الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 890
- بتاريخ: 24 - 07 - 1950
الثقافة الشعبية
للأستاذ محمد محمود زيتون
الثقافة الشعبية في مصر موزعة بين هيئات شتى حكومية وغير حكومية؛ فهناك؛ وزارة الشئون الاجتماعية بمراكزها الاجتماعية، ومسارحها الشعبية. ومصلحة الفلاح، وكذلك وزارة المعارف بمؤسسة الثقافة الشعبية، ومراقبة الثقافة العامة، وإدارات خدمة الشباب، والنشاط الاجتماعي، والتسجيل الثقافي. وهنا أيضاً رابطة الإصلاح الاجتماعي، وجمعية نهضة القرى، وجمعيات الشبان المسلمين والمسيحيين، والجامعة الأميركية.
وكل هذه الدوائر تنشد للشعب ثقافة عامة يتماسك معها أفراده على أسس متوازنة من الرياضة والعلوم والفنون بحيث لا يتخلف الفرد عن الجماعة ولا تتنافر الطبقات بسبب الحرمان من معاهد العلم.
ونسارع إلى القول بأن هذه الجهود الكريمة التي تبذل في سبيل هذا الغرض النبيل بحاجة إلى تنسيق وتركيز بحيث لا يكون في اختلاف أساليبها صعوبة الحصول على الثمرة المرجوة ز ونستطيع هنا أن نرسم الخطوط الرئيسية التي تتكون منها شبكة الثقافة الشعبية ولعل في هذه المحاولة ما يعين على بيان ما نرمي إليه.
والرياضة البدنية أقوى عوامل الثقافة الشعبية، وليس أثرها وقفا على تنمية الأبدان لأساليب الرياضية المعروفة، وإنما يمتد هذا الأثر على أبعد من ذلك بكثير، فهي تدفع باللاعبين إلى الساحة الشعبية حيث تتخطى المنافسة حواجز المنفعة، وتنأى بهم عن التسكع والثرثرة وتدبير الجرائم وتعاطي المكيفات واللعب والشرب في المقاهي والملاهي.
ومن مزايا الرياضة الشعبية أخذ اللاعب بالروح الرياضية من ضبط النفس عند النصر، والثبات عند الهزيمة، وسرعان ما يندفع المتفرج لمشاركة اللاعب البارع أو الفريق الغالب ثم يهرع إلى منافسته فينعم بنشاط بدني وتفوق عضلي وتوثب نفساني.
ومن مزاياها ترقية الغرائز وتعليتها إلى مستوى كريم: ففي المصارعة عوض عن غريزة المقاتلة، وما ورائها من شرور، واللعب عامة غريزة ملازمة للإنسان في شتى أطواره، وإذا لم تتهذب هذه الغريزة كان الكبار كالصغار يلعبون بالنار.
والمباريات من أقوى عوامل التعارف بين الطوائف والجماعات والطبقات فتسود المساواة
وتتطود المحبة بين الفرق والشعوب.
وتؤتي الرياضة الشعبية ثمراتها العاجلة في (البيئة المغلقة) المحرومة من جمال الطبيعة، النائية عن مظاهر العمران، ووسائل الترفيهية، ولذا يجب العناية بمثل هذه البيئة والإكثار من الساحات الشعبية بها.
وللفنون الجميلة في الأرواح ما الألعاب الرياضية في الأبدان من صقل النفوس وتهذيبها بالنغم الجميل، واللفظ اللطيف، والمنظر البهيج، وتسريح الخيال الحبيس في ملكوت السماوات والأرض، والترفيه عن الحواس والعواطف.
لهذه تستخدم المصانع الكبرى أجهزة الراديو لإذاعة الموسيقى والأغاني والأناشيد فتبعث في العمال نشاطا يزيد في إنتاجهم، ويقلل من قابليتهم للتعب.
والحفلات عامة ن والقروية منها خاصة، إنما هي جامعة شعبية يديرها شاعر البلد أو زامر الحي، ولهما في نفوس الشعب موقع الماء من ذي الغلة الصادي.
وكثيرا ما يتزاحم أهل القرى النائية على حفل تمثيلي شعبي أو غناء أو رقص بلدي لأن النظارة إنما يحتشدون ليروا في مرآة حياتهم ما ينعكس عليها من عيوب صاغها المؤلف سخرية، واعمل فيها مبضع الطبيب الذي يحرج مريضه ليشفيه تحت تأثير المخدر المشروع.
من أوجب الواجبات إذن دعوة الشعب إلى رحاب الفن لتهذب مداركه وترقى أذواقه، وتتعادل أمياله، ولا يكون كتلك الشعوب البدائية التي لا تتفاهم إلا في الظلام، لأن كل جريمة شنعاء، كما أنه يجعل الأفراد على أبعاد متساوية من الروح القومية، ويتيح للجميع حظا مشتركا من الآلام والآمال، وتخف أسباب النزاع بين المرأة والرجل.
ولما كان الفن في شتى أصباغه وألوانه تعويضا عن الجمال المفقود فمن الفن العملي تنظيم القرى والعناية بتخطيطها وتنسيقها لتكون لقاطفها بهجة في العيون، وراحة في القلوب، وهدوءاً للأعصاب وتدل الإحصائيات على أن القرية الجميلة اقل من غيرها مشاكل، وابعد عن الجرائم من القرية المهملة القياسية المناظر التي لا يرى في أهلها غير التبرم والسخط. والبلديات حين تقوم بالتنظيم والتنظيف إنما تؤدي واجبها في الثقافة الشعبية.
والدين يتحمل هو الآخر واجبه الأكبر في هذا المجال، ولا سيما عندما يوالي العلماء
الوعاظ أبناء الشعب بالحكمة والموعظة الحسنة، ووصف الدواء على رغم قد الداء في غير أو ولا عسر، حتى يأطروهم على الحق أطرا كما يقول النبي الكريم.
وعندما ينطبع الفرد والشعب معا بطابع الخير والحق والسلام يكون الدين أسرع العوامل في التثقيف الشعبي، وأعمقها أثراً. والاجتماعات الدينية، فرص مواتية لبث التعاليم الطيبة، والمثل الكريمة وكم من أحقاد وثارات خمدت على اثر موعظة دينية. ولولا كلمة طيبة لحصدت مناجل العصبية كثيراً وكثيراً. وبذلك يعمل الدين في تهدئة الخواطر وتعلية الغرائز وتوجيه العواطف وضبط الأعصاب وامتلاك الزمام، والتزام الوسط العادل في كل الأمور.
ولقد ادى تبسيط العلوم للثقافة الشعبية نفعاً كثيرا، فأصبح من غير العسير تلقين الكهربائية لصغار الأميين كما لمس ذلك الأستاذ أمين كحيل بك مدير عام الجامعة الشعبية سابقاُ لدى زيارته أحد المراكز الثقافية في الصعيد.
نعم استطاعت الجامعة الشعبية تطويع العلوم لعامة الشعب سواء النظري منها أو العملي مما زاد الإقبال على الاستزادة منها عاما بعد عام. واذكر أن قد جمعتنا منذ عشر سنوات مناظرة بكلية الآداب موضوعها (تبسيط العلم للجمهور شر على العلم والجمهور) وكنت من المؤيدين للرأي في صف الأستاذ محمد مظهر سعيد بك، والآن لا أدري كيف أنكر فضل العلوم المبسطة على الثقافة الشعبية، غير أني أذكر قول سقراط (أتوني بغلام ساذج لم يتلق علما بعد، وأنا أستنبط منه نظريات الهندسة جميعاً)
ولقد أسهم الأستاذ علي حلمي بك مدير البحيرة السابق في هذا المضمار بأوفر نصيب، ولقد تمكن من تثقيف الشعب الدمنهوري بسلسلة من المحاظرات عن التربية النظامية، كما وضع تمثيلية تهدف إلى علاج المجرمين وكفاح الجريمة، مستنداً إلى خبر المدير، وثقافة المعلم، فضرب المثل الرائع لحكام الأقاليم في حرصهم على الاتصال المباشر بالجمهور في ساحة الثقافة الشعبية.
وكم يسعد الشعب إذ يرى حكامه وزعماءه وعلماءه ونواره وشيوخه يواسونه بين الحين والحين في المدن والقرى لا بمناسبة الانتخابات، ولكن في كل مناسبة تستوجب التنوير والتهذيب ابتغاء وجه الله والوطن.
كان الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور وهو أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول وعضوا الشيوخ من احرص الأساتذة على إعداد الطلاب لمواجهة الجمهور حتى في اعمق البحوث الفلسفية وكان ذلك من مقاييسه المشهورة في تقدير درجة النجاح
وبعد فقد تبين لنا مم تأتلف العناصر العامة للثقافة الشعبية ومدى أهمية العمل على أذاعتها في الشعب على ضوء الخبرة النظرية والعملية، ولا شك في أن مضاعفة الجهود ستأتي بنتائج مرضية، يتوق إليها المصلحون، ويرضاها الغيورون.
فإذا كان ذلك كذلك وجب تركيز هذه الأفاق في يد مؤسسة الثقافة الشعبية أن ذلك من صميم رسالتها، أما عيرها فيتخذ من هذه الرسالة تكملة لنشاطه، وليس ما يمنع مطلقا من الاستعانة بالخبراء في كل ميدان، وإمداد الشعب والقائمين على ثقافته بكل ما ينهضه بالبلاد إلى أوج الكمال، حتى نكافح المرض بالرياضة ونقضي على الجهل بالعلم المبسط الميسر، ونستأصل الجريمة بتعاليم الدين وروائع الفن فلا ينخدع الفرد بالمبادئ الوافرة، ولا تتسم الجماعات بالأفكار الفاسدة، ولا يحرم الشعب الكريم من جهود ضحايا الفراغ.
محمد محمود زيتون
طرائف من العصر المملوكي
سكردان السلطان
أو العدد سبعة
للأستاذ محمود رزق سليم
حيا الله مصر وبنياها، فقد كانت - ولا تزال - البلد الحنون العاطف المضياف! كم فاء إليها من لاجئ مجاهد وسكن إليها من غريب خائف مطارد، ضاق يه صدر بلاده، ونبا به المقام في وطنه، فوسعت له رحابها، وأمرعت له من جنابها، ولقيته لقاء الأم الروم ومدت له من حبال المودة، ما آنس قلبه وأقر لبه، وأستل من بين جنبيه الخوف، وأنزل فيه السكينة فنعم فيها بكرم العيش وبلهنية البال، في غير من منها ولا استكثار غير راجية لقاء هذا إلا المودة والبر، في غير عقوق أو مروق.
وقد عاونت الأحداث المعاصرة للعصر المملوكي على أن تصبح مصر - وكانت البلد الأمن الأمين، على ما بها - المهجر الموموق والمثابة المحبوبة لأبناء المسلمين والعرب في مشرق الأرض ومغربها فامتلأت فجاجها بالغرباء الراحلين إليها الساعين إلى أمانها الملتمسين الطمأنينة فيها، المرتجين رغدها ورخائها وسخائها.
ويضيق صدر هذا المقال لو رحنا نحصي عدد هؤلاء الغرباء وننوه بشتى مشاركتهم لهذا البلد في أدبه وعلمه مبينين كيف تأثروا بهما، وأثروا فيهما ولعل لنا إلى ذلك عودة في القريب.
وأحد هؤلاء الغرباء، شهاب الدين أبن أبي حجلة المغربي وأسمه أحمد بن يحيى التلمساني. ولد عام 725هـ بتلمسان بالمغرب. ورحل إلى الشرق فحج، واستوطن دمشق زمنا، ثم تجول إلى القاهرة، فأتخذها دارا، وظل حتى توفي عام 776هـ.
والفترة التي عاش فيها ابن أبي حجلة كانت فترة من الزمان مخصبة منجية، حفلت بعلية من الفضلاء، وحلبة سباقة من الأدباء، فترة عاش فيها الجمال بن نباته، والصفي الحلي، والصلاح الصفدي، والزين بن الوردي، وأبو بكر بن اللبانة، والنور الأسعردي، ثم البرهان القيراطي والعز الموصلي، وغيرهم من أهل الأدب والشعر وهي أدسم الفترات في
حكم الناصر بن قلاوون وقد امتدت حتى عهد ابنه الناصر حسن.
وقد كان أبن أبي حجلة أديبا بارعا وشاعرا مبدعا ومؤلفا وجامعا. فلا غرابة أن ذكت نفسه ونشط بيانه وسط هذا الحشد العظيم من الأدباء؛ ولا غرابة أن جمعت بينه وبين الكثير منهم وشائج العلم والأدب؛ وهي أحنى وشيجة نجمع بين القلوب وتلائم بين النفوس.
وقد قيل إن ابن أبي حجلة كان يهوى إلى الحنفية ويقول أنه حنفي، ويدلف إلى الشافعية ويقول أنه شافعي، كما كان يسامر أهل الحديث، ويسير في مواكب الصوفية حتى أنه ولى إحدى مشيخاتهم. ولعل ذلك من قلق الفن، وهو يغري بالتنقل، أو من ظرف الأديب وحسن تأتيه، ولبق الشاعر وطوع قوافيه
وقد كان ابن أبي حجلة شاعر تياها بالشعر، يرفع صناعته فوق كل صناعة وله في ذلك أدلة وبراهين ويزهي بما ينظم ويفخر. سالكا في أساليبه مسالك المبدعيين من أهل عصره مؤتما في ذلك بابن نباته شاعر جيله، ذواقة نقادا. حتى لقد نعى على الصلاح الصفدي بعض شعره فقال مؤديا:
أن ابن ايبك لم تزل سرقاته
…
تأتي بكل قبيحة وقبيح
نسب المعاني في النسيم لنفسه
…
جهلا فراح كلامه في الريح
وهو يشير بذلك إلى أبيات للصفدي قالها في النسيم آخذا معناها من أبيات لمحي الدين بن عبد الظاهر.
هذا مع أن أبي حجلة نفسه لم يخل شعره من السرقات شانه في ذلك شان كثير من شعراء جيله. إذ كانت السرقة الشعرية متمكنة من نفوسهم. ولعل ذلك كان بدافع من الدعاية أو برغبة في التوسع في التضمين. .
ومهما يكن من شئ، فلابن أبي حجلة أكثر من ديوان شعري. وكثير من شعره في مدح النبي عليه السلام وقد عارض بهذا المديح قصائد ابن الفارض الشاعر الصوفي المعروف المشهور وقد كان أبن أبي حجلة كثير النقد له والنعي عليه
لم يقتصر ابن أبي حجلة على الشعر يعارض به أو يمدح ويقدح أو غير ذلك بل أقبل على الرسائل والمقامات والمقالات يدبجها، وعلى المؤلفات يروضها ويعالجها، حتى استقام له من ذلك جملة بارعة
ويبدو أنه كان فطنا كيسا، ولبقا مؤنسا، عنده من بضائع الإيناس ألف صنف وصنف. ولهذا استطاع أن يحكم صلته ببعض الأمراء ويسبق إلى رحابهم ويمدحهم بقصائده ويصف مروءتهم وشجاعتهم وحروبهم. وممن مدحه منهم الأمير سعد الدين بشير الجمدار، والأتابكي كمجك والمفر السيفي يلبغا الناصري مملوك السلطان حسن، الأثير عنده وقد قال أبن أبي حجلة من قصيدة يمدح بها المملوك المذكور يصف بها شجاعته في حروب أعدائه:
أمير جيش غدت في كل نازلة
…
لقومه في رؤوس القوم نزلات
ساقت عزائمه سحب الجيوش لهم
…
وبريقها سيفه والرعد كوسات
لخيله وأعاديه إذا برزوا
…
في موقف الحرب كرات وفرات
خليل إذا قرنت آذانها وظهرت
…
لنصر راكبها منها قرانات
كم صح من يلبغا جبر لقاصده
…
لكن لجيش الأعادي منه كسرات
وقد حظي ابن أبي حجلة - في هذا الزمان المستعجم - لدن سلطان عصره الناصر حسن حفيد قلاوون وقد كان ابن أبي حجلة أكثر من كتاب. ومن بين ما ألفه له كتابه المشهور (ديوان الصبابة) وأشار إلى ذلك بقوله في سباق قصيدة مدح بها.
ولي فيه من غر التصانيف خمسة
…
وهذا الذي طوق الحمامة عاشره
وقد كنى بالشطر الثاني من البيت عن كتابه (ديوان الصبابة) إذا أن الباب العاشر منه هو باب طوق الحمامة. وهذا الكتاب في أخبار العشاق ومصارعهم وما جرى لهم من أحاديث وأشعار. وقد أحدث هذا الكتاب ضجة في بلاد الأندلس وألف لسان الدين بن الخطيب كتابا على غراره جعله في الحب الإلهي وقد سلك فيه مسالك الصوفية فزلق في بعض عياراته بما حوسب عليه حسابا عسيرا.
ويمتاز ابن أبي حجلة بحسن ابتكاره لموضوعات مؤلفاته وطرائقها، وابتكار الموضوعات، فن دقيق من فنون التأليف تتغاير فيه الخواطر، وله خطره وأثره، إذ هو الموجه للمؤلف من بعد، والموحي إليه بتشتيت أفكاره، ومختلف تصوراته، ومسالك عباراته
انظر إلى ابن أبي حجلة، وقد فطن إلى العدد (سبعة). . . فوضع فيه سفرا قيما أهداه إلى السلطان حسن وسماه (سكردان السلطان). . فكان من جملة ما ألف له.
