المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 887 - بتاريخ: 03 - 07 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٨٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 887

- بتاريخ: 03 - 07 - 1950

ص: -1

‌إنجلترا هي المثل.

. .

نحن هنا نحارب الشيوعية، وفي إنجلترا يحاربون الشيوعية أيضاً. . ولكن السلاح يختلف عن السلاح والنتائج تفترق عن النتائج، حتى لنستطيع أن نقول إنهم مطمئنون وإننا غير مطمئنين. وحسبك دليلا هذا القانون الذي تفكر الحكومة في إصداره ونعني به قانون المشبوهين السياسيين!

ولقد نادينا على صفحات هذه المجلة بوجوب اختيار السلاح الملائم للقاء هذا العدو البغيض، وهو محاربة الفكرة بالفكرة، ومواجهة الحجة بالحجة، ومقاومة الدليل بالدليل. . هذا السلاح القاطع لو أخترناه، ثم استخدمناه، لأتينا بخير النتائج ولظفرنا بالكثير، ولأزهقنا باطل الدعاة حين يذيعون على الملأ أننا قد لجأنا إلى منطق الإرهاب في محاسبتهم حين عجزنا عن منطق الإقناع. . وتلك نغمة خبيثة يرددها اليوم أعداء النظام كما كان يرددها بالأمس أعداء الإسلام، حين نادوا بأن الدين الجديد قد فرض على خصومة بقوة السيف لا بقوة الدليل والبرهان!

قلنا هذا ونادينا به ودعونا إليه. . . وقلنا أيضاً في مجال الرد على المعترضين الذين لا يؤمنون بقوة هذا السلاح ولا يطمئنون إلى جدواه: إذا كنتم تعتقدون أن العلاج لن يقضي على المرض ولن يجتث جذوره من بعض العقول؛ تلك التي ستبقى على إيمانها بالأفكار المنحرفة لأن أصحابها تجار مبادئ وأصحاب أهواء وأغراض، إذا كنتم تعتقدون هذا فإن لدينا العلاج الحقيقي للمشكلة كلها، أو قل إنه السلاح الرئيسي الذي يرد أسلحة الدعاة وهي مفلولة لا تقطع ولا تدفع. . . إنهم ينفثون سمومهم في كل بقعة يلوح لهم منها شبح الفقر وتبدو معالم الحرمان، وفي كل مجموعة من الأحياء تجأر بالشكوى منادية برفع غبن أو مطالبة برد حق مهضوم.

وإذن فلنعمل جاهدين على تحقيق العدالة الاجتماعية التي لا نفرق بين فرد وفرد وبين فريق وفريق. . . علينا أن نهيئ العلم للجاهل، والعمل للباطل، والدواء للمريض، والحياة الكريمة التي توفر الاستقرار للموظف والعامل والفلاح. عندئذ تذهب دعوة السوء صرخة فارغة في واد عميق، وتكسد البضاعة الزائفة حين تغلق في وجه المبادئ المنحرفة كل سوق من الأسواق!

هذا السلاح الأخير لن تجد إنسانا عاقلا يرفع صوته معترضا على نتائجه المادية

ص: 1

والمعنوية. . . إنه السلاح الذي تشهره إنجلترا في وجه الشيوعية فتنهي المعركة بلا جلبة ولا ضوضاء، في ثقة المطمئن إلى إحراز النصر وجدوى العاقبة وسلامة المصير. وهذا هو العلاج الذي نود أن يتنبه إليه المسئولون في مصر. . وحسبهم أن إنجلترا هي المثل!

العدالة الاجتماعية هي الكفيلة برد العدوان. . وإذا قال لنا قائل إن نظام الطبقات في مصر لا يفسح الطريق لهذه العدالة فهو مسرف في الوهم؛ لأن نظام الطبقات في إنجلترا لا يزال قائما على قدميه، تمثله هذه الفئة من الأرستقراطيين والنبلاء، وهي فئة متميزة كل التميز ظاهرة في المجتمع الإنجليزي كل الظهور، تشير إليها على الأقل مدرسة هارو وكلية إيتون، وهما المعهدان العلميان اللذان لا يطرق أبوابهما غير أبناء الممتازين من الطبقة الاجتماعية، ونعني بها طبقة الأمراء واللوردات!

نظام طبقات في إنجلترا واضح كل الوضوح، وحرية رأي مكفولة كل الكفالة، وحزب شيوعي وآخر فاشستي، ومع ذلك فالشيوعية هناك بائرة لا تجد أذنا تسمع، والفاشستية حائرة لا تجد يداً تصفق. . لماذا؟ لأن العدالة الاجتماعية هناك قد هيأت العلم للجاهل، والعمل للعاطل، والدواء للمريض، والحياة الكريمة التي توفر الاستقرار للموظف والعامل والفلاح. . وإذا اجتمعت كل هذه القيم المثالية لمجتمع من المجتمعات، فلا حاجة به إلى الخوف الذي يدفع إلى سن القوانين وإصدار التشريعات!

إنجلترا هي المثل. . وليست إيطاليا التي أقلق نظامها تولياتي، أو فرنسا التي هز كيانها توريز!!

أ. م

ص: 2

‌صورة من الحياة:

قلب أب!

للأستاذ كامل محمود حبيب

- 3 -

. . . وأراد خالك أن يقذف بغيظه المضطرم في وجه أبيك فما استطاع، لأنه تربه في الدار والغيط، وزميله في اللهو والعبث، وصاحبه في زمن الشباب والفتوه، ورفيقه في أيام الشدة والرخاء؛ ولأنه رأى فيه صمتاً استشف من ورائه الضيق والندم، وأحس من خلاله ثورة مكفوفة تجيش أحياناً ثم تتوارى في حزن وكمد، ولمس فيه أوبة حائرة مضطربة لا تكاد تبين عن رأي، ولأنه ألفى الدار تموج بأشتات من الناس تعلت نياتهم وسقمت ضمائرهم، فيهم اللؤم والشماتة، يتربصون بالرجل - أبيك - الدوائر لينالوا من كرامته ويتندروا برجولته. فجلس بازاء أبيك صامتاً وإن الثورة الجامحة لتوشك أن تجتاحه، وإن الحزن المرير ليكاد يعصف به، وإن الأسى العارم ليصعره عصرا. . .

واعتركت في نفس خالك عوامل الغضب والرحمة: الغضب مما كان من أبيك، والرحمة به لأن ألسنة وضيعة لاكت رجولته التي لم تخدش يوماً، ثم تراءت له خالتك وهي تصرخ صراخاً فيه فزع والرعب، صراخاً يتحدث عن أسى الأم فقدت بنيها الثلاثة دفعة واحدة. . . تراءت له وهي تفزعه بالنواح وتستحثه بالأسى، فهب من مكانه ثائرا يريد أن يقذف بغيظه المضطرم في وجه أبيك، ولكن. . .

ولكنه هب فجأة ليرى أمامه ناظر العزبة، لقد دخل الرجل على حين فجأة من الناس، وعلى وجهه سمات الشجن، وفي مشيته علامة الاضطراب، وراح يتحدث بكلمات حزينة متقطعة لا تكاد تفصح عن معنى. وقص الرجل على الملأ قصة الصبية الثلاثة الذين طاروا من دار أبيهم يقطعون الطريق الوعر الطويل يضنيهم الجهد وترهقهم الهاجرة ويقتلهم الضنا

وماتت الكلمات على الشفاه، ثم ما لبث الجمع أن انفض في صمت، وخلا المكان إلا من رجلين - أبيك وخالك - يتحدثان حديث الأخوة والصداقة، فرضى خالك

ثم صفرت الدار إلا من رجل واحد يلفه الظلام والسكون، رجل ينبض قلبه بالحنان وتخفق

ص: 3

روحه بالرحمة وتضطرب نفسه بالندم، ثم شملته اللوعة الفوارة فطفرت من عينيه عبرات تشهد بأن قلب الأب لا ينطوي - أبداً - إلا على الرقة والمحبة، ولا ينضم إلا على العطف والشفقة. وأرقته الحادثة فما هدأ إلى مضجعه حتى مطلع الفجر

وهبت نسمات الفجر الندية توقظ أباك من غمرة الفكر وتزعجه عن نوازعه الأرضية، فانطلق صوب المسجد ليلف أتراجه في سبحات النور الإلهي التي تغمر القلب حين ينزع عنه ترابية الأرض ليعيش حيناً في دفقات النور السماوي. وبين يدي المحراب خلص أبوك من ضنا نفسه وخلع ثوب الأسى عن نفسه، غير أن عبرات حرى مازالت تترقون في محجريه

وخرج أبوك من المسجد وقد أفعم قلبه بالبغضاء والكراهية للفتاة التي أوحت إليه أن يرفع الطعام الشهي من بين يدي الصبية الصغار أحوج ما يكونون إليه، ليعيشوا حيناً في العناء والجهد والجوع.

الآن خسرت الزوجة الحمقاء - في لمحة واحدة - السعادة التي كانت تطمع أن تستخلصها لنفسها يوم أن تفزعك عن الدار التي ضمتك في حنان ونشأتك في عطف. . . خسرت السعادة لأنها فقدت قلب الزوج وعطف الرجل وهدوء النفس، فقضت عمرها في ضيق ونكد لأن نزوات شيطانية سيطرت عليها فدفعتها فارتكبت حماقة هوجاء افتضح أمرها فأقضت مضجعها وهدمت حياتها وحطمت أملها.

يا لعدل السماء! إن الحفرة التي حفرتها الفتاة لتقذف فيها بثلاثة من الصبية الأبرياء قد فتحت فوهتها في شره وغلظة لتبتلعها هي ولتبث فيها زهرة العمر تذوق وبال الوحدة والانكسار والألم جميعاً.

وفي بكرة الصباح هم أعمامك - وهم كثر - صوب العزبة يريدون أن يختلوا الصبية عن العقل، ويخدعوهم عن المنطق، ويسيطروا عليهم بكلمات براقة جوفاء. ودخلوا عليك وأنت تتناول طعام الصباح - بين أخويك - في لذة وشهية، في جو من المرح والمحبة، وقد طمت النشوة على أتراح الأمس. . . دخلوا فابتسموا وابتسمت. وأذهل الرجال أن يسمعوا في صوت هذا الصبي رنات الجد والحزم، وأن يجدوا في حركاته معاني الرجولة الآمرة المسيطرة. وأخذ عمك يزوق كلاماً فيه الرقة والطلاوة يريد أن يختلك عن العقل، ويخدعك

ص: 4

عن المنطق، ويسيطر عليك بكلمات براقة جوفاء، فقلت له (ألست الآن رب هذه الدار وصاحب هذا الغيط وسيد هذا القوم؟).

قال عمك الأكبر (بلى، يا بني، ومن قبل!)

قلت (أليست دار أبي تشرق بالخير المتدفق من غلات هذه الأطيان؟)

قال (بلى، يا بني!)

قلت (والنعمة التي ترفل فبها زوج أبي، والرخاء الذي ينعم به أبي، أليسا من فضل هذا الحقل؟)

قال (بلى وربي!)

قلت (والطعام الذي رفع من بين يدي في قسوة وجفاء، أليس من جني هذه الأرض؟ لقد رفعت يدي - مرغماً - عن طعام تشتهيه نفسي في غير ذنب جنيته، على حين أنه من بعض مالي أنا لقد حرمت الطعام والطف معاً ففزعت إلى هنا لأجد المال والطعام والحرية جميعاً. فلا علي إن أنا فعلت!).

قال عمك الأكبر (ولكنك ابن أبيك، يا بني وهو أبوك!)

فقلت أنت (ولكنه أراد أم يقتلنا جميعاً دفعة واحدة على حين لم نقترف جريرة، ولم نحمل له في قلوبنا غير المحبة والاحترام)

فقال في رقة وهو يحاول أن يحبس عبرة تراود نفسها أن تطفر من بين محجريه (لقد جئنا لنعتذر عن عطلة أبيك حين ندم على ما كان منه. ولشد ما يؤلمه أن تظلوا هنا في منأى عنه وأنتم نور عينيه وسعادة قلبه ولذته العظمى في الحياة وأمله الرفاف حين يهي الجلد ويهن العزم ويذوي العود وتسري الشيخوخة الباردة في دمه. فهل كنت تطمع أن يطير هو إليكم ليعتذر؟)

وسمعت - يا صاحبي - كلمات عمك وهي تفيض حناناً ورحمة فتهاوت قوتك وانهارت عزيمتك، وأطرقت تكرر كلمات عمك في همس والعبرات تنهر من عينيك سلا ينبئ بأنك مازلت صبياً لم يدنسك الدغل ولا شوهك الغيظ ولا لوثتك المادة، ثم نظرت إلى الجمع من خلال عبراتك الطاهرة وقلت (لا ريب، فهو أبي. . . ولا أعصي له أمراً، فمر بما يريد)

وانطوت ساعة فإذا أنتم بين يدي أبيكم يضمكم في شوق، ويقبلكم في شغف، ويحدثكم

ص: 5

حديث قلبه وقد اختلطت عبرة بعبرة وخفق قلب لقلب وتعانقت زفرة وزفرة، ثم اندفع الركب يسير.

وعشتم - يا صاحبي - في الدار أحزابا ثلاثة: الأب، وهو رجل دين وإيمان، في قلبه العطف وفي روحه الحنان؛ تتأرث الذكرى في جوانحه - منذ يوم الحادثة السوداء - قوية عنيفة، تذكره بالزوجة الأولى - أمك - التي ذاق إلى جانبها لذة العيش ومتعة الثراء وحلاوة الإخلاص؛ والتي يرى صورتها مرسومة - دائماً - على وجوهكم فيرى الزلة التي ارتكب على حين غفلة منه تتشبث به وتخز ضمير، فلا يجد شفاء نفسه إلا في أن يضمكم إلى صدره ضمات شوق وحنان، وإلا في أن يغمركم بالعطف والشفقة، وإلا في أن يبذل لكم من ماله ومن سلطانه، وإلا أن يعقد العزم على شأن يخصكم به ليكون كفارة ما كان. وانطوت السنون وهو لا ينسى. . . والزوجة، وهي فتاة حمقاء أعجزها أن تستميل قلب أبيك بعد أن انكشف خبثها وبدت شيطانيتها، فانكسرت شوكتها وعاشت بينكم غريبة تعاني مرارة الذلة وقسوة الخضوع، لا تحس الراحة ولا الهدوء ولا اللذة. . . أما أنتم فقد ربطتكم الشدة بروابط الصداقة وجمعتكم القسوة بأواصر المحبة، وأنتم ما تزالون في أول الطريق. . .

لقد عقد أبوك العزم على شأن يخصكم به ليكون كفارة الزلة التي ارتكب على حين غفلة منه، فماذا كان منه، يا صاحبي؟ وماذا كان؟

كامل محمود حبيب

ص: 6

‌فلسفة الإصلاح

للأستاذ محمد محمود زيتون

ليس من العجيب أن تكون الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي قديمة قدم الإنسان، فقد كان العالم من قبل غير منسجم مع النزعات البشرية، لأن شيئا جديد طرأ على العالم وهو (العقل) الذي لم يكن شيئاً مذكورا.

أخذ الإنسان بهذا السلاح. وحاول استخدامه، وهو في موقف المقاومه، إزاء جميع القوى المحتشدة عليه، والتي ليس له طاقة بها. حينذاك شعر بأنه أقل من خصمه الحيوان: فالحيوان مسلح بظفره ونابه وقرنه، أما هو فليس له من ذلك شيء، وإذن فهو مضطر إلى تقليده ليدفع عن نفسه كل العوادي بحجر يرمي به أو غصن يتخذه رفيقا له أو ما شابه ذلك مما يقع تحت سمعه وبصره.

وهكذا كان الإنسان في بدء حياته (حيواناً صناعياً) لأنه ألغى سلاح العقل واعتمد سلاح الوحشية، ولا سبيل إلى إنقاذ الإنسان من هذه الوهدة التي تردى فيها والتي كادت تحشره في زمرة الوحوش إلا بالرسالات السماوية تعلو به إلى ما يجب أن يكون عليه من تسام بالروح، وعلو بالعقل، وترفع عن الحيوانية التي أساس العملة فيها الظفر والناب والقرن.

والحكمة من هذه الرسالات السماوية النهوض بالسلاح الإنساني إلى النواحي الإيجابية في الحياة، وتهذيب كل اللغات اليدوية فالروحية والمعاشية، على أحسن وجه وأقوم سبيل.

ولم تكن الرسالات في الحقيقة بدعا من الأمر، وإنما هي من صميم الحاجة الإنسانية وليست منها ببعيد، فإذا ضلت الإنسانية سبيلها، فما عليها إلا أن تعود إلى تعاليم الرسالات، فإذا اهتدت فليس معنى ذلك أنها جاءت بجديد، وإنما هي عادت إلى حيث يجب أن تعود.

وتاريخ الفكر البشري شاهد عدل على ذلك: ففلاسفة اليونان - والقدامى منهم بصفة خاصة - ظلوا ردحاً من الزمن حيارى إزاء ما هم فيه من فوضى في كل مرافق الحياة السياسية والاجتماعية والفردية والروحية. وهم عندما أرادوا لهذه الأحوال إصلاحا بدءوا بإصلاح العقل لأنه السلاح الذي إذا شحذ جيدا كلن أقطع وأمنع مما سواه، بل هو وحده الموصل الجيد للغرض المنشود، وأقرب المسالك إليه.

