقر إلى ذي كرم

إن رأي ما فيه من عيب ستر

وذاك يدل على تطلع أسامة إلى مثل أعلى، كان ينبغي أن يصل إليه مستوى شعره، ولا بد أن كان لذلك أثره، وأخذه إياه بالتقويم والتنقيح، حتى ظهر شعره في هذا الثوب من القوة والجزالة، مما يذكرنا بشعر الفحول الذين سموا بنفسهم عن أن يكون مظهر التلاعب بالألفاظ، أو الجري وراء محسن لفظي، من غير أن يكون في البيت معنى جليل، أو خاطر سام، أو شعور صادق، أما أسامة فلديه ما يقوله، في أسلوب قوي، وعبارة رصينة.

وتتدفق خواطر أسامة في قصيدته، ويرتبط بعضها ببعض، حتى يصبح البيت لبنته، في بناء ملتحم مؤتلف، خذ مثلاً قوله:

لا تجز عن الخطب

فكل دهرك خطب

وحاثات الليالي

مملة، ما تغب

تروح سلماً وتغدو

على الفتى وهي حرب

ولا تضق باصطبار

ذرعاً إذا اشتد كرب

فصبر يومك مر

وفي غد هو عذب

كم صابر الدهر قوم

فأدركوا ما أحبوا

وكل نار حريق

يخشى لظاها ستخبو

ترى فيه التحام الخواطر وتسلسلها، ولا تجد ذلك في مقطوعاته القصيرة فحسب، بل في قصائده الطويلة أيضاً، حتى ليخيل إليك أحياناً أنك تقرأ قطعة منثورة، لا قصيدة منظومة؛ ويطول نفس أسامة أحياناً حتى تبلغ القصيدة تسعين بيتاً، كتلك التي كتبها على لسان نور الدين، يعدد فيها وقائعه مع الفرنج.

وينهج أسامة في كثير من الأحيان المنهج التقليدي، فيبدأ قصائده بالغزل، حين يفتخر، أو يمدح، أو يشكو، وحيناً يبدأ موضوعه من غير مقدمة غزلية، كالقصيدة التي بعث بها إلى معين الدين أنر، وقد لقى الفرنج، وهزمهم، فقال أسامة:

ص: 25

كل يوم فتح مبين ونصر

واعتلاء على الأعادي وقهر

ومضى في قصيدته:

ولكثرة ما اطلع أسامة على الشعر القديم، كان يضمنه بعض قصائده، حتى اتهمه بعض سامعي شعره بالسرقة من غيره، وليس فيما فعل أسامة سوى التضمين الذي تراه في قوله يخاطب معين الدين أنر:

وأنت أعدل من يشكي له، وله

شكية أنت فيها الخصم والحكم

وما ظننتك حق معرفتي

إن المعارف في أهل النهى ذمم

لكن تقاتك ما زالوا بغشهم

حتى استوت عندك الأنوار والظلم

وفي هذه الأبيات تضمين من قصيدة المتنبي: (وأحر قلباه ممن قلبه شيم). أما قصيدة أسامة التي مطلعها:

أطاع الهوى من بعدهم وعصى الصبر

فليس له نهى عليه ولا أمر

فقد ضمنها من شعر أبي فراس، كهذا البيت، ومن شعر المتنبي، وأبي صخر الهذلي، وغيرهم، وليس التضمين بكثير من شعر أسامة، وأكثره ما جاء في هاتين القصيدتين.

تلمس في شعر أسامة الجلال والوقار، فلا هزل فيه، ولا مزاح، إلا قليلاً نادراً، وليس في باب الملح عقده، فضلاً عن قصره، سوى قليل من الفكاهة، ولعل من أرقها قوله، وقد كان له جار من الأمراء، يعرف بابن طليب، وقعت في داره نار فاحترقت، فقال أسامة:

انظر إلى الأيام، كيف تقودنا

قسراً إلى الإقرار بالأقدار

ما أوقد ابن طليب قط بداره

ناراً، هلاكها بالنار

4

وجدت الأحداث الكبرى التي مرت بأسامة صداها في شعره، وصورت آثارها في نفسه تصويراً قوياً، ولعل من أقوى هذه الآثار في نفسه، اضطرار إلى أن يفارق وطنه الأول (شيزر) الذي شهد مدراج طفولته، وملاعب صباه، وملاهي شبيبته، وقد وجد أسامة البقاء في هذا الوطن شقاء لا يطيقه، بعد أن جفاه عمه، وقلب له ظهر المجن، فكتب إلى أبيه قصيدة يحدثه فيها عما يعتلج في صدره من الهم، ويشكو إليه ما كدر صفاء عيشه، من الغدر، وما ناله من سوء العقوق، ويقول له:

ص: 26

أشكو إلى علياك هما ضاق عن

كتمانه صدري، وما هو ضيق

وطوارقاً للهم أقريها الكرى

وتلظ بي صبحاً، فما تتفرق

وينبئه بأنه قد صمم على فراق دار الهون، ما دام الحقد عليه قد وجد سبيله إلى قلوب ذوي قرباه، فيقول له:

دعني وقطع الأرض دون معاشر

كل ذي لغير جرم محنق

تغلي على صدورهم من غيظهم

فتكاد من غيظ علي تحرق

أعيا على رضاهم، فيئست من

إدراكه، ما النجم شيء يلحق

قد افسدوا عيشي علي وعيشهم

فأما الشقي بهم، وأيضاً شقوا

فضل الأقارب برهم وحنوهم

فإذا جفوني فالأباعد أرفق

وكان أسامة راضياً عن نفسه بهذا الارتحال، الذي نأى به عن الضيم، وبعد به عن أن يسام الخسف والهوان، واستقبل بعده عن وطنه، راضياً به، ما دام ذلك في سبيل احتفاظه بأنفته وعزة نفسه:

أأسام خسفاً، ثم لا

آبي، فلست إذا أسامة

هيهات، لا ترضى المعالي

صاحباً يرضى اهتضامه

وألقى أسامة بنفسه في المعارك تحت لواء عماد الدين زنكي، ولم ينغص عليه مقامه يومئذ سوى وشاة أوعروا صدر أبيه عليه، فاضطر أسامة إلى أن يرسل إلى أبيه استعطافاً، يزيل به من نفسه أثر هذه الوقيعة التي لم يحدثنا التاريخ عنها شيئاً، فكتب أسامة إليه:

يا ويح قلبي من شوق يقلقله

إلى لقائك ماذا من نواك لقي

وناظر قرحت أجفانه أسفاً

عليك في لجة من دمعه غرق

وبعد ما بي، فإشفاقي يهددني

بشوب رأيك بالتكدير والرنق

وأن قلبك قد رانت عليه من الس

واشين بي جفوة يهماء كالغسق

أما كفاهم نوى داري وبعدك عن

عيني، وفرقة إخوان الصبا الصدق

وأنني كل يوم قطب معركة

درية السمر والهندية الذلق

أغشي الوغى مفرداً من أسرتي وهم

هم إذا الخيل خاضعت لجة العلق

وموضعي منك لا تسمو الوشاة له

ولا لغيره كيسي، ولا حمقي

ص: 27

وكان موقفه من دمشق حين نبت به، كموقفه من وطنه الأول، فارقها غير راض باحتمال الهوان، برغم ما ألمسه في شعره من حب لمعين الدين، يقول له:

ولست آسي على الترحال من بلد

شهب البزاة سواء فيه والرخم

تعلقت بحبال الشمس منه يدي

ثم انثنت وهي صفر ملؤها ندم

أما حياته بمصر، فقد مر عليه بها من تقلبات الزمان، وعبر الأيام، وتنقل الملك والسلطان، وأصح أن يقول معه:

خمسون من عمري مضت لم أتعظ

فيها، كأني كنت عنها غائباً

وأنت علي بمصر عشر بعدها

كانت عظاه كلها وتجارباً

شاهدت من لعب الزمان بأهله

وتقلب الدنيا الرقوب عجائباً

ولعل الأزمات السياسية التي مرت به في مصر، كانت تملأ صدره بالهم حيناً، والنقمة على الزمن الذي دفع به إلى مصر، فيقول:

