الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 893
- بتاريخ: 14 - 08 - 1950
جامعة فؤاد الأول
مواكب التاريخ في احتفالها بيوم اليوبيل الفضي
للأستاذ محمد محمود زيتون
يحق لكل مصري أن يفاخر اليوم بتاريخ أول جامعة مصرية انبثقت فكرتها في غمرة من الأحداث العاصفة، وأخذت تشق طريقها إلى الوجود بفضل ائتلاف عناصر الأمة، وبرغم أنف المستعمرين الذين جثموا على صدر الوادي، وكتموا أنفاسه بكابوس الاحتلال البغيض.
ولقد كان مصطفى كامل أسبق المواطنين إلى فكرة الجامعة إذ كتب في (اللواء) بتاريخ 26 أكتوبر سنة 1904 يقول (مما لا يرتاب فيه إنسان أن الأمة المصرية أدركت في هذا الزمان حقيقة المركز الذي يجب أن يكون لها بين الأمم، وأبلغ الأدلة على ذلك نهضتها في مسألة التعليم، وقيام عظمائها وكبرائها وأغنيائها بفتح المدارس، وتأسيس دور للعلم بأموالهم ومجهوداتهم، ولكن قد أن لهم أن يفكروا في الوقت الحاضر في عمل جديد، الأمة في أشد الحاجة إليه، ألا وهو إنشاء جامعة للأمة بأموال الأمة)
وانتهز مصطفى كامل مناسبة مرور مائة عام على توليه عاهل مصر محمد علي الكبير عرش البلاد (منذ 13 مايو سنة 1805) فاقترح في اللواء بتاريخ 8 يناير سنة 1905 أن تسمى الجامعة (كلية محمد علي) تخليداً لذكرى باعث النهضة العربية.
أخذت دعوة مصطفى كامل تلوح من جديد في جو كله غيوم، غبر أن روعة الفكرة، ونبالة القصد، والإيمان بالعزة والكرامة، كل ذلك جعل الأمير حيدر فاضل يحبذ الفكرة ويستنهض لها الهمم العوالي، كما أثار الأستاذ أحمد حافظ عوض على صفحات (المؤيد) مناظرة صحافية موضوعها (أي أنفع للقطر المصري في حالته الحاضرة: الكتاتيب أم مدرسة كلية عالية) وتوالت الآراء على هذه المناظرة بين التأييد والمعارضة.
ومما هو جدير بالذكر أن فكرة الاستعاضة بالكتاتيب عن الجامعة، كان مصدرها اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر الذي حنق على مصر وأهلها منذ بنت في الأفق الشرقي طلائع النهضة المصرية المستنيرة، فتمكن من دفع سراة البلدة إلى إنشاء المدارس الأولية والإكثار من الكتاتيب في القرى بحجة أن الأمة أحوج إلى هذا النوع من التعليم
منها إلى التعليم العالي، وظناً منا أنه بذلك يناهض الجامعة، ويقضي عليها وهي لا تزال في مهدها.
وغلب على وهم عميد الاحتلال أنه يتمتع بتأييد (أصحاب الجلابيب الزرقاء)، لكن سرعان ما تبدد هذا الادعاء المصطنع على أثر حادثة دنشواي صيف 1906، تلك الحادثة التي وجد منها مصطفى كامل مادة غزيرة يروي بها زناد جهاده في الأوساط الأوربية، ضد الإنجليز في مصر، فاستطاع الرأي العالمي أن يقف على حقيقة الاحتلال كما يعرضها زعيم الشباب كاتبا وخطيبا من غير تزويق أو تحامل وحسبه أن يعبر في صدق عما يعتلج في نفوس المواطنين من بغض لشراذم البغي والعدوان الذين يتجرون بالشعور على مسرح السياسة.
وبدأ النفوذ البريطاني يتزعزع، وظله يتقلص في غير إبطاء تحت هذه الضربات القوية التي يسددها فتى النيل المجاهد سهاما من نار، حتى أن السياسة الإنجليزية قد أدركت هذه الحقيقة مجسمة بحيث لا تقبل التحوير والتأويل مما دعا إلى ابتداع لون جديد لمعاملة المصريين بالحسنى، على أساس التوسع في سلطة الوزراء، وفك الأغلال شيئا ما، حتى يقال فيما يقال، أن الإنجليز يأخذون بيد الشعوب تدريجيا إلى أن تحكم نفسها بنفسها.
وما كانت هذه البدعة الإنجليزية لتجعل المصريين ينسون جراحات الأمس القريب، ولا لتصرفهم عن هامات دنشواي التي تصيح حول المشانق في كل صبح ومساء: اسقوني اسقوني، بل كانت أصداء مصطفى كامل تجيش بها نفوسهم، وتخفق أفئدتهم فأخذت الحيوية تدب في المصريين، فتألفت لجنة لتكريم هذا الشاب الذي رفع لواء مصر خفاقا في المحافل الأوروبية، مندداً بالاستعمار وأصحابه، والاحتلال وأسبابه، واجتمع الرأي على تقديم هدية له في حفل كبير، لقاء ما أدى للوطن من عمل يذكر فيشكر.
وعلم بذلك مصطفى كامل، فبادر بالكتابة إلى زميله محمد فريد بتاريخ 24 سبتمبر سنة 1906، وفي هذا الخطاب المفعم بالوطنية الصادقة، يعتذر عن إقامة هذا الحفل، شاكراً للجنة صنيعها، وتقديرها لجهوده في رفع لواء الوطن الذي يتآمر عليه أعداؤه في حين (أننا نطلب الحياة والدستور والحرية والعقل والروية، ونسعى إلى إسعاد وطننا بالعلم والجهاد القانوني) ويستطرد قائلا: فخير هدية أقترح عليكم تقديمها للوطن العزيز، والأمة المصرية
المحبوبة هي أن تقوم اللجنة التي شكلت بدعوة الأمة كلها، وطرق باب كل مصري لتأسيس كلية أهلية تجمع أبناء الفقراء والأغنياء على السواء، وتهب الأمة الرجال الأشداء الذين يكثرون في عداد خدامها المخلصين ممن لا يخافون في الحق لو ما ولا عتابا ويعملون لمداولة أدوائها، وجمع أمرها وبث روح الوطنية العالية في كافة أبنائها. . .)
ويمضي الخطاب على هذا النحو يهدر بالوطنية، ويزخر بالإخلاص، ويجيش بالإيمان، حتى يرسو على شاطئ المعرفة التي هي دعامة الإصلاح وبداية الاستقلال.
وفي الحق أن هذه الدعوة لقيت سميعا مجيبا، فقد هزت الأريحية مصطفى كامل الغمراوي بك أحمد سراة بني سويف فوجه نداء إلى الأغنياء للاكتتاب لهذا المشروع الوطني الجليل، وافتتحه بخمسمائة جنيه، واشترط فيها اشتراط ألا تختص الجامعة بجنس أو دين لتكون بالنسبة لجميع المصريين (واسطة للألفة بينهم)
وأبدى الخديوي عباس حلمي الثاني ارتياحا لهذه الدعوة النبيلة، واغتباطا باستجابة المواطنين لها، وتشجيعا على المضي في هذا السبيل، فاجتمع بدار سعد زغلول (بك) القاضي بمحكمة الاستئناف العليا يوم 12 أكتوبر سنة 1902 رجالات القضاء والعلم والسياسة وأصحاب الجاه، منهم قاسم أمين، وحفني ناصف، ومحمد فريد، وعلي فهمي، وعبد العزيز جاويش، وفي هذا الاجتماع تألفت لجنة تحضيرية انتخب لها سعد زغلول وكيلا، وقاسم أمين سكرتيراً وتأجل انتخاب الرئيس لجلسة قادمة، وتقرر تسمية الجامعة باسم (الجامعة المصرية). وبعد ثلاثة أيام من هذا الاجتماع قدم مصطفى كامل من أوربا، فقوبل بما هو أهله من الحفاوة والإكبار، وكان لقدومه أكبر الأثر في شد أزر اللجنة وتزويدها بنشاطه الفكري والعملي معا.
كل هذا واللورد كرومر يستعلن بمحاربة فكرة الجامعة ولا يستخفي، بل يعمل جاهدا على إحباط كل المساعي التي تبذل لتحقيق ما أجمعت عليه الأمة عن بكرة أبيها، ولا سيما في هذا الوقت الذي تدهورت فيه الثقافة المصرية إلى مستوى غير لائق ببلد له رصيد موفور من الحضارة تليدها وطريفها، ومرد هذا التدهور إلى الاحتلال بأساليبه، وفرضه لغته الدخيلة على التعليم الوطني فرضا، بينما أهل البصر من المصريين يهتفون بضرورة إصلاح الأزهر، ووجوب إدخال العلوم والأنظمة الحديثة فيه، ووضع حد لتوزيع الأعمدة
على الشيوخ، وتخصيص كتاب لكل شيخ، وتخيير المجاور في شيخه ليستمع إليه (كما هو الشأن في كل عام أزهري، مما لا يتمشى مع ورح العصر، ونظم لتعليم.
وتحقيقا للسياسة الإنجليزية المرسومة، كترضية مقنعة للمصريين، صدر الأمر العالي في 28 أكتوبر سنة 1906 بتعيين سعد زغلول وزيراً للمعارف، فصادف هذا التعيين (مصريا مشهوراً بالكفاءة والدراية والعلم الغزير، وحب الإنصاف والعدل كما يقول مصطفى كامل في مقاله عن سعد المنشور في لواء ذلك اليوم.
وبهذا أصبح سعد رئيساً للجنة الجامعة، واستجدت المساعي لدى الخديو لاختيار رئيس لجامعة يرضاه الخديو ولا يرفضه كرومر، وبعد التي واللتيا، وقع الاختيار على سمو الأمير أحمد فؤاد، كما تألف مجلس لإدارتها من علية القوم.
على أن جلسات اللجنة - للأسف الشديد - قد أوقفت عن الانعقاد، منذ تولي وزارة المعارف سعد زغلول، بسبب اضطلاعه بشئون وزارته، وشعر الخديو بأن المعتمد البريطاني يعرقل سير مشروع الجامعة بكافة الطرق، فتقدم أحمد شفيق باشا وإسماعيل أباظة باشا لمقابلة سعد ولإبلاغه رغبة الخديو بالا يغفل أمر الجامعة، وبأن يستمر في إشرافه عليها، فوعد بالا ينساه
وفي 30 نوفمبر اجتمعت اللجنة بدار حسن جمجوم بك أحد أعضائها وحضر سعد ليعلن انسحابه من اللجنة لكثرة أعماله التي لا تسمح له بالاشتراك في المشروع.
وشهدت مصر في سنة 1908 وعيا وطنيا جديدا يطالب بالدستور، وأخذ التنافس سبيله إلى الأحزاب على خير وجه مسنون، فلما تولى (الأمير) أحمد فؤاد رياسة الجامعة، بعث فكرتها من جديد، تلك الفكرة التي لم تخمد جذوتها على الرغم من الضغن المبيت لها بقصر الدوبارة في الظلام.
وأنتهز الأمير فؤاد فرصة زيارة روزفلت رئيس الجمهورية الأمريكية لمصر فأقام له مأدبة عشاء، ودعاه لإلقاء محاضرة بالجامعة فلبى الدعوة في 27 مارس سنة 1910، وتكلم عن أهمية الجامعة في التربية الصحيحة، وتطرق إلى مسائل تخص المصريين وحدهم دون غيرهم، فقد استنكر عليهم مطالبتهم بالدستور، وأثنى على الإدارة الإنجليزية للسودان وكال المديح للورد كرومر وسياسته في مصر، مما أثار عليه عاصفة من المعارضة في جميع
الصحف حتى ناله من شاعر النيل أعنف اللوم، إذ قال في قصيدة طويلة من أبياتها:
يا نصير الضعيف مالك تطري
…
خطة القوم بعد ذاك النكير
يا نصير الضعيف حبب إليهم
…
هجر مصر تفز بأجر كبير
وعلى الرغم من هذا الخضم الجارف من الأحداث الجسام، توالت الاكتتابات لجعل فكرة الجامعة في نطاق الحقيقة الوجودية فتبرع الأغنياء لها بأموالهم، ووقفوا عليها الكثير الطيب من أطيانهم، وجادت أريحة سمو الأميرة فاطمة هانم إسماعيل بجواهر قيمتها ثمانية عشر ألفا من الجنيهات فضلاً عن ستمائة فدان وقفتها على الجامعة، وستة أفدنه بجوار قصرها بالدقي لإقامة المباني عليها، وكذلك الأمير يوسف كمال إذ منح المشروح مائة وخمسين فدانا، وثلاثمائة جنيه لإصلاحها. .
وتدفقت المنح والهدايا العلمية من ملك إيطاليا، وإمبراطور ألمانيا، وسلطان مراكش، كما وافقت فرنسا وإيطاليا على قبول ثلاثة من صغار الطلبة لتعليمهم بالمجان بمدارسها.
وفي 30 مارس سنة 1914 وضع الخديو الحجر الأساس للجامعة في حفل تجلت في أروع آيات الوطنية، والوحدة القومية، وألقي فيه المطرب زكي عكاشة قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي بك
وتحدد يوم 4 مايو 1914 لامتحان العالمية، فتقدم الطالب المنتسب (الشيخ) طه حسين لدرجة الدكتوراه، فنالها بين إعجاب الحاضرين، وإكبار أعضاء اللجنة المشكلة لامتحانه من أساتذة الجامعة ورجال وزارة المعارف، فتقرر إيفاده في بعثة إلى فرنسا، ومثل قبل سفره بين يدي الخديو بقصر رأس التين فشجعه، وتمنى له النجاح.
ومما يدعو حقا إلى اعتزاز المصريين بذكرى الجامعة أن الروح القومية قد لازمتها من مهدها إلى رشدها، فقد عنى مصطفى كامل منذ سنة 1899 ببث التربية القومية في التعليم ووضع دستورها على أسس متينة من تعاليم الإسلامية الحنيف، ولغة العرب الأمجاد، وعوائد الشرق العهيد.
وفي مارس سنة 1907 أجمع أعضاء الجمعية العمومية مطالبة الحكومة بجعل التعليم في مدارس باللغة العربية، وإزاء هذا الإجماع الوطني الرائع، وقف الاحتلال مكتوف الأيدي، وباء كرومر وأذنابه بخيبة الأمل، حتى أسرعت حكومة بلاده إلى سحبه من مصر بعد شهر
من ذلك التاريخ.
وقد أقامت له حكومة مصطفى فهمي باشا حفل توديع، خطب فيه شاكراً لأنصاره؛ غير أن استدرك فذكر فيما بينه وبين نفسه سخط الشعب عليه، فرمى المصريين بنكران الجميل، وقاتل فيما قال (إن أولاد العميان يولدون في العادة مبصرين) ولم يكتف بهذا الذم الملفوف بل رمى بآخر سهم في جعبته إذ قال: أن الاحتلال البريطاني يدوم إلى ما شاء الله، وتلك كما يقول أولي (حقائق الحالة المصرية) التي لطم بها وجوه من احتفلوا به وودعوه. . .
ومن ابرز معالم الروح القومية التي سايرت الجامعة نوع الدراسات التي احتفل بها طلابها منذ نشأتها الأولى، فقد نوقش طه حسين في موضوعات كلها تمت بصلة وثيقة إلى تراثنا المجيد وهي: علم الجغرافيا عند العرب، والمقارنة بين الروح الديني للخوارج في أشعارهم وفي كتب المتكلمين، وحياة أبي العلاء المعري.
كما أن هذه الدراسات قد جمعت بين الشرق والغرب كما يبدو من الموضوعات التي حددتها الجامعة لامتحانات سنة 1914 فقد اشتملت على آداب اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وتاريخ الأمم الإسلامية، وعلم تقويم البلدان ووصف الشعوب، وتاريخ الشرق القديم، وكان أساتذتها الأوائل من أساطين العلم في فرنسا وإنجلترا، وفطاحل المصريين من أمثال إسماعيل بك رأفت (عميد الآداب) والشيخ محمد الخضري والشيخ محمد المهدي ومحمود بك فهمي.
