المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 895 - بتاريخ: 28 - 08 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٩٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 895

- بتاريخ: 28 - 08 - 1950

ص: -1

‌شاعر المعلمين

للأستاذ من أن يسهم في الدعوة إلى العلم ميلا)، فلا مناص من مجابهة

الواقع المرير، محمد محمود زيتون

حقيقة أجمع عليها كل من تعرض لأمير الشعراء بنقد، سواء كان له أو عليه، تلك هي أنه كان من (شعراء القمة) الذين سمت نفوسهم إلى المثل العليا، يقبسون منها لأوطانهم ما تستضيء به في حالك الأيام، ومد لهم الخطوب، فيطرحون عنها الألم الباهظ؛ ويبعثون فيها الأمل الجميل.

بلغ شوقي من الثقافة والرهافة ما بلغ، فحز في نفسه أن يرى الجهل فاشياً في أمته، فلا أقل بهذه الصرخة المدوية: لأن (الجهل لا تحيا عليه جماعة) ولأننا نخطو في العلم إصبعا (إن مشت الممالك

تلك الكفور وحشوها أمية

من عهد خوفو لم تر القنديلا

وعار على أمة آباؤها وأجدادها بناة المسلة والأهرام، وأبناؤها متخلفون عن الإنشاء والإبداع و (لا يحسنون لإبرة تشكيلا)، فيكون حالهم في الحياة أقرب إلى الحيوانية منه إلى الإنسانية، وأصحاب المصالح والأغراض يستخدمونهم كالأنعام، ويستغلون جهلهم كأنهم آلات جامدة.

وشوقي - إذ تستوقفه هذه المشكلة - يلتمس لها أقرب الحلول حسبما يمليه منطق الفيلسوف المجرب، ووفق ما تفرضه طبائع الأشياء. فيتجه من اقرب طريق إلى المعلم الذي يكاد في نظره أن يكون رسولا، ولم لا وهو (الذي يبني وينشيء انفساد عقولا) وحسبه شرفاً أن الله تعالى خير معلم وأنه سبحانه أخرج العقل من الظلمات وهداه إلى النور، وطبعه بيد المعلم (تارة صدئ الحديد وتارة مصقولا)، وأرسل الأنبياء الكرام مرشدين إلى الخير.

فما بال الشرق حيل بينه وبين شموس المعرفة ومشاعل الهداية؟ لقد (فقد المعلم نفسه) واصبح الذين يحمون حقيقة علمهم معذبين في الأرض، وعلى رأسهم فيلسوف اليونان الأول سقراط:

سقراط أعطى الكأس وهي منية

شفتي محب يشتهي التقبيلا

ص: 1

ومع ذلك فليحتمل المعلمون عنت الأستبداد، وليكونوا من البطولة والشجاعة، بحيث لا يكون في الناس أبطال غيرهم، بل ينعى شوقي على (شجعان العقول) قلتهم بين الشجعان، ممن تصرعهم دنيا المستبد، ويستعذبون (فيها العذاب وبيلا).

ولا غرو إذا كان المعلمون أحق الناس بحمل الأمانة في سياسة الناشئين، وتعليم الشباب المأمول لرفعة الوادي وإعالة شانه.

وأمير الشعراء في هذا المضمار صاحب فلسفة، لها مبرراتها ودواعيها، ولها منهاجها وغايتها، فإذا تساءلنا: ما هي الرسالة التي يريد شوقي للمعلمين أن يؤدوها؟ أهي العلوم والفنون وما تتطلبه الحضارة الحديثة من ضروب العرفان؟ أم هي الفضيلة التي هي قوام الفرد والمجموع؟ أم في شيء آخر غير هذا وذاك؟

وهنا تحتل الطرافة مكانتها من فلسفة شاعر المعلمين إذ أنه لا يبعد عن الفلك الذي يدور فيه، ولا يستلقي للتيار الجارف لأفكار العامة، كما أنه لا يرضى لنفسه أن يكون من أولئك الذين يجترون غذاء من سبقوهم.

آية ذلك، أنه ما دام الجهل والجهلاء سبباً في استبداد الطغاة، وضياع الأمم، وما دام الاضطهاد قد لازم الفلاسفة والدعاة والمرسلين، فلا غرو أن يكون (العدل) أولا وبالذات هو الرسالة الأولى التي يجب على المعلمين الاضطلاع بها

ربوا على (الإنصاف) فتيان الحمى

تجدوهمو كهف (الحقوق) كهولا

فهو الذي يبني الطباع (قويمة)

وهو الذي يبني النفوس (عدولا)

ويقيم (منطق) كل أعوج منطق

ويريه رأيا في الأمور أصيلا

وإذا المعلم لم يكن (عدلا) مشى

وروح العدالة في الشباب ضئيلا

من هنا كان شوقي صاحب فكرة أصيلة، وزعيما من زعماء الرأي في الإصلاح الاجتماعي. ونقلوها في غير حرج أنه في هذا الباب أقرب إلى الفلاسفة منه إلى الشعراء، بل أنه باتخاذه هدفا لا يحيد عن التصويب إليه، والحرص على تدعيم جوانبه، يعد فلتة من فلتات النبوغ، لم نعهد مثيلاً له في تهاويل الشعراء، ولا في مدارج الفلاسفة.

وفي الحق أنه سلك بتأمل الشاعر، نهج الفيلسوف وإلا فكيف يصح في الأذهان أن نطلب من المعلم جيلا سليما كاملا متكاملا، والمعلم نفسه موزع القوى، مشتت الملكات،؟ وهل

ص: 2

الفضيلة إلا العدالة؟ وهل العدالة إلا وسط بين إفراط وتفريط؟

لهذا كان إعداد المعلم أول مطلوب:

ورب معلم تلقاه فظا

غليظ القلب أو فدما غبيا

إذا أنتدب البنون له سيوفا

من الميلاد ردهمو عصيا

إذا رشد المعلم كان (موسى)

وإن هو ضل كان (السامريا)

هذه هي مؤهلات المعلم لحمل الرسالة المنوطة يه. وعلى صاحب الرسالة أن ينهض بين العواصف والزوابع، وعليه أن يحتمل كل ما سيلقي في سبيلها، بل من حقها عليه أن يكون إيجابيا لا سلبيا، فإذا طغى الظالمون قلوبهم، وإذا استحكم الظلم ناضل وكافح حتى يهزمه، رائده الجهر بالرأي، في حرية وطلاقة:

ورب تعلمين خلوا وفاتوا

إلى الحرية انساقوا هديا

أناروا ظلمة الدنيا وكانوا

لنار الظالمين بها صليا

وإذا لم يكن المعلمون وراد الحق، وضحايا الحرية، فماذا بقي لهم من مهمة؟ وليس شوقي ممن يلقون القول على عواهنه، ويضربون في الخيال إلى المثل الصعبة والمعاني الجامدة، لذلك لم يكلف المسلمين شططا، ولم يطلب إليها أداء ما لا يطيقون: فإنه ليعلم أن الأمهات في البلاد المتحضرة بما عندهن عن ثقافة واستعداد يساعدن المعلمين على مهمتهم في التربية، وبذلك يكون الناشئ وديعة مشتركة بين المنزل والمدرسة، وما كذلك الحال في مصر، لهذا هو يعذر المعلمين، ويرى عبئهم ثقيلا، وعملهم شاقا إذ فقدوا من يعينهم على الاضطلاع به:

وجد المساعد عيركم وحرمتمو

في مصر عون الأمهات جليلا

وإذا النساء نشان في أمية

وضع الرجال جهالة وخمولا

ويضع شوقي للمعلمين (خط السير) الذي يتبعه الناشيء من بيته حتى يصير مواطنا نافعا، يشارك في مجتمعه إذ يقول:

فرب صغير قوم علموه

سما وحمى المسومة العرابا

وكان لقومه نفعا وفخراً

ولو تركوه كان أذى وعابا

فعلم ما استطعت لعل جيلا

سيأتي، يحدث العجب العجابا

ص: 3

ولا ترهق شباب الحي يأسا

فان اليأس يخترم الشبابا

ويناشد الشعب المصري ألا يبعثوا للبرلمان - وهو مرآة الشعب - جهولا، لأن التمثيل النيابي لا يكون كاملا، إذا كان الممثل ناقصاً.

فادعوا لها أهل الأمانة واجعلوا

لأولى البصائر منهمو التفضيلا

وأولو البصائر الذين يعنيهم شاعرنا، ليسو إنصاف المتعلمين، الذين يكتفون من العلم بما يغني عن استقراء خطاب، واحتساب قروش، وصدق في المعنى رواية شوقي، علي الجارم

إذ يقول:

أنا في أمة جدول الضرب

طغى سيله على الأذهان

إن رأوا صفحة بها بيت شعر

تركوه يبكي على كل بان

وكان الله في عون أمة طغى (جدول الضرب) على أذهان معلميها، فلم يعد فيها المعلم إلا حاسبا لما ياخذ، غير محاسب على ما يعطي، وهذا هو ما يجب أن نتداركه قبل أن يفلت الزمام

محمد محمود زيتون

ص: 4

‌التشبيه في القرآن

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

أرى واجباً على قبل الحديث عن التشبيه في القرآن الكريم أن أتحدث قليلا عن بعض نظرات للأقدمين في هذا الباب، لا أوافقهم عليها، ولا أرى لها قيمة في التقدير الفني السليم.

فما أعتمد عليه القدماء في عقد الشبيه العقل، يجعلونه رابطاً بين أمرين أو مفرقاً بينهم، وأغفلوا في كثير من الأحيان وقع الشيء على النفس، وشعورها به سروراً أو ألماً. وليس التشبيه في واقع الأمر سوى إدراك ما بين أمرين من صلة في وقعها على النفس، أما تبطن الأمور، وإدراك الصلة التي تربطها بالعقل وحده، فليس ذلك من التشبيه الفني البليغ، وعلى الأساس الذي أقاموه أستجادوا قول ابن الرومي:

بذل الوعد للإخلاء سمحاً

وأبى بعد ذاك بذل العطاء

فغدا كالخلاف يورق للعين، يأبى الإثمار كل الإياء

وجعلوا الجامع بين الأمرين جمال المنظر وتفاهة المخير، وهو جامع عقلي، كما ترى، لا يقوم عليه تشبيه فني صحيح، ذلك أن من يقف أمام شجرة الخلاف أو غيرها من الأشجار، لا ينطبع في نفسه عند رؤيتها سوى جمالها ونضرة ورقها وحسن أزهارها، ولا يخطر بباله أن يكون لتلك الشجرة الوارفة الظلال أن يكون لها ثمر يجنيه أو لا يكون، ولا يقلل من قيمتها لدى رائيها، ولا يحط من جمالها وجلالها، إلا يكون لها بعد ذلك ثمر شهي، فإذا كانت تفاهة المخير تقلل من شان الرجل ذي المنظر الأنيق وتعكس صورة منتقصة في نفس رائيه، فإن الشجرة لا يقلل من جمالها لدى النفس عدم إثمارها، وبهذا اختلف الواقع لدى النفس بين المشبه والمشبه به، ولذلك لا يعد من التشبيه الفني المقبول.

وقبل الأقدمون من التشبيه ما عقدت الحواس الصلة بينهما، وان لم يكن تعقدها النفس، فاستجادوا مثل قول الشاعر يصف بنفسجا:

ولا زوردية تزهو بزرقتها

بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النار في أطراف كبريت

فليس ثمة ما يجمع بين البنفسج وعود الكبريت وقد بدأت النار تشتعل فيه، سوى لون

ص: 5

الزرقة التي لا تكاد تبدأ حتى تختفي في حمرة اللهب، وفضلاً عن التفاوت بين اللونين، فهو في البنفسج شديد الزرقة وفي أوائل النار ضييها، فضلاً عن هذا التفاوت تجد الواقع النفسي شديد التباين، فزهرة البنفسج توحي إلى النفس بالهدوء والاستسلام وفقدان المقاومة، وربما اتخذت لذلك رمزاً للحب، بينما أوائل النار في أطراف الكبريت تحمل إلى النفس معنى القوة واليقظة والمهاجمة، ولا تكاد النفس تجد بينهما رابطاُ كما أستجادوا كذلك قول ابن المعتز:

كانا وضوء الصبح يستعجل الدجى

نظير غرابا ذا قوادم جون

قال صاحب الإيضاح: (شبه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصبح بأشخاص العربان، ثم شرط قوادم ريشها بيضاء لأن تلك الفرق من الظلمة تقع في حواشيها، من حيث يلي معظم الصبح وعمود لمع نور، يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض) وهكذا لم ير ابن المعتز من الدجى وضوء الصباح سوى لونيهما، أما هذا الجلال الذي يشعر به في الدجى، وتلك الحياة التي يوحي بها ضوء الصبح، والتي عبر القرآن عنها بقوله:(والصبح إذا تنفس) - فما لم يحس به شاعرنا ولم يقدره نقادنا، وأين من جلال هذا الكون الكبير، ذرة تطير؟!

وقبلوا من التشبيه ما كان فيه المشبه به خياليا، توجد أجزاؤه في الخارج دون صورته المركبة، ولا أتردد في وضع هذا التشبيه بعيداً عن دائرة الفن، لأنه لا يحقق الهدف الفني، فكيف تلمح النفس صلة بين صورة بين صورة ترى، وصورة يجمع العقل أجزائها من هنا وهنا، وكيف يتخذ المتخيل مثالاً لمحسوس مرئي، وقبل الأقدمون لذلك قول الشاعر:

وكأن محمر الشقيق إذا تصوب أو تصعد

أعلام ياقوت نشرن=من على وماح من زبرجد

ألا ترى أن هذه الأعلام من الياقوت، المنشورة على رماح الزبرجد، لم تزدك عمق شعور بمحمرالشقيق، بل لم ترسم لك صورته إذا كنت جاهلة، فما قيمة التشبيه إذا وما هدفه؟! وسوف أتحدث عن الآية الكريمة التي فيها هذا اللون من التشبيه لندرك سره وقيمته.

هذا، ولن نقدر التشبيه بنفاسة عناصره، بل بقدرته على التصوير والتأثير، فليس تشبيه لبن المعتز للهلال حيث يقول:

أنظر إليه كزورق من فضة

قد أنقلته حمولة من عنبر

ص: 6

وتلمس شبه له بهذا الزورق الفضي المثقل بحمولة العنبر مما يرفع من شانه، أو ينهض بهذا التشبيه الذي لم يزدنا شعوراً بجمال الهلال، ولا أنساً برؤيته، ولم يزد على أن وضع لنا إلى جانب الهلال الجميل صورته شوهاء متخلية. وأين الزورق الضخم من الهلال النحيل، وأن شئت فوازن بين هذه الصورة التي رسمها ابن المعتز للهلال وتلك الصورة التي تعبر عن الإحساس البصري والشعر النفسي معا حينما تحدث القران عن هذا الهلال فقال:

(والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) فهذا العرجون القديم اقدر على تصوير القمر كما تراه العين وكما تحس به النفس اكثر من تصوير الزورق الفضي له كما سنرى.

- 2 -

التشبيه لمح صلة بين آمرين من حيث وقعها النفسي، وبه يوضح الفنان شعوره نحو شيء ما، حتى يصبح واضحاً وضوحاً وجدانياً، حتى يحس السامع بما أحس المتكلم به، فهو ليس دلالة مجردة، ولكنه دلالة فنية، ذلك أنك تقول: ذاك رجل لا ينتفع بعلمه، وليس فيما تقول سوى خبر مجرد عن شعورها نحو قبح هذا الرجل، فإذا قلت أنه كالحمار يحمل أسفارا ً فقد وصفت لنا شعورك نحوه، ودللت على احتقارك له وسخريتك منه.

والغرض من التشبيه هو الوضوح والتأثير، ذلك أن المتفنن يدرك ما بين الأشياء من صلات يمكن أن يستعان بها في توضيح شعوره، فهو يلمح وضاءة ونوراً في شيءما، فيضعه بجانب آخر يلقي عليه ضوءاً منه، فهو مصباح يوضح هذا الإحساس الوجداني، ويستطيع أن ينقله إلى المسامع.