وسكردان معناه (وعاء السكر) والكتاب - حقا - لذيذ ممتع. وموضوعة - كما نوهنا - هو
العدد سبعة. ويحار المرء - قبل قراءته - فيما سيكتبه هذا الرجل في سفره عن هذا العدد. حتى إذا قراءه أتسع أمامه الأفق، ورأى في العدد سبعة معاني وخوصيصات، ندت عن ذكائه، وغابت عن خاطره. وإذا بالعدد سبعة أمام ناظريه يجمع من حوله، شتى من معلومات كان يظنها متنافرة فألف بينها. ومتباعدة فلائم بين شملها، بكياسة وظرف، وسياسة ولطف. وهذه هي عبقرية التأليف.
والمؤلف بين هذا الحشد الحافل من المعاني والأفكار والحوادث التاريخية والأدبية، والنوادر. ونحوها، له أسلوبه الخاص، يضفي عليه من ذات نفسه، ويسبغ فوقه من منهجه، فيبدوا فيه الحديث جديدا والغريب متأهلا، والفج ناضجا، والناعس العابس، يقظا بساما.
والكتاب - قبل هذا - مصري في صميمه. فقد عنى المؤلف بإبراز حياة العدد سبعة في الديار المصرية، مبينا ما لهذه الحياة من مناسبات وملابسات وصلات بها، مدللا على أن لهذا العدد نصيبا من الوجود ضخما، بهذه الديار، وبينه وبينها رابطة وثيقة العراء. وإذا كانت الأعداد قد تفرقت في الأمصار، واتخذ كل عدد منها لنفسه دارا، فإن العدد سبعة قد أختار مصر دارا له.
وقد دلل المؤلف على ذلك كله بحوادث لا تدع مجالا للشك في صدق ما لاحظه على العدد سبعة ووجوده بمصر. والحوادث التي ساقها، مع صدقها، كثيرة. وهذا يدل على ثقوب نظره وجليل ملاحظته.
وسواء أكان وجود العدد سبعة بالديار المصرية، وبروزه في حوادثها ومناسباتها، عارضا أم كان غير عارض، فقد استطاع المؤلف - بكتابه هذا - أن يركز في الأذهان المعنى الذي ذهب إليه، وهو أن العدد سبعة يحيا بالبلاد المصرية حياة موفقة سعيدة، أكثر مما يحيا في غيرها من البلاد، وانه إلى ذلك أشرف الأعداد.
وقد دلل المؤلف على صحة نظريته بأدلة لا تحصى، وهي ما بين حوادث تاريخية قديمة أخرى معاصرة، ونوادر أدبية، وغير ذلك. وقد نوهنا بان هذه المعلومات قد لا يجتمع إحداها بالأخرى - لأول وهلة - جامعة. ولكن المؤلف بلباقته، وجد بينها أصره قوية، وهي العدد سبعة. . .
واليك مثلا. فأية علاقة بين الحاكم بأمر الله الفاطمي، ويوسف الصديق عليه السلام، سوى
أن كلا منهما من عظماء الرجال الذين مروا بمصر في تاريخها الطويل الحافل؟ ولكن أبن أبي حجلة لقي علاقة بينهما أخرى. . وهو العدد سبعة، فإنه ذو صلة بالرجلين وثيقة. . .
فالحاكم بأمر الله، لبس الصوف سبع سنين، وأوقد الشمع ليلا ونهارا سبع سنين، ومنع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلا ونهاراً، سبع سنين وسبعة اشهر. وكان يقرا نسبه على المنبر كل سبعة أيام، وانه قتل وهو يلبس سبع جباة مزررة علية. . .
أما يوسف عليه السلام، فقد رأى الرؤيا وهو ابن سبع سنين، وعاش في بيت الذي اشتراه من مصر سبع سنين، ولبث في السجن سبع سنين. وقد رأى ملك مصر في أيام رؤياه المشهورة وفيها سبع بقرات، وسبع سنابل. ثم جاءت من بعدها سبع سنين زرعت دأبا، واختزنت غلتها بإشارة يوسف. ثم جاءت من بعدها سبع سنين عجاف المجدبة وهكذا. . .
وبهذه المناسبة نذكر أن أبي حجلة، انتهز فرصة حديثه عن يوسف الصديق، وعرض لتفسير سورة يوسف، فشرحها برمتها تقريبا، وفسر الكثير من غامض آيها، على وجوهها العدة، معتمدا آنا على أقوال المعشرين، وأنا على نفسه ورايه، مستطردا في سباق ذلك إلى أقوال طريقة وآراء جديرة بالنظر وهكذا استطاع ابن أبي حجلة أن يتخذ من العدد سبعة تكأة قوية يستند إليها في عرض جملة نافعة من فوائد جعبته، ولا سيما ما كان منها في الأدب والتاريخ. والحق أن كتابه معرض حافل لجملة من صفحات مصر التاريخية، قديمها ومعاصرها. وكثير من هذه المعاصرة، كان هو أول من لاحظه بثاقب بصره ودقيق استقرائه.
ومن ذلك - مثلا - ما لا حظه عن الملك الناصر حسن، سلطان عصره. فقد قال أنه وافق أباه الملك الناصر محمد بن قلاوون في سبعة أمور، هي: اللقب، وترك السلطنة، والعودة إليها، والجلوس على العرش في المرة الأولى يوم 14 في الشهر، والجلوس في المرة الثانية يوم2 شوال، وانه وزر له متعمم ورب سيف وانه حكم مدة بغير وزير أو نائب سلطنة.
هذا ويحسن بنا أن ننوه في إيجاز، بمشملات الكتاب فقد رتبه على مقدمة وسبعة أبواب ونتيجة، وان تنقسم النتيجة أيضاً إلى سبعة أبواب أخرى.
وفي المقدمة: اجمل ذكر عدة حوادث مما وقع بالديار المصرية من متسمات العدد سبعة.
وتحدث في الباب الأول عن: خاصية العدد سبعة وشرفه ومزيته على غيره من الأعداد.
وفي الباب الثاني: عن العلاقة بين السلطان والعدد سبعة. وفي الثالث: عن إقليم مصر الذي عاش فيه العدد سبعة، ذاكر نبذة حسنة من أخبار هذا الإقليم، وحوادث القاهرة وأبناء النيل وما أتصل بذلك: وفي الرابع: عن السلطان حسن وانه سابع من جلس على سرير الملك، من أخوته مع نبذة يسيرة في أخبار من تقدمه من الملوك الترك بمصر. وفي الخامس: تحدث عن الملك الناصر حسن وعن أخوته وأبيه وعميه وجده وفي السادس: نوه بجملة حوادث عجيبة مما وقع لهؤلاء السلاطين، لم يسبقه إلى تأثرها أحد. وفي السابع فسر شيئا مما أجمله في خطبه الكتاب وفي الباب الخامس، متحدثا كذلك عن الآثار النبوية. وهو باب ملئ بالنكت الأدبية.
أما النتيجة فهو أوسع مدى مما تقدم، وأرحب صدرا، وابسط حديثا، وفيها تدليلات وتوضيحات وتفصيرت لما أبهم وأجمل في المقدمة. وهي تشمل على سبعة أبواب كذلك، فالباب الأول: في قصة يوسف، والثاني: قصة في فرعون وموسى. والثالث: بسط فيه الكلام عن ملوك مصر وعجيب حوادثهم ومتفقات حياتهم. والرابع: في سيرة التحاكم بأمر الله الفاطمي. والخامس في ذكر بعض حوادث مصر. والسادس: في ذكر حوادث القاهرة وضحاياها وفي الأهرام وغيرها. والسابع ذكر السبع الزهرات التي اجتمعت بمصر في صعيد واحد، وما قيل فيها من منظوم الكلام ومنثورة، وغير ذلك.
وحرص المؤلف على أن يختم كل باب بخاتمة خاصة به، مناسبة له. فمما سبق، يتبين لنا جهد الرجل فيما ساق من الحديث، وما عبابه إناء مسكرة أو (سكردانه) الذي أهداه إلى سلطانه.
فقد حشد له فيه أنواعا مما لذ وطاب، وغاب بالألباب. وحق له أن يقول عنه في خطبته:
(وسميته سكردان السلطان، لاشتماله على أنواع مختلفة من جد وهزل. وولاية وعزل. ونصيحة ملوك. وآداب وسلوك وسير وعبر، وتغيير دول. وانتحال ممل. وقطع طريق، وجر مجانيق. وأعمال سحرة. وبيان وتبيين ومدح وتأبين. ويقظة ومنام وبر وآثام وقال وقيل. وأهرام ونيل. وغرائب وعجائب. مما تلقفته من أفواه الشيوخ الآجلة. ورويته عن كقرة وقلة، وشاهدته بعين الحقيقة. والتقطته من التواريخ المعتمد عليها، التقاط الزهر من
الحديقة. . .)
وبعد، فلعل في هذه الوجازه ما ينوه بابن حجلة المغربي وأدبه، وبكتاب قيم من كتبه.
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية
محمود رزق سليم
في التربية
التربية لوقت الفراغ
للأستاذ محمد حسن عبد الرحمن
التربية كلمة شاملة نريد أن نستخرج منها ما فيها لوقت الفراغ. فما هي؟ وما الذي نخصصه منها لوقت الفراغ؟ وما هو هذا الوقت الذي نسميه وقت الفراغ؟
ذلك ما نبغي شرحه وبيانه مع البحث والفحص لعلنا نصل إلى نور يستضاء به في هذا الباب.
التربية: عمل قديم قدم الأحياء الخليقة جميعها. كلهم أدوه ويؤدونه على صورة ما، ما اندثر منهم وما تطور، وما عليها الآن.
فهي خلق في نفس الأحياء كافة أودعه الله فيها، فالخالق لما خلق الإنسان والحيوان والنبات أودع كلاً أمانة التربية الجنسية، حتى إذا انجب النبات الأول والحيوان الأول والإنسان الأول تحركت هذه الأمانة المودعة فيه نحو نسله، فخالطه برعاية منه حتى اطمأن عليه ثم انفصل عنه.
دع الإنسان والحيوان فحلق التربية فيهما واضح، وانظر إلى النبات، نظر إلى الشجرة مثلا كيف تحتضن براعمها، وتمدها بالغذاء، وتدوم على حملها حتى تكبر وتطول وتخرج أزهارها فترعى هذه الأزهار حتى تتكون فيها الثمرة والبذر، وتستمر تغذيتها حتى تستكمل نموها وتنضج وحالتئذ فقط تمنع عنها الغذاء لتجف وتنفصل عنها، ولتسلك بعد طريقها في الأرض وعليها كما سلكتها أصولها الأولى. ألا يماثل هذا ما يفعله الحيوان نحو نسله؟ يرعاه حتى يستقيم عوده ثم يتركه يأخذ سبيله قادراً عليه. فالتربية هي جميع أعمال الرعاية التي يحاط بها الطفل لتنمو أعضاءه ومواهبه في اتجاهها الطبيعي فتساعده على أن يتخلص من كل ما يعترض هذا النمو أو يضره. وحتى إذا أكتمل نضجه يكون خبرة يمكنه أن يسلك طريقه في الحياة كما سلكناه أو أفضل منا وذلك ما نبغي.
والتربية الحديثة تشمل كل ما نعمله مع الطفل ولأجله حتى يسبر في مراحل نموه سيراً طبيعياً لا تعرقله عوائق ولا عراقيل تضره، ثم ما يساعده على أن ينمو نموا سليما لا تشوبه شائبة من كبت أو انحراف أو ضغائن. وإنما النشأة السليمة التي تمكنه من استخدام
جميع ما وهبه الله من مواهب صالحة، ونحفظه من كل السيئات التي تضره أو تجعله ضارا بغيره. ويمكن أن ألخص هذا الهدف العام في القول بان التربية الحديثة تهدف إلى أن يكون تفكير الفرد جمعياً وتفكير الجماعة فردياً، فالواحد للكل والكل للواحد.
عرفنا ماهية التربية البدنية عامة ونعرف أننا أنشأنا لها المدارس والمعاهد والكليات وحقول التجريب والتدريب فهل ندخل في أثناء أعمال التربية في هذه المنشات توجيهات وتدريبات وخبرات يستفيد منها وبها الذين نربيهم من أوقات فراغهم، طبعاُ نعم.
فواجب مسلم به أن يهتم المربون بالفراغ في أوقات تلاميذهم. بل وان تهتم الحكومات بالفراغ في أوقات جميع طوائف الشعب وفرقه. فوزارة الشئؤن الاجتماعية أرى من اختصاصها أن تتدخل في تنظيم أوقات الفراغ لطوائف الشعب كافة كل طائفة على حسب مهنتها ومنطقها. ويسرنا أن نرى اتجاها سلكته وزارتنا في هذا السبيل فأنشأت الساحات الشعبية يقصدها أفراد الشعب أحرار في أوقات فراغهم حيث الكثير من أعمال الرياضة والعابها، وكم يكون أكمل لو نظمت فيها الأعمال الثقافية بجانب الرياضة في كل ساحة. ثم أريدها تتدخل لتحدد للزارع والصانع والعامل والموظف والتاجر أوقات وأيام ومواسم فراغه وحالتئذ يمكنها أن تصل بهذا الفراغ المنظم أن يكون خيراً كله للفرج وللمجموعة معاً.
فلنتعرف الفراغ ولنحصره - الفراغ هو الوقت الذي تبتعد عنك فيه المسؤولية المهنة أو تبعات الوظيفة ولو إلى حين. فعندما تنتهي من عملك المطلوب منك بحكم مهنتك كعامل أو وظيفتك كموظف أو تجارتك كتاجر أو بحثك كباحث أو عالم - حين هذا الانتهاء تشعر بشيء من الارتياح يسري فيك فيبعث في نفسك السرور ونشاطا قد يغطي ما اعتراك في أثناء العمل من نصب وكبد. ولا أجزم أن يشعر المنتهي من المسؤولية هذا الشعور السار المريح دائما، فهو شعور يتوقف على حالة الانتهاء وما سبقها من فوز أو فشل ومن توفيق أو خطأ.
وعليه فأرى أن الوقت الذي يصرفه الشخص في التخلص من حالة العمل والمسؤولية وفي الاستجمام الجسمي أو العقلي أو هما معاً، وفي التهيؤ لعمل جديد - أرى هذا الزمن بين العملين داخلا ضمن وقت العمل ولبس بفراغ. فالفراغ يبدأ من بعد هذا. والآن فلنوضح
الفراغ بأنواعه وأوقاته.
أولا - فراغ مقيد - وهو الوقت القصير الذي يجده الطالب بين كل حصة وأخرى ويجده العامل مرة أو مرتين في أثناء العمل اليومي.
هذا الوقت يستغله صاحبه في قضاء حاجاته الجسمية العاجلة وفي استجمام بسيط يروح به عن نفسه بهدوء أو مطالعة سريعة أو حركة، كما فيه ينهي عمله السابق ويستعد لعمله اللاحق.
وأنتقد مصالحنا الحكومية في هذا الباب أنها لم تحدد لموظفيها في المكاتب والدواوين مثل هذا النوع من الفراغ الذي يتخلل العمل اليومي فاظطرتهم إلى حالات من الفوضى وعدم الاطمئنان
ثانيا فراغ يومي - يكون بعد انتهاء جميع الأعمال المهنية اليومية.
وهذا النوع من الفراغ له أهميته التربوية. وقديما كان يستغله الأستاذ استغلالا سيئا فيكثرون من الواجبات التي يكلفون بها تلاميذهم فلا يجد الطالب بعد العمل المدرسي وقتاً لنفسه بل ينتهي من هذا ليبدأ عمل الواجبات حتى يغلبه النعاس وهذا أسلوب ضار وغير مفيد.
فعلينا كمربين أن نوازن بين ما نكلف به التلاميذ من واجبات يومية وبين اتساع هذا الفراغ اليومي فلا نشغل منه أكثر من ثلثه.
ثالثاً - فراغ أسبوعي - وهو اليوم الكامل أو النصف يوم لبعض الطوائف. وأرى أن يترك المربون هذا الفراغ للطالب يتصرف فيه كيف يشاء، ويكتفون بالتوجيه إلى أصلح ما يعرفه فيه، بسؤاله عن عطلته الأسبوعية كيف قضاها والدخول في مناقشة تربوية للموضوع، أو يذكر الفراغات الأسبوعية ضمن الموضوعات التي نتدارسها خلال الأسبوع.
رابعا - فراغ سنوي - وهو العطلة الصيفية وللعطلات المقررة للموظفين. وأرى أن الفراغ أنسب ما يكون للقيام بالرحلات والمعسكرات الجماعية لمختلف المدارس والجمعيات والأندية فيجمل أن تنظم المدارس والهيئات والشعب التي في داخلية القطر رحلات إلى السواحل والشواطئ مثلا فتقضي شهرا أو اكثر أو أقل في معسكرات أو نحوها. كما أن
هذه العطلات مناسبة لزيارة الأقطار الأخرى قريبة أو بعيدة فليس يخفى ما في ذلك من منافع يبتهج لها وبها التلاميذ ومن فرص عظيمة تمكن الأساتذة من التربية العملية الفعالة الناجحة.