شاعت السفسطائية قبل سقراط؛ فسادت الفوضى، في الفكر والخلق والدين والسياسة، وإذا

ص: 7

بسقراط يرمي أول سهم في هذا الميدان ويعلق تلك الحكمة الخالدة (أعرف نفسك) التي كان قد قرأها على باب معبد (دلف) وعندما سئل عن مبلغ علمه قال (كل ما أعرف هو أني لا أعرف)

وهذا من غير شك بدء طبيعي؛ لأن العارف لا يعرف وإنما سقراط (نبي غير رسمي) أراد أن يبشر برسالة الفكر فحطم كبرياء السفسطائيين وغرورهم وتعاليهم، فهو يعلن أنه لا يعلم شيئا لأنه عالم أما هم فيدعون علم كل شيء لأنهم جهال.

وبلاد اليونان جبال بينها شعاب تقوم فيها مدن منفصل بعضها عن بعض ومنذ ابتليت بالغزو الفارسي ذاعت فيها الفوضى من كل لون. فلما تعمق أثر هذا الجرح السياسي في خواطر المفكرين الأحرار، وضح سبيل الخلاص، وإذا بسقراط (المعلم) الأول يتحدث ويعلم ويمشي في الأسواق ويرتاد النوادي لينشر دعوته مؤمنا بسلاحه القوي وهو العقل فيتفلسف. وأول ما يتفلسف يقيم هيكلا فكرياً للعقل يسميه الفلاسفة (نظرية المعرفة) ويسير على نهجه من بعده أفلاطون وأرسطو، ويكمل اللاحق، منهم ما لم يتح للسابق.

ومن أجل هذا ترى دائما (نظرية السياسة) آخر حلقة من حلقات الفلسفة اليونانية، وقد سبقتها سلسلة طويلة عريضة من تمهيدات فكرية في الطبيعة والنفس والأخلاق).

والسياسة عند اليونان هي غاية الإصلاح، أما العقل فهو نقطة البدء والغاية هي التي تحفز على الحركة، وتبعث على العمل.

وكان أفلاطون أكثر تحمساً للإصلاح، وأغزر إنتاجا في مجاله، فقد رسم في (الجمهورية) رسما تخطيطياً بارعا للمجتمع اليوناني، وذلك بعد عرض لنظرية (المثل) التي محور ارتكازها العقل، والتي توحي بأسبقية الميزان على الموزون، وضرورة (القيمة) في (الحكم).

وليس أدل على نمو هذا الاتجاه، وصدق النية فيه، من إصلاح الفكر الذي نادى به أرسطو إذ وضع (آلة) لعصمة الفكر من الوقوع في الخطأ، وحرص على أن يكون (المنطق) وهو علم هذه الآلة مدخلا لكل علم، وأساسا لكل تفكير.

وما إن انحدرت البشرية إلى هاويتها السحيقة حتى انتشلتها الرسالات تباعاً، ونهضت بها إلى درجات السمو، فلما غفلت عنها أوربا المتخبطة في دياجير الظلم والظلام، عنت نفس

ص: 8

الحاجة التي صادفت سقراط إذ خلقت منه ظروف بلاده مصلحا اجتماعيا.

وكذلك العالم الإسلامي في العصر الوسيط، إذ أراد الفارابي أن يقيم دعائم (المدينة الفاضلة) فاتجه إلى حقيقة النبي، والسر في صلاحيته للرسالة، ودرس نفاوت البشر في درجة الخيال وملكة الإلهام، فإذا أراد أفلاطون أن يكون الفلاسفة ملوكا والملوك فلاسفة، فقد أراد الفارابي أن يكون الفلاسفة المصلحون ورثة الأنبياء.

وأحاطت بفرنسا في القرن السادس عشر ظروف سياسية عنيفة كان العقل فيها وقفا على أهل الكنيسة والعلم احتكار الهيئة كبار العلماء. فقام (ديكارت) ليدلي بدلوه في الإصلاح بمناورة فلسفية يتخطى بها كل الحواجز والموانع التي تحول دون غرضه فأحصى في كتاب خاص (قواعد لهداية العقل) لأن شيطاناً ماكراً - على حد تعبيره - يعبث بأفكاره ويضلله ولم يلبث أن وضع كتابه الآخر عن (المنهج للبحث عن الحقيقة في العلوم) وقال فيه أول ما قال (العقل أعدل الأشياء توزعا بين الناس) فكانت هذه الجملة بمثابة القنبلة التي ألقاها (ديكارت) على الأرستقراطية المزعومة فحطم أوكار الاحتكار العلمي، وأخرج العلم من زوايا الأديار والصوامع، إلى ضوء النهار الساطع، ونجحت الثورة الديكارتية.

وجاء (فرنسيس بيكون) فحطم (أصنام العقل) التي لخصها فيما يلي: -

1 -

أصنام القبيلة: كناية عما يرثه الإنسان من جنسه البشري كتصديق العرافين والمنجمين الذين إذا صدق أحدهم مرة ظن الإنسان أن النجمين صادقون، وكذب المنجمون ولو صدقوا.

2 -

أصنام المسرح: كناية عن تأثر الشخص بالمشهورين قبله مثله كمثل المتفرج الذي يقلد الممثل إذا أجاد دوره.

3 -

أصنام السوق: كناية عن العملة التي نتعامل بها في المجتمع وهي اللغة التي تستعبدنا ألفاظها ومعانيها.

4 -

أصنام الكهف: كناية عما لكل فرد من مستودع سحيق، في قرارة نفسه تنحدر إليه مؤثرات من الخارج سواء من الوراثة أو البيئة أو ما سواهما.

ولكي نقيم أساس الإصلاح لابد من تحطيم هذه الأصنام التي تستعبد العقل وتستبد به، وتحول بينه وبين التبصر والتدبر مما لا يصلح معه نظام. وبناء المجتمع لا ينهض قوياً

ص: 9

متيناً إلا إذا أتينا عليها من القواعد.

هذا عرض سريع لفلسفة الإصلاح منذ أقدم العصور وهو تاريخ جدير بالنظر والاعتبار.

فإذا نحن أردنا لهذا المجتمع الحالي إصلاحا، وقفنا منه على أشياء منها: أن المجتمع الآن نهب لأشتات النوازع الوحشية، والشهوات البهيمية، حتى نأى الفرد والمجموع معاً عن ينبوع الرسالة السماوية: فلم يعد للضمير وخز، ولم يعد للقلب ينبض بالخير والمعروف، وجمد العقل وعكف على أصنامه، ورانت غشاوة المادة على النفس الإنسانية، وتجمدت الأكباد، ارتكاناً على مخترعات (الحيوان الصناعي) الذي أعاد التاريخ ذكراه، وأصبح كل همه الآن: الهجوم أو المقاومة، ولا شيء غير ذلك. فالسياسة الآن كلها مكر الذئاب، وروغان الثعالب، ونباح الكلاب، وجبن النعاج، وتسلل الفيران.

والدين كذلك هو التراخي والتواكل والذل والهوان والاستكانة والعبودية، والعملة المتداولة كلها زيف وزور وبهتان ولا رأس ما لها من يدن أو قانون، ولا رصيد لها يحميها ويغطي الخسارة، أما المكسب فهو النهب والسلب والغصب والغبن والفحش.

والتربية هي الأخرى تخلصت من (العروة الوثقى) وتحللت من جميع القيود، فلا كبير ولا صغير، ولا وازع ولا رادع، ولا حرية للانطلاق، ولا حدود للحجر.

وهكذا في جميع مرافق المجتمع، والفوضى ضاربة إطنابها والغيورون في حيرة عجيبة؛ أيبدءون بإصلاح السياسة أم الاقتصاد أم التربية، أم يبدءون بإصلاح الفرد أم المجتمع؟ وهل يصلحون الدنيا ليصلح الدين، أم هل يصلحون الدين لتصلح الدنيا؟ وظل هذا التخبط وسيظل حتى يعود الأمر إلى نصابه.

والحق أنه ما دامت الأصنام قائمة في المعبد والمنزل والمدرسة والسوق فلن يصلح الفرد ولا المجتمع. وسبيل الخلاص معروف، ولا مناص من السير فيه لأنه طبيعي، وسهل ميسور: وهو أن نهدف إلى غاية واضحة نبيلة، وتتجه جميع الأنظار إليها وتستوعبها وتؤمن بها. والمنطق السليم يقول بأن هذه الغاية هي (الله سبحانه وتعالي، وهو الأول والآخر، وهو الذي خلق العقل أول ما خلق. والآن وبعد أن انحدرت الإنسانية إلى هذه الهاوية المادية وبعد إغفالها صوت العقل لا سبيل إلى انتظام الحال إلا بإصلاح العقل وتخليصه من أوهامه وإنقاذه من أصنامه، وهذا هو البدء الصحيح وصدق الشاعر:

ص: 10

إذا أفسدت أول كل أمر

أبت أعجازه إلا التواء

وهذا هو أقرب السبل إلى الغاية المنشودة فالعقل لا يدرك الأمور أحسن الإدراك، ولا يقدرها التقدير الصحيح، ولا يدفع الفهم إلى العمل النافع المأمون، إلا إذا كان هو نفسه سليماً، وكاملاً متكاملاً، أي حراً طليقاً في تأثره وتأثيره. كما أن العقل هو الذي يهدينا إلى الهدف، ويتحد له المناهج، ويتوخى الظروف.

فلنعد إلى العقل نستصلحه أولا لنطمئن تماماً على إصلاحه حتى إذا تم ذلك يعد أمام المصلحين إلا مجرى ممهد تماماً لتيار الإصلاح السليم (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له نور).

محمد محمود زيتون

ص: 11

‌الاجتهاد في التشريع الإسلامي

لصاحب العزة محمد سعيد أحمد بك

- 2 -

قدمنا أن الأئمة الأربعة المعترف بهم من المسلمين السنيين قد أجمعوا على خطر الاجتهاد في التشريع الإسلامي، وعلى ذلك كان الاجتهاد والإجماع وهو اجتهاد الجماعة أصلين آخرين للإسلام بعد القرآن والسنة.

وتعرف الأدلة المستندة إلى القرآن والسنة بالأدلة القطعية، والأدلة المستندة إلى الاجتهاد بالأدلة الاجتهادية. وللاجتهاد محيط واسع جداً في التشريع الإسلامي إذ أنه الوسيلة الوحيدة لإيجاد الحلول لكل المسائل التي ينص عليها صراحة في القرآن أو السنة. وقد أستخرج المجتهدون الأحكام بوسائل سميت بالقياس والاستحسان والاستصلاح والاستدلال. وفيما يلي بيان مختصر عن كل وسيلة من هذه الوسائل نبين كيف تستخرج الأحكام بواسطتها.

القياس

وأهم هذه الوسائل القياس، مصدر قاس بمعنى قدر، ويستعمل مجازاً في التسوية. ويعرفه الأصوليون بأنه نظر يوصل إلى إثبات حكم الأصل في الفرع لمشاركته في علة حكمه. فقد تعرض على القاضي قضية ليس في القرآن أو السنة نص صريح للحكم فيها فيمكن إيجاده بالقياس على النصوص الصريحة. فالقياس تطبيق للحكم الوارد في الكتاب أو السنة على المسألة القائمة. والأحكام المستنبطة بالقياس ليست في قوة القرآن أو السنة. ولم يقل أحد من المجتهدين بأنه معصوم من الخطأ في وضع هذه الأحكام، ولذلك تجد الاختلاف كبيراً بين القضاة في أحكامهم، كما أن الأحكام القائمة على القياس قد يعمل بها في عصر ثم يبطل في عصر آخر.

الاستحسان والاستصلاح

الاستحسان معناه لغة عد الشيء حسناً؛ ويعرفه الأصوليون بأنه ما قابل القياس الجلي سواء أكان نصاًأم إجماعا أم قياساً خفياً. غير أنه غلب وشاع استعماله في القياس الخفي وهو الذي خفيت عليته

ص: 12

وقد وضع الإمام أبو حنيفة قاعدة تنبئ أنه إذا لم يقبل حكم من الأحكام القائمة على القياس لكونه مخالفا للقواعد العامة للعدالة أو غير صالح للجماعة لعدم ملاءمته لهم يمكن للقاضي أن لا يأخذ بهذا الحكم ويستنبط حكماً آخراً أكثر مطابقة للعدالة وملاءمته لحاجات الناس. ولقد لقيت هذه القاعدة معارضة كبيرة من المذاهب الأخرى ولم يعمل بها إلا القليل من أتباع المذهب الحنفي. ولاشك أن هذا المبدأ سليم في ذاته ومطابق لروح القرآن. وزيادة في القول نقول إن التعرض للخطأ في تطبيقه قليل بالنسبة للقياس الذي يؤدي في بعض الأحوال إلى نتائج قد تتعارض مع الروح الواسعة التي تقضى بها أحكام القرآن. وللإمام مالك مبدأ مشابه لهذا وسماه الاستصلاح.

الاستدلال

أهم مصادر الاستدلال المعترف بها هي العرف والعادة وأحكام الشرائع المنزلة قبل الإسلام ومعلوم أن العرف والعادات التي كانت شائعة في الجزيرة العربية قبل الإسلام قد يؤخذ بها إذا لم يحرمها الإسلام. وعلى ذلك فكل العادات وما جرى عليه العرف في أي بلد يصح الأخذ به ما دام غير متعارض مع التعاليم الإسلامية ولم يحرمه القرآن أو السنة، إذ أن الإباحة هي الأصل ما لم يحرمها الدين. فإذا جرى العرف على أمر من الأمور كان هذا بمثابة إجماع الناس على قبوله وبذلك يكون له قوة تستبق قوة القواعد المستنبطة بالقياس.

وليس له من ضابط سوى ترك مخالفته لنص صريح في القرآن أو السنة. والمذهب الحنفي يعلق عليه أهمية كبرى كأصل من أصل التشريع الإسلامي. وقد ورد عن ذلك في كتاب الأشباه والنظائر قال: لقد أصبح العرف والعادة مصدرين لكثير من الأحكام حتى أصبح معترفاً بأنهما أصل من أصول التشريع الإسلامي. وأما ما يختص بأحكام الشرائع المنزلة قبل الإسلام فقد اختلف الفقهاء فيها؛ فبينما يرى بعضهم أن هذه الأحكام يجب التقيد بها ما لم يبطلها القرآن صراحة يرى البعض الآخر خلاف ذلك. ويرى أبو حنيفة أن هذه الأحكام مقيدة لنا إذا قررتها شريعتنا ولم ينص على بطلانها.

الإجماع

يطلق لفظ الإجماع على العزم والاتفاق؛ وذلك لأن في العزم جمع الخواطر، وفي الاتفاق

ص: 13

جمع الآراء. وعند الأصوليين هو اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حكم شرعي. والإجماع إما أن يكون قولا بأن يتكلم جميع مجتهدي العصر كلاما يدل على اتفاقهم في الحكم، أو فعلا بأن يشرعوا جميعا في فعل ويمضون فيه، أو سكوتا بأن يفتي بعضهم أو يقضى في مسألة بحكم ويسكت الباقون عن الإنكار والرد عليه بعد علمهم بالحكم. ويشترط في الإجماع اتفاق جميع المجتهدين في أحكام الدين على الحكم فلا عبرة يقول العوام ولا يقول علماء فن يقضون بحكم في غير فنهم. ويرى بضعهم أن الإجماع ينعقد باتفاق المسلمين فيما عدا الصبية والمعتوهين على حكم من الأحكام. وهناك اختلاف في الرأي فيما إذا كان الإجماع مقتصراً على بقعة من البقاع أو عصر من العصور. ويرى الإمام مالك أن إجماع أهل المدينة وحدهم حجة مع وجود غيرهم من المجتهدين. ويردون على ذلك بأن اشتمال المدينة على صفات موجبة لفضلها لا يدل على انتقاء الفضل عن غيرها. كما أنه لا يمكن القول بانحصار العلم والمجتهدين في أهل المدينة، فإنهم كانوا في عصر الرسول منتشرين في البلاد متفرقين في الأمصار وكلهم في النظر والاعتبار سواء. والواقع أن الإجماع مبنى على الاجتهاد والنظر والبحث والاستدلال على الحكم وذلك مما لا يختلف بالقرب والبعد ولا باختلاف البقاع. ويستبعد السنيون طائفة الشيعة من جماعة المجتهدين كما أن الشيعيين يقصرون الاجتهاد على أبناء الإمام علي. ويرى بعض السنيين أن الاجتهاد يقتصر على صحابة الرسول. ويرى آخرون أن يدخل التابعون في زمرة المجتهدين. والرأي الغالب هو أن الإجماع لا يقتصر على عصر من العصور أو قطر من الأقطار وإنما يكون بإجماع مجتهدي العصر الواحد في كل الأقطار.