وهكذا تحققت للكنانة رغبتها الصادقة، بفضل هذا التآزر والتعاضد بين الشعب والحكومة والعرش، فسارت سفينة الوطن بأسم الله مجراها ومرساها، وشمخ صرح الجامعة ساميا سامقاً، وكتب التاريخ في أنصع صفحاته لمصر والمصريين مجداً تحفه أعز الذكريات التي تفخر بها الأجيال المتصاعدة، فتمضي قدماً في مرقاة المدنية، وتعلوا إلى أوج الكمال.
ويحق لهذه الجامعة أن تكون (أم الجامعات) في هذا الوادي المبارك، وإنه لوفاء صادق من مصر أن تسميها (جامعة فؤاد الأول) ذلك الملك العظيم الذي نفخ في مصر من روحه الوثابة، وعزمه الطموح، فاستخلص لها حقوقها من أشداق الغاصبين، وحقق استقلالها العلمي أميراً، واستقلالها السياسي ملكاً.
واليوم إذ تحتفل مصر باليوبيل الذهبي لهذه الجامعة، ترى لزاما أن تسعد بما حققته في
مدى نصف قرن من إنشاء ثلاث جامعات أخرى، اقترنت أولاها باسم المليك الشاب (فاروق الأول) وعلى يديه قامت (جامعة محمد علي) ثم (جامعة إبراهيم) وأول الغيث قطر ثم ينهمر. . .
وكأنما جاد الزمان - وهو كثير ضنين - فلم يحرم ذوي الفضل ثمار جهادهم في سبيل الوطن، فيالها من لفتة كريمة إذ يشهد معالي الدكتور طه حسين بك في هذا اليوبيل عرضا سريعا خالداً وسجلا حافلا بالمكرمات لرجل كان بالأمس (ابن) الجامعة، واليوم يصبح (أبا الجامعات)، ويجعل العلم ميسرا للناس كالماء والهواء، فتحققت له آمال كبار، وفي ذلك له وحده أولا لذة ومتاع، وللأمة ثانيا فرحة بذكرى الوحدة القومية، وللشرق أخيراً رجاء في مطلع الفجر بالحرية والنور.
محمد محمود زيتون
عهد
لصاحب العزة محمد محمود جلا بك
- 3 -
كان لأستاذي العظيم (الشيخ محمد عبد المطلب) أخذ فريد في تعليمي، فقد يسلخ الساعة والساعتين يتلو عليّ قصائد لمختلف الشعراء وفي شتى الأبواب، ثم لشاعر واحد، لا يترك لي فرصة أستوضح فيها معنى أو أسال تفصيلاً عن الشاعر، وأنا في إصغاء دقيق هو كل ما يطلب مني. وكان يقول في تبرير هذه الطريقة:(إنما أريد أن يعتاد سمعك شعر عصر معين؛ ثم نعود إلى مثل ذلك لشاعر بعينه! فتنشأ لديك ملكة تمييز بحيث ترجع ما تسمع ولأول ما تسمع إلى عصره. فإذا كانت الخطوة التالية وهي الاستماع لشاعر بذاته استطعت كذلك أن تتبين الشاعر من نفسه وطريقته والشائع من فنه).
ولن أشق على القراء فأجتزئ بأمثلة هي اقرب ما يصور روح الصديق الشاعر الشاب. وقد تسرني من مروءتهم المشاركة والتتبع، فأما الأولى ففضل من علمهم؛ وأما الأخرى فوفاء يجزي الله عنه في العاجلة قبل الآخرة. سيرون من خلال القوافي صورة الشاعر، وسيتبينون من القريض أسرار النفس، وسيكون في الاثنتين حين تتضامان تأريخ دقيق للشخصية.
وهنا نفتتح ديوانه بقصيدة في (حكيم المعرة) رحمه الله
عاذلي مكنتك مني نفس
…
عقها الدهر واستباها الحياء
قد تجازوت في ملامك حدا
…
والدوا قد يكون منه الداء
أي لوم على قرين حجاً يرنو
…
لما لا تناله القرناء
ما عليها سوى المعالي أمير
…
ولها انفس الكرام إماء
نفس حر لم يثنيها عن ذرا المج
…
د صعاب ولم يعقها عناء
عهدت ألفة التوجع لا تخشى
…
لخطب يضيق عنه الفضاء
ما تراني أسعى فاجهد نفسي
…
ومن الخطب مدلهم عياء
أبدا أقطع الليالي بفكر
…
يقطع الهم عزمه والمضاء
وكأن ليلي الطويل أماني
…
فما أن يبين منها رجاء
طال حتى مللته وأرى أن
…
ليس تنجاب هذه الظلماء
وكأن الهلال فيه حبيب
…
طال منه دون الحبيب الثواء
فمضى يذرف الدموع فذي
…
الأنجم دمع تقله الزرقاء
ودموعي بمقلتي جوار
…
ولكم قرح العيون بكاء
هذه توقظ النفوس من
…
اليأس وهذي في مثلها البأساء
خفيت حكمة الآله عن الخ
…
لق فكل بعلمها أدعياء
كلهم يزعم الحقيقة ما يعلم،
…
لله ما يكن الخفاء
فأسألن ساكن المعرة هل
…
ضاقت عليه يجمعها الغبراء
أي شيء قضى القضاء عليه
…
وهو شيخ يحار فيه القضاء
سعد المرء لا يقر بعيش
…
وحياة مصيرها الانقضاء
لا يغرنك ما ترمي في رحال
…
من ثراء يضيق عنه الفضاء
قد ينال العلاء فيها أخو ألف
…
قر ويزري بأهله الإثراء
إنما المجد هبة من سبات
…
هو للمجد والأماتي داء
وأرني قضيت عشراً وتسعاً
…
كان حظي في كلهن العناء
أنظر على من وقع نظره ممن خلد التاريخ يسهل عليك تعرف اتجاهه واذكر أنه ينطق بهذا الشعر وينبئ عن اختياره وهو في التاسعة عشرة؟ في السن تتميز بالمرح وتضليل الإفهام بما يحوطها من مفاتن الدنيا منعكسة على مرآة الغرور. ولم يكن مناص أن يأتي حكمه كما يجب أن يكون أثر هذه النظرة للدنيا واتخاذ المثال (سعد المرء لا يقر بعيش)!.
وفي التاسعة عشرة قل ألا يتحدث شاب عن الحب، بين لداته، أو في شعره أن رزق الشاعرية. وها هو (أحمد عبد اللطيف البرطباطي) يقول في (العذال والحب) ولكنك واجد بلا شك مع روح الاستقرار ريح الاعتداد بالنفس، أو بالأحرى ما قرت به عينه من أحكام على من حوله!
أزف البين واستطار الرجاء
…
ليت شعري يا قلب كيف النجاء
أيها اللائمون ماذقتم الح
…
ب وأنتم بكنهه جهلاء
ما كفى بعدما حملت من الدا
…
ء فأرضي بعذلكم وهو داء
أتصروني على الهوى أو دعوني
…
يرتمي بي القضاء كيف شاء
أزعمتم بأنكم ففصحاء
…
أنا منكم وإن زعمتم براء
ثم أنظر إلى هذا الوصف الرابع للحبيبة:
ملؤها الكبر والدلال وفيها
…
أسهم ينتمي إليها المضاء
أي ذنب ذنب الدخيل فؤادي
…
وعيوني جميعها الغرماء
ملكته مرعى خصيباً هنيئاً
…
يرتع الريم فيه كيف يشاء
قد تضر الفتى جوارحه
…
السمع والقلب بعضها إيذاء
كم جليل هوى لنظرة عن
…
وذكي أبلى قواه الذكاء
إن في بعض ما نحب لهلكا
…
والذي خلته رجاء عناء
وأجمل ما في قصيد الشاعر همزياته وهو فيها أطول ما يكون نفساً. ولعل في (الألف والهمزة) سراً يتصل بالطبيعة البشرية، فالنطق بهما - أقرب إلى تنفس الصعداء من هم وداء
ويتفق للشاعر وللكاتب أن يكون وزن معين وقافية بذاتها أدنى إلى ذوقه الموسيقي؛ وقد يحبب إليه اسم بذاته؛ فلعل أروع شعر المتنبي في ميمياته ودالياته وشوقي بك في همزياته ونونياته، وأكثر الأسماء حظوة عند أناتول فرانس (تيريز)، فهي اسم لقيمة داره؛ وعلم لصاحبة الدرر الأول في ورايته الغراميات الوحيدة (الزنبقة الحمراء).
(للحديث بقية)
محمد محمود جلال
تعليقات على فعال
المغول في مصر وقوانينهم
للأستاذ أحمد بك رمزي
الأستاذ الدكتور محمد صالح بك من أساطين أساتذة القانون في
مصر كتب مقالاً عن قوانين المغول في مصر نشرته الأهرام
في عددها الصادر في 27 - 7 - 1950 وقد تضمن أراء
ناضجة رأيت أن أعلق عليها بما يأتي مع تقديري لعلم الأستاذ
ومكانته.
- 1 -
جاء في هذا المقال (اشترى الملك الصالح نجم الدين أيوب جماعة من هؤلاء المغول سماهم البحرية ومنهم من ملك ديار مصر وأولهم المعز أيبك)
والمعروف أن العمز ايبك تركماني والمظفر قطز خوارزمي وكانا من اشد أعداء المغول جنسا، أما البحرية فأصلهم من أتراك روسيا التي كان يسكن الجزء الجنوبي منها قبائل القفجق وسلالتهم القوزاق وسكان روسيا وجزء من رومانيا وإليهم ينتسب الظاهر بيبرس وقلاوون وخلاصة أمراء الدولة التركية بمصر وقد سببت غارة أبناء جينجيز خان على جنوبي أوروبا تشتيت وهجرة هذه العناصر التركية وكان مجيء هؤلاء لمصر عن طريق البحر موانئ (بحر أزوف)(بحر الأزرق) فسمو بالبحرية لذلك ولو أن المقيزي يقول أن التسمية نسبة لجزيرة الروضة حين كانت قلاع الملك الصالح.
ويحاول بعض الكتاب المعاصرين الزج بالمغول في حياة مصر الإسلامية رغبة في الإقلال من شأنها وللحط ومن كرامتها. والحقيقة أن العناصر التركية خدمت مصر والإسلام أجل الخدم واعترف المؤرخون المعاصرون بذلك وكان ابتداء اتصال الأتراك بمصر من أيام المأمون والمعتصم والمتوكل ثم استقل بها آل طولون ثم آل الأخشيد وهما دولتان قامتا
على شجاعة وكفاية رجلين عظيمين وكلاهما من وسط آسيا التركية.
ولما دخل المعز لدين الله الفاطمي مصر تأثر بما سمعه المشرق عن شهرة الأتراك في الحروب وله كلمة مع قائده جوهر (راجع الخطط صفحة 107 جزء 2) ولما ظهر العزيز بالله على هفتكين التركي اصطنعه سنة 380 وضم بعد ذلك منجوتكين ونشأت فرق من الأتراك في الجيش الفاطمي.
أما المغول الذين خدموا مصر فمعروفون في التاريخ من سلاطين وأمراء وقواد وأهمهم السلطان كتبغا الذي حارب في معركة شقحب مع الناصر محمد ضد بني قومه وجئ به للحرب محمولا على محفة وكل من أسلم من المغول حسن إسلامه وهم الذين نشروا الإسلام في ربوع الروسيا (جاء في السلوك صفحة 716) وصلت (لمصر) رسل تدان منجوبن طوغان بن باطو بن دوشي بن جنجبز خان ملك القيجاق بكتاب بالخط المغعولي يتضمن أنه اسلم ويريد أن ينعت نعتا من نعوت الإسلام.
- 2 -
وجاء ذكر وقانين المغول وأهمها السياسة في كتب المؤرخين المسلمين كما يأتي: المعروف عن جنجيز خان أنه صحاب (الترواً) و (اليسق) ويقول صاحب النجوم وهو تركي (إن التورا باللغة التركية المذهب واليسق هو الترتيب: والأصل في الياسة أو السياسة أن سي بالعجمي ثلاثة ويسا بالتركي الترتيب وعلى هذا مشت التتار من يومه إلى يومنا هذا وانتشر ذلك في سائر الممالك حتى ممالك مصر والشام ويقولون سي يسا فثقلت عليهم فقالوا سياسة على تحاريف أولاد العرب في اللغات الأعجمية).
والغريب أن هذه الكلمة شائعة بالريف في مصر فقد سمعت من يقول (احكم بالعدل يا فلان أنت شرع وسياسة) أي أنه يحل معضلات الأمور بالشريعة والسياسة وهو لا يعلم منشأ الكلمة في الأصل.
أنني لا أشك لحظة في أن العاهل المغولي صاحب التورا واليسق وهما قانون المغول ولكن هل هذه القواعد استعملها الترك قديما في بواديهم؟ وأن الذي جمعها جنجيز خان وألزمهم بصفته الخان العظيم بأتباعها؟ يحتاج الأمر إلى دراسة وتدقيق قبل إصدار حكم قاطع.
أما كلمة (سي ياسة) فيخيل لي أنها استعملت قبل مجيء المغول للمشرق سنة 618
هجرية.
ولقد كنت معنيا ببحث هذه النقطة بالذات عقب اطلاعي على نص غامض في كتاب الروضتين جزء أول صفحة 187 عن حوادث 566 هجرية وظهور جنجيز خان كان حوالي 168 بآسيا الإسلامية فيكون بينهما نصف قرن وأكثر وهذا هو النص:
(لما بلغ نور الدين وفاة أخيه قطب الدين وملك ولده سيف الدين بعده واستبداد عبد المسيح بالأمور وكان يبغضه لما يبلغه من خشونته والمبالغة في إقامة السياسة. . .)
وأني اعتقد بأن النص أن صح كما ورد يحتمل أن السياسة كان معمولا بها قبل مجيء المغول غير أن المبالغة والإفراط في تنفيذ أحكامها كان مكروها لدى نور الدين الذي غلبت على طبعه التعاليم الإسلامية فأصبح ليناً رقيقاً. إن الأنابكة وهم من أتباع السلاجقة لابد أنهم نقلوا عوائد الترك وأنظمتهم في أواسط آسيا. وهذه العوائد خاصة بأنظمة الجيوش والاقطاعات ولا تمس الدين والمعاملات بشيء وقد جاء في صبح الأعشى جزء 4 ص 5 (واعلم أن الدولة الأيوبية لما طرأت على الدولة الفاطمية وخلفتها في الديار المصرية خالفتها في كثير من ترتيب المملكة وغيرت غالب معالمها وجرت على ما كنت عليه الدولة الأنابكية)
ويظهر مما كتبه ياقوت عن بلاد الترك أنهم كانوا أهل مدينة وأنظمة فهو يصف العمران في خوارزم وقرثمانة واشروسنة وما يطلق عليه الآن تركستان الصينية وتركستان الروسية وهو يقرر ويكتب ما رآه بنفسه ويقول أن خراب هذا العمران جاء بعد أن تملك خوارزم شاه البلاد وقضى بإجلاء السكان سنة 600 وإن إخلاء البلاد سهل على المغول القضاء على خوارزم شاه في سنة 617 فتخرب الباقي. فليس بمستبعد أن تكون لهم قواعد لضبط النظام بين الجيوش وأخذ الجنود بالشدة وإلا فما معنى قول ياقوت
(وهم أعظم الناس طاعة لكبرائهم وألطفهم خدمه لعظمائهم) ويقول صاحب النجوم الزاهرة ص 288 جزء 6
(ولما تسلطن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري أحب أن يسلك في ملكه بالديار المصرية طريقة جنجيز خان هذا وأموره ففعل ما أمكنه - واستمر أولاد جنجيز خان في ممالكه التي قسمها عليهم في حياته وعلى طريقته في (التورا) و (اليسق) إلى يومنا هذا)
وعليه بأن دخول النظام المغولية على يد أقوى خصوم المغول.