ليس من أغراض التشبيه إذا ما ذكره الأقدمون من بيان أن وجود المشبه ممكن وذلك في كل أمر غريب يمكن أن يخالف فيه ويدعي امتناعه وقد استشهدوا على هذا الغرض بقول المتنبي:

فإن تفق الأنام منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

وليس في هذا البيت تشبيه فني مقبول، فليس الأثر يحدثه المسك في النفس سوى الارتياح لرائحة الذكية، ولا يمر بالخاطر أن بعض دم الغزال، بل أن هذا الخاطر إذا مر بالنفس قلل من قيمة المسك ومن التلذذ به، وهذه الصورة التي جاء بها المتنبي ليوضح إحساسه

ص: 7

نحو سمو فرد على الأنام، ليست قوية مضيئة، تلقي أشعتها على شعوره فتضيئه لنا، فإن تحول بعض دم الغزال إلى مسك ليس بظاهرة قريبة مألوفة، حتى تقرب إلى النفس ظاهرة تفوق الممدوح على الأنام، كما أن ظاهرة تحول الممدوح غير واضحة، ومدن ذلك كله يبدو أن الرابط هنا عقلي لا ننسى وجداني.

وليس من أغراضه ما ذكره الأقدمون أيضاً من الأستطراف، وفليس تشبيه فحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجة الذهب - تشبيهاً فنياً على هذا المقياس الذي وضعناه، فإن بحر المسك ذو الموج الذهبي، ليس بهذا المصباح الوهاج الذي ينير الصورة ويهبها نوراً ووضوحاً.

ولما كان هدف التشبيه الإيضاح والتأثير أرى الأقدمون قد أخطئوا حينما عدوا البلوغ من التشبيه ما كان بعيداً غريباً نادراً، ولذلك عدوا قوله:

وكأن أجرام النجوم لوامعاً

درر نثرن على بساط أزرق

أفضل من قول ذي الرمة:

كحلاء في برج، صفراء في نعج

كأنها فضة قد مسها ذهب

(لأن الأول مما يندر وجوده دون الثاني فإن الناس أبداً يرون في الصياغات فضة قد موهت بذهب ولا يكاد يتفق أن يوجد (رقد نثرن على بساط أزرق)

وذلك قلب للأوضاع، وبعد عن مجال التشبيه الفني الذي توضع فيه صورة قوية تبعث الحياة والقوة في صورة أخرى بجوارها، وبرغم أن التشبيهين السالفين حسيان أرى التشبيه الثاني أقوى وأرفع، ولست أرمي إلى أن يكون التشبيه مبتذلا، فان الابتذال لا يثير النفس، فيفقد التشبيه هدفه، ولكن أن يكون في قرب التشبيه ما يجعل الصورة موضحة مؤثرة كما سنرى.

- 3 -

ليس الحس وحده هو الذي يجمع بين المشبه به في القرآن، ولكنه الحس والنفس معاً، بل أن للنفس النصيب الأكبر والحظ الأوفى.

والقرآن حين يشبه محسوساً بمحسوس يرمي أحياناً إلى رسم الصورة كما تحس بها النفس، تجد كذلك في قوله سبحانه يصف سفينة نوح:(وهي تجري يهم في موج كالجبال) ألا ترى

ص: 8

الجبال تصوره للعين هذه الأمواج الضخمة، وتصوره في الوقت نفسه ما كان يحس به ركاب السفينة هذه وهم يشاهدون هذه الأمواج من رهبة وجلال معاً كما يحس بهما من يقف أمام شامخ الجبال. وقوله تعالى يصف الجبال يوم القيامة:(وتكون كالعهن المنفوش) فالعهن المنفوش يصور أمامك منظر هذه الجبال، وقد صارت هشه لا تتماسك أجزاؤها، ويحمل إلى نفسك معنى خفتها ولينها. وقوله تعالى (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) فهذا القمر بهجة السماء وملك الليل، لا يزال ينتقل في منازله حتى يصبح بعد هذه الاستدارة المبهجة وهذا الضوء الساطع الغامر، يبدد ظلمة الليل، ويحيل وحشته إنساً يصبح بعد هذا كله دقيقا نحيلا محدوداً لا تكاد العين تنتبه إليه وكأنما هو في السماء كوكب تائه، لا أهمية له، ولا عناية بامره، أولا ترى في كلمة العرجون ووصفها بالقديم ما يصور لك هيئة الهلال في آخر الشهر، ويحمل لنفسك ضآلة أمره معاً، وقوله تعالى (إنها ترمي بشرر كالقصر. كأنه جمالة صفر) فالقصر وهو الشجر الضخم والجمال الصفر توحي إلى النفس بالضخامة والرهبة معاً، وصور لنفسك شرراً في مثل هذا الحجم من الضخامة يطير.

ويرمي أحياناً إلى واشتراك الطرفين في صفحة محسوسة، ولكن للنفس كذلك نصيبها في اختيار المشبه به الذي له تلك أشرنا إليه. فالقران قد شبه نساء الجنة فقال:(فيهن قاصرات الطرف عين، كأنهن بيض مكنون) وقال: (وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون) فليس في الياقوت والمرجان واللؤلؤ المكنون لون فحسب، وإنما هو لون صاف حي، وفيه نقاء وهدوء، وهي أحجار كريمة تصان ويحرص عليها، وللنساء نصيبهن من الصيانة والحرص، وهن يتخذن من تلك الحجارة زينتهن، فقربت بذلك الصلة واشتد الإرتباط، اما الصلة التي تربطهن بالبيض المكنون، فضلا عن نقاء اللون، فهي هذا الرفق والحذر التي يجب أن تعامل به كليهما. أو لا ترى في هذا الكن أيضاً صلة تجمع بينهما، وهكذا لا تجد الحس وحده هو الرابط والجامع، ولكن للنفس نصيب أي نصيب. وحينا يجمع بين الطرفين المحسوسين معنى من المعاني لا يدرك بإحدى الحواس، وقل ذلك في القرآن الكريم الذي يعتمد في التأثير أكثر اعتماد على حاسة البصر، ومن القليل قوله سبحانه:(أولئك كالأنعام بل هم أضل)، وصفته ضلال الأنعام من ابرز الصفات وأوضحها لدى

ص: 9

النفس. وكثر في القرآن إيضاح الأمور المعنوية بالصور المرئية المحسوسة، تلقي عليها أشعة من الضوء وتغمرها، فتصبح شديدة الأثر، وها هو يمثل وهن ما اعتمد عليه المشركون من عيادتهم غير الله وهنا لن يفيدهم فائدة ما، فهم يعبدون ويبذلون جهداً يظنونه مثمراً وهو لا يجدي، ويبذل جهده في التنظيم، وهو لا يبني سوى أوهن البيوت وأضعفها، فقرن تلك الصورة المحسوسة إلى الأمر المعنوي، فزادته وضوحاً وتأثيرا، قال تعالى:(مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).

وها هو ذا يريد أن يحدثنا عن أعمال الكفرة، وأنها لا غناء فيها، ولا ثمرة ترجى منها، فهي كعدمها فوجد في الرماد الدقيق لا تبقي عليه الريح العاصفة صورة تبين ذلك المعنى أتم بيان وأوفاه فقال سبحانه:(مثل الذين كفروا بربهم، أعمالهم كرماد اشتدت يه الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد).

وليس في القران سوى هذين اللونين من التشبيه، تشبيه المحسوس، وتشبيه المعقول بالمحسوس. أما قوله سبحانه:(إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين) فالذي سمح بان يكون المشبه به خيالياً، وهو ما تراكم في هيئة بشعة مرعبة، وأخذت هذه الصورة يشتد رسوخها بمرور الزمن، ويقوى فعلها في النفس، حتى كأنها محسوسة ترى بالعين وتلمس باليد، فلما كانت هذه الصورة من القوة إلى هذا الحد ساغ وضعها في موضع التصوير والإيضاح، ولا نستطيع أن ننكر ما لهذه الصورة من ومما جرى على نسق هذه الآية قوله تعالى:(فلما رآها تهتز كأنها تأثير بالغ في النفس. جان ولى مدبراً ولم يعقب) فهي صورة قوية للجان تمثله - شديد الحركة لا يكاد يهدأ ولا يستقر.

والتشبيه في القرآن تعود فائدته إلى المشبه، تصويراً له وتوضيحاً ولهذا كان المشبه دائماً أقوى من المشبه به وأشد وضوحا وهنا نقف عند قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس، والله

ص: 10

بكل شيء عليم). فقد يبدو للنظرة العجلى أن المشبه وهو نور الله أقوى من مصباح هذه المشكاة، ولكن نظرة إلى الآية الكريمة، ترى أن النور المراد هنا هو النور الذي يغمر القلب، ويشرق على الضمير، فيهدي إلى سواء السبيل أولا ترى أن القلب ليس في حاجة إلى أكثر من هذا المصباح، يلقي عليه ضوءه فيهتدي إلى الحق، وأقوم السبل، ثم ألا ترى في اختيار هذا التشبيه إيحاء بحالة القلب وقد لفه ظلام الشك، فهو متردد قلق خائف، ثم لا يلبث نور اليقين أن يشرق عليه، فيجد الراحة والأمن والاستقرار، فهو كساري الليل يخبط في الظلام على غير هدى حتى إذا آوى إلى بيته فوجد هذا المصباح في المشكاة وجد الأمن سبيله إلى قلبه، واستقرت الطمأنينة في نفسه وشعر بالسرور يغمر فؤاده.

وإذا تأملت الآية رايتها قد مضت تصف ضوء هذا المصباح وتتأنق في وصفه، بما يصور لك قوته وصفاءه، فهذا المصباح له زجاجة يتلألأ كأنه كوكب له بريق الدر ولمعانه؛ أما زيت هذا المصباح فمن شجرة مباركة قد أخذت من الشمس أوفى نصيب، فصفا لذلك زيتها حتى ليكاد يضيء ولو لم تمسه نار. ألا ترى أن هذا المصباح جدير أن يبدد ظلمات الليل، ومثله جدير أن يبدد ظلام الشك ويمزق الكفر والنفاق. وقد ظهر بما ذكرناه جمال هذا التشبيه ودقته وبراعته.

يتبع

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية العلوم

ص: 11

‌الغزالي وعلم النفس

للأستاذ حمدي الحسيني

الإدراك

تبين مما سقناه في المقال السابق أن الإمام الغزالي رحمه الله قد حاول أن يفهم طبيعة العقل وكنهه. فعجز عن فهم هذه الطبيعة وإدراك هذا الكنه. (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) فلجا إلي آثار العقل ومظاهره أو معانيه وصفاته. فوفق في فهم هذا كل التوفيق وإدراك من صفات العقل ومعانيه ما جاء موافقا كل الموافقة لما وصل إليه علم النفس الحديث في هذا الموضوع؛ فقد أدرك الإمام الغزالي ببصيرته النيرة أن في الإنسان استعدادا للفهم، وان هذا الاستعداد غريزي فطري، وانه كالنور الذي يقذف في القلب فيعين صاحبه على إدراك الأشياء، ثم راح يقسم هذا الإدراك للأشياء أقساما أعتبرها أجزاء العقل أو صفاته ومعانيه، فكان موفقاً أيضاً غاية التوفيق في ذلك التقسيم الدقيق الذي شمل المعرفة العقلية من ابسط أنواعها الغريزية إلى أرقى درجاتها الفكرية.

ثم أدرك الغزالي أن العقل وحدة تشمل خبرة الإنسان الماضية والحاضر وميوله النفسية الموروثة والمكتسبة وتتجلى هذه الوحدة العجيبة في الإدراك والوجدان والنزوع وعناصره البسيطة.

ولهذا رأيناه يتحدث في الجزء الأول من إحياء علوم الدين عن العلم والعقل في قسم واحد مما دلنا دلالة تامة على أنه كان رحمه الله مدركا ما قرره علم النفس الحديث من وحدة العقل الشاملة لخبرة الإنسان الماضية الحاضرة وميوله النفسية الموروثة والمكتسبة وأن هذه الوحدة تتجلى في مظاهر الشعور الثلاثة وهي الإدراك أو ما سماه هو (العلم) والوجدان وهو ما سماه (الحال) والنزوع وهو ما سماه (العمل).

ولندع الآن هذا ولنأخذ الجزء الأول من إحياء علوم الدين فنقلب صفحاته فنعرف لأول وهله أنه كتاب في علم النفس التربية والتعليم. إذ أكثر الكتب النفسية والتربوية الحديثة يفتتحها أصحابها بتمهيدات في معنى العلم وأغراضه، ومواضيع العلوم وغاياتها وأقسامها وأسمائها، وتعريف للنفس أو العقل أو الروح، وتقسيم للشعور والللاشعور، وتحديد للغرائز

ص: 12

والميول وتبين للسلوك وأنواعه العادية والشاذة، وما يتبع هذا من المواضيع النفسية، فنرى الغزالي رحمه الله يبدأ كتابه الأحياء بالحديث عن المرتكزة على تلك المعرفة النفسية الواسعة المستمدة من تأمله الذاتي العميق وملاحظته الخارجية الدقيقة. وها نحن نراه يتحدث عن العلم في سبعة فصول يذكر فيها فضل العلم والتعلم والتعليم ويذكر أسماء العلوم ومواضيعها، وآداب المعلم المتعلم وآفات العلم والعلماء والعقل وفضله وأقسامه وما جاء فيه من الأخبار

ولنصغ إليه وهو يتحدث عن فضيلة العلم، مندفعا بالمعرفة الغريزية والإيمان القوي والعاطفة المشبوبة:(أعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعاً. فما يطلب لذاته اشرف وافضل مما يطلب لغيره. وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رايته لذيذاً في نفسه مطلوباُ لذاته، ووجدته وسيله إلى الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به. وأعظم الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل ألا بالعلم؛ فاصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال)

يستمر الإمام الجليل مندفعاً في تبين فضائل العلم وتفاوت هذه الفضائل بالنسبة لخير الناس عامة ولسعادة المسلمين في الدنيا والآخرة بصورة خاصة. ونحن نلمح هنا في هذا القول الذي سطره قلم الغزالي عن فضيلة العلم أن الغزالي يشير إلى وحدة الشعور والعملية العقلية إشارة واضحة صريحة. يقول لن يتوصل إلى السعادة إلا بالعلم والعمل، فالعلم والعمل هما المظهران الأساسيان للشعور الإنساني؛ أما العاطفة فهي ما تجده في نفسك من لذة أو ألم يصحب الإدراك والنزوع أو العلم. وهو يؤكد هذا المعنى فيما بعد بقوله الواضح الصريح (إن العلم ينقسم إلى علم مكاشفة وعلم معاملة والمعاملة، التي كلف العبد البالغ العمل بها ثلاثة: اعتقاد وفعل وترك وهو يعني الاعتقاد العلم الأكيد الذي لاشك فيه. ويعني بالفعل والترك النزوع الإيجابي والنزوع السلبي، وما يسميه علم النفس الحديث (بالتوفيق والكف). وكأن الغزالي أراد أن يزيد هذا المعنى وضوحاً وتوكيداً، فقال في موضوع آخر: لا يستطاع العمل إلا باليقين، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه، ولا ينقص عامل حتى ينقص يقينه). أما علم المكاشفة الذي ذكره الغزالي فهو وحي العقل الباطن وإلهام اللاشعور.

ص: 13

ولنسمع الآن ما يقوله الغزالي في هذا الموضوع:

(أعلم أن العلم قسمان، علم مكاشفة وعلم معاملة. أما علم المكاشفة فهو علم الباطن وذلك غاية العلوم، وهو علم الصديقين والمقربين وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة ويتكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسمائها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتضح إذا ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقة) ثم يقول: (ونعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى الحق في الأمور اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان).

وما دمنا نتحدث عن رأي الغزالي في العلم كجزء من العملية العقلية فقد وجب علينا أن نتحدث عن العقيدة والأيمان واليقين في نظر الغزالي لأنها أنواع من العلم تتخذ أشكالا خاصة في النفوس البشرية، وتولد فيها عواطف قوية تدفع بأصحابها إلى أعظم الأعمال، وتعينهم على تحمل أفدح الآلام. ولنسمع الآن ما يقوله الغزالي في هذا الموضوع الجليل: (أعلم أن اليقين لفظ مشترك يطلقه فريقان لمعنيين مختلفين أما النظار المتكلمون فيعبرون به عن عدم الشك. إذ ميل النفس إلى التصديق بالشيء له أربع مقامات.