والآن أجمل ما تربى عليه التلاميذ حتى يستفيدوا بفراغهم ويفيدوا مهما كان نوع الفراغ، إذ تكسبهم الخبرة والمران لتكييف استخدامهم لكل فراغ فيتصرفوا في كل بما يناسبه مقدمين العاجل على الآجل والأهم على المهم. وأرى أن نفرد لذلك في الزمن المدرسي حصصاً تتناول التربية لوقت الفراغ. واضع النواحي الآتية أسسا لها.
أولا - استكمال اللازم للمهنة التي يزاولها حسب ما دونه في مذكرته - فيوجه التلاميذ ليثبت كل في مذكرته ما يعترضه في دروسه من مشكلات أو موضوعات أو أشياء تستلزم منه بحثا أو دراسة أو تجرب أو استخدامها في مختلف النواحي الجسمية أو العقلية أو المادية فليستكمل بنفسه ما شعر أنه في حاجة إليه، وليتول بنفسه شراء ما يلزمه من أدوات ومؤلفات وخامات ونحوها. فمثلا أعترضك في أثناء قيامك بمهنتك مشكل كخبرة تلزمك في ناحية منه أو أداة تنقصك لتستخدمها مثلا، دون هذا في مذكرتك وعندما تدخل في فراغك استكمل ما تريد. فأرى لو أننا ربينا أطفالنا وعلى طلبتنا هذا النظام، واتبعه عمالنا وموظفونا وتجارنا لنهضنا نهضة سريعة وطيدة في جميع مرافقنا، وربطنا بين العمل والفراغ وبطاً فرديا شخصياً اختياريا حبيباً إلى النفس لأنه ليس فيه روح المسؤولية ولا تعنت الرئيس ولا رياسة الكبير ولا عقاب الأستاذ، بل هو سعى إلى الكمال صادر من الأعمال الباطنية.
قال الله تعالى - (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه). وقال حكيم - (أننا لا نصل إلى الكمال إلا بإتقان التفاصيل)
ثانيا - واجبك نحو بدنك - فقم نحوه بما يلزمه من راحة ومن تغذية ومن رياضة ونظافة ومن علاج ونحوه. قال عليه الصلاة والسلام (أن لبدنك عليك حقا)
وواجبك نحو عقلك من راحة وثقافة وخيرات ودرية وظاهر أن للعقول رياضة كما للأبدان
رياضة وان العلم للعقول كالطعام للأبدان.
ثالثا - واجبك نحو ربك - من صلاة وعبادة وتثقيف ديني ونشر دعوته والعمل بأوامره واجتناب نواهيه؛ وتطبيق أحكامه وشرائعه في المعاملات جميعاً فتخلق المسلم بمكارم دينه خير دعاية له. قال عليه الصلاة والسلام (أدبني ربي فأحسن تأديبي) وقال - (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وقال الله سبحانه وتعالى (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. والذين يبيتون لربهم سجداً وقياما. والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما. إنها ساءت مستقراً ومقاما) قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل أواب منيب) وغير ذلك من كثير مما يلذ لأولي الألباب وقد قرن الله تعالى بين وقت العبادة ووقت العمل، وحث الناس على الاستفادة من الأثنين فقال جل شانه (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم أن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) وقال (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله)
يعمرونها بأعدادها وباستكمالها، يعمرونها بمراعاتها وخدمتها يعمرونها بالعبادة فيها فلنرب أولادنا يؤمون بيوت الله في فراغهم فيؤدون واجب ربهم ثم ينظرون ما يستطيعون أداءه لعمارة هذه البيوت واستكمال طهارتها وأدواتها فيجودون بشيء من مالهم مثلا لشراء شيء يؤمن لزوما ته من أدوات تطهير أو أضاءه، أو يتبرعون لها بمؤلفات مما ينفع الجالسين فيها ويهديهم صراطا مستقيما وديناً قيماً. أو يقومون بالأذان فيها أو بشرح شيء للمسلمين بين الصلات المفروضة مما أفاء به عليهم من فقه أو أدب أو سيرة تنفع في الدنيا أو في الآخرة أو تنفع أو تنفع الوطن الخاص كوطننا المصري فهو خاص بالنسبة لنا، أو تنفع العروبة كافة أو تنفع الوطن العام أريد المعمورة كلها، فالناس اليوم يجب أن ينظروا إلى أوطانهم الخاصة باعتبارها عضوا في جسم واحد وباقي الأعضاء في هذا الجسم هي
الأوطان الأخرى فيهمهم أن يسلم الجسم كله لأنه إذا تألم عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
فليسعدوا وطنهم أولا ثم ليسعدوا الأوطان معهم الأقرب فالأقرب عملا بالجيرة وحقوقها.
فقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالجار وجار الجار وهكذا: إذن فهذه الوحدة التي تنشدها الإنسانية اليوم هي مما دعا إليه الدين الحنيف. دعا إليها الرسول من نيف وسبعة وستين وثلاثمائة وستين سنة. رسولنا العظيم من هذا التاريخ السحيق يدعو لتكون الأرض كلها وطنا واحدا والأوطان الخاصة فيه متماسكة بحقوق التجاوز وترابط الجيرة تماسكا وترابطا متسلسلا يفضي بعضه إلى بعض بالأخوة والمحبة والرعاية (ما زال أخي جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) هذا التماسك والتودد وتلك الرعاية وما تنطوي عليه من تعاون في البأساء والضراء.
لا شك يفضي إلى ضم العالم كله في وحده واحدة هي ما يدعو إليه فلاسفة العرب ومربوه الآن.
وقال جل شانه (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا) نعم من تحق الله علينا أن نذكره. فلنرب أولادنا على ذكره تعالى حتى يأنسوا به في وحدتهم وفراغهم وفي جمعهم وشغلهم. فهو يقول (اذكروني أذكركم) وما اسعد من يذكره خالقه فليعرفهم كيف يكون في ذكرهم إياه وقاية من السوء وردع عن الشرور جميعا وهداية إلى الصالحات الباقيات (ما عندكم ينفذ وما عند الله باق)
رابعا ً - واجبك الاجتماعي - أنت عضو في المدرسة عضو في الأسرة، عضو في جمعيتك، عضو في قريتك أو بلدتك، عضو في قطرك، عضو في الإنسانية عامة. أن لكل ناحية من هؤلاء ما تستطيع من واجبات حتى يشعروا بوجودك وبنفعك وقيمتك لهم، واجبات القرابة والجيرة والصداقة والزمالة: المودة والزيارات والتراسل. فلنرب أطفالنا من صغرهم كيف يزورون ويراسلون، وكيف يشكرون على الزيارة ويردون على المراسلات. وكيف يواجهون كل حالة في المجتمع وله بما يناسبها. والصحافة فلنصلهم بها يراسلونها ويبادلونها الرأي ويفيدون منها ويفيدونها.
خامساً - الكسب - يسارعون إليه في الإجازات السنوية الطويلة لا يثنون عنه أبدا بل وفي
إجازاتهم الأسبوعية أو اليومية إن أمكن وأقول إن أمكن لأن مجتمعنا لم يرق بعد إلى تهيئة الحالات التي تساعدنا نحن المربين فيجد التلاميذ خارج مجتمعهم المدرسي، لا ما نحن عليه الآن: يرى التلاميذ ومنا ويسمعون عنا في المدرسة ما لا يمكنهم ولا يمكننا نحن أساتذتهم أن نحققه لهم خارجها. فمجتمعنا في حاجة قصوى لإصلاحات كثيرة تربط بينه وبين المدرسة، فلنواصل جهودنا لإصلاحه عن طريق من نربيهم للجيل الجديد. وفي هذا الباب من التربية لوقت الفراغ. وبالشراء وبالبيع، وبالمساهمة في الشركات والمصارف. . . الخ.
فهذه الصحافة مثلا، فلنوجههم لطرق أبوابها يذهبون إليها بأنفسهم يعرضون على أوليائها خدماتهم كل فيما تخصص فيه أو نبغ أو يهواه وله فيه مواهب خاصة أو عامة. ولا يأنف أحدهم من أي عمل حتى ولو كان تنظيف المكتبة أو أعداد أوراق الطبع أو تغليف المراسلات للمشركين وغيرهم أو إحضار البريد والذهاب به.
ولتوجههم إلى المعامل والمصانع والمزارع والشركات والفنادق المصارف والمصايف. . . الخ
فليبحث كل لنفسه في أي منها من عمل ولا يستنكف أن يزاوله في أوقات فراغه مهما كان ضئيلا أو مرموقا بغير الرضى والوقار في بلادنا الآن أو منظورا إليه باحتقار.
أولادنا سيسلكون كل هذه المسالك بإقبال ونجاح متى لمسوا أن كل كبير كان صغيرا وان سنة الحياة التدرج من البسيط إلى المركب ومن الضعف إلى القوة. قال تعالى - (وهو الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة).
انظروا إلى الشعوب الغربية وخاصة التي في المقدمة منها كأمريكا وإنجلترا وألمانيا تجدوا الطلبة فيها ينعمون بخيرات كثيرة مما تكلمت عنه في باب الكسب العالي. فمجتمعاتهم وأخلاقهم ونشأتهم تساعدهم مساعدة فعالة على الكسب والتكوين المالي. انظروا في هذا وفكر بعض التفكير تجد الطلبة هناك والمجتمع وحدة متماسكة متعاونة على الحياة والنهضة جميعا وسأضرب لذلك بعض الأمثال مما أتمنى أن تتحقق في بلادنا قريبا بأذن الله تعالى.
لا يعترف الشباب الأوربي بالفقر عقبة تعوقه عن إتمام دراساته لأنهم لا يجدون غضاضة في القيام بأنفة الأعمال في أثناء العطلة وفي أوقات الفراغ لتوفير المال اللازم، فالعمل مهما
كان نوعه ليس عيبا وإنما العيب أن يقف الساب في منتصف الطريق فلا يكمل تعليمه أو أن يكون عالة على غيره.
فطلبة الآداب لا يستنكفون أن يوزعوا الصحف والمجلات في الأحياء التي يسكنون فيها ولا بد أن يدرسوا للصغار ولو بأبخس الأجور.
وطلبة التجارة يشتغلون بالدعاية وتنظيم حسابات المتاجر الصغيرة.
وطلبة الطب يقضون أوقات فراغهم في التمريض في المستشفيات والعيادات الخاصة أو المنازل.
وطلبة الزراعة يربون الدواجن والماشية ويعقدون الأسواق لبيعها ومنتجاتهم.
وطلبة العلوم والصيادلة يؤلفون فيما بينهم لجانا لصنع المواد الكيميائية والمداد الذي يحتاجون إليه ومعجون الأسنان والروائح العطرية وغيرها من وسائل التجميل.
وطلبة الهندسة تجدهم في فراغهم داخل المصانع يشتغلون مع العمال جنبا إلى جنب.
والطلبة نزلاء الفنادق يتفق كل منهم مع مدير الفندق أن يشتغل في الفندق أو لأجله كذا من الوقت كان يحضر ما يريد الفندق ويوزعه مثلا أو يراجع حساباته أو يعمل في المطابخ أو في البوفيه أو في التنظيف أو الكي أو الخدمة. . الخ. وبهذا يسدد بعض أو كل نفقات معيشته في الفندق وأحيانا يربح ما يفيده في مرافقه الأخرى.
وقد تألفت في جامعة برستون بأمريكا لجنة من الطلبة لرعاية الأطفال في المنازل عندما يغيب أولياؤهم فتستطيع كل أم أن تتصل باللجنة طالبة أحد أعضائها ليرعى طفلها فيقوم أحد المساهمين بالذهاب توا إلى المنزل للعناية بالطفل وبذل اللازم ليسعده خلال غياب أمه فيقدم له الغذاء في الوقت المحدد وبغير ملابسه عند الحاجة ويداعبه ويناغيه. مقابل عشره قروش في الساعة.
فلنعمل نحن المربين على نشر هذه الروح بين تلاميذنا فمرافق بلادنا في حاجة واسعة للأيدي والجهود والأعمال. فهذه صحراؤنا الشاسعة ما أحوجنا إلى إصلاحها واستعمارها، وهذه ثرواتنا الزراعية والمعدنية والمائية والحجرية والعلمية ما انفع أن نستعملها فيجد العاطل فيها مكسبه ويجد أولادنا فيها مصرف فراغهم بالربح الوفير للوطن ولهم
محمد حسن عبد الرحمن
معهد التربية للمصلحين بالمنيرة بالقاهرة
من فلسفة الإذاعة
الإذاعة فن وحياة
للأستاذ يوسف الحطاب
(تحية لمعالي الدكتور حامد زكي بك وزير الإذاعة بعد جولته الفنية في الخارج)
(الإذاعة فن وثقافة وحياة)
هذا هو التعريف الكامل الذي أطلقه الأستاذ راشد في تقريره الأخير عن جهوده المشرفة بالقسم الأوربي.
وكم كان بودنا ألا يقف عند هذا التعريف السريع مع صحته وان يتناوله بشيء من الشرح والتفسير، بما عرف عنه من روح العلم والتحليل، حتى يسد فراغا يلمسه نقاد الفن حين يحاولون تفسيره الظاهرة الإذاعية، والكلام عن وسائلها وعن القائمين بها. ويظهر أنه أراد أن يسلم هؤلاء النقاد الموضوع بكرا ليفتقوا جوانبه، ويجلوا بعض ما غمض فيه. ولكن إذا كان الناقد في مثل هذا المجال مضطرا إلى التوفير على إجلاء جوانب الموضوع - ما دام صاحب التعريف قد فتح الباب أمامه ودعاه إلى أعمال ذهنه في الفهم والتفسير - فإنه مضطر كذلك إلى مجاراة صاحب الموضوع في السرعة، فيعرضه بسرعة الصوت الذي هو وسيلة الإذاعة نفسها، وأن كان واجبه يحتم عليه الوقوف عند أطراف التعريف وقفه غير طويلة.
وأول ما يصح للناقد أن يقف عنده هو الطرف الأول من التعريف (الإذاعة فن) ولا شك أن هذا هو التعريف الجديد الذي تقدمه المدرسة الحديثة لفهم الإذاعة فهماً صحيحا. وهو فهم يرفض الرأي القديم القائل بان الإذاعة حرفة يمكن أن يشتغل بها كل إنسان عاطل من الموهبة الإذاعية. ولقد كان هذا الرأي القديم يبطل إنسانية الأذاعة، ويحييها إلى لعبة إليه يمكن أن يلهوا بها كل من أفسح الطريق أمامه، أو قرأ كتابا على هامش فن الإذاعة، مع أن هذا الفن عملية فكرية مركبة لا يمكن أن يجيدها إلا كل إنسان يحيا في نفسه حياة إذاعية، ويشعر بحاجة مجتمعة الحي إلى هذا اللون من الفن، وتكون عنده القدرة إلى تحقيق موهبته بالفعل، فليس فن الإذاعة نوعا من المهارة بل هو الحياة نفسها كما تبدو في الصلة بين المذيع والمستمع مهما كان لون الحديث الذي يقدمه.
ويبدو أننا قفزنا إلى موضوعنا مرة واحدة بربطنا بين الإذاعة وحياة المشتغلين بها من جهة، وبينها وحاجة المجتمع إليها من جهة أخرى. والواجب يقضي بان تتعرف إلى طبعة الإذاعة نفسها ن وما تحمل من عناصر وجودها التي تلتقي مع هذين العنصرين: النفسي منهما والاجتماعي. وعندنا أن هذا الفن وقد دفعت إلى ظهوره الصورة الملحة والرغبة في الاتصال بجموع الناس، فإن طبيعته قد تحددت وسط زوابع الفنون الأخرى التي وجد المجتمع أنها لا تفي بحاجته في التعبير عن حياته - وحياته الإذاعية بالذات.
والحياة الإذاعية التي نقصدها هي التي تحدد طبيعة الإذاعة نفسها. وتتمثل في شعور المجتمع بان فيه وفي نفوس أفراده أشياء مكبوته، وظيفة الإذاعة هي الإفضاء بها بمعنى إفراغ مضمونها ورفع الحجاب عنها. وهذه حقيقة لها سند من التاريخ - الحقيقي لهذا الفن. والإذاعة لم تبرز إلى الوجود إلا بعد أن ظهرت نظريات العقل الباطن وروجت المدرسة النفسية لفكرة الكبت ونادت بضرورة التنفس وقدمت التحليل النفسي كعلاج. والظاهرة الإذاعية في حقيقتها قريبة من جوهر الاعترافات التي يطلقها المريض أمام المحلل النفساني.
وليس معنى هذا أن كل ما يذاع أمام الميكرفون اعترافات سيكوباثولوجية، بل في عملية إفضاء أو إفراغ نفسية لما يدور داخل النفس، وتصوير هذا العالم بالأصوات المعبرة. أو على الأقل هذا ما يجب أن يكون عليه شكل الإذاعات والطريقة التي يجب أن تذاع بها حتى تكون الإذاعة حديث نفس إلى نفس يربح كلتا النفسين من الدفين بها. وبهذه الطريقة وحدها تحقق الإذاعة وظيفتها وقدرتها الكاملة على التأثير في الفرد والجماعة. وتؤكد وجودها كفن قائم بذاته له طبيعته وخصائصه المنفصلة عن بقية الفنون.
