المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 896 - بتاريخ: 04 - 09 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٩٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 896

- بتاريخ: 04 - 09 - 1950

ص: -1

‌حاضر الأدب العربي

الكلمة التي ألقيت في المؤتمر الثقافي العربي الثاني

بالإسكندرية يوم 26 أغسطس سنة 1950

سيداتي، سادتي،

دعاني إلى الكلام في حاضر الأدب العربي أمران: أولهما أن الأدب العربي هو الجامعة الروحية الحق للعرب جميعاً؛ اتصل بها حبلهم حين تقطعت الأسباب، وانتظم عليها شملهم حين شتت الوحدة. ومزية هذه الجامعة إنها من وحي الله ومن صنع الطبيعة، فلا يوهي من عقدها تناقض رأي ورأي، ولا تعارض غاية وغاير. وفضيلة أعضائها أنهم كالأنبياء يبنون لتعمر الأرض، ويبذرون ليحصد العالم، ولا يؤثرون بجهدهم وطناً على وطن، ولا يخصون بخيرهم قوماً دون قوم.

لذلك كان من الخير أن يتحدث أعضاء هذه الجامعة بعضهم إلى بعض كلما واتتهم الفرصة لهذا الحديث.

أما الأمر الآخر فهو سؤال من الأسئلة التي عرضتها الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية للإجابة عنها في هذا المؤتمر، ونصه كما ورد في الصفحة الثالثة عشرة من البرنامج:

(ماذا يجب أن تعمله المدرسة للتغلب على النزعة الأدبية والكلامية المنتشرة في البلاد العربية، ولإشاعة روح التفكير العلمي بين شباب العرب) ولست أدري إلام يرمي هذا السؤال؟ أيرمي إلى قتل النزعة الأدبية في الشباب ليصبحوا جميعاً أصحاب علم ورجال عمل؟ وهل هناك تعارض بين الأدب والعلم فلا يجوز أن يكون للأديب من العلم ما يكسبه الضبط والدقة والوضوح، وأن يكون للعالم من الأدب ما يقيه المادية والثقل والجفاف؟ أم يرمي إلى أن الأدب كلام وأن العلم عمل، وشباب العرب وهم أحوج إلى النهوض المادي قد انصرفوا إلى الأدب عن العلم، ولهواً بالقول عن الفعل؟ إن كان ذلك ما يرمي إليه فإن الواقع يخالفه. ولعل في تهافت الطلاب على شعبتي العلوم والرياضة ما يدعو إلى التفكير في مستقبل كليات الآداب والحقوق.

على أن الكلام إذا كان ألفاظاً فارغة كان غثاء وثرثرة، فإذا كانت ألفاظه حافلة بما تمتع أو

ص: 1

يقنع أو يفيد، كان إنتاجه عملاً مثمراً لا يقل خطراً عن صنع آلة أو اختراع قنبلة أو كشف دواء. ورجال الأدب الخليقون بهذه الإضافة أقل عدداً في كل أمة من رجال العمل والمال والسياسة، ووظيفتهم وهي التفكير والتعبير أقوى أثراً في رقي الأمم من وظائف أولئك جميعاً.

ومهما يكن من مرمى هذا السؤال فإنه هو والأمر الأول قد حرك في نفسي الكلام في حاضر الأدب العربي عسى أن يكون له من عناية المؤتمر نصيب أكبر، ومن رعاية رئيسه الأديب الوزير حظ أوفى

سيداتي، سادتي، حاضر الأدب العربي لا يطمئننا كثيراً على مستقبله. حظه من المنهج الحديث قليل. وهذه القلة نفسها مئوفة بسوء الطريقة في تعليمه، وقلة الرغبة في تعلمه؛ فلا المعلم على الجملة صادق الجهاد فيما يعطي، ولا المتعلم على العموم حسن الاستعداد لما يأخذ، والأثر المحتوم لهذا الحظ المنكود في كمه وفي كيفه، ضعف الملكة فيمن يكتبون، وفساد الذوق فيمن يقرئون، وإذا ابتليت أمة بضعف الملكة فلا تحسن أن تعبر، وبفساد الذوق فلا تعرف كيف تقدر، أصبحت لغتها بينها أشبه بالرموز اللفظية البدائية، لا تشعرها بجمال، ولا تحفزها لكمال، ولا تربطها بماض، ولا تصلها بمستقبل.