يا مصر، ما درت في وهمي ولا خلدي

ولا أجالتك خلواتي بأفكاري

ما أنت أول أرض مس تربتها

جسمي، ولا فيك أوطاني وأوطاري

لكن إذا حمت الأقدار كان لها

قوى تؤلف بين الماء والنار

ولكن أسامة برغم هذه الأزمات التي كانت تدفعه حيناً إلى الثورة، والتي لابد أن تلم بمن يخوض لجة السياسة وجد في مصر ما كان يصبو إليه من مال ومجد، كان شديد الأسف عليه، حين أفلت من يده، تحس بذلك في قوله:

نلت في مصر كل ما يرتجي الأمل من رفعة، ومال، وجاه

فاستردت ما خولتني، وما أسرع نقص الأمور عند التباهي

كنت فيه كأنني في منام

زال منه سر عند انتباهي

فلا جرم، كان شديد الحنين إلى مصر، بعد أن فارقها، وكان يتمنى أن يلبي دعوات الملك الصالح التي وجهها إليه مرة بعد أخرى يدعوه فيها إلى العودة والعيش معه. وهنا يحسن بي أن أقف قليلاً أبين رأي الملك الصالح فيما اتهم به أسامة من المشاركة في قتل الظافر، فالصالح يبرئ أسامة براءة تامة من هذا الإثم، ويراه نقي الصفحة، طاهر اليدين، وها هو ذا يرسل إلى أسامة، يدعوه إلى مصر، ويحدثه عن الوزير عباس الذي قتل ابنه نصر

ص: 28

الخليفة الظافر:

على أنه قد نال بالغدر من بني

نبي الهدى ما لم ينله بنو حرب

وهل نال منهم آل حرب وغيرهم

من الناس فوق القتل والسبي والنهب

غدا والغاً كالكلب ظلماً وحزبه

دماءهم لإحاطة الله من حزب

وياليته لو كان فيه من الوغا

لمالكه بعض الذي هو في الكلب

وحاشاكم ما خنتم العهد مثله

ولا لكم فيما جرى منه من ذنب

ومن مثل ما قد نالكم من دونه

يحاذر أن تدنو الصحاح من الجرب

كان لكثرة الترحال أثر في شعر أسامة، فكثيراً ما شكا الفرقة والاغتراب، وكثرة جوبه البلاد، وتحس في هذا الشعر لوعة الحرمان، وألم الشوق إلى الوطن المفارق، والآل الغائبين، فتسمعه يقول:

أهكذا أنا باقي العمر مغترب

ناء عن الأوطان والسكن

لا تستقر جيادي في معرسها

حتى أروعها بالشد والطعن

ويقول:

أين السرور من المروع بالنوى

أبداً، فلا وطن، ولا خلان

عيد البرية موسم لعويله

وسرورهم فيه له أحزان

وإذا رأى الشمل الجميع تزاحمت

في قلبه الأمواه والنيران

فكان هذا الرحيل الدائم، مصدر ألم لأسامة، يؤرق حياته، وينغص عليه عيشه، وكان له أثر في مسح شعره بمسحة من الحزن والأسى، وكثرة حديثه عن الوداع والفراق.

كما كان لتبدد ثروته، ونهب بعضها عقب الحوادث التي جرت بعد مقتل الحافظ وغرق بعضها في البحر، عند خروج أسرته من مصر أثره البالغ من نفسه، وأثره القوي في شعره، شكا ذلك إلى الملك الصالح، وطلب منه المعونة، فقال له:

أنا أشكو إليك د هراً لحاعو

دي، وأعراه، فهو يبس سليب

وخطوباً رمى بها حادث الده

ر سوادي، كلهن مصيب

إذ هبت تالدي، وطار في الط

اري، فضاع الموروث والمسكوب

فهو شطران بين مصر وبحر

ذا غريق فين وذا منهوب

ص: 29

ويظهر أن الفقر قد عضه بنابه حيناً من الدهر، حتى رأيناه يصف نفسه بأنه لا يفترق في حقيقة الأمر عن سائليه الذين يهرعون إليه، ظانين فيه الغنى واليسار.

ولكن مستوري كظاهر حالهم

فما حيلتي، والحظ حرب الفضائل

وكان أكبر ما يؤلمه في حالة العسرة التي ألمت به، هو أن شمت به أعداؤه، فأخذ يطمئن نفسه بأن سوف يستعيد مع الأيام ماله المفقود، وحيناً يقول لهم:

متى رآني الشامتون ضرعا

لنكبة تعرقني عرق المدى

هل بزني الخطب سوى وقري الذي

كان مباحاً للنوال والندى

فإذا نزلت كارثة زلزال شيزر، فذهبت بملك أهله وبأهله، أخذ يبكيهم، ويندب حظهم، ويرثي منازلهم، ويسأل الزمن عن ماضي مجدهم ويتألم لبقائه من بعدهم، ويمدح ما اتصفوا به من سامي الخلال، وطيب الفعال، وبرغم ما كان بينه وبينهم من إحن وبغضاء، عز عليه فقدهم، وتمنى أن لو استمرت الحياة، واستمر ما بينه وبينهم من فرقة ونفور، فقد كانوا برغم ذلك مصدر فخاره، وينبوعاً لقوته واعتزازه؛ قال أسامة من قصيدة طويلة يصف فيها هذا الخطب، كيف كان له شديد الوقع في نفسه، فهو يتطلب الأسى، فلا يجد أسوة يقتدي بها:

قالوا: تأس، وما قالوا بمن، إذا

أفرددت بالرزء، وما أنفك أسوانا

ما استدرج الموت قومي في هلاكهم

ولا تحرمهم مثنى ووحدانا

فكنت اصبر عنهم صبر محتسب

وأحمل الخطب فيهم عز أوهانا

وأقتدي بالورى قبلي، فكم فقدوا

أخا، وكم فارقوا أهلاً وجيرانا

ويدفع عن نفسه أن يظن به ظان وقوفه من هذه الكارثة وقوف من لا يعني بها، ولا يأبه لها، فيقول:

لعل من يعرف الأمر الذي بعدت

بعد التصاقب من جرأة دارانا

يقول بالظن إذ يدرسا خلقي

ولا محافظتي من حان أو بانا:

أسامة لم يسؤه فقد معشره

كم أوغروا صدره غيظاً وأضغانا

وما درى أن في قلبي لفقدهم

ناراً تلظي، وفي الأجفان طوفانا

بنو أبي، وبنو عمي، دمي دمهم

وإن، أروني مناوأة وشأنا

ص: 30

كانوا سيوفي إذا نازلت حادثة

وجنتي حين ألقي الخطب عريانا

وختم تلك القصيدة الباكية بالدعاء لهم، فقال:

سقى ثرى أودعوه رحمة ملأت

مثوى قبورهم روحاً وريحانا

وألبس الله هاتيك العظام وإن

يلين تحت الثرى عفواً وغفرانا

ولما علت سن أسامة ووهن منه العظم، أخذ يشكو طول العمر، وثقل الحياة عليه، فحيناً يجد في الموت أعظم راحة تنقذه من ضعفه، وحيناً تنهال عليه ذكريات شبابه وصباه، ويوازن بين ضعفه اليوم، وقوته في عهده السالف، فقد كانت كفه مألفاً للسيف والرمح، فصارت تحمل العصا، يمشي بها كما يمشي الأسير مثقلاً بالكبل، وحيناً يأسف على أنه لم ينل في شبيبته من المتع والملاذ، ما كان جديراً أن يظفر به في عصر الشباب، إذ يقول:

وما ساء ني أن أحال الزما

ن ليلي نهاراً، وجهلي وقارا

ولكن يقولون: عصر الشبا

ب يكون لكل سرور قرارا

فوجدي أني فارقته

ولم أبل ما يزعمون اختبارا

ومن أكبر ما أثر فيه يومئذ أنه رزق ابنة، بعد أن تجاوز أربعاً وسبعين سنة، فوجد اليتم ينتظرها، وكان تفكيره في يتمها وضعفها مجلبة لحزنه وبكائه:

رزقت فروة، والسبعون تخبرها

أن سوف تيتم عن قرب وتنعاني

وهي الضعيفة، ما تنفك كآسفة

ذليلة تمتري دمعي وأحزاني

وصور لنا أسامة نفسه محنياً على عصاه، قد تقوس ظهره، وصارت العصا وتراً لهذا القوس، يمشي مشي الحسير، قد آده ثقل السنين، فهو يمشي كالمقيد بعثاره، أو كالأسير في قيده، فلا جرم كان شديد الضيق والبرم، حين يرى نفسه عاجزاً عن تلبيته داعي الحرب إذا دعاه:

