الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 894
- بتاريخ: 21 - 08 - 1950
فلنهدم الجامعة.
.!
للأستاذ محمد محمود زيتون
إذا أردنا أن نلغي بجرة قلم أربع جامعات مصرية رفعنا سمكها في خلال نصف قرن من الزمان. . . فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا أن نعود القهقري إلى استبداد (دنلوب)، وفتنة (كرومر). . فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا أن نرجع غل كهوف الكتاتيب، ونتحاشى أشعة برج الساعة. . فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا أن نتخلف عن مواكب المدنية، ونطمس في الوجود مجدنا الباذخ. . فلنهدم الجامعة.
الجامعة. . التي هي (جامعة فؤاد الأول). . فؤاد: ملك مصر المستقلة، وهادم الاحتلال بمعول العلم، ورافع اللواء الأخضر فوق الحصون والمنشئات، والطائرات والباخرات. .
الجامعة. . التي نستعد من الآن لعيدها الذهبي، فنذكر أيامها الخالدة، فتعاودنا ذكريات القبة الكبرى، وبرج الساعة العالي، وقاعات المكتبة الزاخرة، ووقار الأساتذة الأجلاء، ونشاط الشباب الأطهار.
الجامعة. . التي تمثلت فيها (الوحدة القومية) عند إنشائها، وائتلفت عليها عناصر الأمة المصرية، كما اجتمعت كلمة الأمة العربية على بناء الكعبة. . فكانت كعبتنا مثابة العلم، وموسم الأمن، مهبط القصاد من كل فج عميق.
الجامعة. . هي أخت الجامع في رسالة النور، وبنت النيل في الخلود الدافق، وأم الأمة في النشء والنشأة.
في دم كل خريج غليها حنين. . ولكل أزمة منها علاج. . وما أكثر بنيها وبناتها. . وما أسمى تعاليها على الأحداث، وارتفاعها عن صوت الفناء، أو كما يقول (بوجليه) المؤمنون يموتون والكنيسة تبقى ، ' فإذا نحن تنكرنا لهذه الأم الولود الودود،. . فلنهدم الجامعة.
وإذا نحن أصخنا للأراجيف، واستجبنا للمتخرصين، واستنمنا للأحاديث الأباطيل. . فلنهدم الجامعة.
ذكريات مزاجها البطولة في الجهاد، وأصداؤها العزة والكرامة والوطنية.
هذا أديب العروبة طه حسين، رائد الشرق الحديث إلى منابع المعرفة، ورافع مشعل الحرية
الفكرية، وحامل أختام الشرق والغرب، من منا سمحت له نفسه أن يطأ الحرم الجامعي قبل أن يكون قد قرأه في كل ما دبج وكتب، وسمعه في كل ما أذاع وخطب، طه. . الذي حطم حواجز الجمود بثورة الفكر، وقوة المنطق، وإيمان المناضل، فينقب عن امرئ القيس، ويتعقب أبا العلاء في محابسه، ويشك مه ديكارت، ويتفلسف مع أبن خلدون، ويتأمل مع يول فاليري، ويترجم لأرسطاليس.
طه. . . الذي توسط عقدا يتلألأ بأحمد أمين، ومصطفى عبد الرازق، وعبد الوهاب عزام، وعبد الحميد العبادي، ومحمد عوض محمد، وكراوس وشاخت ولالاند، فتتسع المدارك، وينجلي التراث، وإذا بالعالم كله فراشات تحوم حول الأشعة الفضية، تزجيها إلى الدنيا شمس قدسها (إخناتون) وضفر منها عصابة (ابن العاص)
طه. . . عميد الآداب، الذي تقصده أم طالب في الزراعة، أرملة ترجوه أن يسعى لها لإعفاء ابنها من الرسوم الجامعية، ولكن اللائحة تصد طه، فيضع سماعة التلفون ويهنئ الأم بمجانية الابن، فتخرج له داعية بالخير، وإذا به يرسل سكرتيره على الفور ليدفع للزراعة ما أخرجه عميد الآداب من جيبه الخاص حتى لا يشعر الأرملة بجرح على جراح.
وأحمد أمين القاضي العادل، والمربي الفاضل، وتلميذ عاطف بركات، وسليل القضاء الشرعي، استقصى حياة الفكر في الإسلام من فجره إلى عصره، وبعث في الشباب الأحرار روح البحث عن الماضي، فتضوع كالعطر بين عطفيه، وانبثق كالماء من بين أصابعه وفلسف الأدب، وأدب الفلسفة.
هذا العميد الفنان الذي ملأ السمع بعذب حديثه، وزاخر علمه، لم يكن يرفض على جلال سنه دعوة إلى موسيقى بنادي كلية الآداب، ولا يضيق صدره الرحب بمعارضة من أبنائه الطلبة في مناظرة، وثغره يبتسم حتى يبدو ناجذاه، إذ يحاكيه أحد طلابه في حفل سامر.
وعبد الوهاب عزام يدرس الأدب الفارسي والتركي، ويشرف على أسرة الشعر، ويدعو سكرتيرها - كاتب هذه السطور - إلى بيته بالروضة ليعرض عليه برنامج الليلة الكبرى لمباريات الشعر بين الطلبة والخريجين، فيقول لهم فيما يقول:
(أبنائي الشعراء، كونوا شعراء عرباً، أو عرباً شعراء)
أما بيته فهو - والحق يقال - (بيت من الشعر لا بيت من الشعر) إذ زينت جدرانه برسوم من رمال وجمال، وبصورة العروبة في محافلها ومحاملها، ومنها يستوحي التواليف التي جادت بها قريحته من ترجمة (الشاهنامه) للفردوسي، وتاريخ (مجالس السلطان الغوري) وغير ذلك وذاك.
وكنا طلاب فلسفة، فكيف ندع فرصة في حياتنا الجامعية دون أن ننتهزها؟. . لم يكن يهون علينا أن نتخرج قبل أن ننهل من كل الينابيع، وإن اختلفت شراباً ومذاقاً.
استمعنا إلى الخولي في البلاغة وأدب القرآن. وإلى غربال في الثورة الفرنسية، وإلى العبادي في التاريخ الحديث، وإلى مندوري في أساطير الإغريق، وإلى مصطفى عبد الرازق في الفلسفة الإسلامية، وإلى عفيفي في التصوف والمنطق والأخلاق، وإلى غالي في فلسفة الذرة.
وانتزعنا من الأزهر الملازم الصفراء، وانغمسنا في المخطوطات وتهنا بين الحواشي والمتون، ودرسنا مع الشيخ مصطفى عبد الرازق (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام) للسيوطي وإن كانت حلقة في الدرس من أساتذتنا وطلبة الدكتوراه ولكن كيف يفوتنا درس الشيخ، مع أننا كنا لا نزال بالسنة الثانية من قسم الليسانس، وكيف لا تلتقي ثلاثة أجيال في ساعة. أنه العلم الجامع في رحبة الجامعة.
ونشهد أول درس في معهد الصحافة يفتتحه به الأديب الصحافي طه حسين. .
ونتعلم الألمانية على يدي (فراو يزج) التي كانت تقول لنا وهي العجوز الشمطاء (انطقوا بالألمانية كما تنطق المدافع بالقذائف.
ونقيم حفلاً فلسفياً يحضره القدامى والمخضرمون والمحدثون من الفلاسفة والمتفلسفين جميعاً، فيقف لطفي السيد ليقول كلمة في ذات موضوع، ويتحدث منصور فهمي عن مشخصات الفن وفلسفة الجمال، ويتكلم مظهر سعيد عن الفلسفة الكذابة.
ويحاضرنا مدكور وهو أستاذ الفلسفة وعضو مجلس الشيوخ ونخرج في الحديث معه عن (جدول الأعمال)، ونعالج مشاكل المجتمع، وليس في ذلك أدنى مخالفة للائحة المجلس والجامعة.
ونعقد مناظرة حول حق الطالب الجامعي في الاشتغال فأقول فيها مؤيداً ومرتجلاً: (أيها
السادة، في مصر قبتان، الجامعة والبرلمان، ولعمري لئن ماتت الحرية في إحداهما أو كلتيهما فعلى الحرية وعلى مصر السلام)
ويرأس اللواء صالح حرب مناظرة بجمعية الشبان المسلمين موضوعها (نحن أحوج إلى القوة المعنوية منا إلى القوة المادية، يتولى التأييد طلبة الجامعة المصرية، ويتولى المعارضة طلبة الجامعة الأزهرية، عن كل كلية في الجامعتين طالب يمثلها.
وتخصص يوماً للشيخ محمد عبده يتولى برنامجه الدكتور عثمان أمين فنزور معه بيت الإمام بعين الشمس، وقد أهداه إليه مستر بلنت صاحب كتاب (سر الاحتلال الإنجليزي في مصر)، وفي هذا اليوم الراحل، تنكشف لنا مفاخر الإمام في الوطنية والفلسفة والإصلاح، وبذلك نتعلم في الرحلات كما ندرس بالقاعات، فنعيد ذكرى ارسطو والمشائين.
وإذا كان العقل نعمة الله على عباده، فليكن من موجبات شكر النعمة أن نتفهم المعنى الدقيق لقول الشاعر (وبضدها تتميز الأشياء) ولنذهب إذن في صحبة أستاذ علم النفس الدكتور الأديب والطبيب الفيلسوف مصطفى زيور إلى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، يعرض علينا ألوان المجانين، فنتعلم منهم ما لا نتعلم من العقلاء، وهنا فقط تكذب النظرية القائلة (فاقد الشيء لا يعطيه) ونحن حيارى إزاء هذا العقل: مفقود هو أم موجود؟ ولله في خلقه شئون.
ونمضي سراعاً إلى زكي مبارك يحاضر بجمعية الشبان المسيحيين في موضوع (تشريح آراء الدكتور طه حسين)، ويدعي أنه يكشف النقاب عن سر عظمة طه، التي مرجعها أساطير شاعت بين الناس كتلك القصيدة التي قالها طه في هجاء شيوخ الأزهر الذي أسقطوه في امتحان العالمية، والتي عنوانها (ساعة في الضحى بين العمائم واللحى.) هذا ونحن نجتمع في كل أسبوع إلى جميع أساتذة الجامعة على صفحات (الرسالة) الغراء وأختها (الثقافة) الزهراء، وفيهما للروح والقلب ما لذ وطاب.
وفي آخر العام الجامعي، نقيم الليلة الكبرى لمهرجان الشعر، فكأن عكاظ يبعث من جديد، في أرض الفراعنة، ويلقى فيه الأساتذة والطلبة من جميع الكليات، ما قرضوه من أشعار ولا يفوتنا أن نفاجئ الأوساط الأدبية بقصائد من نظم طه حسين ومصطفى عبد الرازق، ومحمد عوض محمد، ومحمد خلف الله، وعبد الرحمن بدوي.
وتنظم جماعة الجرامافون بكلية الآداب سلسلة من المحاضرات في الثقافة الموسيقية يلقيها الدكتور محمد شرف يشفعها بنماذج من الغناء والموسيقى من الشرق والغرب، قديماً وحديثاً، فيجد فيها هواة الفنون متعة طيبة، وما أروع ساعة الإنصات إلى تلك الألحان، إذ ترى مساء الجمعة فئة قليلة بالنادي، كأنهم في صمت المصلين، ونشوة المتصوفين، وكلهم أذن صاغية، ونفس واعية
ثم نهرع من الجيزة إلى كلية العلوم بالعباسية نستمع إلى مشرفه يحاضر في (نظرية إينشتين) أو يناظر طه حسين، فيقف مشرفة يناصر الآداب، بينما يدافع طه عن العلوم.
ونأخذ حديثاً صحافيا لمجلة (القبس) التي يحررها الطلبة من المارشال الدكتور محجوب ثابت، نقتحم عليه صومعته بالدقي، فإذا به يأخذ علينا خط الرجعة، فنرجع القهقرى دون الدفاع، ثم ندق الإسفين، حتى يخاطبنا عن ظهر دبابة من القافات، ويأخذ بتلابيبي، ويسألني: من أي سلاح أنت؟ فأجيبه غير هياب ولا وجل: سلاح الفلسفة والآداب؛ يا أفندم.
وفي الصباح الباكر، نمتشق الحسام، ونتنكب البندقية، ونحتضن المدفع، نتدرب على الأعمال العسكرية لنكون ضباطنا احتياطيين في جيش الوادي، ونخرج إلى الميادين تتقدمنا الموسيقى والشعب على الجانبين يحيي ويهتف ويصفق، حتى إذا تخرجنا أشعلنا على العدو ناراً، وأزجيناها للعالمين نوراً وهدى.
وتحت إشراف أستاذنا الدكتور علي عبد الواحد وافي ندرس حالة قرية من قرى الجيزة لتطبيق النظريات الاجتماعية على الحياة المصرية، واتخاذ الوسائل الفعالة في الإصلاح، ولا نتخلف عن حضور البحوث الفنية التي تعرضها رابطة الإصلاح الاجتماعي برياسة العشماوي باشا في الجمعية الجغرافية الملكية.
ولإ يفوتنا أن نلبي دعوة الأستاذ مظهر سعيد والسيده حرمه نظلي هانم الحكيم لحضور الصالون الأدبي الأربعائي بدارهما القريبة من الجامعة، ويلتقي هناك قادة الفكر، وأهل الفن، ورجال الأدب والصحافة والسياسة، وأبطال الرياضة، وضباط الهند وأزواجهم، وخريجو جامعات أوربا وأمريكا، وطلبة وطالبات، وأساتذة إنجليز وفرنسيون، وبعد تناول الشاي، تدق السيدة نظلي الجرس الذي لا يفارق يمناها، ويبدأ الدكتور مظهر برنامج الصالون بدعوة الحاضرين للتحدث فيما يخصهم، في بساطة تامة، ويتخلل ذلك العاب
بريئة لاختبار الذكاء، وموسيقى وغناء، حتى يستوعب البرنامج بنوده جميعا في الوقت المحدد، فينصرف المتسامرون وقد نهلوا من مختلف الغذاء الروحي ثقافة منوعة الأطباق والطعوم والألوان.
والجامعة مع ذلك ساهرة على تزويد طلابها بكل نافع لهم في أوقات الفراغ، فتدعو بين الحين والحين أساطين العلم، وجهابذة الأدب، وقادة السياسة، ورواد الصحافة، وأهل الفن، ورجال الدين، ليحاضروا في القاعة الكبرى للاحتفالات بجامعة فؤاد فما كانت تخلو من صوت لطفي السيد وطه حسين والعقاد والمازني، وغالي ووالي ومي وبنت الشاطئ، وأحمد إبراهيم وحسن البنا، وفتحي رضوان وأحمد حسين، ومنصور فهمي وأنطون الجميل وتوفيق دياب.
ونحن الطلبة علينا أن نتخير، وليس لنا أن نتحيز، وعلينا أن نستفيد ونميز وننقد ونستوعب، وليس لنا أن نتعصب وننحاز
ولا تضن الجامعة بعد ذلك كله بالترفيه على الطلبة والشعب جميعاً، فتنتخب أشهر الأفلام وأنفعها، لتعرضها بثمن زهيد جداً فلا يجد الطالب مشقة في الترويح عن نفسه ولا يبعد عن الوسط الجامعي، ولا يفارق الحياة الشعبية، واللهو البريء.
ويستن أحمد أمين سنة جامعية حسنة في بدء كل عام، إذ يعرض للبحث موضوع:(الجامعة كما رأَيتها وكما يجب أن تكون) يتناوب الكلام فيه زملائنا الكبار، من أساتذتنا المتخرجين في الجامعات الخارجية، ولا يخلو الميدان من طالب أو طالبة ليكون المجال جامعاً غير مانع.
