المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 89 - بتاريخ: 18 - 03 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ٨٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 89

- بتاريخ: 18 - 03 - 1935

ص: -1

‌بلاد الشكوى!

للأستاذ عبد العزيز البشري

لقد تحدثك نفسك يوماً بأن تتعرف الصفة التي تميّز مصر من بين بلاد العالم، والتي إذا أُطلقت انطلقت من فورها إليها دون أقطار الأرض جميعا. وإن مما لا يعتريه الشك أنه ما من أمة إلا ولها خاصية تستقل بها عن كل ما عداها من الأمم، لا يشركها فيها غيرها ولا يتصف بها سواها، وهذه الخاصية لقد تتصل بالأخلاق والعادات والتقاليد، ولقد تتصل بالتأريخ، ولقد تتعلق بالتصرف في سبب من أسباب الحياة، أو بالاستئثار والتبريز في فن من الفنون، أو بغير ذلك من وجوه الفروق المختلفة بين أصناف الناس فإذا قدر المستحيل، أو قدر النادر الذي يجاور المستحيل، ولم تتفرد إحدى الأمم بما يشخصها من تلك الأسباب الكثيرة، فلا أقل من أن تختص في طبيعة أرضها وسمائها، وجوهها ومناخها، بما يحقق لها هذا المعنى حتى يتسق لها هذا الوجود الخاص فلا تختلط بغيرها من العالمين. وتلك من سنن الكون التي لا ينشز عليها خلق من الكائنات أبدا!

ونعود فنفرض أنه لقد تحدثك نفسك بتعرف هده الخاصية التي تتفرد بها مصر دون سائر أمم الأرض. ولعل أول ما ينحط عليه ظنك أنها بلاد زراعية طوعاً لسخاء أرضها بألوان الغلات، ومهارة سواد سكانها في فنون الزراعة وفلح الأرض وحسن تعهدها، واستنباتها على خير الوجوه. إلى أن أهلها، في الجملة، لا يتكئون على سبب من أسباب العيش التي يتكئ عليها كثير غيرهم، كالتجارة، والصناعة، وصيد البحر أو البر، فإذا هي عالجت شيئاً من هذا فإنما تعالجه بالقدر الذي ينتظمها في مؤخرات الصفوف! إذا ميزتها بأنها أمة زراعية، فالأمم الزراعية في العالم كثير!

ثم إنها ليس لها حظ مذكور من علم، ولا من فن، ولا من قوة بدنية، ولا من امتياز في كفاية حربية، ولعل هذا يرجع إلى ظروفها التي لا خيار لها فيها لا إلى طبيعة أبنائها، فالمصريّ معروف بالشجاعة في الحرب، وطول الصبر فيها، وشدة الجلد عليها من قديم الزمان. ومهما يكن من شئ فليس لمصر الآن حظ مذكور في شيء من تلك الأشياء، فضلاً عن أن يكون لها به تفرّد واستئثار، بحيث إذا أطلقت صفته عرف الناس أن مصر هي المقصود به دون سائر البلاد.

ص: 1

ولقد تطلب هذه المزية في تاريخ مصر القديم، وحضارتها التالدة، وما سلف لها من مجد ما برح يثقل مناكب التاريخ. ألا فاعلم أن مصر لا تستأثر بهذا ولا تستقل به، فهذه الصين لها حضارة لعلها اقدم من حضارة مصر، وهذه أمة اليونان وما أدراك ما حضارة اليونان، وعلومها، وفلسفتها، وفنونها، وعظمتها الحربية. ومجدها الذي طاول السماء. فانظر إلى ما صارت عليه الآن، وكيف تغّير لها وجه الزمان!

وهذه أمم قد كانت لها حضارات فخمة، وكانت لها قوة لا تعد لها قوة، وسطوة في أمم الأرض دونها كل سطوة، فدارت عليها رحى الزمان حتى طحنتها طحناً، وأحالتها في الخلق عِهنا، ثم ذرتها في الهواء، ولم يصبح لها من الآثار، إلاّ ما قيدت الصحف من مأثور الأخبار. وأين منا الآن فينيقيا وأشور وبابل وغيرها من دول لم يدرك شأنها شان، ولم يدان سلطانها في الأرض سلطان!. ومهما يكن من شيء فالوصف بعظمة الماضي، وجلالة التاريخ، وفخامة المجد التليد، ليس مما يجدي المصريين في هذا الباب ولا يفيد!

أرجوك يا سيدي الطلعة إلا تجهد بطول البحث والتحري، وشدة الفحص والتقري، فانك، في الغاية، لن تخرج بشيء من هذه المظان التي ترجو أن توافقك فيها طلبتك، ولن تصيب لمصر في هذه الأيام من الصفات ما يقع عليها على جهة التعيين، ولو فتشت نجوم السماء، ونقضت كل ما على ظهر الأرض من الحصباء!

على أنني متبرع، لوجه الفضول وشهوة التطلع، بان أهديك إلى الخلة التي تختص بها مصر في هذا الزمان وتستأثر، بحيث لا يشاركها فيها مشارك، ولا ينازعها عليها منازع. وبحيث لو حشُرت الخلائق كلها في صعيد واحد؛ وبعث معهم كل من لحقهم الدثور، وجميع من غيبتهم القبور، ومن نهشتهم وحوش البر، وسباع الطير، والتقمتهم الحيتان في جوف البحر، من مهلك عاد وثمود؛ ومقتل أصحاب الخدود، وصحت فيهم أي الأمم ألان صفتها كيت؟ لأجابوك في نفس واحد: هي مصر!

وهذه الخلة التي تمتاز بها مصر اليوم وتنفرد دون سائر أمم

الأرض جميعا هي الشكوى! نعم هي الشكوى!. وإنني أتحدى

من شاء، وأخاطر من شاء على ما شاء، إذا زعم أن هناك أمة

ص: 2

أشكى من مصر، أو أن هناك خلقاً من خلق الله يشكون بنسبة

18000000 مما يشكو المصريون!

كل هيأة في مصر تشكو، وكل طائفة فيها تشكو، وكل جماعة تشكو، وكل فرد يشكو. ما تنقطع لأحد من هؤلاء شكوى ما عاقب الليل النهار، حتى لو قيض لعالم مخترع مثل السنيور مركوني أن يحيل جميع المصريين إلى معنى من المعاني، لاستحالوا إلى شكوى يطن في الآفاق طنينها، ويئن في الأجواء أنينها، حتى لو كان ملائكة السماء خلفاً مثلنا، يجري عليهم ما يجري علينا من الضجر والقلق، ويدركهم ما يدركنا من السهر والأرق، لقضوا من شدة هتاف شكوانا آلاف الأعوام لا تذوق جفونهم الغمض ولا يزور عيونهم المنام!. ولكنهم، لحسن حظهم، أيقاظ على الدهر، ما يهفو بهم التعب إلى ضجعة، ولا يضطرهم النصب إلى هجعة! لا ترى أحداً في مصر إلا يشكو، ولا تنقطع له شكوى على الزمان: هؤلاء الموظفون! أرأيتهم قد انقطعوا يوماً واحداً عن شكواهم، وبث مظلمتهم وعظيم بلواهم؟. الدرجات الدرجات!. العلاوات العلاوات!. الترقيات الترقيات!. ارفعي يا حكومة ما حل بنا من حيف، فقد حبست عنا علاوات الشتاء! وأبطأت علينا في علاوات الصيف!

وهؤلاء الحجاب والسعاة، لا تراهم يدعون كل يوم إلا بالويل والثبور، وعظائم الأمور، لأنهم أكثر خدام الحكومة تعباً، وأحقرهم مرتباً، وهيهات أن تفي بضعة الجنيهات، بما يزحمهم من وجوه المطالب في وجوه الحاجات، وقد أثقلتهم النفقة على الأهل والولد، بعد ما عم الغلاء هذا البلد، ولو كانت الحكومة على شيء من الإنصاف، لزادت مرتباتهم أضعافاً على أضعاف!

وهؤلاء رجال البوليس لا يفتأون يشكون الظلم اللاحق، والجور الحائق، فأعمالهم ثقيلة، ومهماتهم جليلة، ومع هذا فمرتباتهم قليلة، وعلاواتهم ضئيلة، ودرجاتهم هزيلة. والترقية إلى الدرجات مما يحتاج إلى طي الأحقاب، ودون ذلك مشيب الرجل بل مشيب الغراب! وهذا والله ما لا ينبغي أن يعامل به حفظة النظام، ومن يضحون برحتهم وأرواحهم في إقرار الأمن والسلام:

ص: 3

أما معاونو الإدارة، فلا تسكن لهم شكوى. تارة بتقديم (العرائض) وعلى ألسنة الصحف تارة!

ورجال القضاء أهليه وشرعيه، لا يفترون عن المطالبة بتعديل (كادر) الدرجات، وتحسين نظام العلاوات، حتى يتسق ما يتقاضون من الرواتب، لما يتقلدون من رفيع المناصب، ولا شك أن من أشد الإجحاف، أن تسوم الظلم من تقتضيه القيام على العدل والإنصاف

وهؤلاء حملة الشهادات ممن لم تستخدمهم الحكومة في مناصبها، هيهات أن تبطل لهم شكاية، أو تفتر لهم دعاية؛ فإذا استخدموا استأنفوا الشكوى من قلة الراتب، وسألوا الحكومة أن تمنحهم من الدرجات، ما يكافئ ما أحرزوا من عليا الشهادات!

أما المعلمون في التعليم الأولي بجميع ضروبه وأشكاله وألوانه، فهؤلاء لا ينقطع لشكاياتهم مدد، ولا يحصيه عدد، فهم كل يوم يمطرون المعارف (بالعرائض) إمطاراً، ويرسلون منها على الصحف وابلاً مدراراً. حتى أضحى المرء لا يشق صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية، أو شهرية، إلا رأي الشكايات تنفذ إليها من أقطارها، وتجري في جميع أنهارها، وحتى اصبح خلو صحيفة واحدة من ذلك مما يثير الريب ويدعو إلى اعجب العجب!

هذا بعض ما يكون من الموظفين، أما التلاميذ وأولياء التلاميذ، ففي كل يوم شكوى من ضيق المدارس بالوافدين، ومن المصروفات المدرسية، ومن رسوم الامتحانات العامة، ومن صعوبة أسئلة الامتحان، ومن الدرجات التي تشترط للدخول في امتحانات الملاحق، وهكذا مما لا يبرح يطن في الآذان ما تعاقب المَلَوان، وطويت صحائف الزمان!

والأهلون الأهلون! لا ترى بلد في بلاد القطر كله إلا يشكو بعض أهله على الأقل، من عمدته، ويسرف في اتهامه بالظلم والجور، وإيثاره الهوى في معاملة الناس، وغفلته عن صيانة الأمن، ومصانعته لسراق الليل. وهكذا. فإذا لم تنفذ التهم إليه من أي باب، طلبوا إزالته لأنه (فقد النصاب)! وحسبك أن تزور يوماً وزارة الداخلية لترى من هذه العجب العجاب!

وهذا النيل إذا أقبل، فهل تسمع من أي بلد إلا موجع الشكوى. من احتباس الماء عن الأرض حتى عم الشرق، أو أن الماء طغى على الزرع حتى غمر الساق والورق!

وهؤلاء الأزواج يشكون الزوجات، وهؤلياء الزوجات لا ينين عن شكاية الأزواج، وهؤلاء

ص: 4

أباء يقاضون الأبناء، وأبناء يستعدون للقضاء على الأباء!. وحسبك أن تطوف يوماً في بعض محاكم الشرع لتستيقن أن الحياة العائلية في هذه البلاد قد تصدعت أركانها، وتداعى بنيانها، وأنها عما قليل ستحور أطلالاً بالية، وأنقاضا من بنايات الأمم الخالية!. ولا تنس الأحزاب واتهامها حكومات بسوء الحكم وخلف الوعود، وشكوى الحكومات مما يقابل به ما تبذل من الجهود من نكران وشدة الجحود! ولو قد ذهبت أسرد لك جملة الشاكين والشاكيات، والباكين على سوء حالهم والباكيات، لما اتسعت صحائف (الرسالة)، لاستيعاب هذه المقالة.

ومهما يكن من أمر، فلعلك قد اقتنعت الآن بأن اصدق وصف لمصر في هذا العصر، وان أدق تعريف ينطبق عليها دون سائر الأمم هي أنها بلاد الشكوى!

ولعلنا نوفق قريباً إلى إتمام المقال، بالبحث عن علة هذه الحال.

ص: 5

‌عروس تزف إلى قبرها

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

- 1 -

كان عمرها طاقة أزهار تسمى أياماً

كان عمرها طاقة أزهار ينتسق فيه اليوم بعد اليوم كما تنبت الورقة الناعمة في الزهرة إلى ورقة ناعمة مثلها

أيام الصبى المرحة حتى في أحزانها وهمومها؛ إذ كان مجيئها من الزمن الذي خص بشباب القلب، تبدو الأشياء في مجاري أحكامها كالمسحورة؛ فان كانت مفرحةً جاءت حاملةً فرحين، وإن كانت محزنةً جاءت بنصف الحزن.

تلك الأيام التي تعمل فيها الطبيعة لشباب الجسم بقوىً مختلفة، منها الشمس والهواء والحركة، ومنها الفرح والنسيان والأحلام!

وشبت العذراء وأفرغت في قالب الأنوثة الشمسي القمري، واكتسى وجهها ديباجةً من الزهر الغض، أودعتها الطبيعة سرها النسائي الذي يجعل العذراء فن جمالٍ لأنها فن حياةٍ وجعلتها تمثالاً للظرف؛ وما اعجب سحر الطبيعة عندما تجمل العذراء بظرف كظرف الأطفال الذين ستلدهم من بعد! وأسبغت عليها معاني الرقة والحنان وجمال النفس؛ وما أكرم يد الطبيعة عندما تمهر العذراء من هذه الصفات مهرها الإنساني!

وخطبت العذراء لزوجها، وعقد له عليها في اليوم الثالث من شهر مارس في الساعة الخامسة بعد الظهر، وماتت عذراء بعد ثلاث سنين، وأنزلت إلى قبرها في اليوم الثالث من شهر مارس في الساعة الخامسة بعد الظهر! وكانت السنوات الثلاث عمر قلبٍ يقطعه المرض، وينتظرون به العرس، وينتظر بنفسه الرمس! يا عجائب القدر! أذاك لحن موسيقي لأنينٍ استمر ثلاث سنواتٍ، فجاء آخره موزوناً بأوله في ضبطٍ ودقة؟

أكانت تلك العذراء تحمل سراً عظيماً سيغير الدنيا، فردت الدنيا عليها يوم التهنئة والابتسام والزينة - وهو يوم الولولة والدموع والكفن؟

- 2 -

ص: 6

واهاً لك أيها الزمن! من الذي يفهمك وأنت مدة أقدار؟ واليوم الواحد على الدنيا هو أيام مختلفة بعدد أهل الدنيا جميعاً، وبهذا يعود لكل مخلوقٍ سر يومه، كما أن لكل مخلوقٍ سر روحه، وليس إليه لا هذا ولا هذا

وفي اليوم الزمني الواحد أربعمائة مليون يوم إنساني على الأرض! ومع ذلك يحصيه عقل الإنسان أربعا وعشرين ساعة؛ يا للغباوة. . .!

وكل إنسان لا يتعلق من الحياة إلا بالشعاع الذي يضيء المكان المظلم في قلبه. والشمس بما طلعت عليه لا تستطيع أن تنير القلب الذي لا يضيئه إلا وجه محبوب

وفي الحياة أشياء مكذوبة تكبر الدنيا وتصغر النفس، وفي الحياة أشياء حقيقية تعظم بالنفس وتصغر بالدنيا؛ وذهب الأرض كله فقر مدقع حين تكون المعاملة مع القلب

أيتها الدنيا؛ هذا تحقيرك الإلهي إذا أكبرك الإنسان!

ويا عجبا لأهل السوء المغترين بحياة لابد أن تنتهي! فماذا يرتقبون إلا أن تنتهي؟ حياة عجيبة غامضة؛ وهل اعجب واغمض من أن يكون انتهاء الإنسان إلى آخرها هو أول فكره في حقيقتها؟

فعندما تحين الدقائق المعدودة التي لا ترقمها الساعة ولكن يرقمها صدر المحتضر. . . عندما يكون ملك الملوك جميعاً كالتراب لا يشترى شيئاً البتة. . .

. . . ماذا يكون أيها المجرم بعد ما تقترف الجناية، ويقوم عليك الدليل، وترى حولك الجند والقضاة، وأمامك الشريعة والعدل؟

أعمالنا في الحياة هي وحدها الحياة، لا أعمارنا ولا حظوظنا. ولا قيمة المال، أو الجاه، أو العافية، أو هي معاً - إذا سلب صاحبها الأمن والقرار! والآمن في الدنيا من لم تكن وراءه جريمة لا تزال تجري وراءه. والسعيد في الآخرة من لم تكن له جريمة تطارده وهو في السموات

كيف يمكن أن تخدع الآلة صاحبها وفيها (العداد)، ما تتحرك من حركة إلا أشعرته فعدها؟ وكيف يمكن أن يكذب الإنسان ربه وفيه القلب؛ ما يعمل من عمل إلا أشعره فعده؟

- 3 -

ص: 7

ورأيت العروس قبل موتها بأيام

أفرأيت أنت الغنى عندما يدبر عن إنسان ليترك له الحسرة والذكرى الأليمة! أرأيت الحقائق الجميلة تذهب عن أهلها فلا تترك لهم إلا الأحلام بها؟ ما اتعب الإنسان حين تتحول الحياة عن جسمه إلى الإقامة في فكره!

وما هي الهموم والأمراض؟ هي القبر يستبطئ صاحبه أحياناً فينفض في بعض أيامه شيئاً من ترابه. . .!

رأيت العروس قبل موتها بأيام، فيالله من أسرار الموت ورهبتها! فرغ جسمها كما فرغت عندها الأشياء من معانيها! وتخلى هذا الجسم عن مكانه للروح، تظهر لأهلها وتقف بينهم وقفة الوداع!

وتحول الزمن إلى فكر المريضة؛ فلم تعد تعيش في نهار وليل، بل في فكرٍ مضيء أو فكر مظلم!

يا إلهي، ما هذا الجسم المهدم المقبل على الآخرة؛ أو تمثال بطل تعبيره، أم تمثال بدأ تعبيره؟

لقد وثقت أنه الموت، فكان فكرها الإلهي هو الذي يتكلم؛ وكان وجهها كوجه العابد؛ عليه طيف الصلاة ونورها. والروح الإنسانية متى عبرت لا تعبر إلا بالوجه

ولها ابتسامة غريبة الجمال، إذ هي ابتسامة آلامٍ أيقنت أنها موشكة أن تنتهي! ابتسامة روح لها مثل فرح السجين قد رأى سجانه واقفاً في يده الساعة، يرقب الدقيقة والثانية ليقول له:(انطلق!)

ودخلت أعودها فرأت كأنني آتٍ من الدنيا. . .! وتنسمت مني هواء الحياة، كأنني حديقة لا شخص!

ومن غير المريض المدنف، يعرف أن الدنيا كلمة ليس لها معنى أبداً إلا العافية؟ من غير المريض المشفى على الموت، يعيش بقلوب الناس الذين حوله لا بقلبه؟

تلك الحالة لا تنفع فيها الشمس ولا الهواء ولا الطبيعة الجميلة، ويقوم مقام جميعها للمريض أهله وأحباؤه!

وكان ذووها من رهبة القدر الداني كأنهم أسرى حربٍ اجلسوا تحت جدارٍ يريد أن ينقض!

ص: 8

وكانت قلوبهم من فزعهاتنبض نبضاً مثل ضربات المعاول.

وباقتراب الحبيب المحتضر من المجهول، يصبح من يحبه في مجهولٍ آخر فتختلط عليه الحياة بالموت، ويعود في مثل حيرة المجنون حين يمسك بيده الظل المتحرك ليمنعه أن يذهب! وتعروه في ساعة واحدة كآبة عمرٍ كاملٍ، تهيئ له جلال الحس الذي يشهد به جلال الموت!

وحانت ساعة ما لا يفهم، ساعة كل شيء، وهي ساعة اللاشيء في العقل الإنساني! فالتفت العروس لأبيها تقول:(لا تحزن يا أبي. . .) ولأمها تقول: (لا تحزني يا أمي. . .!)

وتبسمت للدموع كأنما تحاول أن تكلمها هي أيضاً؛ تقول لها: (لا تبكي. . .!) وأشفقت على أحيائها وهي تموت، فاستجمعت روحها ليبقى وجهها حياً من أجلهم بضع دقائق! وقالت:(سأغادركم مبتسمة فعيشوا مبتسمين، سأترك تذكاري بينكم تذكار عروس!. . .)

ثم ذكرت الله وذكرتهم به، وقالت:(أشهد أن لا إله إلا الله) وكررتها عشراً! وتملأت روحها بالكلمة التي فيها نور السموات والأرض، ونطقت من حقيقة قلبها بالاسم الأعظم الذي يجعل النفس منيرة تتلألأ حتى وهي في أحزانها

ثم استقبلت خالق الرحمة في الآباء والأمهات! وفي مثل إشارة وداع من مسافر انبعث به القطار، ألقت إليهم تحية من ابتسامتها، وأسلمت الروح!

- 4 -

يا لعجائب القدر! مشينا في جنازة العروس التي تزف إلى قبرها طاهرةً كالطفلة ولم يبارك لها أحد! فما جاوزنا الدار إلا قليلاً حتى أبصرت على حائطٍ في الطريق، إعلاناً قديماً بالخط الكبير الذي يصيح للأعين؛ إعلاناً قديماً عن رواية هذا هو اسمها:(مبروك. . .!)

واخترقنا المدينة وأنا أنظر وأتقصى، فلم أر هذا الإعلان مرة أخرى! واخترقنا المدينة كلها، فلما انقطع العمران وأشرفنا على المقبرة، إذا آخر حائط عليه الإعلان:(مبروك. . .!)