ولا نريد أن نذهب بعيداً في التدليل على صحة نظريتنا، ونكتفي بان نقول إن وظيفة الإذاعة قريبة من وظيفة المسرح والسينما. وانهما إذا كانا يقومان بتطهير العواطف.
بشكل ما فإن الإذاعة تحقق هذه بشكل أوسع لأن الرغبة في الإفضاء طبيعية في نفس كل منا للكبت اللاحق بها. هذا الكبت الذي يحول دون أن يخلص كل ذاته مما يريد الإفضاء به. وحتى إذا استطاع أن يتغلب عليه فإنه تعوزه القدرة على التعبير - وهذا ما يحققه المذيع أو ما يجب أن يقوم بتحقيقه مهما كانت مادة الحديث الذي يقدمه - فإذا كان بحثا
فكريا وجب أن يتميز بالحدة أو العرض المبتكر.
هذه هي مادة الإذاعة وطبيعتها، أما الشكل أو الإطار الفني الذي تقدم من خلاله هذه المادة فالواجب يقضي بضرورة اشتراكه معها في تلك الطبيعة الإذاعية ورغم ما يذهب إليه البعض من أن المادة تحتم الشكل وتصنعه، فإني أرى يجب ألا يترك الشكل خاضعا لها، فكثيرا ما يرتفع جانب الشكل بجانب المادة. وإذا اجتمعت المادة مع الشكل ثم الطرف الأول من عملية التعبير الإذاعية، ولم يبق إلا أن نعرف كيف تتم عملية التعبير كلها، أو تعرف على الأقل الوسيلة إلى إيصالها إلى الطرف الثاني وهو المستمع وهذا أمر لا يتم عن طريق الصوت والصوت وحده - لا الكلمات أو النغم. أقول هذا لمن أحالوا فن الإذاعة إلى حشد متزاحم من الكلمات التي تصدع الرؤوس، والنغمات التي تملأ فراغا يشعر به مقدم البرنامج - ويشكو الأستاذ واشد من ذلك الفراغ في تقريره مر الشكوى.
إن الإذاعة فن متفرد بذاته، وهذا التفرد يتمثل في الوسيلة التي يستخدمها، ولا تقصد بالوسيلة الصوت المجرد القائم على ذبذبات لا تحقق التعبير الذي تهدف إليه، بل أننا ما دمنا نريد إفراغ نفوسنا مما بها ن فلا بد أن يتخذ هذا الصوت شكلا فنيا مؤثرا يخضع للتقاليد الفنية السائدة في كل الفنون. وما دامت هذه الفنون تخضع وسائلها لتقاليد الفن فعلى الإذاعة أن تجاريها عند استخدامها وسيلتها، فلا تقدم الصوت الإنساني كما هو، عاريا من كل تأثير، بل لا بد أن يدخل الفن عليه، ويتناوله بالمعالجة، ويخضعه لطبيعة الإذاعة الدائرة حول الإفضاء بغية تحقيق التأثير الصوتي.
وقد يثور على هذا القول أصحاب المدرسة القائلة بضرورة أن يكون الفن صورة منسوخة من الحياة. والرد عليهم بسيط فالإذاعة ككل فن تستطيع أن تجمع في وقت واحد بين محاكاة الحياة وتظل خاضعة في نفس الوقت لمطالبات الفن ولن يحدث ما يطلبه أصحاب هذه المدرسة إلا حينما ينزل الميكرفون إلى الشارع ويدخل بيتي وبيتك، ويكشف عن حياتي وحياتك، ويقدم مأساة آسرتي وأسرتك - وهذا أمر يصعب تحقيقه الآن. وحتى يتم فإنا نطالب بان تعتصر الوسيلة الإذاعية حتى آخر قطرة فيها وتقدم الصوت في أدق صوره الفنية. وطرقنا إلى ذلك واضح بسيط يتمثل في الرجوع به إلى حقيقته الأولى، في الصورة التي ظهر عليها منذ بدء الإنسانية، منذ قرع الإنسان أول طبول الغابة حتى
استخدمه العصر الحديث في نفير السيارة وصفارة الإنذار لينذر الناس أقوى تنبيه، في أقصر وقت، وبأقل جهد مؤكداً بذلك أن الصوت قادر على إبلاغ رسالته إلى ابعد حد، دون اعترافه بحوائل الزمان والمكان، أو وقوف عند الحدود الضيقة التي تقف عندها كلمات اللغة أو نغمات الموسيقى التي نستخدمها الآن.
ولو وفقت الإذاعة إلى استخدام الصوت بهذه الطريقة لالتزمت وسيلتها الحقيقية، وضمنت عدم انصراف الناس عنها ولما حدث لها مثل الذي حدث للسينما من انصراف الجمهور عنها حينما خرجت على وسيلتها التي تتمثل في الصورة. والناس على جهة في انصرافهم، لأن الفنون حين تثور على حدودها تفقد فنيتها
وإذا كنا نقيس الفن بمقدار تأثيره في الناس، وعدد من يحركهم، وطول الزمن الذي يظل تأثيره فيهم، فقد رأينا الصوت كانت له القوة على تحريك الناس في كل زمان وحضارة نحو الهدف الذي يريده مذيع الصوت، وسيظل كذا والشكوى من انصراف الجمهور عن سماع الإذاعة، النقد المتواصل لها، يحبهما حسن استخدام الصوت لأنه كفيل بحمل الجمهور الاستماع أليها، وتوجهه نحو الهدف الذي نريده له.
ومهما قيل من نقد لرأينا فيكفي للرد أن المستمع لا يعرف لصاحب الإذاعة تعرضاً مباشرا - كما هي الحال في الحياة - أنه يستمع إلى صوته أو أصوات الشخصيات التي يقدمها من عن طريق هذا الكائن الجديد الذي يوصل إليه مادة الإذاعة وتأثير هذا في المستمع يختلف كل الاختلاف عما لو استطاع مباشرة دون وساطة. ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن ناقد يعيش حاضره، ويتقبل الشكل الحالي للإذاعة دون استقراء لتاريخها الذي يحدده ويضع معالمه الصوت وحده حتى ليقال: مرحلة ما قبل الكلام، ومرحلة الكلام، ومرحلة ما بعد الكلام وكل نقاد الإذاعة العليمين يجمعون على أن الكلمة الملفوظة غير الكلمة المكتوبة، وان الإذاعية الكلامية اقل الإذاعيات تأثيرا. وان في التأثيرات الصوتية عوضا عن التأثير الكلامي. ولندرك أن ذاكرة الأذن للصوت أقوى من ذاكرة العين للتأثيرات البصرية. ولهذا السبب فإن قدرة كبيرة على التحريك العميق لمجموعات الناس، والتأثيرات التي تخلقها فيهم تظل طويلا معهم بل كثيرا ما تصبح جزءاً من كيانهم وثقافتهم. وحتى إذا أنعدم عنصر الكلام منها - وهذا ما لا ننادي به تماما. وستظل الإذاعة مشتملة على حوار ضمني
بين المستمع والمذيع، ويبقى المستمع مدينا للمذيع يما يقدمه من شرح وتفسير، كما سيظل المذيع مدينا للمستمع بتقبله لما يقول.
وإذا كانت الإذاعة تخاطب في الإنسان حاسة واحدة هي السمع، وتتجه الفنون الأخرى إلى مخاطبة أكثر من واحدة، فإن المستمع أو المستمعة يجلسان بعيدين عن كل تأثير فني مصطنع: فأنت لا تستطيع أن تتذوق لوحة فنية إلا إذا صحبها جو فني معين، ولا نستطيع أن تستمتع بقراءة كتاب إلا إذا كنت في عزلة تامة، ولا أن نشاهد فيلما إلا في ظلام دامس، ولا مسرحية إلا بين جماعة من الناس - أما في الإذاعة فإن تستطيع أن تستمع بها على أية صورة وعلى أي وضع تكون عليه. وقد يكشف لنا هذا عن فردية الإذاعة، ولكنه يكشف لنا كذلك عن وظيفة الإذاعة في الحياة، وهي ضرورة بعث الروح الجماعية في المستمعين، لا تأكيد هذه الروح الفردية. ومن هنا كان على رجل الإذاعة الذي يريد أن يؤثر في مستمعيه تأثيرا مباشراٍٍ، أن يدرس نفسية الجمهور ويحاول قتل هذه الروح الفردية. وإذا حرك نفوسهم فلكي يدفعهم إلى عمل حي يفيدهم ويفيد مجتمعهم وهذا هو الجانب الخلاق الحي في عمل رجل الإذاعة. فإذا اجزنا له أن يسلبهم فليكن قصده التخفيف عنهم، وجعلهم اكثر استعدادا وقبولا للحياة. فالإذاعية الناجحة قلما تفشل في إعطاء المستمع قصة أو فكرة أو عاطفة أو عملا، يظل معه طول الحياة، يتردد في أذنه، وتردده جوانب نفسه. وذلك لا يتم إلا حينما تكتمل لها العناصر العضوية المتوفرة في الكائن الحي.
وبهذا وحده تكون الإذاعة: (فن وثقافة وحياة)
يوسف الحطاب
دفاع عن الشعر الجاهلي
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
بقية ما نشر في العدد الماضي
- 2 -
في المقالة ذكرنا آراء النقاد الذين يتعصبون على الشعر الجاهلي، وحددنا موقفنا منهم، وذكرنا بعض خصائص الشعر الجاهلي لترى رأينا فيها أحسنه هي أم معيبة يصح أن يطرح الشعر الجاهلي من اجلها، ونتابع الحديث في الجوانب الأخرى الباقية من خصائص الشعر الجاهلي لنستطيع أن نحكم له أو عليه
لاشك أن أهم طابع للشعر الجاهلي بعد الذي ذكرناه سابقا هو هذا الطابع البدوي الواضح الذي يفجؤك في شيء القصائد الجاهلية، مما هو اثر للبيئة والحياة الجاهلية. ونحن ندعو كما يدعو كل منصف إلى ترك هذا الاتجاه في الأداء والتصوير فقد اصبح لا يلائم منهج الحياة في القرن العشرين، كما أن إبراز هذا الطابع البدوي في شعر الشاغر المعاصر يكون تقليدا سخيفا لا مبرر له، ويحول دون ظهور نزعاته الفنية ومواهبه الخاصة المستقلة في شعره، وهذا ضرر بعيد
ومن آثار هذا الطابع في الشعر الجاهلي شدة تمثيلية للبيئة البدوية، وقد سار بعض الشعراء المحدثين على هذا النهج، فملأ وأشعرهم بصورة الحياة البدوية، من وصف النقاد والشعراء ودعوا إلى التحرر منه فقال مطيع بن إياس:
لأحسن من بيد تحار بها القطا
…
ومن جبلي طي ووصفكما سلعا
تلاحظ عيني عاشقين كلاهما
…
له مقلة في وجه صاحبها ترعى
وهذه دعوة جديرة بالعناية خليقة بالأيثار، وقد دعا المحددون في الأدب الحديث واكثروا من الدعوة إلى أن يكون الشعر صورة لحياة الشاعر ونفسيته وبيئته وعصره، وإلى أن يخلو من آثار التقليد للقدامى في أغراض الشعر وفنونه وموضوعاته وهذا اتجاه جليل قد سار بالشعر العربي الحديث خطوات واسعة نحو التجديد والجمال والروعة، فالشاعر الذي يكون غير مقلد في معناه أو في لفظه، ويكون صاحب هوية فنية في نفسه وعقله، ويتأثر ببيئته
ويؤثر فيها، ويمثلها في جدها وفرحها وحزنها وسلامتها وحربها وألمها وأملها أتم تمثيل
ومن آثار هذا الطابع البدوي في الشعر الجاهلي أيضاً بدء اغلب القصائد الجاهلية بذكر الأطلال، ووصف الديار. وهذا مذهب أغلبية الجاهليين، لا يشذ إلا القليل، كعمرو بن كلثوم في معلقته التي بدأها بذكر الراح، وكتأبط شر في قصيدته اللامية المشهورة:
ن بالشعب الذي دون سلع
…
لقتيلا دمه ما يطل
والتي يسميها بعض المستشرقين نشيد الانتقام ويدافع ابن قتيبة في أوائل كتابه (الشعر والشعراء عن نهج الجاهليين دفاعا حارا، فقد صور نهج العرب في وحدة القصيدة وما كانوا يبدءونها به من ذكر الديار والآثار ووصلهم ذلك بالنسيب والشكوى وألم الوجد وفرط الصبابة ثم ذكر الرحلة إلى الممدوح تخلا إلى مدحه واستجلابا لرضائه وسني ألطافه، وقال: والشاعر المجيد من سلك هذه الاساليب، وعدل بين هذه الأقسام وقد سار الكثير من المخضرمين والإسلاميين على هذا النهج أيضاً فاكثروا من بدء قصائدهم بوصف الأطلال والديار كما اكثر الكثير منهم من بدأها بالغزل، ولم يشذ عن ذلك إلا أبو نواس الذي دعا إلى بدء القصيدة بذكر الراح، قال:
وصف الطلول بلاغة القدم
…
فاجعل صفاتك لابنة الكرم
وتبعه ابن المعتز فقال:
أف من وصف منزل
…
بعكاظ فحومل
غير الريح وسمه
…
بجنوب وشمال
وكان أبو نواس شعوبيا في مذهبه، أليس هو الذي يقول:
تبكي على الماضيين من أسد
…
ثكلت أمك قل لي من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس ومن يمن
…
ليس الأعاريب عند الله من أحد
ولكن ابن المعتز كان ناقدا يبحث عن الصلة بين الأدب والحياة ويحاول أن يلائم بينهما وينادي بتحضر الشعر وترك العداوة في وتمثيله لحياة الشاعر وآرائه في الحياة وقد ثار أبن رشيق على منهج الجاهلين في القصيد ورأى مع من رأوا لا معنى لذكر الحضري الديار وانه ليس بالمحدث من الحاجة إلى وصف الإبل والقفار لرغبة الناس في عصره عن تلك الصفات وعلمهم بان الشاعر إنما يتكلفها، وان الأولى وصف الخمر والقيان وقد
تطفلت الحياة نفسها بصرف الشعراء المعاصرين عن هذا النهج الفني في القصيدة، فليس منهم والحمد لله من يبدأ قصيدته بذكر الإبل والقفار والديار والآثار بل أن ذلك لو فعله أحد الآن لرمي بالجنون ولكن معنى ذلك ألا يصف الشاعر المعاصر معاهد أهله وأحبابه في شعره أبدا، أو ألا يبدأ قصيدة من قصائده بذكر ها، ولكن نقول أن التزم بدء قصائده بذكر معاهد حياته وأحبابه ولم يتخل عن هذا المنهج، لم نحاسبه على ذلك، إلا إذا قيدها من حريته الفنية أو حبس مواهبه وملكاته الأدبية، فإنه يجب بحق ألا يقيد الشاعر نفسه بأي قيد لا تلزمه به لنفسه ومواهبه وملكاته الفنية وحدها، وإلا كان مقلدا لا نصيت له من الشعور بالحياة والإحساس بها والتمتع النفسي العميق بمشاهدها وصور وألوانها.
وهناك في الشعر الجاهلي ظاهرة أخرى نشأت عن الطابع البدوي الموروث وهي كثيرة الغريب والوحشي، ولا شك أن ذلك مذهب العرب القدامى وحدهم الأثر البيئة البدوية الجاهلية الخشنة في عقولهم ونفوسهم. وما أروع ما يقول صفي الدين الحلي الشاعر المتوفى في عام 750هـ:
إنما الحيزبون والدردبيس
…
والطخا والنقاخ والعلطبيس
لغة تنقر المسامع منها
…
حين تروي وتشمئز النفوس
وقبيح أن يذكر النافر - الوحشي منها ويترك المانوس
اين قولي: هذا كثيب قديم
…
ومقالي: عقنقل قدموس
إنما هذه القلوب حديد
…
ولذيذ الألفاظ مغناطيس
وليس هناك أحد يدعو إلى استعمال هذه الألفاظ، أو يرف قلبه حين سماعها، فهي ألفاظ تاريخية يجب أن نفهمها فحسب.
بقيت بعد ذلك الصور البيان الأدبي نفسه. أصوغ أسلوب على الصور القديمة التي يمثلها الشعر الجاهلي، أم نستمد صوره من ألوان حياتنا وبيئتنا وثقافتنا وحدها. ولنضرب مثالا واحدا لذلك: لاشك أن الجمل كان عماد الحياة في العصر الجاهلي، وفي أساليب البيان صور كثيرة أستمدن منه، فقد قالت العرب ألقى الحبل على الغارب، واقتاد غارب المجد وسنانه، ووطئه بمنسمه وضرسه بأنيابه، والقي عليه جرأنه، وناء وأناخ بزمام الأمر.
وقد حاول النقاد والبلاغيين في العصور القديمة أن يدعوا إلى توليد صور البيان وتنميتها
من مشاهد الحياة والبيئة التي تتجدد دائما.