تلك هي الجامعة في إطارها الطبيعي، كما عاصرناها، في مدى أربع سنوات انقضت من العمر كلمح البصر، وتفتحت على ربها زهرة الشباب، وتسامت على يديها همم الشباب إلى صهوات المجد، وعرفات العزة، فكانت حصن الأخلاق، ودرع الحياة، ودعامة المجتمع، وهمزة الوصل بين الأستاذ والطالب، والمدرج والشارع، والمنصة والمسرح.
ولم تكن معيشتنا خارج الجامعة إلا جزءاً من صميم البرنامج الجامعي، فقد كانت حياة جمهور طلابها حياة الألفة على أو سع نطاق، وذلك على الرغم من أزمة المساكن التي صادفناها في الحي اللاتيني المصري (بين السرايات)، كان الطالب يزور زميله فلا يكاد
يكون فارق بين المصري والسوداني والسوري واللبناني والعراقي والحجازي والجاوي والهندي والأفغاني والمغربي، ولا يشعر الزميل نحو زميلته إلا بالأخوة وما فوقها، وللعلم كما للدين حرم، ومن دخله كان آمناً، وصدق نشيد الجامعة الذي وضعه الدكتور عبد الوهاب عزام:
جامعة ألفت القلوبا
…
أبا ترانا وأخا محبوباً
واليوم نذكر أم الجامعات المصرية، فنعتز بذكراها في عيدها الذهبي، ونفخر بأفضالها. ولو قد أتيحت لنا في أيام دراستنا، هذه التيسيرات التي تمت وتتم سراعاً لطلبة اليوم في مدينة فاروق الجامعية، لطاولنا الجوزاء. فليهنأ جيل الفاروق بما يلقي وبما سيلقى، بعد أن أصبحت جامعة القاهرة أم النجوم الزاهرة، تتلألأ في ربوع الإسكندرية وأسيوط وطنطا والمنصورة وهذا جيش النور يكتسح فلول الظلام، حتى يسدل الستار على مأساة الجهالة.
وهذا شباب الوادي، يهرع إلى مناهل العلم في شتى جامعات العالم ليعود إلى الوطن المفدى نافعاً ومعيناً.
وهذا هو النشاط الجامعي كما عهدناه، وساهمنا فيه، فاغتذينا وارتوينا.
فإذا أردنا أن ننكص على أعقابنا، وأن نرجع إلى عصر الكتاتيب التي خيمت عليها عناكب الجهل، وآوت إليها خفافيش الليالي السود. فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا أن نعود إلى عهد الاحتلال، عهد الاستعباد والاستذلال، عهد الأصفاد والأغلال. . عهد الفلكة والعصا. . فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا أن نرمي بفلذات أكبادنا، وصفوة شبابنا، وعدة مستقبلنا بين أحضان الفتنة، ونقذف بهم في تيارات الفساد الجامح، والضلال الجاحم. . فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا لهذه الأمة الفتية ألا يقال لها عثار، وألا تنهض بعد كبوة. . وإذا أردنا لمعالم (القومية) أن تندثر إلى الأبد وإذا أردنا للإسلام العروبة والشرق أن تتلاشى جميعا. . فلنهدم الجامعة
محمد محمود زيتون
في الفقه المقارن
طبيعة الالتزام في القانون المدني والفقه الإسلامي
للأستاذ نور الدين رضا الواعظ
يجدر بنا قبل المقارنة بين طبيعة الالتزام في القانون المدني والفقه الإسلامي، أن نلقي نظرة تاريخية لتطور فكرة الالتزام في الفقه المدني، حتى نكون على بصيرة بالمراحل التي مرت بها فكرة الالتزام إلى أن استقرت على أنها (رابطة قانونية ما بين شخصين دائن ومدين يطالب بمقتضاها الدائن المدين بأن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع من عمل)
ومجال استعراض تطور فكرة الالتزام هو للقانون الروماني الذي يعتبر منبعاً استقت منه القوانين المدنية الغربية أحكامها، وسارت على هداه - ولا يزال فقهاء القانون المدني يراجعون شروح القانون الروماني لتبرير بعض النظريات الفقهية المعقدة ولحل مشاكلها العويصة.
في القرون الأولى التي مرت على روما القديمة لم تكن فكرة الالتزام معروفة، ولا الأشخاص الذي يلزمون بأداء التزام ما، كان الملتزم عادة شخصاً مستقلاً بحقوقه، يعقله رب الأسرة ويسخره في خدماته، كما يسخر عبده تماماً، بمقتضى حكم رسمي صادر من القاضي؛ ويكون عادة مقترضاً لم يتمكن من سداد دينه في الأجل المتفق عليه، أو وطنياً ارتكب فعلاً ضاراً به ولم يؤد التعويض الذي قرره القاضي وفرضه على هذا الفعل. وقد كان الملتزم يسمى (مقيداً) إشارة إلى تلك السلاسل والأغلال التي كان يقيد بها عند دائنه!
أكثر من هذا وكان المدين الذي تعهد بالدين في عقد الاستدانة يصبح - إذا عجز عن الوفاء - معرضاً لأن ينفذ الدين على شخصه دون استصدار حكم قضائي، فيقبض عليه صاحب الحق ويحبسه عنده مقيداً بالأغلال مدة معينة ثم يبيعه أو يقتله! إلا أن هذا المزج بين الحقوق العينية والحقوق الشخصية، واعتبار الحق الشخصي سلطة مباشرة على جسم المدين، والنظر إلى الالتزام كسلطة تمنح الدائن حق تعذيب المدين دون استصدار حكم قضائي والتنكيل به، استمر مدة، ولكن بنضوج الأفكار وتوسع الأفق التفكيري لدى الفقهاء الرومانيين، أخذت بوادر التمييز بين الحقين بالظهور، فتقدمت الأحكام وتدرجت القواعد
القانونية وتطورت فكرة الالتزام في العصر العلمي وهو عصر ازدهار الحياة القانونية لدى الرومان. فأصبحت القيود التي كانت تفرض على المدين تشمل جزءاً من حريته الشخصية؛ فبعد أن كان للدائن حق بيع وقتل المدين أصبح حقه مقصوراً على حبسه واستخدامه حتى يفي بدينه من ماله وثمرات كده. فالأغلال والسلاسل التي كان يرسف فيها المدين لم يبق منذ ذكراها إلا كلمة ومعناها ملتزم التي تطلق الآن على المدين. وقد استحالت الآن إلى قيود على جزء من الحرية الشخصية تسمى الالتزامات وأخيراً صدر قانون ثيودوز الأول في نهاية القرن الرابع بعد الميلاد بإلغاء المعافل الخاصة وإبدالها بنظام التنفيذ الجبري على مال المدين.
إن هذه النظرة الشخصية للالتزام في القانون الروماني قد وجدت لها أنصاراً من الفقهاء في الغرب وعلى رأسهم العلامة الألماني سافيني، إذ يرى (أن الالتزام عبارة عن سيادة الدائن، وهو وإن لم يكن سيادة تامة فإنه مظهر من مظاهرها، وقيد على حرية المدين لا على ذمته المالية فحسب، فالالتزام عنده صورة من صور الرق لا يشمل إلا جزءاً معيناً من حرية المدين. وقد تأثر بهذه النظرة الشخصية بعض الفقهاء الفرنسيين أيضاً منهم بلانيول وكابيتان وقد عرفت هذه النظرة في الفقه المدني: (بالمذهب الشخصي).
ولكن تجاه هذه النظرة الشخصية للالتزام ظهرت نظرة أخرى تناقض النظرة الشخصية ويرى أصحاب هذه النظرة (إن الالتزام علاقة مادية بحتة) وفرقوا بين عنصري المديونية والمسؤولية في المحل؛ فالمديونية هي تعلق الالتزام بالذمة وهذا لا يقتضي إجباراً، وأما المسؤولية فتقتضي الاستيفاء الجبري ووزعوا هذين العنصرين على ذات المدين الملتزم وماله، فاعتبروا شخصه مدينا، ولكن المسؤول عن التزامه (هو ماله لا شخصه) ولا حبس ولا إجبار على إيفاء الدين. وقد عرفت هذه النظرة في الفقه المدني (بالمذهب المادي). وقد يتبادر إلى الذهن هذا السؤال، ما الحكمة التشريعية التي من أجلها حاول الفقهاء أن يصبغوا الالتزام هذه الصبغة المادية، واعتباره منفعة مادية يمكن طرحها في السوق للتعامل؟!
الجواب على ذلك أن كثيراً من الوقائع القانونية لا يمكن تبريرها من الوجهة القانونية إلا إذا أخذنا بالمذهب المادي. كالالتزام بإرادة منفردة، والاشتراط لمصلحة الغير، وتحرير السندات لحاملها. . وغيرها.
تقرير المذهبين المادي والشخصي:
رأينا أن المذهب المادي أكثر مرونة من المذهب الشخصي وأكثر ملاءمة للأوضاع الاقتصادية الراهنة؛ لأنه يسبغ على الالتزام صفة (التكيف) مع تعقيدات الظروف الراهنة التي تتطلب السرعة والسهولة،
على أنه لا يجوز في الوقت ذاته إغفال المذهب الشخصي إغفالاً تاماً، فلا يزال الالتزام رابطة بين شخصين، ولا تزال لشخصية المدين والدائن أثر كبير في تكوين الالتزام وفي تنفيذه. ونضيف إلى ما تقدم أن شخصية المدين - بنوع خاص - ضرورية في الالتزام لا عند تنفيذه فحسب، بل عند نشوئه أيضاً، وهذا ما يعترف به المذهب المادي ذاته.
طبيعة المذهبين في الفقه الإسلامي:
بعد أن استعرضنا تطور فكرة الالتزام، وطبيعته في المذهبين الشخصي والمادي. . . نسأل ما موقف الفقه الإسلامي من طبيعة الالتزام. . . أو ما هي طبيعة الالتزام في الفقه الإسلامي؟!
(الواقع أن الالتزام في نظرة الشريعة الإسلامية هو في ذاته علاقة مادية إما بمال المكلف كما في المدين، وإما بعمله كما في الأجير، فالصاحبان، أبو يوسف ومحمد، يريان الحجر على المدين لا حبسه - وهذا الرأي أخذت به مجلة الأحكام العدلية - فهما لم يقتصرا على فكرة الرابطة الشخصية بل أدخلا فكرة القيمة المالية إلى جانبها وجعلا للدائن سلطاناً على مال المدين لا على شخصه.
ولكن هذا الالتزام ترافقه سلطة شخصية تأييداً لتنفيذه، إذ لولاها لتعذر التنفيذ بمجرد إخفاء المكلف ماله وامتناعه عن عمله، فلذا شرع الإسلام الحبس والتضييق على المدين والأجير وكل من هو مكلف بعمل لمصلحة غيره وجوباً حتى يقوم بما عليه. ولكن هذه السلطة الشخصية لم يمنحها الإسلام الدائن كما كان في التشريع الروماني، بل منحها الحاكم وجعلها من صلاحيته موقوفة على طلب الدائن. وقد ورد في الحديث الشريف (لي الواجد ظلم يبيح عرضه وعقابه). أي مماطلة الغنى (المدين). . يحل الطعن في أمانته وذمته. ولكن هذا الإجبار والإكراه إنما يكون فيمن ظاهر حاله اليسار، والقدرة على وفاء التزامه، فإما
المعسر والعاجز فلا يجبر بل ينظر حتى قدرته.
ولكن بعض الفقهاء يذهب إلى أن العلاقة بين الدائن والمدين تصطبغ بالصبغة (المادية البحته) حتى في دائرة المذهب الحنفي الذي يقول بحبس الدائن المدين مستنداً إلى أن هذا الحبس أن هو إلا وسيلة من وسائل الإكراه لجأ إليها المذهب الحنفي لإرغام المدين على أداء الدين من ذمته المالية بدليل أن هذا الحق لا يجوز استعماله إذا لم يكن المدين معسراً فالمفروض عند الحكم بالحبس أن للمدين مالا ولكنه متعنت في الدفع فيلجأ ألفقه الحنفي إلى قهر إرادته والتغلب على تعنته بالحبس حتى يضطر لأداء الدين
بعد أن أو جزنا موقف الفقه الإسلامي من طبيعة الالتزام يتضح لنا أن موقفه هو الاعتدال بين المذهبين الشخصي والمادي فقد غلبت عليه الصبغة المادية (أَي المذهب المادي) لأن الشريعة عرفت الالتزام بإرادة منفردة أي (الجعالة) في التعبير الفقهي الإسلامي. . وكذلك أجازت حوالة الحق، وحوالة الدين ولو من دون رضاء المحال عليه، كما أن الشريعة لم تهمل الصبغة الشخصية للالتزام لتكون ضماناً لحفظ حقوق الناس تجاه أولئك الذين يتخذون من مرونة المذهب المادي حجة يحجمون بها عن أداء الديون والامتناع عن إيفاء التزاماتهم فبهذا تتجلى لنا بوضوح عظمة التشريع الإسلامي واستيعابه لأحدث النظريات الفقهية. . حقاً (إنه تشريع أزلي سرمدي)
كركوك - عراق
نور الدين رضا الواعظ
من نقد النقد
مسرحية الذباب لسارتر
للأستاذ يوسف الخطاب
لا أدري لماذا تحمست يوما لنقد ترجمة الدكتور القصاص لهذه المسرحية، ثم عدت فأحجمت عن نقدها، حتى قرأت كلمة عنها للدكتور شوقي ضيف، في مجلة الثقافة تحت باب النقد، ليس فيها من ورح النقد سوى عرض للمذهب الوجودي، لخصه عن مقدمة الترجمة، بدأه بسخرية من (اتحاد شركات سارتر وأصحابه) وكنا نظن أنه سيلتزم هذا الاتجاه، ويساهم في نقد الحركة الوجودية، ونقد المسرحية التي يعرض لها. ولكنه لم يخرج عن المقدمة التي كتبها المترجم، والتي لخص الدكتور القصاص في نصفها الأول كتاب سارتر الصغير: الوجودية هي الإنسانية دون أن يذكر اسم الكتاب الذي نقل عنه من باب تأكيد الوجود الذاتي على حساب صاحب المذهب نفسه.
ولقد تكلم الدكتور شوقي عن الخط الأول من خطوط الوجودية، فتناول الوجود وأننا نوجد أولا، ثم نصنع ماهيتنا حسب إرادتنا، لا حسب التأثيرات الطبيعية أو الاجتماعية. ثم تناول الخط الثاني، وهو خط الحرية، وكيف أن كلاً منا حر في تقرير مستقبله ومصيره ما دام كل يحيا كما يريد، مؤكداً إن الحياة ليس فيها جبر من بيئة أو تربية أو أشياء ماضية، ونفى كل التاريخ وقال أن الإنسان يسوي نفسه في الصورة التي تبتغيها مشيئته وإرادته، وأن هذا ليس وجوداً فردياً خالصاً، لأنه في وجوده الفردي يكتشف وجود الآخرين - وبذلك أكد الوجود الفردي الذي يريد الوجوديون نفيه.
وبعد هذا التلخيص الطويل الذي استغرق صفحة كاملة من صفحات المجلة، كنا ننتظر أنه لن يكتفي بالوقوف عنده، وأنه سيتناوله بالرفض أو التأييد، ويورد لنا أسباب هذا الرفض أو التأييد، فلم يفعل شيئاً من ذلك واتجه مباشرة إلى تلخيص المسرحية وإيراد نصوص منها تتضمن آراء وجودية أطلقها عل كل مسرحيات سارتر - وفي هذا تخلص عجيب من فكرة مسرحية (الذباب) نفسها، ولم يقل لنا لماذا أسماها سارتر (الذباب)، وأسماها صديقه الدكتور المترجم (الندم).