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 9

‌صفحات من الدبلماسية الإسلامية

السفارات الخلافية والسلطانية وعلائق الإسلام والنصرانية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تتمة

لما تولى المعتصم الخلافة عقب وفاة أخيه المأمون، حاول قيصر قسطنطينية الإمبراطور تيوفيلوس (توفيل) أن يعقد الهدنة والصلح مع المسلمين، فأوفد إلى المعتصم سفارة على رأسها يوحنا النحوي. وكان يوحنا من أعظم علماء عصره، يجيد العربية، فقصد إلى بغداد يحمل أنفس الهدايا والتحف، وأنزل بأحد قصور الخلافة؛ وأدهش البلاط برائع بذخه، وما نثر حوله من مظاهر الفخامة والترف. وتعرض لنا الرواية البيزنطية قصصاً عجيبة عن بذخ يوحنا وفخامته. وكان لهذه السفارة غاية مزدوجة: الأولى أن تعقد بين الخليفة والقيصر معاهدة سلام دائم؛ والثانية أن يعمل السفير على إقناع منويل، وهو قائد بيزنطي يلوذ ببلاط الخليفة، بالعودة إلى قسطنطينية. فأفلح السفير في تحقيق الثانية، ولم يفلح في تحقيق الأولى؛ ولكن المعتصم رأى أن يجامل القيصر بالإفراج عن مائة من الأسرى النصارى. وعلى أثر هذا الفشل في عقد الصلح، زحف الإمبراطور على أراضى المسلمين، وغزا زبطرة من معاقل الحدود الإسلامية، وكان الروم يزعمون أنها مسقط رأس المعتصم؛ فاستولى عليها واستباحها وأنزل بسكانها المسلمين رائع الإثم والسفك؛ وتروي التواريخ البيزنطية أن المعتصم لما علم بزحف الروم على زبطرة، أرسل إلى الإمبراطور سفارة يرجوه فيها أن يفر المدينة العيث والسفك فأبى تيوفيلوس وارتكب فيها ما ارتكب، وهدمها حتى صارت قاعا صفصفاً

عندئذ قرر المعتصم الحرب وأقسم بالانتقام وسار إلى أراضي الروم في جيش ضخم، وقصد إلى عمورية (أموريوم) أجل وأمنع مدن الروم في آسيا الصغرى؛ فهاجمها مراراً، ولكن الروم دافعوا عنها دفاعاً شديداً، فضرب حولها الحصار، واعتزم ألا يغادرها حتى تسقط في يده. عندئذ اضطر الإمبراطور أن يسعى إلى طلب الصلح، وأرسل بدوره سفارة إلى المعتصم، على يد أسقف عمورية وكبرائها، فأعلن المعتصم أنه لن يعقد الصلح، ولن

ص: 11

يمنح شروطاً للتسليم، وأن الانتقام هو غايته واعتقل السفراء، فاستمر الحصار خمسة وخمسين يوماً، ثم سقطت المدينة في يد المسلمين، وأبدى المعتصم، كما أبدى تيوفيلوس من قبل منتهى الشدة والقسوة ففتك بالنصارى فتكاً ذريعاً، واسترق الناجون من الموت، وأحرقت عمورية حتى غدت أطلالاً، وهدمت حصونها وأسوارها؛ ثم أطلق المعتصم سفراء الإمبراطور بعد أن احتجزهم ليشهدوا ظفره، وردهم إليه بهذا الجواب! (نبئوا سيدكم بأني أديت دين زبطرة) وكان ذلك سنة 223 هـ (838م)

واستمر الصراع وتبادل الغزو بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية مدى قرن آخر. وفي عهد الإمبراطور قسطنطين السابع الذي حكم طفلاً تحت وصاية أمه الإمبراطورة زوي كاربوبسينا، أرسل بلاط قسطنطينية إلى الخليفة المقتدر بالله سفارة في طلب المهادنة وتنظيم الفداء. وتصف لنا الرواية الإسلامية حوادث هذه السفارة، فتقول لنا إن سفيري ملك الروم وصلا إلى بغداد في المحرم سنة 305هـ (917م)، فاستقبلا بترحاب وإكرام، ودخلا على الوزير في أفخم حفل ونظام، وقد اصطف حوله الجند في أتم سلاح وزينة، وأديا رسالة قيصر، ثم أخذا إلى الخليفة المقتدر فاستقبلهما ومن حوله الوزراء والقادة والجند في أروع زينة وأبهة وأديا رسالتهما، فأجابهما الخليفة إلى ما طلب قيصر من تنظيم الفداء، وسير خادمه مؤنساً ليحضر الفداء وعينه أميراً على كل بلد يدخله فيتصرف فيه على ما يريد حتى يغادره، وسير معه قوة من الجند، وزوده بمائة ألف وعشرين ألف دينار لافتداء الأسرى المسلمين، فقام مؤنس بالمهمة وافتدى آلافاً من الأسرى وكانت مسألة الفداء مبعث طائفة من السفرات التي تبودلت بين الدولتين خلال القرن الثالث الهجري، وطائفة من المعاهدات السلمية التي عقدت بينهما

وفي عهد الإمبراطورة زوى أيضاً بعث حاكم كلابريا (قلوريه) البيزنطي رسله إلى خليفة أفريقية الفاطمي (عبيد الله الشيعي)؛ وعقدت بين الفريقين معاهدة تعهدت بها الحكومة البيزنطية أن تؤدي إلى الخليفة الفاطمي جزية سنوية كبيرة، نظير تعهده بحمل أمراء صقلية المسلمين على وقف الحرب والغزوات المستمرة في قلورية، واستمرت هذه المعاهدة مدى حين. وان كانت الجزية قد أنقصت خلال ذلك

ولنترك الآن علائق الدولتين العباسية والبيزنطية لنتحدث عن نواح أخرى من علائق

ص: 12

الإسلام والنصرانية، والسفارات التي تبودلت بينهما

لما قامت الخلافة الفاطمية بمصر، غدت مصر منذ أواخر القرن الرابع، قوة إسلامية جديدة تشترك في قيادة الإسلام وتوجيهه في المشرق. ولم تكن مصر قبل ذلك مركزاً هاماً للتجاذب السياسي بين الإسلام والنصرانية، لأنها لم تكن أكثر من ولاية خلافية أو دولة ثانوية تظللها الخلافة العباسية بسلطانها الروحي. على أنه كانت ثمة علائق مستقلة في هذا العصر بينها وبين الدولة البيزنطية زعيمة النصرانية في المشرق. وأشهر ما انتهى إلينا من أخبار الحوادث الدبلوماسية بين الدولتين في تلك الفترة سفارة الإمبراطور رومانوس الأول (ارمانوس) قيصر قسطنطينية إلى محمد بن طغج الإخشيد صاحب مصر (323 - 334هـ)، ورد الإخشيد على هذه السفارة. وحمل كتاب الإمبراطور إلى الإخشيد رسولاه نقولا وإسحاق، وفيه يطلب الإمبراطور تنظيم مسألة الفداء، وتسهيل المعاملات التجارية لرسله في البيع والشراء، وعقد الصداقة المتبادلة بين الدولتين، غير أن الإمبراطور يمن في نفس الوقت على الإخشيد بأن تنازل لمكاتبته مباشرة، لأن مقامه كقيصر الدولة الشرقية يحتم عليه ألا يكاتب من هو دون الخليفة، ولكنه مع ذلك قد خص الإخشيد بالمكاتبة لما نمى إليه من رفيع مكانته وحميد سيرته وفيض عدالته ورحمته. وقد رد الإخشيد على رسالة الإمبراطور بكتاب شهير من إنشاء إبراهيم بن عبد الله النجيرمي، وانتهت إلينا صورته بأكملها. وفيه يرد الإخشيد على رومانوس بالشكر على ما أسبغ عليه من حمد ومديح، ويقول: إنه مهما تكن منزلة ملك الروم فانه لا يرى بأساً أن يكتب إليه، وقد كتب من قبل إلى أقرانه ممن لا يرتفع إلى منزلته، فقد كتب القياصرة من قبل إلى خمارويه أحمد بن طولون، والى تكين مولى الخليفة وحاكم مصر وحدها؛ وينوه الإخشيد بأهمية مكانته وضخامة ملكه وما لمصر من غابر الزمن من ملك باذخ، وأنه يحكم الشام وفلسطين إلى جانب مصر، ويشرف على مكة منبع الإسلام، ومدينة الرسول؛ وأنه لم يكن يحب أن يثير في ذلك جدلاً أو ملاحظة لولا ما تقدم به الإمبراطور. ثم يعبر الإخشيد عن حمده وثنائه للإمبراطور لما يبديه نحو الأسرى المسلمين من الرفق والرعاية، ويصرح بإجابته إلى ما طلبه من تنظيم الفداء ومبادلة الأسرى، ومن عقد الصداقة المتبادلة، ومن تسهيل المعاملات التجارية لرسله التجاريين، وقد صيغت هذه الرسالة الشهيرة في أسلوب سياسي

ص: 13

بديع يجمع بين حزم المخاطبة، ورقة المجاملة. وفي صيغتها ومحتوياتها ما يلقي ضياء كبيراً على طبيعة العلائق بين مصر الإسلامية والدولة البيزنطية في أوائل القرن الرابع الهجري (أوائل القرن العاشر الميلادي)

وكانت الدولة الفاطمية خصيمة الدولة العباسية تنازعها زعامة الإسلام في المشرق؛ وكانت السياسة البيزنطية تتجه يومئذ إلى الضرب بين الدول الإسلامية المختلفة والاستفادة من تنازعها وتنافسها؛ فلما تضاءل سلطان الدولة العباسية، وبرز سلطان السلاجقة في المشرق، اهتمت الدولة البيزنطية بمقاومة هذا الخطر الجديد ومصانعته، وعملت على أن تكون محوراً للتجاذب السياسي بين هذه القوى الإسلامية المختلفة. وقد وقع بين مصر وقسطنطينية في منتصف القرن الخامس، حادث سياسي شهير يوضح لنا طبيعة هذا التجاذب، هو سفارة المستنصر بالله الفاطمي لبلاط قسطنطينية وما كان من أدوارها ونتائجها. ففي سنة 446هـ (1053م) أيام الخليفة المستنصر بالله نكبت مصر بوباء ذريع استطال مدى أعوام؛ واقترن الوباء بغلاء وقحط شديدين، وأصيبت مصر بصنوف مروعة من الدمار والفوضى. وتعرف هذه النكبة في تاريخ مصر (بالشدة العظمى). فأرسل المستنصر بالله (سنة 446هـ) إلى قسطنطين إمبراطور قسطنطينية يطلب منه العون، وأن يمده بالغلال والأقوات، ورأت السياسة البيزنطية في ذلك فرصة سائحة لتحسين مركزها وعلائقها مع مصر، التي كانت تهددها من البر والبحر، فلبى الإمبراطور الدعوى، وتم الاتفاق على بذل العون المطلوب؛ ولكن قسطنطين توفي قبل تنفيذه، وخلفته على العرش الإمبرطورة تيودورا، واشترطت لمعونة مصر شروطاً أباها المستنصر، واشتبك الفريقان في معارك شديدة في البر والبحر. وفي سنة 447هـ، أرسل المستنصر سفيراً إلى تيودورا هو القاضي أبو عبد الله القضاعي ليحاول تسوية الخلاف، فذهب إلى قسطنطينية ليحاول عقد الصلح مع بلاطها، ولكنه لم ينجح في مهمته، لأن السياسة البيزنطية آثرت عندئذ جانب السلاجقة الذين كثرت غزواتهم لأراضي الدولة، ورأت أن تصانعهم وأن تسعى إلى مهادنتهم، وسمح لرسول طغرل بك عاهل السلاجقة أن يخطب في جامع قسطنطينية باسم الخليفة العباسي القائم بأمر الله ولما وقف المستنصر بالله على ذلك رأى أن ينتقم بالقبض على أحبار القمامة (كنيسة قبر المسيح) في بيت المقدس ومصادرة

ص: 14

تحفها وذخائرها؛ واستمرت الخصومة بعد ذلك عصراً بين مصر والدولة البيزنطية

وفي أيام الحروب الصليبية كثر تردد السفارات والمفاوضات بين مصر باعتبارها زعيمة الجبهة الإسلامية يومئذ، وبين قادة الحملات الصليبية، وكثر عقد العهود والهدن والمعاهدات. ولا يتسع المقام لاستعراض هذه المبادلات الدبلوماسية التي وصلت يومئذ إلى ذرى التشعب والاتساع، والتي تملأ فراغاً كبيراً في أخبار ذلك العصر؛ ولكنّا نمثل لها بحادثين: الأول سفارة لويس التاسع (القديس لويس) ملك فرنسا إلى سلطان مصر الملك الصالح حينما جاء إلى مصر على رأس حملته الصليبية (1249م) وكتب إلى الملك الصالح باسم الأمم النصرانية يطالبه بتسليم مصر وينذره بالويل إذا أبى؛ وكان الملك الصالح يومئذ مريضاً في القاهرة، فتولى كاتبة بهاء الدين زهير الشاعر الأشهر كتابة الرد، وفيه يرد على الصلبيين وعيدهم وينذرهم بالانتقام؛ والثاني سفارة من ملك فرنسا أيضاً إلى سلطان مصر يطالبه بإعادة بيت المقدس إلى الفرنج، وان يفتح لهم ثغرا في الساحل وتكون البلاد وولايتها ة وإدارتها مناصفة بين المسلمين والنصارى على أن يؤدي الفرنج لمصر نظير ذلك جزية سنوية ضخمة. والظاهر أن مرسل هذه السفارة هو فيليب الجميل ملك فرنسا، وأن المرسل إليه هو السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وأنها وردت إلى مصر في أواخر القرن السابع الهجري أو أوائل القرن الثامن. وقد نقلت إلينا الرواية الإسلامية تفاصيل الحادث دون أن تعين تاريخه، وذكرت أن السلطان غضب لجرأة الفرنج حين أبلغ السفراء رسالتهم، وذكرهم بنكبة دمياط، وأنذرهم بالويل والثبور وردهم أقبح رد

وقد كانت مصر منذ الحروب الصليبية محور الدبلوماسية الإسلامية ومجمعا للعلائق بين الشرق والغرب؛ وكانت علائقها مع الأمم النصرانية متشعبة النواحي والأطراف، فمن بلاط قسطنطينية إلى الدول الإيطالية - البندقية وبيزا وجنوه ونابولي - إلى مملكة فرنسا، وإلى إسبانيا النصرانية؛ وتاريخ مصر في القرنين الثامن والتاسع الهجريين (الرابع عشر والخامس عشر) حافل بأخبار هذه العلائق الدبلوماسية. وقد أورد لنا القلقشندي في (صبح الأعشى) عشرات بل مئات من الوثائق والمكاتبات الدبلوماسية التي تلقي أعظم ضياء على طبيعة هذا العلائق ومداها ونكتفي في هذا المقام أيضا بالتمثيل ببعض السفارات النصرانية إلى بلاط القاهرة؛ فقد أرسل قيصر قسطنطينية مانويل باليولوج سنة 814هـ (1411م)

ص: 15

كتاباً إلى الملك الناصر فرج، على يد تاجر يوناني يدعى سورمش يؤكد ما كان بين والده (أي والد قيصر) وبين والد السلطان (الظاهر برقوق) من أواصر المودة والصداقة، وبعث معهم عدة من البزاة هدية للسلطان؛ ورجا السلطان في كتابه أن يعامل الأحبار النصارى بالرفق والرعاية.

ووردت على بلاط مصر سفارة أخرى في نفس هذا العام (سنة 814هـ) من (دوج) البندقية ميميكائيل، وقدم السفير (نقولا البندقي) إلى السلطان ناصر فرج كتاباً من الدوج يبلغه فيه تحياته وثناءه على ما كان يلقاه التجار البنادقة من الرعاية وكرم الوفادة، ولكنه يحتاج على حبس بعضهم في ثغر دمياط، ويحتج بالأخص على ما وقع بالإسكندرية من القبض على (قنصل) البنادقة وأكابر التجار البنادقة، وأخذهم إلى القاهرة مصفدين بالأغلال، وينوه بأن هذه الإهانة إنما هي إهانة له بالذات (أي للدوج) ويرجو السلطان أن يعدل عن هذه السياسة إلى الرفق بالقنصل والرعايا البنادقة، لتحصل الطمأنينة للتجار ويكثرون من التردد على مصر. وهذه الوقائع التي يشرحها الدوج في رسالته إنما هي حادث دبلوماسي محض؛ وقد صيغت في أسلوب رقيق ينم عما كان لمصر يومئذ من عظيم الهيبة في نفوس الدول النصرانية؛ وفيها يستعمل قلم الترجمة السلطاني كلمة (قنصل) ترجمة للكلمة الإفرنجية المماثلة، وهي كلمة ما نزال نطلقها اليوم في اصطلاحنا الحديث على ممثلي الدول الذين يختصون بأعمال هذا المنصب

تلك طائفة متناثرة من السفارات الخلافية والسلطانية، والموضوع مشعب الأطراف واسع المدى. بيد أن ما أوردناه من أحاديث هذه السفارات والرسالات المتبادلة يكفي لشرح كثير من خواص العلاقات الدبلوماسية في تلك العصور. وهناك بالأخص ناحية أخرى من علائق الشرق والغرب والإسلام والنصرانية لم يتسع المقام للتحدث عنها: تلك هي علائقإسبانيا المسلمة (الأندلس) بأسبانيا النصرانية وبالأمم الإفرنجية الأخرى؛ فهذا العلائق وحدها تملأ صحفاً فياضة من تاريخ الدبلوماسية الإسلامية؛ وقد كان عهد الخلافة الأموية بالأندلس عهداً زاهراً في تنظيم هذه العلائق ففي عصر الناصر دين الله، ثم ولده الحكم المستنصر، انهالت وفود الأمم النصرانية وسفاراتها على بلاط قرطبة؛ فكانت تستقبل في قرطبة في أيام مشهورة ومراسيم شائقة بهرت أمم العصر وقصوره؛ وكان تقاطرها على

ص: 16

قرطبة في ذلك العصر الذي بلغت فيه الأندلس ذروة العظمة والسلطان، شاهدا بتطبيق هذه الخاصة التي أشرنا إليها في فاتحة هذا البحث، وهو أن اتجاه السفارات السياسية من الغرب إلى الشرق ومن الأمم النصرانية إلى الأمم الإسلامية كان في معظم الأحيان شاهدا بتفوق الشرق والإسلام في القوة والعظمة والسلطان

(تم البحث)

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 17

‌الانتحار

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(نعم، لابد مما ليس منه بد. وستنتهي الحياة على كل حال، طال العمر أم قصر، فلم لا أختمها بيدي وأستريح من هذا العذاب؟)

كذلك كان يحدث نفسه وهو جالس إلى مكتبه، وأمامه عدة رسائل كتبها ووضعها في ظروفها، وعنونها، ونشفها، والصق عليها طوابع البريد، ولو أنك في هذه الساعة سألته عن الباعث أو البواعث له على هذا العزم، لقال لك إنها ليست مسألة بواعث، وإنما هي مسألة آلام في معدته لم يبق له صبر عليها، وعجز طب الأطباء عن تخفيفها، وما بقي في البلد طبيب إلا استشاره، وما قرأ إعلاناً في صحيفة عن دواء يلطف هذه الأوجاع إلا اشتراه وجربه، فذهب كل ذلك مع الريح، وكانت معدته توسعه إيلامًكلما أوسعها تطبيباً، فكأنه لا يضع فيها أشفية، وإنما يضع فيها إبراً أو أظافر ومخالب وأنياباً! وما أكل شيئاً إلا نفخه وتخمر في جوفه وفارت منه غازات ترتقي إلى الصدر والقلب وتثقل عليهما وتخزه هنا وهناك فيروح يبلع الفحم قرصاً وراء قرص، والغازات كما هي، لا يمتصها أو يطلقها أو يخفف ضغطها وشكها شيء، فتلفت أعصابه ويئس من الشفاء، وعزم آخر الأمر على الانتحار

وكانت له زوجة وبنون، وبيت طويل عريض فيه خدم وحشم، ولكن آلامه سودت عيشه ونغصت حياته، وحرمته ما كان خليقاً أن يفوز به من المتع، فالموت لا يفقده لذة موجودة، ولعله يريح آله مما يحملهم معه من المتاعب والغصص، ويتيح لهم أن ينعموا بماله، وأن يخلو صفو حياتهم من كدر حياته

أما الرسائل التي أسلفنا الإشارة إليها فكتبها إلى الصحف ينعى نفسه فيها، ويحذر قراءها من الإعلانات المغرية وما تزعمه من قدرة الأدوية على الشفاء السريع، وأخرى كتبها إلى (النيابة) حتى لا تزعج أهل بيته بالسؤال والتحقيق، فان (للنيابة) ولعاً بتقصي أسباب الانتحار كأنما حياة المرء هبة من هذه (النيابة) أو عارية، فهو مسئول عنها قبلها! ولما صح عزمه على الانتحار قعد يفكر في وسائله، وأدواته، ولكنه استقبحها جميعاً، ولم يرض عن واحدة منها، وبدا له أن من السخافة وقلة العقل أن يلقي بنفسه من فوق السطح مثلاً،

ص: 18

فقد يتحطم جسمه ولا يموت! أو أن يغرق نفسه في النيل، فقد يراه أحمق فيدركه وينقذه، أو قد تعلق جثته بشيء فتظل راسبة ولا يهتدي إليها أحد! ولم ير أنه يطيق أن يسدد إلى رأسه مسدساً، أو إلى قلبه، ولا أن يغمد في صدره سكيناً أو يبقر به بطنه، كلا! هذه الميتات جميعا قبيحة، وفي صورها هوان وحماقة؛ إنما الميتة الحسنة أن يستلقي على سريره، ويضع إلى جانبه طشتا على كرسي، ثم يقطع شريانا فيلح عليه النزف حتى يموت، في سكون وبلا ألم

واستغرب لما انتهى إلى هذا الرأي، أن يرى نفسه منشرح الصدر، وأنه لم يعد يشعر حتى بتلك الآلام التي أغرته بالتماس الموت وحرضته على نشدانه! فهز رأسه متعجباً وقال: إذا كانت هذه هي البداية فلا شك أن الخاتمة أحسن. وتمنى لو تيسر له أن يرى نفسه مسجى في أكفانه والناس حوله يبكون ويندبون، ويثنون عليه بالذي (كان) أهله! وتصور نفسه محمولاً على الأعناق وخلفه حشد عظيم من الأصدقاء والكبراء، وكبر الأمر في وهمه حتى لخيل إليه أنه الآن راقد في النعش، فتحرك حركة من يريد أن يطل على مشيعيه! ثم أفاق من هذا الحلم وابتسم! ولم تكن هذه ابتسامة السرور، وإنما كانت ابتسامة الأسف على أنه سيحرم لذة هذا المنظر

ودق الجرس فجاءت الخادمة، وكانت فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، ولم تكن جميلة ولكنها لم تكن دميمة، وكان يحنو عليها لأنها يتيمة لا أب لها ولا أم، ولا أهل فيما يعرف، فلما أقبلت عليه رق لها قلبه من العطف، وقال لها:

(اسمعي! خذي هذه الرسائل وضعيها في صندوق البريد. فاهمة؟ وخذي هذا لك.)

ونهض وهو يناولها ورقة بجنيه، فدهشت المسكينة، فما لها عهد بمثل هذا الجود، وما وهبها أحد أكثر من قرش وقالت:(لي أنا؟)

فوضع راحته على كتفها وقال: (نعم لك أنت. ولم لا؟ إنك فتاة طيبة، وأنا راض عنك)

فقالت المسكينة: (ولكن ماذا تقول ستي؟ إنها إذا رأته معي ستظنني سرقته)

فقال: (كلا. لا تخافي. اطمئني!)