رجلاي والسبعون قد أوهنا

قواي عن سعيي إلى الحرب

وكنت إن ثوب داعي الوغى

لبيته بالطعن والضرب

وكان شديد الضيق والبرم أيضاً حين يرى نفسه وحيداً، قد مضت لداته وأترابه، فعاش غريباً في جيل غريب عنه، فكان يتأوه قائلاً:

ناء عن الأهلين والأو

طان، والأتراب ماتوا

ص: 31

ولبئس عيش المرء فا

رقه الأحبة واللبدات

فالام أشقى بالبقا

ء، وكم تعذبني الحياة

للكلام بقية

أحمد أحمد بدوي

ص: 32

‌خواطر في كتاب الله

تربية الأمم في القرآن

للأستاذ محمد عبد الله السمان

الواقع أننا لسنا في حاجة إلى مسلمين يحملون كتاب الله في جيوبهم، ولا إلى مسلمين يعلقونه فوق صدور أبنائهم، ولا إلى مسلمين يتلونه تلاوة لا تتجاوز حناجرهم. ولا إلى مسلمين يتخذون منه الأحجية والتعاويذ والأدعية - ولكنا في حاجة إلى مسلمين ينفذون مبادئه، ويحققون مطالبه، ويتفهمون معانيه، وتشرب نفوسهم ما استوعبه من تربية راقية عالية.

وحاجة الأمم إلى التربية لا تقل عن حاجتها إلى المال والقوة والعدة - ذلك لأن الأمة لا يمكنها أن تشق طريقها إلى المجد، وتسلك سبيلها إلى العلاء، إلا إذا نالت نصيباً وافراً وقسطاً كبيراً من التربية السليمة، ولذلك كان اهتمام القرآن الكريم بتربية أمته اهتماماً بالغاً يسددها في خطواتها ويقومها في أعمالها.

اهتم القرآن بتربيتها على الأخوة المؤسسة على الاتحاد والتعاون والصفاء والإيثار: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم - وأصلحوا ذات بينكم - وتعاونوا على البر والتقوى - ولا تتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم - واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا - ولا تكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون).

وسما بها عن المواقف التي تجر إلى النزاع، وتزرع في قلوب أبنائها الشقاق:

(اجتنبوا كثيراً من الظن - ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً - لا يسخر قوم من قوم - ولا تلمزوا أنفسكم - ولا تنابزوا بالألقاب).

واهتم بتربيتها على العزة والحرية والنفور من الذلة والعبودية: (إن الذين توفيهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله وسعة فتهاجروا فيها. . .؟).

وحثها على الاستعداد، وظهورها بمظهر القوة حتى لا تمس حريتها أو تخدش عزتها.

(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).

وحذرها مواطأة العدو، والتودد إليه، ففي هذا تمهيد لوقوعها في هوة الذلة والاستعباد:

ص: 33

(لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا - لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة).

واهتم بتربيتها على المغامرة لأنها من عوامل إنهاضها:

(يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة).

واهتم بتربيتها على العدل حتى لا يصيبها الاضطراب في شئونها:

(كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى - وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل - اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً)

وحذرها عاقبة البغي والعدوان:

(ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم - ولا تطغوا أنه بما تعملون بصير).

كما حذرها البطر حتى لا تتسبب في زوال نعمتها:

(ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورثاء الناس).

وكما رباها على العدل رباها على مكافحة الظلم لاستتباب حالها: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلوا منكم خاصة - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار).

محمد عبد الله السماق

مدرس بمدرسة علم الدين الابتدائية للبنات بالسيدة زينب

ص: 34

‌رسالة الشعر

الشاعر

للأستاذ يوسف حداد

اقترحت زميلتنا (العصبة الأندلسية) على الشعراء أن ينظموا في موضوع (الشاعر) وارصدت للاقتراح جائزتين ماليتين للفائزين الأول والثاني، فجاءها تسع عشر قصيدة تخيرت منها لجنة التحكيم ثلاثاً جعلت الجائزة الأولى لاثنتين مناصفة وهما للشاعرين يوسف حداد وشبلي ملاط، والجائزة الثانية للقصيدة الثالثة كاملة وهي للشاعر كامل العطار، وهذه هي القصيدة الأولى

قبل أن أسكن الثرى

كنت في كوكب أقيم

مثلما ينبث الكرى

مثلما ينبع النسيم

مدن الله لي قرى

قابض الروح لي نديم

زاد عيني حصى الذرى

ماء قلبي لظى الجحيم

يوم أرنو ولا أرى

خلف خط الضحى الوسيم

ظل صب من الورى

في صحاري الدجى يهيم

قبل أن أتحف الزمان

بالدواوين والرسوم

كنت أرعى وعول جان

عند حورية النجوم

ونعاجاً من الدخان

وخيولاً من الغيوم

في سراديب كل حان

ضل عنها هدى الكروم

و (بعامورة) جنان

لقطيعي وفي (صدوم)

والعصا جسم افعوان

وجرابي عشوش بوم

أوفدتني إلى الأنام

جنة السحر (عبقر)

في مهماتها الجسام

يا لشيء يحير

كيف فيها الفتى ينام

وهو يمشي وينظر

وبلغت الثرى بعام

مثلما الفصل يعبر

ولدن ظلل الغمام

والضباب المكسر

ص: 35

قفف الريش والعظام

رحت بالظل أعثر

ويحهم من سواي من

جاء من سرحة الخلود؟!. . .

يحمل التاج والكفن

للفراشات والورود

قبل أن يهزأ الزمن

بالتوابيت والمهود

فغزا عرسه القنن

وجنازاته الصرود

فهو إن رنم الفنن

يطلب الشمس للسجود

وإذا أعول المجن

عبد الغيم ظل دود. . .

إن نوحي بكل بر

شرب الغيم من صداه

هل ترى الرعد ما انفجر

لو فمي لم يجد بآه؟!

أبعدوني عن البشر

قربوني من الإله

في يدي بيعة الصور

في فمي مطهر الجباه

فلمن أكحل البصر

ولمن أغسل الشفاه

واذبحوا بيننا القدر

فهنا غور منتهاه

كل ما يشبع النظر

قات مني ذرى الجفون

إن جوعي كوى الحجر

ظمأى جفف العيون

نفسي رمد الشجر

بصري قوض السجون

غرسوا في يدي الإبر

فجنوا زهر زيزفون

كم طوى الكوكب الأغر

لي رواقاً من السكون

أتت لولاي يا قمر

لم تكن غير شطرنون. . .

حيثما أزرع النفس

ينبت الصفح والندم

وحمى كل من غرس

يضرب الرأس بالقدم

قل لمن قصرهم درس

وطوى شمسه العدم

إن قلبي الذي أحس

بخطاياه من قدم

إن جفني الذي عبس

بالسلاطين والخدم

ويراعى الذي لمس

ليس رفشي الذي هدم

ص: 36

قل لدنيا المظلة

والجناح الذي يطير

لا تباهى بقلة

توجتها يد الأثير

نفضوا خيط حلتي

فاكتسى النبع والغدير

هبه من غزل شلة

لفه العث، حبل نير

غمزوا ضلع فلتي

فرمى فيئها العبير

هبه من زهر تله

شق عين الندى الضرير

من جلوسي على انفراد

فوق تل العشية

وانحداري على الوهاد

بالرؤى المخملية

نشأ الوحي في العباد

كرجاء المنية

ويك لولا غني الوداد

بكنوزي الخفية

حيث يلتفت بالرماد

موسم العبقرية

ما حلا للمسيح زاد

من يد المجدلية. . .

رب بيت نظمته

بات تاريخ كل دين

رب سيف ثلمته

لف جيل الوغى بحين

رب زهر شممته

ناب عن غلة السنين

رب صدر لثمته

شق أضلاعه الحنين

رب ثغر ظلمته

بالمناجاة والأنين

حمل العدل صمته

من عرين إلى عرين

أي شيءٍ صفا وطلب

لفؤادي وناظري

ومضى دون ما إياب

لم ينتف محاجري؟!. .