(الأول) أن يعتدل التصديق والتكذيب ويعبر عنه بالشك.

(الثاني) أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع الشعور بإمكان نقيضه ولكنه لا يمنع ترجيح الأول وهذه الحالة تسمى ظناً

(والثالث) أن تميل النفس إلى التصديق بالشيء بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره، ولو خطر بالبال تأبى النفس عن قبوله ولكن ليس ذلك مع معرفة محققة، إذ لو أحسن صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى التشكيك والتجويز، اتسعت نفسه للتجويز وهذا يسمى اعتقادا مقرباً لليقين. (والرابع) المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق الرهان الذي لا يشك فيه. فإذا امتنع وجود الشك وامكانه يسمى يقينا. وأما الفقهاء والمتصوفة فلا يلتفتون في اليقين إلى التجويز والشك بل إلى استيلائه على العقل، فمهما مالت النفس إلى التصديق بشيء وغلب ذلك على القلب واستولى عليه حتى صار هو المتحكم والمتصرف في النفس بالتجويز والمنع سمي ذلك يقينا). ولنسمع أيضاً ما يقوله الغزالي في الإيحاء الذي يتكون به الاعتقاد واليقين: إعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن ينكشف له معناه في

ص: 14

كبره شيئاً فشيئاً. فابتدءوا الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به. وذلك مما يفعل في الصبي بغير برهان.

نقف الآن فنستعرض ما مر بنا من أقوال الغزالي استعراضاً سريعاًَ لنرى فيها نظريات نفسية معتبرة وقواعد علمية مقررة، نرى احسن وصف لمعاني العقل وصفاته واحسن تقسيم لهذه المعاني والصفات، نرى وصفاً دقيقاً للعقل الباطن والعقل الواعي والوحدة العقلية ومظاهر الشعور الإنساني. ويدهشنا حقاً أن نرى هذه المعرفة الزاخرة بأسرار العلم الحديث عن الاستهواء الذاتي الخارجي، وهو اليقين الذي يستولي على القلب، وما هذا اليقين الذي يستولي على القلب إلا ما يسميه على النفس الحديث بانقسام الشخصية أي انفصال الآراء والذكريات والعواطف والمعارضة للفكرة الموحى بها ووقوفها موقفاً سلبياً في حين أن الآراء والانفعالات المؤيدة هي التي تكون بارزة في الشعور ومتخذة موقفاً إيجابياً.

حمدي الحسيني

ص: 15

‌الاتحاد البرلماني العربي

مشروع إنشائه وتنظيمه

وضعه الأستاذ أحمد بك رمزي

أغراض الاتحاد:

مادة 1 - تتألف هيئة تحت أسم الاتحاد البرلماني العربي الغرض منها أن تقرب بين الشعوب العربية وتحقق تعاونهم في الشؤون السياسية والثقافية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية رغبة في إيجاد اتحاد بين البلاد العربية: وهي مصر وشرق الأردن والعراق وسوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية واليمن وليبيا الموحدة وتونس والجزائر ومراكش والكويت والبحرين وإمارات الخليج الفارسي وإمارات المحيط الهندي وكل قطر لغته العربية ويرغب في الانضمام إلى هذا الاتحاد.

مادة 2 - مركز رئاسة الاتحاد البرلماني العربي مدينة القاهرة

هيئات المؤتمر البرلماني العربي:

مادة 3 - يتكون الاتحاد البرلماني العربي من الهيئات الآتية:

1 -

المؤتمر البرلماني السنوي

2 -

المكتب الدائم

3 -

الرئاسة

4 -

السكرتارية

5 -

الهيئة المحلية في كل دولة عربية

الهيئات المحلية للاتحاد

مادة4 - تتكون هيئة محلية للاتحاد في كل بلد عربي

2 -

يدخل أعضاء المجلس النيابية (نواب وشيوخ) بناء على طلبهم كأعضاء في الهيئة المحلية

3 -

يجوز قبول الأحزاب السياسية والجمعيات العربية كأعضاء في الهيئة المحلية إذا

ص: 16

كانت أهدافها تتفق مع تأييد فكرة الاتحاد البرلماني العربي، ويكون تمثيل كل هيئة قاصرا على أثنين فقط.

4 -

الأفراد الذين سبق لهم أن اشتركوا في المؤتمرات العربية كممثلين لبلادهم ثم سقطت عضويتهم في المجالس النيابية يجوز لهم الاحتفاظ بعضويتهم بحكم القانون.

5 -

يجوز للنواب والشيوخ السابقين أن يطلبوا الانضمام إلى الهيئة المحلية كأعضاء منتسبين.

6 -

يجوز للهيئة المحلية ضم ممثلين عن المجالس والبلديات والجمعيات السياسية والعلمية والتجارية والصناعية والزراعية والجمعيات المسائية ونقابات المهن الحرة ونقابات العمال إلى عضويتها بحيث لا يزيد عدد الممثلين عن واحد لكل منظمة منها.

7 -

لا يجوز قبول الأفراد والمؤسسات الجمعيات التي من برامجها أو من نشاطها العمل بمبادئ واتجاهات مخالفة لروح الاتحاد البرلماني العربي كأعضاء في الهيئة المحلية أو قبول أية مساعدة منها.

8 -

تنظيم اللوائح الداخلية لكل هيئة محلية في نواحي نشاطها واجتماعاتها وماليتها، ووضع هذه اللوائح منوط بها تضعه باستقلال تام عن الهيئات المحلية الأخرى.

9 -

تعمل الهيئات المحلية على تنفيذ قرارات ورغبات المؤتمر البرلماني العربي ومكتبه الدائم ولا يكون في عملها ونشاطها ما يتعارض مع هذه القرارات.

10 -

تكون الهيئة المحلية على اتصال دائم مع حكومات بلادها ومع ممثلي البلاد العربية المعتمدين في بلادها.

11 -

لا يتعارض نشاط الهيئة المحلية مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة ولا مع ميثاق حماية حقوق الإنسان.

المؤتمر العربي البرلماني

مادة - 1 - المؤتمر العربي البرلماني هو الهيئة العليا للاتحاد البرلماني، ويجتمع كل عام في أول سبتمبر في إحدى العواصم العربية ويحدد المكتب الدائم المكان، وترسل كل هيئة محلية قبل حلول ذلك التاريخ بثلاثة أشهر كشفاً لحكومة بلادها وللمكتب الدائم بأسماء مندوبيها في المؤتمر المزمع عقده.

ص: 17

2 -

ترسل كل هيئة محلية وفداً مكوناً من عشرة مندوبين على الأقل ولا يزيد عدده بأي حال من الأحوال عن ثلاثين مندوبا. ويصح أن يضم إليهم خبراء وسكرتاريون، ويختار المندوبون أولا من الأوساط النيابية ومن الجائز أن يستكمل العدد باختيار ممثلي المجالس المحلية والبلديات ونقابات المهن الحرة والأحزاب السياسية والجمعيات العربية المعتمدة لدى المؤتمر (مثل جمعية الاتحاد العربي - جمعية الوحدة العربية) ومن ممثلي الجمعيات النسائية المؤسسات والجمعيات العلمية والاقتصادية والاجتماعية.

3 -

يكون نصف عدد أعضاء الوفد البرلماني للهيئة المحلية على الأقل من أعضاء الهيئات النيابية (النواب والشيوخ)

4 -

لممثلي الحكومات العربية الدبلوماسيين المعتمدين في الدولة التي يجتمع فيها المؤتمر، وللمندوب الرسمي الذي تختاره هذه الدولة، ولممثلي جامعة الدول العربية المعتمدين لهذه الغاية الحق في تتبع أعمال المؤتمر بصفة مراقبين؛ ومن حقهم أن يشتركوا في المناقشات ولهم حق الاعتراض - كما أن لأعضاء الوزارة في الحكومة التي يجتمع لديها المؤتمر نفس هذا الحق.

5 -

تدعى دائما جامعة الدول العربية وحكومات البلاد العربية المستقلة إلى إرسال أعضاء بصفة مراقبين كما يجوز دعوة مندوبين عن البلاد العربية غير المستقلة عن طريق جامعة الدول العربية وباختيارها.

مادة 6 - توجه الدعوة الاجتماع بواسطة رئيس المكتب الدائم للمؤتمر إلى الهيئات المحلية وإلى الحكومات العربية وإلى جامعة الدول العربية ومعها صورة من جدول الأعمال والتقارير والمستندات التي تتلقاها لهذا الغرض.

مادة 7 - 1 - تسند رئاسة المؤتمر إلى رئيس المكتب الدائم إلى حين انتخاب الرئيس الجديد.

2 -

ينتخب المؤتمر رئيساً بناء على اقتراح المكتب الدائم من بين رؤساء الوفود بأغلبية الأصوات. ويكون رئيس المؤتمر رئيسا للاتحاد البرلماني العربي. وإذا لم يحصل على الأغلبية المطلقة يعاد الانتخاب بين المرشحين الذين حصلوا على أكبر عدد من الأصوات.

3 -

يعتبر رؤساء الوفود الممثلة في المؤتمر وكلاء للرئيس طول مدة انعقاد المؤتمر.

ص: 18

4 -

يتكون مكتب الرئيس من الرئيس والوكلاء.

5 -

تتكون السكرتارية من ستة سكرتارين وينتخب رئيس المؤتمر أحدهم ليقوم بأعمال الأمين العام للمؤتمر ولمكتب الرئاسة

6 -

ينتهي عمل الرئيس بعد سنة من انتخابه. وإذا طرأ ما يمنع قيامه بها تسند الرئاسة إلى رئيس إحدى الهيئات المحلية بواسطة المكتب الدائم فيتولى رئاسة الاتحاد البرلماني والمكتب الدائم حتى يتم انتخاب الرئيس الجديد.

مادة 8 - توزع أعمال المؤتمر البرلماني العربي على اللجان الآتية:

1 -

اللجنة السياسية

2 -

لجنة القانون والتنظيم وتنسيق الأعمال

3 -

تأكيد التعاون الاقتصادي

4 -

التعاون الثقافي

5 -

الشؤون الاجتماعية

6 -

المواصلات والأشغال العامة

7 -

دراسة الدساتير والأنظمة البرلمانية للبلاد العربية.

(2)

للمؤتمر الحق بناء على اقتراح المجلس في تأليف لجان أصلية وأخرى فرعية.

(3)

يمثل كل وفد عضوان على الأقل في كل لجنة

(4)

للمجلس الحق في دعوة أية لجنة للاجتماع.

مادة 9 - 1 - اللغة العربية هي اللغة الرسمية للمؤتمر. ويجوز ترجمة المناقشات إلى إحدى اللغات الأجنبية إذا دعت الحاجة لكي يتتبع رجال الصحافة العالمية مناقشات المؤتمر.

2 -

تكون جلسات المؤتمر علنية ويجوز للجان المؤتمر أن تسمح للصحافة والجمهور بحضور اجتماعاتها.

مادة 10 - 1 - تكون الجلسات العامة للمؤتمر ولجانه قانونية بحضور ثلاثة أخماس الأعضاء الممثلين فيها.

2 -

تكون القرارات نافذة بالأغلبية المطلقة الأصوات.

ص: 19

3 -

إذا تغيب أعضاء أحد الوفود فيؤجل القرار إلى جلسة تالية.

مادة 11 - لكل مندوب صوت واحد، وإذا كان عدد مندوبي وفد من الوفود أقل من عشرة فلرئيس الوفود المذكور أن يعين المندوبين الذين يصح أن يكون لكل منهم أكثر من صوت واحد. وإذا زاد عدد المندوبين لوفد برلماني عن عشرة فلرئيس هذا الوفد الحق في أن يختار منهم أولئك الذين لهم حق إعطاء الأصوات بحيث لا يكون لأي وفد اكثر من عشرة أصوات.

مادة 12 - لكل وفد خمسة أصوات على الأكثر باللجان التي تمثل فيها ،

2 -

في حالة غياب أعضاء وفد من الوفود عند انعقاد جلسة إحدى اللجان يؤجل قرار اللجنة إلى الجلسة التالية ودعوته للحضور

مادة 13 - يعرض في أول جلسة مشروع لائحة داخلية لتنظيم جلسات المؤتمر البرلماني العربي ولجانه، ويحضره المكتب الدائم.

مادة 14 - يختار المؤتمر البرلماني العربي بناء على اقتراح المكتب الدائم مكان الاجتماع التالي

المكتب الدائم

مادة 15 - 1 - يتألف المكتب الدائم من عضويين دائمين لكل هيئة محلية ويكون برئاسة رئيس الاتحاد البرلماني.

2 -

يجتمع المجلس في الأسبوع الأول من شهر يناير من كل سنة بمناسبة رئيس الاتحاد البرلماني.

2 -

يجتمع المجلس في الأسبوع الأول من شهر يناير من كل سنة بمناسبة انتقال الرئاسة ولتقرير أعمال المؤتمر التالي. ويجوز أن يتكرر انعقاده.

مادة 17 - يجتمع المكتب الدائم بناء على دعوة رئيسة أو على طلب سبعة من الأعضاء وفي حالات الضرورة القصوى وتعذر اجتماع أعضاء المكتب الدائم يجوز عرض المسائل المستعجلة واتخاذ قرار بشأنها بواسطة المراسلة. ومن حق المكتب الدائم أن يضع لائحته الداخلية وينظم أعماله بمقتضاها.

مادة 18 - يشرف الرئيس على تنفيذ قرارات المكتب الدائم ويعين الموظفين ويراقب

ص: 20

أعمال السكرتارية ويوجه نشاطها.

مادة 19 - تتكون هيئة استشارية للمؤتمر لتنسيق أعماله بحيث تتلاءم مع السياسة جامعة الدول العربية والحكومات العربية مكونة من مراقبي الجامعة والممثلين الدبلوماسيين المعتمدين لدى الدولة العربية التي يلتئم المؤتمر لديها وتتصل الهيئة مباشرة مع رئيس المؤتمر.

السكرتارية

مادة 20 - (1) تتألف السكرتارية من الأمين العام وخمسة سكرتارين واحد منهم من أحد الوفود وتكلف بالأعمال الكتابية والنشر والدعاية وكتابة ملخص محاضر الجلسات والقيام بأعمال المحفوظات وتحضير ميزانية الاتحاد السنوية. كما تقوم بإصدار مجلة كل ثلاثة شهور تدعي الهيئات المحلية في كل بلد عربي للمساهمة في تحريرها والتعبير عن وجهة نظرها.

(2)

يوزع الأمن العام أعمال السكرتارية على أقسامها المتعددة تبعاً لنواحي نشاطها المختلفة ويكون من حق المكتب الدائم وضع قواعد يابتة للسكرتارية للسير عليها.

مالية الاتحاد

مادة 21 - (1) يقرر المكتب الدائم النصيب السنوي الذي تدفعه كل هيئة محلية للاتحاد تبعاً للمصروفات التي يقررها المؤتمر.

(2)

تقوم السكرتارية بأعمال حسابات الاتحاد البرلماني ويعتمد رئيس المؤتمر المصروفات.

أحكام نهائية

مادة 22 - من واجب الهيئات المحلية أن تقوم بكل ما في وسعها في داخل بلادها لتحقيق قرارات المؤتمر البرلماني العربي وتنفيذ المثل والأهداف التي يرمي إليها. ويجب عليها أن تبعث إلى المجالس النيابية عن طريق النواب الممثلين فيها قرارات المؤتمر وتقدم الهيئات المحلية تقارير سنوية عن أعمالها ونشاطها في تلك الناحية.

مادة 23 - يقرر الاتحاد البرلماني العربي شعاراً له يمثل نهضة العروبة وتمسكها بحقوق

ص: 21

الإنسان وحرية الشعوب واستقلالها.