فهل نأخذ صور البيان القديمة في أساليبنا لترضى العرب القدامى، أو نولد فيها لترضى عبد القاهر الجرجاني وسواهما؟
لست أدعو إلى الأول ولا احبه، وإن كنت لا أرى في الرأي الثاني ضيرا أو ضررا؛ وأوثر أن الأديب إلى الصور التي يولدها صوراً جديدة، يستمدها من حياتنا وبيئتنا وألوان الحضارة التي نعيش فيها، والاختراعات التي تجد دائما بيننا والتي نبعد اللغة عنها ونحاول ألا نستمد منها صورنا الأدبية
وبعد فهذه هي سمات الشعر الجاهلي ش، ووصف الصلة الفنية بينها وبين حياتنا الفنية الحاضرة، وما يصح أن نقلده فيه وما لا يصح.
ونحن لا ندعو إلى تقليد البلاغة القديمة، ولا إلى الشعراء الجاهليين تقليدا بعيدا عن مناهج الفن والشخصية والموهبة الأدبية فإن ذلك التقليد يبعدنا عن أداء رسالتنا الأدبية على اكمل وجوهها، وإنما نقول: افهموا هذه البلاغة فهما جيدا، وربوا ذوقكم الأدبي بالإدمان على قراءتها وقراءة ما سواها من البلاغات، لتصلوا إلى مرحلة الشخصية الذاتية في الأدب والشعر، ولتكمل مواهبكم وتستقل بالإبداع والتجديد في الفن والشعر والأدب والحياة.
محمد عبد المنعم خفاجي
المدرس في كلية اللغة العربية
رسالة الشعر
من مناحي الهوى
للأستاذ حسين الظريفي
صراحة قلب في الهوى غير كاتم
…
أطالت عليه اللوم من كل لائم
يحدث عنه نثر أفصح ناثر
…
ويفصح عنه نظم أبلغ ناظم
وما نظرات العين إلا تراجم
…
واكنها ليست ككل التراجم
ولم ترق البسمات إلا لأنها
…
تشير إليه من خلال المباسم
وما لائم، عن قلبه غير فصح
…
إلى مفصح عن قلبه غير لائم
بيان يه أعلى البيان مكانه
…
وان كان يبدو في خفاء الطلاسم
يراه بعيني عقله كل عاقل
…
يرى دائما في زائل غير دائم
نحب، وما تخلو من الحب ساعة
…
كأعراق ملزوم لأعراق
وكل وما يهوى، فمن حب واله
…
يهيم بمولود له غير هائم
يرى بمعانيه المعاني كلها
…
ويبصر فيه عالما بعد عالم
ومن مستهام بالشجاعة والندى
…
كثير العطايا ضارب بألصوارم
ومن مغرم بالمال يحلم دهره
…
يجمع دنانير له ودراهم
وصب بهذي أو بتلك كأنه
…
تعلق قلبا بين ريش القشاعم
وآخر أفنى في الزعامة نفسه
…
فناء الليالي في بناء العوالم
وهيمان باستجلاء كل حقيقة
…
طوتها يد الأيام من عهد آدم
يقوم عليها ليله ونهاره
…
قياما به أربى على كل قائم
وكم من يد بيضاء جاد بها الهوى
…
تعلم معنى الجواد أندى الغمائم
وكم من قتيل بالهوى قاتل به
…
بدا غير كجرونم عليه وجارم
ويأرب حب آثم غير صالح
…
إلى جنب حب صالح غير آثم
ضروب هوى، لم نمس منها ولم نكن
…
لنصبح إلا في اشد الملاحم
وما المرء غلا أبت الهوى بالذي آتى
…
ويأتي بماض من سنيه وقادم
له دافع منه بغير منازع
…
يروم به أقصى مروم لرائم
وكل صغير بالصغائر مولع
…
وكل عظيم مولع بالعظائم
وقد تكذب العين الظواهر كلها
…
كأضغاث أحلام أطافت بحالم
ويارب نفس لم تزايل وجومها
…
تطل على وجه لها غير واجم
وباسم ثغر مالئ عين من يرى
…
وما هو فكرت فيه بباسم
تحاربنا الأيام حربا خفية
…
بغير نصول عندها وصوارم
ويبلى جديد أنا جديد حياتنا
…
وما منهما شيء لدينا بسالم
لعمرك ما عهد المشيب إذا أتى
…
بباق ولا عهد الشباب بدائم
تحول لعمري كل حال على الفتى
…
وما هو في حال لها بملازم
وأعلم أن الدهر لا رأي عنده
…
بإنزال مظلوم إلى جنب ظالم
وان لديه عالما مثل جاهل
…
وان لديه جاهلا مثل عالم
حياة لعمري هون الحب عبئها
…
على أننا منها بها في تخاصم
يهيب بنا الشوق الملح إلى المدى
…
ويلهب مما عندنا من عزائم
فمن لا قح ساع بآثار سابق
…
ومستبشر ناع على متشائم
وذلك منصور بعترك المنى
…
وذاك به يمنى بشر الهزائم
حسين الظريفي
على سفر
للأستاذ محمد محمود عماد
رحل القلب فهلا ترجعين
ليعود القلب للصدر الحزين
ليت شعري أين ذياك الحبين
مزج الدل لديه بالحنين
والحديث الحلو بالصمت الثمين
أقفر البيت وإن كنت ارى
في حناياه خيالا قد سرى
عزه الحسن لحين، فإنبرى
يكتب الحزن عليه أسطرا
وانزوى البشر، وغشاء السكون
وعثون زانها الزهر الجميل
مالها اليوم سرى فيها الذبول
بعد أن كنت لها نعم الكفيل
يالبؤساها. . . ستهوى بعد حين
ويح (بيجو) هو في قيد الألم
قد جلت عيناه ما أخفى البكم
ود لو يسمع من فيك النغم
فيلبيه. . . ويسعى للقدم. . .
ثم يرتاح إلى الصدر الحنون
فمتى تحيين باللمس الغصون؟
ومتى تأوين راعيك الأمين؟
ومتى يرجع للبيت الفنون؟
ومتى يسعد بالقرب الخدين؟
ومتى. . . هل (لمنى) تستمعين؟
محمد محمود عماد
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
ثلاثة شعراء في الميزان: حداد والعطار والملاط
يا كاتب الأداء النفسي
تحية من صبا بردي أوق:
قرأت في تعقيباتك المنشورة في العدد (886) من الرسالة بتاريخ 26 يونيه، أنه يسعدك كله أن يوافيك قراء الرسالة بكلمة عن الأستاذ يوسف حداد صاحب قصيدة (الشاعر) المنشورة في العدد (885) من الرسالة. وساء ني أن تشعر بكثير من الحرج حين يدور في خلدك أن بعض القراء قد يعرفونه حق المعرفة في الوقت الذي لم تتح لك الظروف أن تعرفه بعض المعرفة.
هون عليك يا أنور فإن الخطب يسير، وها هي ذي قارئة من قارئات الرسالة توافيك ببعض ما تريد. بين يدي مجلة (العصبية الأندلسية) التي نقلت عنها الرسالة القصيدة، تشير في ختامها إلى أن الأستاذ (حداد) من لبنان - البقاع - تل زنوب
وقد لمع في ذهني أن أعيرك العدد رجاء أن تعيده إلي حرصا على مجموعتي، لأني أريد أن استمع إلى رأيك في هذه المباراة الشعرية الفريدة التي واقترحتها العصبة الأندلسية في موضوع (الشاعر) على شعراء العالم العربي. ولا أكتمك أني قرأت القصائد الثلاث فانتهيت إلى حكم كمناقض لحكم العصبة، ووددت لو أن اللجنة المحكمة عكست الأمر لكان ذلك اقرب إلى الحق وأدنى إلى الصواب.
لقد اشترطت العصبة الأندلسية في عددها ذي الرقم (7)
وبتاريخ 211949 أن تكون القصيدة سليمة اللغة والتعبير فلا
تحتاج إلى تصليح وتنقيح، وقصيدة الأستاذ حداد لا تخلو من
المآخذ وتحتاج إلى كثير من فالتنقيح، وسرني أن تشير إلى
هذا في تعقيباتك الصادقة البارعة. والعجب العجيب أن لجنة
التحكيم رأت هذا وأغلفته حين قسمت الجائزة الأولى بين
الشاعرين شبلي ملاط ويوسف حداد، لما في القصيدة الأولى
حسن الديباجة وجودة الحبك، وفي الثانية من قوة الشاعرية
وخصب الخيال وقوة الشاعرية وحسن الديباجة وجودة حبك،
فكأنها تقر في حكومتها أن القصيدة الأولى حلو من الشاعرية
وأن القصيدة الثانية يعوزها الحبك!
وشاءت العصبة الأندلسية بعد ذلك أن تمنح الجائزة الثانية لقصيدة الأستاذ انور العطار، وانفراده بالجائزة الثانية دليل على أن قصيدته تقوم على قوة الشاعرية وحسن الديباجة، وإلا لقسمت الجائزة الثانية كما فعلت في الجائزة الأولى!
قرأت القصائد الثلاث ثم عدت إلى طبعي احكمه وإلى نزاهتي أسألها فانتهيت إلى الحكم الآتي:
1 -
قصيدة الأستاذ شبلي ملاط لا أثر فيها للتجديد فهي عنيفة في أفكارها وصورها وأسلوبها، وهو لا يتحدث فيها عن الشاعر الذي يلهم الشعر إلهاما ولكنه يتحدث عن النظام الذي يكده اللفظ ويؤوده الوزن وتهده القافية، وإلا فما شان هذين البيتين:
وقد تنقضي ساعاته في نهاره
…
وليس له إلا بتقويمه شغل
وفي الليل يقضي الليل إلا أقله
…
يعالج سبك البيت والسبك مختل
والمقطع بكامله يصف رجل قريحة لا رجل عبقرية، ويعفى على مقطعة كله بيت المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها
…
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وفي القصيدة أسلوب فقهي في تحلية لفظه (كل) بال والفصيح تجريدها، وفيها خطيئة نحوية في قوله:(صلوا) بالضم وعليه أن يقول (صلوا) بالفتح، وذلك في البيتين:
1 -
وتعصيه وقتا لفظه مطمئنة=ويعييه بعض البيت حينا أو الكل
2 -
هلم إلى الدنيا الخلود وهيكل=إلى وجهه عباد صانعه صلوا
وراعني كما يروع كل فتاة أن يكون الشاعر غير موحد في حبة وآلافا شان (نعم وجمل) في بيته:
فكان لنعم من شعاع قلادة
…
وكان لجمل من سنا لؤلؤ مثل
لا يا أيها الشاعر العاشق! حبيب واحد ذخر). . .
والتوحيد في المرأة من نبل القلب وصدق الحب!
لا يا أيها الشاعر، إنك لتقلد عمر بن أبي ربيعية وما تجيد التقليد، وإلا فما شان هذه الأبيات:
وشبب ما شاء التشبب فيهما
…
وشدت أواخي الود واستحصل الحبل
فغارات مليحات العشيرة منهما
…
وطاب لها في الشاعر القدح والعذل
ووجهن تقريبا إليه كأنما
…
هو الطعن في أحشائه أو هو النبل!
وقلن له خل العشيرة وارتحل
…
وإلا ففيما بيننا القسمة العدل
أتظلمنا في منحك الشهد غيرنا
…
ونحن الأزاهير التي امتصت النحل
وتنظم في نعم وجمل خوالد
…
وما مثلنا في الحب نعم ولا جمل؟
على أنه حين يرتحل عن العشيرة يصبو إلى كل حسناء:
ويصبو إلى ممشوقة القد كلما
…
بروضة زغلول تموجت النخل
لا يا أيها الشاعر الكبير شفيق معلوف، حين أعلن في مستهل قصيدته أن جنة السحر (عبقر) أوفدته إلى الناس.
أوفدتني إلى الأنام
…
جنة السحر (عبقر)
وأراد الشاعر أن يقلد صاحب (أزهار الشر) بولدير، فاستعار قبح ألفاظه ولم يستمر عمق معانيه ولا جمال روحه، انظر إلى هذه الصورة:
والعصا جسم أفعوان
…
وجرابي عشوش بوم
واراد أن ينحو منحى شعراء الرمزية وان يتقرب إلى (عزاها) فرلين فكتب ما لا يفهم، وإلا فما معنى هذا البيت:
وإذا أعول المجن
…
عبد الغيم ظل دود!
وفي القصيدة أخطاء لغوية ونحوية، منها جمله (ورد) على (ورود) والصواب أن يجمع
على (أوراد ووراد)؛ وتجريده جواب الشرط من الرابطة. . واستعماله (شلة) لكبة المغزل وذلك في الأبيات الثلاثة الآتية:
1 -
يحمل التاج والكفن=للفراشات والورود
2 -
إن طوى القبر أضلعي=ادفنوا غلتي معي إلخ
3 -
هبه من غزل شلة=لفه العث، حبل نير
وتخلو القصيدة من الشعر ويتجهم لها البيان حين يستعمل الشاعر ألفاظا مستعارة من لغة التجارة والسياسة والبرقيات في قوله:
أوفدتني إلى الأنام
…
جنة السحر عبقر
في مهماتها الجسام
…
يالشئ يحير!
وبعد فالقصيدة هذيان محموم لكثرة ما تطفح به من وعول الجان ونعاج الدخان وخيول الغيوم. . وهي على تفاهتها مسروقة من قصيدة عنوانها (غيوم) لشاعر فرنسي فاتني اسمه كان يتحدث عن طفل أستلقي على ظهره في يوم غائم، فبصر بالسماء وقد أقبلت عليه غيومها بما يشبه الحملان تارة وبما يشبه الوحوش الكاسرة تارة أخرى؛ ثم بصر بثوب جدته الفضفاض وقبعتها المترهلة فاغمض جفنية واستسلم إلى الرقاد.
لا يا أيها الشاعر! إن الشعر لفظ ومعنى، ولن يستقيم إلا إذا ظفرت باللفظة الصافية والمعنى الواضح والمبنى حريص على التجديد في الأفكار ولكنه لا يغتفر لأحد أن يجدد في الأساليب، لأنها وحدها التي لغة من لغة وبياناً من بيان، وما عظمه الشاعر (شوقي) إلا لأنه نظم طريف الفكر في توالد اللفظ
3 -
أما قصيدة الأستاذ أنور العطار فقد أرضتني كل الرضا وتحمست لها كل الحماسة، برغم أن عمريه الهوى في الشعر ذلك أنى أميل إلى شعر أبي ريشة أضعاف ميلي إلى شعر أنور العطار هذا ذوقي ولا جدال في الأذواق.
أرضتني بقوة شاعريتها وخصب خيالها وجودة سبكها وحسن ديباجتها، وشعرت كأنني أقرا شعرا من الجنة، أو كان روح شوقي ترقرقت على هذه القصيدة. . . والحق أنه ما من شاعر استطاع أن يترسم خطى شوقي وان يجيد صورة واناقة بيانه وصفاء ألفاظ وعذوبة جرسها وموسيقاها كما استطاع أنور العطار، وحسبي دليلا على ذلك هذه القصيدة الشاعر
البارعة التي أرضت العصبة الأندلسية في خصب صورها وجودة حبكها، إن كل بيت من أبياتها بتحدث عن الشاعر حديثا حلوا وهاك بعد صورها:
1 -
طافت الأرض في رؤاه تصاوير ندايا بجدة ورواء
2 -
يشرف البشر في محياه نضرا=ومن البشر انفس الشعراء
3 -
يا صدى الأنفس اللهيفة=يا حامل عبء الهموم والأدواء
تنقل البرء للآلي نشدوا البرء وفي القلب عالم من رثاء
4 -
صور الرحمة التي تغمر الكون بفيض الأنداء والآلاء
صور الحب والحنان على الأرض ونجوى الأصداء للأصداء
طف كهذا الربيع نشوان فرحان غني العبير جم البهاء
لح كهذا الصباح يختال جذلان يعم الأكوان بالأضواء
5 -
بابي العبقرية الفذة البكر تلف الحياء بالكبرياء
6 -
غن يا ابن النجوم والقمر العاشق والسفح والرباء الشماء
غن يا ابن الغمام والجبل الملهم والظل والشذا والماء
غن يا ابن الليل الموشح بالنور ويا ابن الضحى ويا ابن السماء
غن فالعالم الرحيب تسابيح هيامي من نشوة الإيحاء
أنا نشوان من نشيدك هيمان فهات اسقني وزد في انتشائي
هدهد القلب والهوى والأماني بغناء باق على الإناء
وطن أنت ظاعناً ومقيما
…
لست والله بالغريب النائي
إنما العروبة التي ما تقضي
…
غربة الفكر والندى والعلاء
لا ادري ما الذي أخذ بقلمي للدفاع عن أنور العطار، وإلى إنزاله هذه المنزلة وإلى الإعجاب بقصيدته الذي أعلنه دون تورع ألانه ينظم الشعر بروح شوقي الخالد، أم لأنه يكتب بهذه اللغة الساحرة الشاعرة التي عنت لأستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات، هذا الأديب العظيم الذي يتحدث النبع الشادي في خلوة الوادي؟
وبعد، فيا كاتب الأداء النفسي. . يا من أتحدث إليه دون كلفة ولا مشقة كما يتحدث القلم إلى الورق، ما أريد إلا أن تعقب على هذه المباراة الشعرية وان تنشر القصيدتين الفائزتين في
الرسالة، وان نرهف إليك أفكارنا لنسمع فصل الخطاب في هذه المباراة.