واختلف الرأي كذلك فيما إذا كان الإجماع يتطلب موافقة جميع المجتهدين أو كثرتهم. ويرى معظم الفقهاء أن الإجماع يتطلب موافقة جميع مجتهدي العصر الواحد. على أنهم يرون أنه إذا كان المخالف نادراً فيكون الإجماع حجة، إلا أنه لا يكون قاطعاً. ويكون الإجماع العصر الواحد. ويشترط بعضهم انفراد عصر المجمعين لاحتمال رجوع بعض المجتهدين في الفتوى أو الحكم إذ أنه من الضرورة توفر شرط عدم الرجوع وهذا لا يكون إلا بانقراض جميع مجتهدي العصر الواحد.

وإذا انعقد الإجماع على مسألة فلا يصح الرجوع فيه إلا إذا رأى بعض فقهاء العصر الذي

ص: 14

حدث فيه الإجماع رأيا يخالف الرأي المجمع عليه. والإجماع الذي ينعقد في عصر من العصور يصح الرجوع فيه بإجماع آخر في نفس العصر أو أي عصر لاحق له. ويستثنى من ذلك عصر الصحابة فلا يجوز الرجوع في إجماع حدث فيه بإجماع في عصره بعده يخالفه. ولقد تباين الرأي كذلك فيما إذا اختلف الصحابة في مسألة من المسائل فهل يصح الإجماع على رأي فريق منهم دون فريق. والمعترف به أن الصحابة ليسوا معصومين من الخطأ، وما دام الأمر كذلك فلا مانع من قبول إجماع يعارض رأي أحد الصحابة. وهناك مسألتين يجب عرضهما لتعرف قوة الإجماع في التشريع، فإنه يفهم مما تقدم أن الإجماع لا ينعقد إلا بجمع عدد كبير من المجتهدين على مسألة من المسائل؛ غير أن الفقهاء يرجحون أن يكون أقل عدد للإجماع ثلاثة لأنهم أقل الجماعة، فإذا لم يكن هناك مجتهدون غيرهم تحقق الإجماع باتفاقهم. وهناك رأي يقول بأنه إذا لم يوجد غير مجتهد واحد في عصر من العصور يتحقق الإجماع باجتهاده وحده.

ولننتقل الآن إلى السند الذي يقوم عليه الإجماع على قول الأئمة الأربعة. يقوم الإجماع على الكتاب أو السنة أو القياس ويقول المعتزلة بأنه لا يصح أن يكون الإجماع مبيناً على حديث الآحاد أو على القياس، وزادوا على ذلك أن سند الإجماع يجب أن يكون قاطعاً يعني أن حكمه لا رجعة فيه.

نرى ما تقدم أنه من الخطأ القول بأن الإجماع أصل مستقل من غيره من أصول الإسلام. فالإجماع حقيقة هو اجتهاد الذي وافق عليه جميع مجتهدي العصر الواحد أو غالبيتهم. ومن المتفق عليه أنه فيما عدا إجماع الصحابة يجوز الرجوع في إجماع مجتهدي العصر الواحد بإجماع غيره في عصر آخر. والواقع أنه كان من العسير إجماع المسلمين بعد عصر الصحابة حيث انتشر المسلمون في أقطار الأرض ولم يتيسر عملياً إشغالهم جميعاً في وقت واحد لبحث مسألة من المسائل وتقرير حكم فبها. كما أن الأمر لا يستلزم إشغال مجتهدي القطر الواحد كلهم في وقت واحد لبحث هذه المسألة. ونحن لا ننكر قوة إجماع كل المجتهدين أو غالبيتهم في مسألة من المسائل على اجتهاد مجتهد واحد. غير أن هذا لا يمنع أنهم غير معصومين ويمكن الرجوع في أحكامهم. والإجماع في الواقع لم يخرج عن كونه اجتهاداً بمعنى أعم شأنه شأن الاجتهاد في إمكان الرجوع في أحكامه في أي وقت من

ص: 15

الأوقات.

ويمكننا القول بأن معظم مراتب الإجماع ليست حجتها قاطعة ويجوز مخالفتها وعدم الأخذ بها خلافاً لما يظنه كثير من المسلمين. فالاختلاف الشريف في الرأي أمر لا يستوجب مؤاخذة صاحبه. وقد ورد عن الرسول أنه قال (خلاف أمتي رحمة للناس) وإن زعم بعض المحدثين أن هذا الحديث ضعيف إلا أنه ينطبق على الواقع، ففيه وصف بأن الاختلاف في الرأي رحمة إذ أن ذلك يشجع الناس على استعمال ملكة العقل للبحث وراء الحقيقة، وقد اختلف الصحابة أنفسهم في الرأي. وهناك من الحوادث ما جهر بها الشخص الواحد بكل جرأة في مخالفته لرأي الجماعة. فقد ورد عن أبي ذر قول خالف فيه رأي الصحابة جميعهم ومع ذلك لم يقل أحد بأنه قد ارتكب إثما لمخالفته رأيه للإجماع. وقد شجع الرسول المجتهدين في الرأي بأن لهم جزائهم عند ربهم حتى ولو أخطئوا فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد واخطأ فله أجر واحد.

الاجتهاد ثلاث مراتب

يقول الفقهاء المتأخرون بأن الاجتهاد على ثلاث مراتب ولو أن ذلك ليس له أصل في الكتاب والسنة أو كتب الأئمة الأربعة. وهي اجتهاد في الشرع، واجتهاد في المذهب. واجتهاد في المسائل. والاجتهاد في الشرع قاصر على القرون الثلاثة الأولى. وقد اختص بها الأئمة الأربعة الذين وضعوا القوانين الشرعية كلها وفق ما نقل عن الصحابة والتابعين. وطبيعي أنه لم يذكر صراحة أن باب الاجتهاد في هذه الناحية قد أقفل بعد القرن الثاني للهجرة إلا أنه قيل أن الشروط اللازمة لمثل هؤلاء المجتهدين لم تتوفر لأحد بعد الأئمة الأربعة. وقيل أيضاً أنها لن تتوفر لأحد بعدهم حتى يوم القيامة. وهي وجوب أن يكون المجتهد محيطاً بالكتاب متناً ومعنى وحكماً وأن يكون محيطاً بالسنة كذلك متنا وسنداً عالماً بحال الرواة، وأن يكون محيطاً بالقياس قادراً على استنباط علل الأحكام من النصوص الخاصة والعامة. وليس هناك من سبب يدعو إلى القول بأن هذه الشروط لم تتوفر إلا قي الأئمة الأربعة في القرن الثاني للهجرة.

وذكروا أن الاجتهاد في المذهب مختص بمحمد وأبي يوسف من اتباع أبي حنيفة. وزادوا

ص: 16

على ذلك بأنه يجب الأخذ برأيهم حتى ولو تعارض مع رأي الإمام أبي حنيفة.

والاجتهاد في المسائل قد اختص به الفقهاء المتأخرون الذين توصلوا إلى حل مسائل لم يسبق أن أثيرت من قبل بشرط أن يكون الحل مطابقاً تماماً لآراء خيار المجتهدين. وقد قيل أيضاً إن باب هذه المرتبة من الاجتهاد قد أقفل بعد القرن السادس الهجري. وقيل أنه لم يبق في عصرنا هذا غير المقلدين والنقليين هو قول بلا حجة وليس من طريق العلم لا قي الأصول ولا في الفروع. ويمكن للمقلدين أن يعطوا فتاوى مستمدة من أحكام المجتهدين المتقدمين إذا كانت هناك آراء متعددة واختاروا واحداً من هذه الآراء وأفتوا به بدون تعليق أو ترجيح.

نرى مما تقدم أن الاجتهاد الذي لم يقل أحد من الأئمة الأربعة واتباعهم بأنه حجة قاطعة قد أصبح مقيداً من الوجهة العلمية ولم يكن لأحد أن يكون أهلاً للاجتهاد في هذا الوقت. وسنتم إن شاء الله باب الاجتهاد في مقالنا اللاحق وهو يتضمن الكلام على أن باب الاجتهاد لم يوصد. وعن استقلال الفكر.

محمد سعيد أحمد

ص: 17

‌صوم رمضان بين العلم والأدب

للأستاذ ضياء الدخيلي

- 2 -

ويقال إن أبا تراب التخشيبي خرج من البصرة إلى مكة فوصل إليها على أكلتين أكلة بالنباح (في معجم البلدان ذو النباح هضبة من ديار فزاره كذا جاء كتاب الحازمي) وأكلة بذات عرق (قال في القاموس المحيط وذات عرق في البادية ميقات العراقيين. وفي مجمع البحرين وذات عرق أول تهامة وآخر العقيق وهو عن مكة نحواً من مرحلتين وهو الموضع الذي وقت لأهل العراق في الحج) وقال أبو سليمان الدراني: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع. قالوا وكان سهل بن عبد الله التستري إذا جاع قوى، وإذا أكل ضعف. وكان من الصوفية من يأكل كل أربعين يوماً أكلة واحدة. قالوا واشتهى أبو الخير السعقلاني السمك سنين كثيرة ثم تهيأ له أكله من وجه حلال، فلما مد يده ليأكل أصابت إصبعه شوكة من شوك السمك فقام وترك الأكل وقال يا رب هذا لمن مدي يده بشهوة إلى الحلال فكيف بمن يده بشهوة إلى الحرام؟ وفي الكتاب العزيز (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) فالجملة الأولى هي التقوى والثانية هي المجاهدة. وقال إبراهيم بن شيبان ما بت تحت سقف ولا في موضع عليه غلق أربعين سنة وكنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس فلم يتفق؛ ثم حملت إلى وأنا بالشام غضارة (هي كما في المنجدة القصعة الكبيرة (فارسية) فيها عدسية فتناولت منها وخرجت فرأيت قوارير معلقة فيها شبه أنموذجات فظننتها خلا، فقال بعض الناس أتنظر إلى هذه وتظنها خلا؟ وإنما هي خمر، وهذه أنموذجات هذه الدنان لدنان هناك، فقلت قد لزمني فرض الإنكار، فدخلت حانوت ذلك الخمار لأكسر الدنان والجرار فحملت إلى ابن طولون فأمر بضربي مائتي خشبه وطرحني في السجن فبقيت مدة حتى دخل أبو عبد الله الرباني المغربي أستاذي في ذلك البلد فعلم أني محبوس فشفع في فأخرجت إليه فلما وقع بصره على: قال أي شيء فعلت؟ فقلت شبعة عدس ومائتي خشبه فقال لقد نجوت مجاناً.

قال ابن أبي الحديد وأعلم أن تقليل المأكول لا ريب في أنه نافع للنفس والأخلاق، والتجربة قد دلت عليه، لأنا نرى المكثر من الأكل يغلبه النوم والكسل وبلادة الحواس، وأن

ص: 18

كثرة الأكل تزيل الرقة وتورث القسوة والسبعية. ولكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد يوجب جوعاً قليلا، فإن الجوع المفرط يورث ضعف الأعضاء الرئيسية واضطرابها واختلال قواها، وذلك يقتضي تشويش النفس واضطراب الفكر واختلال العقل ولذلك تعرض الأخلاط السوداوية لمن أفرط عليه الجوع، فإذن لابد من إصلاح أمر الغذاء بأن يكون قليل الكمية كثير الكيفية فتؤثر قلة كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه إلى الجهة العالية الروحانية، وتؤثره كثيرة كيفيته في تدارك الخلل الحاصل من قلة الكمية. ويحبب أن يكون الغذاء شديد الإملاء للأعضاء الرئيسية لأنها هي المهمة من أعضاء البدن، وما دامت باقية على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء.

وأعلم أن الرياضة والجوع هي أمر يحتاج إليه المزيد الذي هو يعد في طريق السلوك إلى الله، فإن كان انقطاع الغذاء يسيراً وإلى حد ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الأضرار وكان ذلك غاية الرياضة التي أشار إليها أمير المؤمنين علي (ع) بقوله (حتى دق جليلة ولطف غليظه) وإن أفرط وقع الحيف والأحجاف وعطب البدن ووقع صاحبه في الدق والذبول وذلك منهي عنه لأنه قتل النفس، فهو كمن يقتل نفسه بالسيف والسكين) هذا ما شرح به عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي لكلام الأمام (ع) وقد زانته الثقافة الإسلامية في ذلك العهد أي آخر حكم العباسيين وقد شهد الشارح سقوط بغداد بيد التتار وكانت العلوم التي نقلت إلى العربية في صدر الدولة العباسية قلما ينعت وازدهرت ثمارها في أواخرها وذلك في عهد ابن أبي الحديد ومعاصره نصير الدين الطوسي

ولقد وجدت من المتعارف في العراق في رمضان (وأظنه في باقي الأقطار الإسلامية أيضاً) أن يكثر الصائمون نهاراً الأكل ليلا فإذا وفد هذا الشهر على المدينة وفدت معه أفنين الأطعمة وأنواعها وتفننت المطابخ في تنويع الأكلات حتى انقلب شهر الصوم والجوع إلى فترة نهم وتخمة وقد سألت مرة أستاذي في (الكيمياء الحيوية) في كلية الطب العراقية (المستر هوكنز) عن رأيه في الصوم فاثني عليه من الوجهة الصحية والتهذيبية غير أنه انتقد المسلمين لإفراطهم في الأكل ليلا مما يتعب الجهاز الهضمي. ولا ريب أنه مصيب فإن للأمعاء قابلية محدودة في استيعاب الأغذية بحيث تتاح لعصاراتها الهضمية فرصة

ص: 19

التأثير على مكونات الغذاء من زلاليات ودهنيات ونشويات وغير ذلك وفي حالة الإفراط المتعارف ليلا عند الصائمين تتعب الأمعاء وتمتلئ للنهاية ولا تعود الغدد الهضمية قادرة على تزويد قطع الغذاء وأجزائه بما يحلله كيماوياً من الخمائر الهضمية وتتعب المعدة وتتوسع ولاشك أن ذلك يؤدي إلى أن ينتاب المرض ذلك البطن الجشع النهم ولله در الأمام علي (ع) إذ قال (كم من أكلة تمنع أكلات) لقد أخذ هذا المعنى بلفظه ابن الحريري فقال في المقامات (يا رب أكلة هاضت الآكل ومنعته مآكل) وأخذه ابن العلاف الشاعر فقال في سنوره يرثيه

أردت أن تأكل الفراخ ولا

يأكلك الدهر أكل مضطهد

يا من لذيذ الفراخ أوقعه

ويحك هلا قنعت بالقدد

كم أكله خامرت حشاشره

فأخرجت روحه من الجسد

والقدد جمع القدة وهي السير يقد من الجلد والقطعة من الشيء وتنطبق أبيات ابن العلاف هذه ليس على السنور فقط بل على (بعض الشيوخ) الذي يجدون في رمضان ميداناً فسيحاً للفتك بفراخ الدجاج في الولائم الرمضانية. . وفي المثل (أكلة أبي خارجة) قال إعرابي وهو يدعو الله بباب الكعبة اللهم ميتة كميتة (أبي خارجة) فسألوه فقال: ل بذجاً وهو الحمل وشرب وطبا من اللبن (والوطب هو سقاء اللبن) وتروى من النبيذ وهو كالحوض من جلود بنبذ فيه (نبذ النبيذ عمله) ونام في الشمس فمات فلقي الله شعبان ريان دفيئا. والعرب تعير بكثرة الأكل وتعيب بالجشع والشره والنهم وقد كان فيها قوم موصوفون بكثرة الأكل منهم معاوية بن أبي سفيان قال أبو الحسن المدائني في كتاب (الأكلة) كان معاوية يأكل في اليوم أربع أكلات أخراهن عظماهن ثم يتعشى بعدت بثريده عليها بصل كثير ودهن قد سبغها (أي غطاها) وكان أكله فاحشاً وكان يأكل حتى يستلقي وبقول يا غلام ارفع فوالله ما شبعت ولكن مللت. وإن هؤلاء المفرطين في الأكل خير علاج لهم الصوم الذي يلطف أجسامهم ويذيب الشحوم الزائدة ويريح جهازهم الهضمي ولا ريب أن هذه الطائفة من الناس وطأة رمضان ثقيلة على نفسها ثقيلة على بطنها.