وأدناها منه وقبلها على خد، ثم أدار وجهها ليقبل خدها الآخر، فلمحت الفتاة أوسط أبنائه، وخشيت أن يثرثر لأمه بما رأى، فارتدت عن سيدها محتجة وقالت بصوت عال:

ص: 19

(عيب يا سيدي، عيب! أنا بنت يتيمة، وأنت رجل كبير. . . تؤ. . . تؤ. . . عيب!)

فبهت الرجل، فقد كانت قبلته من عطف أبوي، ومن كرم النفس ومروءة القلب، وساءه جحودها وسوء ظنها، وأغضبه هذا التأويل، فقال:

(ولكن يا ابنتي ماذا حصل؟ أي عيب؟)

فقالت بصوت أعلى (أقول لك عيب يا سيدي، لا لا لا. . . أنا في أمانتك. . حرام عليك يا سيدي! وأنت رجل كبير)

ولم يكن يرى ابنه فلم يفطن إلى الباعث لها على هذا الاستهجان؛ أما ابنه فرأى وسمع، وأسرع إلى أمه ينبئها ويقص عليها الحكاية فنهضت الأم كالمجنونة إلى هذا الزوج الذي يتغفلها ويزعم نفسه مريضاً مدنفاًٍ ويروح يقبل الخادمات! ومن يدري ماذا يصنع غير ذلك؟ ومن الذي يمكن أن يثق به أو يصدقه بعد هذا؟

وكان الرجل قد طرد الخادمة من حضرته. لما رآها تلج في الاستنكار وتأبى إلا أن تسيء تأويل الحادثة، فخرجت، ولم تكد تفعل حتى دخلت الزوجة كاللبوة الهائجة:

(معلوم! معلوم! تدعي المرض، وتقول أبعدوا عني وخلوني استريح، لتخلو بالخادمة فتقبلها وتحضنها! ما شاء الله! هل المريض يعانق الخادمة؟)

فطار عقل الرجل، وله العذر، وخطر له أن الخادمة هي التي ذهبت تشكو إلى زوجته، وتذكر في هذه اللحظة أنه أعطاها الرسائل، وأن فيها نعيه إلى الصحف والنيابة، ولكن الغضب صرفه عن الموت، وفتر الرغبة فيه، وأحس أنه لا يريد أن يموت، بل أن يميت - يقتل هذه الخادمة اللعينة التي يحسن إليها فتسيء إليه، وتشنع عليه، وتحيل البيت قطعة من جهنم، فترك زوجته تتكلم وخرج يقول:

(أين هي؟ أين هي؟)

وعرف أنها خرجت فانطلق وارءها، ليسترد الرسائل منها، ويرى له بعد ذلك رأياً فيها - نعني في الفتاة. وبصرت به الخادمة مقبلاً، ورأسه عار، ووجهه مضطرم، وكانت تحس في قرارة نفسها أنها ظلمته وتجنت عليه، فأيقنت أنه خرج وراءها هائجاً، وأنه يطلبها ليضربها، فراحت تعدو، فلم يسعه إلا أن يجري وراءها، ولكنها في الثامنة عشرة من عمرها، وهو في الخامسة والأربعين، فما عسى قدرة مثله على إدراك مثلها؟ فأخذ يصيح

ص: 20

ويدعوها أن تقف ويناشد الناس أن يمنعوها، وهي كلما حاول أحد أن يصدها تتفلت منه، وتزعم له أن سيدها يهم بقتلها وتستحلفهم أن يردوه عنها. وتبعهما أطفال الحارة وأهل الفضول من الرجال والنساء، وأخيراً لحق بها الرجل، لأن الناس استوقفوها، فقبض على يدها وانتزع منها الرسائل وهو يلهث

وكان من السهل بعد ذلك أن يطلع زوجته على الرسائل، وأن يقنعها بان من يروم الانتحار لا يتبع الخادمة عينه

ونام صاحبنا في ليلته تلك نوماً عميقاً هادئاً لا حلم فيه، ولم يشعر بمعدته حتى ولا في الصباح، فتعجب وهو يتمطى ويتثاءب فما نام قط هذا النوم المريح في السنوات الأخيرة، وأقبل على الطعام فالتهم منه شيئاً غير قليل، ولم يكن يفطر قبل اليوم، وكان يدخن على ريق النفس، ويستغني بالقهوة عن الطعام، فقال لزوجته:

يظهر أن الجري نفعني أمس. . والغضب أيضاً! لقد حرك دمي في عروقي فزايلني الفتور، ونشطت. . . نعم إن حاجتي هي إلى ما ينشط جسمي، فليت لي كل يوم خادمة أقبلها فيسوء بي ظنك، فتثور نفسي!)

فضحكت الزوجة وقالت: (لقد كنت مجنوناً! وهل ينتحر إلا مجنون؟)

فقال: (نعم، ولكن الأطباء هم الذين أجنوني. والغريب أني لم أجد واحداً من بينهم يشير علي بالرياضة - ليس عندهم إلا وصفاتهم التي لا تنفع. . . أقول لك! سأطتب هذا إلى الصحف، وأفضح طب الأطباء)

ولكنه لم يكتب، لأنه شغل بالرياضة في ناد قريب من بيته، فتولينا نحن عنه ذلك، فهل بلغنا؟

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 21

‌5 - قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم

اسبلنزاني

صلة حديثه

حتى العلماء كانوا في جانب انبعاث الأحياء من لا شيء. أعلن الطبيعي الإنجليزي (رس) بأسلوب توكيد تحس فيه يقين العالم وثقة العارف، قال:(إن من يتشكك في أن الخنافس والزنابير تكونت من روث البقر فإنما يتهم العقل والحس والتجربة). حتى الحيوانات التي هي أعقد من هذه وأكثر أعضاء كالفئران لا حاجة بها إلى الأمهات والآباء. ومن قال غير هذا فعليه أن يذهب إلى مصر ليعرف كيف تعج الحقول بالفئران التي تكونت من غرين النيل فآذت السكان إيذاء كبيراً

سمع اسبلنزاني كل هذه الأقاصيص التي اعتقد صدقها أناس كثيرون ذوو خطر وعلم، وقرأ قصصا أكثر من هذه عدداً وأبعد في الأغراب، ورأى الطلبة تتنافس فتتخاصم وتتلاكم لتثبت أن الفأر لا حاجة به إلى أب أو أم. ومع كل هذا لم يعتقد في شيء مما رأى أو سمع. كان في رأسه تحزب، وفي قلبه تغرض وتعصب، وكثيراً ما نجد العلم يتقدم بمثل هذا التعصب والتحزب، بفكرة ليست من العلم، وليست مما يقال عادة في العلم، ولكن فكرة تخلق في رأس الرجل العلمي خلقاً، مبناها كره لخز عبلة شائعة وخرافة سائدة. رأى اسبلنزاني أن الإنسان تكفيه النظرة الظاهرة إلى الأمور ليقتنع بان الحياة لا توجد من عدم، وبأن الأحياء لا تخلق اتفاقاً من الأوساخ والأقدار، وإنما هي تولد عن سبب، وحسب نظام وقانون. ولكن كيف السبيل إلى إثبات ذلك؟

وفي خلوة في ذات ليلة وقع على كتاب صغير بسيط ساذج قرأه فأفاد منه طريقة جديدة لو اتبعها لعرف بها كيف تنشأ الحياة. كتاب لم يحاجج بالكلام، ولم يتمنطق بالألفاظ، بل اكتفى بالتجربة. وأي تجربة؟ وأي حقائق تتضح منها وتبين في سهولة ويسر، وذهب عن صاحبنا النعاس، ونسى أن الفجر يقترب، وظل يقرأ ثم يقرأ. . .

قرأ في الكتاب أن تخلق الدود والذباب من اللحم الفاسد خرافة أي خرافة، وإن كثيراً من

ص: 22

العقلاء الأذكياء يؤمنون بهذا الزعم على سخافته وبطلانه. وبينا هو يقرأ أتى على فقرات من الكتاب كادت تخرج لها عيناه من رأسه استغراباً لها وإعجاباً بها، على وصف تجربة بسيطة ذهبت بالخرافة من نفسه دفعة واحدة ولغير رجعة

وقال لنفسه وهو يتخفف من بعض ملابسه ويميل بعنقه الغليظ إلى ضوء الشمعة: (إن (ريدى) هذا الذي كتب الكتاب رجل لا شك عظيم. انظر كيف هو يحل المشاكل حلاً غاية في البساطة. أخذ قدرين ووضع بكل منهما قطعة لم، ثم غطى أحدهما بغطاء خفيف، وترك الآخر مكشوفاً. ثم أخذ ينظر، فوجد الذباب يدخل إلى اللحم في القدر المكشوفة، وبعد زمن قليل وجد بها الدود، وبعد زمن آخر وجد بها ذباباً جديداً، ثم نظر إلى القدر المغطاة فلم يجد بها دوداً ولا ذباباً. فالأمر بسيط جداً. فالمسألة مسألة الغطاء الذي يحول بين اللحم والذباب وتجربة بسيطة جداً، ولكنها تدل على ذكاء كبير، فان الناس تناقشوا وتجادلوا وبحت أصواتهم آلاف السنين، ولكنهم لم يهتدوا إلى هذه التجربة البسيطة)

وفي الصباح لم يستطع (لازارو) صبراً، فأسرع إلى العمل يطلب حل الأشكال، لا فيما يختص بالذباب ودوده، ولكن فيما يختص بالأحياء المكرسكوبية الصغيرة. فان الأساتذة العلماء كانوا قد بدأوا يقولون إنه قد يجوز أن الذباب يخرج من بيض، ولكن الأحياء التي تدق عن البصر تأتي من ذات نفسها

وأخذ اسبلنزاني يتعلم في عثار كثير كيف يربي تلك الأحياء، وكيف يستخدم المجهر. فجرح يديه وكسر قبابات كبيرة ثمينة؛ وكان ينسى أحياناً أن يمسح عدساته وينظفها، ثم ينظر من خلالها إلى تلك الحيوانات الصغيرة، فلا يراها إلا بمقدار ما يرى السمك الصغير في الماء بساحل البحر وقد عكره بتحريك قاعه؛ ولم يكن يبالي أن يتحدث عن أخطائه ويقصف بالضحك منها، فلم يكن في خلقه ذلك الجمود وتلك الشراسة التي اتصف بها (لوفن هوك). وكان مندفعاً متهوراً، ولكنه برغم اندفاعه وتهوره كان لحوحاً لجاجاً، لا ينعطف لخيبة ولا يثنيه يأس؛ قام ليفضح تلك الأكاذيب التي يحكونها عن تلك الحيوانات الصغيرة فلن يقعد حتى يبلغ ما أراد، ولكن مهلاً. (إذا أنا نصبت نفسي بغية الوصول إلى غاية معينة فلست والله بعالم، إن العالم يجب عليه أول شيء أن ينزع من قلبه التعصب والتغرض، وأن يتعلم أن ينقاد للحقائق التي تتكشف له إلى حيث تسوق. . .) وأخذ يدرس

ص: 23

تلك الحيوانات بصبر طويل، وأخذ يسوم نفسه قصد السبيل، وينفي عنها الهوى بقدر الطاقة حتى علمها أن تنصاع للحق ولو كان مراً

واتفق في هذا الوقت أن قسيساً آخر اسمه (نيدم كان يسره أن يرى نفسه تحذق فن التجربة، وكان كاثوليكياً تقياً. وكان اسمه أخذ يذيع في إنجلترا وأيرلندا بأنه الرجل الذي يعرف كيف ينشئ تلك الأحياء الصغيرة في مرق الضأن من لاشيء. وأرسل إلى علماء الجمعية الملكية البريطانية يصف لهم تجاريبه، فتفضلوا بالإعجاب بها

قال لهم إنه أخذ من قدر وهي تغلي بمرق الضأن مقداراً ثخينا من هذا المرق، ووضعه في زجاجة سدها بفلينة فأحكم سدها فأصبحت بمعزل عن الهواء، فلا تدخلها تلك الأحياء أو ما يمكن أن يكون لها من بيض. ولم يكتف بذلك، بل ذهب فوضع الزجاجة في رماد ساخن زيادة في الحرص والتوكيد. قال الرجل الطيب:(وبهذا لاشك قد قتلت كل ما قد يكون بقي في الزجاجة من كائن حي أو بيض). واحتفظ بهذا المرق في الزجاجة أياماً، ثم نزع سدادها، وأتى بالعدسة فرأى - وما أخطر ما رأى - رأى المرق يعج بالأحياء عجيجاً

وصاح (نيدم) يقول للجمعية: (إن هذا كشف خطير أي خطير. إن هذه الأحياء لا يمكن أن يكون مأتاها إلا من المرق، فدونكم إذن تجربة تثبت أن الشيء الحي قد يخرج من الشيء الميت). وقال لهم فيما قال: إن الحساء يصنع من الحب أو اللوز يقوم مقام المرق سواء بسواء

وثارت الجمعية الملكية والعالم المثقف لما علموا بكشف (نيدم) كشف صدق لا أقصوصة كاذبة، وحقيقة تجريبية لا يأتيها الباطل من أمامها أو خلفها، واجتمع أعضاء الجمعية يفكرون في جزاء (نيدم) بتنصيبه عضواً فيها، وهي الجمعية الوقور المترفعة التي تمثل أرستقراطية العلم وتتضمن صفوة العلماء. ولكن في هذه الأثناء كان اسبلنزاني بعيداً في إيطاليا يقرأ خبر هذا الكشف المدهش، وبينما هو يقرأ تقارب ما بين حاجبيه، وضاق حدق عينيه، وأخيراً أبرق وأرعد وقال:(إن هذا الحيوانات لا تنشأ من لا شيء، لا في المرق، ولا في حساء اللوز، ولا في شيء كائناً ما كان؛ إن في هذا التجربة تدليسة أو خدعة، من الجائر أن (نيدم) لا يعرف ذلك، ولكن لابد أن هناك ثغرة أنا كاشفها لا محالة)

وبدأ شيطان التعرض يستيقظ في نفسه، وقام القسيس يشحذ سكينه لأخيه القسيس. وكان

ص: 24

الإيطالي رجلاً شريراً سفاحاً يغرم بنحر الآراء التي يخاصمها، فمن أجل هذا قام يسن سلاحه للإنجليزي. وفي ذات ليلة، وهو قائم وحده في معمله، بعيداً عن جلبة الإعجاب التي تتحشى بها دروسه، بعيداً عن زئاط الصالونات البهيجة حيث تتظرف له السيدات وتتلطف معجبة بذكائه وسعة علمه، في تلك الليلة خال أنه وجد الثغرة التي طلبها في تجارب (نيدم). فمضع ريشته، وأمر أصابعه خلال شعره المشعث، ثم قال:(لماذا ظهرت تلك الأحياء في مرق اللحم وفي نقيع الحب؟ لأن (نيدم) بلا شك لم يسخن زجاجته تسخيناً كافيا، لأن (نيدم) لم يحكم سد زجاجته إحكاماً كافياً)

وبدأ شيطان البحث الصادق يستيقظ في نفسه. فلم يذهب إلى مكتبه ليكتب لنيدم بالذي ارتأى، وإنما فزع إلى معمله الترب قد تناثر في أرجائه الزجاج من كل صنف، فأخذ من هذا الركن قبابة، ومن هذا الدرج بذوراً، ونفض التراب عن مجهره، وبدأ يمتحن موقع ظنه من الحقيقة، فأما أن ينصره، وإما أن يقهره. إن (نيدم) لم يسخن حساءه تسخيناً كافياً - وقد يكون من بعض تلك الأحياء أو من بيضها ما يحتمل المقدار الكبير من الحرارة. من يدري؟ وتناول اسبلنزاني قبابات من الزجاج كبيرة، عظيمة البطن، مستدقة العنق، وأخذ يغسلها ويدلكها ويدعكها، ثم جففها وصففها فبرقت على النضد فكانت كالجند لبس السلاح في ضحوة الصباح. ثم جاء بأصناف مختلفة من البذور ووضع شيئاً من كل صنف في قبابه، ثم جاء بشيء من البسلة وشي من اللوز ووضع كلا في قبابه، ثم صب ماء في القبابات جميعا، ثم صاح:(ولآن لن أقع في الخطأ الذي وقع فيه (نيدم). فلن أغلي هذه الأحسية دقائق بل ساعة كاملة)، وأوقد ناره، فلما تجهزت تساءل:(ولكن ماذا أصنع لسد هذه القبابات؟ أسدها بالفلين؟ ولكن هذه مهما أحمت فلعلها لا تمنع أصغر الأحياء أن يتسرب إلى الإناء). وأخذ يفكر: (لا. لا. بل أسيح عنق القبابة في النار فألحمه لحماً، وأختم على الزجاجة ختماً، فلا تعود هنالك حاجة إلى الفلين، والزجاج لن يأذن لأصغر المكروب أن يتسرب خلاله).

وهكذا تناول قباباته البارقة قبابة قبابة، وأدار عنقها الدقيق في اللهب حتى ساح والحتم؛ وكانت تسخن بعض هذه القبابات سخونة شديدة وهي في يده فتحرقها، فتسقط القبابة فتنكسر فيسخط ويلعن، ثم يبدلها بغيرها. فلما أتم لحامها جميعاً صاح: (والآن فإلى نار

ص: 25

شديدة). وظل ساعات يرقب القبابات ترقص في ماء الغلايات ولم يغلها كلها مدة واحدة، فمن القبابات ما أغلاه دقائق. ومنها ما أغلاه ساعة كاملة

فلما بلغ منه الجهد، وضاقت عيناه من التعب، قام إلى أخيرة القبابات يخرجها من الماء والبخار يرتفع منها كأنها قطع اللحم المسلوق. وجمع القبابات كلها واختزنها، واصطبر أياماً على أخر من الجمر يداور في رأسه ما عساه أن يحدث فيها، وقام بشيء آخر كدت أنساه، شيء بسيط جداً: قام يكرر ما صنع من جديد، فجهز عدداً من القبابات كالتي سلف ذكرها، ولكن بدل أن يلحم رقابها سدها بالفلين، ثم غلاها ساعة كاملة، ثم اختزنها

ثم غاب عنها أياماً أمضاها في قضاء ألف مشغلة من مشاعل الحياة التي لم تكن تكفي لاستنفاد نشاطه الجم الكثير. وكتب إلى العالم الطبيعي (بونت في سويسرا ينبئه بتجاربه، وقام إلى كرة القدم وأخذ نصيباً من اللعب، وضرب في الريف يطلب صيده، وذهب إلى البحر يتلهى بسمكة، وألقى دروساً في العلم، وحاضر طلبته في كل ما هب ودب، في كل ما ثقل من العلم وجف، وفي كل ما خف منه وطاب، ثم اختفى فجأة. وتساءل الطلبة والأساتذة: (أين الأب اسبلنزاني؟) وتساءلت الهوانم أيضاً: (أين الأب اسبلنزاني؟)

الأب اسبلنزاني ذهب إلى قباباته

- 3 -

ذهب أول شيء إلى قباباته الملحومة، وكسر رقابها واحدة بعد أخرى، وغاص في مرقها بأنبوبة طويلة رفيعة لينال منه شيئاً، ثم لينظر هل تكونت فيه تلك الأحياء الضئيلة على الرغم من تسخينه إياه طويلاً، وعلى الرغم من عزله إياه هذا العزل المحكم عن الهواء وما قد يعلق بترابه من الأحياء. لم يكن اسبلنزاني في تلك الساعة اسبلنزاني المرح البشوش الضحوك. كان في حركته بطء وفي وجهه وجوم. كان يتحرك كرجل آلي صنعوه من الخشب، وأخذ ينقط من المرق القطرة بعد القطرة تحت عدسته

وكانت تلك القطرات من القبابات الملحومة التي أغلاها ساعة كاملة، وكان جزاؤه على كل متاعبه أنه رأى - لا شيء! وبسرعة البرق توجه إلى القبابات التي لم يكن أغلاها غير دقائق، وإذا به يكسر رقابها، وإذا بقطرات منها تحت عدساته، وإذا به يصيح:(ماذا أرى!) رأى في مجال البصر الأدكن حييوينات صغيرة منثورة هنا وهنا تسبح وتلعب شرقاً

ص: 26

وغرباً. حقاً إنها لم تكن مكروبات كبيرة، ولكنها كانت مخلوقات صغيرة تجري فيها الحياة على كل حال. وتمتم اسبلنزاني لنفسه:(إنها تسبح كالسمك! إنها صغيرة كالنمل!). وغاب في التفكر ثم قال: (إن هذه القبابات الحمت الحاماً فما كان لشيء أن يستطيع دخولها من الهواء. ومع هذا أجد تلك المخلوقات الصغيرة فيها. لا شك أنها مخلوقات كانت موجودة في المرق، فلم يكف لقتلها اغلاء الماء دقائق قليل)

وذهب بأيدٍ راجفة إلى صف القبابات التي سدها بالفلين - كما فعل خصيمه (نيدم) - ونزع سدادها واحدة بعد أخرى. وما هي إلا ثوان حتى غاص بأنبوبته في مرقها، وما هي إلا ثوان أخرى حتى حدق بعدسته في قطرات منها. وإذا به يثور ويصخب ويقوم عن كرسيه فيمسك بكراسة قديمة، فيكتب فيها على عجل ملاحظات مختصرة بخط كنبش الدجاج، لو استطعت قراءته لوجدت معناه أن إحدى هذه القبابات ذات السداد كانت تتنغش وتموج بالأحياء! حتى القبابات التي أغليت ساعة كاملة كانت (كالبحيرة تعج بالسمك الصغير والحوت الكبير). وصاح يقول:(معنى كل هذا أن هذا (نيدم) جاء بتلك الأحياء التي طنطن بها من الهواء. وهذه نتيجة خطيرة في ذاتها ولكن أخطر منها هذه الأحياء يصمد بعضها للماء المغلي زمناً. فلا بد لقتله من إغلائه ساعة أو نحوها)

كان هذا اليوم لاسبلنزاني من الأيام الضخمة العظيمة، وللدنيا من الأيام المذكورة المشهورة، ولو اسبلنزاني لم يكن يدرك كبره وخطره حق الإدراك. إنه أثبت إثباتاً قاطعاً أن نظرية (نيدم) نظرية باطلة، وأن الحيوانات لا تنشأ في هذه الدنيا الجارية من العدم. وأثبت ذلك بنفس اليقين الذي أثبت به (ريدي) العظيم أن الزعم بأن الذباب ينشأ من ذات نفسه في اللحم زعم فاسد وحسبان خاطئ. وفعل اسبلنزاني فوق هذا، فقد خلص علم المكروب من ضياع محقق، وانتشله من خرافة كادت تؤدي به إلى النسيان فالعدم، فان العلميين كانوا قد بدأوا يعتبرون علم المكروب صنفاً من العرفان المدلس الذي لا يتقبل قواعد العلم الصحيحة وطرائقه المستقيمة