- 3 -
وقد أطلعت في السنوات الأخيرة على بعض الأبحاث التي نشرت حديثا - والتي يحاول أصحابها لأسباب غير معروفة ولا مفهومة الحد من قيمة الخدمات التي أدتها مصر الإسلامية للعالم وخصوصاً الإقلال من شأن دولتي المماليك في مصر والشام وانتقاص قدر السلاطين العظام والطعن في شخصيتهم من ذلك قولهم عن دولتي المماليك أن السلاطين أوقفوا العمل بالشريعة الإسلامية بإيجاد نظام حجوبية الحجاب فتعدى الحاجب حدوده وأخذ يحكم في المواريث متخطياً ولاية القاضي الشرعي. وهذا غير صحيح إذ أن سلاطين مصر ضربوا مثلا رائعاً في احترام رجال القضاء الإسلامي ونزلوا على أحكامهم حتى فيم يخص صميم عمل الدولة وهي صفحة رائعة. أما نظام الجند وترتيب أمور الإقطاع وتدريب المستجدين من المماليك وجنود الحلقة فيحتاج لكثير من الشدة والعدالة وتوقيع العقوبات الرادعة وهذا ما أخذ به هؤلاء الملوك والقادة منذ قيام دولة آل سلجوق ووجدنا بيبرس يأخذ بنظام جنكيز خان ويطبق الشدة والعدالة لينتصر بنظام جنيكز خان ضد أولاده وأحفاده من المغول. وهكذا سارت الأمور إلى نهاية الدولة المملوكية.
والغريب أن النزاع بين الحجوبية والقضاء الشرعي لم يسمع به في الوقت الذي كانت أنظمة الظاهر بيبرس معمولاً بها ظهر حين تراخت الأحكام وتعذر تنفيذ العدالة وحصل التساهل في أخذ الجند والمماليك بالشدة اللازمة لهم وهو نزاع لا يفهم من قيامه أن الحجوبية أتت للقضاء على شرائع الإسلام.
- 4 -
ويفهم من مقال الدكتور محمد صالح بك أن نظام الحجومية أنشئ لجماعات المغول التي أتت لمصر واختلطت بأهلها مع أن الحجومية نظام قائم للجند أساسه فض المشاك الناشئة عن توزيع الإقطاع لأن الإقطاع ليس ملكاً للأمير يتصرف به تصرف المالك فلا يورث عنه وإنما هو منحة ليقوم الأمير بالجهاد في سبيل الله فعليه أن يستعد بجنده وسلاحه وممالكيه لهذا الواجب فإذا مات صاحب الإقطاع لزم السلطان أن يقوم بالمحافظة على
حقوق الجند والمماليك الذين قام في الأصل الإقطاع على أسلحتهم ودمائهم فبقدر ما تطبق العدالة في تصريف هذه الشئون بقدر ما تكون جيوش المسلمين على أهبة للجهاد. وبقدر ما يسود الظلم وتعم الفوضى بقدر ما يفقد الجيش روح المقاتلة والكفاح. فالشدة توجد النظام والعدالة توجد القوة المقاتلة التي تبذل الدماء فلم يتحدث في تلك الأيام وبعد إدخال هذه الأنظمة أن زلت مصر أمام الصليبين أو ولى جنودها الأدبار في معركة قائمة أمام المغول أو غيرهم وإنما كان تاريخ مصر حلقة مستمرة من الانتصارات المجيدة ولذلك دهشت من مقال الأستاذ الذي يضع عهدا إسلامياً عظيما ويحشره بين عهود الرومان والبطالمة والأغارقة ثم يقحم بالعرب وسط هذه الشعوب الظالمة وأننا نؤمن بأن العروبة ومصر صنوان لا يفترقان فالعناصر التركية والمغولبة ذابت في بوتقة المصرية لأن مصر إسلامية عربية كما ذابت العناصر العربية في بوتقة الأتراك لأن تركيا إسلامية فلا محل إذن لوضع العرب وأمراء الإسلام وملوكه مع غيرهم.
- 5 -
جاء في المقال اسم بيرا وصحته (البيرة) بكسر الباء وسكون الياء وهي قلعة في البر الشرقي من الفرات وموقعها في تركيا واسمها الآن (بيرة جك) وجاء في التعريف (ولها منعة وعسكر) وكانت داخل أقاليم حلب في الدولة المصرية ولها حاكم وجند من مصر أما الحدود فكانت شمال ملاطية عند قلعة دريدة وقد جاء في صبح الأعشى أن نيابة البيرة تقدمة ألف وتوليتها من الأبواب السلطانية بمرسوم شريف.
- 6 -
تركت هذه الأنظمة الإقطاعية ألفاظا معينة في مصر منها كلمة عزبة ولا اختلاف على معناها وكلمة الوسية التي اختلف المفسرون على معناها جاء في السلوك (وفيها انتقل سعر الفول من ديار مصر من خمسة عشر دينار إلى ثلاثين دينار المائة إردب بحكم المشتري لعلوفة الوسية العادلية خمسون ألف إردب سنة 588هـ.)
وجاء في حاشية الدكتور زيادة (الوسية لفظ مشتق من اللفظة التركية أوسي ومعناها الدار وكل ما يتبع صاحبها من حاشية وحشم وحيوان) نقلاً عن بلوشيه ص 112 ويقول دوزي
في قاموسه (الوسية هي المرعى المشاع) والصحيح الوسية نسبة إلى الوسي القبيلة الكبيرة أو مجموعة الشعب وتطلق على الاقطاعات المشاعة أو أراضي الشيوع أي التي تبقى مشاعاً بين الأمراء والجند فلا تدخل في إقطاع أحداً بل تبقى بيد السلطان لمساعدة من ينقص إقطاعه وقد استعملت إلى اليوم بالأرياف في مصر للدلالة على الأرض التي تبقى بذمة المالك فلا يزرعها أحد من المزارعين).
أحمد رمزي
مراقب عام التشريع التجاري والملكية الصناعية
المعذبون
للأستاذ علي محمد سرطاوي
ليس العذاب في الحياة أن تجوع مرة وتظمأ أخرى، وأن تعرى حيناً وتتشرد أحياناً، وأن تنظر حولك في مسالك الحياة فلا ترى إلا الفراغ الهائل والوحشة في فترات الضيق، وأن تفتش عن الصديق الوفي فلا تجده في ساعات الشدة. . .
وإنما العذاب كل العذاب؛ في أن تجوع فلا تجد الرغيف، وأن تعرى فلا تجد الثياب، وأن تتشرد فلا تجد الوطن الذي يتحرك قلبه شفقة عليك لأنك جزء منه، وأن تتلفت حولك في مطارح الغربة فلا تجد القلب الرحيم الذي تطل من حنانه عليك رحمة الله، ولا اليد الكريمة التي تحمل البلسم لتدمل به جراحات القدر في حياتك، وأن تمد بصرك إلى آفاق الأمل فيرتد إليك الطرف خاسئاً حسيراً وقد تمشت في أوصالك قشعريرة الموت لأنك لم تعد تبصر شيئا.
وفصائل الحيوان أكثر حنواً على أنواعها، وأكثر تواصلا من بني الإنسان من مسارب الوجود؛ فالحيوان لا يستأثر بالغذاء من دون أفراد جنسه، ولا يفتك بغيره إلا إذا عضه الجوع، الخسف، ولا يسفك الدماء كما يصنع الإنسان حباً في الاستعلاء الحقير.
والشعور الكاذب الذي تصطنعه الأجناس البشرية نحو بعضها البعض ونحو الأجناس الأخرى ليس في حقيقته إلا لونا من ألوان الرياء الاجتماعي والنفاق الرخيص. قد أظهرت فترات المحن التي نمر بالحياة على أنه كذلك، وعلى أنه كسحابة الصيف لا يلبث أن يزول سريعا متى ذهبت الأسباب غير الإنسانية التي تدفع إليه.
جلس الفتى المشرد عن وطنه في تلك الغرفة الضيقة التي كانت نصيبه فيه في نهاية المطاف وقد حشرت معه فيها تلك الأسرة البائسة المضيافة التي لا تذكر أن الدهر ابتسم في وجهها مرة، أو طاف بها طائف من سرور في حياتها.
جلس ذلك الفتى أو ذلك الصبي الذي لم يتجاوز العاشرة، وقد سجى الليل وهجعت العيون، وراحت النسائم الرطبة تهب من مياه البحر على المدينة الحالمة المتشحة بأردية النور فتلطف الحرارة.
ومد طرفه في نور السراج الضئيل فرأى بسمات الفرح تعلو ثغور الأطفال الثلاثة الذين
يفترشون الأرض، وقد بدت سوآتهم من ثيابهم الممزقة، وهم يحلمون بالعيد، العيد الذي سيحمله إليهم نور الفجر الوليد بعد ساعات.
وعادت الذكريات بالصبي المشرد إلى مثل هذه الليلة في الوطن الجريح المستعبد الذليل؛ تلك الذكريات التي لا تميت جراحها في قلبه ولا تشفى، تلك الذكريات التي تنزف جراحتها الأحزان في عواطفه والتي عجزت دموعه عن غسلها من ذلك القلب الحزين سنوات ثلاثاً طويلة.
وفتح الباب الضيق وملأ رئتيه بالهواء العليل فأحس ببعض الراحة وعاد إلى مكانه فحملته الأفكار مرة أخرى إلى تلك الصورة البشعة في تلك الليلة الليلاء وقد رفد في مسقط رأسه بين أمه وأبيه وأخويه وأختيه، وبينما كانت الأحلام الجميلة تداعب هذه الأسرة السعيدة في ليلة العيد وإذا بعشرات من غلاظ الأكباد دفعهم القدر العابس، ممن تتلمذوا على حضارة الغرب ومبادئ حقوق الإنسان، يقتحمون المنزل ويمنعون بالأبرياء النائمين تقتيلا وتشويهاً حتى أخمدوا أنفاسهم وضرجوهم بدمائهم شأن الشجعان من غزاة القرن العشرين.
إنه لا يذكر كيف نجا، وإنه لعاتب على القدر لهذه النجاة، وكم ود أو أنه نام واستراح إلى جانب أبيه الشيخ في تلك الليلة، ولكن القدر الذي أتاح له الهرب من الموت، دفعه في طريق مفروشة بالأشواك والعذاب لا نهاية لها.
كل ما عرف من أمر نجاته أنه أفاق مذعورا وفر من باب خلفي فألفى المدينة بأسرها تذبح، والناس يتركون منازلهم في جنح الليل حفايا وعرايا، فاتجه مع المتجهين إلى السهل البعيد، فإلى الجبال ثم إلى حياة لا نهاية لها من عذاب الذل في هوان التشريد.
لقد ظل الإنسان هو ذلك الإنسان الذي عرفته الشمس في فجر الحياة البشرية، ولم تمح الحضارة من نفسه تلك القسوة العاتية التي ورثها من ضعفه يوم كان يهيم على وجهه في الغابات جائعاً عارياً يطارد الحيوانات وتطارده في الأحراج والكهوف والتي كثيراً ما كانت تتغلب عليه فتنكل به، والتي قلما تغلب إلا على الضعيف منها فقسا على ذلك الضعيف القسوة التي مازال يقسو بها على الضعفاء من بني جنسه حتى اليوم وحتى نهاية الحياة. والقسوة الموروثة في الإنسان البدائي أقل منها في الإنسان المتشح برداء مدنية القرن العشرين. لقد كان الغزاة القدامى يقتلون الأعداء ويضعون حد لآلامهم، أما الغزاة الذين
يستظلمون بحماية الأمم المتمدنة ورعايتها فقد مضوا شوطاً بعيداً في تلك القسوة حين هدتهم المدينة الغربية إلى قتل البعض وتشريد القسم الأعظم ليموتوا موتاً بطيئاً لا يذوقون فيه كل ما في العذاب من ألم ومرارة وجحيم. . .
وراح الصبي المسكين يقلب الأفكار في رأسه مستعرضاً ما عرف من مآسي التاريخ التي تشبه مأساة قومه في سير الزمن على أيدي السفاحين في قصة الإنسان فوق الأرض، فبدت له شريعة الظفر والناب مسيطرة على ما يسمونه (بالضمير الإنساني)، وأن الإنسان إذا كان قويا فلن يضيره أن يدوس ذلك الضمير في سبيل الوصول إلى غايته، ما دام يجد أن الذين يمدون بصرهم إليه بالإعجاب، وأكفهم بالتصفيق، وحناجرهم بالهتاف لا يقيمون وزناً لما ينصع، بل لما وصل إليه.
وكم حز في نفسه أن يسمع تلك الوحوش البشرية تتحدث عن الحرية وحقوق الإنسان، ودماء الأطفال والنساء والشيوخ من بني قومه لا تزال تقطر من مخالبها وأنيابها.
وكم حز في نفسه أن لا يتحرك الضمير الإنساني لدى الأمم المتمدنة التي جلس فيها ممثل تلك الوحوش، لمأساة بني قومه مثلما أبصره ويتحرك للمعاني البعيدة عن الإنسانية في كثير من المناسبات.
وتعالت شمس العيد، وسمع صراخ الأطفال وهم يتأرجحون فرحين بملابسهم القشيبة، وأبصر من النافذة الناس يروحون ويجيئون والسرور باد على وجوههم، وسمع المقرئ يرتل في المذياع قوله تعالى:(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) فأقفل النافذة مذعوراً وعاد إلى نفسه يذرف دمعة كبيرة على ضريح تلك الأمة التي كانت متمثلة في آي الذكر الحكيم، والتي كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، عزيزة لا تطلب إلا الشهادة في سبيل الله وإعلاء كلمة الإسلام. فانحنت أمامها الرقاب ودانت لها الدنيا وسجد لها التاريخ.
لشد ما يحاول هذا المسكين نزع الآلام من عواطفه، ولكنها عميقة الجذور لا يقوى على استئصالها! ولكم حاول أن يبدو كالبركان هادئ المظهر، وأن يضع على شفتيه ابتسامة مزيفة كعواطف البشر، ولكنه لم يقو على ذلك لأنه صبي لم تعلمه الحياة الخبث والمكر والخداع بعد.
لن يعرف معنى الوطن وحب الوطن غير أولئك الذين ذاقوا مرارة التشريد دون أن يكون لهم وطن. فأيقنوا أن الحياة رخيصة جداً إذا بذلها المرء في الدفاع عن ذلك الوطن والفوز بالراحة الكبرى فيه.
إنه في وطنه الأكبر، وطن العروبة، لا يحس بالغربة، يهون عليه دائماً وقع المصيبة وهول الكارثة أنه كان مع بني قومه الطليعة التي قضى عليها العدو المتربص فتنبه الجيش إلى الخطر ليأخذ الأهبة، واستعد لمناهضة العدو القادر. كانت هذه المعاني تبعث في نفسه طمأنينة السماء، أن الفرد إذا مات في سبيل المجموع كان شهيداً، قد أدى واجبه نحو أمته ووطنه، ولا عليه بعد ذلك، إن ظل كالجندي المجهول لا يعرف الناس عنه شيئا، وإن لاقى في سبيل أداء هذا الواجب مالا تقوى رواسخ الجبال على احتماله والصبر عليه.
سوف يموت جيل العبيد الحاضر الذي اختار الحياة في معركة الشرف والدفاع عن كرامة الدين والعرض والمجد، حين تحدته قطعان من كلاب البشرية، فأقبل إليه الموت يحمل في يديه عار الأبد، وقيود الذل، والمهانة والازدارء والحقارة بين الشعوب الكريمة. . .
وسوف تندفع الأجيال الحرة المقبلة من أبناء العرب، من وراء الغيب، وقد حملت في أرواحها بطولة المسلمين وأمجاد الفاتحين وعزة المؤمنين، تطلب الموت في سبيل الله لتنهار الدنيا فما فيها من قنابل ذرية تحت أقدامها، وما يذل إنسان يطلب الموت. . .
ومشت ساعات الزمن، وانطلق الناس إلى غاياتهم، ومرت أيام العيد الثلاثة، فما أحس بالمعاني الإنسانية التي تفرضها روح الإسلام على المسلم نحو أخيه المسلم، وما أحس بوجوده أقرب البيوت إليه وبينهم من يتزيأ بزي علماء المسلمين.
وكان من سوء حظه أن تحدق به قصور المترفين، ولو كانت تحتاطه بيوت الفقراء لغمروه بحنانهم ورغائبهم، لأنهم يمرون بالآلام التي يمر بها. ولتهب عليهم رياح البؤس والحرمان من صحراء الحياة كما تهب عليه.