أحتفظ يا أنور بنسختي من مجلة العصبية الأندلسية واذكر إنها عارية يجب أن ترى، لأن ذلك يشجعني على أن أعيرك طائفة من كتبي الغالية علي، فأنت من الآن قسيمي في الفكر ورفيقي في الأدب، نتلاقى في الرسالة على تنائي الدار وسط المزار واختلاف الجنس وائتلاف الحس.
ولك تحياتي وإعجابي
من المخلصة هجران شوقي
دمشق - سوريا
كنت قد طلبت إلى قراء الرسالة أن يوافوني ببعض ما يعرفون عن الشاعر يوسف حداد. . . عن موطنه، عن شعره، عن حياته الشخصية والأدبية. وها هي ذي الأديبة السورية هجران شوقي تتطوع فتبعث إلي بهذه الرسالة المطولة، لا لتطلعني على علمها بشخصية الأستاذ حداد بل لتطالعني برأيها (الخاص) في شعره! ومن العجيب أن الأديبة الفاضلة قد بدأت رسالتها بنقد الشعراء الثلاثة ومن بينهم الشاعر الذي أسأل عنه، ثم ختمت هذه الرسالة برغبتها الخالصة في أن تسمع مني فصل اخطاب في هذه المباراة. . وكأنها بريد أن توحي إلي ببعض أشياء أن نؤثر في حكومتي الأدبية!
معذرة يا آنستي إذا قلت لك إنني لم أكن محتاجا إلى رأيك في الشاعر يوسف حداد وإنما كنت محتاجا إلى علمك به. . ومعذرة مرة أخرى إذا قلت لك إن رأيي اليوم في قصيدته هو رأيي الذي أعلنته بالأمس على صفحات الرسالة، ولن يغير من هذا الرأي ما بدا في رسالتك من تحامل مقصود لا يستند إلى (فنية) أصيلة من دعائم النقد الأدبي الذي أومن به. وعندما أقول النقد الذي أومن به فإنما أعني (الأداء النفسي) بأصوله وقواعده، بهذا (الأداء اللفظي) الذي يؤمن به بعض الناس!
لقد كنت أنتظر وقد رجعت إلى موازيني الخاصة في نقد الشعر عندما تحدثت عن شعر الأستاذ علي محمود طه منذ شهور، لا أن ترجعي إلى موازين القرن الرابع الهجري أن كان النقاد يزنون الشعراء بأخطائهم اللغوية والنحوية، فإذا أرادوا أن يثبتوا (فنيتهم) في
النقد لم يجدوا أمامهم غير العبارة الخالدة: (شاعر متين السبك قوي الحبك مشرق الديباجة)، كما تعبرين أنت في رسالتك. أو كما كانوا يقولون:(شاعر أني بما أخجل زهر النجوم في السماء وأزرى بزهر الربيع في الأرض)
عفا الله يا آنستي عن موازينك عندما تصفين قصيدة الأستاذ حداد بالتفاهة أو بأنها هذيان محموم. صدقيني إذا مكان شعر الأداء النفسي من خلال منظارك هذيانا فإنني أرحب بهذا الهذيان ولن أقيم لغيره الميزان! ومعذرة للمرة الثالثة إذا قلت لك إننا لو جردنا نقدك من بعض اللمحات العابرة، لما بقي منه شيء ذو خطر يمكن إن يحدد مكان كل منهم تحديدا فنيا يقوم على قواعد وأصول إذا لم يجدد شبلي الملاط في أخيلته والفظه ومعانيه، قلت عنه أنه عتيق في إبكاره وصوره ولا أثر للتجديد في شعره. وإذا جدد يوسف حداد وحلق في آفاق يعز بلوغها على كثير من الشعراء، قلت عن هذا التجديد أنه تافه أو هذيان محموم! ألا توافقني على انك مضطربة في أحكامك متناقضة في آرائك من حيث لا تشعرين؟!
ثم من قال لك يا آنستي أنه ما من شاعر استطاع أن يرسم خطى شوقي أو يجيد صوره واناقة بيانه وصفاء ألفاظه كما استطاع أنور العطار؟ هل تستطيعين أن تقدمي لنا نموذجا من شعر هذا وآخر من شعر ذاك، لتثبتي لنا مدى التوافق بين أفق وافق وبين جناح وجناح وبين أداء واداء؟ أم أن هذه مسالة مفروغ منها بكلمة مماثلة لا تنهض على اساس، كما فرغت من الحكم على يوسف حداد بكلمة مماثلة لا تنهض هي أيضاً على أساس!؟ وإذا كان أنور العطار قرينا لشوقي كما تريدين لي أن أقتنع ن فهل أخرج من هذا الهوى أعاف ما أنت (عطاريته) كما تقولين؟!
اضطرب في أحكام ومناقض. . . بل وتحامل. ولو لم يكن همك تحامل لما تعمدت أن تقفي عمد ثلاثة أبيات أو أربعة من شعر الأستاذ حداد لتلغي في ضوئها بقية قصيدة أو بقية شاعريته وان تحرصي كل الحرص على اختيار عشرين بيتا من قصيدة الأستاذ العطار هي قلبها النابض بالحياة! هذه حقيقة ليس إلى إنكارها من سبيل. . ومن العجب أن الأبيات التي وقعت أنت عندها في قصيدة الأستاذ حداد هي قلبها بعض ما وقفت أنا عنده وسلكته في عداد المآخذ والعيوب، ولكنني على الرغم من هذه المآخذ وقفت عند مقطوعات أخرى أملت على أن اصف جناح الأستاذ حداد بأنه من الأجنحة النفسية في أفق الشعر العربي
الحديث!
وكيف لا اصف الجناح بمثل ما وصفته به وهذه بعض تحليقات في بعض مقطوعاته:
أن نوحي بكل بر
…
شرب الغيم من صداه
هل ترى الرعد ما انفجر
…
لوفي لم يجد باه؟!
تبعدوني عن البشر
…
قربوني من الإله
في يدي بيعة الصور
…
في فمي مطهر الجباه
فلمن اكحل البصر
…
ولمن اغسل الشفاه
واذبحوا بيننا القدر
…
فهنا عور منتهاه
كل ما يشبع النظر
…
قافات مني ذرى الجفون
إن جوعي كوى الحجر
…
ظمأى جفف العيون
نفسي رمد الشجر بصري قوض السجون
غرسوا في يدي الإبر
…
فجنوا زهر زيزفون
كم طوى الكوكب الأغ
…
رلي رواقا من السكون
أنت لولاي يا قمر
…
لم تكن غير شطرنون!!
من جلوسي على انفراد
…
فوق تل العشية
وانحداري على الوهاد
…
بالرؤى المخملية
نشا الوحي في العباد
…
كرجاء المنية
ويك لولا غنى الوداد
…
بكنوزي الخفية
حيث يلتف بالرماد
…
موسم العبقرية
ما حلا للمسيح زاد
…
من يد المجدلية!!!
رب بيت نظمته
…
بات تاريخ كل دين
رب سيف ثلمته
…
لف جيل الوغى بحين
رب زهر شممته
…
ناب عن غسلة السنين
رب ثغر ظلمته
…
بالمناجاة والأنين
حمل العدل صمته
…
من عرين إلى عرين!
أي شيء صفا وطاب=لفؤادي وناظري
ومضى دون ما إياب
…
لم ينتف مجاجري؟!
لا بظفر ولا بناب
…
بل بشوك الخواطر
عند لمس الهوى المصاب
…
هان نهش الكواسر
هكذا يلجم العباب
…
فئ دمع المهاجر
أرم عينيك يا سحاب
…
أن بكى قلب شاعر!!
أنا أشقى ليسعدا
…
لي وراء الأنام جار
واغني ليزهدا
…
بهتاف الضحى الهزاز
واهز المهنا
…
كي تلف القنا يغار
وارش اللظى ندى
…
عل ريق اللما يغار
ضاء شمعي ورمدا
…
في ليالي الهوى القصار
كي يطيل البلى غداً
…
شوق عظمي إلى النهار!
هذا يا آنستي شعر. . . شعر لا نظير له عند أبي ريشة ولا عند العطار. . . . شعر فيه هذه (الرؤية الشعرية) الصادقة التي ترمز إلى الاستشفاف الدقيق للحقائق؛ سواء أكانت في حدود المنظور أم خلف حدود المنظور، في محيط الوعي أم فيما وراء الوعي في نطاق الاستيطان النفسي أم في نطاق التناول الحسي وفيه هذه (الموسيقى الداخلية) التي تعبر تمام التعبير عن حالة شعورية خاصة طبعت أداء الشاعر بطابع صوتي خاص، تلمسينه في تهدج النفس الشعري وتموجه وفي إسراعه واندفاعه، أنها موسيقى النفس لا موسيقى اللفظ، تلك التي تتسلل إلى القوى الخفية المتناثرة في آفاق الشعور، والتي يعتمد على قيمتها الصوتية في النهوض بالأداء وفيه هذه (الواقعية النفسية) التي تشرف عليها ملكة (الوعي الشعري) وتنسج خيوطها من أعماق الهزة الوجدانية، وتعرض الفكرة من خلالها ملفعة بسبحات الروح أو موشحة بنفحات العاطفة، أو مدثرة بتلك الغلائل التي تكشف عن تفاعل الأصداء الكونية في ساحة الوجود الداخلي. . . . وفيه هذه (الملكة التخيلية) التي تجعل من الحركة الجامدة حركة حية، ومن الكون المادي الصامت كونا يموج بالمشاعر والأحاسيس، ومن الصورة التي تعز على اللمس صورة تداركها الحواس، حتى لتوشك أن تنالها الأيدي
وان تراها العيون! وفيه هذا (المزاج الفني) الذي يشرف على انتفاضة الذهن والقلب والشعور ويخلع أثوابه الدقيقة على هياكل الكلمات، ويسلط أضواءه الكاشفة على مشاهد التجربة، ويصبغ، الإطار الخارجي للصورة الوصفية بألوان النفس حينا وبألوان الحس حينا آخر!
في قصيدة الأستاذ حداد يا آنستي كل هذه المزايا الفنية يحفل بها شعراء الأداء النفسي. . وفيها مزية أخرى تفردت بها وتفوقت على قصيدة الأستاذ العطار، وهي انطباق (الحقيقة الفنية) على الموضوع ودورانها حول معناه. اعرض قصيدة الأستاذ حداد عارية من عنوانها على ناقد يتذوق الشعر ثم يسأله: أي عنوان يمكن أن ينطبق على موضوع هذه القصيدة ويصلح لها وتصلح له؟ أنه يجيبك على الفور: (الشاعر). . . بعد هذا اعرضي قصيدة الأستاذ العطار على الناقد نفسه ثم وجهي إليه نفس السؤال، وأنا واثق من أن شيئا من الحيرة سيحول بينه وبين دقة الجواب: من هذا الذي يطوف كالربيع ويلوح كالصباح وينتسب في بنوته إلى القمر والنجوم، والربا والسفوح، والغيم والجبل، والظل والشذى، والليل والنهار، والضحى والمساء، والوديان والينابيع؟ من هذا المخلوق الذي خلع عليه الأستاذ العطار كل هذه النعوت؟ إنها نعوت قد تنطبق على راع من الرعاة، أو على عاشق من العشاق، أو على شريد هائم على وجهه أريت إلى مدى الشقة بين (الحقيقة الفنية) وبين موضوع القصيدة؟!
ثم تؤكدين أن قصيدة الأستاذ حداد مسروقة من شاعر فرنسي فاتك اسمه لأن القصيدة الفرنسية قد ورد فيها تشبيه للغيوم بالحملان تارة وبالوحوش الكاسرة تارة أخرى. لقد كنت أحب أن لا يفوتك أسم الشاعر الذي أشرت إليه حتى يكون لاتهامك نصيب من الواقع. وإذا كان، فهلا التزمت الدقة في التعبير وقلت أن مقطوعة واحدة في قصيدة الأستاذ حداد قد ورد فيها مثل هذا التشبيه في قصيدة الشاعر الفرنسي، بدلا من أن ترمي القصيدة كلها بأنها مسروقة؟! شيئا من الدقة يا آنستي أو شيئاً من الحق والإنصاف!!
ولا بد من وقفة عند قولك معقبة على (هذيان) الأستاذ حداد: (والشعر العربي حريص على التجديد في الأفكار ولكنه لا يغتفر لأحد أن يحدد في الأساليب). . . ترى كم علامة من علامات التعجب تكفيني لأضعها في ذيل هذه العبارة؟ معنى هذا يا آنستي أن الشعر العربي
لن يغتفر لشعرائنا المحدثين أن يخرجوا على طريقة التعبير عند الشعراء الجاهليين أو من يماثلهم من الشعراء الأمويين. ولا باس من أن يعبر أبو ماضي مثلا على طريقة جرير:
وابن اللبون إذا ما لز في قعس
…
لم يستطيع صولة البزل القناعيس!!
بقي أن تطبقي هذا الرأي الجديد في نقد الشعر على النثر العربي الحديث. . . وإياك أن تغفري لصاحب هذا القلم أنه يكتب بأسلوب غير أسلوب القاضي الفاضل!!
ونعود إلى مآخذك اللغوية والنحوية لأنها تحتاج إلى تصحيح. . لقد أخذت على يوسف حداد جمعة لكلمة ورد على ورود، وصحتها أن تجمع على وراد وأوراد. أن هذا الجمع الذي أتيت به يا آنسة هو جمع الورد من الخيل: وهو ما بين الكميت والأشقر أن الأحمر الضارب إلى الصفرة، وليس جمعا للورد الذي أتى به الأستاذ الحداد قد ورد في بعض كتب اللغة وهو صحيح لا غبار عليه. . . وأخذت عليه أيضاً تجريده جواب الشرط من الفاء الرابطة في قوله:
إن طوى القبر أضلعي
…
ادفنوا غلتي معي
أظن أن هذا ليس خطأ إذا التمسنا للشاعر جواز التقديم والتأخير جواز تقدير لفعل الشرط وجوابه، كان يقال مثلا:(ادفنوا غلتي معي إن طوى قبري أضلعي) وكان يقال من باب الاستدلال: (اذهب إلى عمر وإن مررت بداره)!
وأخذت على شبلي الملاط أنه أدخل (ال) على (كل) والصحيح تجريدها. . . الصحيح يا آنستي أنها جائزة، وقد جاء في كتب اللغة أن (كل) لا تدخل عليها (ال) إلا إذا كانت عوضا عن المضاف إليه أو أريد لفظها كما يقال (الكل) لإحاطة الأفراد. وإذا رجعت إلى بيت شبلي الملاط الذي يقول فيه:
وتعصية وقتا لفظه مطمئنة
…
ويعييه بعض البيت حينا أو الكل
إذا رجعت إلى هذا البيت لوجدت أن (ال) هنا قد جاءت عوضا عن المضاف إليه ولذلك أدخلت على (كل)، والتقدير هو أن نقول: وبعييه بعض البيت حينا أو كل البيت!. . أخذت عليه أيضاً هذا الخطأ النحوي في قوله (صلوا) بالضم في هذا البيت الآخر من قصيدته:
هلم إلى وادي الخلود وهيكل
…
إلى وجهه عباد صانعه صلوا
لقد افترضت أن الفعل هنا قبل ماض وان على الشاعر أن يقول) صلوا بالفتح، فلم لا
تفترضين إن الفعل هنا فعل أمر، الذين يناديهم بالصلاة؟ وعلى هدى هذا الافتراض يصح أن تكون (صلوا) بالضم؟!
أتريدين فصل الخطاب في هذه المباراة؟ إنني أيقول لك في كلمات: إن قصيدة شبلي الملاط في ميزان (الأداء النفسي) هابطة، وإن قصيدة أنور العطار متوسطة، وإن قصيدة يوسف حداد متفوقة. . . ولست في حكمي على الشعراء الثلاثة إلا منصفا لشعورهم الذي بين يدي، دون أي اعتبار لجائزة أولى أو ثانية تقدم لهذا أو ذاك
ومعذرة أن كنت قد قسوت لأنني أشك كثيرا في شخصيتك الأنثوية، ويخيل إلى أن اسمك يا (آنسة) ما هو إلا قناع يختفي وراءه وجه أديب من الأدباء السوريين. . واغلب الظن أنه صديق للأستاذ أنور العطار!!
مهما يكن من أمر شخصيتك فإنه لا يسعني ألا أن اقدم إليك اخلص الشكر على جميل رأيك وحسن ظنك. أما (العصبة أل أندلسية) فلا باس من ردها إليك إذا كان لك في دمشق عنوان. . ولا داعي لأن تشغلي نفسك بإعارتي بعض كتبك الغالية، لأن لدي كتبا كثيرة في انتظار القراءة!