نقل أبو هلال العسكري في (ديوان المعاني) وكان فرغ من تأليفه سنة 395 هـ قال حدث الصولي عن أبي عبيده قال أسلم إعرابي في أول الإسلام فأدركه شهر رمضان فجاع

ص: 20

وعطش فقال الأعرابي يذكر ذلك:

وجدنا دينكم سهلا علينا

شرائعه سوى شهر الصيام

وقال ابن قتيبة الدينوري في (عيون الأخبار) قدم إعرابي ابن عم له في الحضر فأدركه شهر رمضان فقيل له يا أبا عمرو لقد أتاك شهر رمضان قال وما شهر رمضان قالوا الإمساك عن الطعام قال أبالليل أم بالنهار قالوا لا بل بالنهار قال أفيرضون بدلا من الشهر قالوا لا قال فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا تضرب وتحبس فصام أياماً فلم يصبر فارتحل عنهم وجعل يقول:

يقول بنو عمي وقد زرت مصرهم

تهيأ أبا عمرو لشهر صيام

فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي

سلام عليكم فاذهبوا بسلام

فبادرت أرضا ليس فيها مسيطر

على ولا مناع أكل طعام

وقول ابن قتيبة الدينوري في هذه الحكاية (إنه أن لم يصم ضرب وحبس) ينافي ما نقله الشيخ نعمان الألوسي في (غالية والمواعظ) في أنه ذكر في (البزازية) أن من أكل في شهر رمضان متعمداً يؤمر بقتله، لأن صنيعه الفاحش دليل الاستحلال وأن الصوم من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ولذلك يكفر جاحد. . . وقيل لأعرابي أدركك رمضان فقال لأقطعنه بالإفطار وأدرك أعرابياً شهر رمضان فلم يصم فعذلته امرأته في الصوم فزجرها وانشأ يقول أتأمرني بالصوم لأدر درها وفي القبر صوم بالميم طويل

ولا ريب أن لهؤلاء الأعراب أشباها ونظراء في المجتمع الإسلامي ممن ضعفت إرادته وافرط في حبه التهام شهي الأطعمة. وإن رمضان من انفع الأدوية لهؤلاء الضعاف النفوس وهم أحوج المسلمين إلى صرامة تأديبه حتى يقوم معوجهم غازياً ضعفهم النفسي بتهاويل عقوباته الأخروية في جهنم الطافحة بالويل والثبور الكثيرة الأفاعي الجبارة والعقارب المرعبة وفيها القيود الملتهبة والمقامع من النار، هذا مضافاً إلى غضب جبار السماوات كل هذه العقوبات المخيفة واقفة بالمرصاد لمن يفطر شهر رمضان متعمداً الفسق والفجور مضافاً ذلك إن عقوبة السلطة الدينية فيسوق الإسلام الخير لهذه النفوس الضعيفة ويلجمها عن الطعام فترة من الزمن فيصلح من أبدانها بالعنف والجبر ويلزمها الاقتصاد والتقليل من إسرافها في الأكل المتعب لجهازها الهضمي، فكأن رمضان علاج كريه الطعم، ودواء مر

ص: 21

المذاق، تساق إليه النفوس المريضة سوقاً؛ وكأن الإسلام قد خص شهر رمضان بالصوم لترويض النفس والتغلب على رغباتها الأمار بالسوء فهو بمثابة تدريب عسكري يشترك فيه القيام به أفواج المسلمين في فترة معينة من الزمن أو تمارين رياضية لتقوية النفي وتقويم الروح وتهذيب الأخلاق.

وللصوم فائدته الكبرى في علاج ضعف الإرادة في أولئك الذين لا يستطيعون أن يقاوموا أهوائهم وشهواتهم فهم مستسلمون لها راضخون لأحكامها تجد الفرد من أولئك يدفعه استرساله في سيره حلف شهواته السادرة في بيداء الضلال - فركب أسوأ الكبائر فاندفع إلى شرب الخمر وانجر إلى المقامرة بعد أن زلت بقدمه المغريات لأول وهلة فأصبح كالذي غاصت قدماه في حمأة من القار فكبلته وعاقته عن السير ولم يستطع أن يتخلص من شرها. وكثيراً ما كان على علم بسوء مغبة ما هو فيه ولكنه لا يستطيع أن يقاوم لضعف في إرادته ووهن في عزيمته؛ ولربما رأى الخير في شيء ورأى وجوب عمله، ولكن خانته إرادته فاستسلم وقد كبله الكسل وقعد به الضعف وسيطر عليه الخمول فحاول الإسلام وهو دين الإصلاح والعمران - أن يعالج ضعف الإرادة بالمرانة كما يتقوى الجسم بالرياضة البدنية والعقل بالبحث العميق الدقيق، فبإلزام النفس المسلمة بالصوم لذى يتطلب مشقة وجهداً تتقوى الإرادة وتتعود أن تتغلب على المصاعب والعقبات وتشعر النفس بالارتياح في مغالبة الصعاب وخضد شوكة الرغبات الجامحة والتغلب عليها كما يشعر ذو الجسم القوي بالارتياح عند قيامه بتمرين شاق من الألعاب الرياضية ونجاحه فيه. . . وكل مجهود يبذل في مقاومة هوى أو قمع شهوة ثم يؤول إلى التغلب عليها يكسب الإرادة قوة. ولا ريب أن الصوم من أجلى مظاهر هذا العراك مع النفس الأمارة بالسوء فإذا استطاع المرء أن يقودها إلى النهاية شعر بتغلبه على أهوائها وقدرته على الرضوخ والمثابرة على الأعمال الشاقة حتى نهايتها.

وهناك ناحية أخرى في الصوم يَراها طائفة من الفلاسفة والصوفية الذين يجدون لذة في إرهاق النفس وتعذيبها وحرمانها ويرون مع يوسف بن أسباط أنه (لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مغلق) فهم يريدون أن يخيفوا القلب بعذاب جهنم اللواحة بالشرر فيدرءوا مرضه بإجباره على الصوم ويقللوا من الشهوات العارمة التي فيها البلاء

ص: 22

والدمار. وهم يرون أن الاسترسال في اللذات والشهوات جريمة لا تغتفر؛ فعلى المرء أن يقمعها ويلجم النفس بالصوم عنها إن هؤلاء الصوفية يجدون الفضيلة في حرمان النفس مما تشتهيه وصدم رغباتها وأهوائها.

روى ابن أبي الحديد أن إبراهيم الخواص قال: كنت في جبل فرأيت رمانا فاشتهيته فدنوت منه فأخذت واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركت الرمان، فرأيت رجلا مطروحاً قد اجتمع عليه الزنابير فسلمت عليه فرد علي باسمي: فقلت كيف عرفتني؟: قال من عرف الله لم يخف عليه شيء: فقلت أرى لك حالاً مع الله فلو سألته أن يحميك ويقيك من أذى هذه الزنابير. فقال وأرى لك حالا مع الله فلو سألته أن يقيك ويحميك الرمان فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة؛ ولدغ الزنابير يجد الإنسان ألمه في الدنيا: فتركته ومضيت على وجهي) ونحن نرى أن الفكرة التي تحكيها هذه القصة بعيدة عن روح الإسلام وهي أشبه بعبادة البراهمة من الهنود وتعذيبهم نفوسهم منها بروح التعاليم الإسلامية. ولا ريب أن الإسلام تأثر كثيراً بعبادات الأمم التي دخلته - وعلى كل حال فإن الناس تجاه لذات الحياة أصناف، فنمهم من دعا إلى الزهد، وقمع الشهوات: قال الماوردي في (أدب الدنيا والدين)(إن شهوات النفس غير متناهية، فإذا أعطاها المراد من شهوات وقتها تعدتها إلى شهوات استحدثتها فيصير الإنسان أسير شهوات لا تنقضي وعبد هوى لا ينتهي ومن كان بهذا الحال لا يرجى له صلاح) وأن طائفة من المتقشفين كما يقص علينا الدكتور أحمد أمين في (الأخلاق) نرى أن أرقى أنواع الحياة الأخلاقية ما حوربت فيها الشهوات، وهؤلاء لا يتزوجون مثلا ولا يأكلون اللحم ويعتزلون الناس جهدهم ولا يمكنون النفس من مأكل أنيق أو مقعد وثير أو ملبس جميل.

وقد شنع (سنيكا) وهو من الفلاسفة أتباع الرواقيين وكان في صدر الدولة الرومانية (6ق م - 65ب م) لقد شنع هذا الفيلسوف على من يشرب الماء مثلجا في أيام الحر: وقال قد انتزع الترف من القلوب ما كان بها من موارد الشفقة وأسباب العطف حتى صارت أشد برداً وقسوة من الثلج والجليد، فكأن هذا الفيلسوف يوصي بتعود جشوبة العيش وكأن يرمق في حديثه كلمة النبي (ص) المأثورة (اخشوا شنوا فإن الترف يزيل النعم) ولكنه أفرط وشط عن الطريق السوي. أما كلمة النبي (ص) فقد جاءت جامعة مانعة فيها عظة وتحذير

ص: 23

وفيها تلويح إلى ما حدثنا به التاريخ من انقراض أمم هلكت لإغراقها في الترف كما وردت الآثار عن مصرع الإمبراطورية الرومانية واضمحلالها بداء الترب.

ومالك تذهب بعيداً حسبك أن ترجع إلى تاريخنا العربي فإن الأمة الإسلامية عندما حادت عن تعاليم الإسلام وانغمرت في الترف وفساد الحياة الحضرية ذهبت منها صفات الرجولة ومعالم البطولة وماعت أخلاق بنيها فقامت عليها الأمم التي عنت من قبل لسطوتها فاستعبدتها. لقد انغمر آباؤنا في نعيم البلاد التي افتتحوها ونسوا وصية النبي (ص) بلبس جلد النمر لحوادث الدهر وكوارث الزمن وانغمروا في الترف فحق عليهم ما حذرهم منه المنقذ الأعظم (ص) فانقرضوا وتمزقت دولهم وذهبت ريحهم وعادوا عبيداً بعد أن سادوا بالإسلام شرق الأرض وغربها. ولا ريب أن في الصوم مظهر من مظاهر الأخشيشان وفيه فتوة تطبع النفوس على غرار الرجولة والبطولة وتشربها القوة والصبر والجلد. ولنعد إلى حديث مذهب أولئك الفلاسفة الذين أغرقوا في تعشق جشابة العيش وخشونة الحياة وقد قال أرسطو المعلم الأول: الفضيلة وسط بين رزيلتين: الإفراط والتفريط وفي الحديث الشريف خير الأمور أوسطها وفي الكتاب العزيز خطاباً للمسلمين (جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) قال بعض أعلام الإسلام - كما في مجمع البحرين للطريحي - كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان كالسخاء فإنه وسط بين البخل والتبذير. . . وبعد فقد أفرط البعض وبالغ جماعة من الزهاد فلم يكتف بعضهم بقمع الشهوات بل تعداها إلى تعذيب النفس وبالقيام بالشمس في أشد ساعات الحر والتمرنح على الرخام في الشتاء وغير ذلك من أساليب عنيفة نسمع بها كثيراً عن عبادات الهنود الشاذة المبنية على هذه الفلسفة الخاطئة الضالة ويعتقد بعض هؤلاء انهم بتعذيب النفس الصارم القاسي ترتفع نفوسهم وتعلو إلى درجات عالية في العرفان والقدسية وتتفتح لها أبواب الإطلاع والارتقاء عن مستوى البشر، إلى غير ذلك من الاعتقادات الفاسدة والمذاهب الباطلة. ويسمي هؤلاء أسلوبهم هذا في أدراك المعرفة بطريقة الإشراق ويسمون أنفسهم الإشرافيين كما ذكره لنا أستاذنا في الفلسفة الإسلامية في النجف الإشراف (البنجردي) عند دراستنا عليه شرح منظومة السبزواري في الفلسفة. ويرى الدكتور أحمد أمين في كتاب (الأخلاق) أن هذا مذهب أكثر المعتنقين له من الناقمين على الحياة المتشائمين من كل شيء في الوجود

ص: 24

المصابين بفقر الدم الذين ضعفت شهواتهم لضعف أجسامهم. وقد يرى هذا الرأي أيضاً من قويت صحته وكمل جسمه واشتدت شهواته ولكن كانت إرادته أشد وسلطانه على نفسه أقوى وأقوى ما يكون ذلك إذا أتى من ناحية الدين. . . والزاهد في الحقيقة ليس يرفض اللذة لأنها لذة هو يرفضها للذة أخرى أكبر منها في نظرة. هذا ما يقوله (خليفة بن خلدون) ويؤيده ما رأيت في شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي من قول الخواص (من ترك شهوة فلم يجد عوضها في قلبه فهو كاذب في تركها). . .

ومن الزهاد من يرفض ان ينعم بالمأكل الشهي إذ نصبح النفس يرى ان الاستمرار في طلب اللذائذ بسبب آلاما إذ تصبح النفس شرهة، أطماعها كثيرة، وآمالها واسعة، وكلما نالت منها الكثير طمعت فيما هو أكثر منه، ثم هي تتألم الآلام الشديدة لما حرمت وتتجرع مع ما تنال غصصاً من الآلام. أضف إلى ذلك أن كثره التمتع باللذة يفقدها قيمتها ويذهب برونقها وجمالها. ويرى هؤلاء أن شعور الإنسان بأنه قادر على حرمان نفسه برفعها فوق حوادث الزمان فلا تصبح لها القدرة على إخضاعه، وهذا الشعور يحرره من ربقة الخوف وهو شعور فيه من اللذة ما ليس في الملذات الجسمية.

للكلام بقية

ضياء الدخبلي

ص: 25

‌من الأشعار العربية

الشعر العربي في حضرموت

للأستاذ أحمد طه السنوسي

البيئة الحضرمية بيئة عربية قحة، وهذه أول ميزة وأول موجه للشعر الذي يقال فيها وينشده شعراؤها في حيزها، والميزة الثانية قد نتجت عن الميزة الأولى، فنحن نجد أن التخاطب في حضرموت بلهجة تقرب من اللهجة المصرية. ونجد في التخاطب الحضرمي أنه يستعمل ألفاظاً عربية أصيلة كثيرة مما لا نحس له وجوداً في تخاطب البلدان العربية الأخرى، ومما لا يذكر إلا في المعاجم عادة، ويرجع ذلك إلى امتداد الصبغة العربية القحة منذ فجر التاريخ الحضرمي إلى اليوم. ولم يستطع التطور الحديث أن يقتحم بقوته فيقضي القضاء كله على النزعة العربية والصبغة العربية الأصيلة في هذا البلد الحضرمي، على هذا فليس من عجب إذ ما ألفينا الشعر الحضرمي أقرب الأشعار إلى الأشعار القديمة وخاصة الجاهلية، وتلك ظاهرة لا يجد المرء نصبا في استشفافها والوقوف عليها حين اطلاعه على أشعار الحضارمة ولا يغيب عنا أن شاعرنا الكبير امرأ القيس نشأ في زمنه في هذا القطر وقال شعره فيه، فبيئته حضرموت إذا بيئة الشعر منذ أقدم عصوره وبيئة التفنن منذ فجر تاريخه كما إنها بيئة العربية ولهجاتها ومصادرها.

ولا نستطيع أن نقول إن الشعر الحضرمي الحديث قد بلغ شأواً بعيداً وذروة رفيعة من المجد الشعري الحديث على الرغم مما أبداه في عالم اللفظ من جمال وقوة، وما وصل إليه في عالم الوضوح من الرقي والرفعة؛ وذلك أرجعه إلى علل وأسباب أهمها أنه لا يتأثر إلا قليلا بالثقافة الحديثة، وأنه يغرق في اللفظ وضخامته وفخامته ثم يذر للنواحي الأخرى بعض الاهتمام، وهذا البعض يطوح به الأسلوب حينا ويتغاضى عنه الشاعر نفسه أحياناً. ثم إن هذا الشعر الحضرمي لا يمكن أن يجد فيه العربي خارج حضرموت لذة وجمالا، وإنما يجد هذه الأشياء الحضرمي في الذي يعيش البيئة الحضرمية فوق أرضها وتحت سمائها، وهذه البيئة لا يستسيغها بالطبع ذلك العربي خارج حضرموت، وبالتالي فتأثيرها على الشعر جعل هذا الشعر غير مستساغ في الجو العربي الخارجي. وبالرغم من أن هنالك شعراء تخلصوا من هذا الحيز ومن تلك السيطرة فأمكن لنا ولغيرنا أن نجد في

ص: 26

شعرهم لذة وجمالاً وأخذنا نقبل عليه يزيدنا شوقاً إليه أن فيه الروح العربي الصميم مما لا نكاد نجد له المثيل في الإغراق في الشعر العربي الحديث نظراً لتأثر هذا الأخير بالثقافة الحديثة والتطورات الزمنية والبيئة الموجهة

على أننا نجد أن هنالك في حضرموت ككل بلد عربي شعراً شعبياً يدعى (بالشعر الحميني) وهذا النوع ينتشر في حضرموت ويرتقي ويجد رواجاً كبيراً، غير أنه أيضاً قد تأثر إلى حد بعيد بالصبغة العربية القوية للشعر الحضرمي، فلولا اللهجة وتحريفها وأساليبها لأضحى شعراً حضرمياً قحاً.

ثم إننا نلحظ شيئاً هاما في الشعر الحضرمي وذلك هو الصبغة الصوفية والنزعة الفقهية، ونحن لو درسنا الشعب الحضرمي وبيئته واتجاهاته نجد أن هذه الصبغة وتلك النزعة متأصلتان فيه، بارزتان واضحتان في أفكاره ومناحيه، فلا غرابة أن يبرزها إلى درب الشعر لتجد مسلكاً جميلا للبدو والانتشار، ولا غرابة أن يبديهما في ثوب الشعر لتستطيعا أن تجدا طريقهما إلى التأثير الصحيح والفائدة المطلوبة منهما، ولكن هناك فارقا هاما بين هذه الصبغة وتلك النزعة في الشعر الحضرمي وبينهما في الشعر العبي القديم؛ ذلك لأنهما في الشعر الحضرمي لا يزيدان على كونهما غلالة شفيفة تعكس هذا الشعر دون أن تطغى على لباس اللفظ ورداء الشعر وإن طغت في بعض الأحايين على رداء المعنى؛ وذلك لأن المعنى نفسه ليس في المرتبة الأولى إذا قسناه باللفظ في ذلك الشعر، فالمعنى لا يهتم به كثيراً سواء أضاعه اللفظ أو غشته غلالة الصوفية وكسته النزعة الفقهية. . .