ترى لماذا اختار الله رسله وأنبياءه من الطبقة التي صهرها العذاب؟ ولماذا قدر أن يذوق المصلحون والعباقرة والفنانون كؤوس البؤس منوعة من يد الحياة؟
إن الذين يولدون على الذهب، ويشبون بين القصور في أحضان الترف، ويجلسون في المقاعد الأمامية في مسرح الحياة، لا يعرفون عن الحياة شيئا.
أما الذين يعبثون في جحيم الحياة، ويبصرون صور العذاب، ويشربون كؤوس البؤس، هم الذين يحسون آلام الناس، وهم الأقلام الحساسة التي تنطبع عليها صور الرحمة والحنان بالناس جميعا. . .
ومن يدري؟ فلعل يد القدر وهي تعطي النضار والسيارات والقصور - تأخذ من تلك النفوس المعاني الإنسانية والرقة ونبل الشعور
بغداد
علي محمد سرطاوي
التذوق الأدبي
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
تقرأ قصيدة من الشعر أو كلمة من النثر فتعجب بها وتترك في نفسك أثراً يختلف من حين إلى حين شدة وضعفاً. وما دام الأدب تعبيراً عن خوالج النفس، تعبيراً عاطفياً، فإنه لابد أن يؤثر في نفس القارئ أو المستمع، تأثيراً لا نقول أنه هو ما في نفس الكاتب، بل يكاد يكون هو ما في نفس الكاتب. والأدب ككل فن من الفنون الجميلة، أن لم يتحدث إلى النفس بمنطقها الذي قد يتفق ومنطق العقل وقد يختلفان، فإنه يصبح شيئاً مرذولاً، ونتاجاً ثقيلاً، ليس أدبياً صرفاً ولا عقلياً خالصاً. فالفنون لا تخاطب العقل ولكنها تخاطب النفس. ومنطق النفس يصعب وصفه وتحديده، غير أنه في كثير من الأحيان مزاج يصعب فصل عناصره الأولى من المنطق العقلي والمنطق العاطفي.
وإذا كانت العاطفة تختلف من إنسان إلى إنسان، شدة وضعفا، تفاؤلا وتشاؤمنا، نبلا أو سفاهة؛ وإذا كان أسلوب التفكير لدى إنسان غيره لدى إنسان آخر، فإن التأثر الأدبي والفني يختلف من إنسان إلى إنسان تبعاً لاختلاف العواطف ومكوناتها وتبعا لاختلاف أسلوب التفكير.
فالأدب ليس وقعه واحداً في النفس الإنسانية، بل يختلف شدة وضعفاً، عمقاً وسطحية، استغراقاً وهامشية، من إنسان إلى إنسان. وهو في النفس الواحدة يختلف من وقت إلى آخر، لأن النفس يتحكم في تأثرها وحكمها على الآثار والأشخاص الظروف الطارئة، والآثار العارضة، والمواقف الجديدة.
فالتأثر الأدبي يختلف من نفس إلى نفس وفي النفس الواحدة يختلف من وقت إلى أخر. لذلك فإنه لا يكون واحداً في النفوس جميعاً، ولن يكون واحداً في النفس الواحدة، بل أنه أن كان واحداُ في جوهره، فإنه يختلف في حواشيه، وصوره، وما يستتبع من آثار، من وقت إلى أخر.
وهذا هو الخلود في الأدب والفن، فإنه لا يبلى، بل يتجدد دائما في الأصباح والأمساء. وكل إنسان يتذوقه بأسلوبه الخاص؛ أسلوبه العاطفي والمنطقي. هو واحد نؤمن به جميعا، ولكنني أومن به في صورة غير الصورة التي تراها أنت. إما جوهر العلم وحقيقته فإنا بها
جميعاً في جوهر واحد وصورة واحدة.
العلم والفن يتكلمان عن الجواهر، يتكلمان عن الإنسانية الصافية الخالصة، في آمالها وطموحها وماضيها وحقائقها التي لا تتغير. هما يخدمان الإنسان، كل بأسلوبه المفيد وطريقته الفذة التي لا يقصر فيها ولا يجاوز طوره وصورته مختلفة، فإن حقيقة العلم واحدة وصورته واحدة أيضاً.
ومن هنا نجد العلم لا يختلف من إنسان إلى إنسان ولا من وقت إلى آخر. ومهما تقلبت الظروف بالإنسان فإن الحقيقة العلمية لا تتغير زيادة ولا نقصاً. بخلاف الحقيقة الأدبية فإنها تختلف من إنسان إلى إنسان، ومن وقت إلى آخر، وتستتبع من العواطف والصورة والأفكار ما يتغير من زمان إلى زمان.
والإنسان ليس هذا الذي تجده أمامك في هذه الساعة وأنت تخطئ في تقويم الإنسان حين لا تراه إلا هذا الحاضر بين يديك، المتحدث إليك، الناقل عنك والذي تنقل عنه. الإنسان ليس أبن اللحظة الراهنة، وليس أبن الماضي وحده، إنما هو أبن اللحظة الراهنة وابن الماضي وابن المستقبل أيضاً. هو أبن لآماله وطموحه، وابن لواقعه الذي هو فيه وابن لماضيه الذي أصبح شيئاً يؤسف عليه أو يؤسف منه.
وماضي الأفراد مختلف من فرد إلى فرد. ومستقبل الأفراد مختلف من فرد إلى فرد. وحاضر الأفراد مختلف من فرد إلى فرد. ولذا تجد الإنسان منا في حاجة إلى الخيال الواسع، والبصيرة المنيرة والحساسية النافذة، حتى يقوم زميله وأخاه، وحتى يحكم عليه حكما صوابا أو مقاربا إلى الصواب.
أنا ثقافتي أزهريه؛ فقد تخرجت في الأزهر، وتخرجت في معهد التربية. أما جاري فثقافته جامعية، تخرج في المدرسة الثانوية، وتخرج في كلية التجارة. وجاري الآخر نشأ فلاحاً يبذر بالبرسيم ويحصد القمح. فنحن مختلفون في نشأتنا، مختلفون في ماضينا، مختلفون فيما ينسج من آمال مستقبلنا، إننا أناس تجمع بيننا أسباب عارضة ليست في قوة الأساليب التي تجعل لكل منا فردية وحدة وشخصية مستقلة.
فالخلاف بين الإنسان والإنسان واسع. خلاف في العاطفة. خلاف في الفكرة. خلاف في الإحساس. خلاف في كيفية هذا الإحساس. خلاف في الحاضر. خلاف في الماضي. ومن
غير شك خلاف في المستقبل. خلاف في أسلوب التعامل. خلاف في الفرح والرضى. خلاف في الحزن والبكاء. خلاف في أنفاس الحياة وتسوية البنان.
وهذا المدى الواسع من الخلاف يجعل لكل إنسان شخصية تتمايز عن غيرها من الشخصيات تمايزا ظاهراً. وهذا التمايز الظاهر يجعل لكل منا أسلوباً خاصاً في الفهم، والتعامل، والاستجابة لأحداث الحياة الدقيقة والجليلة. وهذا التمايز نفسه هو الذي تتعلق به آمال الطاقة البشرية في أن يبلغ كل فرد غاية إمكانياته للبذل في سبيل الإنسان.
والتذوق الأدبي يختلف على هذا المدى الواسع. فأنت تقرا قصيدة فتعجب بها وتذهب تصف إعجابك وتبرره. ويقرؤها غيرك وقد لا يعجب بها أو قد لا يعجب بها هذا الإعجاب الذي أعجبته، ثم يذهب يبرر مسلكه تجاه هذه القصيدة. وإن كتب على الناس أن يظلوا مختلفين فمن المحقق أن تذوقهم للروائع الأدبية لا يمكن أن يتفق، بل يظل مختلفاً أوسع الاختلاف وأشده. مختلفاً تبعاً لاختلاف الطفولة، واختلاف موارد الثقافة، واختلاف فلسفة الفرد في الحياة، واختلاف آمال المستقبل، واختلاف التركيب العضوي الذي يستتبعة في التركيب النفساني من فرد إلى فرد.
فالتذوق الأدبي مختلف من فرد إلى فرد وأن كنا نعلم الأدب يتكلم عن الجواهر، والجواهر لا تتغير - ولكن صورة الجوهر، والعواطف التي يثيرها، والآثار التي يستتبعها، تختلف من إنسان إلى إنسان، وان كان الجوهر في ذاته واحداً. فهذا الجوهر الواحد يقبل التشكيل فيما يخرجه الرجال المقتدرون من أنبياء الفن، ولكنه لا يقبل التشكل فيما يخرجه الرجال القادرون على البحث والتجريب.
قال أبن الدمينة:
وأنت التي كلفتنيدلج السرى
…
وجون القطا بالجلهتين جثوم
وأنت التي قطعت قلبي حزازة
…
وفرقت قرح القلب فهو كليم
وأنت التي احفظت قومي فكلهم
…
بعيدا الرضى وإني الصدود كظيم
هذه الأبيات الثلاثة تتكلم عن حقيقة هي ما يلقاه المحب من عنت وإرهاق، وما يعترضه من عقاب في سبيل حبه هذه الحقيقة جوهر لا يتغير، ولا بد أن تظهر عليه إن توفرت أسبابه ودواعيه. ولكن أبن الدمينة أختار ألفاظا خاصة، وصوراً خاصة، وعاطفة خاصة،
أقطع مؤكداً أن شاعراً غيره لابد أن يحور كل التحوير أو بعض التحوير في هذا المتاع الخاص بابن الدمينة لو أراد أن يظهرنا على ما يلقاه المحب من عنت وإرهاق وما يعترضه من صعاب في سبيل حبه.
ثم أن أبن الدمية نظم ألفاظه التي اختارها تعبر عما يريد نظماً خاصاً، ليؤكد هذه العقاب والمصاعب، وليرى لنفسه حق نستعطاف هذه التي تكلفه العقاب والمصاعب. فأنت ترى أنه بدأ كل بيت بضمير المخاطبة، وابتع هذا الضمير اسم الموصول للمؤنث، وفي البيتين الأولين أتبع اسم الموصول فعلاً مضعف العين - كل هذا ليكرر الإسناد الذي يدل على التأكيد. ثم أنظر في البيت الثاني إلى التمييز الذي استتم به الشطر الأول منه، وفي البيت الثالث إلى قوله (احفظت قومي) مضافاً إلى الضمير واسم الموصول تجد أن هذا الفعل كالزمردة المسحورة التي تكشف لنا عن احتدام قلوب القوم غيظاً وكراهية لهذا المحب المظلوم.
وما أخالك إلا قد استجاب حسك لهذه المقابلة السنية بين هذا الذي كلف دلج السرى وجون القطا الجثوم بالجلهتين، بين هذا المحب الأواب إلى ذكرى الحبيب ودياره وهذه القطا الآمنة الجاثمة في مكانها الدفيء. ثم لا أخالك أيضاً إلا استجاب حسك لهذا القلب الذي أصيب ويصاب كل يوم فهو كليم. وأ لست ترى صدود القوم وإشاحتهم عن أبن الدمينة كلما ألم ينادي قومه أو تجول في أحيائهم! وأ لست ترى هذا الغيظ الذي ترتسم سيماه على الوجوه وألست ترى هؤلاء القوم المحفظين يصبرون أنفسهم على سفه أبن الدمينة هذا!
كل هذا في عاطفة خاصة هذه العاطفة الخاصة ليست غاضبة على المحبوب إنما عي عاتبة عليه، وليست تقابل غيظ القوم بغيظ مثله لأنها واجدة لهم عذراً، وليست ترى في هذه الآلام إلا نوعاً من القربان يتزلف به المحب إلى من أحب لعله يرضى!
وهذه الأبيات الثلاثة تنشر لي صوراً من ماضي الذي انطوى وما إلى عوده من سبيل، صوراً لا أستطيع أن أعبر عنها في هذه السطور المعجلة - يوم كنت شاباً في أول خطوات الشباب أعب من معين الطبيعة أطرافاً من النهار وزلفاً من الليل، وأنصت إلى دقات الليل العميق يبارك أبناء الطبيعة الهجود - أرى على صفحة الأفق أبن الدمينة هذا متخذاً سمته إلى ديار حبيبته، وقد أبيض الأفق الشرقي إيذاناً بانبلاج الفجر الجديد.
على مثل هذا النحو أتذوق أبيات أبن الدمينة، فثقافتي لها حظ، واستجابتي لصورها ومعانيها لها حظ ثان، وعاطفتي التي لاءمت عاطفة الشاعر لها حظ ثالث، وما بعثته في نفسي من صور واحساسات خاصة بي له حظ رابع. . . فأنا قد تذوقت هذه الأبيات بكيفية خاصة نابغة من نشأتي، وثقافتي، وما انطبع على صدري من مرائي الطبيعة، واستعدادي الشخصي لأن أستجيب لهذه العاطفة التي اتخذها الشاعر ثوباً لفكرته. وإني على يقين أن غيري يتذوقها على غير هذا النهج ولو كانت ثقافته كثقافتي ونشأته كنشأتي.
فالتذوق الأدبي ليس من الحق أن توضع له القواعد والحدود.
محمود عبد العزيز محرم
مدرس بالفصول الثانوية بالمنيا
حول البردة
للأستاذ محمد سيد كيلاني
بقية ما نشر في العدد الماضي
لم سميت بالبردة؟
سبق أن رأينا البوصيري يطلق على قصائده أسماء معينة مثل (ذخر المعاد) و (تقديس الحرم من تدنيس الضرم) و (أم القرى في مدح خير الورى). ومن المؤكد أن هذه الأسماء لا تخفي وراءها أسراراً وأنه لم يقصد بها غير ظاهرها. وقد أطلق على قصيدته التي مطلعها.
أمن تذكر جيران بذي سلم
…
مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
أسم (البردة) وذلك على سبيل المجاز. فهي في نظره قد استوعبت مناقب الرسول وفضائله. وقد شبه البوصيري شعره في أكثر من موضع بالبردة وبالحلة. فقال يخاطب النبي في قصيدته (ذخر المعاد).
ها حلة بخلال منك قد رقمت
…
ما في محاسنها للعيب تخليل
جاءت بحبي وتصديقي إليك وما
…
حبي مشوب ولا التصديق مدخول
ألبستها منك حسنا فازدهت شرفاً
…
بها الخواطر منا والمناويل
لم أنتحلها ولم أغصب معانيها
…
وغير مدحك مغصوب ومنحول
وقال في الهمزية:
هاك من صنعة القريض بروداً
…
لك لم تحك وشيها صنعاء
فهذا البيت صريح في أن الرجل كان يرى أن مديحه للرسول يشبه البردة التي حوت جميع الصفات الحميدة التي أتصف بها النبي عليه السلام.
وقد ذكر البوصيري كلمة (بردة) في غير المناسبات السابقة ومثال ذلك قوله:
رسول الله دعوة مستقيل
…
من التقصير خاطره هيوب
تعذر في المشيب وكان عياً
…
وبرد شبابه ضاف قشيب
وفي قصيدته (ذخر المعاد) نظر إلى كعب بن زهير وقصته مع الرسول قال:
وما على قوم كعب أن نوازنه
…
فربما وازن الدر المثاقيل
فما تقدم نرى أن البوصيري أطلق على قصيدته اسم (البردة) ولم يرد منه سوى المعنى المجازي.
وللبردة اسم آخر وهو (البرءة) وذلك لأن البوصيري في زعمهم برئ بها من علته ولو ألقينا نظرة على هذه القصيدة لما وجدنا الشاعر قد ذكر علته ولا أشار إلى إصابته بمرض معين إشارة قريبة أو بعيدة ولم يتوسل إلى الله أن يشفيه من مرض أصابه ولا من داء ألم به.
فهذه التسمية مبنية على قصة مرض البوصيري بالفالج ورؤيته للنبي وشفائه عقب هذه الرؤية، وقد سبق أن ناقشنا هذه الروايات وفندناها. وكل ما يمكننا أن نقوله هو أن البوصيري ربما نظم هذه القصيدة عقب شفائه من الكسر الذي أصابه. وفي هذه الحالة يعوزنا الدليل على ما نقول.