وأختم نقده بسطرين حكم فيهما على المسرحية من الوجهة الفنية قائلا (من يقرؤها يشعر
أنه ليس لها نهاية محدودة إذ تسعى إلى رسم مواقف وأفكار دون رسم شخصيات) وأعتقد أن هذا التعليل للنهاية غير المحدودة غير سليم، وقد سبق لنا أن تناولنا تعريف النهايات في مقال لا نريد أن نعود فنكرر ما جاء من صورة ربط النهاية بالحياة. ثم عاد فقال (أعترف أني لم اشعر أثناء قراءتها لا بفرح ولا بحزن لأني كنت أقرأ عقلاً صرفاً له آراؤه لا قلباً له عواطفه) وليس هذا تعليلا صحيحاً للحالة النفسية التي يكون عليها من يقرأ أعمال سارتر، وصحته أن الوجودي يؤمن بالحرية، وأن الإنسان بعد أن خرج إلى هذا العالم صار مسئولاً عن كل ما يريد وعن كل ما يفعل، ولا هادي له في حريته سواه وحده، لا عواطفه التي تدخل في باب الجبرية وهي شيء لا يعترف به الوجوديون.
وانتهى إلى شكر الدكتور القصاص على ما بذل من شرح آراء سارتر وترجمة مسرحيته، وطالب بترجمة (الآثار الأخرى لكاتب الوجودية الأكبر) - ونحن مع احترامنا للكاتبين لا نريد أن نقول إن كلمة الدكتور شوقي مجاملة على حساب النقد وكان لابد من مناقشتنا لها، لننتهي منها إلى رأي يوضح لنا حقيقة المسرحية المترجمة، ما دام الناقد والمترجم لم يحققا ذلك، جين قصر الأول نفسه على التلخيص، ولم يساهم بفكرة أو تفسير للمسرحية والمقدمة، واستقى نهجه من عمل الترجمة الذي تصدى لنقده، وبهذا أوضح لنا اتجاه المترجم، وأنه كان مقصورا على التلخيص والترجمة فحسب حين توفر في النصف الأول من المقدمة على تلخيص محاضرة سارتر التي طبعها في الكتاب الذي ذكرنا اسمه وأغفل ملخصه ذكره. ولخص في النصف الثاني مقالة من الجزء الثاني من كتاب سارتر (مواقف - دون أن ينص على ذلك في ترجمته. ولا نريد أن نقول أن هذا يتنافى مع أمانة الترجمة، ولكنا نريد أن نتسائل لماذا قصر نفسه على هذين الكتابين بالذات، وهما لا يعدوان في مادتهما أدب المقالات التي ينشرها (سارتر) في مجلته (العصور الحديثة) وكنا ننتظر منه حين وعدنا في النصف الثاني من المقدمة بالكلام عن (مذهب سارتر الأدبي) ألا يتناول رأي سارتر في الشعر والنثر، وأن يورد لنا رأيه في القصة والمسرحية، فهذا ألصق بطابع الكتاب، باعتبار أنه مسرحية مقروءة تقف بين المسرح بالذات. وكان يسرنا أن يذكر لنا هدفه من ترجمة هذه المسرحية بالذات، ويورد لنا رأي سارتر في الترجمة عامة وهل حقق المترجم ما يدعو إليه سارتر من التزام؟
ونحن مضطرون إلى الإجابة نيابة عن المترجم، وإلى الإجابة بالنفي عن هذه الأسئلة كلها، لأن هذه المسرحية - من بين مسرحيات سارتر - قائمة على أسطورة إغريقية قديمة، تعالج واقعاً خاصاً بعيداً عن واقعنا، وكأن المجتمع قد انتهى من مشاكله، واطمأن إلى حلها، ولم يبق إلا أن يعيش في عالم الأساطير. وهنا يتضح لنا هدف دعاة الوجودية، فهم جماعة من محبي الهرب، يهربون من المجتمع إلى ذواتهم ليحققوا وجودهم - ولو على حساب المجتمع. ويهربون من واقعهم إلى واقع قديم غريب عليهم، دون اعتراف بالزمن والتاريخ. ويهربون من واقع الحياة فيعيشون واقعاً مستمداً من فلسفتهم دون تفرقة بين عالم الفلسفة الفكري وعالم الحياة.
فإذا جاء الدكتور القصاص وترجم لنا مسرحية هذه صفة أصحابها، كان واجبه أن يذكر لنا هدفه من الترجمة، وأي نوع من القراء قصد بها، لا أن يعتذر في نهاية مقدمته ويقول (قد يدهش القارئ من أننا لم نقل شيئاً عن مسرحية (الذباب) نفسها) ونحن نؤكد له أن القراء لم يدهشوا لسكوته عن الكلام عن مسرحية الذباب بل دهشوا لخروجه عن المذهب الذي ألتزمه، فهم يعرفون حرص الوجوديين على إشاعة مذهبهم وتوضيح جوانبه، والتزامهم تحويل الجماهير إلى معسكرهم بتقديم أعمالهم ومعها تفسير يذهب بكل إبهام، حتى يحتضنها كل قارئ، ويعرف كيف يجيد الدفاع عنها. ومما يؤسف له أنه قد سبق ترجمة هذه المسرحية إلى العربية مسرحية وجودية أخرى ترجمها الأستاذ رميسيس يونان وكان أكثر حرصا من مترجم (الذباب) حين قدم لها بمقدمة عن المسرحية التي ترجمها، وأنهاها بكلمة عن المذهب الوجودي. وهكذا نستطيع أن نقول أن حقيقة الالتزام - الذي يتمشدق به الوجوديون - بعيدة عن ترجمة مسرحية الذباب الوجودية.
وما دام الالتزام هو الخرافة التي يتكئ عليها الوجوديون - دون تحقيق لها - فان كل عمل من أعمالهم يخلو من الالتزام، منقوض من أساسه. ومن هنا يصح لنا أن نهمس في أذن الدكتور القصاص أنه لم يعد في تقديمه لمسرحية (الذباب) دور المترجم الناقل، وفشل في لعب دور الرائد الذي سبقه غيره في القيام به، وأصبح هو لا يمثل بترجمته إلا المدرسة القديمة. ولو قرأنا رأيا كتبه الأستاذ علي أدهم عام 1929 في مقدمة ترجمته لمحاورات رينان لأدركنا قد مدرسة القصاص في الترجمة حتى على هذا لتاريخ قال الأستاذ أدهم:
(والكاتب الكبير يتشرب عصره. . . تلقاء ذلك رأيت أن أنسب طريقة أمهد بها السبيل إلى فهم رينان، هي أن أكتب مقدمة موجزة، أشير فيها إلى موقفه من الحركة الفكرية التي قامت في القرن التاسع عشر، وأكشف عن تأثيرها؛ وهو بحث عويص مشعب الأطراف كنت أوثر السلامة على التورط في غمراته. ولكني أعلم العلم كله أن المترجم في هذا البلد من واجبه أن يكون شارحاً إلى حد ما. ومن استيفاءات عمله أن يضع القارئ على النهج وينير له الطريق).
فهل حقق الدكتور القصاص أول واجبات المترجم؛ وهل ربط بين أدب الوجودية وروح العصر؟ وهل ربط بينها وبين غيرها من الاتجاهات؟
إننا نورد هذا الرأي - وليس هذا لنا - ويؤلمنا أن نصارح به أي مترجم، ولكنا نقلناه حتى لا نتهم بالقسوة في النقد، وهذه الرغبة نفسها هي التي تسوقنا إلى أن نصارح الدكتور القصاص أننا سنتجاوز عن المقدمة وعما بها من متناقضات حتى نناقش الرواية ونعرف إلى أي حد تتوفر فيها المسرحية. سنتجاوز عن تسمية للوجودية بأنها فلسفة ذات مبادئ، وعودته مرة ثانية ونسخه لهذه التسمية. وسنتجاوز عن دفاعه عن الذاتية في الوجودية ثم نفيه للفردية عنها بإيراده لنظرية (تشابك الذاتية) وهي تعديل لحق المذهب الوجودي يتناقض مع طبيعته.
وسنتجاوز عن تسميته للقلق والهجران واليأس بأنها (كلمات) مع أنها مقولات) فلسفية. وسنتجاوز عن ترجمته للـ بالوضع الإنساني قاصداً بـ (مجموعة الحدود التي توجد بادئ ذي بدء وتخطط لإنسان معالم وضعيته وكلتا الكلمتين (وضع) و (وضعية) لا يعترف بهما رجال الفلسفة. وسنتجاوز عن تعريفه الحرية الوجودية بأنها انتصار المرء الدائم على شهواته وعلى نفسه وعلى طبقته الاجتماعية وعلى وطنه) وهو تعريف خيالي لا يتفق وطبيعة المذهب الوجودي الذي ينادون بأن يحيا الإنسان كما يريد!!. . . ولكن من يدرينا لعل معنى الانتصار على الشهوة عند الوجوديين هو الخضوع المطلق لها، والانتصار على الطبقة والوطن هو الفوضوية والخيانة!. . . وسنتجاوز عن نفيه للتجريد عن الوجودية مع أن في ارتداد الفرد إلى ذاته وتحقيق وجوده الذاتي عدم اعتراف بالواقع المتحقق، وارتداد إلى عالم ذاتي كل ما فيه تجريد خالص، بدليل أن المترجم ذكر أنه
حرص على أن (يكون البحث خالياً من المصطلحات الميتافيزيقية) وعالم الميتافيزيقية كله تجريد مبعد عن العالم الفيزيقي.
سنتجاوز عن كل هذا وعن مناقشة الآراء الفلسفية لأننا هنا بصدد مناقشة نقد أدبي ورواية مسرحية يجب أن تتوفر على الكشف عن جوانبها الفنية. وليس تجاوزنا هذا من باب تجاوز الدكتور في مقدمته عن ذكر أسباب عداء الجماهير والأحزاب لسارتر وينسى أن من حق القارئ عليه أن يعرف جانبا منها. فقد قدمت المسرحية للتمثيل - كما يقول المترجم - وفرنسا ترزح تحت كلاكل الاحتلال الألماني وظلت تعرض على الخشبة أكثر من ثمانية عشر شهراً) ومسرحية توافق سلطات الاحتلال على استمرار عرضها هذه المدة يحق للجميع أن يعادي صاحبها، لأنه تعاون مع سلطات الاحتلال ولاقى منهم كل معونة في الوقت الذي كانوا يملئون فيه المعتقلات بالأحرار الذين لا يعمدون إلى إلهاء الناس عن واقعهم الأليم بواقع إغريقي لا يمت إليهم - كما فعل سارتر بهذه المسرحية الخائنة بل كما فعل بكل فلسفته. ولو قيل أن المسرحية لاقت نقد بعض الأدباء الألمان فإني أقول أنه كان نقداً مغرضاً قصده التعمية، أو أنه نقد بعض الأحرار الذين يرفضون كل أعمال الوجوديين أساسا لطغيان جانب الفكر فيها على جانب الفن، بل وقضاؤه على المقومات الفنية، وأن الفكر الذي تستند عليه مستمد من فلسفتهم المتداعية. وأنهم لا يقدمون هذا الفكر تقديماً فنياً فلا يعترفون بأن المسرح غير الكتاب، وأنه ليس مجالًا لعرض الأفكار وتعارضها بل مجال الحياة وصارع الأحياء وأن إيراد الفكر عندهم لا يكون بطريق الإيحاء والتلميح بل بحشو المسرحية بالفكر الفلسفية الجافة التي لا يكتفون بإيرادها صريحة بل يصوغونها في قالب خطابي مثل الخطب الطويلة التي تمتلئ بها هذه المسرحية، وإذا أرادوا إعطاءها الشكل الفني استجلبوا صوراً غريبة غرابة الفن السيريالي الذي ينقلونها عنه - وبهذا يهدمون لاستعانتهم بفنون غيرهم. وهذا واضح في الخطبة التي انتهت بها مسرحية (الذباب).
وإذا تركنا هذا الباب جانبا - ونقول (أنتقلنا) متأثرين بما صنعه مترجم المسرحية، فقد جعلنا نحس فرقاً كبيراً بين لغة المقدمة التي لخص فيها آراء سارتر ولغة المسرحية التي ترجمها. فمع أن وسيلتها واحدة وهي النثر فأنت تلحظ أن أسلوب المترجم فيهما مختلف. فبقدر حرصه في المقدمة على بساطة التركيب، واستخدام الكلمات استخدماً موضوعياً، نجد
حرصه الكبير في ترجمة النص على تقيد التركيب واستخدام الكلمات استخداما جمالياً - ورغم أن هذا الأسلوب عدو المسرح، فإنه خروج على طبيعة النثر الوجودية، إذ يدخله في مجال الشعر، لأن الكلمات هنا تستحيل إلى (أشياء) نراد لذاتها. بل أنه أحياناً كان يعمد إلى السجع فيقول مثلاً (هنا نحن تحيط بنا وجوهكم وكل ما كان في هذه الحياة من متاع. وها نحن نلبس عليكم ثياب الحداد دون انقطاع) وهذا يجعلنا نقول في أسف أن ترجمة النص جاءت بعيدة عن روح سارتر أو طمست معالمها.
ويبدو أن الدكتور القصاص شعر بخفة وزن المسرحية التي يترجمها فكان حريصاً على أن يكسبها هذا الشكل البلاغي، أو أنه شعر أنه يقدم مسرحية مقروءة فاعتمد على بلاغة الكلمات لإحساسه بأن الرواية تعوزها مسرحية الأحداث والحركات. ونحن مع اعترافنا بأن مسرحية الذباب - سواء في النص الفرنسي أو الإنجليزي - لا تعد وأن تكون مسرحية مقروءة فإنها ستظل كذلك على الأقل في مصر، لاتكاء المترجم على الكلمات واستخدامها استخداماً بلاغياً لا مسرحياً. وبهذا أكد صفة القراءة في المسرحية ونفى عنها إمكانية التمثيل، لأن المشاهد العادي لن يستطيع متابعة حوارها البلاغي. ويبدو كذلك أن المترجم أدرك عدم قدرة المسرحية على اجتذاب الجمهور فتصرف في ترجمة عنوانها حتى يلفت أنظار الناس وسماها (الندم) وتنبه أخيراً فكتب بخط صغير (أو الذباب) على طريقة مترجمي القرن التاسع عشر. ويظهر أن هذا الشيء الوحيد الذي قدمه المترجم أو لعله أراد أن يلخص المسرحية في كلمة واحدة، كلمة تذهب بكل مقومات المسرحية؛ لأن المسرحية التي يمكن تلخيصها مهدومة من أساسها. أو لعل المترجم أراد أن يحاكي المؤلف حين أتخذ من أشخاصها أفواهاً يرددون كلماته حتى لا يفوت القارئ إدراكها. وكلمة الندم لا تتوفر الطبيعة المسرحية، وهي قريبة من طبيعة الصراع الذي أورده مؤلف المسرحية وجعله يدور بين الإنسان والإله، وهو صراع يتناقض مع طبيعة المسرح الحديث، لأنه موقف فكري معقد مجاله كتب الفلسفة أو المسرح الكلاسيكي القديم، وفيه تطرف، والمسرح قائم على عرض كل ما هو عادي متعارف عليه. وإخضاع مثل هذا الموقف للمسرح فيه قسر وجبر يتنافيان وعدم اعتراف الوجودية بأي لون من ألوان الجبرية.
وهذا هو الأساس الذي تستند عليه المسرحية - المسرحية التي لا جديد فيها رغم الضجة
التي أثيرت حولها هنا وهناك. ونحب أن نقول كلمة أخيرة أنه على رغم تجديد سارتر في عالم القصة وهو فيها متأثر بالقصة الأمريكية - فإنه باء بالفشل في المسرح فلم يقدم إلا النزر اليسير. وهذه المسرحية نفسها دليلنا على ذلك؛ فهي في شكلها لا تعود المسرحيات الكلاسيكية من بنائها المسرحي وتقسيمها إلى مشاهد منفصلة ومراعاتها للزمان والمكان وقيامها على بطل تسلط عليه الأضواء من كل جانب بنسبة أكبر مما عداه من شخصيات. والتناقض واضح بين هذا الشكل الكلاسيكي ومضمون المسرحية الوجودي. وهي حين تعتمد على الأسطورة القديمة لا تقدم من جديد سوى (الذباب) وهذا فضل لا يرجع إلى سارتر بقدر ما يرجع إلى الكتاب المسرحي الكبير (جيرودو) الذي عالج الأسطورة نفسها في مسرحية (الكترا) وذكر الذباب صراحة فجاء سارتر وأملت عليه وجوديته أن ينقل عنه، ويضفي على مسرحيته ثوباً ممزقاً من فلسفته المتداعية. ولكن يعزي (جيرودو) أن هذه المسرحية لم يعد لها أهمية تذكر بعد خروج الألمان من فرنسا وتوقف الصحافة الأمريكية عن الطبل لها لاشتغالها بما هو أهم منها.