واستدعى اسبلنزاني في هياجه أخاه نقولا وأخته كذاك، ليخبرهما بتجربته الرائعة. وذهب بعيون واسعة إلى تلاميذه يخبرهما بأن الحياة لا تنتج إلا عن حياة، وأن كل حي لا بد له من أب، حتى تلك الأحياء الصغيرة الحقيرة! إلحم قبابتك بما فيها من المرق فلن يدخل إليها

ص: 27

شيء. وسخنها تسخيناً طويلا تقتل ما بها من الأحياء، حتى تلك التي تستعصي على التسخين الهين القصير! افعل ذلك وأنا ضمين لك ألا تجد بها حياً واحداً، واختزنها وأنا ضمين لك أن تبقى خلواً من الأحياء إلى يوم يبعثون. ثم ترك تلاميذه وذهب فكتب مقالاً بارعاً لاذعاً توجه فيه إلى (نيدم) بالتقريع والسخرية. فمال عالم العلم واضطرب، وثار واصطخب. وتجمع المفكرون في الجمعيات العلمية بلندن وكوبنهاجن وباريس وبرلين، وتجمهروا في دورهم تحت أضواء المصابيح العالية وعلى أنوار الشموع الرفيعة، وأخذوا يتساءلون في لهفة: أيجوز حقاً أن يكون (نيدم) خاطئاً؟

ولم يقتصر الجدل الذي قام بين اسبلنزاني ونيدم على الأرستقراطية من العلماء، ولم يحتبس في قيعان الجمعيات العلمية النابهة، بل تسرب من خلال أبوابها الغليظة إلى الشوارع، وتحسس طريقه إلى الصالونات الفخمة، وودت الدنيا لو أن نيدم صادق، ومالت بقلبها إلى مؤازرته. ذلك لأن الناس في القرن الثامن عشر كانوا يميلون إلى اللهو والدعابة، والى التحرر من كل شيء، والتشكك في كل شيء، والضحك من كل فكرة تنتسب للدين، ورفض أي سلطان يهيمن على الكون. فلما جاءهم نيدم بأن الحياة تخرج اعتباطاً، وأن الشيء ينشأ من لا شيء. صادفت الفكرة هوى في قلوبهم، فسروا منها، وضحكوا وسخروا من هذا الإله المزعوم الذي لا يستطيع حتى تنظيم كونه، والسيطرة على خليقته. وساءهم أن تكون تجارب اسبلنزاني واضحة هذا الوضوح، ومقنعة هذا الإقناع، فلم يستطع دحضها حذاق الكلام، والبارعون في اللعب بالألفاظ

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 28

‌من صور الحياة في دمشق

في صحن الجامع الأموي. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

في أمسية طلقة (من صيف سنة 489هـ) خرج الناس - على عادتهم - إلى صحن المسجد الأموي، فبسطوا فيه البسط، وأسرجوا السرج، حتى (كاد المسجد يقطر ذهباً، ويشتعل لهباً)، وأقبلوا عليه زرافات ووحداناً، يقضون بالصلاة حق الله عليهم، وبالاجتماع والتعاون حق بعضهم على بعض، ويعودون بثواب الله، واطمئنان النفس، وراحة البال

وليس أشهى إلى النفس، ولا أحلى في العين، من صحن الأموي في ليالي الصيف؛ وإن المرء ليطوف ما يطوف، وينشق عبير الأزهار، ويسمع تغريد الأطيار، ويصعد الجبال تتفجر منها العيون، ويدخل الجنان تجري من تحتها الأنهار، ثم يعود إلى الأموي فيراه أجمل من ذلك كله، ويجد في نفسه حين يجلس فيه هزة طرب، ونفحة أنس، لا يجدهما في شيء من ذاك. . .

وكانت عشية ريحة، تنسم نسماناً منعشاً، فامتلأ المسجد بالناس وهم بين متوضئ يخلع رداءه فيلقي به على بلاط المسجد الأبيض الناعم، ويسرع إلى قبة الماء، وهي (في وسط الصحن) وهي صغيرة مثمنة، من رخام عجيب، محكم الإلصاق، قائمة على أربع سوار من الرخام الناصع. وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاسي، يمج الماء إلى علو، فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب (لجين) وقد زينت جوانبها بالمصابيح ومصلٍ يبتغي جماعة فلا يلبث حتى يجدها فيقوم في الصف خاشعاً، يشغله جلال الله الذي يقف بين يديه، عن الدنيا التي خلفها وراء ظهره. . .

وجالس إلى حلقة من هذه الحلقات الكثيرة يستمع إلى محدث أو فقيه أو واعظ، أو ينصت لقارئ، أو يذكر الله مع الذاكرين، أو مستند إلى اسطوانة من الأساطين، أو محتب تحت رواق من الأروقة، يقرأ في مصحف، أو ينظر في كتاب، أو يسبح على أصابعه، أو يتفكر في شأن من الشئون، أو ينتظر الصلاة فينعم بجمال المسجد، ورقة النسيم، ويكون من انتظاره الصلاة كأنه في صلاة. . .

وكان حيال قبة زين العابدين (قبة الساعات) في شرقي المسجد، رجل رث الثياب، ما عليه

ص: 29

إلا مزق مردمه، وخلقان بالية. يرنو بعينه إلى الناس تارة، وينظر إلى المسجد أخرى، فيقرأ فيه تاريخاً جليلاً، يقرؤه في هذه القبة الباذخة، قبة النسر، وهي (من أعجب مباني الدنيا، ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر، ذاهبة في الهواء، منيفة على جميع مباني البلد)(وليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظراً منها)

وهذه المنارة العالية التي يسميها الناس (منارة عيسى) لما جاء في الحديث أن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويعجب من سموقها وارتفاعها. وهذه المنارة العربية التي بناها المسلمون، فأجادوا بنيانها، ووضعوا فيها العجائب من براعة الزخرف، ودقة النحت، والضبط والأحكام. والمنارة الشمالية (منارة العروس) وقد ازينت وأوقدت فيها المصابيح، وقام في شرفتها المطلة على الصحن (المؤقت) ليعلن دخول العشاء ودخل المسجد قروي له مسألة. فسأل عن مجلس المفتين حتى دل عليه عند قبة عائشة فجاء فعرض عليهم مسألته، فلم يجد عند واحد منهم جوابها. فذهب يدور على الفقهاء والمحدثين يسألهم، فلم يفز منهم بطائل، فيئس منهم وهم بالخروج من المسجد. . . والفقير ينظر إليه، ويعجب من حاله وحالهم. وعز عليه أن ينصرف آيساً، فأشار إليه. فلما جاءه قال: اعرض علي مسألتك. . .

فضحك القروي، وصاح: انظروا يا قوم إلى هذا المجنون! أنه يجيبني عن مسألتي، وقد أعجزت المفتين والفقهاء وأصحاب الحديث! فأقبل الناس على الصوت، وطفقوا يتكلمون، فقال قائل: دعه فانه مجنون. . وقائل: لا عليك أن تسأله فلعل عنده علماً. . . وقائل: سله واحمل جوابه إلى المفتين، فانظر ما هم قائلون؟

ثم سكتوا، وسكت كل من في المسجد، وانقطعت أصوات القراء والمدرسين والذاكرين، ولم يبق فيهم متكلم، لأنها قد تكلمت فوق رؤوسهم النبوة، وسمعوا:(الله أكبر. .) تدوي في نواحي المسجد، تهبط عليهم من المآذن كأنما هي هابطة من السماء، فيها روعة الوحي، وجلال الدين، وجمال الإيمان. . . فتقوضت المجالس، ورصت الصفوف، وتحاذت المناكب، وقال الإمام: الله أكبر. . . فماتت الدنيا في نفوسهم وامحت منها الشهوات، وطمست فيها الميول؛ لأنه مهما يكن من كبير فـ. . . الله أكبر! ولا إله إلا الله! فلما قضيت الصلاة، عادوا إلى القروي، فقالوا له: اذهب فسل صاحبك. فذهب إليه، فقال:

ص: 30

ياهذا، زعمت أنك قادر على الجواب، فهل أنت على قولك؟ قال: أستعين بالله قال: وقد أعجزت المفتين وحيرتهم، أفأنت تستطيع أن تجيب عليها؟

قال: أستعين بالله

قال: هي كذا وكذا. . . قال الجواب كيت وكيت. . .

وابتدر الفقير الباب!

وحف الناس بالقروي، فقالوا: هل أجابك؟ بم أجابك؟ قل لنا بماذا أجابك؟

فقال: وما أنا بقائل لكم حرفا حتى ألقى المفتين، وأسرع وأسرع معه الناس إلى المفتين، وقد عادوا إلى مجلسهم: فقال: أرأيتم ذلك الفقير؟ قالوا: نعم. قال: قد أجابني عن مسألتي فضحكوا من جفائه وجهالته، وقالوا: بم أجابك؟ قال: بكذا وكذا فلما سمعوه أخذ منهم الجد مأخذه، ونظر بعضهم إلى بعض وكلهم مشدوه حائر لا يدري مم يعجب: أمن كثرة علم الرجل مع رثاثة هيئته. أم من رثاثة هيئته مع كثرة علمه، ثم انتهوا، فقالوا: ويحكم، أدركوا الرجل، فان له لشاناً، وما نظنه إلا آية من آيات الله جاءت ترينا حقيقة العلم، وسمو الفقر، وجلال التواضع. . . أدركوا الرجل!

فقالوا: قد خرج

قالوا: أوليس فيكم من يعرفه؟

فقال رجل من القوم: والله ما رأيناه إلا في السميصاتية وقد نزلها منذ أيام، فكان ينظف كنفها ومراحيضها، ويتخذ مجلسه على الباب. حتى أذنوا له بالدخول. وما رأيناه إلا عاكفاً على صلاة أو مشتغلا بتسبيح، ولم يكلم أحداً!

قال المفتون: ويحكم، قوموا بنا إليه. . .

فلما دخلوا عليه، قالوا له: من أنت؟

قال: رجل من الناس

قالوا: قد سمعنا جوابك، وإنا نسألك بالله الذي لا إله إلا هو إلا ما أخبرتنا من أنت

قال: إنا لله وأنا إليه راجعون. . . أما وقد أقسمتم، فأنا أبو حامد الغزالي

فصاحوا: حجة الإسلام! وانكبوا على يديه يقبلونهما، ويسألونه أن يعقد لهم مجلساً في الغد. ثم انصرفوا

ص: 31

فلما كان الغد نظروا فإذا. . الشيخ قد فارق دمشق!

دمشق

علي الطنطاوي

ص: 32

‌الأوزاعي88هـ - 157هـ أحد أصحاب المذاهب

‌المندرسة

بقلم عبد القادر علي الجاعوني

يؤخذ من المصادر التي بين أيدينا أن اسمه عبد الرحمن ابن عمرو بن يحمد وكنيته أبو عمرو، ولقبه الأوزاعي نسبة إلى أوزاع، ولقد اختلف في معنى هذه الكلمة، فمن قائل إنها بطن من ذي الكلاع من اليمن (وقيل بطن من همذان، وقيل إن الأوزاع قرية بدمشق خارج باب الفراديس. ومهما يكن من أمر، فان لقبه نسبة إلى هذه الكلمة، إذ أن جميع المصادر تتفق على هذا اللقب ولكنها تختلف في حقيقة أصله

ومن الثابت تاريخياً أن مهبط رأسه مدينة بعلبك، وتكاد المصادر تتفق على أنه ولد سنة 88 هـ

أما نشأته وحياته فلا نعرف عنهما شيئاً، لأن المصادر التي بين أيدينا تكاد تكون صامتة كل الصمت، فهي تتخطى هذا الدور بسرعة هائلة وتبرزه لنا (إمام أهل الشام) في عصره، اللهم إلا ما ذكره ابن خلكان من أنه نشأ في البقاع

قلنا إن الأوزاعي ولد في بعلبك، ونشأ في البقاع، إلا أنه لم يقض حياته في مهبط رأسه، وسرعان ما انتقل إلى دمشق خارج باب الفراديس، ثم ارتحل إلى بيروت تلك المدينة التي قضى بها حياته حتى أدركته الوفاة

ولقد كان رحمة الله فوق الربعة، مائلاً إلى السمرة، خفيف اللحية، ويظهر أنه كان يميل إلى التزين، فقد (كان يخضب بالحناء)

ولقد أخذ العلم عن عطاء وابن سيرين ومكحول والثوري. ولقد زاد عليهم أبوز كريا النووي صاحب كتاب تهذيب الأسماء رجالاً من التابعين أهمهم قتادة، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، ومحمد بن المنكدر. وأهم تلاميذه: عبد الله ابن المبارك، وهقل وهذا الأخير أصدق الرواة وأثبتهم عن الأوزاعي، وروى عنه جماعة من الذين سمعهم كقتادة والزهري وغيرهم

كان الأوزاعي من تابعي التابعين، وقد قال الذهبي فيه:(هو إمام أهل الشام) وفي موضع آخر يقول: (كان ثقة مأموناً صدوقاً، فاضلاً حبراً، كثير الحديث والعلم والفقه)

ص: 33

ويقول ابن خلكان: (هو إمام أهل الشام لم يكن بالشام أعلم منه). ويقول النووي: (كان إمام أهل الشام في عصره بلا مدافعة ولا مخالفة). ومما يدلك على عظم مركزه في الفقه أنه أجاب في سبعين ألف مسألة فقهية، وقيل ثمانين ألفاً ومما يدلك على علو مقامه وتقدير العلماء له ما ذكره ابن خلكان من أن (سفيان الثوري بلغه مقدم الاوزاعي فخرج حتى لقيه بذي طوى، فحل سفيان رأس بعيره من القطار ووضعه على رقبته فكان إذا مر بجماعة قال الطريق للشيخ)، وناهيك بمنزلة سفيان الثوري ورفيع مقامه في العالم الإسلامي. ولا يغيبن عن البال أنه كان فضلاً عن اشتهاره بالفقه إماماً في الحديث. ويقول كولد زهير: روى عبد الرحمن بن المهدي أن الأوزاعي ليس ثقة في الحديث، ولكنه يعلم كيف يطبق هذه الأحاديث للحصول على حلول المسائل الفقهية

ولم يكن الأوزاعي يتمتع بمركز ديني كفقيه ومحدث فحسب، بل يظهر أنه كان يتمتع بمركز دنيوي رفيع، فقد ذكروا أنه كان عظيم الشأن بالشام (وكان فيهم أعز من السلطان) ولعل القصة الآتية تلقى نوراً على ما ذهبت إليه: قال عبد الحميد ابن حبيب بن أبي العشرين: سمعت أميراً كان بالساحل، وقد دفنا الأوزاعي ونحن عند القبر يقول: رحمك الله أباعمرو! فقد كنت أخافك أكثر ممن ولاني). وبعد، فقد تبين لك من هذه الروايات الكثيرة المحفوظة في الأصول الأدبية والتاريخية ما كان عليه الأوزاعي من الشهرة، ولا نعرف، لاندثار مذهبه، واندفاع المؤرخين في منح المديح والألقاب، صحة هذه الأقوال، ولكنها على أية حال تحمل بين طياتها الشيء الكثير عن عظم الأوزاعي وشهرته

والروايات مجمعة على أن الأوزاعي كان إمام أهل الشام في عصره، وأنه كان على جانب عظيم من المقدرة في الحديث والفقه، وتطبيق الأول على الثاني للحصول على حلول للمسائل الفقهية المختلفة

مذهبالأوزاعي:

انتشر مذهب الأوزاعي، المسمى باسمه، مدة من الزمن في سورية، وبلاد المغرب؛ وذكر صالح بن يحيى أن مذهب الأوزاعي دام في الشام نحو مائتي سنة، وأن آخر من عمل بمذهبه قاضي الشام أحمد بن سليمان بن جند لم، وقد ظلت المغرب متبعة مذهبه مدة لا تقل عن أربعين سنة

ص: 34

وسرعان ما انهزم مذهب الأوزاعي أمام غيره من المذاهب، والسبب في ذلك - كما يظهر - أن الأمراء وأصحاب السلطة ساعدوا غيره من المذاهب نصراً لسياسة أو تحقيقاً لغرض، كما كانت الحالة مع المذهب الحنفي، ويقول صالح بن يحيى (ثم تناقص بمذهب الأمام مالك على يد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الأموي

ومن المعلوم، أن مذهب الأوزاعي هو أحد المذاهب المندرسة، ويا ليت التاريخ أبقى على هيكله في طواياه، فانه لم يسجل إلا نزراً يسيراً من فقهه لا يمكننا من الحكم عليه. إلا أن هذا النزر يلق نوراً على ماهيته، وقد دلتني قراءته إلى أن اهتمام الأوزاعي بالمسائل الفقهية كان من الوجهة العملية، ولم يكن كصنوه أبي حنيفة مشتغلاً بالفقه من وجهته النظرية. كذلك دلتني قراءة هذا النزر اليسير إلى أن الأوزاعي لم يكن يستعمل الرأي، بل إنه - كما فعل غيره - عدل إلى الكتاب والسنة ففي كلام الأوزاعي عن (سهم الفارس والراجل وتفضيل الخيل)

وعن (المرأة تسبى ثم يسبى زوجها) وعن (ما عجز الجيش عن حمله من الغنائم) وعن (قطع أشجار العدو) ففي كلامه عن أحكام هذه، وعن جميع ما ورد في كتاب (سير الأوزاعي) يستعمل الحديث والكتاب

وقد يطول بنا المقام إن ما شينا فهرس الفصل في سرده، فلا داعي للتكرار، ومن أراد التثبت فليرجع إلى هذه الأقوال في مظانها

ولقد ذهب بعض المؤرخين، أمثال كولد زهير، إلى أن الفقيه الإسلامي قد تأثر بالفقه الروماني. وأنا أقول، إن كان هذا صحيحاً، فأحر بالأوزاعي أن يكون آخر المتأثرين به لأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي، ومن أقربهم إلى أتباع الكتاب والسنة. وبذلك قال أبو حاتم:(الأوزاعي إمام متبع لما سمع) والكتاب والسنة أبعد الأشياء عن التأثر بالفقه الروماني

وفاته:

كانت وفاة هذا الفقيه الكبير في سنة 157هـ، وقد ذكرها أبو الفداء في حوادث تلك السنة، وتوفي وهو في الحمام في بيروت، وقبره على ما ذكره أبو الفداء في قرية على باب بيروت يقال لها خنتوس، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون هاهنا رجل صالح. والسبب في وفاته على ما جاء في ابن خلكان، أنه دخل الحمام، واتفق أن صاحب الحمام كان

ص: 35

مشغولاً فأقفل عليه الباب ومضى، فلما عاد فتح الباب فوجده قد فارق الحياة. رحمه الله رحمةً واسعة، فقد كان إمام أهل الشام غير مدافع. هذا وإن ما ذهبت إليه في هذه الكلمة ليس إلا محاولة بسيطة أرجو إن لم أوفق في نتائجها، أن أكون قد وفقت في الطريق الذي سلكته. فالبحث في اعتقادي ناقص مبستر، لأني لم أطلع على كل ما كتب عن الأوزاعي فقد تكون هناك كتب كثيرة، لم تنشر أو لم أوفق إلى العثور عليها. وعسى أن تحفز هذه الكلمة بعض الباحثين من الفضلاء فيوفي هذه الترجمة ويحلل هذا المذهب إحياء لتراثنا العلمي الذي ذهبت به الأحداث والقرون.