لكننا مع ذلك لا نستطيع أن نغمط الشعر الحضرمي حد الواضح في بلوغ ذروة عالية حين يحدثنا عن الألم ودواخل النفس وتأثرات الشعور فإنه بهذا يجمع إلى جمال الوشي استثارة المشاة ويضفي على الوصف الدقيق وعلى تصوير الدواخل والدوافع والاحساسات جميل اللفظ وبديع الأسلوب فيأتي بشعر جميل يقرأه المرء فيجد فيه صدقاً وإخلاصا في التصوير وتشويقاً في العرض وجلالا وجمالا في الإدلاء والإبداء.

ويقول لشعر الحضرمي في كل الأغراض التي قال فيها الشعر القديم، ويهمه أن يدلف درب ذلك الشعر ويحذو حذوه، ولا ينسى في بعض الأحايين أو يشاركه في الدمن والإطلال والاهتمام بالتجريد وذكر الآلات والأشياء المحيعة من بيئة الحضرمية.

ص: 27

ولعل أهم الأمور التي جعلت الشعر الحضرمي على جلالة قدره ورفعة مرتبته غير معروف وغير مدروس في عالمنا العربي أن أغلبه لا ينتشر ولا يجمع، فهي البيئة الحضرمية التي تتداوله بالرواية وتملي عليه الخمول فلا يأخذ طريقه لنشر أو طريقه لذيوع ودرس في الحلقات الخارجية من الجو العربي. وما ينقصه إلا أن يعترف بأهمية القومية العربية الشاملة في قصائده ويتهم بها أن يقلل من إخلاصه للجاهلية من ناحية وأن يساير ركب المدينة ولا يبخل بالثقافة الجديدة والتطور الجديد أن يلج سدته ويهز سرجه بلجامه إلى الأمام. . . وهاكم بعض الأمثلة:

قال الشيخ عبد الصمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله باكثير الكندي في شكوى الحظ العاثر:

أراني إذا ما الليل جاشت كتائبه

أبيت وقلبي حائر الفكر ذاهبة

أقضيه بالأشجان والهم والأسى

ودمع على الأوجان ينهل ساكبه

تبيت أفاعي الهم في غيهب الدجا

تساور قلبي بالعنا وتواثبه

وقال أيضاً:

يا عاذلي دعني وشأني إن لي

قلبا بتير الحب لا يستأنس

كيف السلو عن الأحبة بعد ما

دارت عليّ من الصبابة أكؤس

ويقول متألما:

خذ من قديم حديثي مبتدأ سقمي

وما أقاسي من الأوصاب والألم

فمبتدأ خبري فعل اللواحظ من

عيون خشف رمت سهما أراق دمي

رمى فشك الحشا من نبل مقلته

بغير شك وقد أوهى قوى هممي

فطار يومي وبات همي يقلقني

ومهجتي لمظي الأشجان في ضرم

وخالف النوم أجفاني وحالفها

طول السهاد فلم أهدأ ولم أنم

محي الغرام سلوى واستباح دمي

هوى الأغن فسرى غير منكتم

لي في الظلام أنين كلما سجعت

ورقاق أرقت فوالهفي وواندمي

يرق لي كل من بالليل يسمعني

فمن لصب عميد باللحاظ رمى

ويقول السيد شيخ بن عبد الله العيدروسي العلوي في قصيدة رثاء:

ص: 28

تقضي فتمضي حكمها الأقدار

والصفو تحدث بعده الأكدار

والدهر أبلغ واعظ بفعاله

وكفى لنا بفعاله إنذار

وهو القائل في توسلية له:

يا من لقب بالصبابة ممتلي

وأضالع يلظي القطيعة تصطلي

من ذا لما بي كاشف إلاك يا

من قد مددت له أكف توسلي

ويقول السيد محمد مولى الدويلة العلوي:

الحب حبي والحبيب حبيبي

والسبق سبقي قبل كل مجيب

نوديت فأجبت المنادي مسرعا

وغطست في بحر الهوى وغدي بي

لي تسعة وثلاثة من تسعة

والعقد لي وحدي وزاد نصيبي

ويقول محمد بن أحمد بن يحيى بن أبي الحب الخطيب الأنصاري من محادثاته الشعرية:

تجنب أرضك الوبأ الوخيم

وجانب سوحك السدم السديم

ومنها:

مجاج مياهها فيه شفاء

إذا مجت على الأرض الغيوم

نسيم جنوبها أبدا صحيح

وطبع الجو فيها مستقيم

وطبع مياهها في الصيف برد

وأيام الشتاء هي الحميم

تعادل حرها والبرد فيها

فلا برد يصر ولا سموم

وطبع البرد فيها فيه لطف

بطيب نسيمه تنمو الجسوم

ويقول الأمير محمد على الكثيري:

إن جئت (عينات) فحي ثراها

واستنشق العرفان من رياها

والصق جبينك بالتراب مقبلا

شكراً لمن أولاك لضم ثراها

بلد أقام بها الكمال وحبذا

بلد غدا الغوث العظيم حماها

واستقبل الشيخ المعظم خاشعا=في ذل نفس كي تنال مناها.

ويقول السيد عبد الله الحداد العلوي في حديث نفسي:

ألا يا نفس ويحك كم توانى

وكم طول اغترار بالمحال

وكم سهو وكم لهو وهزل

وكم ميل إلى دار الزوال

ص: 29

وكم شغل بما لا خير فيه

وكم حرص على شرف ومال

وكم تلوين عن محمود فعل

وكم تقعين في قبح الفعال

وقال أيضاً:

أنا مشغول بليلي

عن جميع الكون جمله

فإذا ما قيل من ذا

قل هو الصب الموله

أخذته الراح حتى

لم تبق فيه فضله

راح أنسي راح قدسي

ليست الراح المضله

هذه بعض الأمثلة من ذلك الشعر راعينا في انتقائها تصوير الواقع وتسجيل الموجود علنا نستخلص من ذلك بعد كل هذا أن في حضرموت شعراً عربياً جديراً بالعناية قمينا بالالتفات والاهتمام.

أحمد طه السنوسي

ص: 30

‌المسند

للإمام أحمد بن حنبل

أوسع كتب السنة، وأكثرها شمولاً وإحاطة. لا يستغني عنه العالم المحقق، ولا الطالب المجتهد. وهو حجة للمحدث، والفقيه، والمؤرخ، وصاحب اللغة. ألفه إمام المحدثين وزعيم أهل السنة وقدوتهم، وجعله مرجع العلماء وحجتهم، حتى لقد قال لابنه راوية وهو يوصيه (احتفظ بهذا المسند، فإنه سيكون للناس إماما).

وهذا (الديوان الأعظم) بحر لا يدرك مداه، أعجز أكثر العلماء أن يصلوا إلى غوره حتى وفق الله الشيخ أحمد شاكر المحدث المصري فصنع له الفهارس الدقيقة المتقنة، من علمية ولفظية، وشرحه شرحاً فنياً على أوثق القواعد العلمية التي ميز بها الحفاظ صحيح الحديث من ضعيفه، ليكون مرجعاً حقاً لكل طالب وعالم.

ثم كان من توفيق الله وحسن صنعه لهذا (الكتاب الحجة أن حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم، أسد الجزيرة وإمام أهل السنة في هذا العصر، الملك الإمام (عبد العزيز آل سعود أطال الله بقاءه، شمله برعايته السامية الكريمة حبا في نشر واحيائه؛ وتقربا إلى الله بعموم النفع به. فأصدر أمره العالي بطبعه على خير ما يستطاع من الإخراج والإتقان.

فنفذ الشارح الأمر الملكي المطاع بطبعه في أجزاء متتالية، طبعة ممتازة خاصة، وطبعة شعبية عامة ليعم النفع به كل الطبقات.

80 قرشاً ثمن الجزء الواحد من الطبعة الممتازة

30 قرشاً ثمن الجزء الواحد من الطبعة الشعبية

ملتزم الطبع والنشر

دار المعارف بمصر

ص: 31

‌رسالة الشعر

على ضفاف الجحيم. .

للأستاذ صالح علي شرنوبي

(إليك يا قاهرة. إلى أضوائك القاسية التي طالما عذبت)

(عيني. . . وأنا قابع هناك. . في الجبل المضايف. . بصخوره)

(الحانية. . وكلابه العاوية. . . وصمته الكئيب. . .)

(ثم إلى هؤلاء المترفين الكسالى. الذين ينكرون عليّ)

(إيماني بالألم. . . وعبادتي للدموع. وإخلاصي للأحزان)

إني هنا. . . أيتها المدينة. .!

الحرة الفاجرة المجنونة. . .!

أحبس في جفني الرؤى السجينة

والأدمع الوالهة السخية

إني هنا. . . أغربل السكينة

وأزرع الخواطر الحزينة

ملء ضفاف الوحدة المسكينة

وفي يدي فجر. . . ستعبدينه

يوم تزول المحنة الملعونة

إني هنا. . . فعربدي. . . وثوري

ملء عنان اللهو. . . والسرور

ومزقي بضحك المخمور

غلالة ينسجها تفكيري

ليستر العريان من شعوري

ويحجب اللافح من سعيري

الغاضب المدمر الضرير

يود لو يعصف بالقصور

وساكنيها. . . عابدي الفجور

النائمين في حمى الحرير

الغالغين عن أسى الفقير

ولوعة المشرد المدحور

الوالغين في الدم المهدور

من عصب الكادح. . . والأجير

إني هنا. . . يا جنة الحقير

آكل جوعي. . . وأضم نيري

وليس لي في الأرض من نصير

إلا ضميري. . . آه من ضميري

ألبسني ممزق الستور

وجاء بي=حيا=إلى القبور

أقرأ في ظلامها مصيري

وأعرف الغاية من مسيري

بعد احتراق الأمل الأخير

وفرقة الصاحب والعشير

ص: 32

هذا أنا. . . في العالم الكبير

فوق ربى المقطم المهجور

متخذا من أرضه سريري

من الحصى. والطين. والصخور

وتحت سقف الأفق المسيطر

والعاصف المزمجر المقرور

أنام. . . نوم العاجز الموتور

على نباح الكلب. والهرير

وقهقهات الرعد في الديجور

تسخر من عجزي ومن قصوري

ومن ضراعاتي إلى المقدور

وقلبي المحطم الكسير

وأنت. . . يا زنجية الضمير

تدرين قدري. . . وترين نوري

فتفجرين ضحكة المغرور

وترتدين كفن المقبور. . .!

هازئة. . . كالزمن العيهور

من المثالي الفتى الطهور

فلتهزئي. . . فلست بالمقهور

ولتغرقي هزءا. . . فلن تثيري

إلا دخان الحاقد المسعور

وثورة المقيد الأسير

ولن تعيشي في فم الدهور

إلا بفن الشاعر القدير

الحائر المضطرب الممرور

تحية الخلد إلى العصور

وآية الجبار. . . في المجبور

ونفحة الأقداس في الماخور!

الواحة السجواء. . . في الهجير

تشرب نار الفدفد المسجور

لترسل الظل إلى المحرور!

إني هنا. . . أيتها المدينة. . .!

الحرة الفاجرة المجنونة. . .!

أحبس في جفني الرؤى السجينة

والأدمع الوالهة السخينه

إني هنا. . . أغربل السكينة

وأزرع الخواطر الحزينة

ملء ضفاف الوحدة المسكينة

وفي يدي فجر. . . ستعبدينه

يوم تزول المحنة الملعونة

صالح علي شرنوبي

ص: 33

(وفاء)

للأستاذ محمد محمود جلال بك

أصابر نجمي من أشهر

فحان المعاد على (دلدر)

على ربوة خضلت خضرة

تطل على أزرق أخضر

تجازى البحيرة عن صنعها

وتزكو الصنيعة بالشاكر

كقائد جيش لدى موكب

يرد التحية للعسكر

تباركت يارب من مبدع

تجلى بآيك للمنكر

وقصر تناهت له روعة

يمد خيالك (للأقصر)

كخاطب قوم سما منطقا

يسوق العظات على المنبر

به ما اشتهيت وفق المنى

فحاسب مناك وقل أقصري

بخدمة قوم صباح الوجوه

همو غرة في بني الأصفر

على أدب زان منهم حجى

يقل الثناء على المكثر

تألق فيه وداد مضى

فناج الودود به واذكر

فعيني تقر برفه المصي

ف وقلبي يهفو لديسمبر

إذا البرء جادك حيى الضنا

فبيعك حتم لكي تشتري

كذا العمر جدب بغير الوفاء

فلا نضر العيش للغادر

(فدلدر) تحنو على (زورخ) = (وزورخ) تزهو على (دلدر)

محمد محمود جلال

ص: 34

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

جناية الفلسفة على العقول

جناية الفلسفة على العقول أمر لم نكن نؤمن به حتى أثبت لنا الدكتور الأهواني أنه حقيقة لا تقبل الجدل. . . إذا لم تصدق فاعلم أن هذا (الفيلسوف) قد آثر أن يشكونا إلى النيابة العامة بدلاً من أن يشكونا إلى روح طيب الذكر رينيه ديكارت!

وجناية الفلسفة على العقول قد تحققت بالنسبة إلى الدكتور الأهواني مرتين: الأولى حين أوهمته (فلسفته) أنه يستطيع أن يكون أديباً يشارك في هذا الذي يشارك فيه الأدباء، وناقداً يخوض في هذا الذي يخوض فيه النقاد. . . والثانية حين ألهمته هذه الفلسفة أن لقاءنا في ساحة النيابة أسلم مغبة له من لقائنا على صفحات الرسالة! ولم يفكر الدكتور الأهواني طويلا لأن منطق الفلسفة الأهوانية لا يعترف بمبدأ الإحجام عن أي أمر من الأمور. . . ومن هنا قرر (الفيلسوف) أن يكون أديباً رغم أنف النقاد، وعلى الذين لا يعترفون بمكانته الأدبية أن يواجهوا النيابة العامة!

ولم يكن هناك بد من أن نواجه النيابة العامة، أتدري لماذا؟ لأننا لم نشر إلى (الفيلسوف الأديب) بأطراف البنان وإنما أشرنا إليه بأطراف اللسان. . . ولعلك قد أدركت بفطنتك ما تحمل الإشارة الأخيرة من معان!!

وننتقل بك إلى مرحلة التحقيق أو مرحلة العقوبة والتطبيق. . . ولا تعجب إذا قلنا لك إننا قد رغبنا إلى المحقق في أن يمهلنا بعض الوقت، ليكون للضحك الساخر أو للسخرية الضاحكة أوفى نصيب! وكيف لا نضحك والدكتور الأهواني يدفعنا إلى الضحك دفعاً ويفرضه علينا فرضاً وكأنما يريد أن يشغلنا بفكاهاته عن حر الصيف ووطأة الصيام؟ سمها إن شئت فكاهة الفلسفة أو فلسفة الفكاهة. . . وقد تتفلسف الفكاهة أحياناً فلا تعبأ بمنطق ولا تؤمن بقاعدة ولا تخضع لشيء من هذا الذي تخضع له العقول!

هذه الفكاهة المتفلسفة عمادها في شكوى الدكتور الأهواني أننا قد تهجمنا على مكانته العلمية وأستاذيته الجامعية، وأنه لا تكافؤ بين الناقد والمنقود. . . فالناقد أنور المعداوي ليس دكتوراً حتى يحق له أن يتهجم على دكتور في الآداب، وليس أستاذاً في الجامعة حتى

ص: 35

يحل له أن يتطاول على أستاذ في الجامعة، وفي هذا الاعتداء المعنوي ما يعاقب عليه القانون أو ما يجب أن يعاقب عليه! تواضع عظيم. وحسبك دليلا على هذا التواضع أن الدكتور الأهواني لم يشأ أن يتشدد مع النقاد، ولو شاء لطلب إلى النيابة العامة أن تطبق القانون على كل ناقد يتعرض له إذا ثبت أن هذا الناقد لم يحصل على جائزة نوبل في الآداب!

تواضع عظيم لا شك فيه. . . ومنطق عظيم لا شك فيه أيضاً. . . وآية العظمة في هذا المنطق أن كاتبا له مكانته كالأستاذ العقاد لا يجوز له مثلا أن ينقد صاحب الفلسفة الأهوانية، لأن شرط التكافؤ بين الناقد والمنقود يا رعاك الله. . . غير موجود. ولا يستطيع الأستاذ العقاد أن يدعي بأنه دكتور في الأدب أو دكتور في الفلسفة، أو يزعم بأنه أستاذ في جامعة الفؤاد أو جامعة فاروق. . . هكذا تريد لنا الفلسفة الأهوانية.

دكتور في الفلسفة وأستاذ في الجامعة. . . هذا حق لا يمكننا أن نجادل فيه، ولكن بقي حق آخر لا يحتمل المناقشة، هو أن (الدكتوراه) التي يحملها الدكتور الأهواني كانت أول دكتوراه فيما نعلم يحصل عليها صاحبها مجردة من مراتب الامتياز ودرجات التفوق. . . ترى هل يستطيع أن يجادلنا في هذا الواقع الذي شهدناه بأعيننا يوم أن نوقشت رسالته، وقد كانت عن (التعليم في رأي القابسي)؟!