أنور المعداوي
الكتب
كل عام وانتم بخير
مجموعة قصص للأستاذ محمود تيمور بك
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
عجيب أن أجد بين يدي - في غير تعمد - مجموعتين من القصص المصري في وقت واحد. . فاعكف عليهما في جلسات قصار على أجد فيهما متعة للنفس ولذة للقلب وسلوه للروح ومفزعاً من الحر ن، فلا أرم حتى آتي على ما فيهما، هاتان المجموعتان هما (كل عام وانتم بخير) للأستاذ محمود تيمور، (والأعماق) للأستاذ عبد الرحمن الخميسي. ولقد قرأت المجموعة الأولى فألفيت فيها الحادثة القوية مترابطة في قوة، متماسكة في دقة، مسلسلة في سهولة؛ وقرأت فيها التحليل النفسي الدقيق والرأي الفلسفي العميق. أما المجموعة الثانية، فلقد أحسست وأنا أتصفحها أن ذاكرتي ترتد - رويداً رويداً - إلى أيام الطفولة العزيزة، إلى السيدة العجوز التي كانت ترعانا وتقوم على شؤؤننا وتثرثر لنا - كل أمسية - بأحاديث شائقة طريفة تزوقها بالمغالاة وتطليها بالمبالغة تبهر بها السمع وتخدع العقل، فتنشر حوالينا أخيلة رفافة، ملائكية حينا وشيطانية حيناً، تبتغي أن تقذف بنا في متاهات ليست من الحياة فنسبح في عوالم لذيذة آناً ومفزعة آناً. وهكذا تستطيع السيدة العجوز أن تدفعنا إلى الهدوء في رفق، وان تسلط علينا رؤى تقذف بنا في لين إلى سبات عميق. وشعرت، وأنا أقرا (الأعماق) أنها بعض حكايات السيدة العجوز فيها المغالاة والمبالغة والتناقض فحسب.
ولست الآن بسبيل أن أقارن بين مجموعتين من الأقاصيص، فليس إلى المقارنة من سبيل، لبعد الشقة واختلاف المبدأ وتناقض الهدف. وفرق ما بين تعبير قوي رصين وآخر مهلهل يتداعى. ولكن المصادفة المحضة التي جمعت الكتابين في يدي في وقت واحد أما مجموعة الأستاذ تيمور فتنضم على قصص عشر، اتسمت جميعا بطابع التحليل النفسي والاستقصاء العقلي. وأن الكاتب ليعرض لنوازع النفس وخلجات الضمير فيصورها في صورة رائعة جميلة. هذا المذهب مذهب تحليل المشاعر النفسية والدفعات القلبية ينبت في ثنايا كل قصة
فيحول بينها وبين السراد المجرد، وهو في ذلك كالمصور البارع يوزع اللون في نواحي الصورة في دقة ليضفي معاني الحياة والحركة
وليس أدل على ذلك مما جاء في قصة (كل عام وانتم بخير) حين تحدث المؤلف عن رجل ذرف على الأربعين من سني حياته، عاش عازبا يعكف على جمع الثروة ويأبى أن يبددها في التافه أو أن يبذرها في مالا غناء فيه، فيحدث نفسه قائلا (هي ثروة أسهر فيها جفني فسقيتها جهدي وتعهدتها بحيلتي. . . أأترك هذه الثروة نهبة لأولئك الحقدة والحساد من أقاربي الطامعين؟) ثم يصوره رحيم يفزع عن الزواج وما في ذهنه إلا الحرص على المادة) إلا أن عقلي ينهاني عن أن أرضى بهذا الزواج الذي يهدد ثروتي ويشفي بها إلى الخطر. . وهل الزواج إلا نفقات إثر نفقات، تستنزف الأموال وتهدد الثروات؟)
غير أنه يرى نفسه وحيداً منبوذا فيبدوا أمام القارئ في عزوبته رجلا ضائعاً مضطرب النفس يعيش في تيه من خواطره. ولا عجب إن كان العذب - في هذه القصة كما هو في الحياة تماماً - قلقاً لا ينعم بالهدوء ولا يسكن إلى الراحة. وأنى له أن يفعل وإن روحه لتفتقد القرار والأمان فهي تهفو إلى شئ، عمي عليه وتنزع إلى أمر أغلق علية فيطير - بعد لأي - إلى الزوجة.
وفي قصة (صراع في الظلام) نرى الضمير الحي يغفو حيناً حين تستهويه شيطانة من الأنس هي زوجة الأب الشابة فتنشر شباكها حوالي ابن زوجها الشاب فما يقر لها قرار ولا تطيب لها نفس إلا حين يقع في غرامها فيهوي إلى قاع الخطيئة والدنس. ثم يستيقظ الضمير بعد فترة فيغص الرجل بالزلة فينطلق يريد أن يكفر عن حماقته وغفلته بطريقة شيطانية مرذولة، يؤمن بان لا معدي له عنها، فيحرق الدار التي شب فيها وترعرع دار أبيه وهو يردد في صوت كأنه هذيان محموم (لا تقربوا الباب. دعوا الدار تأكلها النار). لقد حاول الفتى جهده أن يفر من الخطيئة لأن ضميره كان قد هيمن وطال أمده) فيفزع إلى الغدير ناظرا ً في صفحة تحت ضوء الكواكب فيتجلى له وجهه أمامه تكسوه اللحية المهندمة، فيلمس أطرافها بأنامله، ثم يريد أن يقتلع تلك اللحية من جذورها لا يبقى ولا يذر) ثم يحس الرجل العار في ما اقترف من جريمة وضيعة، فتستحيل حاله وينطوي على نفسه) وقد أتخذ لنفسه حياة طابعها عزلة الناس، فهو يتجنب مرآهم ما وسعه أن يتجنب،
حتى ليحاول هو يسلك طريقه أن يتنكب مواجهة اقرب ذويه، وقد عات سحنته صلابة وجهامة، حلت محل ما كان قبلا من وداعة وتطلق. فاما عيناه فكانتا ترميان بنظرات تتلظى فيهما الشهوة والشر، بعد أن كانت هاتان العينان تترسل منهما نظرات الطهر والصفاء. إلى أي طريق في حياته هو مسوق؟ ترى أيه نهاية ترتقبه لتختم حياتة تلك؟)
وهذه صورة من الصورالحية النابضة التي تتالق في اصناف القصص. . وصورة رجل وقع تحت صفعات الضمير الحي فما استطاع أن يفر، ولا أستطاع أن ينسى
أما قصة (مجنون) فتتجدث في صراحة وإخلاص إلى الشاب الذي يبهره ألق المراة وبريقها، فلا يجد حرجاً في أن يتزوج من فتاة خالطها واغرم بها وبادلته هي الهوى بهوى وغراماً بغرام، فقصى إلى جانبها ساعات ذاق فيها لذة الهوى المحض وسعادة الحب الخالص، لا ريب في أن تاريخها سيتيقظ في دم الشاب بعد حين فيبذر فيه غراس الشك والريبة، فيؤذيه ويؤلمه
هذا طبيب تزوج من زوجة أحد مرضاه بعد أن مات تزوج منها بعد أن تغفلا الزوج حينا من الدهر فاختلسا معاً منه وقت الهناة والسرور. . . ثم فارت نزوات عقله فتكنفة الشك واخترمنه الريبة وتغلغلت فيه الحيرة، فأخذ يتحدث عن خطرات قلبه يقول: شرعت أتجسس عليها. على الزوجة: وما كان في طرقي ألا افعل، فقد دفعتني إلى ذلك دوافع نفسية ليس عنها محيص. . . وربما عاجلتني نوبة هياج، واندفعت في ارجاء العيادة أتصفح الناس واتصفح الأشياء، وما زال أدقق في البحث والتفتيش تحت المتكات ووراء الابواب، مدعياً اني فقدت شيئاً وإني أنشده، وتتراءى له أخيلة مزعجة فيقول (ويلي! ان زوجتي مصرة على أن تعيد الرواية كاملة الفصول)
وهكذا تتصفح هذه المجموعة كلها فترى صفحات خفاقة بالحياة نابضة بالمشاعر.
ولست أوافق المؤلف على أن ينشر على عيني القاري مقدمات فلسفية طويلة يوطئ بها لحوادث القصة مما ينفر الذهن. وان ذلك لنراه واضخا ً في قصص (مجنونة) و (في غفره الأقدار) و (هذه الحضارة) واشهد أن مثل هذه الآراء قد انبثت في خلال القصص الأخرى فلم تكد العقل ولم ننفر الذهن.
وبعد فإن مكانة الأستاذ محمود تيمور في القصة مكانة مرموقة وحسبه ما قاله الدكتور طه
حسين بك عنه يوم أن قال (لم تكن القصص لتأخذ فحسب، وإنما كنت تحب القصص لتأخذ ثم تقلد ثم تلتمس شخصيتك، ثم تظفر بها، ثم تنتج فتملأ الشرق والغرب ادبا وحكمة وفقها لشؤؤن الحياة كأروع ما يكون الأدب والحكمة والفقه في شؤؤن الحياة.
كامل محمود حبيب
رسالة النقد
النقد في أدبنا المعاصر
للأستاذ عادل سلامة
هل من العجب أننا نغرق النوم في الحديث عن أدبنا وماله من امتياز يجب أن نفخر به ونعتز كل الاعتزاز، ونحن قد ملأنا بضجيجنا السماء الهواء والماء ولم نكتف بذلك، بل غصنا إلى عمق البحر، وأتينا من قاعه بالعجب العجاب. فمنذ بدء هذا القرن، وقد أنتشر عنا في أرجاء الأرض أنه قد كان لنا أدب ميت فأحييناه، ولم يكن لنا - كما زعمنا - بد من ذلك؛ فنحن قوم قد أرهف شعورهم، وصقلت أذواقهم، وامتد لهم في محيط الفن صوت عريض مجلجل!
فإذا كنا كذلك، فلا بد لنا إذن، حين وقفنا على الأدب الغربية، وما تحمله إلى النفس من نفح طيب، وشذي معطر أن ننظر في أنفسنا، وان نقدر ما وصل إليه أدبنا العربي، من خمود هو أشبه بالماء الآسن منه بأي شيء آخر.
وقد نظر الناس منا إلى هذا الخمود، فأعلنوا الثورة، وتمخضت ثورتهم المتأججة، عن جدول رفيع سارب، ينساب من محيط الأدب الغربي، وأخذ يتدفق في بطئ نحو هذه الصحراء، الممتدة كل الامتداد؛ اخذ يرويها من أطرافها وانبت فيها شيئاً يشبه النبات الأخضر، ولم يكن لهذا النبات أن ينمو ويورق ويترعرع، فهذه الشمس المحرقة، شمس أنصار القديم - كما اصطلحوا على تسمية هذه الفئه، ترسل أشعتها صادية - ظامئة، فتذويه وتمتص ماء حياته. . .
ثم تقدمت الأيام رويدا رويدا، تمشي على اللوني كما يقول الشاعر القديم، واشتدت ساق هذا النبات المتضائل الضعيف، وكان لا بد من أن يقاوم، وان يصطرع من هذه الطبيعة المجدبة، التي يؤثر جذبها الموحش على الزهر اليانع النضر!
والذي حدث فعلا، أن مشكلة الأدب القديم، والأدب الجديد، بدأت هذه المشكلة منذ زمن، وهي ظاهرة إلى اليوم وستظل ظاهرة إلى أبد الآبدين. فنحن لا نتحدث الآن عن أدبنا ذاته، وإنما يهمنا من الأدب أن ينتمي إلى المدرسة القديمة، التي تقدس الماضي، أو ينتمي إلى المدرسة الحديثة التي تنظر بمنظار الحادث المستقبل. والنقد علم مقوم لفن الأدب فإذا كان
حظنا من الأدب اليسر، فلا تنتظر - كما يرى العقل - نقدا ضخما بادي الضخامة. . .
ولكننا قوم نعقل الأمور وبسنتنا الطويلة المشتدة في الطول، بيدينا القصيرة الممعنة في القصر، وليس لنا عيون فننظر بها، ولا قلوب فنعقل بها، ولا آذان فنسمع بها، وإنما أدواتنا آلتي قد منحناها فقيرة من ذلك أشد الفقر، فإذا خرج علينا أحد من الأدباء - سواء أكان منهم - بأي أثر وان لم يكن له من الأدب إلا الانتحال لأسم الأدب كما يقول الجاحظ، تداولناه بالحديث، وجلسنا حوله كما يجلس القوم الجياع حول مائدة مليئة بالقصاع، وأخذنا نقلبه وندوره ونحوره، وننظر له من هنا ومن هناك، ثم بعد ذلك نصدر عليه حكمنا القاهر بأنه من اتباع المدرسة القديمة فينبغي أن يؤثر أوعية الزبل بهذا الأثر، ولو اشتدت ضخامته، وامتدت جسامته. أو أن نحكم عليه بأنه من المدرسة الحديثة التي قد تشبع أذواقنا المترفة، وتبعث في نفوسنا شيئاً من الانتعاش الفني الذي نستمتع به كل المتعة، فمن الخير إذن أن يبقى النشء، وان نفعل به كذا وكذا إلى ما لا ينتهي من حديثنا الفضفاض عن كل شئ. .
وليس غربيا أن أقول هذا، فبالأمس القريب، ظهر كتاب لقصصي مصري شاب بعنوان (بائع الحب) فثار عليه البعض، اتباع المدرسة المجددة، ولكن جوهر الخلاف يدور حول؛ هل هذا الكتاب أو بالأحرى الكاتب نفسه_من المنتسبين للقدماء أو المحدثين. فالأولون يرون أن الكاتب من اتباع مدرسة امرئ القيس والآخرون يقرنونه بشارل بولد ير وغيره من الكتاب الواقعيين في الآداب الأجنبية.
فقد وضح إذن أن (النقاد) عندما يقيمون نقدهم على غير أساس من علم أو من دراسة للآداب الغربية التي نفتقر إليها أشد الافتقار، وليعلم (النقاد) عندنا أن ليست مهمة النقد هي بيان مقدار انتماء الأثر الأدبي إلى القديم أو الحديث؛ وانما مهمة الناقد حقا أن يقدم الأثر الأدبي إلى قراء الأدب، وان يوضح لهم مزاياه وعيوبه من حيث هو عمل أدبي يحكم عليه، وان يبين قيمة هذا العمل في عالم الأدب. والنقد يتناول كل الآثار الأدبية ولا يرتفع بأي حال من الأحوال، خلافا لما قال زميل أديب عندما تعرض لنقد هذا الكتاب على صفحات الرسالة - فرسالة النقد إنما تتصل اتصالا وثيقا بالقارئ لا بالكاتب، فهو يهيئ نفس القارئ وعقله لقراءة الكتاب، واليوم بعد مرور ثلاثة قرون على وفاة شكسبير ما زال
النقاد الإنجليزي يتعرضون لآثاره الأدبية. أستطيع أن أقول إن القارئ نفسه هو مدار الأدب وعماده، وإلا فلم الكتاب وافتن الأدباء، إن لم يكن كتب لإثارة المتعة الأدبية واللذة الفنية في نفس القارئ. .
والناقد الإنجليزي (ماتيو ارنولد يعترف في كتابه (الثقافة والفوضى أن غرض الناقد يهدف إلى خلق مجتمع اسمي، وانما يكون ذلك بتوخيه الملكات الفنية الممتازة، وتصفيتها مما يشوبها من نقائض وقد يبالغ أرنولد أحيانا، فيصل بالنقد إلى أنه قياد الأدباء في مختلف الأزمنة؛ لأن ضميره كان قد هب من سبات طال أمده) فإذا ارتفع النقاد بأفكارهم في عصر من العصور نضجت عوامل الفن في نفوس الكتاب والشعراء في ذلك العصر، وكان من ذلك نهضة فنية ممتازة.
فليس النقد إذن عند الغربيين، حلقة يصطرع فيها الناس، إما بالأفواه العريضة، والألسنة الطويلة، أو بالأقلام المدببة التي تكاد تمزق الورق. وأنما النقد عندهم آلة مهمة من آلات الأدب، لها غرض برئ من النزعات الشخصية ، والمآرب الموقوتة.
واهم ما يوجه إليه الناقد الغربي نظره هو العمل الأدبي الذي بين يديه، يبين مقدار أصالته في الفن، ويكشف للناس عن نواحي الحسن والقبح فيه. ولقد تمر على الناقد مثلا شخصية أبداع الكاتب في تصويرها، فما أسرع ما تشتهر هذه الشخصية في عالم الأدب، حتى لقد تخفى اسم الكاتب نفسه في بعض الأحيان. ومن منا لم يسمع عن مكبث وهملت واوليفر تويست ومدام بوفاري وهاربا جون؟
والناقد الغربي لا تعنيه حياة الفنان إلا بقدر ما تنعكس على عمله الفني، فهو يبحث عن أثر ثقافته، وما مر به في حياته من حوادث. ولقد تعرض النقاد لتوماس هاردي في حياتة، وأستعانوا به نفسه
على تبين النوحي الثقافية في آثاره، والأماكن التي وصفها في كتبه، وليس أدل على هذا من مقدمة دونالد مكسويل - وهو فنان تعرض لوصف الأماكن التي وسمها هاردي في عشرة من مؤلفاته - في كتابه أقول تعرض النقاد له ولغيره من الأدباء والشعراء ومع ذلك لم يتعرض له أحد منهم بسبب شخصي أو مثل ذلك. أما إذا عدنا إلى أدبنا العربي الحديث، فاعلم أنني قرأت مرتين (لناقدين) من نقادنا بدءوا نقدهم بأنهم لم يشتروا الكتب التي
سيعرضون لها شراء - وإنما أحدهم وقع الكتاب بين يديه - ولست ادري كيف وقع - والآخر اهداه إليه المؤلف من باب التملق لأنه معروف مشهور!