يوسف الحطاب
اللغة العربية والإسلام في الداغستان
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
على الضفة الغربية من بحر الخزر، وعلى المنحدر الشرقي لجبال القوقاز، بلاد جبلية تذكرنا بمناظرها، وأشكالها الطبيعية، وحياة سكانها الاقتصادية جبال لبنان، لكنها أشد برداً منها وأكثر وعورة وأجمل منظراً.
وهذه البلاد الجبلية هي التي تعرف اليوم بالداغستان، أي البلاد الجبلية. وقد أطلق عليها العرب يوم احتلوها أسماء شتى منها الجبال، وبلاد الباب، أو الباب والأبواب، وبلاد صاحب السرير، وبلاد الخزر، إلى غير ذلك من الأسماء التي لم تكن تشمل كل البلاد، بل قسماً منها أو أقساماً بعضها مستقل عن البعض الآخر. وأكثره واقع في جنوبي الجبال، وكان داخلاً في حكم الفرس حتى الفتح العربي كما يؤخذ من البلاذري واليعقوبي والطبري وغيرهم.
ويحد بلاد الداغستان هذه من الجنوب جمهورية آذربيجان، ومن الشمال نهر (ترك)، ومن الشرق بحر الخزر، ومن الغرب جبال (أبرز)، و (قازيك) وممر (دريال) الشهير وجزء من بلاد الكرج واركس.
كانت هذه البلاد المجاز الذي يسلكه الفاتحون الآسيويون إذا أرادوا الإغارة على أوروبا، وبلاد الروس الصقالبة، ويعبره الروسيون والتتار من الشمال إلى الجنوب إذا أرادوا التوغل في أنحاء آسيا، ولذلك كانت - دائماً - محط أنظار الفاتحين والغزاة من قديم الزمان إلى يوم الناس هذا.
ولم تكد جيوش الإسلام والعرب تحتل أرمينية وأذربيجان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى أصعدوا شمالاً نحو (باب الأبواب).
وكان أول من سار إلى تلك الجهات هو سراقة بن عمرو، ومعه عبد الرحمن بن ربيعة، وحذيفة بن أسيد، وبكير بن عبد الله، وسلمان بن ربيعة مع نفر من المجاهدين، فوصلوا إلى (دربند) - باب الأبواب - وفتحوها في سنة 22 هجرية وفي فتح (دربند) يقول سراقة بن عمرو:
ومن يك سائلا عني فإني
…
بأرض لا يؤاتيها القرار
بباب الترك ذي الأبواب باب
…
لها في كل ناحية مغار
نذود جموعهم عما حوينا
…
ونقتلهم إذا باح السرار
سددنا كل فرج كان فيها
…
مكابرة إذا سطع الغبار
وأقحمنا الجياد جبال قبج
…
وجاور دورهم منا ديار
وبادرنا العدد وبكل فج
…
نناهبهم وقد طار الشرار
على خيل تعادي كل يوم
…
عناداً ليس يتبعها المهار
ولكنهم لم يكادوا يجاوزونها إلى (بلنجر) حتى لقيهم خاقان الخزر في خيوله على نهر (بلنجر) فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً، وقتل قائد الجشس سراقة بن عمرو، فتولى القيادة بعده عبد الرحمن أبن ربيعة الباهلي، وواصل القتال، وجاء المسلمين مدد من أهل الشام بقيادة حبيب بن مسلمة فاشتد القتال بين المسلمين والخزر حتى قتل قائد الجيش الإسلامي عبد الرحمن بن ربيعة أيضاً، واستشهد معه خلق كثير، واضطر الباقون إلى الانسحاب إلى (درنبد) بعد أن أخذ الراية سلمان بين ربيعة الباهلي، وقاتل حتى استطاع أن يدفن أخاه بنواحي (بلنجر) وفي مقتل عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي (بلنجر) وقتيبة بن مسلم بالصين يقول عبد الرحمن بن جمانة الباهلي:
وإن لنا قبرين قبراً بلنجر
…
وقبراً بصين استان يالك من قبر
فهذا الذي بالصين عمت فتوحه
…
وهذا الذي يسقى به سبل القطر
وهنا يروي المؤرخون أن خلافاً دب بين جيوش المسلمين على من يتولى القيادة بدل عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، فأهل الكوفة يريدون تولية سلمان بن ربيعة الباهلي شقيق عبد الرحمن، وأهل الشام يريدون تنصيب أميرهم وقائدهم حبيب بن مسلمة وكادت تكون فتنة، حتى قال شاعر أهل الكوفة يومئذ يذكر هذا الخلاف، ويشرح أوجهة نظر الكوفيين:
فإن تضربوا سلمان نضرب جيبكم
…
وإن ترحلوا نحو بن عفان نرحل
ولا تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا
…
وهذا أمير في القبائل مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته
…
ليالي يرمي كل ثغر نوكل
وفي النهاية تم الاتفاق على تقليد سلمان بن ربيعة الباهلي إمارة الجيش مكان أخيه عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، فعبأ سلمان جيشه، وسار نحو (بلنجر)، فلقيه على نهرها خاقان
الخرز في خيوله أيضاً، فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً حتى قتل سلمان بن ربيعة الباهلي أيضاً، وقتل معه خلق كثير من رجاله قيل أربعة آلاف قتيل، وأضطر المسلمون مرة أخرى إلى الانسحاب بعد أن حملوا معهم جثة سلمان بن ربيعة الباهلي وكثيراً من جرحاهم إلى (دربند) ولكن الجيوش الإسلامية المنسحبة في هذه المرة لم تقف في (دربند)، بل تفكك شملها، وتشتت في كل اتجاه.
وبعد هذا الانكسار الذي مني به المسلمون في هذه الجهة فترت حركة الحملات العسكرية إلى هذا الميدان النائي بفعل الحوادث الداخلية التي أعقبت مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحروب معاوية وعلي، وما تبع ذلك من الفتن حتى إذا ولي الخلافة الإسلامية الوليد بن عبد الملك جهز جيشاً كبيراً بقيادة مسلم بن قتيبة ووجهه سنة 89هـ إلى أرمينية، فالداغستان، فقاتل الخزر وفتح كثيراً من البلاد، وغنم الغنائم، ثم قفل راجعاً. ثم وجه الوليد بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك على رأس جيش قوي إلى تلك البلاد أيضاً، فقاتل أهلها، وغلبهم على كثير من بلادهم، وغنم غنائم كثيرة، ثم رجع بها.
وفي سنة 105هـ وجه يزيد بن عبد الملك جيشاً إلى هذه البلاد بقيادة الجراح بن عبد الله الحكمي من مذحج، فسار إلى الخزر فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسبى وغنم، ثم رجع إلى جنوبي أرمينية، فجاشت الخزر، ولحقت به، فحاربهم في صحراء (ورشان) فانحازوا إلى ناحية أردبيل، فواقعهم على أربعة فراسخ مما يلي أرمينية، فاقتتلوا ثلاثة أيام، فاستشهد الجراح هناك، وقتل كثير من جنده، وتفرق الباقون، وتشتتوا في اضطراب. وسمي نهر هناك بإسم الجراح، كما سمي جسر عليه جسر الجراح أيضاً، ثم كان أن عاث الخزر في البلاد، وفقد العرب هيبتهم، فانسحبوا من أطراف أرمينية. حتى إذا ولي الخلافة هشام بن عبد الملك ولي أخاه مسلمة بن عبد الله صقر بني أمية، وبطلها المجرب أرمينية، وأمره أن يسير إليها برجاله وقواده ليطهر البلاد من الخزر، وممن طمع فيها بعد قتل الجراح، فسار إليها في سنة 112هـ وقد وجه على مقدمته سعيد بن أسود الحرسي، ومعه كثير من القواد بينهم الوليد بن القعقاع العبسي، وسار مسلمة مظفراً منصوراً حتى وصل إلى مدينة (باب الأبواب) وفتحها من جديد، وكان في قلعتها ألف أهل بيت من الخزر، فحاصرهم ورماهم بالحجارة، ثم عمد إلى غير ذلك من وسائل الهجوم حتى اضطرهم إلى الهرب، وإخلاء
القلعة، فلما فتحها وغيرها من القلاع الحصينة أخذ يتقدم في البلاد ويحتلها إلى أن تم له فتحها كلها، فعاد إلى (باب الأبواب) بجيشه الذي استصحبه معه من الشام، وكان عدده أربعة وعشرين ألفاً، فأسكنهم المدينة المذكورة على العطاء ثم احتل مواقع أخرى هامة، وقبض على البلاد بيد من حديد.
وفي سنة 118هـ وجه هشام بن عبد الملك قائداً جديداً إلى هذه البلاد وهو أسد بن زعفر، فثبت ملك العرب وقوى سلطان المسلمين، وفي عصر الوليد بن يزيد بن عبد الملك أرسل الوليد إلى هذه البلاد مروان بن محمد - آخر الخلفاء الأمويين - على رأس جيش كبير، فكان أكبر مساعد على تثبيت مركز الإسلام، ودعم أسس الدولة الإسلامية العربية في تلك الربوع إذ لم يكن أقل من عمه مسلمة ثباتاً وعزماً وبعد نظر، فواقع الخزر، وأبلى بلاء حسناً، ولما أنصرف مسلمة إلى الشام بعد ذلك بقي مروان في أراضي (باب الأبواب) يتعهد ثغورها وأحوالها، ويوطد السلطان العربي الإسلامي فيها حتى أقر له القريب من القبائل وملوكهم والبعيد، وهابته الخزر وأخذت تتودد إليه، وتؤدي له الطاعة والجزية.
قال البلاذري: أنه لما بلغ عظيم الخزر كثرة من وطئ به مروان بلاده من الرجال، وما هم عليه في عدتهم وقوتهم نخب ذلك قلبه، وملأه رعباً، فلما دنا منه أرسل إليه رسولاً يدعوه إلى الإسلام أو الحرب، فقال: قد قبلت الإسلام فأرسل إلي من يعرضه عليّ، ففعل، فأظهر الإسلام، ووادع مروان، فأقره في مملكته، وسار مروان معه بخلق من الخزر، فأنزلهم ما بين السمور والشابران في سهل أهل (اللكز)، ثم دخل مروان أرض صاحب السرير، فأوقع بأهلها وفتح فيها قلاعاً، ودان ملك السرير وأطاعه، فصالحه على ألف رأس وخمسمائة غلام وخمسمائة جارية سود الشعور والحواجب وهدب إلأشفار في كل سنة، وعلى مائة ألف مد تصب في أهراء (الباب) وأخذ منه الرهن.
وهكذا كان يصنع مع جميع ملوك الجبل وما وراءه، فكان يحملهم على الصلح وتأدية الجزية، ثم يقرهم على ملكهم، فكان من نتائج هذه السياسة الحكيمة في تلك البلاد أن رسخت قدم العرب فيها، وانتشر فيها دينهم بسرعة عجيبة حتى لم يبق للأديان القديمة التي سبقته أثر يذكر، وانتشرت مع الإسلام لغته العربية، فأصبحت بعد قليل من الزمن لغة الكتابة والتعليم والتفاهم بين أهل الجبل المختلفي اللغات واللهجات، وهي لا تزال كذلك إلى
اليوم مع تخاذل في بعض الأنحاء اقتضته الظروف والأحوال الحاضرة.
وكل ذلك يرجع إلى سياسة بني أمية الحازمة، وعلى الأخص سياسة هشام بن عبد الملك وأخيه مسلمة وأبن أخيه مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين.
وفي هذه المرة استطاع مسلمة بن عبد الملك أن يبسط سلطان الإسلام في هذه الربوع، فأكمل فتح أنحاء الداغستان، ولم تأت سنة 115هـ حتى كان سلطان الإسلام باسطاً جناحيه في كل قرية ومدينة، وحتى انتشر الدعاة والحكام والأمراء المسلمون يعلمون ويرشدون، ويبنون المساجد، ويقيمون منارات الدين والهدى في كل مكان.
ومن ذلك التاريخ أصبح هذا الإقليم إسلامياً يدين بالإسلام، ويخلص له، وأصبحت مدينة، (دربند) أو (باب الأبواب) ثغراً من ثغور المسلمين يرابط فيه في سيبل الله.
ولذلك لم تخرج هذه البلاد على العرب يوم شغلوا عنها بحروبهم الأهلية التي نقلت الملك إلى بني العباس، بل بقيت في أيديهم إلى ظهور السلاجقة.
وإذا كان سلطان العرب السياسي قد انكمش عن هذه البلاد بعد ذلك، فإن أهل البلاد حافظوا في جميع الأدوار التي مرت بهم وفي عصور جميع الفاتحين والغزاة لبلادهم بعد ذلك وإلى أن وقعت في أيدي الروسيين في أوائل القرن التاسع عسر - حافظوا بأمانة وإخلاص في جميع تلك الأدوار على شيء من استقلالهم الداخلي، ودينهم الجديد، وتقاليدهم الموروثة، وحافظوا على التفاهم باللغة العربية محافظة غريبة لا نعهدها في غير هذه البلاد. يدلك على ذلك أن اللغة العربية لا تزال إلى اليوم لغة التدريس والتأليف والتفاهم بين علماء الداغستان والطلبة، وهم يتكلمون ويكتبون بها كأبنائها، ولهم فيها مجلة شهرية تعنى بنشر الدين والأدب ينشرها الكاتب الشهير أبو سفيان.
البقية في العدد القادم
برهان الدين الداغستاني
كشاجم
للأستاذ عبد الجواد الطيب
ما كان لنا - ونحن نؤمن بالإقليمية وأثرها في الأدب - أن نتحدث عن شاعر مثل كشاجم الفلسطيني المنيت والنشأة على أنه شاعر مصري، يكتب فيه بحث في الأدب المصري، لولا أن الرجل كان قد وفد إلى مصر فيمن وقد إليها من الشعراء كالمتنبي وأبي تمام وكثير عزة، وغيرهم من الشعراء الذين حدث بينهم وبين البيئة المصرية من التفاعل ما جعلها تتأثر بهم ويتأثرون بها.
وإذا كان شاعر كالمتنبي مثلاً أقام في مصر فترة من الزمن ثم رحل هنها متبرماً بها ساخطاً عليها، فإن شاعراً ككشاجم لم يتبرم بها هذا التبرم، ولم يرحل عنها إلا ليعود إليها، وقد شفه الوجد وأضناه الشوق:
قد كان شوقي إلى مصر يؤرقني
…
والآن عدت وعادت مصر لي دارا
فهو إذن لم يلم بمصر إلماماً، وإنما أقام بها وقتاً جعلها حرية بأن تكون داراً له، ثم كاد يرحل عنها حتى عاد إليها صباً مشوقاً يتخذها مستقراً ومقاماً.
فنحن حين نتحدث عن كشاجم كشاعر مصري لا نفعل هذا لمجرد أن إقليم الشاعر كان تابعاً لمصر حياة كشاجم، فهو إذن مصري بالتبعية السياسية.
ليس هذا طبعاً هو الذي نعنيه، فإنه وإن كانت هذه التبعية قد يكون لها أثرها في الحياة الأدبية إلى حد ما، إلا أن أثر البيئة الجغرافية بحدودها ومعالمها أعظم من هذا خطراً، وأبعد مدى، ولهذا حين أتى كشاجم مصر واتخذها مستقراً له، وتأثر بطبيعتها، وظروفها المادية والمعنوية. . . يمكن اعتباره من هذه الناحية شاعراً مصرياً، أو على الأقل فيه جانب مصري جدير بالدارسة.