أغلب الظن أنه لا يستطيع. . . ومع ذلك فهو دكتور يزهى علينا بالدكتوراه، وأستاذ في الجامعة يفخر علينا بالأستاذية، ثم لا يجد ضيراً من أن يجهر بعدم التكافؤ بين الناقد والمنقود. . . أو بين المعداوي والأهواني!!

إن الحصول على الدكتوراه في مصر ليس أمراً عسير المنال كما تتوهم الفكاهة المتفلسفة، وبخاصة إذا روعي في الحصول عليها ذلك (التواضع) الذي يحرص على أن تكون الألقاب العلمية مجردة من تفوق المراتب والدرجات. . .

هذه كلمة نرجو أن يقرأها الدكتور الأهواني بعناية. . . ونحن في انتظار بلاغ آخر يتقدم به إلى النيابة العامة!

أزمة القراء وعصا الأستاذ الحكيم

(قالت العصا: هل رأيت هذه المكتبة العامرة بالكتب في أشهر ميادين القاهرة، كيف تحولت

ص: 36

أخيراً إلى حانوت للمرطبات؟! إن صاحبها هو صاحبها لم يتغير. ولكنه قلب نفسه بكل بساطة من (كتبي) إلى (شربتلي)!. . . وعندما سئل في ذلك قال: الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن. . . إنهم يريدون عصير الليمون!

قلت: هذا صحيح مع الأسف. . . وهي ظاهرة خطيرة تستحق العناية والعلاج. . . فإن انصراف الناس عن غذاء العقل نكبة كبرى لأمة في طريق التحضر. . . وما قيمة التعليم في أمة إذن، إذا كانت نتيجته تخريج زبائن للمشارب لا للمكاتب؟! إن أبقى درس وأهم كسب للطالب في المدرسة، ليس في تلك المعلومات المحددة لأنها ستنسى حتماً بعد حين، ولكنهما في غرس ملكة المطالعة التي ستلازمه في كل حين. . . لا خير ولا نفع في أرقى المدارس والجامعات إذا خرج منها الطلاب يلعنون كتبهم ويختمون على رءوسهم. . . بينما الطالب الذي ينشأ فيه حب المطالعة والاطلاع تنشأ في نفس الوقت جامعة كبرى نفسه، تزوده بالمعارف المتجددة طوال أيام حياته. . . ذلك واجب المدرسة الأول: تعلمنا حب القراءة. . . وتمرن عضلاتنا الفكرية على هضم أغذية العقل. . . ثم تدفعنا إلى الحياة نزدرد ثمرات الذهن. . .

قالت العصا: حقا. . . إن الإنسان يولد زبونا بالفطرة لعصير الليمون. . . ولكنه لابد أن يعد إعدادا ليصير زبونا لعصير الذهن!)

هذا هو الحوار البديع الذي دار منذ أيام على صفحات (أخبار اليوم) بين صديقنا الفنان الكبير الأستاذ توفيق الحكيم وبين عصاه. . . وأزمة القراء التي شغلت قلم الصديق فأجرت مداده بهذه الكلمات الطافحة بالمرارة والفياضة بالأسف، مشكلة عرضنا لها بالأمس على صفحات الرسالة محددين أسبابها الأصلية ودوافعها الطبيعية، معبرين عن مظاهر الأسف والمرارة كما استشعرها الأستاذ الحكيم!

ولا نذكر أننا التقينا مرة - توفيق الحكيم وأنا - إلا وعرجنا على هذه المشكلة وخصصناها بأكثر ما ينقضي بيننا من وقت وأغلب ما يدور بيننا من حديث. . . إنها مشكلة من مشكلات الساعة بلا جدال: جيل ينصرف عن القراءة المفيدة إلى فنون من اللهو والعبث لا تنفع ولا تفيد، ويضيق بعصارة الفكر التي تطفئ ظمأ العقل وترطب جفاف القلب ليقبل على كل ما من شأنه أن يذبل نضارة العقول ويغلق منافذ القلوب. . . هذا الجيل ماذا حدث

ص: 37

له، وماذا نفعل من أجله، وكيف نهديه إلى معالم الطريق؟ إننا نستطيع أن ننفذ إلى مكامن الداء في جسم هذا الجيل المريض، ونستطيع أن نضع أيدينا على مصدره ونستطيع بعد هذا كله أن نصف العلاج الناجح والدواء المفيد. . . نستطيع أن نفعل هذا الذي قلناه، ولكن المشكلة التي تواجهنا ويتحول معها الأمل إلى يأس هي طبيعة المريض نفسه، طبيعته العقلية والنفسية، هذه الطبيعة التي لا تؤمن بقيمة الدواء ولا بجدوى العلاج ولا بنصائح الطبيب!!

وأين هو الطبيب المنتظر الذي يحمل الدواء إلى المريض في يد (والكرباج) في أخرى، حين يكون الكرباج هو السبيل الوحيد إلى الإقناع؟! أين هو ليجرع المريض العنيد عصير الذهن بدلاً من عصير الليمون، فإذا امتنع عن تجرع الدواء ألهب ظهره بسوط الجلاد؟! نحن محتجون إلى عهد الكرباج ليقرأ الناس. . . ولا شيء غير الكرباج يستطيع أن يقنعهم بأن الجد خير من الهزل، وأن الثقافة أفضل من الجهل، وأن النور أجمل من الظلام!

كل هذه الخواطر التي نسجلها في هذا المكان حول أزمة القراء، كنا ننتهي إليها وينتهي الأستاذ الحكيم كلما جمع بيننا لقاء. . . ويقول الأستاذ الصديق ذات يوم وكأنما اهتدى إلى علاج: ألا يكون ارتفاع أثمان الكتب سبباً من الأسباب الجوهرية في انصراف الناس عن القراءة؟ ونقول له رداً على ملاحظته المغلفة بإطار من الإيمان: لا نظن. . . فالقارئ الذي يريد أن يبسط عقله لا يقبض يده! ثم إن الكتب يا صديقي ليست هي الشيء الوحيد الذي ارتفع ثمنه في هذه الأيام، كل شيء قد ارتفع ثمنه وغلا سعره، ومع ذلك فما أكثر ما يقبل الناس ومنهم المتبلمون على الشراء ينفقون الجنيهات على المتعة الزائلة ويضنون بالقروش على المتعة الباقية. . . ينفقون على متعة الجسم والنظر ويضنون على متعة الذهن والروح. . . مائة قرش يدفعها الشاب الجامعي ثمنا لرباط رقبة، وعشرون قرشاً يستكثرها ثمنا لأثر من آثار الأدب والفن، ومن هنا عمرت محال (الكرافتات) وأقفرت من روادها المكتبات!

ويهز توفيق الحكيم رأسه هزات المؤمن بما يقول، ولكنه يريد أن يجعلها تجربة ليحكم في ضوء الوقائع المادية لا الآراء النظرية. . . ولم تمض أسابيع حتى أصدر الصديق مجموعتين من قصصه حدد لكل منها ثمنا قدره عشرة قروش بدلاً من خمسة وعشرين

ص: 38

وعلى الرغم من أن توفيق الحكيم هو أكثر كتاب الشيوخ إقبالاً من القراء، فقد كانت نتيجة اليوم هي نتيجة الأمس. . . عشاق فنه وحدهم هم الذين أقبلوا على شراء قصصه الجديدة، نعني أن القروش العشرة لم تجذب قارئا جديداً لتضمه إلى قائمة قرائه المعجبين! والسبب. . . هو أن الذي يهوى القراءة ويعشق الاطلاع لا يهمه أن يكون ثمن الكتاب عشرة قروش أو مائة أما أولئك اللاهون والتافهون من وراد المراقص والمقاهي والحانات، فلن يقرئوا ولو حددنا أثمان الكتب بالمليمات!!

هذه حقيقة آمن بها توفيق الحكيم بعد التجربة كل الإيمان. . . ويقول لنا بعد أن عاد من رحلته الأخيرة إلى باريس. ما أعجب القوم هناك! إن حياتهم حياة. . . وحسبك أن العين قلما تقع على فتى أو فتاة من غير كتاب. . الكتاب دائماً يطالعك في أيدي الناس حيثما ذهبت: في القهوة، والبيت، والشارع، والمترو، وحلبة السباق. . لا يكاد يصرفهم عنه لهو أو متاع، في بلد كل ما فيه لهو ومتاع. صدقني ما أحسست بمدى الفارق بين الموت والحياة إلا بعد أن رجعت إلى مصر، وقارنت بين حال القراء هنا وحالهم هناك!

ولم نكن محتاجين إلى أن يقص علينا الأستاذ هذا الذي رآه، لأن بعض الحقائق تلمس بالعقل إن عز لسمها على الأنظار والأسماع. . . ومن هذه الحقائق الملموسة بالعقل أن القارئ الفرنسي يلتهم الكتب ن القارئ الفرنسي يلتهم الكتب التهاما ليضيف إلى عمره أعماراً أخرى عن طريق القراءة والاطلاع، ولولا هذا لما كانت الطبعة التي بين أيدينا من أحد كتب سارتر هي الطبعة الثالثة والتسعين. . . ولا تنس أن الطبعة الواحدة تقدر في حساب الناشرين بعدد من الألوف!!

هذا في فرسا، أما في مصر. . . فقد حدثنا الأستاذ الحكيم عن قصة صاحب المكتبة العامرة بالكتب في أشهر ميادين القاهرة وكيف تحولت إلى حانوت للمرطبات. . . وعندما سئل الرجل في ذلك أجاب: الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن. . . إنهم يريدون عصي الليمون. . . وياله من جواب ذلك الذي يعيد إلى الأذهان أسطورة نهر الجنون!

أنور المعداوي

ص: 39

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

بين صديقي وبيني أو بين مصر وأمريكا

أخي عباس

صحت نبوءتك فتعافيت لا بفضل صديقتك الحسناء ولكن بفضل انتقالي من سان فرنسيسكو برياحها الرطبة المتغيرة أبداً، إلى مدينة صغيرة في وسط الوادي تسمى وقد شممت فيها رائحة مصر فعافيت!

أذكر أنك كتبت مرة عن الربيع وشعراء الربيع في مصر. أنا أوافقك على الشطر الثاني، أوافقك على أن شعراء الربيع في مصر (عره!) أما إنحاؤك على جو مصر، وترابه وعفاره. . . الخ فأؤكد لك أنه (بطر) بنعمة الله! هنا أمريكا التي ينشرون دعوة طويلة عريضة عن جوها وبخاصة جو كاليفورنيا، لا تقاس بشيء إلى مصر. ولا تسمع ما يقوله بعض الرقعاء عن جو فرنسا فبين يدي الآن رسالة من شاب مصري غير مخدوع، يعيش في فرنسا مفتوح العينين، يحدثني عن التقلبات والأنواء، ويتمنى نسمة مصرية، وهذا هو ما أتمناه أنا كذلك!

إننا ننقص من قدر أنفسنا حتى في الطبيعة، أما الأجانب فيعرفون كيف يقمون بالدعاية لبلادهم ليجلبوا إليها الناس، لغرض (مادي) هو الحصول على نقد أجنبي. وإن كان الذين زاروا مصر فهم يخجلون أن يقيسوا بلادهم إليها.

إننا نملك أشياء كثيرة ولكننا لا ننتفع بها ولا نستغلها. . . هذه هي المسألة، فإذا أنحينا باللائمة فلننح، لا على بلادنا، ولكن على تلك الحفنة الجاهلة المريضة الأنانية التي تتولى أقدارها، ولا تؤدي لها خدمة ما، ولا تستغل كنوزها، سواء كنوز الطبيعة الأرضية أو كنوز الطبيعة البشرية.

إننا نملك طاقات من الذكاء الخارق - حين نقارن شعبنا إلى شعب كالأمريكاني - ولكننا نهمل هذه الكنوز بالجهل والأمية والفقر المدقع القاتل لكل موهبة، وذلك لتستمتع حفنة من (الباشوات) و (الكروش) بترف لا تعرفه القرون الوسطى.

ص: 40

هذا هو عيبنا؛ أما طبيعة بلادنا، وطبيعة شعبنا فهما فوق مستوى الشبهات.

قولوا - أيها الكتاب - للشعب حين تكتبون: إن المتحكمين فيكم يقبرون نبوغكم ويدفنون مواردكم، وأنتم تملكون ما لا يملكه شعب آخر في هذا الوجود.

وتحياتي إليك وإلى اللقاء.

أخي - بعد أن كتبت لك هذه وقرأته رأيته يصلح للنشر والتعليق، فإذا رأيت أن تجعله موضوع تعليقك فأنت في حل من نشره.

سيد قطب

أسارع أولا فأبين مسألة (صديقتي الحسناء) مسزفرو. . . لأنها تمس السياسة الداخلية في بيتي. . . المسألة أن إحدى رسائلي إلى الصديق الذي أوحوشنا وصلت إليه وهو في المستشفى فلفت نظر الممرضة الحسناء - كما يقول - ما عليها من طوابع مصرية مختلفة الألوان: أحضر وأحمر وأصفر. . . فأعجبت بهذه المجموعة العجيبة، ولعلها أعجبت أيضاً بخطي الرديء المكتوب على الغلاف! فاحتفظت به. . . ومالي ذلك يدان!

ليست هذه الرسالة الوحيدة، من رسائل الأستاذ سيد قطب إلي، التي تضمنت بعض الموضوعات العامة، فقد كتب مرة يقول: تصلح أمريكا أن تكون (ورشة العالم) فتؤدي وظيفتها على خير ما يكون أما أن يكون العالم كله كأمريكا، فتلك هي كارثة الإنسانية بكل تأكيد. فكتبت إليه فيما كتبت: إني يا أخي لا أرى لدينا روحية محبوبة، فنحن ماديون كالأمريكيين، وكل ما بيننا من فرق أن ماديتهم منظمة ونحن في فوضى، فجاء رده: لمحت في رسالتك ألي أنك، (قرفان) من مصر، ولهذا لا تستريح إلى ما أكتبه أنا عن أمريكا! إنني حين أكتب عن أمريكا ما أحسه من حقائق لا أعني أنني راض عن الحياة في الشرق وما فيها، ولكن هناك شيئاً واحداً لا يصح أن نغفله، إن أمريكا تستخدم كل رصيدها الممكن، وإننا نهمل رصيدنا فنبدو مفلسين! إن الحاضر الواقع في بلادنا لا يرضى أحداً ولكن الممكنات أمامها كثيرة لو وثقنا في أنفسنا وفي رصيدنا المكنون، وهذا هو مفرق الطريق، ولو أنك عشت في أمريكا بعض الوقت كما عشت لحمدت للشرق روحه رغم هذا الخمول الذي يعانيه.

وأنا أوافق الصديق الكريم على ممكناتنا ومكنوناتنا وأومن معه بشعبنا ومواهبه المقبورة،

ص: 41

ولكنني أرى أن تلك (المكنونات) قد أصبحت كمحتويات دار الآثار نتحدث عنها ونطيل الحديث ولا شيء وراء ذلك، أما المواهب المقبورة أو كنوز الطبيعة البشرية المهملة في مصر فأمرها ظاهر وداؤها يبدو معضلا، وإذا كانت حفنة الباشوات والكروش تتحكم وتستغل فإن (حفنات) من الوصوليين يتخذون الأسباب المختلفة إلى أولئك، يسيرون في ركابهم ويصهرون إليهم وغير ذلك من أساليب، فيكتالون ويستوفون، وهناك مئات من ذوي الكفايات يقعد بهم الحياء وتحتجنهم الكرامة، فيهملون. . . وبذلك تحرم البلاد من خير أبنائها وأوفرهم حياء وكرامة، ويحرمون هم مما تلغ فيه الكلاب!

ولا أريد أن ألج في المقارنة بيننا وبين أمريكا، فإن الأستاذ سيد - بحكم وجوده هناك - أدرى منا بما يقول، ولكن من حقي أن أكون (قرفان) من جانب حالتنا التي لا تسر. . . والتي لا أجد فيها (روحا). وقل لي بالله يا صديقي: ما قيمة (الرصيد) الذي لا نستطيع أن ننفق منه، وما فائدة (المكنون) في دار العاديات؟

وألاحظ أن الصديق الكريم يختلج به حنين شديد إلى الوطن، فهو يتمنى نسمة مصرية، وهو يتعافى حين يشم جو كجو مصر. ولعل هذا الحنين دخلا في إشادته بجو مصر ولعل شوقه إلى حلوان الدافئة الجميلة المهملة. . . هو الذي أثاره على كاليفورنيا، ولعل بعده عن مصر في هذا العام الذي كثرت فيه التقلبات الجوية عندنا هو الذي جعله يظن أن سان فرانسيسكو هي ذات الرياح الرطبة المتغيرة أبدا.

وسلام عليك أيها الصديق العزيز، وإلى اللقاء في قدومك القريب.