أحمد رمزي

ص: 22

‌اللغة العربية والإسلام وفي الداغستان

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

بقية ما نشر في العدد الماضي

وفي عهد الخليفة العثماني مراد الثالث لجأ كثير من أمراء وأعيان هذه البلاد إلى السلطان العثماني يطلبون منه تخليص البلاد من طغيان الفرس الإيرانيين الذين كانوا يبسطون سلطانهم على تلك الجهات، ومذهبهم الشيعي الذي كانوا يحاولون فرضه على أهل البلاد بالقوة في تلك الأيام، فجرد مراد الثالث فوات كبيرة على تلك البلاد استولت عليها في أواخر القرن العاشر الهجري 986هـ (1578م).

وهنا بدأت صفحة جديدة في تاريخ هذه البلاد، فقد نبه احتلال العثمانيين لها أطماع الروسيين في الشمال أو إيقاظها من جديد لأن أطماع الروسيين في تلك الربوع قديمة. وحفزت الإيرانيين في الجنوب لاسترداد مركزهم وسلطانهم في تلك الربوع، فصارت مسرح أطماع هذه القوى الثلاث الجبارة تتنازعها هذه مرة وتلك مرة أخرى، وبعد معارك طاحنة، وحروب كثيرة طويلة، وبعد مد وجزر استمر أكثر من قرنين استقر الأمر هناك للروسيين في سنة 1221هـ و 1806م حين احتلها القائد الروسي الأمير (كينياز سبيانوف) وبسط سلطان الدولة الروسية على تلم الجهات، وقد قتل هذا القائد الروسي في تلك السنة بيد أحد أهالي الداغستان غيلة.

وقامت الثورات الوطنية في كثير من الأنحاء بمساعدة الإيرانيين تارة، وبإيعاز العثمانيين مرة أخرى، وأنفة من أهل البلاد أن يخضعوا للروس تارات.

ولكن كل ذلك لم يغير من احتلال الروس شيئاً، فبقيت البلاد في قبضتهم من ذلك التاريخ.

وقد تولى أكبر تلك الثورات وأحكمها تنظيماً الأمير المجاهد (سورخان خان) الذي جمع جميع علماء وأعيان وأشراف (غازي قمون) وسائر أنحاء الداغستان وكتب معهم عهداً وميثاقاً وطنياً دينياً لمقاتلة العدو الغازي المحتل، والمحافظة على أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا هو نص ذلك الميثاق الوطني الديني، وقد كتبوه - يوم كتبوه - باللغة العربية الفصحى:

(هذا بيان للناس من هذا اليوم، وهو اليوم الأول من ربيع الأول من السنة الثامنة

ص: 23

والعشرين بعد الألف والمائتين.

إن الأمير الكريم (سورخاي خان) والقاضي صنفور القمقي وسائر أئمة بلدة (غموق) ورؤسائهم، وكبرائهم وعرفائهم وخواصهم وعوامهم تعاهدوا على أن يتعاونوا على البر والتقوى، وعلى أن يكونوا في أمر المقاتلة مع العدو سواء. واتفقوا على أن يكون دية كل قتيل من أهل الولاية خمسة وعشرين (توماناً) من فضة روسية أو قيمتها من غيرها، سواء كان القتل واقعاً قبل هذا البيان أو بعده وعلى أن يكون ثور فدية من سل سيفاً أو خنجراً أو سكيناً على مسلم، أو صاحب مثل الشخص المذكور لإعانة، وإن لم يسل هذا الصاحب شيئاً من المذكورات، وكذا الفدية ممن اشترى عرقاً، أو نبيذ عنب، وممن أعطى أو أخذ مالاً بقراض فاسد. كأن يدفع قروشاً إلى آخر سنة مثلا ليأخذ منه عند تمام السنة مع القروش رباً: كيل حب أو شيئاً آخر.

وهذا المذكور مما مضى به الحكم، وجف به القلم، فمن بدله لا يسمع قوله، ولا يمدح فعله)! هـ.

وبعد عقد هذا الميثاق الوطني الديني قام الأمير (سورخاي خان) بمحاولات جدية للوقوف أمام سيل جحافل الروسيين التي انتشرت في كل مكان، ولكن على غير جدوى، ولا طائل، فقد كان الأمر أخطر مما كان يقدر، فتم للروس الفتح، وبسط السلطان واضطر الإيرانيون أصحاب السلطان الأسمى على البلاد إلى موادعة الروسيين، وعقد الصلح معهم.

فاجتمع الجنرال (أنشق ريتشجوف) القائد الروسي الجديد في الداغستان، وممثل إيران أبو الحسن الشيرازي في مكان يقال له (كلستان) في (قره باغ) في الثاني عشر من تشرين الأول سنة 1228، وعقدا معاهدة صلح عرفت فما بعد (كلستان) وتنازلت الدولة الإيرانية بمقتضاها من كل حق لها في كورجستان وطالش وقره باغ وكنجة، وشكر، وشروان، وباكو، وقوبة، وجميع الداغستان، ولكن هذا لم يفت في عضد (سورخاي خان) فقد ظل يعمل ويجمع الجوع لقتال الروس الغزاة.

وفي سنة 1235 أصدر القائد الروسي في الداغستان الجنرال (يارمالوف) أمره إلى الجنرال (كينياز مدتوف) أن يتوجه مع جيش روسي كبير، ومن انضم إليه من جنود بعض الأمراء المحليين الموالين للروس مثل (أرسلان خان) حاكم (كورة) إلى جهة (غازي

ص: 24

قموق) لقتال (سروخاي خان).

والتقى الفريقان في قرية (جراغ) في قتال شديد واستبسال، ولكن جموع (سورخاي خان) التي كان جمعها هناك لم تقو على الوقوف أمام قوات الروس، فتراجع إلى (غاري قموق).

وفي سنة 1236 تقابل الجنرال (مدتوف) مع (سورخاي خان) مرة ثانية بين قريتي: (جراع) و (خوشراك) إلا أن أنصار (سورخاي خان) أصيبوا في هذه المرة أيضاً بالانكسار واضطر هو ومن بقي معه من الجيش إلى الانسحاب إلى (غازي قمون) حيث أحذ منها أهله وعياله، ثم اسحب منها إلى جهة (عندال) في منطقة (آوار).

ودخل الجنرال (كينياز مدتوف) إلى (غازي قمون) بغير قتال ولا سفك دماء، وأعلن بين الأهليين ضم إقليم (غازي قمون) إلى إدارة حاكم (كورة) الجنرال (أرسلان خان) على شرط الطاعة للدولة الروسية.

وأما (سورخاي خان) فإنه توجه إلى طهران في بلاد العجم، وبعد محاولات كثيرة استغرقت نحو خمسة أعوام قضاها في إيران رجع إلى الداغستان مع حملة عسكرية قوية لقتال الروسيين من جديد.

ففي سنة 1342هـ اجتاز (شماخي) إلى (عندال) ومنها توجه إلى قرية (ثغراك) ولكنه انتقل إلى رحمة الله في (ثغراك) قبل أن يستطيع عمل شيء جدي، ودفن فيها رحمه الله. وأما أولاده فقد تركوا تلك الجهات نهائياً، وهاجروا إلى الدولة العثمانية بعد وفاة والدهم.

يقول مرزا حسن القداري في كتاب أثار داغستان: كان المرحوم (سورخاي خان) عالما فاضلا قوي المعرفة بالعلوم العربية.

وبعد دخول هذه البلاد تحت حكم الروس بمقتضى معاهدة كلستان) أو معاهدة داغستان المعقودة بي الإيرانيين والروسيين سنة 1816م أخذ الروسيون يجرون عليها أنظمتهم الإدارية العامة، ويحتلون بجيوشهم المواقع الحربية الهامة احتياطا لما عساه يفاجئهم، لأن الأمن لم يكن استتب في البلاد بعد. وأن بعض أمرائها لم يكن راضياً عن دخول البلاد في حوزة الروسيين، ولهذا كانوا ينتهزون الفرص للانتقاص والفتك بحاميات الروس الضعيفة، وكانوا قد ألفوا لذلك جمعية سرية حربية سنة 1818م إلا أن قائد الجيوش الروسية الجديد الجنرال (برمالوف) لم يعبأ بذلك وظل يسير بجيوشه إلى داخل البلاد يفتح ما بقي من

ص: 25

حصونها المنيعة، ويحتل إمارة بعد إمارة إلى أن أذعنت له جميع الإمارات والمقاطعات المستقلة، وأدت له الطاعة؛ فخيل إليه أن الأمن قد استتب، فصاد يقلل من عدد الحاميات والجيوش، ولكن سرعان ما أظهرت الحوادث غلطه في حسن ظنه في الأهالي. إذا لم يمض على معاهدة داغستان بضع سنوات حتى هب في أوائل سنة 1240هـ أحد أبطال الجبل الغازي محمد الكمراوي الأواري في قرية (كمرا) في رأس من رؤوس الجبل، وثار على الحكومة الروسية، وعلى الأمراء المحليين الذين استسلموا للروسيين، وطالب أن تكون المعاملات وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية لا للعادات القديمة الباقية من جاهلية أولئك الأقوام، وألف رسالة في وجب نبذ تلك العادات القديمة المخالفة للشرع وسماها (إقامة البرهان على ارتداد عرفاء داغستان) وكان من العلماء المتبحرين في العلوم العربية والشرعية. وهو الذي يلقيه الروسيون (بقاضي ملا)، ثم أخذ يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الدين والوطن ويوحد كلمتهم، فاجتمع لديه في وقت قريب جمع غفير من سكان الجبل، فبدأ في أوائل سنة 1242هـ يزحف بهم إلى القلاع المنعزلة ويحتلها، ويقتل حاميتها، ثم تحول إلى عاصمة البلاد (درنبد) وشرع في حصارها، واستنفر سكان (طبسران)، وأمة (الججن)، فنهضوا كلهم لنجدته وظلوا يحاربون الجيوش الروسية المنظمة حتى استشهد الإمام الغازي محمد الكمراوي في معمعة القتال بقرية (كمرا) في ثامن جمادى الأخر سنة 1248هـ (29 تشرين أول سنة 1832م) بعد حصار طويل. على أن استشهاده لم يضع حداً للثورة، ولا أوهنت عزيمة المقاتلين، فخلفه على قيادة الثورة، ورفع علم الجهاد من بعده الغازي الشهيد حمزة بك الذي قام بأهباء الثورة ونظم حركتها، واستمر يقاتل ويجاهد حتى استشهد بعد ذلك في أواخر سنة 1250هـ يقرب مدينة (خنزاخ) فخلفهما في القيادة إمام آخر أشد منهما مراساً، وأبعد نظراً وأكبر هيبة في نظر الجماهير من المجاهدين والأعداء على السواء، وأقوى على احتمال ويلات الحرب الجبلية وهو الإمام الشيخ (شامل) الذي طبقت شهرته الخافقين لما أبداه من البطولة، وحسن الإدارة، وتنظيم العلم، ثم بوقوفه أمام عدو عظيم جبار مدجج بالأسلحة الحديثة تلك المدة الطويلة من سنة 1250هـ إلى أوائل سنة 1276هـ أذاق خلالها جيوش الروس الأمرين وحملهم من الخسائر في المال والرجال ما يصعب تقديره.

ص: 26

والشيخ شامل مثل الشيخ عبد القادر الجزائري خرج من المشيخة إلى الإمارة، وتناول السيف من طريق القلم - كما يقول المرحوم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان - ولم يكن الشيخ شامل في سعة علم سليفه - الغازي محمد وحمزة بك - ولكنه كان أحسن منهما إدارة للأمور، وبصرة بالحروب، فشمر عن ساق الجهاد، والتف ذلك الشعب الأبي من حوله، فذب عن حوض ملته نحو 25 سنة ظفر فيها بالروس في وقائع عديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، أو جلاهم عن جميع البلاد إلا بعض مواقع ثبتوا فيها في الناحية الجنوبية، وكانت اعظم الدبرات التي والاها عليهم هي في سنتي 1843 - 1844م حيث افتتح جميع الحصون التي كانت لهم في الجبال، وغنم منهم 35 مدفعاً، واعتاداً حربية، ومؤناً وافرة، وأخذ عدداً وافراً من الأسرى فجردت الدولة الروسية بعظمة ملكها وسلطانها جيوشاً جرارة، ونادت هي بالجهاد في الداغستان!. ونظم شعراء الروس القصائد في وصف تلك الحروب.

وما زالت توالي الزحوف حتى تمكنت من البلاد، ولكن بقي الشيخ شامل عشر سنوات أخرى يناوشها القتال في الجهات الغربية من الجبال، ولم يسلم هذا المجاهد العظيم للروس إلا في 6 سبتمبر سنة 1859م (من صفر سنة 1276هـ) فنقل هو ومن معه من عياله ومرافقيه إلى بطرسبوغ، فاستقبله القيصر إسكندر الثاني وأكرم وفادته، ثم نقل إلى كالوغا، ومنها إلى كييف. وبعد أن قضى - خلافاً للعهود التي كانت أعطيت له قبل التسليم من أنهم سيرسلونه إلى خليفة المسلمين في القسطنطينية - في الأسر عشرة أعوام أذن له بالسفر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، فسافر هو ومن معه إلى القسطنطينية حيث احتفل به السلطان عبد العزيز خان وأكرم وفادته، ومنها ذهب إلى مكة المكرمة حيث أدى فريضة الحج في 1286هت، ثم ذهب إلى زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وبقي فيها حتى لقي ربه قبيل غروب شمس يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1287هـ (28 مايو سنة 1870م) ودفن بالبقيع عليه رحمة الله ورضوانه في مواجهة قبر العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم.

وانتهت بذلك الحرب في الجبل تقريباً، ودخلت البلاد في دور جديد من حياتها نستطيع أن نسميه دور التقرب بين الحكومة الغالبة وبين الأهالي، ودور العمل على نشر الحضارة

ص: 27

الجديدة بينهم فقد رأت الحكومة بعد ما عاينته مدة الحروب الأخيرة من تعلق سكان الجبل ببلادهم وحريتهم، وشيوخهم وأمرائهم - أن تتقرب من هذه الطبقة صاحبة السلطان الحقيقي في الجبل، فودت إليهم أملاكهم التي كانت حجزتها أيام الحرب، وأرجعت من كانت أبعدتهم عن مراكزهم أو وظائفهم إلى ما كانوا عليه وصارت تعاملهم بالحسنى، ثم إنها تساهلت مع الشعب فتركت له سلاحه، وأعفته من الخدمة العسكرية وأقامت له محاكم شرعية ثم حطت عنه بعض الضرائب وخصصت مبلغاً معلوماً ينفق سنويا على حاجيات البلاد من الخزينة المركزية مراعية في كل ذلك عواطف الشعب وعاداته القديمة، واقتصاديات البلاد، فتمكنت بذلك من إرضاء أكثر السكان، وإخماد روح الثورة إلى حد ما بين سكان البلاد إذا نحن صرفنا النظر عن بعض حوادث الثورة التي كانت تظهر بين الفينة والفينة هنا وهناك في بعض أنحاء تلك البلاد. وأهمها تلك الثورة التي حدثت سنة 1878م عندما كانت الدولة الروسية مشتبكة في حرب مع الدولة العثمانية، ولكن سرعان ما تفرغت الحكومة الروسية لإخماد هذه الثورة بعد تصفية حسابها مع العثمانيين، فاستطاعت أن تقضي عليها بسرعة، وعرضت على سكان الجبل الطاعة التامة مع الإخلاص، أو الجلاء عن البلاد والخروج منها إلى حيث يريدون، ففضل كثير من سكان تلك البلاد الهجرة منها إلى تركيا فأنزلتهم حكومتها في بعض جهات الأناضول، وفي سوريه وفي شرق الأردن وفي العراق حيث لا يزالون يقيمون في تلك الأنحاء مواطنين مخلصين لأوطانهم الجديدة حيث يلقون من أهل البلاد وحكوماتها كل رعاية وعطف واحترام.

وبقي آخرون في بلادهم متمسكين بعرى أحكام دينهم وتقاليدهم واستمرت الحال على ذلك حتى كان الانقلاب الشيوعي الذي قلب القيصرية الروسية سنة 1917م.

هذا عرض موجز للأدوار التي مرت على الإسلام واللغة العربية في الداغستان قبل الثورة الشيوعية سنة 1917م وأرجو أن تتاح لي الفرصة للتحدث عن الإسلام والمسلمين واللغة العربية في الداغستان بعد طغيان الشيوعية الحمراء على تلك الربوع في وقت قريب.