القدس

عبد القادر علي الجاعوني بكلوريوس في العلوم

ص: 36

‌17 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

ولكن الروح التي قد أصابها الدنس، والتي تكون كدرة عند انتقالها، والتي ترافق الجسد دائما، وتكون خادمته، والتي تغرم وتهيم بالجسد ورغبات الجسد ولذائذه حتى ينتهي بها الأمر إلى العقيدة بأن الحقيقة لا تكون إلا في صورة جسدية، يمكن الإنسان أن يلمسها، وأن يراها، وأن يذوقها، وأن يستخدمها لأغراض شهواته - أعني الروح التي اعتادت أن تنفر من المبدأ العقلي، وأن تخافه وتتحاشاه، ذلك المبدأ الذي هو للعين الجسمانية معتم تستحيل رؤيته، والذي لا يدرك إلا بالفلسفة وحدها - أفتحسب أن روحاً كهذه سترحل نقية طاهرة؟

فأجاب: يستحيل أن يكون هذا

- إنها قد استغرقت في الجسدي، وقد أصبح ذلك طبيعياً بالنسبة لها، لاتصالها المستمر بالجسد، وعنايتها الدائمة به

- جد صحيح

- ويحق لنا يا صديقي أن نتصور أن هذه هي تلك المادة الأرضية الثقيلة الكثيفة، التي يدركها البصر، والتي بفعلها تغشي الكآبة مثل هذه الروح، فتنجذب هبوطاً إلى العالم المرئي مرة أخرى، لأنها تخاف مما هو خفي، وتخاف من العالم السفلي فتظل محومة حول المقابر واللحود، إذ ترى بجوارها - كما يحدثوننا - أشباح طيفية بعينها، لأرواح لم تكن قد رحلت قية، ولكنها ارتحلت مليئة بالمادة المنظورة فأمكن رؤيتها

- يغلب جداً أن يكون ذلك يا سقراط

- نعم يا سيبيس، فأغلب الظن أن يكون ذلك، ولا بد أن تكون هاتيك أرواح الفجار لا أرواح الأبرار، هؤلاء الفجار الذين كتب عليهم أن يجوبوا في تلك المواضع جزاء وفاقا بما اقترفت سبيلهم في الحياة من إثم، فلا ينقطع تجوابهم، حتى تشبع الرغبة التي تملؤهم، ثم يسجنون في بدن آخر، وقد يظن أن تلازمهم نفس الطبائع التي كانت لهم في حياتهم الأولى

ص: 37

- أي الطبائع تريد يا سقراط؟

- أريد أن أقول إن من اندفعوا وراء الشره والفجور والسكر، ولم تدر في خلدهم فكرة اجتنابها، سينقلبون حميراً وما إليها من صنوف الحيوان. فماذا ترى أنت؟

أرى أن ذلك جد محتمل

وهؤلاء الذين اختاروا جانب الظلم، والاستبداد والعنف، سينقلبون ذئاباً أو صقوراً أو حداً، وإلا فإلى أين تحسبهم ذاهبين؟ فقال سيبيس: نعم، إن ذلك، ولا ريب، هو مستقر تلك الطبائع التي تشبه طبائعهم

فقال: وليس من العسير أن نهيئ لهم جميعاً أمكنة تلأئم طبائعهم وميولهم المتعددة

فقال: ليس في ذلك عسر

- وحتى بين هؤلاء ترى فريقاً أسعد من فريق، فأولئك الذين اصطنعوا الفضائل المدنية والاجتماعية التي تسمى بالاعتدال والعدل، والتي تحصل بالعادة والانتباه، دون الفلسفة والعقل، أولئك هم أسعد نفسا ومقاماً. ولم كان أولئك هم الأسعد؟ لأنه قد يرجى لهم أن يتحولوا إلى طبيعة اجتماعية رقيقة تشبه طبيعتهم، مثل طبيعة النحل أو النمل، بل قد يعودون مرة ثانية إلى صورة البشر، وقد يخرج منهم أناس ذوو عدل واعتدال

- ليس ذلك محالاً

- أما الفيلسوف، أو محب التعلم، الذي يبلغ حد النقاء عند ارتحاله، فهو وحده الذي يؤذن له أن يصل إلى الآلهة، وهذا هو السبب، أي سمياس وسيبيس، في امتناع رسل الفلسفة الحق عن شهوات الجسد جميعاً، فهم يصبرون ويأبون أن يخضعوا أنفسهم لها - لا لأنهم يخشون إملاقاً، أو يخافون لأسرهم دماراً، كمحبي المال، ومحبي الدنيا بصفة عامة، ولا لأنهم يخشون العار والشين اللذين تجلبهما أعمال الشر كمحبي القوة والشرف. قال سيبيس: لا يا سقراط، إن ذلك لا يلائمهم فأجاب: حقاً إنه لا يلائمهم. وعلى ذلك فأولئك الذين يعنون بأرواحهم، ولا يقصرون حياتهم على أساليب الجسد، ينبذون كل هذا، فهم لن يسلكوا ما يسلك العمي من سبل، وعندما تعمل الفلسفة على تطهيرهم وفكاكهم من الشر، ويشعرون أنه لا ينبغي لهم أن يقاوموا فعلها، بل يميلوا نحوها، ويتبعوها إلى حيث تسوقهم

- ماذا تعني يا سقراط؟

ص: 38

قال: سأحدثك. إن محي المعرفة ليدركون عندما تستقبلهم الفلسفة أن أرواحهم إنما شدت إلى أجسادهم وألصقت بها، ولا تستطيع الروح أن ترى الوجود إلا خلال قضبان سجنها، فلا تنظر إليه وهي في طبيعتها الخاصة، إنها تتمرغ في حماة الجهالة كلها، فإذا ما رأت الفلسفة ما قد ضرب حول الروح من قيد مخيف، وأن الأسيرة تنساق مدفوعة بالرغبة إلى المساهمة في أسر نفسها (لأن محبي المعرفة يعلمون أن هذه كانت الحالة البدائية للروح، وأنها حين كانت في تلك الحال، تسلمتها المعرفة، ونصحتها في رفق، وأرادت أن تحررها، مشيرة لها بأن العين مليئة بالخداع، وكذلك الأذن وسائر الحواس، لتحملها على التخلص منها تخلصاً تاماً، إلا حين تدعو الضرورة إلى استخدامها، وأن تتجمع وتتفرغ إلى نفسها، وألا تثق إلا بنفسها وما توحي به إليها بصيرتها عن الوجود المطلق، وأن تشك في ما يأتيها عن طريق سواها، ويكون خاضعاً للتغير)، فالفلسفة تبين لها أن هذا مرئي ملموس، أما ذلك الذي تراه بطبيعتها الخاصة فعقلي وخفي، وروح الفيلسوف الحق تظن أنه لا ينبغي لها أن تقاوم هذا الخلاص، ولذا فهي تمتنع عن اللذائذ والرغبات، ولآلام والمخاوف، جهد استطاعتها، مرتئية أن الإنسان حينما يجوز قدراً عظيما من المسرات أو الأحزان أو المخاوف أو الرغبات، فهو لا يعاني منها هذا الشر الذي تقره الظنون - كأن يفقد مثلاً صحته أو متاعه، مضحياً بها في سبيل شهواته - ولكن يعاني شراً أعظم من ذلك، هو أعظم الشرور جميعاً وأسوأها، هو شر لا يدور في خلده أبداً

قال سيبيس: وما هو ذلك يا سقراط؟

- هو هذا: حينما تحس الروح شعوراً شديد العنف، بالسرور أو بالألم، ظننا جميعا، بالطبع، أن ما يتعلق به هذا الشعور العنيف يكون عندئذ أوضح وأصدق ما يكون، ولكن الأمر ليس كذلك

- جد صحيح

وتلك هي الحال التي يكون فيها الجسد أشد ما يكون استعباداً للروح

- وكيف ذلك؟

- لأن كل سرور وكل ألم يكون كالمسمار الذي يسمر الروح في الجسد، ويربطها به، ويستغرقها، ويحملها على الإيمان بأن ما يؤكد عنه الجسد أنه حق فهو حق، ومن اتفاقها مع

ص: 39

الجسد، وسرورها بمسراته ذاتها، تراها مجبرة على أن تتخذ عادات الجسد وطرائقه نفسها، ولا ينتظر ألبتة أن تكون الروح نقية عند رحيلها إلى العالم السفلي، فهي مشبعة بالجسد في كل آن، حتى أنها سرعانما تنصب في جسد آخر، حيث تنبت وتنمو، ولذا فهي لا تساهم بقسط في الإلهي، والنقي، والبسيط. فأجاب سيبيس: ذلك جد صحيح يا سقراط؟

وهذا يا سيبيس هو ما دفع محبي المعرفة الحق أن يكونوا ذوي اعتدال وشجاعة، فهم لم يكونوا كذلك، لما تقدمه الحياة الدنيا من أسباب

- لا، ولا ريب

- لا، ولا ريب! فليست تفكر روح الفيلسوف على هذا النحو، إنها لن تطلب إلى الفلسفة أن تحررها، لكي تستطيع، إذا ما تحررت، أن تلقي بنفسها مرة أخرى، في معترك اللذائذ والآلام، فتكون بذلك كأنها تعمل ما تعمل، لا لشيء إلا لكي تعود فتنقضه، وكأنها تنسج خيوطها - كما فعلت بنلوب. بدل أن تعمد إلى حلها، ولكنها ستتخذ من نفسها عاطفة راكدة ستتأثر خطو العقل، فتلازمه لتشاهد الحقيقي والإلهي (وهو ليس موضوعاً للرأي) ومن ثم تستمد غذاءها، وهي تحاول بذلك أن تحيا ما دامت في الحياة، وتأمل أن تلتمس ذوي قرباها بعد الموت، وأن تتحرر من النقائص البشرية، أي سمياس وسيبيس، أن تتبدد روح كان ذلك غذاءها، وكانت تلك آمالها المنشودة، عند انفصالها عن الجسد فتذروها الرياح، وتصبح عدما ليس له وجود

(يتبع)

زكي نجيب محمود

ص: 40

‌أنشودة عبقر

لشاعر الشباب السوري أنور العطار

يا مزهري نغم أغاني الهوى

القلب يعطي والهوى يسأل

أَأَنتِ مِنْ عَبْقَر أُنْشُودَةٌ

أرْسَلَها منْ رُوحِهِ مُرْسَلُ

أمْ أنتِ دُنْيا حَفَلَتْ بالهوَى

ياَ طِيبَ ما جاَءتْ بهِ تَحْفِلُ

أَهمُ في حُسِنكِ لا أرْعَوِي

أنْقُلُ مِنْ نُعْمَاهُ ما أنقُلُ

أَغِيبُ في جَنَّاتِهِ ساَدِراً

كغَيبْةِ النَّحْلِ إذا يَنْهَلُ

أنتِ نِدَائي في سُجُونِ الدُّجى

ومَفْزَعِي في الرُّعْبِ وَالمَوْئِلُ

وَجْهُكِ هذا أمْ رُؤى حُلوَةٌ

وثَغْركِ اللمَّاحُ أمْ سَلسَل

يَفْتِنُني منكِ صِبىً ناضِرٌ

آذَارُ في أعطاَفِهِ يَرْفُلُ

مُزَوَّقُ الأَفْياءِ يَنْدَى مُنى

كأنَّهُ منْ ضِحكهِ جَدوَلُ

تَضيعُ في أَمْوَاهِهِ حَسْرَتي

وما يُعاني القَلْبُ أوْ يَحَمِلُ

تُلْهِمُني عَينَاكِ أنَّ الهوَى

إذا طغَتْ أوْهَامُهُ يَقْتُلُ

إذاَ احْتَوَاكِ القلْبُ في حُلْمِهِ

قُلْتُ أَقَلبي أَنْتَ أَمْ جُلْجُلُ

يَظَلُّ منْ لوْعَتِهِ رَاجِفاً

كما انثَنى واضطربَ السُّنْبُلُ

لوْلَاكِ لم يُسْكِرْ فُؤَادي الأَسى

ولم يُهَدْهِدْني الهوَى الأولُ

دُنْيايَ إِمَّا غِبْتِ عَنْ نَاظِرِي

فَوْضى فلَا سُؤالٌ ولا مَأْملُ

أُحِسُّها صحْرَاء عُرْياَنَةً

مُوحشةً تُجْوَى وَتُستثقَلُ

لا الانْسُ ضَحَّاكٌ بِساَحاَتِهاَ

وَليسَ فيها منْ حِمىً يَأهُلُ

أَرُدُّ عنها الطَّرْفَ مُغْرَوْرِقاً

غَيَّانَ في حَيْرَتِهِ يوُغِل

عِيشي بِقَلبي فرَحاً شاَمِلاً

وَأَلهِميني منْكِ ماَ يَجْمُلُ

وفَسَّرِي للرُّوحِ لغْزَ الهوَى

تَكَشِفْ فجَاجاً سُبلُها تُجْهَل

ماَ ضَرَّني إنْ كُنتِ لي أنني

يَكثُرُ حسَّادي والعُذَّلُ

إنْ جدَّ في شكوْىَ الهوىَ شاعرٌ

ظَنُّوهُ منْ ضَلَّتِهمْ يَهْزِلُ

يَهُدُّني شَجوِي لكنما

أظلُّ في غمرتهِ أجذلُ

ص: 41

على فَمي قيثَارة تشتكي

وفي ضُلوعي زَهرةٌ تذْبُلُ

اقتَات بالأوهاَمِ في وَحدةٍ

الرُّعْبُ فيها شَبَحٌ يمثُلُ

تَطفَحُ بالأهوالِ أرجاؤها

والفكرُ تيَّاهٌ بها مُجفِلُ

إن خَلَصَت رُوحي مِنْ مَجْهَلٍ

هَبَّ يُعمَّي قصدَها مَجْهَلُ

تعْمُرُ بالجنَّةِ دَارَتُهُ

والرَّيْبُ يطغى والسَّنا يأفِلُ

أسيرُ فيه لا الهُدى رائِدي

وليس لي عنْ خوضِهِ مَزْحَل

أخبطُ في يَهْماَء منْ حَيرَتي

والليلُ مَرْهُوبُ السُرى ألْيَل

أسمعُ منهُ نغماً مُحزناً

تصرُّه في أذني الشّمْألُ

اَمامَ عيْنَيَّ دُجىً راعِب

يَلفّني مِطرَفُهُ المُسَبَل

وَمَنزِلي ناءٍ وَبي مِحنةٌ

فآه لوْ يَقترِبُ المَنزِلُ

ضججْتُ من مَحْبِسِ هذا الدُّجى

فَهل يَبينُ النُّور أو يُقبل

أوَّاهُ من مُضطَرَبٍ جاهدٍ

الغْيْبُ محجوبٌ بهِ مُقفَل

وَوَحشةٍ في القَلْبِ ماَ تمَّحي

وَظُلمةٍ في النفَّسِ ما تنْصُل

هذي حياتي مِلْؤهاَ حسرةٌ

وكاهِلي من عِبئها مُثقَل

كأنني في حقلها غَرْسَةٌ

ذاويةٌ أخطأها المنجلُ

أفردها المقدارُ في عالمٍ

نعيمهُ الخالِص مُستوْبَل

الرُّوحُ منَّي فقَدتْ تِرْبَها

فاندَفَعت من همَّها تعْولُ

آناً تَرَاها سَكَنت لا تَعي

كأنها في صَمتِهاَ الهْيكل

وتارةً كالنارِ جَياشةً

كأنما يَغلي بها مِرْجَل

كذاكَ أَحيا مُوجعاً ساهِماً

والموتُ من هذا الضَّنى أمثَل

ياَ طيفْها يرْهِقُ قلبي الأسى

وأنتَ عني ذاهِلٌ تَغفَل

أحببتها مُغريةً كالدّنا

لا سحرها يَفْنَى ولا يَبْطُل

تتركُ في النفْسِ أحاديثها

أعذب مما يترُكُ البُلبُل

أشمُّ منها عالماً عاطراً

يكادُ من فرْطِ الشَّذا يَثمَل

يا مِزْهَري نَغَّمْ أغاني الهوَى

القلْبُ يُعطِي والهوى يسَألُ

ص: 42

وأنْسِني الدُنيا وأشْجانها

فمن عَناء العَيشْ ما يُذهِل

وأنت يا مَشْعَلي المُرتَجى

أضئ لي الآفاق يا مشعَلُ

هذا السّنا الرفّافُ من خاطِري

واللحْنُ من رُوحي مُسترسَل

دمشق

أنور العطار

ص: 43

‌من أدب الهند

الأمير خسرو الشاعر الهندي الكبير

بقلم السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي

ترجم صديقي الدكتور عبد الوهاب عزام بعض الأبيات الفارسية للشاعر الهندي العلامة الصوفي الكبير الأمير خسرو في (الرسالة)، فأثارت الترجمة في نفسي ذكرى ذلك العبقري العظيم أياما كنت أطالع بعض دواوينه وأحاول أن أقيس عظمة عبقريته في الصغر بفهم غير ناضج وإدراك غير كامل فكانت تفيض عن سعتهما، فكنت أستعين بمسامرات الإخوان ومحادثات الأقران. واليوم بعد نضوج الفهم حين أحاول قياسها أرى أن استقصاء جميع نواحيها لا يزال من غير المستطاع لي، وإن كانت لذلك أسباب إخرى، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. أحب أن أبلغ اليوم بقدر الإمكان رسالته إلى (الرسالة)، إذ حياة العظماء والأدباء رسالة وقدوة للأجيال في كل مكان وزمان، وأنثر أزهار الحديث عنه على مرقده الخالد الحي وهو ذكراه في القلوب

ولد الأمير خسرو في الهند في مدينة بطيالي بقرب دهلي في سنة 652 هجرية من سلالة عريقة في الشرف من الأتراك المهاجرين إلى الهند من مظالم جنكيز خان في وسط آسيا. فكانت قبيلته المسماة (لاتشين) تسكن في بلدة تكش في ولاية ما وراء النهر، قد هاجرت إلى الهند عند هجوم جنكيز خان؛ وكان أبوه سيف الدين محمود رئيس تلك القبيلة. وكان في الهند حينئذ شمس الدين التمش ملكاً من ملوك المماليك، فرحب بجميع المهاجرين وأكرم وفادتهم. وأما أم خسرو فكانت بنت عماد الملك وزير الحربية للسلطان بلبن. وقد روى أمير خوند في كتابه سير الأولياء عن والده أن في جوار والدي الأمير خسرو كان يسكن صوفي كبير مسمى (أمير لا تشين) فلما ولد خسرو حمله والده ملفوفاً في القماش إليه، فقال الصوفي:(أنتم جئتم إلى بمن سيسبق خاقاني (الشاعر الفارسي الشهير) بدرجتين؟

مات أبو خسرو وهو في السابعة من سنة، ولكن أسرته كانت مثرية فلم تهمل تربيته وتعليمه، فتربى خسرو في دهلي، وكانت دهلي إذ ذاك حاضرة الحكومة منذ ثلاثة أرباع قرن، فكانت مركز العلوم والفنون، ومحور الحضارة والمدنية، ومأوى الفضلاء والعلماء، ومطمح أنظار أهل الفن والصناعة مما يجعلها ثانية في الأهمية لبغداد. في هذا الوسط

ص: 44

الراقي تربى خسرو فنبغ في العلوم والفنون المختلفة، غير أن ميله الغريزي كان إلى ثلاثة: الشعر والموسيقى والتصوف، فأجادها في أقل وقت، وبلغ فيها درجة الإمامة

بداء خسرو يقول الشعر وهو في صباه حتى أصبح الشعر له مهنة معترفا بها من الجميع في نهاية العقد الثاني. ولكن تقاليد ذلك الزمان والظروف العائلية كانت تقتضي أن يكسب العيش بواسطة مهنته هذه، فلم يكن له بد من أن يتصل بأمراء وسلاطين ذلك الزمن من مقدري مهنته. فاتصل خسرو في سنة 676 أول مرة بعلاء الدين كوشيل خان المعروف بين الناس باسم (ملك شجو)، وملك شجو كان ابن أخت الإمبراطور غياث الدين بلبن و (أمير حاجب)(أي رئيس الحجاب) في بلاطه. ولكنه كان فاضلاً يقدر العلم والفن، واسع الصدر كريماً. فقد قال المؤرخ الشهير ضياء الدين برنى، وهو من معاصري خسرو وأصدقائه في كتابة تاريخ فيزور شاهي: (أنا سمعت كثيراً ممن أعتمد عليهم، ومن الأمير خسرو أنه لم يوجد مثيل الملك علاء الدين كوشيل خان في سعة الصدر والكرم، وفي إطلاق الرصاص والصيد ولعب الكرة، وكان الملك علاء الدين قد نال شهرة واسعة وإن لم تدم، حتى أن هلا كوخان الشهير أرسل إليه خنجراً وعرض عليه أن يكون حاكما على نصف العراق لو أراد الذهاب هناك. ولكن خاله الإمبراطور بلبن استنكر حريته الخارجة عن العادة. ويذكر المؤرخ برني في محل آخر أن شجو كان أغزرهم جوداً وأعظمهم منحاً، وزع جميع أملاكه على الناس ولم يبق لنفسه إلا المعطف الذي ستر جسمه. ومن أمثال جوده وتقديره للشعر أنه أعطى جميع الخيل في اصطبله للشاعر خواجه شمس معين ووزع عشرة آلاف تنكه على المغنين عند تقديم قصيدته وإنشادها إياه. ولم يكن خسرو أقل حظاً من هؤلاء الشعراء لتفوقه عليهم وذكائه الخارق. فقد قال قصائد غير واحدة في مدح شجو، ونحن ننقل إلى العربية بعض أبيات من قصيدته البديعة التي تعد مثالاً للغلو الشرقي في المديح قال

(إن الأشعة البهيجة لنور الصبح الملون بلون العنبر قد بددت ظلام الليل، والهلال الأصفر كالمريوق بقرنيه المقوسين كاد أن يغيب عن النظر، فسألت الصبح: أين شمسك الموعود بها؟ فأراني وجه شجو المشرق بنوره البازغ! ثم توجهت إلى السماء المرصعة بالنجوم، فسألتها: من يساعد نجومك في سيرها؟ فضحكت من سؤالي العبث، وأرتني أيدي الملك

ص: 45

التي جعلتها مستقيمة)

لم يدم اتصال خسرو مع ملك شجو أكثر من سنتين، فان قلب شجو تغير على الشاعر خسرو لحادثة حدثت، وهي أن نصير الدين بغراخان النجل الثاني الإمبراطور غياث الدين بلبن كان مرة على مأدبة شجو والشاعر كذلك، فلما سمع منه شعره استحسنه وسر كثيراً وقدم له طستاً مملوءاً بالنقود الفضية، فغضب شجو على خسرو لقبوله هذا الانعام وتغير؛ وعبثا حاول خسرو بعد ذلك إرضاءه

اتصل خسرو بعد ذلك بنصير الدين بغراخان حاكم سمانا لمدة قصيرة، ثم انقطع عنه واتصل بعده بسلطان محمد الشهير بخان شهيد، النجل الأكبر للإمبراطور غياث الدين بلبن؛ وكان خان شهيد حاكماً على إقليمي البنجاب والسند، وعندما حضر العاصمة دهلي مع ريع الإقليمين في سنة 782 هجرية قابل الشاعر خسرو وأخذه إلى البنجاب. بقي خسرو مع خان شهيد خمس سنين، وكان دائماً موضع العطف الخاص والإجلال والتكريم، لأن خان شهيد كان أمثل الأمراء على حسب تقاليد الزمن في الأخلاق والشجاعة والعلم والأدب، ومن أكبر مقدري الفنون والشعر، فقد وجد في بياضه ثلاثون ألف بيت يعترف بها نقاد الفن على كمال الذوق وحسن الاختيار والعلم الواسع، وكان بيته ملجأ العلماء ومأوى الفضلاء، وكان يبذل قصارى جهده في جمع كبار العلماء والفضلاء والشعراء في مجلسه، فقد دعا الشيخ سعدي الشيرازي الشاعر الفارسي الشهير مرتين، وأرسل إليه نفقات السفر ووعد ببناء صومعة له في بلدة ملتان والأنعام الكثير، ولكن الشيخ اعتذر لكبر سنه، وبعث إليه بعض غزلياته مكتوبة بيده، ولفت نظره للشاعر الأمير خسرو مبالغاً في مدح ذكائه وفضله

في سنة 787 هجرية هجم المغول على الهند؛ فقام خان شهيد للدفاع عن بلاده وقتل؛ ولم يكن الأمير خسرو جليس الأمراء فقط، بل كان قائداً عسكرياً أيضا، فقد اشترك في محاربة المغول مع سيده ووقع أسيراً في يدهم بعد أن قتل سيده فكابد ما كابد على أيديهم من الألم والأذى. ذكر ذلك بكلمات مؤثرة في رثائه الشهير لسيده ننقل بعض أبياته إلى العربية؛ قال:(ثم فاجأتنا نازلة من السماء الزرقاء، وقامت القيامة على الأرض، إذ فرقت جماعة أصدقائنا مثل تفريق أوراق زهرة الورد بريح الخريف المخربة للحديقة)

ص: 46

ثم وصف آلام أسره فقال:

(إن شهداء المسلمين لونوا الصحراء بلون دمهم، بينما كانت أعناق الأسارى منظومة نظم الأزهار في الإكليل. وأنا أيضا كنت أسيراً خوفاً من أنهم يريقون دمي، لم تبق في عروقي قطرة من الدم. وكنت أجري كالماء هنا وهناك مع نفطات لا تعد على قدمي مثل الفقاقيع على سطح النهر. وكان لساني قد جف من العطش الشديد، ومعدتي التصقت (بظهري) من الجوع. وهم (أخذوا ثيابي) وتركوني عريان مثل الشجرة المجردة من الأوراق في زمن الشتاء، أو الزهرة المخموشة بالأشواك. والمغولي الذي أسرني كان جالساً على الحصان مثل الأسد، وكانت الرائحة الكريهة تسطع من فمه وإبطه، وكان على ذقنه خصلة من الشعر الوسخ مثل النبات. فان توانيت وراءه من الضعف كان يهددني تارة بمقلاته وتارة برمحه، فكنت أتنهد على تلك الحالة وأرى أن النجاة منها مستحيلة. ولكني أشكر الله على أني استعدت حريتي بغير أن يطعن صدري برمح، أو يقطع جسمي بسيف)