وعلى ذلك فالأقرب إلى العقل والمنطق أن البوصيري رأى قوماً متجهين إلى الحجاز فتذكر رحلته فأنشأ هذه القصيدة وبدأها بقوله: أمن تذك جيران بذي سلم. . . الخ فإذا اقتنعنا بذلك أمكننا أن نقول أن إطلاق أسم (البرءة) على هذه القصيدة هو من وضع الرواة واختراع القصاص.
وقد سميت كذلك بقصيدة (الشدائد) وذلك لأنها في زعمهم تقرأ لتفريج الشدائد وتسير كل أمر عسير وهذا وهو باطل واعتقاد فاسد. وما البردة إلا قصيدة كغيرها من آلاف القصائد التي مدح بها الرسول. وليت شعري أي شيء في هذه القصيدة يشفي من الأمراض ويجلب الرزق ويذهب بالشدائد أهو البكاء على جيران بذي سلم وكاظمة وأضم والبان والعلم؟ أم ذكر إرتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان وسجو الأشجار، وهذا كله من الأساطير والخرافات؟ وفضلا عن ذلك فإن البوصيري ذكر هذه الخوارق في قصائد أخرى كما ذكرها غيره ممن مدحوا الرسول. فلم انفردت أبيات البوصيري في هذا المقام بشفاء المرض وتفريج الشدائد دون غيرها؟
أما التكلم عن جهاد الصحابة فهذا مذكور في كثير من كتب التاريخ، ولا يعقل أن الشعر الذي يشير إلى هذا الجهاد يشفي مرضاً أو يجلب رزقاً.
لم تحور البردة عير هذه الموضوعات: الغزل والتشبيب بالأماكن الحجازية، ثم وصف لمناقب الرسول وذكر لكثير من العجائب والمعجزات، ثم الإشادة بكفاح الصحابة في سبيل الإسلام. ولا يستطيع عاقل أو نصف عاقل أن يدعي أن شعراً يقال في موضوع من هذه الموضوعات يجلب الغنى ويطرد الفقر ويذهب الضيق.
وأسم آخر أطلق على هذه القصيدة وهو (الكواكب الدرية في مدح خير البرية).
شروط قراءتها:
ولم يكتف بعض المسلمين بما اخترعوا من قصص حول هذه القصيدة بل شرعوا يضعون لقراءتها شروطاً لم توضع مثلها لقراءة القرآن. فمن هذه الشروط:
(1)
التوضؤ (2) استقبال القبلة (3) الدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها (4) أن يكون القارئ عالماً بمعانيها (5) قراءتها بالنظم لأنها وردت منظومة لا منثورة (6) حفظها (7) كون القارئ مأذونا بقراءتها من أهلها (8) قراءتها مع الصلاة على النبي عليه السلام. ويلزم أن تكون الصلاة بتلك التي صلى بها البوصيري وهي:
مولاي صلي وسلم دائما أبداً
…
على حبيبك خير الرسل كلهم
لا بغيرها وإلا فلا تكون مؤثرة.
وقال قوم آخرون أن من شروط قراءتها أن يصلي من أراد ذلك ركعتين بنية قضاء الحاجة لوجه الله تعالى. وأن يقرأ بعد الصلاة ثلاث مرات بأسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وثلاث مرات خير لنا وشر لأعدائنا. رب يسر ولا تعسر. رب تمم بالخير آمين رب العالمين. وثلاث مرات يا فتاح. وما النصر إلا من عند الله ثلاث مرات. الله أكبر، ألله أكبر، لا إله إلا الله. والله أكبر ولله الحمد. وأن يقرأ الآية الكريمة مرة واحدة مع البسملة الشريفة وهي قوله تعالى: فلقد جاءكم إلى آخر الآية وأن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة أعني بها اللهم صل أفضل صلاة على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم عدد معلوماتك، ومداد كلماتك كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكر الغافلون.
ولا شك في أن هذا يدل على انحطاط في مستوى التفكير وضعف لا مثيل له في العقول. ووجه العجب في هذا أن المسلمين على اختلاف مذاهبهم وفرقهم قد آمنوا بهذه الخرافات
واتفقت كلمتهم في مشارق الأرض ومغاربها على التصديق والإيمان بما يقال عن هذه القصيدة لا فرق في ذلك بين سني وشيعي. والذي ساعد على هذا هو تفشي الجهالة بين الشعوب الإسلامية بعد أن ابتعدت عن العلم الصحيح وتركت تعاليم المعتزلة جملت واحدة واستسلمت للدجالين والمشعوذين الذي سيطروا على العقول زمناً طويلاً.
ويرجع الفضل في نشر هذه الخرافات بين المسلمين إلى رجال الطرق الصوفية الذين اتخذوا البردة نشيداً يتغنون بها في حفلات الذكر.
مناقبها:
ووضعوا للبردة من المناقب والفضائل مالا يقع تحت حصر. فهي تشفي من الرمد والفالج والحمى وغيرها من الأمراض. وما قرأها أحد عند نزول الشدائد إلا فرج الله عنه. وما قرأها على سفينة هال عليها الريح إلا سلمت من الغرق. وما قرأها مسجون إلا خرج سالماً. ومن قرأها في ليلة الجمعة يعد العشاء الأخيرة بطهارة كاملة رأى النبي في منامه. ومن مناقبها أنها تقرأ لإطالة العمر ودفع البلاء وجلب المنفعة.
هذه مناقب القصيدة عامة. ثم وضعوا لكل بضعة أبيات منها مناقب خاصة وفوائد معينة. فمن قوله:
أمن تذكر جيران بذي سلم
إلى قوله:
وما لقلبك أن قلت استفق يهم
يقول عبد السلام بن إدريس المراكشي أحد شراح البردة (خاصية هذه الأبيات الثلاثة إذا كانت عندك بهيمة لم تقبل التعلم فاكتبها في زجاجة وامحها بماء المطر واسقها للبهيمة فإنها تذل وتتعلم ما أنت تعلمها بسرعة. وإن كانت لك مملوكة أو مملوك من العجم، ولم يتعلم كلام العرب بسرعة فاكتب هذه الأبيات في رق غزال ثم علقه على عضده اليمن فإنه يتفصح بسرعة بإذن الله تعالى.)
ومن قوله:
أيحسب الصب أن الحب منكتم إلى قوله:
والحب يعترض اللذات بالألم
قال الشيخ عبد السلام المتقدم ذكره: (خاصية هذه الأبيات عجيبة. وذلك أنك إذا كنت تتهم أحداً من النساء فأكتب هذه الأبيات في ورقة انزج وخلها حتى الوقت الذي تكون فيه نائمة، فضع الورقة على ثديها الأيسر واجعل أذنك عند فمها فإنها تنطق بجميع ما تفعله في غيبتك من مليح أو قبيح. هذا مجرب صحيح. وكذلك إذا شككت في أحد أنه أخذ لك شيئا وأنكره فاكتب هذه الأبيات في جلد ضفدع مدبوغا وخذ لسان ضفدع وصبيره في الجلد وعلقها في عنقه فإن المتهم الذي سرق لك شيئا يقر به من ساعته ويدهش ولا يستطيع أن ينكر ولا يخاصم أصلاً، فاعرف مقدار هذا السر العظيم).
وهكذا استغل المشعوذون والدجالون قصيدة البردة لابتزاز الأموال والاحتيال على بسطاء الأحلام وضعفاء العقول. واتخذوا منها تمائم وأحجبة وشرعوا يوهمون السلاح بفوائد هذه التمائم ومنافعها ويتقاضون على ذلك ما يملأ جيوبهم ومن الذي يستطيع أن يأتي بجلد ضفدع مدبوغ ولسان ضفدع ورق غزال وماء زعفران غير أولئك الذين خصصوا أنفسهم في مزاولة الاحتيال والنصب؟
شهرتها
وقد ترتب على ما تقدم أن سار ذكر البردة في الآفاق شرقاً وغرباً، وحفظها الخاص والعام، وتعنى بها الناس في الموالد والأذكار، وأكثروا من تلاوتها في شتى المناسبات. وقد ترجمت إلى بعض اللغات الشرقية كالتركية والفارسية والأردية. كما ترجمت إلى بعض اللغات الأوربية. فترجمها إلى اللغة الفرنسية المسيو رينه باسيه وطبعها في باريس سنة 1894. كما ترجمها إلى اللغة الإيطالية السنيور جابر يلي طبعها في فلورنسه عام 1901. وكذلك ترجمت إلى اللغتين الإنجليزية والألمانية.
وأقبل الشعراء عليها فمنهم من يصدرها ومنهم من يعجرها ومنهم من يخمسها ومنهم من يسبعها، ومنهم من يتسعها ومنهم من يعشرها ومنهم من ينهج نهجها ويسنج على منوالها.
وأوسعها الكتاب شرحاً وتعليقاً ووضعوا لها المناقب والفضائل والكرامات على نحو ما ذكرنا. وفي دار الكتب المصرية مجموعتان كبيرتان، الأولى تحت عنوان تحاميس البردة المسماة (بالكواكب الدرية في مدح خير البرية) وهي تسع وستون تخميساً لم يعلم جامعها.
والثانية عنوانها: (الشهب المضية في تخميس الكواكب الدرية) وهي ثلاثون تخميساً لم يعلم
جامعها.
ولا تخلو مكتبة في أوربا من شروح للبردة وتخاميس لها.
كيف اشتهرت البردة؟
أنت تعلم أن البوصيري من أصل مغربي، وأنه قضى بقية عمره في الإسكندرية مندمجاً في سلك أبي العباس المرسي، مجتهداً في نشر الدعوة للطريقة الشاذلية.
وقد كانت الإسكندرية في ذلك الوقت محط رجال كثير من المغاربة الذين كانوا يفدون عليها ويجدون من سذاجة الناس ما يشجعهم على الاشتغال بالنصب والاحتيال وادعائهم رؤية الطوال وعلم الغيب والقدرة على جلب الثروة وكشف المخبأ من الكنوز وغير ذلك من ضروب الغش التي استحلوا بها أموال الناس.
وطفق هؤلاء المغاربة بعد زوال الدولة الفاطمية يعملون على الاحتفاظ بمكانتهم الأدبية ومستواهم المادي الذي كانوا عليه أيام الفاطميين، وهكذا رأينا أقطابا من أصل مغربي يظهرون فجأة وتوضع لهم المناقب وتخترع لهم الكرامات ومن هؤلاء الأقطاب أبو الحسن الشاذلي فقد قال فيه أنصاره ما لم يقل مثله في أكبر الصحابة والتابعين. ورأى هؤلاء المغاربة أن يكثروا من عدداً لأقطاب طمعا في الثروة وجلبا للكسب فألفوا حول أبي العباس المرسي مثل ما ألفوا حول أستاذه الشاذلي، ثم ألفوا حول البوصيري المغربي الأصل مناقب كثيرة ولقبوه بالإمام وأقاموا له ضريحاً. وهكذا أخذت أضرحة الأقطاب المغاربة تكثر يوما بعد يوم فرأينا إبراهيم الدسوقي في دسوق، وأحمد البدوي في طنطا، وعبد الرحيم القنائي في قنا، يوسف أبا الحجاج في الأقصر. وأخذ المصريون يحملون إليها النذور ويقدمون لها القرابين ويتوسلون بها في قضاء الحاجات. وبهذا اغتنى القائمون على هذه الأضرحة وكلهم من أصل مغربي، واستحلوا أموال الناس يأكلونها بالباطل ولم يتورعوا عن استغلال الطرق المزرية وارتكاب المخازي والقبائح مع ضحاياهم ليستولوا بذلك على الأموال الطائلة. وأعانهم على ذلك جهل العام وعدم وجود حكومات تضرب على أيديهم.
وأتخذ المغاربة من (البردة) مجالا لنشاطهم، ووضعوا لها المناقب والفضائل، واحتكروا نسخها وتأجيرها وبيعها وشرحها وتفسيرها، كما كتبوا في خصائص كل بيت من أبياتها.
وحفظها أتباع الطريقة الشاذلية وصاروا ينشدونها في الأذكار.
قيمتها الأدبية:
لا جدال في أن البردة من أروع القصائد التي قيلت في مدح الرسول. فهي قوية في أسلوبها غنية بالحكم الخالدة والتشبيهات الرائعة والاستعارات اللطيفة والمعاني التي عجز الشعراء عن الإتيان بمثلها والتي ضمنت للبوصيري ذيوع الاسم وخلو الذكر. وقد اقتبس الشعراء الذين جاءوا بعده كثيرا من المعاني الواردة في البردة. ومثال ذلك قوله:
فإن لي ذمة منه بتسميتي
…
محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
فأخذ هذا المعنى شعراء كثيرون منهم أحمد شوقي حيث يقول:
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي
…
وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
وقال:
لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه
…
طوبى لمنتشق منه وملتثم
فتداوله كثيرون ومن ذلك وقول أحدهم:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
…
فطاب من طيبهن القاع والأكم
وقد أجاد البوصيري إجادة تامة في قوله:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة
…
في الجاهلية والتأديب في اليتم
في حين أن شوقي لم يجد في قوله:
ذكرت باليتم في القرآن تكرمة
…
وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم
ولم يلحق بالبوصيري حين قال:
يا أيها الأمي حسبك رتبة
…
في العلم أن دانت بك العلماء
ولم ينتفع الشعراء بمعاني البوصيري في هذه القصيدة فقط، بل انتفعوا بأسلوبه وأغاروا على طريقته ونقلوا كثيرا من عباراته. ولعل هذا يرجع إلى مظهر القداسة التي أحيطت به هذه القصيدة وإلى الإجادة التامة التي وفق إليها البوصيري في البردة. وما أصدق أحمد شوقي حين يقوله:
المادحون وأرباب الهوى تبع
…
لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
مديحه فيك حب خالص وهوى
…
وصادق الحب يملي صادق الكلم
الله يشهد أني لا أعارضه
…
من ذا يعارض صوب العارض العرم
وإنما أنا بعض الغابطين ومن
…
يغبط وليسك لا يذمم ولا يلم
محمد سيد كيلاني
أنا. . . والبحر!
(مهداه إلى الأستاذ راجي الراعي)
للأستاذ صبحي إبراهيم صالح
(أيها البحر! أبها الملك الجبار، المحفوف بالأسرار!
إنني الساعة في ثبجك، أدنى ما أكون إلى عرشك، بعد أن تجرعت في عبابك ماءك الأجاج، ولقيت في سبيلك الأهوال من جنودك الأمواج. . .
لقد بلغتك بشق النفس لتقربني نجياً، فهل أنت طاردي أم ستكون بي حفياً؟
تبسم (ملك السواحل) ضاحكاً من قولي، وكأنما أدركته الشفقة عليّ، فأوحى إلى جنوده الأمواج:(أن انطلقوا جميعاً إلى الشاطئ القريب، ودعوني وحدي مع الفضولي الغريب. . .)
حتى إذا شرعت أمواجه تنحسر التفت إلى وقال: (تكلم ولا تخف إنك من الآمنين)
فتنفست ملء رئتي بعد أن احتبست من طول السباحة أنفاسي، وأنشأت أقول للبحر الأثبج معجباً بحلمه، فرحاً بما لقيت من كرمه:
- أتدري ملك السواحل أن أبرز سجاياك سعة صدرك، وشدة صبرك؟
- أجل. . . وبسعة صدري وشدة صبري استطعت أن أحتفظ بعرشي حين ثلت العروش، وأن أصون تاجي يوم حطمت التيجان.
- لقد رأيت عرشك أيها البحر في ثبجك. وما لاح لعيني تاج على لججك. . .
- وكيف يلوح الآن في الأصيل تاج لا يزين رأسي إلا قبيل الغروب؟ أن تاجي هالة حمراء من نور الشمس حين تروم المغيب في الأفق البعيد.
- أنظرني إذن إلى وقت غيابها، لعلي أرى هالتها تكلل رأسك الجميل.
عنجر البحر شفتيه، كأن طلبي الأخير لم يرق لديه، ثم قال:
- أنظرك؟. . . كلا. . . حسبك ما يأخذك الآن من سحرها، وما تحسه من اتقادها ووهرها فإني أغار عليها من نظرة الإنسان، ومن ملاطفة الهواء ومن نجوى السماء. . .
- لله درك من عاشق ولهان، ولله در لنلوك حين يعشون!