حلوان

برهان الدين الداغستان

ص: 28

‌من روائع (شلي)

للأستاذ إبراهيم سكيك

قدمت في مقال سابق قصيدتين من روائع قصائد الشاعر الشاب (شلي) وإتماما للبحث أقدم للقارئ قصائد أخرى ابدأها بمقطوعة على لسان السحابة وفيها يقول:

أنا التي أجلب وابل المطر للأزهار العطشة من البحر والأنهار

أنا التي أعطي ظلا خفيفا لأوراق الشجر عن الظهيرة وهي غارقة في أحلامها

أنا نروج أدرس حبات البرد فتضرب الأرض كأنها أسواط فأحيل السهل الأخضر إلى أبيض ثم لا ألبث أن أذيبه بزخات من المطر وأضحك بينما أسير والناس تصغي إلى رعودي.

أنا التي أغربل الثلج على الجبال وهي أسفل منى حين تئن أشجار الصنوبر وهي شاحبة، واقضي الليل على وسادة بيضاء وأنا بين ذراعي الريح العاصف يحركني أنى أراد. وأتنقل بين أبراج عرائشي السماوية مهتدية بنور البرق الخاطف.

وعندما يسدل الليل ستار الماء القرمزي على الأرض أطوي أجنحتي لأستريح على وكر من الهواء كما تستريح الحمامة المتعبة في وكرها، ويتوهج القمر مطلقا أشعته الفضية على سطحي المغطى بالقطن المندوف ندفته يد النسيم فيحدث في خيمتي الرقيقة ثقوبا تبص منها النجوم فأضحك وأنا أراهن يطرن حولي كسرب من النحل الذهبي.

أنا بنت الأرض والماء وربيبة السماء، ولم أخرج من الماء إلا بعد أن اخترقت مسام المحيط. فخرجت صافية وتغير شكلي مرات ومرات ولكني لا أفنى ولا أموت لأني بعد أن ينتهي المطر وتصفو قبة السماء الزرقاء ويهب الريح من فوقي وتخترقني أشعة الشمس أخرج من كهوف المطر كما يخرج الطفل من بطن أمه أو شبح من القبر لأبني نفسي من جديد.

وفي قصيدة ثانية كتبها وقت الضيق عندما كان هجر والده وسمع بانتحار زوجته الأولى التي تركها وتزوج أخرى دون قرار شرعي. في هذا الوقت من البؤس وتأنيب الضمير كتب القصيدة التالية وفيها يقول:

إن الزهرة التي تبسم اليوم، تذوي غداً

ص: 30

وكل ما ترغب في بقائه يخدعنا ويولي عنا سراعا.

فأي بهجة في هذه الدنيا التي لا تضيء ' لا كما يضيء البرق الخاطف فهو يلمع بشدة ولكن لا يدوم، وهو يسخر من الليل الحالك ويختفي في الحال.

أنظر إلى الفضيلة تر أنها لا تثبت على حال وتتقلب كتقلب الأيام وإلى الصداقة نجد أنها نادرة الوجود

وأنظر إلى الحب تر أنه يبيع النعمة بالكبرياء والرحمة واليأس، وبعد فناء جميع المسرات والمباهج نرى أنفسنا في الوجود وعقولنا في التفكير، فما دامت السماء زرقاء صافية، والأزهار باسمة ماضرة، والعيون لم تتغير نظراتها قبل مجيء الليل تملأ النهار متعة وسروراً، وما دامت الساعات الهادئة تزحف ببطء: أفهمك في الأحلام التي لن تفيق منها إلا لتبكي حين ترى الحقيقة.

وفي قصيدة ثالثة يخاطب محبوبته بلغة الطبيعة وفلسفة الوجود خطاباً شعرياً رائعاً اقتبس معانيه من ظواهر الطبيعة التي شغف بها وأدمج نفسه وروحه فيها فيقول:

تتحد الينابيع بالأنهار، وتلتقي الأنهار بالمحيطات وتجتمع الرياح الآتية من المساء بعضها ببعض بعاطفة ورقة.

لا شيء في الطبيعة إذا يظل منفرداً بل يربطه القانون السماوي بشيء آخر ليتحد الاثنان، فلم لا يكون هذا حالي معك؟

انظري إلى الجبال وهي تقبل السماء العالية عن بعد، وإلى الأمواج وهي تعانق بعضها بعضا، وكذلك تفعل الأزهار والأغصان وهذه أشعة الشمس تحتضن الأرض وأشعة القمر تقبل البحر، فما قيمة هذه القبلات إن لم تقبلني مثلها؟

وفي قصيدة رابعة يخاطب الليل وهو يتصوره روحاً تسري في العالم فيناجي هذه الروح المحبوبة مناجاة شعرية رقيقة فيقول:

سيري بسرعة يا روح الليل وأنت تجتازين أمواج البحار الغربية بعد أن تخرجي من كهفك الشرقي الكثيف الضباب حيث تنسجين أثناء النهار أحلام الهناء والرعب مما يجعلك في نظرنا مزيجة من الخوف والمحبة، فأسرعي في سيرك.

اتشحي برداء أشهب نسجت خيوطه من النجوم، واحجبي بشعرك الفاحم الطويل عين

ص: 31

النهار بعد أن تقبليه حتى تضنيه، ثم تجولي فوق المدينة والبحر والبر والمسي بعصاك السحرية المخدرة كل إنسان فهلمي أيتها الروح المرتقبة.

عندما نهضت ورأيت الفجر قد لاح تنهدت أسفاً عليك، وعندما ارتفعت الشمس في الأفق، وزال الظل عن وجه الأرض، ثم وقع الظهر ثقيلا على الأزهار والأشجار وأخذ النهار المتعب ينحدر ليستريح في مقره رأيت انك قد تأخرت قليلا فتنهدت من أجلك.

وآخر قصيدة أرغب في الاقتباس منها قصيدة رائعة مطبوعة بطابع (شلي) وتتجلى فيها عبقريته الفذة التي تنسج حول منظر صغير أو أمر بسيط نسيجاً قويا من المعاني المبتكرة والتخيلات الظريفة، فها هو يسمع غناء قبرة في مساء يوم من أيام الربيع فيناجيها مناجاة الشاعر الفنان الذي ينظر للأمور بمنظار دقيق فيرى ما لا يراه غيره من البشر وتقترن أحاسيس ومشاعر لا تعتري غيره فيعبر لنا عن كل ذلك في قصيدة قوية بقول فيها:

حييت أيتها الروح اللطيفة، إذ لا أتصور انك طير لأنك تسكبين قلبك كله في نغمات منسجمة من السماء القدسي أو من جواره.

وفي ضوء الشمس الذهبي عندما تميل للغروب وتصبغ الغيوم صبغة لامعة أراك تسبحين مسرعة في الفضاء كما تسبح موجة من الطرب في مخيلة الإنسان.

وأرى المساء الأرجواني الشاحب يذوب حوله فلك مسيرك كما تذوب نجمة في السماء طلوع النهار، فأنت لا نراك ولكنا نسع صوتك الحاد البهيج.

وها هي الأرض وما حولها من هواء قد أترع بصوتك كي يحصل في ليلة صافية عندما يمطر القمر أشعته اللؤلؤية فيفيض السماء بها.

أي شيء أنت؟ لسنا نعرف، ما أكثر الأشياء شبها بك!

هل أنت كالشاعر المنزوي وهو يستنير بأفكاره ويطرب بغنائه الذي لا يطلبه منه أحد حتى يرى العالم مترعاً بالآمال والمشاعر والمخاوف، ذلك العالم الذي لا يعبأ به!

أم أنت كفتاة رفيعة قابعة في برجها الحصين وهي تواسي روحها الرازحة تحت عبء غرام عنيف بموسيقى عذبة في ساعة خفية فتفيض أنغام الموسيقى التي تغرق قصرها؟

أم أنت كوردة تتظلل بين أوراقها الخضراء يفتحها النسيم اللطيف فترسل رائحة زكيه تجعل الفراش المتنقل حولها يغشى عليه لشتدتها وقوة عبيرها؟

ص: 32

إن الموسيقى الصادرة منك لتفوق في جمال وقعها صوت قطرات المطر في الربيع وهي تتساقط على مرج أخضر لامع تفتحت أزهاره بعد أن أيقضها الغيث فجعلها في مرح وحبور.

علميني أيتها الروح أو الطير شيئاً عن أفكارك الخاصة لأني لم أسمع في حياتي قصائد غزلية أو خمرية أرسلت في نفسي طوفاناً من الطرب كما أرسلت أنت.

وإذا رنت صوتك بصوت جوقة ملائكية أو ترتيلة النصر الفرحة فإنها مقارنة فارغة أشعر بأن ينقصها شيء خفي.

أي موضوع تدور حوله ينابيع أنغامك السعيدة؟ أهي عن الحقول والجبال، أم عن الأمواج والسماء، أم عن بنات جنسك؟

وعلى كلاً فلا يمكن أن يكون في صوتك الطروب الحاد نغمة من نغمات الضعف أو ظل من القلق لأنك تحبين ولكن لا يبلغ بك الحب إلى درجة الوله وما ينتج عنه من أشجان.

لابد انك تفكرين في أمور حقيقة عميقة خلاف ما نحلم به نحن بني البشر، وإلا فمن أين لك هذا السيل البلوري من الأنغام!

أما نحن فإننا ننظر ونفكر فيما مضى وفيما هو آت حتى نذوي مما لا وجود له، ولا تصدر عنا ضحكة مهما كانت إلا وهي مشوبة بل مثقلة بالألم، وأعذب أغانينا تلك التي تتحدث عن الأحزان.

إيه يا من احتقرت الأرض وعلوت في الفضاء، علميني نصف الحبور الذي لا بد أن عقلك يعرفه حتى تنبعث من شفتي أنغام منسجمة كأنغامك وحتى يصغي العالم إلي) كما أصغي لك الآن.

هذا ما رغبت أن أعرض لقراء العربية عن الشاعر الموهوب الذي له مكان في قلب كل إنكليزي ليكون في قراءة تأملاته وأفكاره متعة ولذة راجياً أن أتمكن من متابعة الكتابة عن الأدب الغربي والسلام.

إبراهيم سكيك

ص: 33

‌التعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

مع الشاعرة السورية هجران شوقي:

يا كاتب الأداء النفسي

تحية خالصة ومودة دائمة:

ما أحب أن أعلق على تعقيباتك الأخيرة في العدد (890) من الرسالة حول (ثلاثة شعراء في الميزان)، فلكل رأيه ومذهبه، والأدب جمال، والجمال مقياسه الذوق، والناس يتفاوتون فيه، ولكن الذي لفتني في كلمتك الممتعة أن تشك في شخصيتي الأنثوية، وأن يخيل إليك أن أسمي أن هو إلا قناع يختفي وراءه وجه أديب من الأدباء السوريين! ما هذا الاستنتاج الغريب؟ والأغرب منه أن تكتب إليك فتاة تعلن رأيها في كثير من الصدق والشجاعة، وتمهر كلمتها باسمها الصريح فتظنها فتى وتحسبها أديباً من الأدباء، فما أعجب ما يطالعنا به الدهر، وما اشد ما يلقي الإنسان من أخيه الإنسان، ولكن الزمن وحده يحل العقدة ويكشف الطوية، ولله ما أصدق القائل:(الله أكبر حل العقدة الزمن)!

ولقد عزمت أن أزور القاهرة حلال انعقاد المؤتمر الثقافي الثاني في الإسكندرية في أعقاب أغسطس، وسنلتقي في إدارة مجلة الرسالة في ظل أمير النثر الأديب العظيم الأستاذ أحمد حسن الزيات وسأثير مناقشة القصائد الثلاث في حمى سيد الأدب، وسيحكم بيننا، وستعتذر أن كنت قاسياً في نقدك، وأن كان حكمك عليَّ عجيباً غريباً، حين أبادلك رأيا برأي، وحين ترى إلى فتاة تحسن النقاش وتملك مقاد الكلام، وتعيش في جو خالص من الحقيقة والحير والجمال، وتطمع أن تحببه إلى الآحرين، وما تدري لعل هذه الرسائل المتبادلة بيننا تذخر لنا لقاء قريبا في كتاب مشترك نطلع به على الناس. أما أنا فلقد حرصت على أن أراك حرصك على أن تراني، وأعجبني منك أنك وفي زمن مات فيه الوفاء أو كاد، ولقد تجلى لي وفائك في هذه الفصول الرائعة التي عقدتها متحدثا عن شاعر الصدق والجمال والحب: عل محمود طه.

مع هذه الرسالة قصيدتي (القمر) وهي لون جديد من ألوان مزج الغزل بالطبيعة، أحب أن تنشر في الرسالة دليلا على أدب الفتاة السورية الحديثة، وطمعا في محو ما ساورك من

ص: 34

شك وما خالجك من ريب.

ولك تحيتي مشفوعة بإعجاب، وإلى الغد القريب.

(دمشق - سورية)

هجران شوقي

أشكر للشاعرة الفاضلة أدب الخطاب ولطف العتاب. وأبادر فأرد هذا التعقيب المتأخر إلى تغيبي عن القاهرة طيلة شهر كامل، وإلى أنني لم أتلق هذه الرسالة إلا منذ أيام ثلاثة، وكذلك الرسالة التالية في هذه التعقيبات وهي من أديب لبناني صديق.

بعد هذا أقول للآنسة إنني إذا كنت قد لقيتها بشيء من القسوة أو أشياء من العنف، فمرجع ذلك إلى ما وقع في الظن من أنها أديب من الأدباء السوريين يخاطبني من وراء قناع. . . وعذري في هذا الظن أنني لم اقرأ للآنسة شيئاً أستطيع على هديه أن أطمئن إلى شخصيتها الأنثوية؛ أعني أن اسمها لم تقع عليه عيناي في صحيفة من الصحف أو مجلة من المجلات، على كثرة ما أعرف عن طريق هذه وتلك من أسماء الأدباء والأديبات. . . من هنا خطر لي أن الذي يتحدث إليَّ فتى لا فتاة، لأنني لم اصدق أن هناك أديبة تكتب بمثل هذا الأسلوب الذي يتميز بالنضج والأصالة، ثم لا تعرفها الصحف الأدبية ولا يصل صرير قلمها إلى منافذ الأسماع! لتعذرني الآنسة إذن حين أشرح لها حقيقة هذا الظن الذي أثارته رسالتها الأولى ومحت ظلاله رسالتها الثانية وعدت من بعده كما يعود الخيال من رحلة طويلة ينفض بعدها يديه من خداع الأوهام ويلقي عصاه!

وإذا كنت قد قسوت فمرد القسوة إلى شيء آخر غير ما ذكرت؛ شيء أرجو ألا يغيب عن فطنة الأديبة الشاعرة وما أظنها إلا معترفة به وراجعة إليه، وأعني به هذا الهجوم الذي حملته إلى في نقدها سطور وكلمات. . . وكيف لا يكون هجوما ذلك الذي يتنكر لذوقي حين أحكم ولرأي حين أفصل ولموازيني حين تقام؟! إنني أشير إلى ما ورد في رسالتها من حملة ظالمة على الشاعر الذي أعجبت به ووقفت إليَّ جانبه، حتى لقد خيل إلى أن الدافع النفسي لهذا الهجوم لم يكن غير تلك العصبية الإقليمية التي لا تزال تشغل بعض الخواطر وتستقر في بعض النفوس، وتحاول أن تنتصف لبيئة بعينها دون غيرها من البيئات ووطن

ص: 35

بعينه دون غيره من الأوطان. . . مهما يكن من شيء فإنني لا أحب أن يكون هذا الظن حقيقة؛ حقيقة محورها أن الأديبة (السورية) هجران شوقي يغضبها أن يكون الفائز الأول في المباراة الشعرية شاعراً لبنانياً هو يوسف حداد، وأن يكون الفائز الثاني في هذه المباراة شاعراً سورياً هو أنور العطار!!