لقد يكون سر اختياري لكشاجم بالذات دون غيره كالمتنبي وأبي تمام. . . هو أن كشاجم لم يثر اهتمام الدارسين، ولم يحظ بما حظي به غيره من عناية الباحثين من القدماء والمحدثين، فالمتنبي مثلا كان موضع عراك، وأخذ ورد، ودوي هائل، ظل صداه بل ظل امتداده إلى الآن، فهو قد حظي بعناية القدماء كثيرا، والمحدثين أكثر. أما كشاجم فهو شاعر مغمور أو كالمغمور، فلا يجد المتتبع له إلا نتفاً مبعثرة هنا وهناك، ومع هذا فكلها حديث
مقتضب، معاد: من أنه رملي فلسطيني، ولد فإذا هو طباخ في بلاط سيف الدولة، وإذا هو أيضاً شاعر ظريف، (كافه) من كاتب و (وشينه) من شاعر و (وألفه) من أديب. . . إلى آخر هذه الأحكام العامة التي تلقي جزافاً دون تحقيق أو تمحيص. فأما نشأته وثقافته، وأما أدبه وآثاره الأدبية. . . فليس كل هذا في نظرهم جديراً بالدراسة والعناية. . .!!
لهذا يجد الباحث لذة - وإن كان يجد عناء أيضاً - في أن يحاول أن يجلي صفحة من صفحات الأدب مطموسة المعالم أو هي كالمطموسة.
- 1 -
كشاجم: هو محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك (وشاهك أم السندي لا أبوه، وكنيته أبو الفتح، أو أبو الحسين، وقيل بل أبو النصر، ولا يعنينا هذا الاختلاف في قليل ولا كثير.
وقد اتفقت جميع المراجع في اسمه واسم أبيه، وتكاد تتفق على اسم جده إذا ما صرفنا النظر عما أورده السوطي في حسن المحاضرة مع أنه:(محمود بن الحسين بن السدي بن شاهك) ولعل هذا تحريف لا يلتفت إليه بجانب ما أثبتته الكثرة من المصادر الأخرى، ولاسيما بعدما أورده السمعاني في كتاب الإنسان من قوله:(وأما السندي بن شاهك فهو كشاجم الشاعر، يقال له السندي لأنه من ولد السندي بن شاهك الذي كان على الحبس أيام الرشيد ببغداد). وقد يبدو في الظاهر أن هذا الاختلاف شكلي مثل الذي قلنا في الكنية، ولكن الواقع أن تحقيق النسب له أهميته من حيث معرفة السلالة التي انحدر منها الشاعر، مما قد يكون له تأثيره بشكل ما على ميوله واتجاهاته، وبالتالي على ما ينتجه من أثر فني، فالسندي بن هاشك هذا هو إذن جد كشاجم، وهو الذي ذكر الجهشياري أنه كان يلي الجسرين ببغداد في عهد الرشيد وقد ذكر أبن ميسر أنه كان هندي الأصل وكان صاحب الحرس.
هذا ما يتعلق باسمه وكنيته ونسبه وأصله.
أما اللقب الذي اشتهر به فهو (كشاجم) وقد قالوا فيه وفي تحليله: (إن الكاف من كاتب، والشين من شاعر والألف من أديب والجيم من جواد والميم من منجم) وقد يكون لنا وقفة عند هذا اللقب وتحليله بهذه الصورة عند الحديث عن ثقافة الرجل في العدد القادم.
- 2 -
ولد كشاجم بالرملة في فلسطين، وتاريخ ميلاده في غاية الغموض، إذا لم يحدده مرجع واحد من المراجع التي بأيدينا، كما أن طفولته ونشأته كذلك غامضة إلى حد كبير، ولا نعلم شيئاً ذا بال عن أسرة الشاعر، وهي بيئته الأولى التي ترعرع فيها، والتي أرضعته وغذته حتى تكون خلقاً سوياً جمع، ولاشك، في طوايا نفسه كثيراً آثار هذه البيئة الخاصة التي نشأ فيها أول ما نشأ، وهذه معلومات لا يستهان بها، وقد كانت حرية أن تسهل علينا مهمة الدرس والتحقيق، ولكن مما يؤسف له حقاً أن الرجل لم يجد عناية من كثير من المؤرخين، وأصحاب التراجم، ومن ترجم له منهم جاءت ترجمته مقتضبة كل الاقتضاب، ولا تلقي على حياة الشاعر إلا أضواء باهتة، لا تصور النواحي الهامة من حياته، وليس من شأنها أن تساعد على تصويرها تصويراً دقيقاً، ومع هذا فالباحث لا يسعه إلا أن يحاول الانتفاع بهذه الأشعة ثم يحاول بعد هذا أن يسد ذلك النقص بشيء من الأناة والصبر، وتعمق النصوص واستبطانها.
- 3 -
وإذا كان مترجموه قد أهملوا سنة ميلاده، فقد اضطربوا في سنة وفاته بين: سنة 360، سنة 350، سنة 330هـ، ولعل أضعف هذه الآراء هو الرأي الأخير، لما ذكره من تعرضوا لترجمته من أنه كان طباخاُ لسيف الدولة الذي لم يظهر على مسرح السياسة قبل هذا التاريخ، أما الرأيان الأولان فقد يصعب الترجيح بينهما وهما على كل حال متقاربان إلى حد ما، ولكن قد وردت في ديوان كشاجم إشارة عابرة فيها تعريض بكافور الإخشيدي حين يهجو غلاماً له أسمه كافور:
حكيت سميك في برده
…
وأخطأك اللون والرائحة
فإذا صح أن هذا التعريض حصل في إثناء ولاية كافور (55 - 57هـ) فقد يكون في هذا الاحتمال ما يستأنس به في ترجيح الرأي، وهو أن وفاة كشاجم كانت سنة 360هـ. هذا عن وفاته، أما مولده فقد سبق أن قلنا أن أحداً من المراجع لم يلق ضوءاً عليه، وهذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاهتمام بتاريخ الميلاد - كانت شائعة في هذه العصور القديمة،
التي لم تظهر فيها العناية بالمواليد والوفيات على أساس ثابت، كما هو الشأن عند الدول المتحضرة الآن. ثم أن التاريخ - فيما يبدو - كان أرستقراطياً لا يحفل كثيراً بغير الملوك والأمراء؛ فإذا ولد هذا الطفل أو ذاك من عامة الشعب لا يعيره أدنى التفاتة، ولكن إذا قدر لهذا الطفل أن يكون في مستقبل أيامه وزيراً خطيراً، أو عالماً كبيراً أو أديباً مشهوراً. . . فهنا يقف التاريخ في أرستقراطيته الساذجة، ويعير هذا الرجل شيئاً من عنايته؛ من هنا يجد الباحثون صعوبة ومشقة في تحقيق تراجم كثير من الأدباء والعلماء ودراسة آثارهم الأدبية والعلمية، فهم يجدون دائماًِ حلقة أو حلقات مفقودة، كم يودون لو عثروا عليها فتنير أمامهم الطريق.
وهكذا نجد التراجم قد سلكت عن مولد هذا الشاعر وطفولته ونشأته، وبيئته الأولى وفجأة يقفز إلى الوجود طباخاً في قصر سيف الدولة، أو شاعراً من وراء والده أي الهيجاء. وحتى هذا الذي ذكروه بحاجة إلى الوقوف عنده، فنحن نستطيع أن نفهم أن كشاجم حين يكون طباخاً لسيف الدولة ولا يأتي ذكره في شعره ربما يكون ذلك معقولاً، أما أن يكون شاعراً لأبي الهيجاء بينما لم يزد ذكر لأبي الهيجاء هذا ولو في قصيدة واحدة من شعر شاعره فهذا هو الذي لا نستطيع أن نسيغه!!
ومع هذا فالباحث لا يصح أن يقف مكتوفاً أمام هذه الصعاب، وإنما يجب أن يعمل عقله في النصوص التي بين يديه عساه أن يخرج منها بشيء مما ذكروه مشوهاً، أو أغفلوا ذكره إغفالاً.
فهذا ديوان الشاعر يحدثنا أنه مدح علي بن سليمان الأخفش النحوي، ويصفه بأنه أستاذه، وأنه قد تخرج عليه، ويحدثنا ياقوت في معجمه أن هذا الأخفش مات في شعبان سنة 315هـ والعني هذا أن كشاجم كان قد جاوز مرحلة الطفولة، ثم مرحلة الأولى - على الأقل - قبل هذا التاريخ، وإلى جانب هذا تراه يرثي محمد بن عبد الملك الهاشمي المتوفى سنة 312هـ، وهذا معناه كما قلنا أن كشاجم لم يكن في سن الطفولة الأولى إذ ذاك وأنه كان على الأقل في الحلقة الثانية من عمره، وهذا كله يقوى عندنا الظن بأن مولده كان في أواخر القرن الثالث الهجري، وإذا كان قد رجح في نظرنا ذاك الرأي القائل بان وفاته كانت 360هـ فمعنى هذا أن حياة كشاجم أربت على الستين، وهذا ما يؤيده ذكره للشيب
والضعف في مواضع كثيرة من ديوانه.
عبد الجواد الطيب
-
الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
العقل
بينا في المقال السابق أن الغزالي رحمه الله لم يستطع أن يحل عقدة النفسية بالتأمل الذاتي فأنقلب ذلك التأمل مرضاً نفسياً مستعصياً وهو ما يسميه علماء النفس المعاصرون بمرض (التأمل الذاتي المستمر).
فزاد ذلك التأمل المستمر في آلامه وضاعف في شقائه وعذابه ولكنه على كل حال كان مؤمناً بضعفه أمام عظمة الله فخاف عذابه ورجا ثوابه فخضع لسلطانه الخضوع المطلق، وأنقاد لأوامره الانقياد الأتم. وقد دفعه هذا اليقين إلى العمل في سبيل نقل آرائه وأفكاره إلى المسلمين ليكون بها في نفوسهم إيمانا كإيمانه، ويقيناً مستولياُ على القلوب كيقينه، فكان له في هذا السلوك تنفيس وتسنام كانا سبباً في احتماله العظيم لمضاضة الحرمان وغضاضة الانزواء والنسيان. وليس من شك في أن أحسن أنواع سلوكه رحمه الله هو كتابة هذه الكتب الكثيرة القيمة. التي أودعها تجاربه وآراءه وأفكاره ومعتقداته لا سيما كتابه النفيس القيم - أحياء علوم الدين - الذي نعتبره من أثمن الكتب الإسلامية في الدين والآداب والأخلاق والتربية وعلم النفس. فقد دون فيه فصولاً متعددة لنتائج تأملاته الطويلة بدأ بعضها بألوان متألقة منسقه وبعضها الآخر بألوان متنافرة مختلفة. فكان في تدوينها خير للعلم وموعظة حسنة للتحليل النفسي والتأمل الذاتي.
ولنأخذ الآن بعد هذه المقدمة كتاب الأحياء الذي أودعه الغزالي نتيجة مجهوده الفكري وصفاوة تأمله النفسي فندرسه دراسة تصل بها إلى ما رمينا إليه من غرض، والله الموفق لما فيه الخير.
لا يزال علماء النفس مختلفين في ما هية العقل وحقيقته فلهم آراء كثيرة متضاربة ولكنهم جادون في البحث عن هذه الحقيقة. ونحن وإن كنا لم نقف لعلماء النفس إلى رأي إجماعي في موضوع العقل. فقد رأيناهم يعتبرون اللاشعور أو العقل الواعي بمثابة أجزاء للعقل، فالعقل في نظرهم هو اللاشعور بخيره وشره وهو الشعور بحلوه ومره.
ليس فيه هذا شيء غريب ولكن الغريب كل الغرابة أن يتفق رأي الغزالي في العقل مع
آراء علماء النفس في العصر الحاضر.
فإننا نراه يتحدث عن اللاشعور ووحيد الشعور وشبه الشعور والشعور أو العقل الباطن والعقل الواعي كأجزاء للعقل. يقول في الباطن الجزء الأول من أحياء علوم الدين في بيان حقيقة العقل وأقسامه.
(أعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقاً على معان مختلفة فصار ذلك سبب اختلافهم. والحق الكاشف للغطاء فيه أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان كما يطلق اسم العين ثملاً على معان عدة وما يجري هذا المجري فلا ينبغي أن يطلب الجميع أقسامه حد واحد بل يفرد كل قسم بالكشف عنه (فالأول) الوصف الذي يقارن الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية وهو الذي أراده الحرث أبن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل أنه غريزة يتهيأ بها أدراك العلوم النظرية وكأنه نور يقذف في القلب يستعد لإدراك الأشياء (والثاني) العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائرات واستحالة المستحيلات كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد (والثالث) هو انتهاء قوة الغريزة إلى حد معرفة عواقب الأمور وقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة وقهرها. وهو الأسس والمنبع، والثاني هو النوع الأقرب إليه، والثالث فرع الأول والثاني والرابع هو الثمرة الأخيرة والغاية القصوى. والأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب. ولذلك قال علي كرم الله وجهه
رأيت العقل عقلين
…
فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع
…
إذا لم يك مبطوع
كما لا تنفع الشمس
…
وضوء العين ممنوع
نرى الغزالي في هذا القول قد رتب صفات العقل ترتيباً بديعاً وافق ترتيب علم النفس الحديث موافقة تامة. فقد جعل القسم الأول والثاني من أقسام معاني العقل يقابلان اللاشعور ووحيد الشعور. وقد وصفها بأنها الأسس والمنبع المتكونان بالطبع، أو هما العقل المطبوع الذي يقابل ما يسميه علم النفس الحديث بالعقل الباطن. وجعل القسم الثالث والرابع في مقابل شبه الشعور والشعور فقد وصفها بالثمرة الأخيرة والغاية القصوى للمعرفة التي تأتي
بالاكتساب، أو هما العقل المسموع الذي يقابل ما يسميه العلم الحديث بالعقل الواعي. وواضح من تقسيم الغزالي العقل أنه يعتبر العقل هو المعرفة المتكيفة التامة، ولهذا بدأ في تقسيمه بأول درجات المعرفة وهي المعرفة الغريزية ثم ارتقى منها إلى ما بعدها من المعرفة المكتسبة. وقد أشبه الغزالي في تقسيمه هذا بعض المعاصرين في تقسيمهم العقل إلى أربعة عقول وهي العقل الحيواني والعقل الإنساني الهمجي والعقل الثقافي القديم والعقل الثقافي الحديث.
وننتقل الآن بعد الذي قدمناه عن العقل عند الغزالي إلى الأجزاء التي يتألف منها كل قسم من الأقسام الأربعة للعقل وهي في نظر الغزالي ثلاثة: (العلم والحال والعمل. فالشعور واللاشعور بل كل عملية عقلية تتكون عند الغزالي من هذه الأجزاء الثلاثة. وهذا ينطبق تمام الانطباق على ما يقوله علماء النفس المعاصرون في هذا (الموضوع يقولون: أن الشعور أو اللاشعور بل كل عملية عقلية تتألف من ثلاثة مظاهر أساسية وهي الإدراك أو المعرفة، أو الوجدان والعاطفة؛ والنزوع أو المحاولة، فالإدراك هو مجرد علمك بما في نفسك من الخواطر أو بما يحيط بك من الأشياء من غير أن تنفعل أو تتأثر. والوجدان هو ما تجده في نفسك من لذة أو ألم يصحب الإدراك أو النزوع. والنزوع هو محاولة أو جهد يبذله الإنسان ليستديم الارتياح الذي وجده أو يبعد عما شعر به من ألم وضيق.