لا بظفر ولا بناب

بل بشوك الخواطر

عند لمس الهوى المصاب

هان نهش الكواسر

هكذا يلجم العباب

في دمع المهاجر

ارم عينيك يا سحاب

إن بكى قلب شاعر

أنا أشقى ليسعدا

لي وراء الأنام جار

ص: 37

وأغنى ليزهدا

بهتاف الضحى الهزار

وأهز المهندا

كي تلف القنا بغار

وأرش اللظى ندى

على ريق اللمي يغار

ضاء شمعي ورمدا

في الليالي الهوى القصار

كي يطيل البلى غدا

شوق عظمي إلى النهار

إن طوى القبر أضلعي

جنة التوت والكرز

ادفنوا غلتي معي

كتب الشعر والرجز

ذخر قلبي ومدمعي

خير ما ذو غنى كنز

إن يكن كل مقطع

ميل المتحنى وهز

للحمام المودع

والثكالى من الإوز

إن مخطوط أصمعي

ليس من أصلعي أعز!.

اخفضوا الصوت ياحداة

حيثما مدفني يكون

فلقد يقلق الرفات

من الصدى رقة الجفون

كيف لو ضج بالبنات

هودج الزهو والفتون

وحدا الظعن للفتاة

وهي ليست مع الطعون

وهي قيثارة الحياة

وهي عكازة المنون

فوعى الصخر والنبات

قيمة الصمت والسكون؟

منشد الظعن والكثيب

هل خطى النوق تفهم؟

أنت بين الورى غريب

لوح نجواك طلسم

مثل أمية الرقيب

وأسى الطير مبهم

كل أرض بدون طيب

لك فيها مخيم

كل جنينة تشيب

من صحاريك تنقم

كل ما صور المغيب

بعض ما أنت ترسم. . .

يوسف حداد

ص: 38

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

مشكلة الفن والقيود:

(لا يحيا الفن بغير القيود)، مثل مشهور تبناه فريق من أدباء فرنسا وشايعهم فيه أنصار من مختلف بقاع الأرض. وأرى أنه ينطوي على شيء كثير من الخطأ والضلال، لأن إخضاع الفن للقيود يعني تقنينه وربطه بقواعد وأصول، وهذا ينافي طبع الجمال الذي هو غاية الفن وطابعه الرئيسي. ولو طبقنا المثل نفسه على الشعر العربي مثلاً لانعكست الآية وانقلب المفهوم رأساً على عقب فمما لا شك فيه أن القافية كثيراً ما تسوق الشاعر مرغماً إلى معنى لا يرتضيه ولكن ارتضته القافية، ومعنى هذا أن القافية تنطق الشاعر كلاماً لم يقصد إليه ولم يهدف إلى معناه، وما لا يقصده الشاعر ولا يهدف إليه يكون حتماً خيلا عليه فلا يرتضيه ولا يطمئن إليه، وفي هذا قال شاعرنا العربي عبارته الخالدة (ما أرضاه من شعري لا ياتبنى وما يأتيني منه لا أرضاه).

حقاً إن القافية تبتكر معنى جديداً لم يخطر ببال الشاعر، ولكن العبرة ليست في تغيير المعني وتزاحمها وإنما في قوتها وروعتها وجمالها، وكلها صفات لا تجتمع للمعنى الذي تبتكره القافية، إلا عن طريق الصدفة، والتعويل على الصدفة عند تكوين حكم عام عن الفن، أمر ينافي الحكمة ويجافي المنطق. . . ألا ترى معي بعد هذا بأنه ليس من المتصور أن تحيي القيود الفنون مادام القيد ينزع بطبعه إلى التحكم؟

هذا ما وددت أن أعرف رأيك فيه. . . ولك مني خالص الشكر والتحية.

فؤاد الونداوي المحامي

(بغداد - العراق)

يريد الأستاذ الفاضل فؤاد الونداوي أن يعرف رأينا في هذه المشكلة الفنية التي يعرض لها في رسالته، ونعني بها مشكلة الفن والقيود. ويبادر هو فيحكم على المثل الذي ينادي بالا حياة للفن إلا في ظل القيود. ويبادر فيحكم عليه بأنه ينطوي على شيء كثير من الخطأ والضلال، لأن إخضاع الفن للقيود في رأيه يعني تقنينه وربطه بقواعد وأصول، وهذا

ص: 39

ينافي عنصر الجمال الذي هو غاية الفن وطابعه.

هذا هو رأي الأستاذ الونداوي. وخلاصته أنه يريد أن يحرر الفن من كل قيد وأن يعفيه من كل قانون، ليصل من وراء هذا كله إلى تحقيق ذلك العنصر الرئيسي في الفن، ونعني به عنصر الجمال. . . ومن هذا الرأي الذي يجهر به الأستاذ الونداوي تخرج بأن مضمون نظرته وجوهر دعوته يلتقيان حول معنى واحد: هو أن الجمال في الفن عماده الحرية.

نود أن نقول للأستاذ الونداوي إن إطلاق حكم عام على مشكلة من مشكلات الفن يتطلب شيئاً من التريث وأشياء من المراجعة. ولو تريث الأستاذ في دراسة المشكلة وراجع نفسه عند إصدار حكمه، لأدرك أن تحرير الفن من كل قيد معناه الحرية المطلقة، وأن الحرية المطلقة ليست هي الجمال الذي يتطلع إليه! إننا حين نفرض القيود على الفن فإنما نفرضها بغية أن نبث فيه روح النظام. وما هو الجمال في الفن إذا لم يكن هو النظام على التحقيق؟ وحين نرفض الحرية المطلقة في الفن فإنما نرفضها خشية أن نبث فيه روح الفوضى. وما القبح في الفن إذا لم يكن هو الفوضى بلا جدال؟ لا بد إذن من القواعد وأصول حين نحتاج في (تنظيم) الفن إلى تلك القواعد والأصول، ولابد إذن من القيود التي تقررها المقاييس النقدية لتحديد القيم الجمالية. ومع ذلك فنحن لا ننكر الحرية التي تتيح للفن أن يتنفس ليكون فناً، ولكنها الحرية المعقولة غير المطلقة، تلك التي تعمل في مجالها الطبيعي حيث قدر لها أن تكون! هناك إذن قيود مفروضة وقيود مفروضة. أما تلك القيود المفروضة فقد حددناها في مذهب (الأداء النفسي)، وهو مذهبنا في نقد الفنون عامة وفي نقد الشعر على الأخص، ولا بأس من أن نعيد اليوم بعض ما قلناه بالأمس، مادام الأستاذ الونداوي يريد أن يعرف رأينا في مشكلة الفن والقيود.

في القصيدة الشعرية، وفي اللوحة التصويرية، وفي القطعة الموسيقية، وفي كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب، يحسن بالفنان، بل يجب عليه، أن يكون له هدف. . هذا الهدف لا بد له من تصميم، ولابد له من خط سير، ولا بد له من خطوات تتبع خط السير وتعمل في حدود التصميم. ذلك لأن الفن في كل صوره من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسميها (ملكة التنظيم)، وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة التي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل

ص: 40

شيء مكانه؛ كل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فناً، بل هو (فوضى فكرية) أساسها وجدان مضطرب، وذهن مهوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. وأبلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلماً إلى الفن، هو تلك الحركة السريالية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى ميدان النحت والتصوير والقصة، فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع الفن بطابع التسلل والوضوح والدقة والوحدة والنظام. . . مثل هذه الحركة في الفن ليس لها هدف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأحاسيس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود! وشبيه بتلك الحركة في جنايتها على معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضي بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تفتقر بعض الأذهان إلى تلك (الملكة التنظيمية) التي تلائم بين الجزئيات وتوائم بين الكليات، وتفضل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد.

نريد من الفنان سواء أكان شاعراً أم مصوراً أم موسيقياً أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم يرسم (أصوله وقواعده) قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضي فيه وقبل أن ينتهي منه. نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم الفني الذي يأمره بالوقوف عند هذا المشهد، وبالتقاط الصورة من هذه الزاوية، ويتركز الانفعال في هذا الموطن من مواطن الإثارة. عندئذ نوجد (نظاماً)، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد قمنا بناء الفن هذا التصميم الذي ندعو إليه ينظم هيكله العام أصول الأداء النفسي في الشعر والتصوير والموسيقى. هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزيع الظلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجيه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. ولا بد للأداء النفسي في الشعر من هذا (التصميم الداخلي). لابد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق، مستودع النفس، قبل أن ندفع بها إلى الوجود كائناً حياً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء. . إننا ننكر ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تنطمس فيه معالم الطرق وتنمحي الجهات، أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات!