أما عن عزم الآنسة الفاضلة على زيارة العاصمة الأولى والثانية في مصر، فإننا لنرحب بها زائرة عزيزة وضيفة كريمة، تلقى في هذه الأرض الطيبة أهلا غير الأهل ووطنا غير الوطن. . . وتستطيع الآنسة إذا ما صح منها العزم أن ترى الأستاذ الزيات في المؤتمر الثقافي بالإسكندرية وأن تراني في دار الرسالة بالقاهرة، وإنه ليسعدني أن أرى هؤلاء الذين يعيشون في جو خالص من الحقيقة والخير والجمال. . . وإذا كانت تريد أن تثير مناقشة القصائد الثلاث محتكمة في هذا النقاش إلى الأستاذ الزيات، فإنني أود أن أؤكد لها أن الموضوع في رأيي لم يعد يحتمل جدلا أو مناقشة بعد هذا الذي قالت وقلت. وبعد أن خاطبتني في رسالتها الأولى بهذه الكلمات:(ما أريد منك إلا أن تعقب على هذه المباراة وأن تنشر القصيدتين الفائزتين في الرسالة، وأن نرهف إليك أفكارنا لنسمع منك فصل الخطاب)!. . . لقد استجبت لرغبتك وعقبت يا آنسة، ورأيي الذي أبديته هو حكمي ولن بتغير، مع احترامي لرأي الزيات الصديق وتقديري لأدبه وقلمه!

أما عن الكتاب المشترك الذي تريدين أن نطلع به على الناس فأنا في انتظار مقدمك إلى دار الرسالة لنعقد مؤتمراً ثقافياً آخر نبحث فيه شئون الأدب والأدباء ومشكلة الكتب وأزمة القراء. . . وإلى عدد قادم من الرسالة حيث يكون لقصيدتك في صفحاته مكان.

بقي أن اشكر لك كريم تقديرك لتكل الفصول التي كتبتها عن شاعر صديق. . . إن الوفاء يا آنستي هو أجمل ما في الحياة!

دفاع عن مجلة الأديب:

قرأت في العدد (889) من الرسالة ما كتبته تعليقا عن رسالة كارنيك جورج عن مجلة (الأديب) التي لم تشر إليها نزولا على حكم الذوق وواجب الزمالة. وأنا هنا لا أريد أن أدافع عن (الأديب) ولكني أرغب في سرد بعض الحقائق التي قد تعينك على تكوين فكرة صحيحه عن هذه المجلة. فأنا وثيق الاتصال بصاحبها، وقد عتبت عليه يوما بعض ما قد

ص: 36

يخطر على بال القارئ العادي، فوجدت أن عتابي في غير محله، وأن علينا أن نقدر فعلا هذه المجلة وجهاد صاحبها في إصدارها!

إن كلمة كارنيك هذه مملوءة بالمغالطات؛ فليس صحيحا أن جميع أنصار المجلة تنشر لهم المقالات، وحسبك يا صديقي أن تطلع على أسماء الأنصار لتجد أن كثيراُ منهم لم يكتبوا يوما في (الأديب)، وقد أراني صاحب (الأديب) عدة رسائل يعتذر فيها عن نشر بعض المقالات التي يرسلها الأنصار، فيكون نصيبه من ذلك أن يقطع هؤلاء عنه اشتراكهم فلا يبالي! وقال لي الأستاذ ألبير أن ما ذكره كارنيك عن ذلك القارئ العراقي الذي شكره صاحب (الأديب) على إرسال الاشتراك إلخ. . . كذب وافتراء. . . ومثل ذلك قوله أن المجلة لا تنشر لكثير من أدباء العراق لأنهم لا يرفقون قيمة الاشتراك، فالحقيقة أنه ليست هناك مجلة عربية تفسح صدرها لكتاب العراق مثل (الأديب)! وقلة الذوق تبدو في كلمة هذا الكاتب العراقي بأبشع صورها حين يقول:(إن الرجل قد عزم على أن يهجر بلاده ومجلته ولا يأخذ معه إلا ما جمع من مال)!

أنا أعرف الناس بحالة هذا الرجل المادية وما يقاسيه من ضيق، وأعرف أنه قرر مراراً أن يغلق مجلته ولكن إلحاح الكثيرين من أصدقائه - وأنا منهم - كان يصرفه عن تحقيق هذا العزم، وهو لم يطلب اشتراك الأنصار إلا بناء على اقتراح هؤلاء الأصدقاء، وليس في هذا ما يضير على كل حال، وحرام أن تنقطع عن الصدور مجلة أدبية كالأديب يجد فيها جميع أدباء سوريا ولبنان والعراق وفلسطين والمهجر متنفساً لأفكارهم وعواطفهم. . . وليس صحيحاً أن المجلة تساوم وتربح، فإن ما يعود على صاحبها من مال لا يكفي أوده وأود أسرته؛ وليست (الأديب) على أي حال بأغنى من مجلة (المختار) التي اضطرت إلى الانقطاع عن الصدور بالرغم من أن رءوس أموال عظيمة ترفدها في أميركا!

بقيت هناك حقيقة يجب أن تذكر، وهي أن هذه الافتراءات التي كتبها كارنيك جورج مردها على مصلحة شخصية. . . فقد أرسل هذا الكاتب إلى (الأديب) عدة مقالات وقصص كانت تهمل. . وكأنه أراد أن (يرشو) صاحب (الأديب) لينشر له مقالاته فأعلمه أنه مرسل إليه مائتي نسخة هدية توزع على الأصحاب من مجموعة قصصية أصدرها بعنوان (دموع عذراء) على ما أذكر. . . وحين تلقى صاحب المجلة عشرين نسخة من هذا

ص: 37

الكتاب (وهو كتاب قصصي سخيف على ما تبين لي لأنه أرسل إلي) كتب له يشكره ويرجوه أن يقف إرسال الباقي حتى يتم توزيع هذه النسخ العشرين التي لم يجرؤ على أن يهديها للأدباء من أصحابه، لأنها ضعيفة جداً من الناحية القصصية. . . وكان من الطبيعي أن يغضب هذا الكاتب العراقي ويرسل إليك هذه الكلمة الحافلة بالاتهامات والافتراءات!

ولقد كنت أود يا أخي أنور ألا تنشر رسالة الكاتب العراقي قل أن تتحقق من صدق ما جاء فيها بنفسك، بالرغم من أن تعليقك كان معتدلاً نزولاً على حكم الذوق وواجب الزمالة. . . أقصد أنه كان من المفضل أن تقوم بالتحقيق قبل نشر الاتهام. ولك خالص التحية من أخيك

بيروت - لبنان

(. . .)

أشرت في الكلمة السابقة من (التعقيبات) إلى أن هذه الرسالة من أديب لبناني صديق. . . وإن ما بيني وبينه من أسباب الود وأواصر الصداقة وطول المصاحبة، ليدفعني إلى أن أثق بروايته حول ما ذكره عن مجلة (الأديب) اللبنانية، وما يلقاه صاحبها من سبيل إصدارها من عبء العيش وإرهاق الحياة!

وأشهد لقد كنت حريصاً على إظهار الحق سواء أكان هذا الحق في جانب الاتهام أم في جانب الدفاع. ولهذا نشرت كلمة الأديب العراقي الفاضل لأتيح له أن يقول ما يشاء، ثم عقبت عليها بكلمة أقتطف منها هذه الفقرات:(ولا نريد أن نصدق هذا الذي يقصه علينا الأديب الفاضل. لأنه لو صحت هذه الوقائع التي ينسبها إلى هذه المجلة، لترتب على ذلك أن يفقد القراء ثقتهم في رسالة الصحافة الأدبية. . . إننا نريد للصحافة الأدبية أن تسمو برسالتها فوق مستوى الظنون والشبهات، قلا يتهم المشرفون عليها بما ينقص من قدرهم وقدر الأدب وقدر الكرامة العقلية. نقول هذا ولا نريد أن نصدق هذا الذي بلغنا عن زميلة نحرص كل الحرص على أن يظل مشعلها مضيئاً بنور الفن ونور الإيمان. . . ونمسك القلم عن التعرض لاسم الزميلة وأسماء المشرفين عليها إلى حين؛ نمسك القلم حتى نطمئن إلى حقيقة هذا الاتهام من جهة، ويطمئن الذين تسمهم كلمات الأديب العراقي إلى أننا نحرص على مكانتهم من جهة أخرى)!

ص: 38

من هذه الفقرات يتبين للقراء مدى احترامي لحرية الرأي التي هيأتها للكاتب العراقي الفاضل، ومدى مراعاتي لواجب الزمالة الصحفية التي أملت على أن أهمل الإشارة الصريحة إلى اسم (الأديب) صاحب الأديب، ومدى حرصي على سماع كلمة دفاع من الجانب الآخر توضح حقيقة هذا الاتهام. . . واليوم وقد جاءتني هذه الكلمة، فإنه لا يسعني إلا أن أنشرها كاملة كما نشرت الكلمة الأخرى كاملة، متجاوزاً عما في الكلمتين من عنف الأداء وقسوته، ما دام رائدي أن يقارن القراء بينهما ليكشفوا عن جوهر الحقيقة؛ في ضوء الحرية القلمية التي أومن أنها من حق كل أديب!

أما عن قول الصديق العزيز بأنه كان من الأفضل أن أقوم بالتحقيق قبل نشر الاتهام فلا أوافقه عليه، لأنني لا أحب أن أعترض طريق رأي صاحبه أن يبلغ أسماع الناس. . . إن لكل إنسان الحق في أن يتهم وإن لكل متهم مثل هذا الحق في أن يدفع عن نفسه ما رمي به، ولن تظهر الحقيقة إلا إذا استمع الناس لشتى الآراء من هنا وهناك!

شاعرة مصرة تودع الحياة:

أشهد أن حياتها كانت أقباساً من وهج اللوعة، وفنوناً من عبقرية الألم، وخريفاً لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس. . . واشهد أنني قد حاولت جهدي أن أجدد في روحها ضياء الأمل، وأن أحبب إلى نفسها جمال الحياة. . . ولكنها آثرت أن تمضي هكذا مسرعة، تحث الخطى إلى عالم ليس فيه غير الظلام. . . والسكون. . . والعدم!

واليوم وقد رحلت هذه الإنسانة عن دنيا الناس إلى غير معاد، يتعثر القلم في يدي وأنا اكتب عنها هذه الكلمات. . . ليس ذلك لأن القدر قد ظلمها في حياتها كل الظلم، وقسا عليها في مرضها كل القسوة، وأذبل في موتها زهرة العمر قبل أن يتضوع منها عطر الشباب. . . ولكن لأنها قد طلبت إلى أكثر من مرة أن أكتب عنها كلمة رثاء!!

من هنا يتعثر القلم في يدي. . . وسيتعثر في الأسبوع القادم حين أتحدث عنها كظاهرة حزينة من ظواهر الوجود، أو كدمعة حائرة لم تجففها يد الزمن. . . إنها الشاعرة (ن. ط. ع) التي رحلت بحزنها عن دنيا الناس، ونأت بشعرها عن صفحات الرسالة!!

أنور المعداوي

ص: 39

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

التعليم بين التوسيع والتجديد في المؤتمر الثقافي العربي:

أشارت الصحف في الأسبوع الماضي إلى أن وفد مصر في المؤتمر الثقافي العربي أبدى ملاحظات على جدول أعمال المؤتمر، وذهب بعضها إلى التساؤل هل ينسحب الوفد من المؤتمر. . . ثم نشر أخيراً أن الأمر قد استقر على تعديل الجدول بما لا يخالف وجهة النظر المصرية.

ذلك هو ما نشر، وهو كلام مجمل يدفع إلى التساؤل عن حقيقة المسألة. وتفصيل الموضوع أن اللجنة التي كانت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية قد ألفتها لفحص الردود والتقارير المقدمة إلى المؤتمر، والتي ذكرت أسماء أعضائها في الأسبوع الماضي أخرجت كتيبا يشتمل على تمهيد للمسائل التي ستعالج في المؤتمر، و (تفريغ) للإجابات المختلفة التي وردت ردا على الأسئلة المرسلة من الإدارة الثقافية إلى الجهات والهيئات الثقافية، وتوصيات وضعتها اللجنة لتكون موضع مناقشة وبحث في المؤتمر.

بين الأسئلة التي وضعتها الإدارة الثقافية: هل يسير التوسع في التعليم وفقا لخطة مرسومة؟ ما الغرض الأساسي من تحديد التعليم؟ ما وسائل التحديد؟

وكانت وزارة المعارف المصرية - بطبيعة الحال - من الجهات التي وجهت إليها الأسئلة، ويظهر أنها شعرت من هذه الأسئلة بروح يخالف ما شرعت فيه - منذ تولى الأمر معالي الدكتور طه حسين بك - من التوسع في نشر التعليم، بل تعميمه وتيسيره لجميع المواطنين. وظاهر أنه لا مكان (للتحديد) فيما يجري بين الناس ميسراً للجميع كالماء والهواء، فلا مكان إذن للإجابة عن غرض أساسي للتحديد أو وسائل للتحديد. . .

شعرت الوزارة - على ما يبدو - بأن تلك الأسئلة (تستجوب) في أمور تجري عليها السياسة التعليمية في مصر، فظهر مكان إجابة وزارة المعارف المصرية في ذلك الكتيب أبيض. . . وبازائه تحت (ملاحظات) ما يلي (أشار التقرير إلى أن اللجنة الثقافية المصرية قررت أن تدرس هذه المسائل في جلسات خاصة توطئه لمناقشتها في المؤتمر).

أما (تمهيد) اللجنة و (توصياتها) فقد انبثت فيها أشياء (بيداجوجية) مما ضاق به الناس من

ص: 41

قبل، لأنه كان يضيق مجال للتعليم أمام أبناء الأمة، فقد وجهت اللجنة ملاحظات، مثل التوسع في التعليم دون إعداد عدة ودون خطة مرسومة، وأوصت بالعناية بكيف التعليم وعدم الاقتصار على كمه، وألا يضحى بارتفاع المستوى في سبيل الزيادة العددية المجردة. . . غلى آخر هذه (البيداجوجيات) التي أشعبها معالي الدكتور طه حسين بك تهكماً وسخرية. . .

لقد ابتهج الناس في مصر، واستراح الرأي العام، إلى السياسة التعليمية الجديدة التي تقتضي تعميم التعليم، بل ترددت أنباؤها في أرجاء العالم مشفوعة بالثناء والإعجاب وقد كانت هذه السياسة استجابة لرغبة الشعب في تعليم أبنائه، وتلبية لإلحاحه، وأرواء لعطشه، والشعب يريد التعليم ولا يستطيع أن ينتظر الخطط (البيداجوجية) ولا شيء يقنع أحداً من الناس أن يظل ابنه خارج المدرسة حتى يتعلم غيره تعليما جامعاً لشرائط البيداجوجية، وما ينبغي لشيء أن يقنعه. فنحن الآن أمام حركة تعليمية هدفها التعميم قبل كل شيء، ثم يأتي بعده ما يأتي من تحسين ورفع مستوى وعناية بالكيف. . . إلخ.

ولقد اكتسبت تلك السياسة التعليمية صفة (القومية) لتأييد الرأي العام لها وفرح الأمة وانفعالها بها حتى تمثلتها وصارت جزءاً من كيانها، ولم تعد سياسة وزير فقط أو رأي مفكر فحسب، بعد أنت كانته.

وعلى ذلك لم يكن ينبغي للهيئات التي تحضر للمؤتمر أن تجعل (تحضيرها) لتلك السياسة التعليمية القومية. وقد يحتج بحرية الرأي من حيث أن اللجنة عبرت عن رأيها، ولكن هذا مؤتمر يمثل الرأي التعليمي العام في البلاد العربية، ولأفراد اللجنة أن يبدوا آراءهم الفردية في مجالات أخرى، على أنهم أربعة، وهناك عشرات بل مئات من رجال التعليم لا يرون رأي الأربعة، فهل من حرية الرأي أن يفرض رأي هؤلاء باعتبار أنهم لجنة مختارة تضع توصيات ليوافق عليها المؤتمر؟ ومن المعروف أن المؤتمرات تجيز في اجتماعاتها عادة معظم ما يحضر لها. وثمة سؤال آخر: ما الأساس الذي بني عليه اختيار اللجنة؟

وبعد فقد سلم الله. . . بالتوفيق بين وجهة النظر المصرية وجدول أعمال المؤتمر، وذلك بتوجيه مجرى المناقشة في المؤتمر إلى بحث الصعوبات التي تعترض نشر التعليم والتوسع فيه إلى جانب المسائل الأخرى التي يبحثها المؤتمر، وكان الفضل في ذلك لحكمة

ص: 42

أعضاء وفد مصر، ولباقة المشرفين على إعداد المؤتمر ومرونتهم.