مسرحية (مدرسة النساء)

هي المسرحية الثانية التي قدمتها الفرقة المصرية في هذا الأسبوع على مسرحها الصيفي بحديقة الأزبكية. كان قد كتبها بالزجل المرحوم عثمان جلال مقتبساً من موليير، ولم تقدم على المسرح المصري قبل الآن على رغم أنها كتبت منذ زمن غير قليل. وقد أخرجها الأستاذ زكي طليمات المدير الفني للفرقة، وقام بالأدوار الرئيسية فيها فؤاد شفيق وعمر الحريري وزوزو الحكيم

والمسرحية تدور حول رجل سيئ الظن بالنساء لكثرة ما سمع من نوادر خياناتهن، وهو لذلك قد أتى بفتاة رباها من صغرها معزولة إلا عن خادم وخادمة، ذاهبا إلى أن عدم

ص: 42

تعليمها وجهلها بأمور الحياة وعدم اختلاطها بالناس، تحفظها من الزلل وتصونها نقية طاهرة، وهو يعتزم أن يتزوج منها، فيأمن شر النساء المتعلمات المجربات. . . ولكن القدر يسوق إليه أو إليها فتى وسيما في مستهل الشباب، يتصل بها، ويساعد جهلها (وخاميتها) على أن تسعفه بالوصال وتلبي نداء الهوى وهي لا ترى في ذلك أي شيء غير طبيعي. ويصعق الرجل ويحاول أن يحول بين الشاب والفتاة في غير جدوى. وينتهي الأمر بأن يظفر الفتى بفتاته ويتركا الرجل في حسرته.

ويظهر لي أن موضوع المسرحية كان يتجه إلى تصوير غدر النساء وكيدهن وعدم استطاعة التخلص مما يدبرن. ولكن الإخراج وجهها بعض التوجيه نحو قضية أخرى، هي قضية القلب الإنساني والطبيعة البشرية، فإن الفتاة لم تلتفت إلى الشيخ الذي رباها في بيته ولم تعر حبه أي اهتمام، وجذب الشباب بصرها وغزا فؤادها، فتفتح قلبها، وتفتق عقلها، حتى غدت تحسن التحلل والتدبير من أجل الاتصال بحبيبها الشاب، وكان نصيب الخيبة والإخفاق، لأنه أراد أن يقف في وجه الطبيعة ويتعرض مجراها. وهذا الاتجاه هو الذي يوافق التفكير العصري ويتمشى مع تحليل البواعث النفسية التي لا تغير مجراها الحكم والمواعظ.

ولكن المسرحية مع ذلك ظلت مشدودة إلى الفكرة الأولى بحبل أسلوب الحوار وهو الزجل، وكانت تلك الفكرة (كيد النساء) أقرب إلى الأذهان في ذلك الزمن الذي وضعت فيه المسرحية. ومن هنا نرى جهد الإخراج الذي بذل في تحويرها حتى جاءت ملائمة للروح العصري.

وقد تتابعت فصول الرواية الثلاثة على المسرح في منظر واحد تحايل الأستاذ زكي طليمات على جعله منظرين: أحدهما داخل المنزل والثاني خارجه أمام الباب، وذلك بإسدال ستار يفصل الداخل عن الخارج، وبذلك كانت تنتقل الحوادث من أحد المكانين إلى الآخر انتقالا سريعاً يشبه الانتقال السينمائي، ولكني ألاحظ أنه جعل الرجل يلقي الشاب (الذي لم يكن يعرفه) وغيره من الناس أمام الباب، ويتحدث معهم حديثاً يطول ويقصر دون أن يدعوهم إلى الدخول إلا في المنظر الأخير. وأظن أنه كان يمكن أن يجعل الرجل والشاب يلتقيان في مكان آخر يبعد عن البيت كقهوة مثلا، ويكون ذلك أوفق من خارج المنزل الذي

ص: 43

كان يلتقي فيه الفتى والفتاة!

وقد صورت لنا المسرحية الفتاة على أنها جاهلة يراها الشيخ أحسن من المتعملة وأسلم منها لأن الثانية تكتب إلى عشيقها الرسائل، ثم رأينا الفتاة بنفسها تكتب إلى حبيبها، ورأيناها تقرأ الرقعة التي احتوت النصائح التي قدمها إليها الشيخ! فأين تعلمت القراءة والكتابة وهي نفسها تقول في الحوار إنها لم تذهب إلى معلم ولا (كتاب)؟ نعم إنها قالت في الحوار إن الحب علمها ونور عقلها، ولكن عل الحب يعلم القراءة والكتابة بدون معلم؟

وقد كان فؤاد شفيق عصب الفكاهة في التمثيل بتعبيرات صوته ووجهه وحركاته، ونهض عمر الحريري بدوره، غير أني أنتظر منه أن يكون مبرزا في دور الشاب المحب أكثر من ذلك. أما زوزو الحكيم فقد كانت حقا الفتاة (الخام) بصوتها وحركاتها وإن كان وجهها غير معبر.

عباس خضر

ص: 44

‌البريد الأدبي

في السرقات الأدبية

كان المغفور له الشيخ حمزة فتح الله مولعا بالغريب في شعره ونثره، حتى لقد أصبح قوله الألغاز والمعميات، وأغرت هذه الخلة به صديقه شاعر الجمال المرحوم إسماعيل صيري باشا، فنظم قصيدة بأسلوبه وعلى طريقته في شكوى شركة (كوك) البحرية، وأعطاها إلى صديقه شيخ العروبة المرحوم أحمد زكي باشا فكتبها مزوراً خط الشيخ فتح الله الذي كان ينزع إلى محاكاة إملاء أهل المغرب، وبعث شيخ العروبة بالقصيدة إلى صحيفة (المؤيد) فنشرتها في صدرها، وأحدثت بطبيعة الحال دوياً، واستمرت رجفتها شهراً كاملا يتناقل الأدباء أبياتها معجبين لأنهم لا يكادون يفهمون منها شيئا لشدة ولع (عميد المفتشين) بالغريت وحواشي الألفاظ. ونذكر من هذه القصيدة العجيبة هذه الأبيات الثلاثة:

أيا يذا (الفضل) المزجى زواجره

صوب السفين وثوب السوس سربله

أشكوك (كوكك) كي نيكف عن نكب

إذ كان كلا وكل مل كلكله

أباتني والجرشى حشوها ضجر

إن مس شقي خشب الفلك قلقله

ولما طلع الشيخ حمزة فتح الله القصيدة في صدر (المؤيد) اعجب بها إعجابا شديداً، وحين هنأه عليها أصحابه لم يقبل التهنئة فقد كان رجلاً ورعاً تقياً وإنما قال (هذا الكلام كلامي ولكني ما قلته). ولما أطلع على أصل القصيدة في إدارة الصحيفة قال (وهذا الخط خطي ولكني ما كتبته) وبقي الأمر سراً حتى توفي الشيخ حمزة وعندئذ أفشاه شاعر الحب والجمال!

ونحن إذ نروي هذه القصيدة إنما نريد منها أن نعرف متانة خلق رجل من أعلام البيان أبى عليه ورعه أن ينسب لنفسه كلاما لم يقله، وما كان ضره لو هو سكت، وبخاصة أن صبري باشا الشاعر لم يكن بالرجل المشنع الكثير الكلام، وقد أراد رحمه الله أن يداعب شاعراً آخر من شعراء زمانه، فأرسل إلى إحدى الصحف قصيدة ممهورة بتوقيعه - توقيع الشاعر لا توقيع صبري باشا - ثم لقيه من غده فهنأه بالقصيدة، فقبل الشاعر التهنئة شاكراً!

فذانك برهانان، تروع الشاعر في أولهما أن ينسب لنفسه ما لم يقله وما لم يكتبه وفي الآخر

ص: 45

لم يجد الشاعر باساً من سرقة أدبية هبطت عليه من السماء!

وعندنا أن السرقات الأدبية تسامت إلى حد كبير السرقات المادية واتجاه التشريع إلى حماية الملكية الأدبية اتجاه محمود، وسارق (الدجاجة) الذي يقضي في السجن عدة أشهر. ولو أننا بالغنا في حماية الملكية الأدبية لخلقنا جيلا من الأدباء مهذبا لا يتجانف لإثم سرقة الأفكار والآراء

واحسبني أرسلت في (الرسالة) كلمة قبل بضع سنين أعتب فيها على الدكتور زكي مبارك أن نسب لنفسه هذه القولة (الشهرة كالمال بعضها حلال وبعضها حرام) وقلت له إن هذه المقالة البليغة إنما هي من كلام المرحوم الشيخ يوسف الدجوي، فرجع الرجل إلى الحق وكتب معتذراً ولم يكابر ولم يصاول.

وكان صديقنا الأستاذ كامل كيلاني - ولا يزال - يرى وجوب حفظ الحق الأدبي لصاحبه، ولو كان هذا الحق يتصل بملحة أو نكتة أو (قفشة) فلا ينسب المرء لنفسه كلاماً ما سمعه من أحد، وإنما يرد القول لقائله على طريقة رواة الأحاديث، ولو أن هذه الطريقة اتبعت ما كذب أحد على نفسه ولا على الناس.

يبد أننا منينا في هذه الأيام بالسرقات الأدبية تتري علينا في صورة كتب تنشر أو مقالات تكتب، ولقد كنا نبصر في زمن مضى بالسرقات الأدبية تنصب على الموتى وحدهم، غير أننا نرى في هذه الآونة السرقات الأديبة قسمة قسمة عادلة بين الأحياء والأموات، وما نحب أن نذكر قبل أن يستشري الداء ويمسي العلاج شيئاً بعيد المنال.

ولسنا نعرض للكتاب الذي قيل لمن (مؤلفه) بدل عنوانه ومقدمته وقدمه إلى القارئين على نحو جديد، فقد يكون لصاحب هذا الكتاب مع طابعه شان آخر. ولكن نحب أن نفرض لهذه المقالات التي تنشر في صحفنا الدورية، فكثير من هذه المقالات سبق نشرها في هذه الصحف بعينها منذ سنين، ولكن بتوقيعات أخرى غير هذه التوقيعات التي نراها اليوم. ومن هذه المقالات مقالات مضى أصحابها إلى ربهم وقطعوا صلتهم بهذه الدار الفانية ومنها مقالات كتبها أناس ما زالوا يكابدون أوصاب الحياة، ولكنهم قطعوا ما بينهم وبين الحياة الأدبية، ومنها كتبها صاحب هذا القلم الضعيف في مناسبات مختلفة قبل بضع سنين!

والصحف - ولا شك - لا تلام على نشر ما تنشر لأنها لا تقرا الغيب ولا تقلب صحائفها

ص: 46

في الماضي البعيد أو القريب، وإنما يلام أولئك (الكتاب) الذين لا يراعون الأمانة ولا يراقبون الضمير ولا يتوافون لشرائط الأخلاق ومراسم التقاليد!

إن سرقة مقالة أو قصيدة أشبه ما تكون بسرقة متاع من المتاع، وسارق المتاع يعتقل في حالة (التلبس) كما يقولون ويعاقب ويشهر به ويفقد (اعتباره) ومستقبله. ولكن صاحب المقالة أو القصيدة - وهو في الأغلب الأعم له نفس شاعرة - يعز عليه أن يشهر أو يشنع بمن سرق نتاج فكره، أفلا يتقي الله لصوص الأفكار، حتى لا يأخذهم القانون بما جنت أيديهم أسوة بإخوانهم من لصوص المتاع!

منصور جاب الله

ص: 47

‌القصص

اشترك في الجريمة

لكاتب الفرنسي بول بورجيه

بقلم الأستاذ كمال رستم

. . . قابلت. . إدم ريمون - على إفريز محطة ميلان بينا كنت أصعد في أحد هذه القطارات التي يصفها الإيطاليون في زهو (بالبرق) مع إنك تجد نفسك متأخراً ساعتين في مسافة قدر زمانها خمس ساعات. . . وكيف تحرن؟ إنك إن شكوت أجابوك وقد جرت على شفاهم ابتسامة آسرة قائلين. (إنه القدر الإيطالي) أيسخرون من أنفسهم أم يسخرون منك. . وإنك لتغفر (للبرق) هذا الوقوف الذي لا يكاد ينتهي عند كل محطة انتظارا للبريد الذي لا يصل أبداً. . . ومرة أخرى فيم الحزن إذا كان كل الناس يحضرون ليشاهدوا (لويعي دي لا بريرا) الإلهية. . . وإذا كانوا يتهيئون من غدهم لزيارة. . . (القصر الأحمر) و (القصر الأبيض) في جنوا. . .

وكانت جنوا وجهتي حينما التقيت بادم ريمون وكان ماضياً إليها أيضاً!. . . وسألني قائلا:

- أتريد أن نقطع رحلة سوياً؟

أجبته وأنا ادفعه في رفق أمامي إلى الصالون:

- بكل سرور. . .

ولم أكن مخلصاً في قولتي هذه. . . وما ذاك لأن طبع ريمون يباين طبعي. . . فهو شاب لطيف للغاية وإن كان متكلماً هوناً ما وهو رفيق صادق الود فما كان يربطنا في صداقتنا التي أوفت على العشرين عاماً سوى أنبل الصلات وأطيبها. . وهو بعيد الأفق غزير العلم. . جم الثقافة. . . سمحت له ثروته بالتنقل والسفر. . . ولكنه إلى ذلك. . . كان ثرثارا. . . وإننا لندرك بدهياً آراء هذا النمط من الناس. . . في الأشياء التي هي مدار الحديث في الصالونات المنتشرة حول قوس النصر. .

وبالأمس أطروا قصصي تولستوي وأينزيو. . . واليوم يشهرون نحت (دودان) وتصاوير ببزنار. . وغداً من يدري؟. ولكنني عرفت منذ عهد بعيد كيف أميز في ثرثرات هذا

ص: 48

الطراز من الناس الآراء التي ليست سوى الصدى الحاكي لآراء الغير. . . والقصص التي يمكن أن تكون أصيلة. وقد مضى على قصة من هذا القبل الأخير. . . أريد أن أقصها بدوري. . وهي تنتمي إلى مجموعة (حالات الضمير). . وطبقا لما قرر باسكال (إن لذة الحياة في هذه الوخزات وفي التماس الحلول لها. . .

قص على رفيقي هذه القصة. . . وقطارنا يقطع الطريق من (نوفي) إلى (سامبرد أرينا) وكنا قد تناقلنا طائفة من الآراء عندما بدهني بهذا السؤال:

- أين تقيم في جنوا؟

فعينت له فندقاً في ظاهر المدينة كنت أوثره على غيره لحديقته الرجيبة. . . أجابني بقوله:

- لسوف نفترق إذن. . . فإن هذا الفندق يرتبط في ذهني بذكرى مؤلمة جداً. . . وإني ليتلبسني اعتقاد باطل عسى بأن يجعلني أعزف عن الأماكن التي وقع فيها حادث مؤلم. . . حادث؟. . . إن الكلمة ضخمة. . . ومع هذا؟. . .

وانقضت فترة ثم استتلى:

أود أن أعرف ماذا كنت خليقا أن تصنع لو أنك كنت في مكاني؟. . . وسأتبدل بالأسماء الأصلية أسماء من عندي. . . هذا فضلا عن أنك لا تعرف أصلا أصحابها.!

. . . وأنشأ يسرد عليّ قصته فقال:

- كان ذلك منذ خمس سنوات. . . في زورتي الأولى لجنوا. . . وكنت حللت بهذا الفندق لنفس السبب الذي يدعوك إلى النزول فيه. وكنت قد زرت في نهاري القصور والكنائس وكل ما هو جدير بالزيارة في جنوا. . . وفي المساء بينما كنت جالساً في إحدى خمائل الفندق المذكور أقيد ملاحظاتي على انفعالاتي في يومي. . . إذ أرعدتني جلجلة صوت على قيد خطوات مني صادرة من الممشى الذي كانت تفصلني عنه شجرة فرعاء. . .

كانت ثمة امرأة تتكلم. . . حادسة أنه ليس من ينصت إليها. . . وكان ثمة رجل يمشي إلى جوارها.

وكانت العبارة التي انفرجت عنها شفتاها جداً مبتذلة توحي بأنها في ميعه الصبا وغضارة الشباب قالت:

- آه يا حبيبي العزيز. . . لم أكن أحلم بهذا. . . أن أكون هنا معك. . . أمام هذا البحر. .

ص: 49

وتحت هذه السماء. . . وهذه الساعات اللطيفة في انتظارنا. . ثماني عشرة ساعة إذا استقل القطار عند الظهيرة!

أجابها قائلا:

- وكذلك أنا. . . لم أكن آما أن تعدي حرة طليقة. . . ولكن فلنتنقل. . . ولنعد إلى الفندق. . . فالجناح أمين. . . ولست آمل أن يقابلنا هنا أحد!. . .

تساءلت قائلة:

- ومن إذن؟. . . أنه لأمر جميل للغاية أن أستأنف هذا الهواء. . . وأني أشهد غروب الشمس معك

قال:

- إنني أوثر مع ذلك أن أنفذ للفور فكرتي. . . وأن أتحقق من ثبت النزلاء حالما أصل إلى الفندق.

قالت في نبرة يكسوها العتاب الرقيق:

- أتأسف أن أنتهب هذه الدقائق الخمس. . . أوه. . . لو أنك خليص في حبك لي. . . لما تعلقت هكذا

قال ولكن يا حبيبي أنه من جراك أن أتحامى المضايقات بأي ثمن!.

تأوهت قائلة: ليكن ما يكون. . . سأكون جداً سعيدة حتى ليتساوى عندي كل شيء. . . أتسمع. . . كل شيء. . .