نرى في هذه المقابلة توافقاً تاماً بين تحليل الغزالي للعملية العقلية التي يتألف منها كل قسم من أقسام العقل والتحليل الحديث.
فالعلم عند الغزالي هو الإدراك أو المعرفة. والحال عنده هو الوجدان أو العاطفة أي الحال الذي كون عليه المتأثر المنفعل بعاطفته ووجدانه. والعمل عند الغزالي هو النزوع والمحاولة.
وننتقل بعد هذه المقابلة بين أجزاء العلمية العقلية التي يتألف منها الشعور واللاشعور عند الغزالي وعلم النفس الحديث إلى الجزء الأول من أجزاء هذه العملية العقلية وهو (العلم) أو المعرفة أو الإدراك لنرى ما عند الغزالي في هذا الموضوع فنقابله بما عند علم النفس عنه.
وهذا ما سنقوم به في المقال القادم أن شاء الله.
حمدي الحسيني
الأزهر والاتجاه الحديث في التربية
للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد
كان للرأي الذي أذاعه الدكتور - محمد يوسف موسى - على
صفحات - الأهرام - في 681950 أثره العميق في أكثر من
بيئته. فقد أعلنه في صراحة؛ وجرأة؛ تعد أقوى ما وجه إلى
الوضع غير الطبيعي للأزهر من أزهري ومدرس في الأزهر.
غير أن هذا الرأي مع صدق منطقه؛ ونصاعة حجيته لا نقوى
على هضمه وتمثيله طبيعة البيئة الأزهرية لغير سبب واحد
ولأن الثورة على تلك الأوضاع التي رسخها الزمن ودعمتها
التقاليد قد توجد من المشكلات أكثر مما تحل والذي يمكن
عمله والدعوة إليه هو أن يعمل الأزهر على أن يستغل
ويستفيد من نتائج البحوث التربوية؛ والنفسية؛ وأن يؤمن بأن
ثروة الشعب الحقيقية لا تكن في جوف أرضه بل في نفوس
شبابه وفي مهارتهم في أعمال معينة وفي فوح ميولهم وفي
إعطائهم الفرص الطيبة للنمو الطبيعي وإعطاء كل فرد منهم
منزلة في المجتمع حسب قدرته واستعداداته حتى يمكنه أن
يحترم المجتمع على أحسن وجه ممكن وحتى يستفيد المجتمع
من مواهب أفراد بأقصى مما يمكن. فالاتجاهات الحديثة في
التربية تنادي بأنه يجب أن تعلم الأطفال الاشتراك في العمل
مع الآخرين في نفس الوقت الذي يتعلم فيه كيفية التفكير
والاعتماد على نفسه من إصدار الأحكام، وأن طريقة التفكير
أهم من المادة التي يفكر فيها؛ وأن أصدق مقياس للتدريس هو
ما نشاهده من تطور في سلوك المتعلم؛ واحترام شخصية
الطفل فاحترامها مبدأ أساس فإن من شأن ذلك الاحترام أن
يجعل الطفل يثق بنفسه وأن يعرف أن له وجود أو أهمية.
والعمل على توحيد شخصية الطفل وترابطها يتطلب حياة
اجتماعية موحدة في المدرسة والهيئة الاجتماعية؛ وألا تقف
المدرسة بعيدة عن ميدان الحياة وإلا باعدت بين الكائن الحي
الذي هو الطفل وبين بيئته الحقيقية وهي الحياة وأن يعمل
المعلم على فهم الطفل النفسي فالتعليم الصحيح يعتمد على
المزاج والعواطف والانفعالات النفسية كما يعتمد على الكلام
والأعمال؛ ومعرفة الفروق الفردية وفقه عواملها ومعاملة كل
فرد حسب مواهبه وتبعاً لما يحتاج إليه. ومساعده التلاميذ على
اكتساب القدرة على التفكير الصحيح في جميع مشاكلهم سواء
ما هو اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو علمي ولا نعد
مسرفين إذا قلنا أن كثيراً من الاضطراب في مدارسنا سببه أن
الطلبة لا يستطيعون أن يقاوموا بتفكيرهم الخاص الاتجاه
الجمعي الآتي لهم من الخارج وترمي التربية إلى تنقية البيئة
المدرسية وهي البيئة المختارة وتخليصها من كل ما يلوث
ويشبه البيئة الخارجية من الناحية الجسمية والعقلية والوجدانية
فالطفل يمتص من هذه البيئة كل ما فيها عن طريق التقليد
والإيماء والاستهواء والمشاركة الوجدانية. أما فيما يختص
بعملية التعليم فهو يقوم على مبدأ النشاط الذاتي للتلميذ؛
واستقلال غرائزه وميوله في كل مرحلة من مراحل نموه.
واتخاذها دعامة لعملية التربية واصبح مرشداً ومنظم فسقط أي
يعد المسرح ويترك التلميذ يقوم بدور فأساس التعليم الآن هو
إيجاد المشكلات المناسبة التي تستدعي التفكير وتتطلب الحل
أمام التلميذ وتركه يحاول ما أمكنه حلها والتغلب عليها وهي
تعن بالغذاء الفكري والوجداني الذي تقدمه لكل مرحلة من
حيث جودته وملاءمته حتى يسهل الانتفاع به.
فمن حيث المادة التي تقدم نجد العناية بألفاظها وأسلوبها فتعمل قوائم للألفاظ التي تستعمل في كل مرحلة مثل قوائم (ثور بدين) لتعرض المادة الملائمة لكل مرحلة في الأسلوب الذي لا يخرج كثيراً عن قاموس الطفل اللغوي وقد تعتني مظهر الكتاب من حيث الإتقان في
الطبع والتلوين والصور كل هذا على ضوء علم النفس والتجارب التي أجريت على آلاف الأطفال؛ أما من الناحية المزاجية فأسمع كيف يعرض علماء النفس والتربية لأهميتها فيقولون: أن أهم عامل في استجابة الطفل للتعليم سواء أكان مبكراً أم متأخراً هو حالته المزاجية فعلى المدرس أن يسأل هل هذا الطفل (الذكي) سليم الجسم مملوء بالحيوية؟ فإذا لم يكن كذلك فالواجب تشجيعه إلى اللعب في الهواء الطلق وأن يقلل من عمله داخل الفصول؛ ومن الناحية الاجتماعية يسأل نفسه أيضاً هل الطفل الذي أظهر قدرة ممتازة في أعماله المدرسية منسجم في صلاته مع إخوانه؟ إن كثيراً من هؤلاء المتفوقين في الأعمال المدرسية مغمورون من الناحية الاجتماعية من حيث أتحاذ أصدقاء اللعب وهم يفشلون في حياتهم العامة لأنهم لم يستفيدوا من نباهتهم في تكوين الأصدقاء ومعرفة أساليب الحياة العامة. فإذا اكتشف المدرس هذا النوع من التلميذ فالواجب عليه أن يحثه على اللعب مع إخوانه على أن يلعب دوره جيداً في ملعب الكرة والتنس وغيرهما من الملاعب فإنها ذات قيمة في حياته تعود القدرة على حفظ درسه جيدا. . .
هذه بعض الخطوط العامة للسياسة التربوية كما تؤمن بها وتنفذها الأمم الحية. فماذا فعل الأزهر وهو جزء له كيانه البارز في هذا العصر إزاء هذه السياسة التربوية؟؟ الدراسة لا تزال تدور حول محور الطريقة الالغائية وتشنيط الذاكرة. أما مراعاة الفروق الفردية فلا يعرف عنها شيئاً ولا تزال الكتب من حيث أسلوبها ومادتها يعوزها الشيء الكثير حتى تفد في قدرتها الإثمار. أما العناية بالجانب الوجداني للتلميذ؛ أما تشجيعه على البحث؛ أما تكوين عادة فكرية سليمة؛ أما العناية بتفاعل الشخصية للتلميذ؛ فكل هذه أسئلة نترك للأزهر الإجابة عنها؟
هل آن للأزهر أن ينظر إلى تلك الوديعة التي استودعتها الأمة عنده تلك النظرة الإنسانية. ويعلم أنه مسؤول أمام الله؛ والوطن؛ والأجيال القادمة عن تنشئة هؤلاء على ما ينشأ عليه أبناء العصر، وكما ينشأ أبناء هؤلاء الذين يشرفون على سياسة الأزهر العلمية. وأنه مسؤول أيضاً عن هذه الأزمات الخلقية والعقلية التي مبعثها اختلاف عقليتين؛ وثقافتين؛ واتجاهين لأمة واحدة. وأن كل تقصير في هذا الإعداد هو جناية علمية؛ واجتماعية؛ وخلقية؛ تطبح من آثامها الأرض؛ وتشكو السماء
محمد عبد الحليم أبو زيد
من علماء الأزهر الشريف ودبلوم فني في التربية وعلم النفس
رسالة الشعر
لهب السنين
للأستاذ إبراهيم الوائلي
هل تسمعين
صوتا يقطعه الأنين؟
هل تبصرين
هذا المعذب في ركاب التائهين؟
هل تدركين
عبث الخطوب المستبدة في تقاطيع الجبين؟
هل تعرفين
أني أطوف بلا هداية؟
كأسير حرب ليس يدري ما النهاية
صديان ما أطفأت جانحه ولا أدركت غاية!
هل تسألين
عني وقد فني الشباب
بين الهجير وفي متيهات اليباب؟
أطوي القفار معللاً نفسي بأخيلة السراب
هل تعلمين
أني أسير بلا متاع؟
وعلى فمي أنشودة الأمل المضاع
أسعى وأبحث عنه في دنيا المفاوز واليفاع
هل تسمعين وتبصرين؟
لو تسمعين
لعرفت أسرار الأنين
لو تبصرين
لعذرتني وعذرت سخط الشاعرين
لو تدركين
لشجاك أن جوانحي ذابت على لهب السنين
لو تعرفين
وقد استبد بي الطريق
وحدي أسير بلا دليل أو رفيق
لشجاك أن خطاي حملها السري مالا تطيق!
لو تسألين
عن حائر ضل المصير
ظمآن لا نبع يلوح ولا غدير
إلا الهجير وهل يعلل ظامئا لفح الهجير؟
لو تعلمين
لتركت تأنيبي ولومي
ووجدت حقاً أن شكوت ضلال قومي
يومي كأمسي قاتم وغدي سيأتي مثل يومي
لو تسمعين وتبصرين!
إبراهيم الوائلي
لاستقبال باريس
يا جحيم الهوى
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
أنا قد ذبت في هواك فطيبي
…
واستلذي تفجعي ونحيبي
وأهنئ بالرقاد ولأسهر اللي
…
ل، وإن طال فالسهاد نصيبي
واتركي للشجون والألم المسر
…
شروقي، وللعذاب غروبي
إن تنعمت في الحياة (بباريس)
…
وألهاك سحر لهوها المحبوب
فأنا في (العراق) أزرع عمري
…
أمنيات حصادهن ندوبي
وأنا في (العراق) طير سجين
…
ملء ألحانه عويل الكروب
وأنا في (العراق) أطوي جناح
…
ي على غربة وجرح خضيب
وأنا في (العراق) حشرجة المي
…
ت وأهات متعب مكروب
فالمآسي تناهشتني فأشجت
…
لي ربابي وحطمت لي كوبي
جف زهر الصبا وكان ندياً
…
وذوت نضرتي بكف الشحوب
كيف أهنأ، والبعد حطم أوتا
…
ري، وثنى على نشيدي الطروب
أتسلي! هيهات بعدك تحلو
…
لي حياة مشوبة بالخطوب؟
أتسلي! وفي دمي تعصف النا
…
ر، وتخبو على النشيج الكئيب؟
كيف أسلو، وطيفك الحلو في عي
…
ني شكوى موله منكوب؟
كيف أسلو وعطر حبك في ثغر
…
ي أغاريد شاعر موهوب؟
كيف أسلو، وسحر عينيك ينس
…
اب على خاطري انسياب الطيوب؟
يا رجائي الحبيب، يا فرحة العم
…
ر، ويا وهج حبي المشبوب
يا (هنائي) والشك يغتال أحلام
…
ي، فيقتات بالرجاء الخضيب
يا (هنائي) والليل ضلل خطوي
…
فأنيري الدجى - ضللت دروبي -
أنا أدعوك في صلاة المحبين
…
إذا ضج شوقهم في القلوب
وأناديك في ضراعات مأسو
…
ر، وفي لهفة المشوق الغريب
وأناجيك في دموع المساكي
…
ن، وفي غصة اليتيم الحريب
فاستجيبي فقد سئمت وبح الص
…
وت مني، أما كفاك أجيبي
آه ماتت على شفاهي التراتيل وأغ
…
فت من لوعة - يا حبيبي -
غام أفقي وزورقي صرعته
…
غمرة الموج في الخضم الغضوب
أدركيه من قبل أن تنطوي الأ
…
يام في موكب الفناء الرهيب
وامددي لي يديك فالموج أدمى
…
بسياط العذاب ظهر الغريب
يا جحيم الهوى، صهرت بحبيبك
…
وطهرت في هواك ذنوبي
باركت تارك الكريمة آلامي،
…
فذابت على لظاط عيوبي
أنا كالند كلما لفحتني
…
جمرة الحب فاح للناس طيبي
وأنا جمرة وللوله القدس
…
ي نوري، وللجمال لهيبي
النجاة النجاة يا (كوثر النور)
…
ويا (هيكل الفنون) الرحيب
جئت أسعى إليك منطلق الرو
…
ح، ندي المنى، طهور الجيوب
جئت ألقاك لا قيود بكفي
…
لا ولا في فمي لهاث اللغوب
في السماوات طائراً، أطبق ال
…
جفن على مأمل شهي ذهيب
فجري لي سناك أحتضن الأ
…
ضواء مستلهماً شماء الغيوب
لست إلا سراً توشح سراً
…
فاكشفي ستر حسنك المحجوب
وسلام عليك (يا كعبة الفن)
و
…
يا (واحة الخيال) الخصيب
وسلام على الرفاق (ببغداد) س
…
لام على الوزير (النجيب)
باريس
عبد القادر رشيد الناصري
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ذكرى المازني
كانت الذكرى الأولى لوفاة المغفور له الأديب الكبير الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، يوم الخميس الماضي الموافق 10 أغسطس الحالي، وقد احتفلت أسرته بهذه الذكرى كما تحتفل أية أسرة بفقيد لها أما الهيئات الأدبية والثقافية رسمية وغير رسمية فلم تهتم إحداها بذكرى الأديب العظيم، ومتى اهتم أحد بذكرى أديب من أدبائنا الراحلين؟ وهكذا صارت ذكرى المازني في عداد الذكريات المنسية في مصر!
كأن لم يكن المازني أحد أركان النهضة الأدبية في العالم العربي الحديث، فإذا مات انحسر ذكره وأصبح كل ما هو جدير به في ذكراه الأولى أن تنشر بعض الصحف أن الأسرة الكريمة ستحتفل بهذه الذكرى في منزلها رقم كذا بشارع كذا، وانتهى الأمر. . .
ولكن كأني بالمازني يطيب نفساً - في عالمه الآخر - بهذا الإهمال، فهو يؤكد رأيه في الناس ونظرته إليهم وسخريته بما يصطنعون من مظاهر في حياتهم، وكأني به أيضاً غير لائم ولا عاتب لما يشيع في أدبه من روح التسامح والميل إلى تحليل الأعمال وكشف البواعث دون التشبث بالحكم عليها فقد كان ساخراً وكان الوقت نفسه رحيماً عطوفاً. وكان لا يبرئ نفسه مما يقع في الناس ولا يعفيها مما يوجه إليهم من سخرية واستخفاف.