حول إنشاء مدارس مصرية في الباكستان:

نشرت (أخبار اليوم) في عددها الأخير، ما يلي:(أتهم محمد هلي علوبه باشا أمس الحكومة المصرية بأنها تركت يد الباكستان ممدودة في الهواء ولم تحقق طلبها الخاص بإنشاء مدارس مصرية في هذه الدولة التي يبلغ تعدادها ضعف عدد شعوب الجامعة العربية)

ونحن نعلم أن علوبة باشا كان قد اقترح على الحكومة المصرية حينما كان سفيراً في الباكستان - أن ننشئ مدارس مصرية هناك لتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي. واستقال سعادته بعد ذلك من منصبه، ولكنه ظل يردد الدعوة إلى إنشاء تلك المدارس في خطبه بالحفلات التي يقيمها مكتب الصحافة والدعاية بسفارة الباكستان في القاهرة، وكانت آخر مناسبة لذلك الاحتفال الذي أقيم أخيراً لذكرى إنشاء دولة الباكستان.

وعلوبة باشا رجل طيب، وهو يصدر في ذلك عن عاطفة نشعر جميعاً بها نحو هذه الأمة الإسلامية، ولكن هذا الذي يقوله كلام غير عملي، فمصر الآن تواجه مشكلة تيسير التعليم وتعميمه، ووزير معارفها يتحايل على ميزانية الدولة تارة، وأخرى يشعر بضيق هذه الميزانية فيحث الأغنياء على إنشاء المدارس، والمصريون يترقبون آملين أن تتسع المدارس لأولادهم جميعاً، وفيهم متشائمون لصعوبة الأمر وكثرة الطلبات.

مع كل ذلك وفي هذه الظروف تطالب الحكومة المصرية بإنشاء مدارس مصرية بالخارج، في الباكستان أو غير الباكستان مع أن من يسمع ذلك الكلام الذي يلقيه علوبة باشا في الحفلات الباكستانية، يخيل إليه أن سعادته لا يعلم شيئاً من مسائل التعليم في مصر، ولعله يحسب أن الحكومة فرغت من تعليم المصريين جميعاً ولم يبق عليها إلا أن تنشر داعية تعليمية في قطر كبير العدد كالباكستان. . .

وإن استناد الحكومة الباكستانية أو سفارتها بالقاهرة إلى مثل تلك الدعوة، يدل على أنها غير جادة في هذا السبيل، لأن الطريق العملي هو أن تنشئ حكومة الباكستان تلك المدارس في بلادها وتستدعي للتدريس فيها مدرسين من مختلف البلاد العربية، لا أن تمد يدها في الهواء. . .

وقد كنت أتتبع أنباء تعليم اللغة العربية في الباكستان يأمل واستبشار، تلك الأنباء التي

ص: 43

كانت تقول أن مدارس الباكستان أخذت في تعليم اللغة العربية، وإن الوزراء والكبراء أخذوا كذلك في تعلمها، وإن بعضهم تعلمها فعلا، وإن حاكم البنجاب أصبح يجيدها ويخطب بها. ولكن مر على ذلك ثلاث سنين ونحن لا نرى شيئاً من دلائل ذلك، فالسفير الباكستاني لا يزال يخطب في الجمهور المصري في القاهرة عاصمة العروبة باللغة الإنجليزية. . . فهل تمخضت الحركة كلها عن حاكم البنجاب. .؟

افتتاح المؤتمر الثقافي:

عقد المؤتمر الثقافي العربي جلسته الافتتاحية بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية يوم الثلاثاء الماضي. وقد بدأ الاجتماع بكلمة الأمين العام لجامعة الدول العربي عبد الرحمن عزام باشا، وقد افتتح بها المؤتمر ورحب بالأعضاء ونوه بالغرض الذي أقبلوا من أجله وهو البحث والمناقشة في شؤون ثقافية قائلا بأن التعاوني الثقافي بين دول الجامعة هو أهم ما يربط بينها، وأشار إلى الجهود الثقافية التي قامت بها الإدارة الثقافية بالجامعة. وتحدث عن الأمة العربية باعتبارها أنها أمة موحدة الثقافة تجمع بينها العروبة والإسلام اللذان كان لهما الفضل في عدم نشوء قوميات منفصلة.

وقد ختم سعادة عزام باشا كلمته باقتراح انتخاب معالي الدكتور طه حسين بك رئيساً للمؤتمر، وأيد هذا الاقتراح رئيساً وفدي سوريا ولبنان. وقد قوبل ذلك بعاصفة قوية من التصفيق كانت إيذاناً بانتخاب معاليه رئيساً للمؤتمر. فنهض معاليه وألقى كلمة ضافية بدأها بقوله لأعضاء المؤتمر: لا أرحب بكم لأنكم في وطنكم، ولكني أنا في حاجة إلى أن أهدي إليكم أصدق الشكر على تفضلكم باختيار مصر موطناً لمؤتمركم الثاني، وقد أتحتم لنا بهذا الاختيار فرصة أن يلقى بعضنا بعضاً ويتحدث بعضناً إلى بعض في أحب الشؤون إلى النفس وهي الشؤون الثقافية. ثم قال: أما بعد فإنكم لم تأتوا إلى هنا لنتهادى التحيات ولم نجتمع لنثني على أنفسنا، وإنما لننظر فيما قدمنا من شؤون الثقافة والتعليم، وإنه لقليل، والكثير ما بقي، إنكم تزورون مصر في هذا الوقت الذي تقف فيه مصر من التعليم موقفاً دقيقاً ونحن نحتاج إلى أن نسمع منكم كما أنكم في حاجة إلى أن تسمعوا منا، وأفاض معاليه في الحديث عن فتح أبواب التعليم في مصر على مصاريعها، ولما جاء ذكر مجانية التعليم قال: إننا لم نأت بالمجانية من أوربا كما يقول بعضهم، فالمجانية عربية قبل كل شيء،

ص: 44

فمدارسنا التي كانت تعلم التلاميذ في العصور الإسلامية الأولى وفي العصور الإسلامية أثناء القرون الوسطى وفي أوائل العصر الحديث كانت كلها تعلم الناس بغير أحر، وكانت الدولة العربية ترزق المعلمين دائماً والمتعلمين في أثر الأحيان، وما عرفنا بدعة بيع التعليم وشرائه إلا حين اتصلنا بأوربا أثناء القرن الماضي، والآن أخذت أوربا بالمجانية، ونعود نحن إلى المجانية، فلا يجب أن يقال إننا نستعيدها من أوربا، وإنما ينبغي أن يقال إننا نحيي السنة العربية ونعود بالمجانية إلى العهد الأول ونجعل المدارس كالمدارس التي لا تزال محتفظة بمجانيتها منذ ألف عام.

ثم انتقل معاليه بعد ذلك إلى شؤون الأدب والثقافة العامة، فقال: تعرفون أيها الزملاء، وأنتم قادة الثقافة والأدب في البلاد العربية أن لنا تراثاً يجب أن نحتفظ به وتراثاً لا ينبغي أن نكتفي بالاحتفاظ به دائماً، وإنما يجب أن نضيف إليه، وتعرفون أن علينا حقوقا أهملت في الأجيال الماضية وينبغي أن ينقطع هذا الإهمال، وأن أجيالا قصرت في ذات العرب والعروبة والثقافة وينبغي أن ينقطع هذا التقصير وترد إلى العرب حقوقها، وتعرفون أن العرب في العصور الإسلامية الأولى لم يقنعوا بما كان عندهم، وإن كان عندهم كثير، وإنما اتجهوا إلى الأمم المتحضرة التي سبقتهم إلى الحضارة وأخذوا خلاصة ما عندها وأضافوا إليه وكونوا الحضارة العربية الممتازة، ولا أقول ممتازة فخراً ولا استكباراً واستعلاء، وإنما أقول الحق الذي لا شك فيه، هذه الحضارة العربية التي حملت الثقافة قروناً ونقلت نور الثقافة من الشرق إلى الغرب وأتاحت لأوربا أن تكون كما هي الآن، هذه الحضارة قصر العرب في ذاتها وقتاً، وآن لهذا الوقت أن ينقضي، وآن أن نسترد مجدنا، ونأخذ من أوربا صفوة ما عندها، ونعطي العالم خلاصة ما عندنا، وأن نكون في العالم أمة قوية عزيزة بنفسها، وقد انقضى الوقت الذي كنا فيه نأخذ ولا نعطي، وآن الوقت الذي لا ينقطع أخذنا فيه عن غيرنا، ولكن يجب أن نضيف إلى ما نأخذ، ويكون غيرنا محتاجا إلينا كما أننا محتاجون إليه. يجب أن نقرر هذا ونتدبر ونتشاور في الوسائل التي تتيح لنا أن نسترد مكانتنا، وتتيح لأدبنا أن يكون أدباً عالمياً لا أدبا مقصوراً على الغرب، وتتيح لعلمائنا أن يكونوا علماء عالميين.

وبعد ذلك تعاقب رؤساء الوفود الرسميون، فألقى كل منهم كلمته، ثم فتح باب المناقشة في

ص: 45

جدول الأعمال، فانبرى عدد من الأعضاء في مقدمتهم الأستاذ محمد سعيد العريان وحملوا على الإدارة الثقافية وتصرفها في وضع موضوعات المؤتمر حملة شديدة، وقد رد عليهم الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية؛ وكان الوقت قد طال فأعلن معالي الرئيس انتهاء الجلسة على أن يستأنف الاجتماع غدا لمواصلة المناقشة في موضوعات المؤتمر. وأرجئ تفصيل ذلك إلى الأسبوع القادم.

عباس خضر

ص: 46

‌البريد الأدبي

المؤتمر الثقافي العربي الثاني

هذا المؤتمر الثاني الذي تدعو إليه الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، وتشترك فيه وفود الدول الرسمية التي تمثل وزارات المعارف العمومية العربة والجامعات الرسمية والأهلية، كما دعي إلى الاشتراك فيه لفيف من رجال التربية الممتازين، وأتيح الانتساب إليه للأساتذة والمدرسين والمدرسات في مختلف الأقطار العربية.

وقد بلغ عدد المشتركين في المؤتمر زهاء أربعمائة عضو من بينهم حوالي مائة مدرسة من مدرسات المدارس الثانوية والعالية في مختلف القطار العربية، وقد لوحظ أن الضغط كان شديداً من المشتركات في سوريا ولبنان، وهذا دليل واضح على تقدم الحركة الفكرية والثقافية بين نساء هذين القطرين مولولا القيود المفروضة على تحديد الأماكن الخاصة بإقامة الأعضاء لكانت الإدارة الثقافية قد سعت لتلبية تلك الطلبات الكثيرة من المشتغلات بالتربية والتعليم في هذين القطرين.

وكانت جامعة فاروق الأول بالإسكندرية صاحبة فضل في إعداد مكان انعقاد المؤتمر بمبنى كلية الآداب بالشاطبي وإعداد أماكن السكنى المجانية لمعظم المشتركين والمشتركات من الأقطار العربية.

ومدار البحث والمناقشة العامة في هذا المؤتمر موضوعان هامان من الموضوعات الهامة التي تشغل أذهان رجال التربية في مختلف أرجاء العالم وبخاصة في الأقطار العربية في الآونة الحاضرة، وسيشترك في بحث هذين الموضوعين بحثا تفصيلياً كافة أعضاء المؤتمر من رسميين وغير رسميين؛ بيد أن هناك مسألتين سيقتصر بحثهما والاهتمام بهما على الممثلين الحكوميين دون سواهم وهاتان المسألتين هما:

1 -

بيان الخطوات التي اتخذتها كل حكومة من الحكومات العربية في سبيل تنفيذ قرارات المؤتمر الثقافي العربي الأول.

2 -

دراسة التقارير التي وضعتها وزارات المعارف العربية عن الأحوال والاتجاهات الثقافية والتربوية السائدة في كل قطر من الأقطار العربية.

وللمؤتمر جانبه الثقافي العام فضلاً عن جانبه الفني الذي أشرنا إليه آنفاً؛ فهنالك محاضرات

ص: 47

عامة في شئون التعليم والتربية كلف بإلقائها أيام انعقاد المؤتمر لفيف من رجال التربية الممتازين. وقد حددت للمحاضرات العامة مواعيد تقع بعد الفراغ من أعمال اللجان التي سوف تستمر صباحا وبعد الظهر بغية الانتهاء إلى القرارات والتوصيات اللازمة.

وللمؤتمر كذلك جانبه الاجتماعي الذي من شأنه التخفيف من ضغط الجو العملي المتصل الحلقات فقد أعد برنامج للرحلات والمشاهدات والحفلات الشيقة.

ولاشك أن أهم ما نستخرجه من هذا المؤتمر هو أنه يتيح لعدد كبير من أبناء الأقطار العربية فرصة زيارة مصر والتعرف إلى معاهدها ومعالمها، كما يتح لها الاجتماع بإخوانهم المصريين في صعيد واحد، وفي ذلك خير فرصة لتبادل الآراء وتلاقي الأفكار وتمازج وجهات النظر، وهذا هو الكسب المحقق الذي يعود بالخير على الثقافة والتعليم في البلاد العربية.

الإدارة الثقافة

رشوة الشعوب!

تقول الأنباء الأخيرة أن جانباً كبيراً من الاعتمادات التي كانت مخصصة لمشروع ماريشال قد حول للأغراض العسكرية والحربية!. . .

ولا يخرج مشروع ماريشال هذا، الذي تغنوا به زمناً طويلاً عن كونه مشروع رشوة، يرمي إلى اجتذاب الشعوب، واكتساب عطفها، نظير تقديم مساعدات مالية، أو إمدادات من الغذاء والكساء. . . ومثلنا العامي يقول:(أطعم الفم تستح العين)!

ولقد جاء هذا النبأ الأخير، بتحويل اعتمادات المشروع للأغراض الحربية والعسكرية دليلا صادقا على صدق هذه النظرية إذ تحول مشروع ماريشال، بين عشية وضحاها، من مشروع قيل عنه أنه يهدف إلى مساعدة الدول المحتاجة، وإمدادها بما يعوزها مال، وغذاء، وكساء، إلى مشروع حربي وعسكري. . . تخصص اعتماداته للفتك. . والنسف. . والتدمير!. .

وأن تعجب فعجب قولهم إنهم إنما يعملون على توطيد دعائم السلم، وتجنب الشعوب ويلات الحرب وشرورها!. . .

ص: 48

إننا نبغض (الرشوة) في المعاملات بين الأفراد. . . فكيف يقر الساسة رشوة الشعوب التي لم تعد تهضم ما تحفل به موائدهم من ألوان. . . وأصناف!.

عيسى متولي

تعقيبات - 1 - حول بيت:

تعرض الأستاذ محمد سيد كيلاني في مقاله - حول البردة - بالعدد 892 من (الرسالة) الغراء لبيت البوصيري أورده على سبيل الاستدلال على أنه رحمه الله لم يصب بفالج كما زعمت بعض الروايات، وإنما أصيب بكسر في ساقه، والبيت هو:

ما حال من نع الركوب وطرفه

يشكو إليه رباطه محبوساً

وأبان أن في (كلمة (الطرف) تورية، فالطرف بمعنى مؤخر العين، والطرف بمعنى الساق وهو من أطراف الإنسان).

ولاشك أن التورية - على المعنى الذي قصد إليه الأستاذ لا تستقيم إلا إذا كان البوصيري قد مرض بمؤخر إحدى عينيه. كما مرض بإحدى ساقيه. . . إذ هناك فقط يمكن أن نصرف كلمة (الطرف) من معنييها المختلقين صرفا تاما مع ضمان استقامة التورية، وما دام لم يثبت شيء من ذلك، فالأوفق أن يؤخذ البيت على وجهه الوارد به، وأن تصرف الكلمة إلى المعنى الذي يهم الكاتب وهو (الساق).