- نعم. . . عاشق أنا ومدنف؛ وإني لأصف معشوقتي بما لا يبلغ وصفه الشعراء. فعلى
جبينها الوضاح نور يتألق، وفي عينيها الزرقاوين شرارة تلتهب، وبين شفتيها الحمراوين خمرة تفور. أما خدها الأسيل فزنبقة من الحلد، وأما شعرها الطويل فموج من ذهب، وأما خصرها النحيل فأرهفته يد الخالق الفنان.
- يا ليت شعراءنا يسمعون وصفك الخيالي ليعلموا أن أشعار الملوك ملوك الأشعار. وأنها تنطلق من أعماق القلب هازئة بالقوافي والأوزان.
- إن شعراءكم أيها الناس مغرورون، وكثير منهم كاذبون. يكتفون بتقطيع البحور ووزنها، ثم يصرون ما لا تدركه بصائرهم ويتخيلون مالا حقيقة له في أنفسهم، ويخدعونكم بزخرف ألفاظهم فتقعون له ساجدين.
- ولكن أعذب الشعر أكذبه أيها الملك الشاعر.
- وإن للكذب فنوناً وأساليب، أيها الفضولي الغريب، فلقد تتخيل ما تشاء من الأخيلة الكواذب وأنت - مع ذلك - صادق الشعور صدقاً فنياً لا خلقياً. وإن لك أن تكذب ما حلا لك على أن تتلو وحي قلبك، حين تفنن في كذبك.
- سأقول هذا لشعرائنا المعاصرين؛ ولكن. . . من لقنك هذا أيها البحر العظيم؟
- ملهمتي. . . أجل. . . الشمس التي تفيض على النور، فتجعلني مرهف الحس والشعور.
- الشمس - دائماً الشمس - ألست تبصر سواها في الوجود؟
- ومالي لا أغمض عيني عن سواها وهي ربة النور
- أنظر إلى السماء. . . إنها - هي الأخرى - فاتنة حسناء حين يصفو أديمها، ويتهلل وجهها، فتسر الناظرين.
- السماء؟! أكرهها
- لماذا أيها البحر؟
- لأن سحابها الثقال تحاول أن تحجب عب الشمس كلما تكاثفت، ولأن نجومها التياهة ودت لو تعوض لألاء شمسي كلما طلعت، ولأن قمرها المغرور ينكر الجميل ويحسب أنه ناسخ بنوره ضياء شمسي كلما سطع.
- أنت إذن تكره الظلام؟
- ومن لا يكرهه في الوجود؟ أن الظلام معلم النفاق الأول
- وكيف ذلك؟
- إنه ستار صفيق، وحجاب ثقيل. أن المجرم ليتوارى في جنح الظلام فلا تدركه الأبصار؛ وإن ذا الوجهين لرابحة تجارته إذا عسكر الليل البهيم.
- بيد أن الحقائق لا تخفى طويلاً.
- لأن النور هو الذي يزيل خفاءها، ولو بقيت في الظلام أظل الناس جهلاء لا ينعمون بحقيقة، بلهاً لا يطلعون على سر.
- أرجو أيها البحر أن يكون في قلبك من الصراحة كفاء حبك لها وثنائك عليها.
- إن لي منها مقداراً عظيماً. الست تراني جارحاً والصراحة جارحة؟ أو لست تراني عاريا والصراحة عارية!
- أنت؟ أنت أيها الملك عار؟ وأين أبهة الملك وزينة السلطان؟ أأنت أيها الجالس على عرشك عار وإن الخدم بين يديك يلبسونك ما تشاء، وينتقون لك من الأزياء والألوان ما تريد، فهي تارة زرق صافية بلون السماء في اليوم الصائف، وهي تارة عكرة شواحب كلون السحاب حين يهدودر المطر، وهي أحياناً بيض نواصع من اثر الجليد في صنابر الشتاء؟. . .
- ها ها. . . أهذه أزياء وألوان، في نظرك أيها الإنسان؟ إنني - بالرغم منها جميعاً - عار لا يسترني لباس. إنها تعلن صراحتي وتفضح ما بنفسي، فكلما بدت مياهي زرقاً صافيات كنت ناعم البال رخي القلب، وكلما بدت عكرة شواحب كنت شتيت الخواطر قلق النفس، وكلما بدت بيضاً نواصع كنت جامد المشاعر خامد الإحساس. وما أستطيع - وفي حالة من هذه الحالات - أن أكتم تأثري وانفعالي، وتلك - لعمري - مزايا الصريح.
- ما أبرعك في الدفاع عن نفسك! ولكن. . . قل لي أيها الملك العاشق الشاعر الخطيب: متى ترضى ومتى تغضب؟
- أرضى إذا رضي أصحابي، وأغضب حين يغضبون.
- وما أوفاك!. . . ومن أصحابك؟
- كل صريح لا يداور، مخلص لا ينافق.
- ومن أعداؤك؟
- ألد أعدائي الأنواء والرياح، فإنها تخرج أثقالي، وتقطع اوصالي، وتجعل بعضي يموج في بعض.
- والحرب؟
- ويل لي من الحرب؟ أنها تساعد الأنواء والرياح نكايتي واستفزازي، ولا سيما حروبكم الأخيرة التي مزقت أيها الناس لفائف قلبي وقطعت أمعائي، وعلمتني أن أكون كالغراب، آكل لحوم الأموات الخنزة وأواريها في أحشائي
- ولكنك أيها البحر الجروز تأكل لحوم الأموات حتى في غير الحروب.
- هذا كذب وزور.
- كيف وأنت في السلم تلتهم في جوفك الأب فتخلف أبناءه يتامى، وتبتلع في بطنك الحبيب فتفصله عن حبيبته، وتدفن في أحشائك الوحيد فتثكل بفقده أمه؟ إنك قاس أيها البحر مهما أظهرت اللين فاجتذبت القلوب، شرس ولو مثلت الوداعة فأجدت التمثيل.
- ماذا تقول؟
- أقول إنك تتظاهر بكراهية النفاق وأنت غريق فيه كواعظ ينهى على الخلق الذميم وهو يأتيه، وأقول انك تلبس مسوح الرهبان، ينقض على فريستك انقضاض التعبان.
- لقد أكثرت القول يا هذا وأنا صبور.
- وأقول إنك كساسة الغرب تصافح بيد من حرير. وأنت تبيت الغدر، وتمكر أشد المكر. . . أما كان خليقاً بك أن ترحم الملاحين الذين يمخرون عبابك، والرحالين الذين يضربون في مائك، والمسافرين الذين ينزلون ضيوفاً عليك، والسابحين الذين يغوصون في قاعك؟ أما كان جديراً بك أن تأخذ بأيديهم إلى الشاطئ بدلاً من أن تغيبهم في أعماقك، أو تهشمهم على صخورك، أو تلقي جثثهم عند أقدام جزرك، أو تحبسهم في مضيق خلجانك أو تجعل بقاياهم طعاماً لحيتانك؟!
- أيها الفضولي المتفلسف! إنك تجهل حقائق الأمور. ما ينبغي لي أن أغرق أحداً وما أستطيع. أن أعدائي الرياح والأنواء تأبى إلا أن تزيد في نكايتي واستفزازي فتثور في وجوه أحبابي، وتهوي بهم في مكان سحيق.
- ربما اقتنعت بكلامك لو وقفتني على سر هذه الطعوم التي تعدها لنا معشر الناس.
- الطعوم؟ أية طعوم تعني؟
- أعني طعومك. . . أعني اللحوم الطرية التي تجول في صدرك، بل الحلي الجميلة التي تتدلى على نحرك. . . أعني الأسماك التي ترغب في اصطيادها، واللآلئ التي تولع باقتنائها. . . أو ما تكفي هذه وتلك لتكون طعوما لنا معشر الناس؟
- وما ذنبي إذا جئتم تغتصبون حيتاني فأغرقتكم في عبابي، أو أقبلتم تسرقون مرجاني فأوصد عليكم بابي؟ أن طمعكم يوردكم المالك أيها الناس.
- ولكنك أحياناً تعدو علينا من غير أن نأكل حيتانك، أو نسلب لؤلؤك أو مرجانك.
- ومتى عدوت عليكم؟
- كلما جن جنونك، وثارت ثورتك، فراحت قيضائك تدمر المدن الوادعة، وتدمدم على الدور الآمنة.
- لي بإقناعكم أن ليس هذا بعدوان مني أيها الناس من لي بإقناعكم أن العدوان لا يقوى عليه إلا ذو مرة وجبروت وأن ليس لي من القوة ما تزعمون؟ إنما فيضاني بكاء المهزوم المتراجع. أن عيوني لا تفيض إلا إلى حين تنتصر عليّ الأنواء العاتية والرياح الغاشمة. وأنتم أيها المساكين ضحايا دمعي المسكوب، فوا رحمتاه للضعيف المغلوب.
- كفى. . . كفى أيها البحر! ما برحت عند ظني بك، فإنك على قوتك تظهر الضعف، وعلى قسوتك تزعم اللين، وعلى نفاقك تدعي الإخلاص، وتريدنا معاشر الناس أن نؤمن بدعاويك وننخدع بزخرف ألفاظك.
ولم يدعني الحر أتم كلامي، فلقد تقبضت صفحة وجهه فقام على عرشه وقعد، ثم أرغى وأزبد، وأنذر وتوعد، ثم حشر جنوده الأمواج، وناداها، فأسرعن عاديات إليه من الشاطئ القريب، وأيقنت أني سعيت إلى حتفي بلظفي، فاستسلمت للأقدار وطفقت أسبح تارة على ظهري وتارة على جنبي، وأخبط طوراً بيدي وطوراً برجلي، وأريد أن أستغيث فلا تنطلق الاستغاثة من حلقي، ثم قبض الله لي الريح عدوة البحر فطردت فلول الأمواج إلى ناحية وأنشأت تدفعني بكلتا يديها إلى ناحية، حتى قاربت الشاطئ خائر القوى لاهث الأنفاس، فتلقاني بعض السابحين وأنقذني ومسرني ثم ابلغني مأمني.
ولما خرجت قدماي من المياه سمعت صوت البحر الأجش يجليل في الفضاء، شامتاً بما
نالني من عناء: فإذا هو يقول وإن الأثير يردد صداه (لقد عدت أيها الإنسان إلى الشاطئ كما جئت إلى عرشي في موج كالجبال، وإنه لجدير بمن ظهر على أسرار الملوك أن يلقي الشدائد والأهوال!)
فلما نجوت إلى البر صحت بالبحر بأعلى صوتي:
(أيها الملك الجبار، المحفوف بالأسرار! لقد أصبحت الآن على رمل ساحلك، أبعد ما أكون عن عرشك، بعد أن عببت كرة أخرى ماءك الأجاج. ولقيت الأهوال من جنودك الأمواج!
كلا. . . لن أحاول أن تقربني نجياً؛ ولن أسألك أن تكون بي حفياً!. . .)
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم صالح
خواطر في كتاب الله
الروح المعنوية
للأستاذ محمد عبد الله السمان
كثيراً ما تتعرض الأمة لأخطار جسيمة تقض المضجع وتقلق الأفكار، وتنغص العيش وتسلب الهدوء - فعندئذ تكون في أمس الحاجة إلى تقوية روحها المعنوية حتى لا تنهار، ورباطة جأشها حتى لا يستولي عليها الجزع، وثبات قلوبها حتى لا يتملكها الروع والفزع.
وكثيراً ما تتعرض الأمة لأزمات مستعصية تدعها مسابحة في أجواء من الوهم، غريقة في بحار من الوسوسة، شاردة في بيداء من الحيرة، مستسلمة لكتائب القلق ونوازع الاضطراب
وكثيراً ما تحيط بها النوائب؛ وتحدق بها الشدائد، وتصوب إليها سهام المكائد، وتصب عليها الأرزاء فلا ينقذها من هذا سوى الصبر والثبات والأيمان العميق:
. . . ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون أن كنتم مؤمنين: أما إذا بدأت الأمة في كفاح يحفظ لها عزتها، ونضال يعيد إليها حربتها، وجهاد يدك معالم ذلتها، وراحت تدفع بأبنائها إلى المعمعة ليبذلوا دمائهم في سبيل استقلالها، وليقدموا مهجهم لتحقيق غاياتهم، وليجودوا بأرواحهم ليهبوها حياة طيبة وعيشة راضية فإنها عندئذ تكون أكثر افتقار إلى تقوية الروح المعنوية فيحثها القرآن على الصبر والثبات:
اصبروا وصابروا ورابطوا
…
إذا لقيتم فئة فاثبتوا)
ويحذرها أن يتسرب الضعف إلى نفوسها:
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) ويبث فيها الثقة بالنفس ولو كانت قلة:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. ويقوي في نفوس أبنائها الثقة بالنصر لأنهم يجاهدون في سبيل نصرة الحق ولأن للحق قويا مقتدراً كفيلاً بنصرة جنوده:
(ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون - ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وإن الكافرين لا مولى لهم - وليكم الله ورسوله والذين آمنوا - ومن يتولى الله ورسوله والذين أمنوا فإن حزب الله هم الغالبون
ويذكر جنودها البواسل بأن الأعمار آجال محددة ليكون ذلك باعثاً لهم على الجرأة والإقدام والتضحية والمخاطرة.
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا - لكل أجل كتاب - ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها
ويكبر من شأن الهجرة في سبيل دعوة الحق والاستشهاد من أجل نصرتها:
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون - الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون - والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم
القاهرة
محمد عبد الله السمان
المدرس بمدرسة علم الدين الابتدائية للبنات
مأساة حيفا
(من الحق أن ننعت الإنجليز بأنهم مثاليون في بلادهم، مثاليون
في قيم النزاهة، ومعايير الخلق وموازين الإنسانية والضمير.
. .
ومن الحق أيضاً أن ننعتهم بأنهم مثاليون في غير بلادهم ما مثاليون في الأنانية والجشع، وضعة الضمير والخلق، وانتفاء العدالة والإنصاف. . .)
أنور المعداوي
لعل الإنجليز أكثر شعوب الأرض أنانية وحب نفس؛ والمثل العليا والمبادئ الإنسانية وصوت الضمير ليست إلا ألفاظاً جوفاء، لا وجود لمعانيها في معاجمهم حينما تتعارض مع أنانيتهم ومصالحهم. والإنجليزي مغرق في برودة الطبع والحس والضمير، لا يعرف عدواً أو صديقاً، إنما يجري وراء رغيف الخبز كما يجري الكلب الجائع وراء من يحمل الخبز كائناً من كان.
ولعل أكثر الناس إحساساً بهذه المعاني ذلك النفر من الشباب العربي الذي تعلم في معاهد الإنجليز - ولا ندري أكان ذلك لسوء حظهم، أن لسوء حظ الإنجليز - ورآهم في صور مزيفة من المثل العليا والديمقراطية الكاذبة في بلادهم. أن هذا النفر من الشباب الذين تتلمذوا على الإنجليز وتثقفوا بثقافتهم لا يؤمنون بديمقراطية الإنجليز ومثلهم العليا. إنهم على النقيض من ذلك يرونهم محرومين من هذه المعاني حتى في بلادهم. هنالك الحواجز الفولاذية بين الطبقات في المجتمع: سيد وعبد، نبيل وخادم، تعليم محتكر لطبقة الحاكمين وتعليم لطبقة المحكومين. والقسوة والغطرسة والظلم ليست إلا صورة ثابتة لا تتغير في أخلاق الإنجليز في تاريخهم الحافل بالسيرة الحسنة في أيرلندة والهند والسودان ومصر وفلسطين، وفي كل مكان عاقب الله الناس بوجودهم فيه. أسمعت من التاريخ، بالفندال والهون والبرابرة الذين عاثوا بالحضارة الإنسانية فدمروها في مطلع التاريخ الوسط وطمسوا معالمها؟ إنهم لا يزالون يعبثون بكل ما فيهم من قسوة وبربرية وهمجية في جلود الإنجليز. ثار الأيرلنديون على الظلم زمن حكم الملكة اليصابات إبنة هنري الثامن فأرسلت
إليهم جيشاً لإخماد الثورة، وحينما وصل إلى مسمعها الفظاعة التي تقشعر من هولها الأبدان والتي اقترفها الجيش مع الأيرلنديين بكت تلك الملكة وقالت كلمتها الخالدة:(حسبت أنني أرسلت إلى أيرلندا مخلوقات يتحرك فيها الشعور الإنساني، ولم يدر بخلدي أن الإنجليز ذئاب مفترسة جائعة لها جلود بني الإنسان). وذلك (ورن هاستنج) حاكم الهند العام الذي كان يؤجر الجيش البريطاني للفتك بالناس وتدمير حياتهم وإشاعة الذعر والهلع بينهم، وان كانوا أصدقاء للإنجليز!