هذه يا صديقي هي القيود المفروضة التي تتيح للفن كل معاني الحياة. . أما تلك القيود

ص: 41

الأخرى التي لا نرتضيها للفن لأنها تحد من حريته الطبيعية وحقه المشروع، فهي تلك الصيحات التي تنطلق من بعض الأفواه منادية بربط الفن إلى عجلة المجتمع أو مزجه، بأصول علم الأخلاق. وأصحاب المذهب الأول مغرقون في الخطأ أو مسرفون في الوهم، لأنهم يتخيلون أن المجتمع هو الحياة حين يتحدثون عن الصلة بين الفن والحياة! إن مصدر الخطأ هنا هو أن الحياة في مدلولها اللفظي وواقعها المادي، أوسع مدى وأشمل معنى من المجتمع الذي يريدون للفن ألا ينشر جناحيه بعيداً عن حماه. . إن المجتمع جزء من الحياة وليس هو كل الحياة، ونضرب لذلك مثلاً قصيدة من الشعر يصور بها الشاعر مجلي من مجالي الطبيعة أو نزعة (فردية) من نزعات النفس أو دفقه (ذاتية) من دفقات الشعور. أليس كل جانب من هذه الجوانب التي تخرج عن دائرة المجتمع، تعبيراً عن الحياة في وضع من أوضاعها الخاصة التي تفيض بالنبض وتزخر بالحقوق؟ إننا نستطيع أن نلتمس الحياة في شعر يتحدث عن الصحراء، وفي قصة تدور حول معالم الذات، وفي أدب معروف هو أدب الاعترافات. . . وكل هذه الألوان الفنية لا تدخل في نطاق المجتمع الكبير ومع ذلك فهي تؤدي رسالة النقل عن الحياة كأصدق ما يكون الأداء!!

هذا عن أصحاب المذهب الأول، أما عن أصحاب المذهب الأخلاقي في الفن فقد رددنا عليهم في مناسبة سابقة بكلمات للفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشة، وهي كلمات نؤمن بها كل الإيمان لأن فيها الحجة المقنعة والمنطق السليم. . وخلاصة رأي الفيلسوف الإيطالي في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، هو أن الفنان لا يمكن أن يوصم من الناحية الأخلاقية بأنه مذنب، ولا من الناحية الفلسفية بأنه مخطئ، حتى ولو كانت مادة فنه أخلاقاً هابطة! فهو - كفنان - لا يعمل ولا يفكر، ولكنه يعبر. . . إن فناً يتعلق بالأخلاق أو اللذة أو المنفعة، هو أخلاق أو لذة أو منفعة ولن يكون فناً أبداً!! ولئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير فهي ليست قوام الإنسان الفنان، ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإرادة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي.

بقي أن نقول للأستاذ الونداوي في مجال الرد على ما أورده حول قيود القافية في فن الشعر، إن هذه القيود كما عرض لها حق لا شك فيه، من الناحية أنها تفرض على الشاعر لوناً من التعبير قد لا يرتضيه. ولكن الأستاذ قد نسي أن تلك القيود لازمه من لوازم الشعر

ص: 42

ليكون شعراً، له ذلك القالب الفني الذي يميزه عن قالب النثر ويشير إلى ما بين القالبين من فروق!

موسوعة عن الأدباء المعاصرين

أتشرف باطلاعك على كوني أقصد أن أطيع في أقرب وقت كتاب (المختارات)، في ستة مجلدات ضخمة، تحتوي قطعاً نثرية وشعرية منتخبة لنحو ثلاثمائة من أشهر الأدباء المعاصرين، في كل أقطار العالم العربي.

أرجو أن تتحفني بشيء من مؤلفاتك لإدراجه في كتابي، صورتك الشمسية واضحة كل الوضوح، وملخص سيرتك الأدبية، أعني تاريخ ومكان ولادتك، المدارس التي تهذبت بها، جدول مؤلفاتك وأهم حوادث حياتك الأدبية.

أشكرك سلفاً، مع إهدائي لك فائق اعتباري ودمت.

رفائيل نخلة

(دير اليسوعيين - حلب - سورية)

ليس من شك في أن هذا العمل الذي يزمع أن يقوم به الأستاذ الفاضل رفائيل نخلة، وهو إخراج موسوعة ضخمة عن أشهر الأدباء المعاصرين في العربية، ليس من شك في أنه عمل يستحق الإعجاب من ناحية جدواه. . ذلك لأن جدوى الموسوعات الأدبية هي أنها تضع بين أيدينا خلاصة وافية لحياة من تعرض لهم من الأدباء، مما يتيح للدارسين شيئاً من العون حين ينشدون دراسة الإنتاج الأدبي على ضوء تلك الحياة. أما تلك المتعة الأخرى التي يمكن أن يستشعرها القارئ وهو يتنقل بين قطع مختارة من الشعر والنثر، فهي متعة تفسح مجالاً لا بأس به لجمهرة المتذوقين والنقاد.

هذا هو رأينا في الموسوعات الأدبية بمناسبة هذه الرسالة التي تلقيناها من الأستاذ الفاضل. . ولكننا نحب أن نلفت نظره إلى حقيقة ليس إلى إنكارها من سبيل، وهو أن الأستاذ مسرف في التفاؤل حين يتصور أن في الأقطار العربية ثلاثمائة من الأدباء! لا يا سيدي، إننا يجب أن نقيم الميزان للأديب الحق لا لكل أديب حمل قلماً وكتب. . . ومن هو الأديب الحق؟ هو صاحب (المذهب) المعروف لا صاحب الاسم المعروف، هو - في كلمة جامعة

ص: 43

مانعة - صاحب الأصالة المبدعة لا المحاكاة الناقلة. . . إذا نظرنا إلى الأدباء بهذا المنظار فلا مفر من أن يهبط الرقم الذي تتصوره من ثلاثمائة أديب إلى عدد لا يتجاوز أصابع اليدين!! معذرة يا سيدي فهذه هي الحقيقة، وكم نود أن تقنع موسوعتك بهذه الحقيقة لتظفر بما أشرنا إليه من جدوى الموسوعات الأدبية.

وعندما يوفق الأستاذ نخلة إلى اختيار هذا العدد الضئيل من الأدباء فلا بأس من أن يكتب إليهم من جديد. . .

وللأستاذ خالص الشكر على كريم تقديره.

رسائل أخرى من حقيبة البريد

لم تخل حقيبة البريد من عدد من الرسائل يدور موضوعها حول أمور شخصية، وهذا اللون من الرسائل يؤسفنا ألا نستطيع التعقيب عليه، لأننا نهدف من وراء التعقيب إلى الإجابة عن مشكلات الأدب والفن، تلك التي تهم أكبر عدد من القراء. . فإلى أصحاب تلك الرسائل نعتذر، راجين أن يقصروا أسئلتهم على المشكلات الأدبية لا الذاتية!

أنور المعداوي

ص: 44

‌الأدب والفن في أسبوع

حق المحدثين في الوضع اللغوي:

يذكر قراء (الرسالة) المحاضرة القيمة ألقاها الأستاذ أحمد حسن الزيات في مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية عن الوضع اللغوي وحق المحدثين فيه، والتي انتهى فيها إلى مقترحات أحيلت إلى لجنة الأصول بالمجمع لدراستها في ضوء المناقشة التي جرت بشأنها. وأذكر الآن أن هذه اللجنة تقدمت إلى مجلس المجمع برأيها في تلك المقترحات، وينحصر هذا الرأي في مقترحين اثنين:

الأول ناقشه المجلس وعدله ثم أقره على الوجه الآتي: تدرس كل كلمة من الكلمات الشائعة على ألسنة الناس، على أن يراعى في هذه الدراسة أن تكون الكلمة مستساغة ولم يعرف لها مرادف عربي سابق صالح للاستعمال.

والثاني: قبول السماع بشرط أن يكون هذا السماع من كاتب أو شاعر، أسلوبه العربي موضع الاطمئنان والثقة بعربيته مثل جيل بمعنى طبقة من الناس، وزهور جمع زهر.