وحكاية استعادة حريته هي أن المغولي وحاشيته وخيله كلهم نزلوا في النهر عند غسق الليل لشرب الماء فانتهز خسرو الفرصة وهرب وبعد وصوله إلى دهلي كتب هذا الرثاء المؤثر الذي شاع وذاع حيث أصبح به خسرو معروفاً عند عامة الناس أيضاً بقي خسرو بعده في مسقط رأسه في خدمة أمه حتى تولى الأمر معز الدين كيقباد، وهو آخر ملوك المماليك، فاتصل به وصنف له كتابه الشهير (قِران السعدين) على طلبه، ولم تمض مدة قليلة حتى انتقل الحكم من المماليك إلى الأسرة الخلجية. فتولى الأمر أول ملوكهم السلطان جلال الدين خلجي الذي كان يعرف خسرو ويعترف بشعره وذكائه قبل اعتلائه العرش. فمنح خسرو لقب (الأمير)، وعينه في منصب أبيه بمرتب ألف ومائتي تنكة في السنة. ثم رفعه إلى منصب محافظ القرآن الملكي. فأصبح من أعضاء بلاط الملك ومن ندمائه. فكتب له خسرو كتابه (مفتاح الفتوح)، وهو تاريخ غزوات جلال الدين خلجي بالشعر. نشبت حرب أهلية بين العائلة الملكية فقتل فيها جلال الدين وتولى الأمر ركن الدين خلجي لمدة أقل من سنة، ثم تولى علاء الدين خلجي، فاتصل به الشاعر خسرو، وهو أطول اتصالاته بالأمراء، لأن حكومة علاء الدين دامت عشرين سنة، وهي أيضا مدة أكثر إنتاجا في حياة خسرو. فقد صنف في أقل من ثلاث السنين الأولى من تلك المدة خمس روايات قصصية

ص: 47

منظومة وهي: (1) مطلع الأنوار، (2) شيرين وخسرو، (3) ليلى والمجنون، (4) آئين سكندري (أي القانون الإسكندري)، (5) هشت بهشت (أي الجنات الثمان)، وتسمى كلها أيضا (بنج كنج) أي (الخزائن الخمس). ودشنها لشيخه في الطريقة الصوفي الولي الكبير مولانا (نظام الدين أولياء) وأهداها إلى السلطان علاء الدين. وبينما كان مشغولاً بتصنيف ليلى والمجنون منها فقد أمه وأخاه في سنة 697 فحزن، ورثاهما بكلمات تسيل الدموع في مصنفه، ننقل رثاءه لأمه إلى العربية قال:(وفي هذه السنة فقدت نورين من نجمتي وهما أمي وأخي، أسبوع واحد من سوء حظي فقدت فيه قمرين! إن حظي كبسني من جهتين، والفلك بددني بلطمتين، فأصبح نوحي مزدوجاً وغمي مضاعفاً، وا حسرتاه! أنوح على الاثنين وا أسفاه! ألمان لمثلى! إن شعلة واحدة كانت تكفي لزرعي إن صدرا واحدالا يتحمل ثقلين، ولا رأساً واحداً وجعين، إن أمي تحت التراب، فلا غرو أن ألوث رأسي بالتراب يا أمي! أين أنت؟ لم لا ترينني محياك)؟

اطلعي ضاحكة من قلب الأرض، وارحمي بكائي المر! إن في كل أثر من قدمك لي تذكاراً من الجنة، إن وجودك كان حافظاً لنفسي ومعيناً ومتكأ لي، يوم كنت تتكلمين بشفتيك كان نصحك صلاح أمري، واليوم ختم على (لساني) وسكوتك لا يزال ناصحاً

صنف خسرو في عهد علاء الدين ما عدا بنج كنج (أي الخزائن الخمس) ثلاثة أو أربعة كتب أخرى سنبينها عند كلامنا عن مصنفاته، وفي سنة 715 هجرية توفي علاء الدين فتولى الأمر قطب الدين خلجي فاتصل به خسرو وصنف في عهده (نه سبهر) أي (الأفلاك التسعة) وقدمه إليه فسر السلطان منه جداً وأنعم عليه بفضة تساوي وزن الفيل، وبعد وفاة قطب الدين تولى الأمر نصير الدين خلجي لمدة أقل من سنة، ثم انتقل الأمر من الأسرة الخلجية إلى الأسرة التغلقية، وكان أول ملوكها غياث الدين تغلق فاتصل به خسروا وصنف له (تغلق نامه) أي كتاب تغلق في سنة 725 هجرية وهو آخر تصانيف خسرو لأنه مات في تلك السنة

عاش خسرو 73 سنة وصنف 99 كتاباً أكثرها في الشعر باللغة الفارسية والهندية ضاع جلها إلا القليل، وعاشر ملوك، وإن لم تجاوز مدة بعض منهم سنة، بينهم ملوك الأسرة الخلجية الكاملة؛ وكان خسرو عالماً فاضلاً وشاعراً مفلقاً، وموسيقياً بارعاً، وصوفياً كبيراً.

ص: 48

وسنتكلم عن نبوغه في الشعر والموسيقى والتصوف في المقال الآتي إن شاء الله.

السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي

ص: 49

‌ملخص محاضرة

الفن الفارسي

للشاعر الإنكليزي

(وفد على مصر في هذه الأيام الشاعر الإنكليزي المشهور مستر لورنس بنيون أمين القسم الشرقي بالمتحف البريطاني، وألقى أربع محاضرات تناول فيها أغراضاً مختلفة في الفن والأدب، وهذه أولى محاضراته عن الفن الفارسي)

إن الكلام عن الفن الفارسي يستوجب من المحاضر أن يلم في بادئ الأمر بالموقع الجغرافي الذي كان له أثر لا ينكر في توجيه الرسم الفارسي ناحية خاصة، يلاحظها كل من له اهتمام به وتعلق بدراسته، وإن وقوع فارس بالقرب من بلاد العرب وتوسطها بينها وبين بلدان الشرق الأقصى صبغ الفن الفارسي بصبغة خاصة وإن ظل مع ذلك محتفظاً بروحه القوية، وشخصيته البارزة التي تميزه تميزاً واضحاً جلياً من فنون الأمم الأخرى سواء أكانت غربية أم شرقية، فلهذا الفن مميزاته الخاصة وروحه المستمدة من صميم الواقع

وكما أن للظروف الجغرافية تأثيراً، كذلك للظروف السياسية أثراً لا يمكن للباحث أن يتجاهله أو ينكره، فقد تغلبت على هذه البلاد عدة دول حاكمة كالإغريق في القديم والساسان والمسلمين، وكانت الدولة الساسانية آخر الدول الفارسية التي حكمت إيران، والتي توطد لها العرش زهاء أربعة قرون منذ القرن الثالث حتى السابع الميلادي، إذ ظهر قبل ذلك بقليل دولة الإسلام الفتية، فاكتسحت ما في طريقها، وخفق علم الإسلام على كثير من ربوع العالم، ولما كانت فارس قريبة من بلاد العرب فقد اتجهت إليها أنظارهم بطبيعة الحال والموقع، ولم يلبث العرب أن خضدوا شوكة دولة بني ساسانواستتبت أقدامهم فيها، كما أخذ الدين ينتشر في ربوعها، ومن ثم أخذ الفن الفارسي من رسم إلى تصوير إلى شعر يتأثر بعض الشيء بهذه الظروف الجديدة التي أحاطت به، وربما كان ذلك أوضح في الشعر منه في الرسم والتصوير

وهنا نرى لزاماً علينا أن نشير إلى أن العرب حين غزوا هذه البلاد كانت هناك نهضة فنية، تدلنا على ذلك الآثار التي أماطت اللثام عنها بعثة ألمانية، إذ عثرت على كثير من

ص: 50

هذه الرسوم في بلاد الأفغان، وأقدم هذه اللوحات بوذية، ولكنها على درجة عالية من الإتقان

وقد قامت في ذلك الحين مدرسة فنية في بغداد التي كانت مركزاً ثقافياً إسلامياً مهما، وإذ كان العرب قد نشروا سلطانهم على هذه الربوع، فقد أدوا للفن خدمة كبرى بأن كانوا وسيطاً قوياً في نقل الروح الغربية إلى الشرق، وتطعيم الفن الفارسي بالفن العربي، وذلك بأن العرب اتصلوا اتصالاً مباشراً بالأمم الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتعاملوا معها في جميع مرافق الحياة. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلابد لنا من أن نشير إلى أن أثر الفن الصيني كان أقوى من تأثير الفن الأوربي في التصوير الفارسي، وإن المقارنة بين الفنين الصيني والفارسي لتظهر لنا هذا أجلى من المقارنة بين الثاني والغربي؛ وكان الاختلاط في أول الأمر قليلاً، ولكن الظروف المحيطة غيرت الأمر الواقع، وزادت الصلات توثقاً، إذ ظهرت دولة المغول، وهم من الجنس الأصفر تحت زعامة القائد المعروف تيمورلنك، فاتصلت البلاد الصينية بربوع الشرق الأدنى، وأصبحت هذه البلاد جميعاً أكثر ارتباطاً من ذي قبل. وهنا كان عصر ازدهار وقوة للفن الفارسي!

ذلك بان الفنانين الفارسيين حين شاهدوا آثار المصورين الصينين أعجبهم هذه البراعة الفائقة والدقة المتناهية في إبراز العواطف والمناظر المختلفة في صور محسوسة تسترعي الانتباه، وتشهد لهم بالعبقرية والفن، إذ كانت هذه الرسوم تستلزم التفكير الدقيق في كيفية تهيئتها وإبرازها على هذا النحو العجيب، ومن ثم بدأوا يجارونهم وينهجون سبلهم، ويترسمون آثارهم وقواعدهم، ورأوا أن إبراز الإحساس بالواقع عند الصفر أكثر مما عندهم، كما شاهدوا الدقة العظيمة والقدرة الرائعة في تجسيم كل ما تقع عليه العين في صورة جذابة، كما أنهم لم ينسوا أن يستلهموا الطبيعة صوراً ويستمدوا منها فنا جعلنا نقف موقف الإجلال إزاء هذا الفن العالي المجسم، حتى إنهم صوروا تسلسل المياه مما لا ينقصه إلا الخرير حتى تكون طبيعة ثانية من عمل المرء بجانب الطبيعة التي أوجدها الله

وقد يظهر لنا من هذا الكلمة السالفة أن الفن الفارسي كان صورة ثانية للفن الصيني، أو هو فن صيني رسمته ريشة فارسية، ولكن الحقيقة هي أنه بالرغم من تأثره إلى حد ما بالرسم الصيني فقد ظل محتفظاً بشخصيته وروحه وطبيعته الفارسية، ولا يشين الفن الإيراني أن يكون قد أجل الفن الصيني؛ ومهما يكن الأمر فهناك فروق تظهر جلية للباحث المدقق، حين

ص: 51

تعرض عليه صورتان لمنظر واحد أولاهما لمصور صيني والأخرى لفارسي؛ ونحن حين نستعرض صورتين لمنظر من مناظر الطبيعة مثلاً، تبارت في إحداهما ريشة صينية وفي الأخرى فارسية، فإننا نلاحظ في الأولى التحرر من القيود الطبيعية وعدم التزام وحدة معينة، بل نرى كيف يخضع الفنان الطبيعة لريشته، بينما نلمس تناسق الأجزاء وترتيب بعضها بالنسبة للبعض الآخر في صورة الفنان الفارسي، وربما سأل السامع نفسه إزاء هذا عن العلة أو العلل الحقيقية والمباشرة أو غير المباشرة التي أدت إلى افتراقهما بعضهما عن بعض بعد أن اتحدا في الفكرة، أهي الخيال؟ أم الإحساس؟ أم طبيعة كل منهما؟ وقد يكون ذلك أحد هذه الأسئلة، وقد تكون جميعاً متحدة، ولكن هناك أمراً لا بد منه، ولا بد أن نذكره إذا أردنا إجابة شافية توصلنا أو تقربنا إلى بغيتنا، ذلك أن استيعاب الفنان الإيراني للمسافات لم يكن كاستيعاب الصيني لها واهتمامه بها، فبينا نجد عند الأخير الطلاقة الفنية، والإحساس بالحرية، إذا بنا نجد الفنان الفارسي يحدد قبل البدء، ويرسم لريشته محيطاً لا تتعداه، ومجالا لا تخرج عنه بحال من الأحوال

وصفة ثانية كان يمتاز بها الفنان الفارسي على وجه العموم، تلك هي أنه لم يكن ليشرد بريشته كثيراً، وربما عد هذا في نظر بعض نقاد العصر الحاضر جموداً، وقد يخالفهم في نظرتهم هذه كثيرون، ولكل من الفريقين وجهة ورأي يباين رأي الفريق الآخر، وقد يتعصبون لهذه الأفكار والآراء، ولكنهم يتفقون في أنه عمل رائع جدير بالإعجاب، وسواء أكان الحق في جانب هذا أم ذاك، فذلك أمر مرجعه إلى الذوق الفني والشعور الرهف الذي يستشف الحقيقة خلال الطلاسم، ويتلمس الشعلة من بين أسداف الظلام، ويتعرف الصواب والحق مهما تكالبت أسباب الباطل، ويستخرجه كما يستخرج التبر من الثرى نقياً ولعل أقرب الأمثلة على هذه الصفة التي أشرنا إليها آنفاً: أعمال (بهزاد) وهو أكبر فنان فارسي تبوأ ذروة المجد من رسومه الفنية، وكان ممتازاً في إخراجها، قوي الإفصاح عن مقصوده، ولكنه بالرغم من هذا المجد التالد والفن الخالد، فإننا لا نجده قد قام بأية ثورة على هذه القيود - كما يسميها البعض - ولم يحاول أن ينتزع نفسه من ربقة التقاليد وترسم الآثار، ولم نشهد له محاولة ولو ساذجة تجعلنا نقول إن هناك تباشير تطور أو حركة تجديدية ضد ما تآلفوا عليه، بل رأيناه وخلفه يسيرون على منهج واحد، كأنما استسهلوا هذه الطريق

ص: 52

المعبدة، ولكنهم على أي حال، وإن كانوا قد انصرفوا عن هذا الطريق، إلا أنهم جميعاً كرسوا جهودهم وصرفوا قواهم في إبداع آيات خالدات في الفن، تشهد لهم بالعبقرية، وحسبهم فخراً أن يهتم المتحف البريطاني في إنجلترا بلوحات الفنانين قاسم على والسعدي وغيرهما من أقطاب الفن الفارسي. وعلى العموم يمكننا أن نقول إن الفن الفارسي فن لا يكتفي بالنظرة الواحدة للحكم عليه ففي ذلك شيء كبير من الاستبداد، وهو فن عالمي يشهد للفرس بالدقة والبراعة

تلخيص وترجمة حسن محمد محمود

ص: 53

‌القصص

من الفن القصصي الحديث

زوج آخر ساعة

للقصصي الإنجليزي ريس ديفز

ترجمة علي كامل

(ريس ديفز من أصغر القصصيين الإنجليز سناً. وهو كغيره من الكتاب الإنجليز المعاصرين شديد التأثر بالمذاهب الجديدة في علم النفس، فنراه في قصصه يعتمد إلى التحليل الدقيق لشتى العواطف والنزعات التي تعصف بكل نفس إنسانية. والقصة التي نترجمها له اليوم قد ترجمت إلى عدة لغات حية)

نزلت مارية من غرفة نوم والدها وقالت لعمتها في هدوء وحزن كعادتها دائما:

لقد مات!

فرفعت عمتها (آن) عينيها من فوق الإنجيل الذي كان بين يديها، وفتحت فاها حتى آخره وقد انتابها فزع عظيم، ثم بحثت عن منديلها ومسحت به عينيها العجوزين اللتين لا تتسرب إليهما الدموع، ثم بكت وهي تقول:

إنهم يذهبون جميعاً قبلي!

وفتح مارية الدولاب وتناولت منه (التريكو) وجلست أمام النار كعادتها كل مساء، وأخذت تشتغل باهتمام برغم ضجرها وتعبها من السهر الطويل وعنايتها بالميت

فنظرت إليها عمتها وهي تكاد تصعق من الدهشة، ودب في جسمها النشاط وصرخت في وجهها قائلة:

تحركي يا مارية، ليس هذا وقت (التريكو). اذهبي وابحثي عن الستائر لنغطي بها النوافذ. ويجب أيضاً أن نغير للميت ملابسه ونقوم له بكل ما يلزم

على أن ماريا لم تتحرك، وبرغم أنها كانت منهوكة القوى كان يظهر عليها دلائل فرح مرير، فقد كان يبدو لها أنها تحررت مرة واحدة من قيود عنيدة مؤلمة، كانت تقول بصوت منخفض مخاطبة عمتها (آن):

ص: 54

- لقد كان والدي رجلاً قاسياً يا عمتي (آن)، وكان كل يوم عنده يوم أحد. لقد جعل من هذا المنزل (مدرسة يوم الأحد) وكم من مرات حقدت عليه وكرهته، وكانت والدتي تشبهه. وكنت أنا بين الاثنين كأنني في جحيم لا يطاق

في أثناء ذلك كانت عمتها (آن) تصعد تنهدات الحزن والألم. قالت الفتاة:

إنها الحقيقة المرة، والآن وقد مات الاثنان فإني أستطيع أن أحكم عليهما. لقد جعلا مني فتاة عجوزاً لم تر من متع الحياة شيئاً. فكنت لا أعرف غير الإنجيل من الصباح وعند الظهر وفي المساء

وكانت الفتاة تتكلم بصوت ملؤه الحقد والعداوة، وكانت ترتعش حسرة على نفسها. كانت تفكر في تلك الجثة الراقدة في الطابق الأعلى والسخط مستول عليها. كانت تريد البكاء ولكن دمعة واحدة لم تجد بها عيناها. وكان وجهها الغليظ الذي بدا عليه الغضب والكبرياء منكباً على (التريكو) الذي بيدها. قالت:

والآن وقد ضاعت خير أيام حياتي في العمل في سبيلهما، فسأبقى بقية حياتي وحيدة، ولو كانا تركاني أخرج من المنزل لاستطعت أن أجد الفرصة لأتزوج

قالت عمتها:

مهلاً. إنك لا زلت في الثلاثين من عمرك، وفي استطاعتك الآن أن تجتهدي في إيجاد زوج لك. إنك يا مارية فتاة قويمة الأخلاق تحسنين الطهي. إنك لست كفتيات اليوم الطائشات، وهناك كثير من الرجال الذين يبحثون عن فتاة مثلك ليتزوجوها

واستمرت مارية تشتغل في صمت. . . ثلاثة وثلاثين عاماً! قبيحة المنظر غليظة الجسم منكسرة القلب! أي رجل ذلك الذي يريد مثل هذه الفتاة في هذه الأيام؟

وتملكها خوف عظيم وهي تشتغل، كم من الأشياء فقدتها في الحياة! لقد أدركت تماماً أنها كانت تعيش بعيدة عن عالم المسرات واللذات، والآن فات الوقت التمتع. ولكن ألم يعد هناك أمل في شيء؟ قالت الفتاة:

إنني أظن يا عمتي (آن) انه يحسن أن أبيع هذا المنزل وأقيم على ساحل البحر

فأجابت المرأة العجوز على الفور في غضب:

لا تبادري ببعثرة المال الذي تركه لك أبوك. هلا فكرت في؟

ص: 55

وأجهشت العمة بالبكاء:

ها هو ذا المال يا مارية قد ابتدأ يجعل منك فتاة منطفئة الآمال قاسية القلب. إنني أعرف نفسيتك الآن

وخرجت العمة لرؤية الميت. وابتدأت عينا ماريا الزرقاوان المنطفئتان تلمعان من جديد؛ إن التفكير في المال الذي ورثته وفيما يمنحه هذا المال من السلطان، قد جعل حرارة السعادة تدب في جسمها الغليظ. غير أنها كانت تود أن تكون أصغر سناً مما هي الآن. وكانت تعرف أيضاً أنها قبيحة المنظر

ودخلت العمة آن قادمة من غرفة النوم وهي تقول: لقد رحل إلى العالم الآخر. إن وجهه جميل وطاهر، والآن يا مارية أي مجنز نعهد إليه بالقيام بحفلة الجنازة؟

فأجابت مارية:

جون جونز. إنه أرخص من توماس إيفانز

ولكن إيفانز ممن ينتسبون إلى الكنيسة القديمة. إن الذين يحترمون أنفسهم لابد يفضلونه، وعرباته أيضاً أكثر جمالا. فقالت مارية بصوت الآمر:

ولكنني أفضل جون جونز. لقد كنت معه في المدرسة وكان دائماً معي رقيقاً

فأجابتها العمة آن وقد أخذها الغضب:

- إنه رجل أعزب طماع

وذهبت مارية وأحضرت الأقمشة البيضاء لتغطي بها النوافذ، وكان ذلك علامة على أن الموت قد عرف طريقه إلى المنزل. ولم تكد تمضي عشر دقائق على ذلك حتى كان سيل الجيران قد ابتدأ يتدفق ليروا الميت. وكانت العمة آن جالسة بجانب جثته. بينما كانت مارية في الطابق الأرضي تصغي بسخرية إلى كلمات المجاملة والعزاء التي يوجهها إليها الزائرون

قالت إحدى النساء:

ولكنك سوف تكونين في سعة من العيش، فلقد ترك أيضاً وراءه مقادير مخبأة من المال لا بأس بها. لقد كان دائماً متبصراً يا مارية. كان يشح من أجلك

فمطت مارية شفتيها بسخرية وابتسمت ابتسامة باردة وقالت:

ص: 56

إن كل ما هنا قد عاد إليَّ. ولكنك عديمة الفطنة يا مسز هاولز. إنك تفكرين دائماً في المال

آه! مثلك أنت. إنه يبدو عليك أنك فتاة غير طبيعية من كل الوجوه يا مارية، ألا تذرفين دمعة واحدة على أبيك المسكين؟ ها أنت جالسة ككتلة من الثلج، لا تعرفين الكلام إلا في كل ما لا يتفق مع الموقف الذي أنت الآن فيه!