لقد عاش كاتب هذه السطور بين الإنجليز في بلادهم، وخارج بلادهم فعرفهم حق المعرفة، ورأى وسمع واختبر وخرج من كل ذلك برأي صائب ونتيجة صحيحة، ذلك أن الإنجليز هم الإنجليز في بلادهم وخارج بلادهم. فالذهب لا يكون ذهبا في مكان ما ثم إذا انتقل إلى مكان آخر اصبح حديداً. هذه خرافة أثارتها الدعاية الإنجليزية لتستر خزيها ولؤمها وإجرامها في بقاع الدنيا، وإذا استمعت إلى الإنجليز في بلادهم وسألتهم الرأي الصحيح في (انهم مثاليون في قيم النزاهة ومعايير الخلق، وموازين الإنسانية، والضمير. . .) لشكوا في ذلك كثيراً، ولحسبوا أن غيرهم المقصود بهذه النعوت.
والإنجليزي إنسان شرس، متوحش الطبع، وقد زيف ظاهره ببرودة مصطنعة وتباله مقصود، يخيل لمن يراه أنه قديس من القديسين. وهو في بلاده مخلوق تافه حقير، وخارج بلاده إله يجلس على قمم الألب يحرم ويعطي، يرفع ويخفض، يذل ويعز. وهو في الحالتين المخلوق الذي يحمل بين جنبيه قلباً من الصوان ونفساً متعطشة للدماء.
ويحدثنا علم النفس أن الحياة لا تجمع بين قويين، فإذا كنت قويا بدا لك ذلك الإنجليزي هزيلاً حقيراً ذليلاً، وإذا ظهرت أمامه بالضعف - فالويل لك - انه يتغلب عليك في طرفة عين وكأنه وحش مفترس ينهش أحشاءك بالظفر والناب. وهو إذا أدبرت عنه تبعك، وإذا أقبلت عليه أدار ظهره إليك. هذه حقيقة لم يفهمها رجال السياسة عندنا - وهل عندنا رجال سياسة! - وقد فطن إليها أخصامنا فاستفادوا من ذلك وخرجوا بالمغانم لأممهم وقضاياهم.
ننتقل بعد ذلك إلى صورة رفيعة لعدالة الإنجليز ونبل ضمائرهم وسمو أهدافهم، وهي صورة من مأساة فلسطين. لا تتسع هذه المقالة للتفصيلات التي لا تسعها المجلات. وإنما ترسم بعض الخطوط الرئيسية رسماً سريعاً لتعين القارئ على فهم المأساة التي تقدمها مثلاً
على عدالة الإنجليز.
حلم هرتسل في أواخر القرن التاسع عشر برجوع اليهود إلى أرضلميعاد، واستحال هذا الحلم على يد حاييم وايزمان - المحاضر في جماعة منشستر عام 1917 إلى وعد بلفور ذلك الوعد الذي يجمع بين الماء والنار: يعطي العرب الأمان والاستقرار في فلسطين، ويمنح اليهود دولة بكل مفهوم معاني الدولة وراء كلمات كاذبة سطرت في ذلك الوعد للخداع والتضليل. ذكر السر هربرت صموئيل - أول مندوب سام يهودي على فلسطين في مذكراته - أن اليهود طالبوا بوطن روحي وأن الإنجليز أصروا على إعطاء دولة يهودية، وقد احتج عقلاء اليهود على هذا الكرم البريطاني لعميق اعتقادهم أن إنجلترا لا تحفظ الود لإنسان في الدنيا، وإنهم إنما يدبرون كارثة رهيبة لليهود مجتمعين في مستقبل قريب أو بعيد.
وأقبل اليهود في ظل الحرب البريطانية، والعدالة السكسونية، والقوانين الظالمة، والبطش والجبروت والإرهاق بما لم يدر في خلد محاكم التفتيش - أقبل اليهود ومعهم الأسلحة، وراحوا يشيدون الثكنات الحربية والمعاقل باسم المستعمرات، ويملئونها بالأسلحة، ويؤسسون المصانع الفتاكة لإنتاج الأسلحة المختلفة، وراح الإنجليز يدربون جيشاً سرياً قوياً من اليهود، حتى إذا ما تم كل ذلك أرادوا أن يجربوا بأس ذلك الجيش، فغضوا الطرف عن إرهابية اليهود وتساهلوا حتى قتل الإرهابيون زهرة شباب الإنجليز. ولما برهن ذلك التلميذ النجيب على جدارته ودعه الأستاذ الماكر وتركه يحل المسألة بالطرق التي دربه عليها، وبعد أن وضع في يديه جميع الحلول.
وتقع مدينة حيفا على سفح جبل الكرمل على خليج عكا، وقد بنى الإنجليز جوفاً هائلا أصبح ممراً لتجارة الشرق والغرب، وانتهت إليه أنابيب الذهب الأسود من العراق يتكرر ويمد الدنيا بالوقود.
وبنى اليهود على سفح الكرمل وقمته أحدث مدينة وأجملها بالقياس إلى أحدث المدن العالمية سموها (هدار كرمل). وأقام الإنجليز في ذلك الجبل - المطل على الميناء تحصينات هائلة من مدفعية ثقيلة للمحافظة على المرفأ ورد الغزاة.
واختار الإنجليز أن تنسحب جيوشهم من مرفأ حيفا وأخذوا يتجمعون من أنحاء فلسطين
ويركبون البحر، وأخذوا منطقة واسعة حول الميناء وحولوها إلى ثكنات تعج بالجنود والعتاد.
وقبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في الخامس عشر من شهر أيار عام 1948 بأسبوعين أو ما يقرب من ذلك - راح الإنجليز يسلمون لليهود المراكز الستراتيجية المهمة قبل انسحابهم منها.
ومدينة حيفا - عروس البحر الأبيض المتوسط التجارية - كانت غاصة بالعرب وتجارتهم، وكان يسكنها مالا يقل عن ثمانين ألفا منهم. وكانت البضائع المكدسة على أرصفة الميناء للتجار العرب لا تقل أثمانها عن عشرين مليونا من الجنيهات، وكان العرب يملكون في تلك المدينة من نقود ومتاع ومجوهرات بما نقدر قيمته بثلاثمائة مليون من الجنيهات.
وأقبل المساء - ذات ليلة - وأقفل العرب حوانيتهم - وقد كان كاتب هذه السطور شاهد عيان في تلك الأمسية - وعادوا إلى منازلهم وناموا آمنين، لأن الجيش البريطاني بكل قوته يجاورهم في الميناء.
وفي الساعة الرابعة صباحاً أو ما يقرب من ذلك، سلم الإنجليز لليهود المواضع الحربية المهمة التي كانوا يحتلونها في المدينة وعلى جبل الكرمل بكل ما فيها من عتاد، وانسحبوا سراً في هدوء تام إلى منطقة الميناء وجلسوا يشاهدون التمثيلية.
وأوعزوا إلى اليهود، فراحت عشرات الألوف منهم، وقد حملت الأسلحة الفتاكة والأوتوماتيكية، تشد أزرها المدفعية الثقيلة التي وضعت لرد الغزاة عن الميناء - راحت المدفعية الثقيلة واليهود يشنون هجوماً مركزاً وحشياً على العرب النائمين في بيوتهم وما هي إلا لحظات حتى كانت الأحياء العربية بأسرها أتوناً يحترق. وأفاق من الناس مذعورين وراحوا يتراكضون إلى الشوارع عراة كما كانوا في فراشهم، وأخذ اليهود يفتحون لهم الطريق إلى الميناء بالرصاص ليموتوا غرقا - كل ذلك والجيش البريطاني يشاهد المأساة - مأساة ثمانين ألفاً من النساء والأطفال غير المسلحين يذبحون ذبح الماشية، فكان منظر نيرون وهو يشاهد روما بعد أن أمر بحرقها، أكثر إنسانية من منظرهم وتسامع العرب في المدن والقرى المجاورة بمأساة إخوانهم فهرعوا من كل فج عميق فوجدوا الطرق
المؤدية إلى المدينة قد سدتها دبابات الجيش البريطاني الثقيلة، وراحت تطارد النجدات العربية برصاصها وتؤكد لهم أن الجيش في المدينة قابض على ناصية الأمن، وأن ليس في المدينة أي شيء يستوجب القلق والاضطراب، فعادت الجماهير على أعقابها مرغمة وهي تؤمن بصدق ما قيل لهم.
هذه هي المأساة التي شاهدها أكثر من أربعين ألفاً من الجنود البريطانيين، وهم يرون أمام أعينهم النساء والأطفال يجندلون ويحرقون وهم لا يحركون ساكناً، وكانوا إلى جانب المأساة ثملين يغنون على أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ ويراقصون الفتيات الإسرائيليات، ويفتكون بأعراض الفتيات العربيات المذعورات اللائى خرجن من مخادعهن نصف عاريات.
بغداد
(أمير)
رسالة الشعر
عبقرية الفن
للأستاذ أنور العطار
وهبت لك الفكر الذي مضه الأسى
…
فأغنيت أحلامي وجددت لي فكري
أيا زهرات الفن حييت من زهر
…
ويا عطرها ما كان أبقاك من عطر
منحتك قلبي وارتضيب بشدوه
…
وليس لدى العشاق سلوى سوى الشعر
وعذبني الشعر الطروب بدله
…
فأيقنت أن الدل ضرب من السحر
فغنيت كالأطيار والفن روضتي
…
كأن أهوى ما أغنى ولا أدري
وما كنت ممن هام بالخمر فانتشى
…
ولكن إنشادي ألذ من الخمر
حمام على أيك، ونور على ندى
…
ونحل على زهر، وعود على صدر
رفيف من الأحلام في هدأة الدجى
…
يهيمن كالأذكار في معية الفجر
أطوف بحانات الفنون معربداً
…
وما شفني سكري ولا رابني أمري
وأقتات بالأنغام والشعر هانئاً
…
كأني خيال هام بالأنجم الزهر
مواكب من أحلى الليالي شهدتها
…
أطلت تناجيني كطيف الهوى العذري
وقلبي بدنيا الحب غيان سادر
…
يحلق في أوج السعادة كالنسر
فقير ولكني من الفقر في غنى
…
وفي العسر ما ينسيك بحبوحة اليسر
أردد لحن الملهمين وأجتني
…
من الشوك إكليلا بتيه على الزهر
ألا أيها اللحن الذي ظل عازفا
…
بغيب به جهري ويبدو به سرى
وهبت لك الفكر الذي مضه الأسى
…
فأغنيت أحلامي وجددت لي فكري
أقول لمي - والحياة علالة -
…
ومية مهوى الروح في الوصل والهجر
ليهنئك أن وشيت عمري بالأسى
…
ورصعته يا مي بالأدمع الحمر
لآلئ ما جاد الزمان بمثلها
…
ولا عرفت أسراوها لجة البحر
تتوق إلى إحرازها كل غادة
…
وترنو إلى أنوارها مقلة العصر
ولولاك ما حن الفؤاد ولا شدا
…
ولا خط في القرطاس سطراً على سطر
فأنت التي أولتني نعمة الهوى
…
كبيت يحن الشطر فيه إلى الشطر
وأنت التي غنيتني الشعر خالداً
…
ووشحت أحزاني بآياتك الغر
وصيرت أيامي ظلالاً رخية
…
وقد كنت منها في محول وفي فقر
أعيش من الإبداع جذلان بالمنى
…
وأحياء من الإلهام في نائل غمر
كأني هادنت الردى وأمنته
…
فأمرع كرمي واستساغ الطلى ثغري
ربيع غنى بالأغاويه والشذا
…
يميس من الإدلال باليانع النضر
ونهر من الآمال يجري بخاطري
…
وفيض من النعماء في أضلعي يسرى
غبرنا على الدنيا تروعنا النوى
…
كأنا خلقنا للعذاب وللذعر
فإن نحن جزناها صحاحا من الجوى
…
فما حن مأسور إلى ربقة الأسر
نهارك يا دنيا كتاب محجب
…
وليلك يا أخرى مطاف من البشر
ومن خبر الأفراح في عالم الرؤى
…
أقام عليها لا يهنه بالزجر
بنفسي بقايا من حنين وغبطة
…
تلوح كلمع الضوء في صفحة النهر
تدافعت الأمواه فيه كأنها
…
عرائس أفكار مللن من الصبر
هنا الفرحة العظمى فكل لذاذة
…
سوى لذة الإلهام تمضي مع العمر
فإن تتمن الخلد أو تبتغ العلا
…
فعش للندى والبر في السر والجهر
ألم تر أن الله صاغك شاعرا
…
وأقنع من جاراك بالبذل والفقر
وخلت الغنى لهواً لقوم تناهبوا
…
وبدد أرباب القساوة والكبر
وما الأمر في الأحقاب إلا مفكر
…
يظل بآيات النهي خالد الذكر
سلام على الدنيا فما هي نغية
…
إذا أنت لم تشرب رحيق الهوى البكر
ولم نحن للإلهام والحق والعلى
…
منيراً سماء الفكر كالكوكب الدري
فما أنت إلا صورة الخير في الورى
…
تميل إلى عرف وتعرض عن نكر
وترسم للدنيا سبيلاً إلى الهدى
…
لعل جمال الروح يقوى على الشر
تزينك أخلاق حسان كأنها
…
خلاصة أزهار العدالة والطهر
يعيش بنو الدنيا بناب ومخلب
…
وأنت بلا سهم يراش ولا ظفر
يحوطك أرواح لطاف حبيبة
…
فمن حلل بيض إلى حلل خضر
فليت الفتى يلقي بأحلامه الغنى
…
وتكسب من ألحانه أعظم الأجر
كأن على قيثاره روح بلبل
…
حبيس يمني النفس بالدوح والوكر
إذا حن سال الشعر لحناً مسلسلاً
…
وظلت عيون الحب من قلبه تجري
إذا البدر لم ترسمه ألوان شاعر
…
ولم تسقه سحراً فما هو بالبدر
وما الحب لو لم تجله كف بارع
…
سوى الذل والهم المبرح والقهر
وما القلب ما هذا الصراع الذي به
…
وهل هو إلا العفر عاد إلى العفر
وما أنت يا دينا ألست قرارة
…
لما يفجأ الإنسان من أعجب الغدر
فيا حانة الأيام حسبي أنني
…
كتاب العمر سكراً على سكر
نذرت لك القلب الرهيف من الجوى
…
وما كان أغلى في سبيل الهوى نذري
وضعت لك الأشعار تندى عذوبة
…
أحب إلى الأسماع من نغمة القمري
هو الفن قد ألقى على الكون ظله
…
فاشرق وجه الأرض بالممتع المغري
وكم زال تاج واستبيحت ممالك
…
ولكن تاج الفن باق على الدهر
دمشق
أنور العطار
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
فلم (الوعد الحق)
أشرت منذ أسابيع إلى مشروع فلم سينمائي يستقي من قصة (الوعد الحق) التي وضعها معالي الدكتور طه حسين بك ونشرتها دار المعارف في يناير الماضي. والذي فكر في هذا المشروع هو الأستاذ إبراهيم عز الدين على أثر عودته من الخارج، إذ كان يدرس فن السينما في إحدى الجامعات الأمريكية، فقد قرأ القصة، ثم اتصل بمعالي الدكتور طه وعرض عليه أن يعدها للإخراج السينمائي، فوافق معاليه بعد بحث الموضوع وبعد أن اقتنع بإمكان هذا العمل.