ولما جرت المناقشة في هذا المقترح أدلى الأستاذ الزيات بالبيان التالي نصه: (يظهر أن بعد المسافة بين إلقاء المحاضرة وبحث المقترحات قد ألقي عليها ظلاً من الغموض، فإن بعض الأعضاء لم يلحظ الفرق بين الوضع والسماع فأراد أن يجعلهما واحداً، والمراد بالوضع إطلاق لفظ على معنى ابتداء، وقد يكون الوضع بالارتجال كالأب والأم والبحر والأرض والجبل، وقد يكون بالاشتقاق ككاتب وشاعر ومنشار ومفتاح وملعب، وقد يكون بالتجوز كإطلاق السماء على المطر والغيث على النبات والقهوة على المكان الذي تشرب فيه، وهذا الوضع بطرقه المختلفة كان يجري على قوانين مطردة نشأت من طبيعة اللغة وسليقة العرب وهذه القوانين هي ما نسميها بالقواعد والقياس، ولكن المتكلمين لأسباب طبيعية أيضاً يخالفون أحياناً هذه القواعد أو هذا القياس، وهذه المخالفة هي ما سميت بالسماع، والغرض منه مخالفة القياس في الاشتقاق أو النسب أو الجمع مثلاً، كقولهم يافع من أيفع والقياس موفع، وأموي بالفتح في النسبة إلى أمية وأهلون وأرضون وستون وعشرون وبابه في جمعها جمعاً مذكراً سالماً. وقد كان هذا السماع كالوضع من حق العرب الأولين والمراد الآن إعطاء هذا الحق للمحدثين فنقبل منهم ما خالفوا القياس في لفظه أو

ص: 45

خالفوا المعاجم في مدلوله، كقولهم مثلاً من النوع الأول:(متحف) بالفتح والقياس الضم، و (مقهى) بالفتح والقياس الضم، و (ثلاجة) بدلاً من مثلجة، و (زهور) جمع زهر، و (نوادي) جمع ناد والقياس أندية، و (أحفاد) جمع حفيد والقياس حفدة، و (طبيعي) في النسب إلى الطبيعة والقياس طبعي، و (بديهي) في النسب إلى بديهة والقياس بدهي، و (طنطاوي) و (طهطاوي) في النسب إلى طنطا وطهطا والقياس طنطي أو طنطوي، و (قهاوي) في النسب إلى قها والقياس قهوي. وكقولهم من النوع الآخر (جيل) لطبقة من الناس واللغة جنس من الناس، و (فشل) للإخفاق واللغة والضعف، و (السمك) و (السميك) للتخمين واللغة: السمك بالفتح الرفع وطول الجدار من الأرض إلى السقف ولم يرد منه سميك، و (صدفة) بمعنى مصادفة، و (عائلة)(بمعنى أسرة).

وكان المجلس قد رد المقترح الثاني إلى اللجنة لإعادة بحثه. فنظرت اللجنة في الموضوع وفي ذلك البيان، ثم جعلت الاقتراح كما يلي:(ترى اللجنة قبول السماع المحدثين بشرط أن تدرس كل كلمة على حدتها قبل إقرارها)

ولما عرض ذلك على مجلس المجمع وافق عليه.

تعقيب

نرى أن النتيجة التي أخذ بها المجمع في هذا الموضوع تنحصر في المادتين اللتين أقرهما، الأولى تدرس كل كلمة من الكلمات الشائعة على ألسنة الناس، على أن يراعى في هذه الدراسة أن تكون الكلمة مستساغة ولم يعرف لها مرادف عربي سابق صالح للاستعمال) والثانية: قبول السماع من المحدثين بشرط أن تدرس كل كلمة على حدتها قبل إقرارها) والمتأمل في العبارتين يرى مؤداهما واحداً، وهو أن الكلمات التي يستعملها المحدثون يقبلها المجمع بعد دراستها، وهذه (الدراسة) تحفظ يشبه التحفظات التي ترد في التصريحات والمعاهدات التي ترد في التصريحات والمعاهدات التي تفرضها الدول الكبيرة على الأمم الصغيرة. فهي كلمة مطاطة، يمكن استغلالها عند بحث كل كلمة، فيقال مثلاً إنها تخالف القياس أو إنها على غير معناها في المعاجم، وقد أبدى ذلك صراحة في أثناء المناقشة الأستاذ إبراهيم مصطفى بك، إذ قال:(كان لي اعتراض على قبول كل سماع خالف القياس ولكن ما دامت اللجنة قد قررت أن كل كلمة ستبحث على حدتها فإني موافق على ذلك).

ص: 46

ويمكن أن يقال إن (السماع من المحدثين) هو كما فسره الأستاذ الزيات مخالفة القياس في اللفظ والمعاجم في المدلول، ولكن هذا القيد أهمل في القرار إهمالاً اطمأن إليه الأستاذ إبراهيم مصطفى!

ويماثل الأمم الصغيرة في ذلك (التحفظ) هذه الصيحات التي ترمي إلى تحرير اللغة وتطويعها لمقتضيات العصر، على أساس أنها لغتنا التي ورثناها عن الأسلاف ولنا حق التصرف فيها بما ينميها ويجعلها تساير الحياة، وليست (عيناً موقوفة) يلتزم فيها شرط الواقف. وخدمة اللغة لا تكون بالتشدد فيها والوقوف بها عند الحدود الجامدة، وإنما تكون بتسهيلها وتوسيع آفاقها، لتكون لغة مرنة محبوبة. والتجارب تداما على أن التشدد لم يجد نفعاً إزاء الاندفاع الذي يخضع للقوانين الطبيعية، فكم نبه المنبهون وكم صحح المصححون دون أن يلتفت إليهم أحد، فالمتحف لا ينطق إلا بالفتح، ولم تتجنب الألسنة والأقلام الزهور والنوادي والأحفاد والفشل. . . الخ، فماذا يضير اللغة لو أقررنا هذه الكلمات وأمثالها مما شاع جريانه على الأقلام واكتسب حق الحياة بكثرة الاستعمال؟ على أننا رأينا مدلول الكلمة الواحدة قد تغير وتطور في العصور المختلفة، فماذا لو أضفنا إليها مدلولاً جديداً؟

وهذا المجمع يعني نفسه بالمصطلحات الطبية والعلمية وغيرها منذ سنوات، وقد وضع من ذلك كثيراً، أكثره غريب ثقيل ليس من المنتظر أن تستعمله الجامعات والهيئات العلمية، ولست أدري لماذا لا تظل هذه المصطلحات بأسمائها كما وضعها أصحابها؟ ولماذا لا نسهل على كلية الطب مثلاً بإقرار هذه المصطلحات كأعلام للأشياء التي وضعت لها على أن تكون الدراسة فيها باللغة العربية من حيث التعبير والتركيب المكون للجمل العربية مع الاحتفاظ بالأسماء كما هي؟

وأنا لا أستطيع - بعقلي البحت - أن أفهم لماذا نغير الأسماء وقد وضعها أصحابها عند ولادة مسمياتها فصارت أعلاماً عليها. أليس من حق الوالد أن يسمي ولده بما يشاء؟ فكذلك الصانع والمخترع، إننا لا نغير أسماء الأجانب الذين يأتون إلى بلادنا فلماذا نغير أسماء الأشياء التي ترد إلينا من الخارج؟

وتبرز لنا هنا كلمة (التعريب) التي قالوا بأنها الملجأ الأخير لإدخال الكلمة الأجنبية في اللغة العربية، جرياً على ما فعله العرب في العصور المتقدمة. أريد أن أسأل: لماذا عرب

ص: 47

العرب الكلمة المعربة ولم ينطقوها كما هي في لغتها ألم يكن ذلك ضرورة لسانية لعدم قدرتهم أو اهتمامهم بصحة النطق الأعجمي؟ وقد كانوا يفعلون ذلك بأسماء الناس والبلدان وسائر الأشياء. أما نحن فإننا نهتم بنطق اللغات الأجنبية ونجتهد في إجادتها، فلماذا إذن نعرب الكلمة الأجنبية؟ وما هي الضرورة الداعية إلى ذلك؟ ولماذا نقصر التعريب إذا كان له وجه على أسماء الأشياء دون أسماء الرجال والنساء والبلدان التي ننطقها كما هي ولم يفكر أحد أو لم ير أحد موجباً لتغييرها بتعريب أو غيره؟

إن حياة اللغة في تراكيبها وجملها، وليس يضيرها، بل يفيدها أن ننطق ونكتب الأسماء والأعلام والمصطلحات الأجنبية كما وضعها أصحابها، فإذا قلت سمعت الراديو، أو تحدثت بالتليفون، أو قدم المستر سميث: من لندن، فإنك تتكلم كلاماً عربياً فصيحاً لا شك في ذلك. ومن الصور العجيبة والمضحكة لذلك التشدد في اللغة، أن معلم الإنشاء في المدارس لا يقبل من التلميذ أن يكتب الراديو والتليفون والسينما، فإذا وجدها في الموضوع بدل بها المذياع والمسرة والخيالة. ووزير المعارف الحالي معالي الدكتور طه حسين يكتب الراديو والتليفون والسينما، فهل يخطئ التلميذ إذا كتب مثل وزير المعارف؟

عباس خضر

ص: 48

‌البريد الأدبي

في النظم الجامعية

يحسب الناس - كما كنت أحسب مثلهم من قبل - أن أمر التعليم الجامعي الذي هو أرقى درجات التعليم العصري في بلادنا يسير على منهاج قويم لا عوج فيه لا من حيث المناهج والبرامج، فهذا ما ليس من حديثنا اليوم، ولكن من حيث النظم الإدارية، ولكن من يدنو من كليات الجامعة ويذوق مرارة أعمالها يجد أنها تسير على نظم عقيمة لا تتفق مع الروح الجامعية في شيء ويستيقن أنها وقد انقضى عشرات السنين على إنشائها لا تبرح تتبع في النظم ما يتبع في المدارس الابتدائية!