ون الممكن أن يفسر البيت تفسيراً آخر مناسباً لو كانت كلمة (طرفه) قد رويت بكسر الطاء وسكون الفاء فإن معناها حينئذ يكون - الكريم من الخيل، كما جاء في معلقة امرئ القيس - على رواية الأصمعي - (ورحنا وراح الطرف ينفض رأسه)؛ ويكون المعنى أن البوصيري كان عاجزاً عن ركوب جواده - لعلته التي أم تمكنه من ذلك والتي يدل عليها قوله (منع الركوب) - بينما جواده الكريم يشكو إليه طول بقائه مقيداً حبيساً، لا يركب ولا يمتطي، ولكن البيت - بهذا المعنى - يفقد قوته الاستدلالية.

2 -

خبر الرؤيا

وذكر الأستاذ أيضاً قصة الرؤيا التي قيل أن البوصيري قد رآها وجاء منها (أنه لما وصل إلى قوله (فمبلغ العلم فيه أنه بشر) توقف فقال له النبي: قل يا إمام (!) فقال البوصيري

ص: 49

إني لم أوفق إلى المصراع الثاني (فقال النبي: قل يا إمام (!) وأنه خير خلق الله كلهم) فأدمج البوصيري هذا المصراع في قصيدته)، ولقد قال الكاتب رأيه متضمناً تكذيب الخبر، وإني أتفق معه فيما ذهب إليه، وأضيف أن هناك أخبار رؤى كثيرة من هذا الطراز منبثة في بطون كتب الأدب القديمة - وكلها لا تعتمد على حجة ولا تستند إلى برهان - وقد اختلقها الشعراء أحياناً ليسجلوا لأنفسهم فضلا على غيرهم عن طريقها، أو اختلقها الرواة ليمجدوا بها شاعرا بعينه، يزجون في أشنائها المديح - إن صراحة وإن ضمنا - على لسان الرسول الكريم، وإلى القارئ العزيز خبراً منها:

قال السيد الحميري: رأيت النبي (ص) في النوم وكأنه في حديقة سبخة فيها نخل طوال، وإلى جانبها أرض كأنها الكافور ليس فيها شيء. فقال: أتدري لمن هذا النخل؟ قلت لا يا رسول الله، قال: لامرئ القيس ابن حجر، فاقلعها واغرسها في هذه الأرض ففعلت، وأتيت ابن سيرين فقصصت رؤياي عليه، فقال أتقول الشعر؟ قلت: لا. قال: أما إنك ستقول شعراً مثل امرئ القيس؛ إلا أنك ستقوله في قوم بررة أطهار. قال: فما انصرفت إلا وأنا أقول الشعر (!).

ففي هذا الخبر نرى أن الحميري عرف كيف يميز نفسه على سائر الشعراء بشيئين:

أولهما: تنبؤ الرسول له بأنه سيقول شعراً.

ثانيهما: تفضيل شعره على شعر امرئ القيس لأنه سيقال في قوم بررة أطهار.!

ولا يخفي أيضاً ما كان يرمي إليه من الإيحاء إلى ممدوحيه بفضل أخلاقهم؛ وروعة سجاياهم، لا لأنه قرر ذلك في مديحه لهم فحسب. . . فهو شاعر قد يمجد الظالم؛ ويحسن القبيح ويبجل المستبد لقاء عطاء أو رجاء صلة. . . بل لأن الرسول قرر هذا ضمناً في الرؤيا.

ونخلص من هذا إلى مطالبة الكتاب بتوجيه عنايتهم إلى تلك الكتب القديمة والعمل على تحقيق ما فيها من نصوص ونفي ما لا يتفق والمنطق السديد، والعقل الراجح، وملابساته التي قيل فيها، فإن هذا أجدى على الأدب والمتأدبين من المقالات الجوفاء التي لا تحمل في طياتها دسما يشبع نهم قارئ عادي فضلا عن قارئ ممتاز.

أحمد قاسم أحمد

ص: 50

بيت للمتنبي

جاء في مقال الأستاذ الفاضل (محمد محمود زيتون) بعنوان (التربية الأدبية) في مجلة الرسالة الغراء العدد 892 بيت المتنبي الآتي:

لو تعقل الشجر التي قابلتها

مدت - محيية - إليك الأغصنا

وقد ذكر الأستاذ أن المتنبي قاله في مدح سيف الدولة. والمعروف أن هذا البيت لم يقله المتنبي في مدح سيف الدولة، لكنه قاله يمدح به (بدر بن عمار) في قصيدته التي منها:

أرج الطريق فما مررت بموضع

إلا أقام به الشذ مستوطنا

ولن تنقص هذه الملاحظة قيمة المقال الأدبي الممتع خصوصا إذا جعلنا في تقديرنا مبلغ الصلة التي كانت بين المتنبي وبين أمير (بني حمدان) والتي أنطقت لسان الذاعر بكثير من القصائد في مدح سيف الدولة الحمداني، فكثرة هذا المديح قد توحي بأن أكثر شعر المتنبي في المديح قد قاله في سيف الدولة، وجل من لا يسهو وتحية إعجاب منى للأخ (محمد محمود زيتون)

عبد الجواد سليمان

المدرس بمعلمات سوهاج

وفاة البارودي

جاء في العدد 893 في الصفحة 908 أن وفاة البارودي كانت في يوم الاثنين 12 ديسمبر سنة 1904م. وقد جاء في ظهر الورقة (و) من مقدمة الجزء الأول من ديوانه المطبوع على ذمة ورثته أن وفاته كانت ليلة الثلاثاء سادس شوال سنة 1322 أعني ليلة 13 ديسمبر سنة 1904. وأهل الرجل أدرى بضبط وفاته لذا أرجو التكرم بنشر هذه خدمة للعلم مع خالص الشكر.

عبد السلام النجار

كتاب الإسلام والنصرانية

ص: 51

للأستاذ الإمام محمد عبده والرد على هانوتو

ذكر الأستاذ محمود الشرقاوي في كلمته التي نشرها عن الأستاذ الإمام محمد عبده بجزء الرسالة الغراء رقم 891 وهو يبين مؤلفات هذا الإمام الكبير أن كتاب (الإسلام والنصرانية) هو (مجموعة مقالاته في الرد على هانوتو جمعت في كتاب) ولكن الحقيقة أن مقالات هذا الكتاب لم تكن رداً على هانوتو وإنما كانت رداً على الأستاذ فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة رحمه الله إذ كان هذا الكاتب قد قال - وهو يترجم ابن رشد ويبين فلسفته في مجلته (إن المسيحية أكثر تسامحاً مع العلم من الإسلام، وإن الإسلام أكثر اضطهاداً للعلم والفلسفة من النصرانية) فانبرى له الأستاذ الإمام وفند هذا الرأي في مقالات متعددة نشرت بمجلة المنار التي كان يصدرها العلامة السيد محمد رشيد رضا رحمه الله ثم جمعت بعد ذلك في كتاب طبع مراراً.

أما الرد على هانوتو فقد نشره الأستاذ الإمام في ست مقالات بجريدة المؤيد وكانت قد نشرت في عددين من أعدادها ترجمة مقالة هانوتو التي كان قد نشرها بجريدة الجورنال الباريسية - في الإسلام والمسألة الإسلامية - وقد أعيد نشر هذا الرد في الجزء الثاني من تاريخ الإسلام للإمام محمد عبده رحمه الله

هذه هي الحقيقة في أمر كتاب الإسلام والنصرانية - والرد على هانوتو نبينها للناس مع شكرنا للأستاذ محمود الشرقاوي على ما نشره عن أستاذنا الإمام محمد عبده في ذكراه الخامسة والأربعين.

(المنصورة)

محمود أبو رية

خطأ يقع فيه المترجمون

ترد كلمة سويا في الروايات المترجمة، أو القصص المترجم بكثرة. ويقصد بها المترجم عادة كلمة معاً كأن يقول المترجم:(وكان العشيقان قد آبا منذ حين إلى الفندق. ولا جرم أنهما تناولا سويا طعام العشاء يب هذه المؤانسة الخطرة المسكرة) وكلمة سويا بمعنى معالم

ص: 52

ترد في كتب اللغة؛ إنما الوارد هو كلمة سويا بمعنى تام الخلقة، ويشهد لذلك قوله تعالى في سورة مريم:(فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا) أي أرسلنا إليها الوحي فرأته في صورة بشر تام الخلقة.

وكتب اللغة بعد هذا المعنى: (رجل سوي الخلق: أي مستو. ولا تزيد وتقول في التساوي. أو التسوية: قسمت الشيء بين الشريكين بالسوية.

وحينئذ فالذي تراه اللغة في مثل هذا أن تكون كلمة معا هي التي يليق بها أن تحل محل (سويا) لا العكس في الترجمة لكلمة فهي التي تؤدي المعنى المراد: اللهم إلا إذا كان ثم في كتب اللغة ما لم نطلع عليه، وفوق كل ذي علم عليم.

محمد غنيم

ص: 53

‌القصص

بغير عنوان

للأديب الشاب محمد أبو المعاطي أبو النجا

أكان ذلك بسمة ساخرة من تلك البسمات التي ترتسم على شفتي القدر حين ينظر إلى أحلام الناس!؟

أم كان ذلك لفتة بارعة من تلك اللفتات التي يهديها الزمن إلى أولئك الذين يأملون تحقيق السعادة في أرض لم يكن نصيبها سوى الشقاء!

لست أدري يا صديقي. . . وسواء أكان هذا أم ذاك. . . فإن ذلك لن يغير من حوادث تلك القصة كما وقعت في دنيا الناس، ولن يغير من آثارها كما تركت في دنيا الشعور.

ستسمع قصتي يا صديقي وسمها أنت ما شئت من أسماء فإن المؤلف الأعظم حين وضعها في كتاب الحياة لم يحدد لها عنواناً خاصاً. . . وإن كان كتبها في تلك الصفحات التي أفردها لتحمل إلى الناس رسالة الدموع. . .

كنت وحدي. . . ولكنها لم تكن وحدها، كان بيدي مجلة أقلب أوراقها على مهل، وكانت معها فتاة تصغرها قليلا عرفت من اتفاق ثوبيهما في اللون واقتراب وجهيهما في السمات. . . أنهما أختان.

وكان اليوم من أيام (يونيو) الشديدة الحر التي يترقب الناس فيها نسمات الأصيل ليخرجوا إلى المتنزهات العامة. . .

وكنت في أحد هذه المتنزهات. . . أنقل خطاي فوق الأرض التي خضب الربيع ثراها بدمه الأخضر. . . وأنقل عينني بين الأزهار التي شعشع النسيم شذاها بردائه الفشيف، وكان يخيل إلى إذا ذاك أن هذه الأزهار وهاته الأعشاب إنما هي باقة حلوة صنعها الربيع قبل أن يموت ليضعها الناس على قبرة هذا الذي ترتفع فوقه أكوام من الهجير.

وهكذا يا صديقي كنت مرة مع الحديقة بناظري ومرة مع الخيال بفكري؛ ولك الآن أن تسأل كيف استطاعت تلك الفاتنة أن تخرجني عن كل أولئك. . . وأن تصرع في ميدان الإعجاب جمال الورود والأصيل والناس.

كانت جالسة على إحدى الأرائك، وكانت أختها إلى جوارها. هذا ما يقوله لك كل إنسان

ص: 54

قدر له إذ ذاك أن يراها؛ أما أنا فقد كان يخيل إلى أن هناك صفاً من الملائكة يحرس تلك الهاربة من الجنة!!

كانت تلبس (فستانا) أبيض. . . كأنما أهداه إليها الصباح وكانت تضع؛ على عينيها نظارة من نظارات الشمس وكانت أشبه ما تكون بالزوج الغيور الذي يحبس زوجته الفاتنة وراء جدران بيته. . وكانت كل أماني إذ ذاك تنحصر في شيء واحد هو أن يحدث أمر غير عادي يجعلها تنزع منظارها لتراه. . . ولكن - الأمر غير العادي لم يحدث - فبقيت نظراتي الوالهة تتلمس في رفق شعرها الأشقر الجميل كأنما تبحث فيه عن شمس غاربة!

وكان ثغرها الدقيق الحلو يؤكد ببسماته الساذجة الصافية أن ملاكا من ملائكة الفردوس يسكن قلب هذه الحسناء! بالله يا صديقي لا تضحك مني حين تعلم أنني بدأت أسر خلف مقعديها جيئة وذهابا وأنا أتظاهر بقراءة المجلة لا لشيء إلا لأسمع حديثها الجميل. . .

أتدرك يا صديقي فيم كان هذا الحديث؟ لم يكن عن الأزهار التي نتمايل نشواي في حانة الطبيعة، ولا عن الأطفال التي تتناغي فرحة في أرض البستان. . . إنما كان عن مسرحية لكاتب (نرويجي) اسمها (بيت الدمي) كنت قد قرأتها وأعجبت بما فيها من لمحات إنسانية مشرقة كان يدور حولها حديثها الجميل!

تصور يا صديقي أنني كدت أطير من الفرح حين سمعت ذلك الحديث. . . أنا الإنسان الذي عاش ضارباً بينه وبين المرأة نطاقا من الجفاء وخلف قلبه في مصير الأشواق ينشد تراتيل الحرمان!!

ذلك لأنه لم يكن يؤمن بوجودها تلك المرأة التي تحترم خفقاته حين يرقص في ساحة السعادة، وتقدس أناته حين يبكي في مأتم العاطفة!!

تلك المرأة التي تتحدث في شيء آخر عير الأزياء، وتعجب بشيء آخر غير المساحيق وتحرص على شيء آخر غير اللهو. . .!

آه يا صديقي لا أريد أن أطيل عليك فأنت أعرف الناس بقلبي وبأحلامه. يكفي أن تعلم أنني بدأت أفكر بسرعة كيف أتحدث إليها. . .

وكان الشيء الأول في هذا السبيل هو أن تنتقل تلك الأخت الصغرى من مكانها. . . أن تذهب إلى أي مكان آخر! ولكن كيف ذلك. . . وهنا يا صديقي تدخلت الظروف لتجيب

ص: 55

على هذا السؤال الذي كنت أخشى ألا أجيب عنه!!

كان ذلك حين حضر إلى الحديقة (حاو) من هؤلاء الذين يعرضون ألعابهم المسلية لقاء قروش زهيدة يبذلها لهم المتفرجون وارتفع صوته الرتيب المنتظم يعلن عن ألاعيبه!! واستخف صوت مزماره الطروب أعصاب الأخت الصغرى فانفلتت شأن الغزال لتتم الحلقة الملتفة حوله والمصنوعة من الناس!!

ولا أكتمك أنني اعترتني حيرة بالغة! لماذا لم تذهب مع أختها؟ أن الحلقة تضم أخلاطاً من الناس لا تقتصر على الصغار. ولا أكتمك أيضاً أنني ذهبت في تعليل ذلك إلى مذاهب شتى أحلاها جميعاً وأدناها إلى قلبي ذلك التعليل الذي ذهبت فيه إلى أنها آثرت البقاء لأن نظراتي الوالهة قد نالت منها وأثرت فيها!!

وبالرغم من أن الفرصة السانحة قد أقبلت، إلا أنني شعرت بشيء من التردد والخجل. ماذا أقول؟ وكيف أبدأ الحديث؟ أليس من الجائز أن يكون في حياتها إنسان آخر؟ واستحالت تلك الأسئلة إلى قيود ربطت قدمي فلا أتحرك. . . ولكن نظرة واحدة إلى الحاوي الذي أوشكت ألاعيبه أن تفرغ قطعت القيود وجعلتني أجلس إلى جوارها في جرأة لا زلت أحسد نفسي عليها، وقلت لها في صوت هادئ رقيق: هل لك أن تقطعي بعض الوقت في قراءة المجلة؟ وبعد لحظة. . . مدت يدها تجاهي في تردد رهيب. . .

واستطاعت تلك اليد التي أخطأت طريقها إلى المجلة، واستطاعت تلك الشفاه التي راحت ترتعد في كمد وحسرة، واستطاعت هاتان العينان اللتان راحتا تسدلان عليهما ستارا من الدموع (. . استطاع أولئك كله أن يهتف بحروف خرساء: إنها عمياء!

محمد أبو المعاطي أبو النجا

ص: 56