. . . وجازا بي دون أن يثبتاني. . . والآن لتحكم على طبيعة انفعالي ومداه. إذ عرفت في هذه العاشقة الهلوك - التي لم تقو على أن تتمالك نفسها من أن تصيت هكذا بسعادتها - زوج صديق من أعز أصدقائي على نفسي. . . وأقربهم إلى قلبي. . . وسأدعوه لسياق قصتي (شارل روتيه) وسأدعو زوجه (مرجريت) أما الشريك في هذه المقابلة التي نمت في هذا الفندق السادر في جنوا فكان مجهولا لي!.

ولتعلم كذلك أنني كنت ذهبت في صبيحة هذا اليوم إلى دار البريد طلباً لبريدي. . . فألفيت هناك رسالة من روتيه نفسها عليها خاتم بريد باريس - وذكر لي روتيه في رسالته أن ابنة عم لزوجه دعتها إلى رحلة قصير غايتها خمسة عشر يوماً تقضيها ترويحاً عن النفس في

ص: 50

فلورنسا وروما. . . وسمى لي إبنة العم هذه عرفاناً بالصنيع الجميل والسرور الذي أدخلته إلى قلب عزيزته مرجريت

. . . ولم يكن آل روتيه من السراة. . . بل كان شارل في مستهل حياته العملية كمحام. . . وقد أحرز نجاحاً. . . وأصاب صيتاً منذ عهد غير بعيد. . . وكانت إبنة العم على النقيض من ذلك. . . كانت تحصل على ربح يقدر بمائة ألف فرنك عرفت ذلك لأنني شهدت زواج شارك بوصفي شاهداً ثانيا. . . وكانت ابنة العم هذه هي نفسها التي منحتها في موكب الزفاف زراعي. . . مضى على ذلك الآن خمس سنوات. . . خمس سنوات صغيرة!. . .

. . . وكان العشيقان قد آبا منذ حين إلى فندق. . . ولا جرم أنها تناولا سوياً طعام العشاء في هذه المؤانسة الخطرة المسكرة. . .

ولو لم يكن روتيه صديقي الحميم لاستشعرت له الصخرية بديلا من الحزن. . . إذ أذكر الانهيار المريع لهذا الزوج البكر. . . على أن مجرد المفارقة بين مراسيم الزواج التي طافت ذكراها بذهني. وبين هذه المقابلة أفعمت نفسي بمرارة فذة! ولكن روتيه كان صديقي. . . وكان مسهبا بهذه السيدة التي بنت به على معارضة هينة من ذويها. . . وكنت أعرف أنه يكد ويكدح من أجلها. . . ومن أجل إسعادها. . . وأنه بعد إذ لم تنجب له طفلا بات ينتظره مقدمه في شغف وتطلع. . . تدبر هذا كله. . . تلم بالحصر والضيق اللذين دفع بي إليهما هذا الاكتشاف الفجائي!. . .

كانت هذه المرأة الزنبة تخون صديقي. . . فكم من الوقت استغرقته هذه الخيانة؟. . . وفي أي مكان التقت بهذا الفتى الذي لم أذكر أبداً أنني أثبته لديهم؟. وما الدور الذي لعبته ابنة العم؟. أكانت على اتفاق مع مرجريت أم أن هذه الأخيرة عرفت كيف تجد الوسيلة إلى مغافلتها كما غافلت شارل؟. وهل كان هذا هو اللقاء الأول للعاشقين أم قد سبقته لقاءات؟. ومن يدرينا أن هذا الطفل الذي كان صديقي يرقب بانفعال الأبوة الملهوفة مقدمه لم تتكون جرثومته هنا. في هذا الفندق أراه من خلل الأشجار الباسقة؟

فرضت هذه الأسئلة نفسها جملة على نفسي وتركزت في السؤال التالي؟.

- ما هو واجبي؟.

ص: 51

هناك حكمة هندية تعرفها أنت كما أعرفها أنا. . . تقول (لا ينبغي ألا تضرب المرأة ولا بزهرة). وفكرة البطولة التي تحويها الحكمة مطبوعة في أعمق كياننا بفضل وراثة عريقة. . . ومتأثراً بهذه الحكمة الغالية تساءلت قائلا:

- أواجبي أن أصمت. . . أن أصمت؟. . .

. . . وفي تأملاتي المطرقة رأيت شارل روتيه كما رأيته دواماً مذنبي بمرجريت. . . منحنياً فوق أكداس القضايا. . . فيتلقاني في مكتبه بهذه الكلمات. . .

- لقد تضاعف عملي فما أستطيع أن أنهض لمصافحتك. . . وتضاعفت كذلك ثروتنا الضيئلة. . . فقط لو كان ثمة في تبذل من أجله هذه الجهود. . .

ثم يبدي لي صفحة. . . غضتها التعب والأين وقد شاعت فيها ابتسامة سعيدة!. . .

هكذا بينا كان يجهد نفسه ويبهظ أعصابه في العمل ليحقق الترف لزوجه كانت هذه تعبث مع سواه!.

وتبدد النقود في الأصباغ لتتراءى جميلة في عين آخر!. هذه النقود التي اكتسبها بالعرق زوجها الكادح!. وأنا بعد الذي سمعته هل أسمح أن يستمر استغلال امرأة عابثة لهذا الزوج الشريف النبيل.؟. . . أأصمت. لئن فعلت ذلك لعد أشتراكاً في الجريمة!. وانثالت دفعة واحدة على ذهني ذكريات صداقتي الطويلة لشارل منذ إن كان صبياً في العاشرة إلى أن تخرجنا سوياً في كلية الحقوق!. هذه الزمالة والأخوة اللتان تربوان على ربع قرن ثارتا في كياني ضد هذا التواطؤ في الصمت لأنالصمت. . . معناه مساهمة في الجريمة. . . إذا ماذا لو علم شارل بخيانة مرجريت ثم أنبأني بهذه الخيانة؟ هل أجيبه إذ ذاك بقولي:

- إني أعرف كل شيء. . .! وإذا كان هو جوابي. . . أما يغضب مني لأني لم أنبهه. . . أنبهه؟. . . أأشي بامرأة. . . أهذا ممكن؟. . .

وبدا لي أن أكتب لصديقي. . . ولكن يتحطم القلم خير من أن يخط قصة خيانة الزوجة. . .؟ ولكن شعوري بأن الخيانة وقد كانت على قيد خطوات مني!. . . وفي اللحظة ذاتها التي كانت فيها مرجريت بين ذراعي عشيقها. . . ربما في حجرة مجاورة لحجرتي أضاف هذا إلى العراك الخلفي المحتدم في نفسي رعباً جثمانياً أوفى في على العذاب!. . .

وفي الصباح كان قد استقر رأيي على الصمت. . .! ولن أشي بمرجريت ولم يعلم شارك

ص: 52

شيئاً وسوف لا يكون في ذلك أول الأزواج المخدعون ولا آخرهم. . . إنه يتعبدها حباً ومعنى اطلاعي إياه على فاحشتها أنني أضع في قبضته سلاح الانتحار فالخير إذن في أن يظل جاهلا كل شيء. . . أما عن نفسي فقد أملت أن أنسى هذا الاكتشاف الذي ساقه إلى الاتفاق العجيب!. . . إن مرجريت روتيه لم ترني وهي تجهل أنني أعلم سرها وسوف تظل على جهلها أبداً.! وطبقاً لما قالته في ممشى الحديقة فإنها ستستقل قطار الظهر وإذ كان مفروضاً أن أستقل بدوري قطاراً في اتجاه مضاد فيما يقرب من موعد سفرها فقد أجمعت أمري على أن أرجئ رحيلي حتى لا أخاطر بمقابلتها. . .؟

غادرت الفندق في وقت مبكر جداً بعد هذه الليلة التي قضيتها وأنا مسهد أرق وقد حزمت رأيي على ألا أعود إلا في ساعة متأخرة عندما تكون مرجريت قد زايلت الفندق إلى المحطة ذلك أني آثرت ألا أراها!. وبعد أن مضيت على وجهي في طرقات المدينة دون قصد أو غاية أفضي بي المسير إلى (القصر الأحمر) فرأيت أن ألجه لأرى من جديد صور (فان ديك). . . ولك أن تحكم على انفعالي إذ تهادى إلى أذني من جديد في إحدى القاعات الهائلة لهذا المتحف المهجور الصوت الذي أقلقني أمس تحت أشجار الحديقة. . . كانت مرجريت هناك. . . وكانت تسأل فيجيبها صوت عرفت فيه صوت رفيق الليلة الماضية. . . وكنت لحظتئذ أتأمل صورة المركيزة باولا الشهيرة. وأحسست بهما يتهامسان. . . وفجأة سمعت وشوشة أعقبها تغيير في لهجة الخطاب ومجرى الحديث!. ذلك أن مرجريت رأتني وعرفتني. . . وليس شك في أنها أسرت لعاشقها هذه الكلمات:

- صديق لزوجي!

أكان ينبغي أن أعود أم كان ينبغي أن أحييها فأهبها بذلك فرصة تلمس المعاذير؟ وهنا أيضاً نزلت عند حكم السداد والحجا فتظاهرت بأني لم أحس وجودهما. وتلومت أتأمل الصورة وظهري إليهما. . . وبعد فقد انساب إلى صوت السيدة التعسة وهي تعلق على الصورة بكلام قصد إيهامي بأنها التقت بصاحبها في المتحف عرضاً. . . ثم كان أن زايد المكان سريعاً ورفيقها في إثرها!

وحاصل القول فإنني حينما تناءت عني خطوات مدام روتيه وخطوات صاحبها وشرعت أدرج في الطريق، رأيتني أقع فريسة لحالة وخز ضمير أتجاوز عن وصفها!. ذلك أنني

ص: 53

بتظاهري أني لم أر مرجريت أتحت لها أن تعلم كما لو كنت قد وجهت إليها القول صريحاً أنني أعتبرها مذنبة. وليس شك في أن أول عمل قام به الفتى عند عودته إلى الفندق أن راجع ثبت النزلاء واستجلى فيه اسمي عندئذ أدركا الحقيقة أدركا أنني لا مشاحة رأيتهما وهما يطرقن ممشى حديقة الفندق، ولهذا السبب فإنني لم أبد دهشة ما عندما رأيتها في دهليز (القصر الأحمر). . . أدركت زوجة شارل أنني عرفت لها خليلا. . . ولذلك فقد عراني رعب المشاركة في الجرم! على أنني لو كنت تقدمت منها وقلت:

أهذا أنت يا سيدتي؟. . . لقدمت إلى رفيقها زاعمة أنها ألقت إتقافاً به في جنوا ولكتبت إلى زوجها كما قد تظنني فاعلا!: ولكن الموقف يختلف الآن. . . إذ يبقى عليها أن تصمت تجاه شارل حتى لا يتعارض موقفها مع موقفي!.

وكان من أثر هذا الموقف أني بقيت أسبوعين دون أن أطلب من شارل أخباره أو أكتب له بأخباري وتلبثت كذلك أسبوعين عند عودتي إلى باريس فلم أقم بزيارته. . . وقد أدركت أن جفوتي هذه كانت عملا غير صواب كسلوكي في دهليز. القصر الأحمر)!

وفي يوم. بينما كنت في المنزل وحدي إذ أنباني خادم بأن سيدة تطلب مقابلتي فأذنت له باستقبالها. إذ ذاك اجتليت مرجريت روتيه بعينها تدلف إلى غرفة الاستقبال وبادرتني بقولها. لقد ضعت!

وأردفت فجأة كمعتوهة!

- إن الصدفة وضعت سري بين يديك فلم توش بي لدى شارل. . . وأعرف أنك صدفت عن زيارتنا لهذا السبب أيضا. . . ولكنك تحمل بين جنبك قلبا كبيرا وستشفق على إنسانة تعسة أكرر لك أنني ضعت.

وهكذا لم تعد بعد المشاركة السالبة في الجرم ما تطلبه الشقية مني. . . بل هي المشاركة الموجبة وكانت قد عادت من إيطاليا منذ أيام ثلاثة فحسب. . . وبآيات بينات أدركت أنها حامل لشهرها وينبغي أن أضيف إلى ما سلف أنها اعترفت لي أيضاً وهي تنشج بأنها منذ ظفرت بخليل وهي تتعلل باعتلال الصحة لتعيش بمنأى عن بعلها. وإذ أنذرتها هذه الأمومة بالخطر الداهم وكنت ثمة أنا الصديق الحميم الذي أكاد أن أكون لزوجها أخا لأقص ما شهدته عيناي وما سمعته أذناي فقد فكرت في الفرار مع حبيبها ثم عدلت به إلى الانتحار.

ص: 54

ولكن غريزة حب البقاء أطاحت بهذه الحافزة. وأخيرا لاذت بي في ارتباكها لأنني كنت محيطاً بسرها. وكما قالت لي لتتوسل بشفقتي إلى. إلى ماذا؟. آه. . . لقد رأيت إذ ذاك كم هو هش ورقيق وهو هش ورقيق هذا الحاجز الذي يفصلنا عن الجريمة! لقد فزعت إلى لأصحبها إلى طبيب لتسأله ماذا أيضا؟ مساعدة أثيمة ليوقف هذا الحم المفضوح.

أفي حاجة آنت لأن أقول كل بماذا أجبتها؟ لقد ضرعت إليها أن تعيش وألا تتعدى لا على أيامها. ولا على أيام الجنين الذي تحمله في أحشائها. . . وقلت لها في إصرار وعزم:

- أولى لك أن تعترفي لشارل بكل شيء. . . إنك لا محالة مثرية عنه وسيكون لديك ثروتك. . . وابنك ولن تعدمي سبيلا للطلاق وسوف تتخلى عنك هذه الوساوس الأبدية التي تلازمك كقاتلة. وأية قاتلة! وخرجت بعد أن أقسمت لي أنها لن تقدم لا على الانتحار ولا على الإجهاض.

وفي اليوم التالي كان قد تبدد من نفس كل تردد أقعدني عن العودة إلى زيارة شارل. وألفيتني لديه في الساعة العاشرة. وقد برهن لي احتفاؤه السعيد بي على أنه يرتاب في شيء من المأساة التي كان بيته مسرحها. وفي المساء تناولت لديه طعام العشاء إلى جانب الزوجة التي أعادت إلى ذكريات ذلك اليوم المشئوم.

ودرج شهر آخر. . . وقال لي شارل بينما كنت أتناول العشاء لديه.

- إنني جد سعيد يا صديقي. . . إن حلمي القديم بسبيل أن يتحقق. . . وأملي كبير في أن أغدو أبا. . . وستكون أنت الإشبين.

وفي أقل من ثمانية أشهر كانت مرجريت قد وضعت له طفلا وقد أعلن له الوالد المزعوم الكارثة بزهو قائلا:

- أجل يا صديقي. لقد قبل الموعد المألوف. . . في سبعة اشهر ونصف، أنه لأمر عجيب. . . وقد ساورني الخوف والقلق. . . ولكن الطبيب طمأنني وقد ظفرت مرجريت بعنوانه من قبيل الصدفة من إحدى صاحباتها عند عودتها من إيطاليا! بيني وبينك. . . لقد قاست طويلا وفقدت الأمل في أن أغدو أبا. . . مرة أخرى. . . أنا جد سعيد!!

وإذ كان يتحدث إلى. . . كنت أشعر بالخور والخزي فقد أيقنت أن مرجريت روتيه حالما خرجت من عندي مضت إلى أحد الأطباء وحدثته برغبتها في الإجهاض، فنصحها بأن

ص: 55

تعود إلى زوجها. . . وتغريه! حتى إذا اقترب موعد الوضع أقنعته بقبول هذا التبكير فيه. . . وبعد فإن هذا أمر محتمل!

أكنت مصيباً أم مخطئاً أنني عدوت وجه الصواب في تراخي عن الحديث؟ أكنت مصيباً أم مخطئاً في صمتي الآن؟ أكنت مصيباً أم مخطئاً عندما أمسكت الطفل على جرن المعمودية. . . هذا الطفل الذي كنت أعلم حقيقة أبوته؟

. . . ومهما يكن من شيء فقد وجدت أمه في اقل من ستة أشهر من مولده الوسيلة للإيقاع بيني وبين شارل. . . ولم أحاول من جانبي أن أحول دون هذه الوقيعة لأن اختلافي إلى هذا المنزل كان قد غدا أمراً شاقاً على نفسي!

وأظنك عرفت الآن لم لن أرافقك إلى فندق (. .) في جنوا. . .

أينبغي أن أعترف بدوري بأنني مشاركة مني في عواطفي لأدم ريمون لم أنزل هذه المرأة في فندق (. .). . وطالما سألت نفسي ماذا كان ينبغي أن يكون سلوكي فيما لو كنت في مكانه كما طلب مني.؟ إن هذا الصمت بالقياس إلى صديق حميم لهو جريمة. . . والكلام أمر بالغ القساوة. . . هو هذا البرهان على أنه ينبغي دائماً أن نتجاهل بعض الأسرار! فإن ارشد جانب في الحياة أن يغمض الإنسان عينيه. . ويصم أذنيه حتى لا يدرك أخطاء الغير. . . هذه هي الطريقة الوحيدة كيما نعيش في الحياة نقيين وهي ليست بالطريقة السهلة دائما. . .

كمال رستم

ص: 56