فهذا طالب ينطق تاريخه الدراسي باجتهاده ونبوغه، لم يقبل بالطب البشري بالإسكندرية من أجل نصف درجة! في علم لا يتصل بالدراسة الطبية في شيء، فشق عليه ذلك، وما كاد يعلم أن الدراسة الإعدادية بكلية طب قصر العيني عامة للبشري والأسنان معاً، وأن توزيع الطلبة فيها سيجري حسب ترتيب النجاح في امتحان هذه الدراسة حتى سارع إلى التحول إليها، ليزاحم بمنكب الجد طلابها، ولم يقنع في امتحان هذه الدراسة بأقل من درجة (جيد جداً) وهي درجة لم ينلها معه إلا قليل، ومن ثم أيقن أنه بهذا التفوق قد أصبح له الحق كاملاً في دراسة الطب البشري.

ولكن ما كان أشد دهشته لما وجد أن هذه الكلية تحول بينه وبين هذه الدراسة، وهاله أن يراها وهي تصده - على تفوقه - عن هذه الدراسة قد أتاحتها للمتخلفين وراءه في النجاح من زملائه حتى الذين لم يستطيعوا أن ينالوا إلا درجة مقبول. . . وما كان هذا الظلم والعنت لا لأنه كان يزعمها مقيداً بالإسكندرية على طب الأسنان أي قبل أن يحول إليها! كأن حسن إسلامه وصالح أعماله لم يضعا عنه وزر الجاهلية ولا أغلالها!! وتلقاء هذا العنت والظلم لم يجد ملاذاً يفزع إليه إلا أن يلجأ إلى مجلس الدولة لكي ينصفه في هذا الظلم المبين.

وهؤلاء طلاب من مختلفي الكليات يبلغ عددهم مائة أو يزيدون تمنعهم كلياتهم من أداء امتحاناتهم بحجة عدم حصولهم على نسبة الحضور التي جعلتها نظمها شرطاً لأداء الامتحان كأنهم لا يزالون أطفالاً لا يختلفون إلى دروسهم إلا بعد أن ينتظموا طوابير في

ص: 49

دخولهم وخروجهم!

هذه أمثلة من النظم الإدارية التي تتبع في كليات جامعاتنا المصرية في القرن العشرين! وكأن الله لم يرد أن يذر أمر هذه الجامعة الكبيرة على ما هي عليه من تلك النظم العتيقة والقيود البالية فقيض لها أخيراً رجلاً أوفى على الغاية في فقه العلوم القانونية وبلغ درجة عالية من الثقافة الذاتية ذلك هو الدكتور محمد كامل مرسي باشا فإنه ما كاد يتولى أمرها حتى أنشأ يعمل بعقله الراجح وفكره الثاقب على صلاح نظمها وتقويم ما اعوج من لوائحها لكي تتبوأ مكانها الذي تستحقه بين جامعات الأمم. فتراه مثلاً ما كاد يعلم بأمر هذا الطالب الذي ذكرنا أمره حتى عز عليه أن ينظر أحد غيره في شأن من شئون الجامعة أو يفصل في أمر من أمورها وأسرع فأقام نفسه مقام مجلس الدولة في الفصل في قضيته وبخاصة فإنه قد كان من قبل رئيساً لهذا المجلس، ولما درس هذه القضية وتبين له حق هذا الطالب واضحاً قدم أمره إلى مجلس الجامعة الأعلى فأقر بالإجماع هذا الحق وبذلك حفظ مستقبل هذا الطالب المتفوق، ولو أن غير هذا العالم الجليل في منصب مدير الجامعة لسكت عن قضية هذا الطالب ولسوغ سكوته أن الأمر قد أصبح بين يدي القضاء.

أما هؤلاء المائة من الطلاب فقد رأى هذا العالم الجليل أن من الظلم أن يضيع عليهم ما حصلوه من علم لأمور شكلية وقضى بحكمته أن يؤدوا امتحاناتهم أسوة بسائر زملائهم.

وقد جرى بيني وبين هذا العالم الحجة حديث في أمر هذا الطالب خاصة وأمر هؤلاء الطلبة عامة فكان من كلامه أن من الظلم المبين أن يحرم طالب متفوق مثله ثمرة جده واجتهاده، وما شأنه بالإسكندرية وقد انقطعت صلته بها فدرس بالقاهرة مناهج غير مناهجها على نظم مغايرة لنظمها؟ ولو نحن هضمنا حقه لقضيتنا على مستقبله ولعقدنا عقدة نفسية عنده تظل طوال حياته تعتاده

هؤلاء الطلبة كيف تمنعهم من أداء امتحانهم وقد أذنا للمعتقلين من إخوانهم أن يؤدوا امتحانهم تحت حراسة الجلاوزة؟

هذا بعض ما سمعته من حديثه؛ القيم وإنا بعد ذلك لنرجو مخلصين أن يوفق هذا العالم الجليل في كل ما يبتغيه من صلاح لهذه الجامعة في نظمها وعلومها حتى تبلغ المكانة اللائقة بها.

ص: 50

محمود أبو ريه

ص: 51

‌القصص

الضمير. . .

للأستاذ كمال رستم

كانت له في كل يوم معركة مع ضميره. وقد ألف أن يخرج منها وهو مثخن بالجراح. أنه كان يحرص دائماً على أن يظل عامراً ما بينه وبين الله، وعلى أن يظل عامراً ما بينه وبين ضميره. وهل الضمير إلا الرقيب الإلهي في الإنسان؟ كل يوم كلما خلا إلى نفسه كان يقف خاشعاً بين يدي هذا الرقيب كأنه في صلاة ويجلد لحسابه العسير الشاق ويترضا. ولكم سكب في سجدة التقى والورع من الدموع يغسل بها قلبه ويطهره مما علق به من الآثام والأوضار. وما كان يبكي بعينيه حسب، بل ألف قلبه أن يبكي أيضاً. وكان قانعاً في عزلة روحه المؤمنة بعيداً عن ضباب الشهوات. ولكنه لم يكن سعيداً. ومتى أدت القناعة مفهوم السعادة؟

ولكن الصلة التي بينه وبين الله تعرضت آخر الأمر لامتحان رهيب. إنه منذ نزل على إرادة أمه، وبنى بالزوجة التي تخيرتها له، وهو يجتر الألم، ويحتضن الأفكار السود! بدا له أنه ودع حياة السعادة والأمل إلى غير رجعة؛ وأنه تناول بيده الراعشة الكأس التي مزاجها علقم وصاب؛ وأفرغها في جوفه! وأحس بعد خدرها أن بينه وبين الله بعيد بعد ما بين السماء والأرض. ولم يعد يجد في وحدته الشاعرة فردوسه المفقود. بل رأى بعينيه ريح الشهوات وهي تكاد تعصف بغرسه إيمانه. وأخرجت الذاكرة أحزانها كلها ونثرتها بين يديه! ذكر أنه لم يستشعر لزوجه أضعف الحب؛ وذكر أنه حاول أن يروض نفسه على حبها ويرضى بنصيبه المقدور. ولكن ذهبت محاولاته كلها قبض الريح! فإن زوجته لم تكن حتى على الجانب اليسير من الجمال.