كان المازني من أكثر أدبائنا خصباً وأصالة، ويبدو لنا من دلائل أصالته الأدبية أمران:
الأول ظهور شخصيته وحياته في أدبه، فلم يفن مشاعره في محصول عقله من الاطلاع والدراسات، بل نراه على عكس ذلك استخدم هذا المحصول وبثه في الحديث عن حياته ومضطربه فيها. وقد كان يتواضع أو يتفكه فيشبه نفسه بعربة الرس التي كانت تملأ لتفرغ، ولم يكن كذلك، إلا أن يمتلئ إحساسه ووجدانه بما يفيض به، أو إلا أن يتناول ما يهضمه ويتمثله فيتحد بما يملأ نفسه من خواطر يثيرها حوله من شئون الحياة.
الأمر الثاني هو أسلوبه في الكتابة، ذلك الأسلوب الذي يجمع البيان العربي الحر إلى دقة التعبير عن الحياة العصرية، فكان يرفع التعبير الدارج إلى ذلك البيان، فيأخذ هذا من ذاك نبض الحياة، كما يكتسب الأول من الثاني جمال الأداء. كان المازني يركب التعبير الفاره
إلى حيث يريد، وبعض الكتاب يركب التعبير الهزيل، وبعضهم يمتطيه التعبير. . .
رحم الله المازني العظيم، وغفر لنا تقصيرنا ف حقه.
التفاؤل والتشاؤم في الأدب العربي
أذاعت محطة لندن العربية يوم الجمعة الماضي حديثاً مسجلاً لمعالي الدكتور طه حسين بك، موضوعه (التفاؤل والتشاؤم في الأدب العربي) وكان هذا الحديث خاصاً بعصر الترجمة الذي يبدأ في أوائل العصر العباسي وينتهي بأب العلاء المعري.
قال معاليه: تعقدت حياة المسلمين منذ اتصلوا بالحضارات الأجنبية تعقداً شديداً، وكان أول هذا التعقد أن أدباءهم والمثقفين وذوي الفكر منهم فطنوا إليه ونظروا إلى الحياة نظرة متعمقة ليست كنظرة من قبلهم إليها، فليست الحياة شيئاً ينتهي بالموت فحسب بل فيها أشياء تنغص على الناس عيشهم وتجلب لهم ما يسوؤهم من مرض بؤس وغير ذلك من الكروب والأحداث وهذه الفطنة لما في الحياة من تعقد حملت أولئك الأدباء والمفكرين على أن يتساءلوا: ما خطبها وما غايتها؟ وإذا كان عامة الناس يحتالون لمواجهة شئون الحياة بتدبير يذلل صعابها فإن ذوي الذكاء والفطنة والتبصر قد حاولوا أن يصلوا إلى أعماق الأشياء، وقد انقسموا إلى فريقين، فريق يحمله التشاؤم على الأخذ بما في الحياة من متعة ولذة والآخر زهده تشاؤمه في اللذات والمتع ولابد هنا من سؤال: ما خطب شاعر كأبي نواس؟ أكان مبتهجاً بالحياة يقبل على لذاتها هانئاً سعيداً، أم كان مبتئساً يائساً يسري عن يأسه وابتئساسه بما يأتيه من لهو وعبث؟ لن نجد لهذا السؤال جواباً شافياً يكشف لنا عن حقيقة ما كان في نفوس أولئك الشعراء من إضراب أبي نواس على أن شاعراً كأبي العتاهية قصته أيسر من قصة أبي نواس، فقد كان يقبل على اللذة واللهو في حياته ويعلن البؤس والألم في شعره، فهو مستمتع بالعمل يائس بالقول.
وقال معالي الدكتور طه: ثم تتقدم الحياة إلى القرن الثاني، ويظهر التشاؤم المنظم في شعر الشعراء، فابن الرومي يعلن أن الحياة بؤس كلها، وأن بكاء الطفل ساعة يولد إنما هو لما سيلقاه فيها من متاعب وآلام، والمتنبي يبلغ به تشاؤمه حد السخط والثورة، فهو يرى العرب بعيدين عن الحكم والسلطان ويرى غيرهم من العناصر الأخرى يتولون الأمور ويسودون، فيسخط ويثور مع القرامطة، ولكن ثوره تخمد فلا يتمكن من تنفيذ ما أراد
بالفعل، فتحول نوازع نفسه إلى حزن يعبر عنه في كلام، ولا يقف المتنبي عند السخط على نواحي الحياة من اجتماعية وسياسية وخلقية وغيرها، بل يتجاوز ذلك إلى السخط على الحياة من حيث هي حياة، على أن المتنبي لم يقصر شعره على التشاؤم، بل هو يعالج فنون الشعر الأخرى، فيمرح ويسر ويرضى، ولكنه يظهر سخطه بين حين وآخر. ويبلغ التشاؤم غايته في أواخر القرن الرابع وفي القرن الخامس، إذ كان يعيش أبو العلاء الذي صبغ التشاؤم حياته كلها، وشاع في قوله كما تحكم في عمله؛ يرى أبو العلاء أن الإنسان مقضي عليه في هذا الحياة بالشقاء، فلا ينبغي له أن يجني على غيره ويكون سبباً في وجوده فيجلب له شقاء العيش. ويختلط تشاؤم أبي العلاء بالقلق، فهو لا يستقر على شيء في أمر ما بعد الموت، هل هناك حياة أخرى فيأمل فيها ويأخذ لها من الأولى، أو أن الأمر كله ينتهي بالموت. ويكون أبو العلاء نهاية السلسلة الذهبية سلسلة الشعراء المفكرين في شئون الحياة. وكأن تشاؤمه كان نذيراً لما حدث للمسلمين بعده من أحداث وما ساد بلادهم من الفوضى والظلام.
المؤتمر الثقافي العربي
ينعقد المؤتمر الثقافي العربي الثاني، الذي دعت له الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، يوم 22 أغسطس الحالي بالإسكندرية في كلية الآداب بجامعة فاروق الأول، وسيفتتحه معالي وزير المعارف الدكتور طه حسين بك ويلقي كلمة الافتتاح، وتلقى كلمات أخرى من سعادة الأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمن عزام باشا، ومن الدكتور أحمد أمين بك مدير الإدارة الثقافية، ومن رؤساء الوفود الرسمية
وبعد حفلة الافتتاح توالى اللجان التي تؤلف لبحث المسائل المعروضة على المؤتمر، اجتماعاتها، ثم تضع التوصيات التي توافق عليها الهيئة العامة للمؤتمر. وفي خلال مدة انعقاد المؤتمر، وهي أحد عشر يوماً، يلقي عدد من أعضاء المؤتمر محاضرات عامة في أماكن مختلفة بالإسكندرية.
وكانت الإدارة الثقافية قد وجهت أسئلة وزارات المعارف والمعاهد الثقافية والشخصيات البارزة في مضمار التعليم الثانوي والعالي في مختلف الأقطار العربية، تتعلق بسياسة التوسع في التعليم الثانوي والعالي وبإعداد التلاميذ للحياة العملية، وهما الموضوعان اللذان
يبحثهما المؤتمر. وقد تلقت الإدارة ثلاثة عشر رداً على تلك الأسئلة أحالتها إلى لجنة مؤلفة من الدكتور عباس عمار والدكتور زكي نجيب محمود والدكتور عبد العزيز السيد والأستاذ محمد فؤاد جلال، فلخصت اللجنة التقارير المقدمة في موضوعي المؤتمر، ونظمت الإجابات على الأسئلة في جداول. وقد وردت هذه الإجابات من جمعية البحوث التربوية بالقاهرة، وكلية الآداب بجامعة فاروق الأول، ومعهد التربية العالي بالإسكندرية وكلية العلوم بجامعة فاروق الأول، والجامع الأزهر، وكلية الزراعة بجامعة فاروق الأول، وكلية الطب بجامعة فاروق الأول، ووزارة المعارف المصرية، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، والبروفيسور آتلي الأستاذ المنتدب بمعهد التربية العالي بالمنيرة، ووزارة المعارف الأردنية الهاشمية، والجامعة الأمريكية ببيروت، ووزارة التربية الوطنية اللبنانية.
ويتكون أعضاء المؤتمر من الوفود الرسمية وممثلي الهيئات الثقافية والأعضاء المشتركين بصفاتهم الشخصية. والوفود الرسمية هي الموفدة من وزارات معارف الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية. وكانت الدعوة وجهت أيضاً إلى باقي البلاد العربية غير الأعضاء، فلبث الدعوة الكويت والبحرين وبرقة. وهي البلاد التي قبلت الإدارة الأجنبية بها اشتراك ممثلي معارفها في المؤتمر.
ومن الهيئات التي أوفدت ممثلين لها في المؤتمر، الجامع الأزهر، وقد ذكرت بعض الصحف أن هذه أول مرن يشترك فيها الأزهر في المؤتمر الثقافي العربي. وليس هذا بصحيح، فقد أشترك الأزهر في المؤتمر الأول الذي عقد ببيروت في صيف سنة 1947 وكان للوفد الأزهري فيه نشاط ملحوظ.
ويبلغ مجموع أعضاء المؤتمر نحو ثلاثمائة عضو، بينهم كثيرات من الآنسات والسيدات، وهن من سوريا ولبنان ومصر، وبين السوريات مندوبتان رسميتان. والمشتركات المصريات معظمهن مرافقات لأزواجهن.
ومما يذكر أن الدعوة لم توجه إلى الهيئات النسائية وعلى رأسها الاتحاد المصري الذي يجب أن يكون له مندوبات في المؤتمر، ولا أدري أهذا نسيان أم إهمال؟
بنادق وخراطيش لإحياء التراث:
كتبت إدارة التوريدات بوزارة المعارف إلى إدارة إحياء التراث القديم، تعرض عليها أشياء
لتختار ما يلزمها منها، وهذه الأشياء أسلحة وأدوات صيد. . . منها (بندقية بروح واحد عيار 12، وبندقية بروحين، وحمالة طيور صغيرة، وطبق للرماية، وخرطوش للبندقية. . . الخ)
وإدارة إحياء التراث القديم مهمتها مقصورة على تحقيق المخطوطات الأدبية ونشرها، وهي أحياناً تتلقى رسائل من مكتبات في مصر وفي الخارج خاصة بتلك المخطوطات، فقد تتلقى رسالة من مكتبة الاسكوريال مثلاً في شأن نسخة لديها من ديوان أبن الرومي. ولكنها لم تكن تتوقع قط أن يكتب إليها في شأن البنادق وخراطيش) وما حاجتها إلى ذلك وليست الطيور من أهدافها؟
يحكي أن رجلاً سمع قارئ قرآن يقول. وخر عليهم السقف من تحتهم! فقال له: إن لم تكن تحفظ فهندس. . . وهو يريد أن يقول له أن تحفظ الآية الكريمة فحكم عقلك لأن السقف إنما يخر من فوق.
وإدارة التوريدات كان يجب عليها أن (تهندس)! فإذا لم تعرف ما هو عمل إدارة التراث وهل يحتاج إلى بندقية بروح أو بروحين، أو لا شأن لها بذلك - فإن أسم الإدارة (إحياء التراث القديم) كان جديراً أن يمنعها من هذه الرماية الخطئة. . .
عباس خضر
الكتب
(كانت لنا أيام)
شعر - المطبعة الهاشمية بدمشق 1950 128 صفحة
للأستاذ عمر النص
بقلم الدكتور سامي الدهان
أصاب الشعر العربي المعاصر في السنوات الأخيرة ركود مخيف تجاوز كل ركود في عصورنا الأدبية. فسكنت مصر بعد المطران والجارم وعلي محمود طه، وغاب شبح المهجر، وتلجلج لسان لبنان، وأحجمت بلاد الشام فتردد شعراؤها في نشر ما ينتجون، وراحت الصحف تحمل الفنية بعد الفنية قبساً من قصيد، ولمعاً من نظم.
وحار مؤرخ الأدب في تفسير هذه الظاهرة في البلاد العربية
فميدان الشعر ما يزال خصباً قوياً، وبواعث النظم ما تزال ملحة دافقة، سواء في ذلك ميدان السياسة أو ميدان الاجتماع، فقد ناضلت البلاد العربية وخرجت من نضالها على بأس مرير، وحزن قاتم، فكان هذا وحده باعثاً على خفقات الأسى ولوعات الضلوع والحشى، في أدب يائس، كالأدب الرومانتيكي في أوربة. ولف حياتنا الاجتماعية دوار، واختلفت إليه أمراض فانفتحت كوى واسعة بطل منها الشاعر على سقوط وتخاذل، وبؤس وشقاء، جاورت بلاد الشام تخوم العالم الراهم، فماتت العزلة، وأصبح من في هذه الربوع يشهد نضال أوربة، وشحناء أمريكة، والحرب الحارة والباردة - كما يقولون - وانقضت. بين أعيينا صور حرب مثيرة، ومع ذلك لم نسمع شعراً ولم نقرأ نظماً.
وما أحب أن أعتقد أن هذا كله مر من غير أن يحرك ألسنة شعرائنا، أو يثير كوامن نفوسهم، فهم قد نظموا من غير شك وقالوا وأحسنوا القول،، ولكنهم كارهون للنشر، بعيدون عن الضوضاء - فيما أحسب -، ولقد أردت لهم من قبل أن يظهروا على الناس بدواوينهم مطبوعة مبوبة، يعينون بها الدارس، وينيرون بها سبيل الباحث، ويعبدون الطريق لمن بعدهم، لا أستثني منهم أحداً، سواء فيهم الأستاذ شفيق جبري، أو الأستاذ عدنان مردوم بك، ولا أحب أن أعددهم جميعاً.
وقد فرحت من قبل لديوان (ظلال الأيام) يظهره الأستاذ الشاعر أنور العطار، فيضيف مأثرة في الشعر. وبين يدي اليوم ديوان (كانت لنا أيام) لشاعر جديد أبادر فأعلن اغتباطي لصدوره، لأنه يشير إلى أن الحياة بدأت تدب في الشعر الشامي وإلى أن في الشباب من يحلق في جو الشعر، ويغامر في حلبة النشر، ويسجل فوزاً في كليهما يستحق التقدير والتنويه.
فالديوان منذ ألفه إلى بائه عاطفي رومانتيكي، يرمم خلجات الشاعر، ويعد زفراته، ويصف أساه وحزنه، ويحصي دموعه وبكاءه في قصائد تقارب الثلاثين، وكلها أسف للأماني الضائعة، والشباب الذي يجف، والهرم الذي يبعث، وأخيلة الموت التي تخيم، والشقاء الذي يلوح، والفراغ الذي يسيطر، والعمر الذي تبدده الرياح. والشاعر على ذلك كله شاب في الربيع من عمره - قد أخذ اليأس بجوانب نفسه، وتمسك الألم بنياط قلبه، فتمنى الموت في كل سطر، وانتظر القبر في كل شطر، ولاح له الشقاء في كل صفحة، وهو يجري وراء (ليلاه) فيقول: ص 58
وما الكون إن أنا أنسيتها
…
وما أنا إن كنت لا أذكر
فو الهتاه ضاع صبايا
يا ظلام الأقدار رد صبايا
أرقصواألرقصوا على حدث الحل
…
م وصبوا الشراب فوق ثرايا
في فضائي تحوس أخيلة المو
…
ت وفي خافقي أحس شقايا
52وجف الشباب سباب المنى=وعاث به الهرم المبكر
55وما الغد؟ ما نحن؟ ما=الأمنيات وأي مصير لنا يذخر
ويقول أحسن من هذا كله في الصفحة (46) والصفحة (59) مما لا أستطيع روايته كله، وإنما أحيل القارئ إليه ليرى قوة وبياناً وشاهداً على ما أقول.