والقصة تتعرض أولاً بالتحليل والعرض لحياة طائفة من الأرقاء والمستضعفين الذين كانوا يعيشون في مكة قبل ظهور الإسلام وعند ظهوره، وتتبعهم من منشئهم وإقبال الطارئ منهم على مكة والعناية خاصة بعلاقاتهم بسادتهم وأحلافهم وإبراز الناحية الإنسانية في هذه العلاقات، والتمهيد في ثنايا ذلك لاستقبال هؤلاء الضعفاء الدعوة الإسلامية لدى ظهورها بشوق شديد، فهم قوم صفت نفوسهم واستعدت أرواحهم لتقبل هذه الدعوة، وقد تعطشوا إليها لما رأوا من ضلال سادتهم وما أنكروا من فوضى العقائد السائدة، ولما يرجون على يدي الدعوة الجديدة من المساواة والحرية والإخاء الإنساني إذ لا يفضل أحد أحداً إلا بعمله وكفايته
وتأتي بعد ذلك الخطوة الثانية التي مهد لها، وهي ظهور الإسلام وإسراع أولئك إلى الدخول فيه. وهنا يلتفت إليهم التاريخ ليسجل في صفحاته ما أظهروه من الجلد وما أخذوا أنفسهم به من الصبر والثبات على اضطهاد طغاة قريش واستبدادهم بهم وتعذيبهم إياهم، لا يثنيهم شيء من ذلك عما أخذوا فيه ولا ينال من إيمانهم أي منال.
وتسير الدعوة في طريقها، ويقوى المسلمون، ويعز بالإسلام أولئك المستضعفون، ثم يصيرون أئمة وأمراء في الدولة الإسلامية الديمقراطية، ويتحقق ما وعدهم الله به، ووعده الحق، في قوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا
يحذرون)
ذلك موضوع القصة ومرماها، وقد وفاه قلم الدكتور طه حسين حقه من التصوير الأدبي والتبيين الكتابي. والمرجو أن يبرزه فن السينما بوسائله ويدينه من جماهير الناس ليرجع بهم إلى مثل الإسلام العليا، ونرجو أن يكون الوقت قد حان لأن ننتفع بهذه الوسائل الحديثة، التي تتخذ للاتصال بالجمهور والتأثير فيه وإمتاعه بالإنتاج الرفيع، في شؤوننا الجدية وتاريخنا المجيد. ولا شك أن هذه الفترة التي تعرض لها قصة الوعد الحق هي أعظم فترة في تاريخ المسلمين. وقد رأينا على الشاشة أفلاماً كثيرة تعرض نواحي مماثلة لموضوعنا في الدين المسيحي، وهي أفلام عالمية لا يقتصر الإعجاب بها على المسيحيين وحدهم، فقد شاهدناها نحن في بلادنا وأخذنا بروعة ما تعرضه من الكفاح والصبر والثبات على الإيمان. ونحن الآن مستبشرون بهذا المشروع لعله يتمخض عن فلم يعد من هذه الأفلام العالمية فيرفع شأن الفن المصري كما يرفع شأن الإسلام والمسلمين.
ومن حيث أن الفلم يقدم شخصيات جليلة كعمار بن ياسر وأبويه وبلال وصهيب وغيرهم، فقد اقتضى الأمر أن يستأذن في ذلك رجال الدين، فأذن صاحبا الفضيلة مفتي الديار المصرية الحالي والمفتي السابق، وأظهرا استحساناً شديداً له.
وقد أعد (السيناريو) وضعه أولاً الأستاذ عز الدين، ثم راجعه معالي الدكتور طه وأقره بعد جهد كبير. وسيبدأ بالتصوير والإخراج باستديو مصر في منتصف سبتمبر القادم، ويقدر لتمام هذا العمل نحو شهرين يكون الفلم بعدهما معداً للعرض، ويجري الحوار بلغة عربية فصيحة تجمع بين السهولة وسمات اللغة التي كان يجري الخطاب بها في عصر القصة.
وهو فلم ثقافي، لا تهريج فيه ولا ابتذال بطبيعة الحال، ولكنه لن يخلو من عنصر المرح، وذلك بسخرية الحوادث من أعداء الدعوة الإسلامية، وعرض بعض مباذلهم في الحانات وما فيها من غناء ورقص القيان، كما تقدم أغان بدوية.
والذي يقرأ القصة المكتوبة يتوقع ما سيكون عليه الفلم من سبك السرد والتشويق يحسن الترتيب والمفاجآت.
وستؤخذ بعض المناظر في الحجاز، على أن أكثر المناظر سيعتمد فيها على الوصف التاريخي كدار الأرقم بن أبي الأرقم التي كان يجتمع فيها المسلمون في أول عهد الإسلام
وكذلك ملابس البدو والحضر في زمان القصة.
ويشترك في التمثيل عدد كبير من الممثلين والممثلات ومما يهتم به الآن البحث في إسناد الأدوار إلى اللائقين لها، وهي ناحية مهمة جداً يتوقف عليها مدى النجاح في تقديم شخصيات القصة، وهي أيضاً ناحية عسيرة فقد جرى الأمر في الأفلام المصرية حتى الآن على أن يضع المؤلف القصة بحيث (يفضل) أدوارها على قدود الممثلين والممثلات الذين يشتركون في التمثيل، فهو يضع دوراً لهذا المضحك، ودوراً لهذه الراقصة و. . . الخ.
أما نحن الآن فبازاء عمل آخر، وضع كما جرت الحياة وكما اقتضى الانفعال الفني، فليس هنا إلا حسن التصرف في الاختيار وضع كل في موضعه والتوفيق هو أول وآخر ما يرجى.
بين الدكتور زكي مبارك وسكرتير تحرير الرسالة
كتب الدكتور زكي مبارك في (البلاغ) كلمة تعرض فيها لما كنت أخذته على الأستاذ محمود غنيم من تشبيهه معالي الدكتور طه حسين بك بابن العميد، وقد بدأ الدكتور مبارك كلمته بكلام ذكره قبل ذلك غير مرة، قال أنه كان يشترك في تحرير (الرسالة) ثم وقع بينه وبين صاحبها خلاف، وقال أن المجلة (الرسالة) لا تذكر اسمه لذلك. . . وأنا أعجب من الدكتور زكي مبارك كلما ذكر ذلك، فإن الأستاذ الزيات يحبه ويذكره بالخير دائماً، أما هو فتراه يتحدث عما بينهما من خلاف مزعوم، إلا أن يكون خلافاً من جانب واحد هو جانب الدكتور زكي مبارك! وقراء الرسالة يشهدون أن اسم الدكتور زكي مبارك ليس ذكره محرماً في المجلة. . . وكثيراً ما يرد في باب الأدب والفن خاصة وأذكر أن آخر مرة جاء فيها سام الدكتور زكي مبارك يوم قلت أن أنكر على الأستاذ محمد عبد الغني استعمال مجداف السفينة زاعماً أن كلمة (مجذاف) خطأ، وقلت أن هذه التخطئة لا تليق بالدكتور زكي مبارك الذي يطالب بعضوية المجمع اللغوي، لأن الاستعمال صحيح والكلمة معروفة لا تحتاج إلى الغوص.
ويسميني الدكتور زكي مبارك في كلمته (سكرتير تحرير الرسالة) وأنا لست إلا محرراً بها فقط.
قال الدكتور زكي مبارك: (القضية أن المعلمين أقاموا حفلة تكريم لمعالي الدكتور طه
حسين بك في ناديهم، وأن الأستاذ محمود غنيم ألقى قصيدة زعم فيها أن الدكتور طه أعظم من أبن العميد. وهنا يقول سكرتير تحرير الرسالة ومن هو أبن العميد؟ أنه أصغر من أي كاتب من كتاب الطبقة الثانية في عصرنا هذا وسبحان من أنعم على سكرتير مجلة الرسالة بنعمة الجهل! أن أبن العميد سيظل أعظم كتاب اللغة العربية، وعلى ذلك الجاهل أن ينظر في كتاب النثر الفني وهو موجود بمكتبة الرسالة، وفيه أطلت الشرح لحقيقة الرجل الذي خلعوا عليه لقب الجاحظ الثاني)
وأنا إذا كنت (أجهل) أبن العميد فما أراني بحاجة إلى أن أعرفه من كتاب النثر الفني مادام صاحبه يقول عنه أنه أعظم كتاب الغلة العربية! وسبحان من أنعم على قائل هذا بنعمة العلم! ألا يعلم صاحب النثر الفني أن أبن العميد أستاذ المدرسة التي أفسدت الكتابة العربية؟
وأنا أعني بإنكاري على الشاعر التشبيه بابن العميد وجعله مثلاً في الكتابة - أن المقارنة لا وجه لها، لأن الكتابة العربية المزدهرة في هذا العصر أصبحت شيئاً آخر غير ما كان يكتب أبن العميد وأضرابه فالعصر غير العصر، والكتاب الآن يتناولون شئون الحياة ويعنون بأهدافهم من الكتابة على نحو بعيد جداً مما كان يصنع أولئك الكتاب.
وليت شعري ماذا ترك الدكتور زكي مبارك لنفسه حينما قال أن أبن العميد أعظم كتاب اللغة العربية؟! هل يستطيع أبن العميد أن يكتب صفحة (الحديث ذو شجون) بالبلاغ. .!؟ وهل أنا (جاهل) إذ أقول أن الدكتور زكي مبارك أكتب من أبن العميد!.
ويقول الدكتور زكي مبارك: (ويقول سكرتير مجلة الرسالة ومهما يكن من شيء - كما يعبر عميد الأدباء - فإن. . . ومعنى هذا أن عبارة (ومهما يكن من شيء) من مبتكرات الدكتور طه حسين، وليس هذا بصحيح، فهي من مبتكرات سيبويه في الكتاب).
وأنت تراه يفسر ويرد على تفسيره. . . فأنا أقصد أن العبارة من لوازم الدكتور طه حسين، ولم أقل إنها مبتكراته، ولكل كاتب أو لأكثر الكتاب، ألفاظ يكثرون استعمالها، وليست هذه الألفاظ من مبتكراتهم، وينفرد الدكتور زكي مبارك بلوازم أخرى غير تكرار الألفاظ، منها أن يكرر الخلاف المزعوم بينه وبين صاحب الرسالة، ومنها حكاية الحفلة التي أقامها المغفور له محمود بسيوني بك لإصلاح ما بينه وبين الدكتور طه، ومنها أنه من سنتريس. . . الخ.
ولم يبين الدكتور زكي مبارك - لنستفيد من عمله - كيف أن عبارة (ومهما يكن من شيء) من مبتكرات سيبويه، وهل جاءت في سباق تعبيري، أو جاءت عند تفسيره (أما) بأن معناها (مهما يكن من شيء) وهل يعد هذا ابتكاراً ونحن في معرض الأسلوب الكتابي؟
ومن استطرادات الدكتور زكي مبارك في هذا الصدد قوله (وكان سكرتير مجلة الرسالة طفلاً يحبو حين نشرت في جريدة المقطم سنة 1927 مقالات بعنوان أغلاط سيبويه)
وماذا لو كان ذلك؟ لقد شببت بعد وقرأت له كثيراً ومازلت أسأل الله له طول العمر مع الصحة والعافية.
عباس خضر
البريد الأدبي
حول الأزهر: اقتراح
ليعلم أستاذتي وإخواني الأزهريون أنني لا أريد إلا الخير للأزهر. وأنا
كأزهري يعتز بأزهريته أرجو أن يتقبل ما يكتبه الكاتبون حول إصلاح
الأزهر بقبول حسن. وليس من ضير أن بنقد الناقدون ويقترح
المقترحون. فالنقد وسيلة إلى الإصلاح. ونحن نريد أن يقابل هذا النقد
بصدر رحب ويدرس دراسة شاملة. بذلك يكون هناك تجاوب بين
الجهتين التي تنقد والتي تدرس النقد وتعرضه على بساط البحث.
أنا أعرف أن هناك طائفة من أساتذة الأزهر كلفة بالإصلاح داعية إليه من زمن بعيد. وقد لمسنا بأنفسنا ما أبداه الطلبة من رغبات ملحة في إصلاح برامج الأزهر؛ فلماذا لم يتضافر أساتذتنا الداعون إلى الإصلاح فيتقدموا باقتراحات تنهض بالأزهر وتنزله منزلة تليق بجامعة من أقدم الجامعات في العالم؟ ونحن نتقدم في هذا المقام باقتراح متواضع نرجو أن يحظى بالدراسة والقبول.
لكي ننهض بالدراسة في معاهد الأزهر الابتدائية والثانوية أرى أن يعلن الأزهر عن مسابقة يعلن فيها رغبته في تقديم مؤلفات حديثة في المواد التي تدرس في هذه المعاهد ورأيي أن هذا الإعلان يحدث منافسة محمودة بين أساتذة الأزهر ويمهد للإصلاح سيره الطبيعي. قم أقترح يا سادتي أن تدرس اللغات الأوربية ابتداء من السنة الأولى الثانوية، بذلك يخرج الأزهر علماء محيطين بثقافات مختلفة يشقون طريقهم في الحياة الاجتماعية بنجاح. وفضلا عن ذلك فإن الأزهر يستطيع أن يحقق رغبات الطلبة فيقنع وزارة المعارف بإنشاء أقسام للعلوم العربية في معاهد المعلمين الابتدائية يقبل فيها الطلاب حاملو الشهادة الثانوية من الأزهر.
أما عن الدراسة في الكليات فقد قلت سابقا أنه ينبغي أن ترتقي بهذا الجانب من التعليم الأزهري وتضفي عليه الصبغة الجامعية. وهنا أذهب بعيداً فأرى أنه يجب أن تطبق المنظم المعول بها في الجامعات المصرية على كليات الأزهر. ولقد رأى رأيي هذا بعض
الأساتذة، ورأوا أن تهذب البرامج، ويتقدم أساتذة الكليات بمؤلفات حديثة توائم رقي العصر. ثم أرى أن تكون الشهادات التي تمنحها كليات الأزهر هي نفسها الشهادات التي تمنحها كليات الجامعات المصرية، ويستتبع ذلك أن توجد دراسات عليا على نمط مثيلاتها هناك، وأن توجه البعوث إلى مختلف الجامعات الأوربية ويكون أعضاؤها من حاملي الليسانس من كليات الأزهر
وبعد فهذا رأيت رأيته أجملت به ما رسخ في اعتقادي. وقد يراني إخواني غالياً في رأيي ولكني أعتقد أنه لا بد من هذا التجديد ليتحقق الإصلاح الحقيقي للأزهر معاهده وكلياته. بذلك نجد الأستاذ الصالح والكتاب الصالح ونساير ركب الحضارات ويقف جامعتنا الإسلامية الكبرى الخالدة في مصاف أرقى الجامعات.
أزهري عجوز
إلى الأستاذ أبورية
سلام عليك ورحمة الله ووفقك لاستخراج الكنوز الرافعية العبقرية الإسلامية لتتم بها نهضة العقلية الممتازة في الشرق.
وبعد فإن بشرى رسائل الرافعي قد لفتت قلوب الواعين فأثنوا عليك ثناء جميلاً وودوا لو انضم إليك في عملك النبيل بقية الفضلاء الأدباء الرافعيين ليكملوا نشر آثار إمامهم الفذ كما كان من عمل الذين حفظوا الأدبين الخالدين: أدب الشيح عبده وأدب تيمور، على أنهم يعلمون أن أدب الرافعي هو أدب الغد في تمامه ونضجه وأن مكان صاحبهم في العرب يقابل مكان إقبال صاحب (الباكستان) ولكن هذا هنالك وذلك هنا. . . انهم يعلمون أنه صاحب (أسرار الإعجاز) الذي بنى فيه علم البيان العربي بناء يناسب عصر الذرة كما يقول الصديق الأستاذ منصور جاب الله، وأنه لحق، فإن التحليل الرافعي لمسائل البلاغة هو تحليل ذري. . .
لقد قسم الذرة في بلاغة العربية، وما من ريب في أن الأستاذ الكبير سعيد العريان يعلم أن الرافعي حقق (ديموقراطية الأدب) في عبقريته الخالدة (أغاني الشعب) ومن يعرف هذا أن لم يعرفه سعيد؟ - أسعد الله به الأدب - فإنه جهينة هذا الأمر وأرجو أن يبقى كذلك دائماً.
وبعد فيا أيها الأستاذ أبو رية امض قدما فقد سرت بك العربية والسلام.
محمود الطاهر الصافي