وكان الجيران خارج الغرفة يتكلمون عن عدم تأثر الفتاة وجمود عينيها اللتين لم تعرف الدموع اليهما سبيلاً؛ ولكن مارية كانت جالسة في هدوء، مفعمة القلب بالاحتقار والعداوة للجميع، متمتعة في أعماق نفسها بأن تكون موضع أحاديث الناس، هانئة بذلك الدخل الذي سوف تناله عما قريب. وعندئذ شعرت أنها أصبحت مستقلة طليقة، وفي نفس تلك الليلة آوت إلى سريرها في فراشها الوثير باستسلام شهواني. وكأنما الموت الذي أقبل إلى المنزل قد فتح في أعماق نفسها منبعاً من السرور العجيب

وفي صباح اليوم التالي أرسلت مارية عمتها (آن) لتبحث عن المجنز، فحرجت آن وهي تتمتم بعبارات السخط والغضب، ولكنها كانت تتعزى كلما فكرت في أنها ستفوز بخمسة شلنات، لتشتري بها ثوباً أسود وقبعة. وكانت تقول لنفسها وهي تبكي:

وإن دفنه بيدي جون جونز سيقلقه في مقره الأخير. فعرباته القديمة فرشها حقير للغاية. إني أخجل منهم

وعاد المجنز معها واستصحبته إلى الدور الأعلى لكي يقيس جثة الميت، ثم نزل إلى الصالون حيث انتظر مارية

وجاءت مارية، فبادرها بقوله:

ما أكثر وقار وجهه يا مس مورجنز

فأجابته مارية في الحال بنظرة خبيثة قائلة:

إن وجهك أنت سيكون أكثر هدوءاً ووقاراً حين يتوفاك الله!

فسألها وهو يهز رأسه الصغير:

وكيف ذلك؟ لقد عشت حتى الآن عاقلاً رزيناً

فقالت بخبث وهي تبحث له عن كرسي:

لقد كنت في المدرسة صبياً ماجناً خداعاً، اجلس الآن ودعنا نتكلم في الموضوع

ص: 57

كان جون جونز شابا نشيطاً عصبياً أشبه بعصفور. ألقى جون جونز قبعته بجانبه، وفرك يديه ثم وضعها على ركبتيه النحيلتين كركبتي مراهق، وكان يحاول عبثاً أن يتظاهر بالبرود الحزين الذي يتناسب مع مهنته، فقد كان خفيف الحركة، ويبدو كأنما يثقله العمل الكثير، وكانت لحيته كأنها محلوقة منذ برهة وجيزة، كما أنه لم يكن ناجحاً في عمله كمنافسه

قال جون جونز، وقد بدا على وجهه نوع من الاهتمام:

أي نوع من التوابيت تفضلين؟

وعندما نظرت إليه مارية نظرة باسمة احمرت وجنتاه وتولاه الاضطراب. سألته قائلة:

كم الثمن الذي تريده؟

كانت مارية جالسة أمامه وجهاً لوجه تناقش الأثمان بمكر ودهاء عجيبين، وقد لمعت شفتيها الغليظتين، وبدا عليها التفكير والانتباه، مما جعله يعجب بها برغم سخطه. وبعد حساب طويل، قال:

إن كل شيء سوف لا يتكلف أكثر من عشرين جنيهاً، فهزت مارية رأسها قائلة:

إن توماس إيفانز يأخذ أقل من هذا

فقفز جون جونز من على كرسيه، وقد تملكه الغضب وقال:

إنك يهودية إلى آخر حد يا مارية مورجنز، إنه لا يليق أن تكوني شحيحة هكذا فيما يتعلق بالمآتم

فتوقفت مارية أيضاً، وقد احمرت وجنتاها من الغضب وصرخت:

إنك تريد أن تسرق الأيتام الفقراء، تريد أن تربح من فتاة لم يعد لها أب!

فضحك جون جونز ساخراً:

أيتام فقراء! إنني متأكد أن والدك قد ترك مالاً وفيراً، ولكن ابنته تريد أن يدفن كما يدفن رجل معدم

وفرقع أصابعه بعصبية، ونظرت مارية إليه طويلاً، وقد انخفض جفناها وعاد إليها خبثها من جديد، ثم قالت:

إنني أحب أن أراك غاضباً مهتاجاً، إنك بهذا تكون أكثر رجولة، ولكنك الآن أكثر غضباً

ص: 58

مما يجب أن يكون عليه (حانوتي)

كان جون جونز يسائل نفسه: كيف يترك هذا الرجل الموقر وراءه مثل هذه الفتاة الوقحة ذات اللسان البذيء! على أنه تذكر تجارته التي كانت آخذة في التدهور، فقال بهدوء:

دعينا من هذا يا مس مرجنز، كوني أكثر عدلاً، سوف أنظم جنازة فخمة بتسعة عشرة جنيها ونصف جنيه

وطلبت مارية من عمتها أن تحضر الشاي لجون جونز، وأخرجت هي خير ما عندها من الحلوى والفاكهة وأعطته منها كمية كبيرة

وفي يوم الدفن كان المطر يسقط مدراراً، والسماء مكفهرة، والجو رديئاً. وكانت مارية حزينة لأنها أنفقت كثيراً من النقود في شراء فستان أسود جميل وقبعة، كانت تقول لنفسها بعصبية متنقلة بين الحوانيت:

سوف يعرفون أنه حتى مس مورجنز الفقيرة الملبس تستطيع أن تبرهن على أنها سليمة الذوق

على أن المطر ضايقها كثيراً، فقالت لعمتها (آن) وهي ساخطة في صباح يوم الدفن:

سأضطر للذهاب لشراء معطف للمطر وشمسية جديدة، إنني دائماً سيئة الحظ، فسوف يكون هذا النهار رديئاً

كان المطر يسقط والرياح تصفر بقوة شديدة بالقرب من المقبرة، وكانت مارية واقفة بجانب القبر متكئة بجسمها الضخم على ذراع ابن عمتها تفكر في شمسيتها الحريرية الجديدة وتنعم النظر في الزهور التي تداعبها الرياح، وتفكر بحسرة مريرة في شبابها المنطفئ. آه! ولكن كم من الأوقات الطويلة السعيدة ستتمتع بها حين ينتهي كل ذلك! لا، إنها سوف لا تبيع منزلها وتعيش بعيداً، فستكون مجهولة لا يعرفها أحد إذا ذهبت إلى مكان آخر، وسوف تشتري كمية من الفساتين وتنشر (الموضة) في الحي الذي تعيش فيه، وتدهش صديقاتها. وسرعان ما رأت نفسها تنزل إلى الدور الأرضي من الكنيسة في روعة يحسدها عليها الجميع. ولكن عندما أخذ الجميع يرتلون الترتيلة المحزنة الأخيرة فكرت من جديد في ألوان السعادة التي حرمت منها؛ وأخيراً بكت، فخفف بكاؤها كثيراً مما يثقل قلب عمتها (آن)

ص: 59

وعندما أخذت مكانها في العربة أقبل (الحانوتي) وفي يده غطاء غطى به ركبتيها وعلى وجهه إمارات التأثر، ثم قال:

إن داخل العربة بارد. إنك قادرة على كتم عواطفك بشجاعة يا عزيزتي مس مورجنز

فأجابته بشموخ:

أشكرك يا جون جونز، أظن أنه لابد لك من شلن من أجل هذا الغطاء!

وعندما دخل الجميع العربة اتجهت إليها عمتها (آن) وقد بدا عليها الغضب، وقالت:

إنك تتصرفين كما لو كنت قطعة من الخشب، لقد أفسدت علي عملية الدفن، وكنت خجلة منك إلى أقصى حد

فقال ابن عمة الفتاة في صوت متأثر:

يا عزيزتي، لقد بكت عندما كنا نرتل الترتيلة الأخيرة، فأجابت العمة:

آه، عندما كان كل شيء قد انتهى تقريباً. سوف يتكلم عنها كل من كانوا بالكنيسة

فقالت مارية بكبرياء:

إن كل ما يقولونه لا يهمني، وأنت يا عمتي (آن) عجوز مرائية، إنني أعرفك جيداً

ثم قالت ساخرة:

إن كل ما في المسألة أنك تحسدينني من أجل ثروتي لا غير!

وعندما وصلوا إلى المنزل صعدت مارية إلى الطابق الأعلى لكي تخلع حذاءها الضيق الذي جرح أصابع قدميها. وكانت جموع الناس قد اجتمعت منتظرة الطعام الذي يعد عادة بعد الجنازة. وكانوا يعلقون بأصوات خافتة من الجوع على كل ما حدث في الجنازة. أما مارية فقد فتحت صندوق مغلقاً بمفتاح، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة. وأخرجت منه علبة المسحوق الأبيض التي اشترتها بعد موت والدها، ودهنت أنفها اللامع وخديها النحاسيين، وهي في غبطة وسرور من هذا الإثم الجديد. وبعد ذلك لبست قرطها بهدوء. ثم اتجهت نحو السلم فرحة منتفخة كأنها ملكة مهيأة من جديد للنزول وعليها إمارات الأبهة والجلال. وفي أثناء نزولها سمعت أصوات بعض النسوة آلائي كن يتكلمن عند المدخل بصوت منخفض، فوقفت تنصت إليهن، فسمعتهن يذكرن اسمها. قالت إحداهن:

لقد كانت دائماً سخيفة غبية. ولكنها اليوم كانت حقاً وضيعة النفسية لا يحمل قلبها ذرة من

ص: 60

النبل. لقد كانت معجبة بملابسها السخيفة كأنها في حفلة زواج

وقالت الأخرى:

ألم تكن تفكر أنه كان يجب عليها أن تبكي على الأقل اعترافاً بالجميل من أجل ذلك المال الكثير الذي تركه لها

لقد كانت كشخصية مضحكة في مأساة محزنة. ما هذه القبعة التي كانت تلبسها! أي مرض من الذوق ذلك الذي جعلها تلبس هذه القبعة في جنازة أبيها!

ونزلت مارية بهدوء. وعندما أحست النسوة بقدومها ابتدأن يتكلمن بأسى عن ساعة الدفن، ونظرن إليها بعيون كلها شفقة ورثاء. فنظرت إليهن مارية، وقد كشرت عن أنيابها وصاحت:

أخرجن من منزلي يا ذوات الألسنة البذيئة. أخرجن من هنا!

فجرى النسوة من وجهها الغاضب. ولكن إحداهن صاحت لدى الباب:

امسحي هذا المسحوق الأبيض الذي على وجهك أيتها الفتاة المفتونة!

وبعد أسبوع ذهب جون جونز إلى المنزل ومعه قائمة حسابه فأدخلته مارية إلى الصالون، ووضعت على الطاولة تسع عشرة ورقة من ذات الجنيه، فعد (الحانوتي) النقود بعناية. ثم التفت إليها وقد احمرت وجنتاه. ثم قال رافعاً صوته:

أرجو يا مس مرجنز أن تعطيني النصف جنيه الباقي. فأجابته

إذن قدم لي حساباً عن هذا المبلغ الضخم. لقد كانت الجنازة متواضعة

فصاح وهو يهز قبضته بانفعال شديد:

سوف اذكر ذلك أمام المحكمة. نعم سأقاضيك مطالباً بمبلغي أيتها المرابية الشحيحة!

كانت مارية متشحة برداء من القطيفة السوداء. لابسة عقدها وقرطها. معلقة ساعتها في ردائها الضيق الملتصق بجسمها المفصل على آخر طراز. قامت مارية من على كرسيها وقالت بطريقتها الإنجليزية الرشيقة:

لست ممن يتناقشن مع الحانوتي من أجل نصف جنيه. لقد كنت أظن أنك رجل مهذب ولكن يظهر أنني كنت مخدوعة

ظل جون جونز صامتاً وكأنه تذكر فجأة شيئاً. فنظر إليها بعينيه اللامعتين اللتين تشبهان

ص: 61

عيني قرد، وقد بدا عليه الألم والحسرة، ولكن مارية خرجت من الغرفة ببرود وعادت وفي يدها كيس من التيل، وأخرجت منه حزمة منتفخة من أوراق البنكنوت. فنظر جون جونز إلى النقود. وقال بصوت تبلله الدموع

اغفري لي ثورتي يا مس مورجنز. لقد نسيت في فترة غضبي الخسارة المؤلمة التي انتابتك. يا إلهي! كم ستشعرين بالوحدة، إن عمتك ليست الرفيق اللازم لفتاة شابة. هلا وضعت بعد مشروعات تقومين بها في المستقبل؟

لقد كان قلبه الصغير الحساس يخفق حقيقة بحرارة رحمة بمارية التي لا أنيس لها. وابتسمت مارية ابتسامة خفيفة، وهي تعبث بيدها في أوراق البنكنوت، بينما جون جونز ينظر إليها وعليه إمارات التأثر

أجابت مارية:

إنني لست مستعجلة. فسوف أعيش بمالي في بسطة من العيش

فقال جون جونز:

حقاً. ويمكنك أن تحصلي على ثمن جيد لهذا المنزل وللأربعة منازل الأخرى التي تقع في طريق المناجم. إنهم خالون من حق الاتفاق. أليس كذلك؟

فقالت مارية ضاحكة

إنك تريد أن تعرف كل شيء؟

وخرجت ثانية حاملة معها الكيس، ثم عادت ومعها زجاجة من النبيذ الفاخر وطبقاً من البسكويت. صرخت مارية بنشوة وافتخار رافعة الزجاجة إلى أعلى:

إنها الأولى في هذا المنزل

فقال جون جونز ضاحكاً أيضاً

لقد كان والدك مدمناً على شرب الماء!

وبينما كانا يشربان كانت مارية تنظر من النافذة بنشوة كأنها في حلم. ولكنها لاحظت أن الحانوتي يرمقها بنظرات عصبية

قالت مارية:

لا، إني لم أضع بعد مشروعات. كنت أريد أن أنتقل من هذا المنزل. ولكن فتاة غير

ص: 62

متزوجة لابد أن ستشعر بالوحدة المضنية في مكان غريب. أما إذا وجدت زوجا. . . ورفعت عينيها الذابلتين نحوه. وكان هو من ناحيته ينظر إليها بتحديق شديد

لقد كان ذلك أكثر مما كان يأمل، فشرب قدحه سريعا، ثم رفع كوبته بيد مرتعشة وانحنى على ركبتيه أمامها، وأمسك بيدها وهو يتكلم بعبارات سريعة مضطربة قائلاً:

خذي يا عزيزتي مس مورجنز. إنني أنا أيضاً أعزب وحيد. لقد أحببتك منذ أن رأيتك أثناء دفن والدك هادئة ووحيدة. حقاً إنني أحبك. إنني أشعر في أعماق نفسي بشيء غريب نحوك

فأخذت مارية تضحك ضحكاً طويلاً لا ينقطع ثم قالت: يا جون جونز إنك بخيل لدرجة أنك لا تستطيع أن تحب. هل تحبني من أجل ذاتي؟

فقال جون جونز بحزن:

إنك قاسية خبيثة

فأجابته في الحال بحدة:

أوه! إنني لا أشعر بالحب نحو أي رجل ما. إنني أريد أن أتزوجك ليكون لي اعتبار في أعين الناس. والآن كم يكون هذا مفاجأة عجيبة بالنسبة لأولئك النسوة جميعاً!

علي كامل

ص: 63

‌من هنا وهناك

ضوء جديد على قضية دريفوس

نعرف ما لقضية دريفوس الشهيرة من أهمية وآثار بالغة في تاريخ فرنسا المعاصر السياسي والاجتماعي. وقد مضى اليوم زهاء ثلاثين عاماً على خاتمة تلك القضية الشهيرة التي حكم فيها على الضابط البريء الفريد دريفوس بالنفي والتجريد، واستمرت أدوارها بين إعادة نظر ونقض وأحكام مختلفة مدى عشرة أعوام، تأثرت خلالها الحياة الفرنسية العامة أيما تأثير؛ ثم حكم نهائياً بتبرئة الضابط المظلوم ورد إليه حقوقه واعتباره. ومع ذلك لم تقل بعد آخر كلمة في هذه القضية الشهيرة. فقد صدر أخيراً كتاب بالفرنسية بقلم هنري مازيل عنوانه (تاريخ قضية دريفوس ونفسيتها) يذهب في المؤلف إلى رأي جديد يرفق فيه بين رأي القائلين ببراءة دريفوس، ورأي خصومهم، وأنه لم يكن في المسألة كلها خائن ولا متهم؛ وأنه إذا كان ثمة متهم، فهو متهم من نوع خاص لأنه لم يكن سوى الكولونل شفارتز كوبن الملحق الحربي للسفارة الألمانية، فهو الذي دبر الدسيسة كلها، وعمل على تغرير أركان الحرب وخديعته

ذلك أن الكولونل لاحظ منذ مدة أن مدام بستيان خادمة السفارة تحمل دائماً قصاصات الورق التي يلقيها في سلة المهملات إلى قلم المخابرات الفرنسي؛ ففكر في أن يخترع حكاية (البردرو) وهي الوثيقة التي كانت أصل القضية كلها، فكتب عندئذ هذه الوثيقة بنفسه، مقلداً فيها خط الضابط استرهازي الذي كان لديه نماذج من خطه لأنه كان يكاتبه؛ ولما كتب الوثيقة مزقها بعد ذلك، وألقاها في سلة المهملات؛ فأخذت مدام بستيان القصاصات كالمعتاد إلى قلم المخابرات

ويؤيد مسيو مازيل رأيه بأدلة منها أن (البردرو) كان مكتوباً بفرنسية ركيكة لا يمكن أن تصدر من ضابط في أركان الحرب مثل دريفوس، ولا يمكن أيضاً أن تكون من كتابة استرهازي لأنه كان يكتب خطاباته دائماً في أسلوب مختار؛ وكل الدلائل تدل على أن (البردرو) إنما كتبه رجل بالفرنسية يفكر بلغة أخرى

وقد أثارت نظرية مسيو مازيل اهتماماً كبيراً في دوائر التاريخ والقضاء؛ ونالت تأييداً كبيراً

ص: 64

‌آثار ملكة سبأ

ما زالت أساطير العصر القديم التي تجري مجرى التواريخ تثير طلعة الباحثين والمكتشفين؛ فهم يحاولون في فلسطين مثلاً أن يعثروا بآثار سليمان وداود، ويحاولون أن يكتشفوا بقايا (ارم ذات العماد) في بلاد العرب. وهنالك من يحاول أن يكتشف آثار ملكة سبأ في بلاد الحبشة، وذلك هو الكونت بيرون دي برورك العلامة الأثري البولوني، وهو ممن يعشقون الأساطير القديمة ويهيمون بتحقيقها، وقد اكتشف من قبل في ذلك المجاهل قبر (تيني هنان) الذي كان يعتبر من قبل خرافة، ومنذ أشهر عاد إلى الحبشة من طريق السودان المصري، ليحاول البحث عن مناجم سليمان الذهبية، وآثار ملكة سبأ الشهيرة؛ وعكف على البحث مدى حين في هضاب بلاد يامو؛ ولكنه لم يظفر بآثار حقيقية تكشف عن حقيقة تلك الأساطير الشهيرة؛ بيد أنه استطاع أن يجمع كثيراً من المعلومات الأثرية الهامة عن تلك المنطقة؛ وربما عاد في فرصة قريبة ليستأنف مباحثه

والواقع أن من الصعب أن نقتنع بصحة أمثال هذه الأساطير من الوجهة التاريخية. وقد يكون لبعضها أساس تاريخي، ولكن الأسطورة تحيط به وتجرده من حقيقته الأولى لتخرجه لنا في ثوب خرافي محض. ومن هذا القبيل أسطورة قبر (الإسكندر) المقدوني، وكونه قد دفن بالإسكندرية، فقد اهتم المستر هوارد كارتر مكتشف قبر توت عنخ آمون بهذه الرواية. وأخذ بالفعل يبحث عن تحقيقها تمهيداً لاكتشاف قبر الإسكندر. على أن لهذه الأسطورة مهاداً أخرى، إذا يروى أن الإسكندر دفن بالشام، أو ببلاد الفرس، وقد ذهبت جهود العلماء لتحقيقها سدى منذ نصف قرن

التنافس بين الفاشستية والهتلرية على استعباد الشعوب

كثر الجد أخيراً بين الصحف الألمانية والصحف الإيطالية، وانفردت الصحف الألمانية إلى جانب الصحف الروسية بالحملة على مشاريع إيطاليا وجهودها الاستعمارية، ولاسيما في بلاد الشرق الأدنى. وتنتهز الصحف الألمانية هذه المناسبة للحملة على (الفاشستية) والمقارنة بينها وبين (الاشتراكية الوطنية)(الهتلرية) الألمانية، وقد نشرت مجلة (فولك أوند رخت)(الشعب والحق) البرلينية أخيراً فصلاً تندد فيه بخطط إيطاليا وبالفاشستية الإيطالية، وتقول إن سلام شعوب الشرق الأدنى لا تحققه الفاشستية التي هي في الواقع

ص: 66

عنوان عصر قد ختم؛ أما (الاشتراكية الوطنية) فهي بالعكس نظام جديد، قد خلق أسلوباً جديداً للتفكير يعارض كل ما ذهب إليه النظرية الغربية في شأن الدولة والرأسمالية، ولا سلام للشرق إلا باعتناق مبادئ الاشتراكية الوطنية. وقد ردت جريدة (جورنالي ديتاليا) الإيطالية على هذه الحملة، فقالت إنه يراد أن يخلق تعارض بين الفاشستية والاشتراكية الوطنية، وأن يتخذ من هذا التعارض أساساً لمنافسة سياسية تزمع ألمانيا أن تقوم بها ضد إيطاليا في الشرق الأدنى، وتسلم الصحيفة الإيطالية بوجود فروق جوهرية بين الفاشستية والاشتراكية الوطنية، ولكنها تنوه بما تقوم عليه النظرية الألمانية من التفاضل بين الأجناس، وأنها تطالب بوحدة الأمم من الوجهة الجنسية. والواقع أن أمم الشرق الأدنى تتكون اليوم من مزيج من الأجناس المختلفة، وتتكون كل منها حول الجنس الغالب؛ فإذا فكرت في ألا تطبق المبادئ الهتلرية فعليها أن تمزق نفسها مختارة، وأن تتنازل عن أجزاء من أراضيها تعمرها الأجناس الدخيلة أو المنحطة

وهكذا ينم هذا الجدل عن غايته، فأنصار الاشتراكية الوطنية يزعمون أنهم أحق باستعمار الأمم وبسط نفوذهم عليها؛ ويعارضهم أنصار الفاشستية في هذه الدعوة؛ وأمم الشرق تستهدف في الحالين إلى مطامع الاستعمار ودسائسه؛ ومن المفيد أحياناً أن تتبع الأمم الشرقية مثل هذا الجدل لتقف على ما تبطنه الفاشستية الإيطالية أو الهتلرية أو غيرها من الدعوات والمبادئ الخلابة نحوها من ضروب الغدر والعدوان

ص: 67

‌المسرح والسينما

كتب كاتب في جريدة (الطان) نبذة شائقة عن المسرح والسينما وما يضطرم بينهما من منافسة ينوء بها المسرح. ومنذ حين يثور الجدل حول هذا الموضوع، وتتجه معظم الآراء إلى أن تقدم الفن السينمائي كان ضربة قاضية للمسرح، وأن المسرح يتدهور بل ينحدر إلى الفناء بسرعة، وأن السينما قد انتزعت منه معظم رواده ومحبيه. ويقول لنا كاتب (الطان) إن هذه الجلسات السينمائية الصغيرة، ومناظرها الشعرية الغريبة، قد خلبت حقاً ألباب الناس، غير أنه يذهب إلى رأي جديد فيما يتعلق بتقدم الفن السينمائي؛ فهو يرى أن السينما ليس لها من الوجهة الفنية عدو ألد من نفسه، وأخطر من نجاحه، فهو من جهة عبد القوة المالية يطيعها طاعة عمياء، ومن جهة أخرى عبد المخرجين (مخرجي المناظر). ولما كانت الأشرطة السينمائية لغة عالمية، فإن مخرجيها لا يفكرون إلا في إخراج أشرطة ومناظر تجتذب أعظم مجموعة من الرواد، ويمكن أن تعرض في نفس الوقت في يوكوهاما وبرلين وباريس ولندن ونيويورك وشنغهاي، والنجاح يغدق المال. على أن هذا النجاح نفسه يحمل المخرجين على أن يتحروا دائماً التأثير في العدد، نجاح الكمية لإنجاح النوع، ومن ثم كانت جمهرة (الأفلام) المتماثلة في المناظر والأذواق العامة، وهي مناظر أصبحت معروفة يتوقعها ويتنبأ بها الجمهور بلا مشقة، وهذا الاتجاه المادي المحض الذي يتخذه الفن السينمائي يثير اليوم بين الكثيرين ضجراً وخيبة أمل، وهؤلاء يرون أن الفلم لم يعد يرضي أذواقهم وأمانيهم الفنية، وأن المسرح هو الكفيل بتحقيق هذه الأذواق والأماني

ولهذا يتجه الكثيرون اليوم صوب المسرح، ويعود المسرح فيحرز بعض النجاح والانتعاش، ولكنه انتعاش بطيء يحتاج إلى وقت غير قصير، غير أنها على أي حال ظاهرة تدعو إلى التفاؤل. وفي وسع أنصار المسرح والفن المسرحي أن ينتهزوا هذه الفرصة فيضاعفوا جهودهم لتجديد المسرح من الناحية الفنية ويستطيع الكاتب المسرحي أن يؤدي في ذلك التجديد دوراً خطيراً، إذا استطاع أن يزود المسرح بطائفة من الآراء والمناظر المبتكرة.