والغريب أن الأستاذ (عمر النص) شاعر الديوان يصف نفسه في يأس وحزن عجيبين فيقول: ص 111
أنا تائه في شباب الوجود
…
أفتش عن أفق أوسع
أفتش عن نغم لا يموت
…
وأبحث في الأرض عن مضجع
إلى أن يبلغ حدود الموت فيقول:
إنه مات فاتركيه مسجى
…
بملأ الشوق روحه وعيونه
ص 56
رماد أنا بددته الرياح
…
فهل أستقر وهل أنشر؟
وإني لأجد الشاعر الشاب في مدرسة فوزي المعلوف وأبي القاسم الشابي، وأجد في شعره صورة من شعر الشقاء والألم الذي كان ينطق في كل بيت من أبيات الراحلين، وأرى قصيدته اللامية أقرب إلى قصيدة (شاعر طيارة) لفوزي المعلوف، إذ يقول: ص 39
لا تراعي فليس غير شقي
…
يشرب الدمع بكرة وأصيلا
جاء يبكي على تراب أبيه
…
ويروي الثرى دماً مطلولا
ويقول: ص 7
الربيع الذي أؤمل ولي
…
في ذهول ورقبة واشتياق
أنا شيخ أدب في شعب الأ
…
رض وأهذي بغربتي وفراقي
وما أحب أن أوازن بينه وبين هذين الشاعرين فليس هذا محله، وإنما أنشأت لأعرف بالديوان وصاحبه. وأقدم هذا اللون من الشباب الهرم، والحب الحزين - إذا صحت هذه التعابير - في أسلوب مشرق، وعبارة فصيحة لا تند عن عمود العربية، ولا تبعد عن فصيحها، في وحدة للقصيدة، ومنهاج بين، وقافية مسلسلة، لولا أن الشاعر شد على نفسه الآفاق الأخرى - وهي بكثرة - وجعل تحليقه في ميدان روحه، ونفسه فضاء.
ولعله فعل ليبدأ بنفسه ثم بثني بما حوله، ثم يعلو إلى فضاء الإنسانية جمعاء، ويقوم برسالة الشاعر على الوجه الذي يفهمه الغربي اليوم، فيحس بآلام أمة قلقة حالمة شرود، ويصور حزن شعب فقد الثقة بنفسه وبأصدقائه ويرسم البيت السوري بخيره وشره. ولكنه كثير على شاب ما يزال في الربيع، فلنبارك الخطوة الأولى، ولنثن على ما بذل في سبيلها من جهد في الشعر والنشر، أنه بذلك جدير.
الدكتور سامي الدهان
البريد الأدبي
في أدب المحاضرة: (الله المصور)
دعينا إلى سماع المحاضرة (الحولية) التي يعدها في كل عام الأستاذ مصطفى شاهين برحبة نادي رمسيس الرياضي.
وكان الموضوع دقيق المأخذ، رقيق الملمس، يستدعي إحاطة شاملة بما اشتمل عليه هذا الكون من المشاهد (المصورة) بتصوير القدرة القادرة، فعانى المحاضر معاناة شديدة خشية أن ينأى به الرأي عن الروح الديني، وكان محتبس الأنفاس، تعيد الإحساس، يريد القول على سجيته؛ فيطويه في صدره، ثم يدينه من أحاسيس المتسمعين الذين يعزب عنهم ما يريد أن يتفرد به من اقتباس (المخلوق) المفتن كل ما أبدعه الفنان الأعظم!.
تحدث عن نظاهر الوجود كوحدة مرتبطة الأجزاء بينها الالتئام، والإنسجام، والتوافق ثم عدد هذه المظاهر، فأشار إلى أن الإبداع فيها متفق مع (البيئة) ومثل بروعة الجليد في سويسرا حينما يكون على أوضاع متباينة، وقال: أنه يظن أن (الجنة) ستكون في بقعة (لبنان) وأن الحياة في الريف المصري تمثل طابع النيل. مما يدل على أن الخالق يرسم على لوح الوجود رسماً يصور طبيعة الحياة!
واستطرد المحاضر يتابع (القمر) في حالاته - وهو في اكتماله -، ويوضح مدى جماله في كل حال، وأنه إذا استمر بدراً كل ليلة كان مدعاة إلى الملالة!؛ ثم استدنى عالم النبات؛ فأبان خصائص القدرة في كل نوع منه، في أسلوب أدبي، لا يخلو من صنعه الأداء اجتذاباً للأسماع.
واستمر يستعرض الصور المتعددة ويقرن بينها وبين تصوير المخلوق في اصطناعه عند إخراج صوره باعتماده على الظلال، وتوزيع الأضواء، وبراعة الإخراج ثم خلص إلى أن الفن مأخوذ عن (الطبيعة) المبتدعة بإبداع المصور الأول!
وكانت المحاضرة على دقتها، واستبهامها، وغموضها طريقة، تدل على استعداد طيب في التفرد بالرأي على الرغم مما يحيط به!.
أما لغة المحاضرة؛ فكان يغلب عليها الطابع الإنشائي في الأداء، والتعبير. مع التأنق، والاختيار، والتنابق.
وقد كرر الأستاذ مرات متعددة كلمة (وحدة) بكسر الواو والصواب الفتح، ولم يجئ لفظ (لوحة) إلا في الأسلوب الحديث، ونعتقد تذكيره (في لوح محفوظ. . . هذا وإن المحاضرة قد صورت مدى اعتمال وجدان المحاضر بالمشاهد الوجودية فصورها. ووجه الأبصار التي تحسها لكنها بعيدة عن إدراك أسرارها الرفيعة!.
بور سعيد:
أحمد عبد اللطيف بدر
حول مقال قديم للأستاذ لبيب السعيد:
كان الأستاذ لبيب السعيد قد نشر في الرسالة ع 10 يناير بحثاً عنوانه (من شؤون الموظفين في النظم الإسلامية) وهو بحث فيه كثير من الاستقصاء والاستقرار. وكما بلونا الأستاذ السعيد في بحوثه الإسلامية الخصبة رأيناه في كل موضع من هذا البحث نقل فيه أو اقتبس يشير إلى مراجعة في أوفى دقة. وهذا ما يتيح للدارس المآرب العلمية الدقيقة التي يعرفها من يعينهم التحقيق العلمي الصحيح.
وقد نشر الأستاذ محمد بك البنا في مجلة (لواء الإسلام) ع 16 يوليو 1950 مقالاً بعنوان (الموظفون في الإسلام) وهو مقال يتراءى فيه للقارئ بسهولة جهد الأستاذ لبيب السعيد ومنهجه وفي بعض المواضع صياغته.
نعم أن النصوص التي ردها البنا بك عن الأستاذ لبيب لا ملكية فيها ولكن تأليفها بنفسها على نحو مقارب جداً من تأليفها السابق وإيرادها عن نفس الذهنية واتحاد الكاتبين في جوهر الموضوع ومنحاه فضلاً عن الكثير من ظاهره كل أولئك يجعل للسابق فضلاً لا ينبغي أن يتره اللاحق.
ولئن كان للبنا بك تعقيبات على بعض الأصول التي نقلها عن مقال الرسالة فهي تعقيبات يلمح القارئ مثلها أيضاً في ذلك المقال. ولن يطامن من هذا المعنى أن البنا بك ترك قصداً الحديث عن موضوعات معينة تناولها بحث الأستاذ السعيد. . .
ولولا أن تضيق الرسالة عن نشر أغلب فقرات المقالين الطويلين لنشرنا ما يتوثق به القارئ من صحة ما أوضحنا والمقالان - على أية حال - بين يدي القارئ يرى فيهما
رأيه.
ومادام البنا بك انكأ على بحث الأستاذ السعيد وقضى منه وطراً واستغنى به عن التنقيب في شتى المراجع فقد كنا نحب له أن يسمي صاحبه. وما في ذلك يأمر على البنا بك بل هو الإنصاف الذي هو أحق به وأهله.
وللكاتبين الفاضلين التحية والتقدير.
الإسكندرية
السعيد محمود الحداد
إلى معالي الدكتور (طه حسين بك)
لاشك في أن معالي (الوزير) حريص أشد الحرص على المساواة التامة بين كليتي دار العلوم واللغة العربية. لأن رسالة الكليتين واحدة وثقافتهما واحدة. ولما كان الوزير الأسبق قد أباح لطلبة (دار العلوم) جواز الالتحاق (بمعهد اللغات الشرقية) فينبغي أن تمنح كلية اللغة العربية هذا الحق. فيصرح لطلبتها بالالتحاق بهذا المعهد ما دامت ثقافة الطلبة في الكليتين متحدة في اللغات الشرقية. وفي ذلك تحقيق للمساواة المنشودة بين الكليتين. وليس ذلك بعزيز على معالي الدكتور الذي ننتظر منه أن يخطو خطوات حاسمة في سبيل توحيد الجهة التي تخرج مدرس اللغة العربية.
مدرس بالمدارس الأميرية
القصص
المقامر. .
للأستاذ كارنيك جورج
لفظه الباب إلى الشارع، فسار مسرعاً وفي أذنيه تتردد صيحات زوجه وأناتها، كما يتردد قول خادمته (أسرع يا سيدي. أسرع بالقابلة، إنها تعاني آلام المخاض)! إلام المخاض، وفي مثل هذا الوقت بالذات، وقت ذهابه إلى النادي لملاقاة أصحابه؛ لا! إن هذا لشيء مزعج مؤلم! ألم تجد تلك الآلام وقتاً آخر؟ كان الأحرى بها أن تأتي في الصباح وهو في مقر عمله، أو عند الظهيرة قبل أن يعود إلى البيت، أو عند الليل حين يكون في ناديه المعتاد، لا في هذه الساعة بالذات، هذه التي يفارق فيها زوجه وبيته ليسعى إلى متعته مع أصحابه. . .!
قال وهو يقلل من سرعة خطواته (ولماذا تلد؟ هل أنا بحاجة إلى ولد آخر. يكفيني واحد؟ لست بحاجة إلى اثنين! وهل وجدت في الواحد راحة لأجدها في الاثنين؟ وهل تمكنت أن أنام أثناء الظهيرة ساعة واحدة بهدوء لم يعكره هذا الولد العاق بضوضائه وصراخه؟! أنا لست راضياً عن واحد، فكيف أرضى عن أثنين؟ لا شك إنهما سوف يذيقني أصناف العذاب. وهاهو الثاني قبل أن يأتي وقبل أن أراه يجبرني على التخلي عن أصحابي لآتي له بقابلة، كأنما الملعون يأبى أن يأتي إلا إذا وضعت له من تستقبله بالترحاب، لكي ينزل على بيتي ضيفاً ثقيلاً إلى الأبد! يزعجني وهو صغير بعلله وبكائه، ويزعجني وهو شاب بتعليمه وتثقيفه، ويزعجني وهو كبير بتعجرفه وتكبره! وربما تحول عني وتركني عاجزاً جائعاً، ومضى وراء عاهرة أو فاجرة، أو شيء من هذا القبيل، ونسى أنني أنهكت قواي وبذلت أقصى جهودي لكي أربيه وأكبره. . .!
(لا. . . أن هذا لا يطاق. من الخير أن لا أطيل وأزمر لإستقباله، مادام سيتنكر لي بعد أن يكبر. لكن العاطفة التي وضعها الله في قلبي ترغمني على أن أضحي لأجله بهذه الليشلة ولأجل زوجي بالليلة المقبلة، زوجي التي تفهمني كما لم يفهمني أحد. إن ضميري لا يدعني أسد أذني عن صرخاتها وتأوهاتها وأناتها. . . سأدعو القابلة، وسأتخلف عن النادي وأبقى في البيت حتى ولادة ذلك الملعون الذي يعربد في أحشائها وهم لم ير النور بعد.
فكيف به بعد أن يرى النور؛ أنه سيعربد في الدار عربدة لا هوادة فيها.
أنا لا أضحي بلبلتي هذه من أجله، ولا أدعو القابلة لاستقباله، بل أفعل ذلك لأجل زوجي فقط! وليذهب الملعون إلى الجحيم، على أن يترك لي زوجي بكامل صحتها.
وعندما بلغ النادي الذي يتردد عليه كل ليلة توقف قليلاً، وأرسل أنظاره من خلال زجاج إحدى النوافذ فرأى أصحابه مجتمعين حول منضدتهم الخاصة! لاشك أنهم يئسوا من مجيئه هذه الليلة فباشروا اللعب. هو ذا يرى كرسيه خالياً، كأنما ينتظره ولم ييأس، بعد من مجيئه. أنه لن يجعله ييأس، سيأتي إليه، سيجلس عليه، كما يجلس كل ليلة، لكن. . بعد ساعات! بعد أن يأخذ القابلة إلى البيت لتخلص زوجه من آلام المخاض، ومن ثم يعود! ماذا يهم زوجه لو تخلف عنها يعد زوال الخطر؟ وبعد ولادة ذلك الابن الصغير الذي يأبى الانتظار حتى الصباح. أنه سيعود، في آخر الليل، واللعب في آخر الليل يتخذ صيغة الجد! فلو حالفه الحظ وكسب هذه الليلة فإن ولده قد يكون سعيداً. وإن لم يكسب فلا. . . لكن! لماذا لا يجرب الآن؟ لماذا لا يدخل فيلعب (كاريه) واحد فقط، ويرى كيف يكون حظ ابنه القادم؟! إن هذا اجدى، ومن يدري ربما لا يتمكن بعد ولادته أن يأتي فينضم إلى جماعته ويجلس على ذلك الكرسي. فالولادة ربما أعقبها أمور أخرى، وربما أدى الحال إلى استحضار أحد الأطباء على أثر عجز القابلة، وربما رأى الطبيب ضرورة في نقلها إلى المستشفى، وربما. . . وربما. . .! فيكون الخاسر هو ولا سواه. إذ يخسر ما كان يجب أن يربح الليلة، أنه واثق أنه سيربح! وإنه واثق أنه لو (كاريه) واحد لما أدى ذلك إلى وقوع أي شيء مضر على بل النقيض سيربح، سيربح أجرة القابلة ومصاريف الولادة، وبذلك لا يكلفه وكده شيئاً، وبذلك يكون هو. . . القائم بمصاريف ولادته من حيث لا يدري أحد.! نعم. . . نعم، لو تأخر ربع ساعة لربح كثيراً، ولم يخسر شيئاً.
ووجد نفسه يرفع يده، ويدفع الباب الزجاجي ويدخل النادي. وما إن وصل إلى مكانه حتى هلل له أصحابه ورحبوا به. فجلس على كرسيه الخاص، ولم تلبث يده أن أخرجت من جيبه عدة أوراق مالية، وضعها على المنضدة، وشارك أصحابه اللعب. . .!
. . . ومضى ربع ساعة، وأعقبه ربع آخر. . . وهو جالس إلى جماعته وأثار العرق بدت واضحة على جبينه! فالحظ لم يحالفه لأول وهلة، لكنه سيحالفه، أنه سيجبره على محالفته،
أنه لن يقوم إلا بعد أن يربح، وسوف يربح آخر الأمر. . .
واستمر عقرب الساعة يدور، واستمر العرق البارد يتقصد من جبينه، واستمرت الأوراق المالية تخرج من جيبه. وهو جالس لا يعي، ينظر إلى أمواله بنظرة الذئب الجائع إلى الطير الذي يملص من بين مخالبه: وما عاد يفكر في زوجه، ولا في ابنه، ولا في الساعات التي تمر، ولا في أي شيء آخر عدا إعادة ما خسر!
واستمر اللعب حتى لاحت أنوار الشمس مؤذنة بمجيء الصباح. . .! فقام الجالسون وقد أنهك اللعب أعصابهم، وأنهك السهر أجفانهم. حينئذ تذكر صاحبنا زوجه! التي تركها تعاني آلام المخاض في أول الليل. . . فتألم وكاد يبكي! فإن حظ ولده الذي لم يره بعد هو أتعس حظ لعب عليه حتى الآن! فقد خسر ما لم يخسر مثله منذ زمن طويل. . . فلعن الأبناء ولعن نفسه، فهرع مسرعاً ليرى ما حل بزوجه؛ ولكنه ما أن دخل البيت يسأل الخادمة حتى صفعته بخبر لم يتوقعه أبداً. فقد قالت له وهي تبكي:
البقية في حياتك يا سيدي. . . أين كنت طول الليل؟ لقد ماتت؟ لكنها ولدت توأمين وهما في صحة جيدة!.
العراق
كارنيك جورج