واهم عماد يقوم عليه نقدنا الحديث هو السباب والطعن الصريح في شخصية الكاتب وخصوصياته، وتلومه على الكتابة فيما ليس به شان، فكأننا أقوام بداءة جفاه قد أقفرت نفوسهم من الفن والشعر والأدب، فلم تنبت أصولها إلا عند هؤلاء النقاد، وهم مع ذلك يكابرون، ويدعون أن لنا أدبا يجب أن يقرا، وتلوموننا نحن الشباب على انصرافنا عنه انصرافا تاما. ونحن الشباب في حيرة دائما من امرنا؛ وعن يميننا وشمالنا فلا نجد إلا الصحراء، ويا أيتها صحراء مجدبة مقفرة، وانما في صحراء تحتلها الأسود الضواري المصطرعة، وقد امتلأت بالدماء من كل جانب. . ز
فهذه في حالة أدبنا ونقدنا، فما فائدة النفخ في قربة مقطوعة كما يقول المثل العامي؟ إذن فلنلجأ
إذن إلى الأدب الغربي نفسه، لا الذي يصوت لنا النقاد، ولنتفقده ونستمتع به، ولعل يوماً أن نجيء فنستطيع أن ننهض بأدبنا هذا الفقير كل الفقر، واما أن نبقي هكذا بين أيدي (النقاد) والسنة الأدباء كالمضرب والكرة فهذا شيء لا نرضاه لأنفسنا نحن القراء من شباب، وقد قال شاعرنا القديم
لعمرك ما في الأرض ضيق على أمريء
…
سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
عادل سلامة
كلية الآداب بجامعة فؤاد
في ليلة عيد
للأستاذ أحمد حسن الرحيم
قرأت في العدد (876) من الرسالة الغراء قصيدة رائعة الأستاذ الأديب محمد سليم الرشدان، وقد أطلعت عليها متأخراً، وهي بعنوان:(في ليلة عيد) ولا أتفق مع الأستاذ الشاعر في قسم مما جاء في قصيدته. والنقد النزيه لا يرتضي الذوق كتمانه، فهو آية التعاون الفكري وسبيل التقدم والقصيدة عدتها خمسون بيتاً كل خمسة أبيات على قافية
واحدة.
قال فيها:
فأصحابه مسرقات الصفاء
…
وامساؤه ضاحكات السمر
والذي أدريه أن المساء وقت غروب الشمس والسمر حديث الليل، فكيف جمع الأستاذ بين شيئين متباعدي الزمن. فالسمر لا يكون مساء.
وقال:
تسير الهناءة في ركبه
…
فينهل منها بشتى الصور
أما أن الهناءة تسير معه لينهل منها الشخص المعني بالقصيدة فهذا مما يتسع له الشعر، ولكن قوله:(فينهل منها بشتى الصور) وردت فيه (الباء) زائدة في قوله: (بشتى) والصواب أن يقول فينهل منها شتى الصور؛ لأن نهل لا تحتاج (الباء) وأعيذ الأستاذ أن يقول (فينهل منها بشتى الصور) كما نقول فيشرب منها بالإناء لما في هذا المعنى من تفاهة.
وقال.
ففي أم طفلته ما أفاء
…
عليه الحبور وبرد الحياة
وبرد الحياة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي حياة باردة والأستاذ - كما افهم من معاني القصيدة. . . يقصد بها حياة الرغد وليست (الحياة الباردة) حياة الرغد بل هي حياة الضجر والسام
وقال الأستاذ:
وكر الزمان وئيد الخطى
…
وطفلته شغله الشاغين
وقد مرت عشرة أبيات من القصيدة، كلها في الفرح والحبور فلا نزال في القسم المصور لحياة الرغد؛ إذن فكيف يمر الزمان (وئيد الخطى) وهو لا يمر وئيدا إلا في الأحزان والفجائع؟ وارى أن الصواب. فمر الزمان سريع الخطى كعادته في الأفراح ليسهو الإنسان عن مروره
ووصف الأستاذ فتاة الرجل المعنى بالقصيدة بان والدها أفاض عليها من ضروب النعيم وغمرها بالعطف وتجاوزت (صباها الغرير) فهي تميس في عجب.
وتقبل في خطوات الشباب
…
كظبي تأثره الحابل
والحابل هو ناصب الحبالة أي الشرك وتأثره أي تتبع أثره ولم أجد علاقة بين المشبه والمشبه به؛ فالفتاة أقبلت في شبابها كأنها (ظبي) تتبع أثره الصياد الذي ينصب الشرك، والأثر لا يتبع إلا بعد غياب صاحبه. فلوا اكتفى بما معناه: وكأنها (ظبية) لكان المعنى واضحاً، أما هذه الإضافة:(تأثره الحابل) فهي بؤرة الغموض واللبس، ولا أدري إن كانت الظباء مما يصاد
وقال الأستاذ:
ومرت خطوب تشيب الوليد
…
بما حل من هولها المفزع
فيوم حصاد كيوم الوعيد
…
أقضوا يه ساكن المهجع
ويوماً يساق أباة الرجال
…
إلى محشر دافق مترع
والذي أراه أن كلمة (يوما) في أول البيت الثالث تقتضي قواعد النحو رفعها، فهي ليست منصوبة على الظرفية في هذا الموضع.
وقال الأستاذ:
فشيخ يعض على راحتيه
…
ويندب في القوم صرعى بنيه
والشيخ هذا فلسطيني منكوب بتجبر اللئام؛ ولكن القريض لم يؤد من المعاني ما يرتضيه النقد، فالراحة هي باطن الكف وليس من المألوف أن يعض الإنسان على راحتيه في الأحزان. والمألوف أن بعض الإنسان سبابته من الندم أو الغم (وسبابة المتندم) شهيرة قال فيها الشاعر:
غيري جنى وأنا المعذب فيكم
…
فكأنني سبابة المتندم
ولكن الأستاذ الشاعر في تقديمه القصيدة يقول أنها واقعية فأصدق ذلك. أما قوله (ويندب في القوم صرعى بنيه) فلا تدري أهو يندب بنيه الصراع أم يندب من صرعهم بنوه من الأعداء. إن القرينة المعنوية تمنع المعنى الأخير أي يندب الشيخ الصرعى من أعدائه ولكن عبارة الشاعر تتسع لكلا المعنيين.
وقال عن الفتاة:
ولم تك تعلم أن الزمان
…
يداهم بالحادث المطبق
وقوله: (يداهم) خطأ صوابه يدهم فلم أجد فيما راجعت المعاجم الفعل (داهم) وليس هذا مما يتسع له باب القياس.
وقال:
وأن البلاد انتهت للعدو
…
بكيد امرئ قط لم يتق
وانتهي إليه الشيء أي وصل إليه فأستعمل اللام عوض إلى وهو عوض لفظي مقبول في الشعر ولكن المعنى غير مقبول، فلا يقال. لأن البلاد ليس مما ينقل. أما قولة (بكيد أمري قط لم يتق) فقد ذكرني بشطر ابن جني. (قط لا يدفع عن السبق عراب) عوض قول المتنبي. (غير مدفوع من السبق العراب) ألا قاتل الله مواقف يغلب فيها رصف النحو ملكة الذوق.
وقال:
فيا ليته امتد هذا الرقاد
…
وظلت بافاقه حالمة
فقد جعل ليت اسماً هو (الهاء) وجعل لها أسم آخر بدلا منه هو (هذا) وهو شبيه بلغة (أكلوني البراغيث). وآفاق الرقادلس مما يستسيغه الذوق، وليس كل استعارة سائغة.
وقال الأستاذ في البيت الأخير: -
وبادر عدوك في وكره
…
وإلا أرتقب يومك الأغبر
فقد شبه العدو بالطير على سبيل الاستعارة المكنية بدلالة قوله (وكره) والعدو لا يشبه الطير، وليس في القصيدة ما يدل على أن يقصد الجوارح من الطيور. والتشبيه هذا فيه توهين للهمم من حيث لا يقصد الشاعر. فما دام الشاعر يريد أن يشحذ من همة الشعب المفتخر، فينبغي أن يكشف عن قوة العدو ومكره.
وبعد فالقصيدة - على كل هذه ألهناه اليسير رائعة الطلعة كريمة الهدف والعاطفة، فياضة بالشعور الحي، وللأستاذ الشاعر إعجابي بشعوره وصرخته الحارة.
الحلة (العراق)
أحمد حسن الرحيم
ليسانس بالأدب العربي
القصص
من الأدب الإنساني الإنكليزي
والدان
بقلم الأديب محمد يحيى إبراهيم الرويدي
كان الوجوم مخيماً على البيت الكبير وكل ما فيه ينطق الأسى وقد أبعث من إحدى الغرف نشيج خافت.
وكانت أضواء القاعة الباهلية تلقي بصيصاً على نفر قليل من الناس نزلت دموع بعضهم على الوجنات وأخذ بعضهم يتمتم بعبارات تفيض باليأس والقنوط فقد حركت فيهم المصيبة كامن الشجن كما تفعل دقات أجراس الموت الحزينة في النفوس الحساسية. وفي إحدى طوابق البيت كان الكون كأبلغ ما يكون فلا حس ولا حركة كبحر انقلبت مياهه ألواحاً من الجليد.
وهناك في غرفة صغيرة اضطجعت على فراشها تلفظ ببطء أنفاسها الأخيرة، طفلة رائعة الملاحة، أبيض وجهها حتى أضحى أشد نصوعا من الكفن الذي كان في انتظارها، ليغيبها في لفائف، وبقرب الفراش انحنى والدها يغمران بقبلاتهما وجهها الجميل، وفي الجهة الأخرى من السرير وقف الطبيب صامتا ً واجماُ بعد أن أشد بلاغة من الدموع، وبجانبه وقف القس ممسكا بإنجيله يتلو فقرات منه بصوت خفيف.
واخيراُ لفظت الطفلة أنفاسها واصبح ذلك الجسد الذي كان ينبض بالحياة كقطعة جامدة من الرخام، وليس فيه دلائل الحيوية الماضية سوى تلك البسمة البريئة التي لم يقو الموت على انتزاعها من الشفتين الرقيقتين. أطبق القس كتابه أحنى رأسه المكلل بشعره الرمادي ووقف يرقب خاشعاً ما تتخطه يد الموت على الجهة الصغيرة.
أما الوالدان فقد شخصت إبصارهما في ذهول، فقبل دقائق قليلة كان أملهما معلقاً في ارتعاشه الشفتين واضطراب الصدر الصغير. أما الآن فقد انهدم كل شيء، ماتت! نعم ماتت وتركت عالما يضج بالحركة والحياة، كانت تفيض سلاماً والتي عاد القس إلى تلاوتها بصوته الهادي العميق لم تكن قادرة على أن تهب عاود قلبيهما سلاماً وتعزية فانكفأ
الاثنان على وجهيهما وراحا في إغمائه، دون أن تمتد إليهما يد تحاول وفعهما؛ إذ أن الأصدقاء انسحبوا من الدار وتركوا الوالدان إلى رحمة الرب الرحيم، ولبث الوالدان هكذا ساعة وبعض الساعة وازدادت وطأة الصمت على البيت الكبير بعد أن مضى كل إلى شانه، وجلس الخدم يذرفون دموعهم في صمت، إلا تلك الممرضة التي دفعها شعور خفي إلى دفع باب غرفة المتوفاة لترى منظراُ عقد لسانها وأدهش عقلها. . الأم على فراش الطفلة وقد أحاطت بمناها الجسد الصغير الهامد وألقت برأسها على الوسادة ونامت هي الأخرى، ولكن. . إلى الأبد!
أما الوالد فلم يكن في الغرفة، إذ أنطلق هارباً تاركاً البيت إلى حيث أخذ يسير تحركة لا شعورية وق
الجم الحزن لسانه وجعل دموعه تتجمد في مآقيها، وانزل على ذاكرته ستاراً من النسيان. كان يمشي مسيراً لا مخيراً كان هنالك قوة خفية تدفعه نحو جبانة القرية
وهناك وقف جامداً كالصخر والمكان حوله تبعث على الرهبة: الكنيسة القديمة الملتفة بأرديتها الموحشة بالغيوم وأشعة القمر تحاول أن تسترق فرجة تطل منها على الكون العظيم، وبجانبه تأثرت النصب والقبور. . هنا مدينة الأموات، وهناك دنيا الأحياء وهو حائر بينهما، حائر ضائع محطم!
وألقى الرجل نظرة ذاهلة على القبور المتناثرة، ثم سار وجلس على قبر أخضر من الطحالب التي عليه ممتصة عناصر الأجيال، ونظر إلى السماء طويلا، ثم شعر بالدموع تسيل على وجنتيه في خطين غريرين وبدأت سحب النسيان تنجاب عن ذاكرته رويداً رويداً وانتقلت به الذكرى المريرة القاسية إلى (أميلي) وحيدته المسجاة. . . وهناك في المقبرة الصامتة الموحشة أنبعث صوت ثائر يخاطب الأشباح.
وارتفعت قبضته تهدد: لم فعلت ذلك يارب؟ ولم تدعوك رحيماً ما دمت تسترد ما تهب ولا تخلف لنا سوى اللوعة؟ ابنتي لتترنم على معاول الهدم؟ أتزرع لتنعم بالحصاد وحدك؟ أترضى لذلك الجسد الغض بالتواء تحت أحد هذه الأشجار الثقيلة؟ آه يا لقسوتك آيتها السماء. . وازداد الأسى بالرجل واخذ يصيح ويزأر كالوحش الجريح.
وفي تلك اللحظة تحرك في المقبرة شبح أسود، اخذ يسير بخطى خفيفة فالتفت الرجل ليرى
فبالته، فآخذه الفزع وكف عن صراخه ووقف على قدميه منصتاً ونفذت أشعة القمر في تلك اللحظة وألقت شعاعاً باهتاً على القادم الغريب، فأجفل الرجل إذا لم يكن القادم سوى القس. . . القس الذي صلى على فتاته الصلاة الأخيرة. .
ووجم الأب ونظر بغرابة إلى القس الذي عقد يديه إلى صدره، وبشفتين مرتجفتين وصوت رجراج أخذ يقول: كفاك تجديفاً يا رجل! فالله كفيل بان يهب نفسك الثائرة القلقة أمناً وسلاماً فهو إذ يضرب بيمينه محكم ما، تمتد يسراه فتسمح ما ينز من عليها وتدفئها تحت قبر من هذه القبور.
ووضع القس يده في يد الرجل قائلاً. أركع وأتل معي ما تحفظ من صلوات. . وركع الرجل الذي يتناسى ربه في غمرة الأحزان والرجل الذي يزداد التصاقاً به كلما هبت في وجهه أعاصير الحياة؛ الثاني يردد صلاته، والأول يبلل بدموعه صفحة القبر الشاحب.
وارتفع صوت القس فجاه قائلاً: صل، أنت الآخر من اجلي، فإنا الآخر قد فقدت عزيزاً. كنت أتلو في مسامع ابنتك صلاتها الأخيرة بينما كانت ابنتي تموت في بطأ. . . وحيدة؛ كنت مضطرا إلى تركها ما دام واجبي يدعوني، ولم أشأ أن احرم فتاتك هذه التغريد، فحرمتني الأقدار وحيدتي (لوسي)، لوسي التي كنت أستيقظ على صوت ضحكاتها الرنانة، وأخشع وهي تتلو لي فصولا من كتابها المقدس الصغير، وابتسم وهي تروي على مسامعي أقاصيصها الساذجة، كنت أودها تعيش وتطبق بيديها عيني بعد وفاتي، فشاءت الأقدار أن أتولى أنا هذه المهمة التي قمت بها لأمها من قبلها.
ونظر الرجل إلى القس معزياً ولم يجد ما يقوله فسالت الدموع، أبلغ من كل كلام؛ ولكنه شعر للظى يحف في أعماقه، وبالأسى يتسرب شيئاً فشيء من نفسه بعد أن شاهد أمامه زوجته المتوفاة وبجانبه ملاكه الصغيرة؛ ثم رفع بصره إلى السماء، فشعر بالتعزية تنبثق منها. ونهض القس من ركوعه وقطع بصوته الأجش حبل أفكار الرجل قائلاً: غداً ستخرج جنازة واحدة تجمع ثلاثة، فإذا كنت تملك بقية من دموع فاذرفها الآن. . . هنا على هذا الأديم؛ أما أنا. . . فلا أملك سوى استسلامي والآن وداعاً. . .
وافترق الوجلان. . . . ابتلعتهما الظلمة وسار كل في طريقه. . . الرجل إلى بيته الصامت الحزين، والقس إلى كوخه المنعزل في أحضان الوادي الهاجع.
القدس
محمد يحيى إبراهيم الرويدي