وإنه لذلك بات يضبط في كل دقيقة نظراته المنهومة؛ متلبسة بجريمة اشتهاء وتطلع. أو ليس إنساناً قبل كل شيء؟ لقد حاول منذ تزوج أن يقتل الإنسان فيه ليظهر الملك! وأن يقطع صلته بالأرض ليصل بالسماء. ولكم يعاوده الجهد من جراء ذلك ولم يبلغ أربا.

وكل ما ناله أنه لم يعد في الناس واحداً منهم، ولم يرق إلى السماء ليصبح من أهلها. وآذاه أن يعيش هكذا حائراً بين المنزلتين ونازع نفسه التحرر من هذا الرقيب وأن يقضي في

ص: 52

نفسه وطراً.

فتعب عيناه من جلال هذا الجمال الماضي ويقبس ومنه قبساً. . . وكان يجد نفسه في غير وعي ولا إدراك يقابل بين زوجه وبين ما يصادفه من النساء الجميلات ويخرج من المقابلة وقد أيقن أنه إنما يعيش على هامش الحياة. . . وكانت نظراته الراغبة تبدأ من الشعر المعقوص ولا تزال تنحدر على الجسد البلوري حتى تفنى مع القدمين الجادتين في المسير! ويعود من رحلة بصره وقد أحس برسيس الحرمان ومضاضة الألم، ويكاد يكفر بالقيم الخلقية التي يمرض بها نفسه. . . ويخيل إليه أن السبيل الوحيدة إلى التخفف من آلامه الممضية أن يلقي بنفسه بين ذراعي امرأة!

ولكنه لم يفعل ذلك فإن الحارس الضمير كان لا يغفل أبداً. كان يرصد سيئاته ويحاسبه على النظرة النهمة حتى ترتد منيبة مكفرة. . .

. . . حتى كان ذلك اليوم الذي شعر فيه أن الخواء الذي رافق حياته قد صاحبه عقم زوجه! لقد كان وكده أن يكون أباً. . . وأن تعزيه الأقدار عن حياته المنقبضة إلى جانب زوجه بطفل يؤنس وحدة روحه! ويسكب في حبه له عصارة الحنان الأبوي الذي لم تتدفق منه قطرة!

ولكن هذه الأمنية لم تشأ الأقدار كذلك أن تهادنه فيها. ويا لها من سخرية - قوضت حياته وأطلعته على الجدب الذي يمرع فيه! ويا لمنطق الضمير حين يتكلم فيه معتذراً عن زوجه بأن عقلها إن هو إلا إرادة عادلة وحكمة كبرى ليس للعابد القانت أن يناقش فيها أو يجادل. ولكنه كفر لأول مرة بمنطق الضمير. وراح يتلمس السبيل إلى الثورة المجنونة التي لا تبقي ولا تذر! لقد مني بزوجة عاطل من الجمال، وكأنما لا يكفي هذا! أبت الأقدار إلا أن تصيب الزوجة كذلك بالعقم والجفاف لتكمل مصيبته!. . ولكن الله أورثه الفرج من الضيق. وحرك بفيض كرمه الجنين في أحشاء الزوجة. .

وهاهو ذا. . . ينتظر بين دقيقة وأخرى أن تصافح عيناه وجه طفله الأول. لقد أطل على زوجته منذ لحظات. واستملى من وجهها نظرة عابرة وهي راقدة في الفراش مخرورة الجسد، منهوكة القوى. . . مهدومة!. . ورآها وهي تجالد آلام الوضع المبرحة. . . وتمتم وهو لا يقوى على أن يصعد إليها بصره:

ص: 53

- يا لها من بطلة!

وتزاحمت الصور في رأسه، وبرزت من بينها صورتها منذ تحلل بها المرض ولزمت الفراش. لقد ألف أن يراها تعاني في صمت. . . لا تشكو ولا تألم. فقد كان يرى في عينيها المجهد حكاية الألم كلها مختصرة في نظرة!. ولشد ما قاسى وقتئذ من وخز الضمير. . . حتى ود لو يستطيع أن يهرب من نفسه وينزوي عن هذا الضمير في مكان بعيد. .

. . وأخرجه من تأملاته المطرقة صوت الخادم تنبئه بأن زوجه بعثت بها في طلبه. . ومضى إلى غرفتها وهو يتعثر في خطواته؛ وسمعها تقول في صوت كأنه من فرط الإعياء همس:

- إني أتألم. .

. . . وأجابها وهو يتلمس صوته:

- تشجعي. . . سأحضر الطبيب!

وأرتد عنها إلى غرفته وارتدى ملابسه وخرج!

وصحبته أفكاره طول الطريق. . . وقفزت زوجته إلى رأسه. . . واستعرض على ناظريه حياته الشقية معها. . . ذكر أنه لم يكن يحيا معها إلا بجسده فقط، فإن روحه كانت تعانق أشباح أحلامه! وآخته حيرة مضنية حينما فطن إلى ما هو بسبيل أن يفعله. . . أو ليس هو في طريقه إلى الطبيب ليسهل لزوجه وضع طفل يربط حياته بها إلى الأبد؟

- الطفل!

أو لم يكن وكده أن ينجب طفلاً يؤنس وحدته؟ فما باله لا يهتز الآن لمقدمه ولا يطرب؟ وأحس بكل شيء يتثاءب من حوله. حتى خطاه تثاقلت هي الأخرى وتقاربت حتى كأنه لا يمشي وغافلته خاطرة فذة إندست بين خواطره لها همس حبيب

- لو أن زوجه تموت في هذه اللحظة!

. . . وعبثاً جاهد في أن يتحرر من هذه الخاطرة الجديدة التي سكنت رأسه ورأى نفسه بعدها وقد استسلم لشعور وافد حبيب. . .

- نعم لو أنها تموت!. . . إذن لتزوجت بعدها من فتاة سابيه الحسن آسرة الجمال!

. . وكان قد بلغ منزل الطبيب فرد عنه أفكاره. . . وعاد به إلى البيت.

ص: 54

وتقدم الطبيب من فراش المريضة ووقف هو على رجع البصر منها يثني إليها نظرة. . . رآها كما تركها راقدة في الفراش لا تقوى على حركة، في وجهها الألم، وفي عينيها أثر السهاد والأرق، وفي شفتيها زرقة رهيبة. . . وكانت تتنفس بصعوبة حتى خيل إليه أنها عدمت النفس. . . وشاءت أن تتكلم، إلا أن الكلمات ماتت: شفتيها وتمتم على ترى ماذا تريد أن تقول؟ وأحس كما لو كانت نظراتها أغلالاً تطوق عنقه. . . وأن جو الغرفة لم يعد صالحاً لتنفسه فتسلل هارباً إلى غرفته! ووقف وراء النافذة! وكان الهواء ساكناً فلم يرعش أوراق الأشجار القائمة على خفافي الطريق. . . والقمر على مستقره السماوي يبعث إليه إرسالاً من النور. . . وأشعل دخينة راح ينفث دخانها. . . وقد بدا له كل شيء الآن في إطراقه الصمت والسكون. . . حتى تفكيره كان هادئاً ساكناً فلم تبرق فيه فكرة، وأخرجه من هذا الصمت الذي أن على المكان صوت الطبيب يدعوه - فمضى إليه، وتهادى إلى أذنيه صوته وهو يقول:

- ينبغي أن أصارحك بأن الوضع عسير جداً. وأنا بين اثنتين إما أن أضحي بالطفل لأنقذ الأم، وإما أن أضحي بالأم وأنقذ الطفل. وقد رأيت التمس عندك صواب الرأي.

وشاعت الفرحة في قلبه فقد استجابت السماء آخر الأمر دعاءه وتسلف النظر إلى الأمام فتخايلت لعينيه حياته الجديدة الموهوبة. وأنصت إلى هاتف من أعمق قلبه يهتف به.

- قل: أنقذ الطفل. أو ليست هذه هي الفرصة الموهوبة التي لبثت على انتظارها الشهور الطوال. أو لم تكن تتشهى منذ لحظة أن يعجل الله بوفاتها لتنطلق من إسارها لتبنى بعدها بعذراء جميلة. تطارحك الحب - قيل أنقذ الطفل تملك ناصية السعادة وتحقق غارب أمانيك. وصعد إلى الطبيب رأساً أثقله الفكر وقال: سيدي. . أنقذ الأم!

كمال رستم

ص: 55