البريد الأدبي

في نادي القلم العراقي

ص: 68

عقد نادي القلم العراقي في بغداد جلسة في دار أحد الأعضاء، وقد ألقى في هذا الاجتماع رئيس النادي الأستاذ رضا الشبيبي محاضرة عن (المجريطي: فلسفته ومكتشفاته) وهي نتيجة دراسة كتاب من أهم كتب المجريطي، وهو من أنفس الآثار العربية النادر اسمه (غاية الحكيم وأحق النتيجتين بالتقديم)، وبعد أن ألم المحاضر بتاريخ المجريطي قائلاً في هذا الباب إنه صاحب رسائل (إخوان الصفا) الأندلسية التي ألفها على نمط (رسائل إخوان الصفا) العراقية فبذر فيما بذر التفكير العلمي في أذهان الأندلسيين، فلم تلبث الفلسفة أن ازدهرت في العصور التي تلي عصره في الأندلس، وجاء منها أمثال ابن رشد وابن الصائغ وابن طفيل وبني زهر وغيرهم من أعيان الفلاسفة والمفكرين. وذكر أيضاً أن المجريطي عالج عدة موضوعات تاريخية وفلسفية، وهو مؤلف كتاب (تاريخ فلاسفة العرب) ترجم فيه الكندي وغيره، وقد استظرف الكندي رسالة موضوعها (كمية بقاء دولة العرب)(؟)

وبعد ذلك شرع المحاضر يسرد نتيجة دراسته لهذا الأثر من آثار المجريطي وقال: يستفيد من هذا الكتاب، أي كتاب غاية الحكيم، من يعنى بدراسة تاريخ الحضارة البشرية في أقدم عصورها، ومستنبطات الأمم العريقة في القدم من أنباط وأقباط وسريان وهنود وغيرهم، ومكتشفاتهم وجهودهم في تقدم العمران؛ وبعد أن أورد هذا ونحوه قال: لا أستبعد أنا والحالة هذه أن يكون لآراء المجريطي ومكتشفاته أثر في عمران الأندلس وازدهارها خصوصاً فيما يتصل بالهندسة والكيمياء وعلم المواليد الطبيعية، وإن سكت المؤرخون عن ذلك كله. واستنتج من مواضع أخرى من الكتاب أن المجريطي فيلسوف يميل إلى الدراسة الشاملة، ولكنه يرجح العلوم الواقعية التي يؤيدها الحس والتجربة، ولا يذعن إلا لأحكام العدد والأرقام في تفكيره. وأنه مفكر من طراز أعظم مفكري العصر في الرياضيات والطبيعيات. وينحو من بعض الوجوه منحى الرياضيين الأوربيين في محاولة إخضاع قوى الطبيعة واستخدامها لرفاه الإنسان ورفع مستواه في سلم الحضارة، هذا ونحوه

(البلاد البغدادية)

للحق والتاريخ

ص: 69

قرأت في الرسالة السابعة والثمانين نبأ (عيد الربيع القومي في سورية) وأن (فريقاً كبيراً من طلبة الجامعة السورية والمدرسة التجارية والمدارس الثانوية العالية عقدوا اجتماعاً بحثوا فيه مشروع إقامة عيد قومي في الربيع وأطلقوا عليه اسم عيد الربيع القومي). فعجبت من نفسي! كيف أكون في صلب دمشق، وأكون أشد الناس صلة بمثل هذه المشروعات، ثم لا أسمع بهذا الخبر إلا من مصر. . . وإني لأصفح (الجزيرة) كل يوم يتفضل منشئها الفاضل فيبعث بها إلى. ولكن من طبعي أني لا آكل الجوز بقشره. . . وأني أتخير اللباب من كل شيء، ولذلك لم أقرأ هذا الخبر في الجزيرة). أما وقد نشر في (الرسالة) والرسالة ديوان العرب، وكتاب الشرق، فلم يبق من قراءته والتعليق عليه بد، كيلا يعلق منه شيء في نفوس القراء، ويبقى مخزاة خالدة لدمشق

والحق أن شيئاً مما قالوا لم يكن، وأن هذا الاجتماع لم يعقد إلا في رأس كاتب هذا الخبر، وأن لطلبة الجامعة السورية لجنة تنطق بلسانهم، وتنوب عنهم، ولم يدع واحد من أفرادها إلى اجتماع، ولم تدع هي أحداً إلى اجتماع لمثل هذا. . . ولها مشاغل وأعمال هي خير لهذه الأمة وأجدى عليها من تأليف مواكب (تمثل أزاهير دمشق). . . ورئيسها الشاب العالم الفاضل الشيخ معروف الدوالي رجل مسلم يكره أن يدخل بإخوانه (جحر الضب)!

(أما المدرسة التجارية (العليا)(؟) التي يقوم أحد طلابها برحلة إلى شمال سورية من أجل هذا المشروع!). فجماع أمرها أنها دار في طريق الصالحية استأجرها قنصل إيطاليا منذ شهور، وكتب على بابها (المدرسة التجارية) واشترى لها مدرساً أديباً كبيراً معروفاً. . . وذهب هذا وذاك ومن والاهما، يخطبون في الناس بلغة (الذهب الإيطالي. . . وفي الناس أناس عقولهم في جيوبهم، وبطون أكفهم، فاستجابوا لهم، وبعثوا بأبنائهم إلى المدرسة، فكان فيها أربعون طالباً، من أصل أربعمائة ألف، هم سكان دمشق وضواحيها!

وأما المدارس الثانوية في دمشق، فإن كبراها المدرسة التجهيزية، وأنا أعلم علم اليقين أنه ليس بين الألف من طلابها، طالب واحد يعلم من أمر هذا المشروع أكثر مما يعلم أي قارئ من قراء الرسالة

ودمشق أعقل بحمد الله من أن تسفل في التقليد إلى هذه الدركة، وإن دمشق لتعلم - إذا لم يكن من التقليد بد - أن في باريس شيئاً غير مواكب الزهر، هو الجيش الذي تستعرض

ص: 70

مواكبه يوم 14 يوليه. وأن فيها غير الشباب الذين يحملون الأزهار شباباً يحملون البنادق والسيوف. . .

وحسب دمشق عاراً المؤتمر النسائي! أفلا تمشي المصيبة إلا على ساقين؟

دمشق

علي الطنطاوي

مأدبة تكريمية

كان مطعم (سان جمس) في مساء الثلاثاء الماضي مجمعاً حافلاً بصدور العلماء وأعلام الأدب وأئمة وأعيان الصحافة؛ اجتمعوا لتكريم صديقنا الأستاذ أحمد أمين رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، وصاحب فجر الإسلام وضحى الإسلام، وأستاذ الأدب العربي بكلية الآداب. وكانت هذه المأدبة منذ طويل حاجة ملحة في نفوس أصدقائه وزملائه الذين راقبوا عن كثب جهاده الدائب المضني في خدمة العلم والتأليف عشرين سنة، فلما تهيأت الفرصة بانقضاء عشرين عاماً على رياسته للجنة التأليف والترجمة والنشر، وإخراجه الجزء الثاني من ضحى الإسلام تلاقت رغبات الأعضاء والأصدقاء على إقامة هذه الحفلة، فأقيمت برياسة الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك زعيم النهضة الفكرية الحديثة، وساهم فيها أولياء الثقافة من رجالات وزارة المعارف والجامعة المصرية ومجمع اللغة العربية الملكي ولجنة التأليف والترجمة والنشر، فجلس المحتفلون عشرة عشرة إلى الموائد الفخمة يتبادلون شهى الأحاديث في وقار العلماء واحتشام السادة، حتى إذا فرغوا من الطعام نهض معالي رئيس المأدبة فافتتح الكلام بالثناء على جهود الدكتور طه حسين في تعرف الأديب العربي على ضوء المناهج العلمية، وذكر كيف تعاون (الثالوث الأدبي) طه حسين وأحمد أمين والعبادي على خدمة الثقافة العربية بتأليف فجر الإسلام وضحاه، ثم لمح بسبق الأستاذ صديقه إلى أداء نصيبه، ونوه بأثر كتبه في الحياة الأدبية الحديثة، وتساءل لماذا لا يتوج مجمع اللغة العربية الملكي هذه الكتب القيمة أسوة بالمجامع الأخرى. ثم قام من بعده صاحب الفضيلة الأستاذ المراغي فذكر في منطق عذب وبيان هادئ، أن الدراسة في الأزهر تروض العقل على مصابرة البحث ومتابعة الدرس ورغبة الاستقصاء، فإذا

ص: 71

صادفت عقلاً خصيباً وخلقاً قويماً وطبعاً سليماً أنتجت أمثال (الشيخ أحمد أمين)؛ ثم تكلم الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم فبين فضل الأستاذ على لجنة التأليف والترجمة والنشر بقوة إرادته ودقة إداراته وكرم أخلاقه، وجودة تأليفه برياسته لها عشرين سنة متوالية. ثم تلاه الدكتور عبد الوهاب عزام فلخص الصفات الثلاث التي يمتاز بها الأستاذ أحمد أمين حب النظام والدأب والتثبت وجماعها صفة واحدة هي حب الحق

ثم قام على أثره الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني فافاض في وصف الجاذبية الروحية التي يؤثر بها الأستاذ أحمد أمين في مناظريه ومعارضيه فيبلغ بسحرها من نفوسهم ما يريد؛ ثم تكلم الأستاذ محمد كرد علي عن البلاد العربية، والأستاذ نللينو عنالمستشرقين فأجاد التعبير عما تشعر به النفوس الفاضلة من إجلال العلم وأهله. ثم كان خاتمة المتكلمين الدكتور طه حسين فأشاد بفضل الأستاذ الكبير نللينو على دراسة الأدب العربي في مصر، ثم وفى صديقه الأستاذ الأمين ما هو أهله من التقدير والحمد؛ ثم نهض الأستاذ المكرم فشكر الداعين والمدعوين في عبارة أخاذة الأسلوب شديدة الروعة

والرسالة ترجو أن تؤدي واجبها لصديقها الأستاذ في عدد مقبل

ص: 72

‌الكتب

ترجمة نفسية تحليلية

هو ذا تاريخ إنسان. . .!

للأستاذ خليل هنداوي

وقلت للأستاذ النعيمي عقب وصوله إلى لبنان: هل أعددت وراءك غربالاً آخر؟ فأجاب: ذاك غربال انطوى، فتحت به طريقي إلى النور، والآن أراني سائراً إلى المحجة التي فرضتها على الحياة، أو فرضتها عليّ الحياة. . . .

فأعطانا (المراحل) وكتاب (جبران خليل جبران)

(خ. هـ)

- 1 -

وجه جبران خليل جبران

وما إن صدر كتاب (جبران خليل جبران) حتى تناولته الأكف، وتهافت عليه الناس. وما إن تلاه الناس حتى ضجوا به، وتفرقوا في شأنه شيعاً، شان العظيم لا يعرف أحداً معه معتدلاً: فمن ناقم على النعيمي لأنه فضح أسرار صديق كان يجب عليه أن يحفظ حرمته بعد الموت، ومن محبذ لأن الأدب لا يعرف تستراً! والحقيقة لا تعرف مواربة؛ وهكذا ذهب الناس في شأن الكتاب مذاهب مختلفة، وللناس مذاهبهم

أراد البعض أن يدرسه جملة، فخرج من درسه بما لا يرضاه، وشاء البعض أن يذهب في نقده ما يفرضه الناقدون على غيرهم من أساليب جافة، ومقاييس محدودة؛ ومتى كان الأدب - ابن الحياة - بقبل الحدود والقيود؟

الكتاب عظيم بنفسه، متفرد بروحه وبطريقته وبنقده، صارم ما شاءت الصرامة، وعادل ما شاء العدل. ولن نتبين هذه النقطة التي تمازج فيها العدل والصرامة في مواطن كثيرة، إلا إذا اطلعنا على المقياس الذي أعلن عنه نعيمة في مطلع الكتاب، وهو مقياسه الخاص في الأدب والفن والحياة، فإذا فهمنا هذا المقياس فهمنا الكتاب، وإذا أعرضنا عن هذا المقياس

ص: 73

ضاع عنا جوهر الكتاب، والغاية التي ألف من أجلها

لا يريد نعيمة أن يعرض في كتابه تاريخاً له تفاصيله وله آفاقه، والبشرية - في اعتقاده - لم تكتب حتى الآن تاريخ إنسان، ولا تاريخ شيء على الإطلاق، وإنما أراد أن يجري في درسة لحياة جبران مع عقيدته الشائعة في نفسه (إن الفن مهما تسامى في نظر صاحبه ونظر الناس ليس من الأهمية على شيء ما لم يترجمه صاحبه والناس إلى قوة تنشط بهم من عقالات المعيشة المحدودة إلى حرية الحياة التي لا تحد - من الإنسان في الله إلى الله في الإنسان - والأدب مهما جمل لا معنى له إلا على قدر ما يكشف معنى الحياة الذي هو أثبت من الأرض وأبقى من السماء)

درس النعيمي جبران بهذا المقياس، ويدرس الأدب كله في جبران، والأدب عنده هو مثل أعلى إذا ربط الإنسان به حياته اللحمية والروحية، وهذا مقياس جاد صارم، لا يجعل من الأدب ملهاة، وإنما ينزله منزلة الحياة. . . وأنت واقع في الكتاب على فصول متنوعة، هي بجملتها حياة جبران، وهي بمجموعها تاريخ ذلك الصراع المادي لتذعن له المادة، وذلك الصراع الروحي المستمر لينقي روحه من أدرانها وشهواتها الأرضية. وفسادهما أن صاحبهما يحاول أن يفوز فيهما في وقت واحد

في الكتاب تاريخ جبران الإنسان، وجبران الفنان، وجبران الشاعر؛ تاريخ هؤلاء الأشخاص المفترقين تحت لواء عقل واحد. يمشي كل منهم في طريق؛ ولا يدري أين سلك رفيقه. وعقل جبران يظن أن نفسه هادئة مطمئنة - ونفسه منشقة على نفسها. جبران الإنسان لا يلتقي وجبران الشاعر الفنان إلا بالخيال؛ والخيال وحده لا يكفي إذا لم يقو على الإرادة، ويجنحها بجناحيه ويطير بها إلى حيث شاء

رسم النعيمي في كتابه لجبران وجوهاً كثيرة: منها وجه جبران الفنان، ووجه جبران الإنسان، ووجه جبران الطافح تمرداً، ووجه جبران الهادئ الذي جمدته السنون وارتسمت في غضونه الحكمة. أما جبران الفنان فأنت واجده في كل أدوار حياته التي أثرت فيه وأثر فيها، مهما كان من تباين بين شعره وفنه فالرجل استطاع أن يكون. . . برغم المصاعب التي اعترضته وبفضل المصادفات التي خلقت ذلك وفرضت ذلك. جبران الشاعر كغيره من الناس تسكره الشهرة وتستهويه لمعانها، وهو بعد جهاد عنيف استطاع أن يبلغ بخياله

ص: 74

تلك القمة التي دعاها الناقد قمة (المصطفى) حيث أشرف جبران على الوجود، ونظر إليه بخياله الخالص من تأثير (نيتشه) وغيره، ووقف على معنى (الازدواج) فيه. ولكن جبران الإنسان لم يكن برغم سمو خياله - عاليا سامياً كما تصوره لنا ريشته وبراعته، فهو نسر نشيط كبلته قيود الأرض وشهوات المادة. لم يغنه الفن شيئاً، بل زاد عذابه عذاباً، لأنه كان يكشف لعينيه قباب ذلك الوجود الذهبي ويمنع قدميه الملوثتين من الدخول. . جبران الإنسان تغلي في صدره شهوات ابن المادة، وهو أناني ونصير حب يود أن يكون فيه محبوبه عبداً؛ وهو طالب شهرة لم يستطع فنه أن يحرره من شهرة الناس الذين يكرههم: لا يخرج من - صومعته إلا جبران الفنان، أما جبران الإنسان فهو راسٍ على صدره لا يفر منه إلا إليه. . .

هذا الاختلاف بين شخصين مندمجين في شخص واحد هو موضوع الكتاب

يتساهل النعيمي مع جبران الفنان وحق له أن يتساهل أمام فنه المرن ونزعته الشخصية مهما مازج فنه من عوامل غريبة عن فنه، أما جبران الإنسان فلم يرحم ضعفه ولم يستره بستار الرحمة، لأنه يرى أن رحمته تقوض معتقده الأدبي وتهدم نظرته الفلسفية، وإنما يعتقد أن العبقري الحقيقي لا يجعل من نفسه شخصين مختلفين، ويرى أن الفن الصحيح هو ما نقى النفس من أدرانها وأسوائها، فهل نقى جبرانالفنان جبران الإنسان؟

عمل جبران الفنان على تطهير جبران الإنسان، ورفعه من الهوة إلى القمة. ولكن قدمي جبران الإنسان كانتا من قصب، لا يكاد صاحبهما ينهض عليهما ويمشي قليلاً حتى تتحطما ويلبث مكانه. . . أليس في فرار ميشلين ابنة التراب! من وجه جبران الفنان ابن السماء: أكبر خزي لجبران؟ أليس في تألم الفتاة التي جاءت لتحيي (صاحب النبي) اعتقاداً منها أنه سيكون أسمى من النبي الذي خلقه أكبر هزيمة لجبران الفنان؟ وهكذا ظل جبران في نزاع مع نفسه حتى قضى ولم يقض لبانته

قد يكون في هذا التصريح بعض ما يجرح، ولكن الحقيقة. . . الحقيقة الإنسانية لا تعرف المراعاة، ولو كان جبران فناناً عادياً لما قاسه النعيمي بهذا المقياس الدقيق الذي لا ينطبق إلا على العباقرة المختارين والنوابغ الموهوبين.

ألم يكن (فيخت) يغلب فيه الإنسان الأخلاقي على الإنسان الفيلسوف؟ والإنسان الأخلاقي

ص: 75

يغلب عليه الإنسان المجرد؛ وهو كلما تجرد ونزع عنه هذه الأقماط بدا أدنى إلى حقيقة السمو والكمال العاري كأنما كان يرتفع فنه معه متناسباً مع ارتفاع نفسه. وهذا هو المثل الأعلى الذي يطلب النعيمي إلى كل فنان يسمو إليه بعقله وجسده، وفنه؛ لا أن يقسم نفسه أقساماً، يضع كل قسم منه حيث يريد

(ولا يكفي الإنسان أن يبصر النور ليكون مستنيراً بل عليه أن يجعل ذلك النور هاديه الأوحد في حياته، وإن في ذلك وحده سراً لانعتاق الأيدي من جحيم المتناقضات، أما السبيل إلى ذلك ففي نبذ كل ما يحجب عنا النور من شهوات أرضية، ونزعات زمنية وشعور بالفردية التي لا تأتلف وروح الكلية الشاملة) وطبقاً لهذا الاعتقاد يبين النعيمي جانباً من حياة جبران - لا كل جوانبه - التي حالت دونه ودون الانعتاق، أو النكران المؤدي إلى الانعتاق.

وهكذا تطلع في هذا القسم على حياة مستقلة بذاتها عن الإنسانية، ومتصلة بذاتها مع الإنسانية؛ عارية كاسية، وإنما هي الحياة كلها بلحمها ودمها وروحها الذي لا يدرك

- 2 -

جبران الثائر وجبران الهادئ

لا يقف الناقد على درسه على جبران الفنان وجبران الإنسان، وإنما هو يعالج - من ناحية ثانية - المؤثرات التي أثرت في جبران، والعوامل المقدرة وغير المقدرة، والمتصلة - كما يقول الناقد - بمكوك الحائك الأكبر وغير المتصلة. فهو يولد مع جبران ويدرج معه من سياحة إلى سياحة، ومن فشل إلى رجاء ومن رجاء إلى فشل. طوراً ينطق جبران بما نطق، وتارة ينطق عن جبران بما لم ينطق. وفي هذه المنطقة يلتقي النعيمي الناقد بجبران الفنان المجرد، لا النعيمي الحامل المثل الأعلى لجبران الضائع وراء نوازعه الأرضية. ولا يمكننا أن نقف على قيمة جبران الأدبية إلا إذا تعمقنا في أحناء حياته. فجبران - في كتاباته - ذو وجوه متعددة، منها وجه المحب المنهزم، وجه المتمرد الثائر، وجه الهادئ الساكن، ووجه المتصوف السامي، وصاحب هذه الوجوه رجل واحد هو جبران. والنعيمي يستعرض هذه الوجوه وجهاً وجهاً دارساً عوالمها محللاً ألوانها

ص: 76

(يتبع)

خليل هنداوي

ص: 77