كانت علوم الأدب فيما مضى تدرس في الأزهر وفي دار العلوم وفي مدرسة القضاء وفي مدرسة المعلمين العليا وفي أشباهها من معاهد لبنان وسورية والعراق دراسة عميقة تمكن الطالب المجتهد المستعد من فهم ما يقرأ، وفقه ما يعلم، وتعليل ما ينقد، وتحليل ما يذوق؛ فإذا اتصل النظر بالعمل، واقتران الحكم بالتطبيق، وصادف ذلك استعداداً في المتعلم، نبغ الكاتب الذي يكتب عن علم، والشاعر الذي ينظم عن فن، والناقد الذي يحكم عن تصور. أما إذا قوى الاجتهاد وضعف الاستعداد ظهر الأديب العالم الذي يهي الوسائل ويقرب الموارد ويوجه المواهب ويسدد الخطى. ومن هاتين الفئتين تستمد الحركة الأدبية عناصرها الحيوية فتقوى لتزدهر، وتنمو لتنتشر، وتسمو لتخلد وكان من خريجي هذا المنهج القديم في التعليم، أولئك الأدباء الأصلاء الذين حفظوا تراث اللغة، وجددوا شباب الأدب، وأسسوا هذه النهضة الأدبية الحديثة. ولا يزال من هذه الطبقة الكريمة فئة قليلة في أقطار العروبة تستبطن لغتها وتتعمق أدبها وتعرف لماذا تكتب الجملة على وضع دون

ص: 2

آخر. فإذا ما خلت أمكنتهم من المجتمع بعد أجل طويل أو قصير، فهل يخلف من بعدهم خاف يحملون أمانة اللغة ويبلغون رسالة الأدب؟ ليس أمام الراصد الأدبي من الظواهر الواعدة ما يحمله على أن يجيب عن هذا السؤال بنعم. كل شيء يبعث على التشاؤم: منهج تطبيقي يكاد يخلو من القواعد، كما كان المنهج السابق نظرياً يكاد يخلو من التطبيق. وتعليم سطحي مقتضب لا هدف له إلا اجتياز الامتحان بأية وسيلة؛ فالمطولات تختصر، والمختصرات تختزل، فلا يبقى بعد ذلك في ذاكرة الطالب إلا رموز على معان عائمة غائمة لا هي مستقرة ولا هي واضحة. وزهادة في الجدي النافع من ثقافة اللسان والقلم تقعد بالنشء عن تعيق الأصول وتقصى الفروع، وتقنعهم بالقدر الذي ينقلهم من سنة إلى سنة، أو من شهادة إلى شهادة. فإذا ما تخرجوا عادوا كما بدأهم الله أميين لا يقرئون إذا قرءوا إلا السهل، ولا يطلبون هذا السهل إلا في قصة عامية تخدر الشعور، أو في مجلة فكاهية تنبه الشهوة، حتى نشأ من إفراطهم في هذا الطلب إفراط الكتاب الخفاف في عرض الأدب اللذيذ الذي لا ينفع، أو الأدب الماجن الذي لا يرفع. ذلكم إلى طغيان الأدب الأوربي بمذاهبه ونزعاته وترهاته على عقول الناشئين الذين ثقفوا هذه الثقافة الأدبية الهشة، ففتنهم عن أدبهم، وصرفهم عن تاريخهم، وزين في قلوبهم أن الآداب الغربية من لوازم المدنية الحديثة، فكما تركنا في الأكل اليد إلى الشوكة والسكين، وفي اللباس الجبة والقفطان إلى الجاكتة والبنطلون، ينبغي أن نترك في الكلام اللغة العربية وأدبها إلى اللغة الأوربية وأدبها ليقال إننا متمدنون تقدميون نحفظ، هوجو ولا نحفظ المتنبي، وندرس فلتير ولا ندرس الجاحظ، ونقرأ لامرتين ولا نقرأ البديع! ومن هنا نشأت هذه التبعية المعيبة التي فرضت على أدبنا لأدب الغرب؛ فأساليب الشباب اليوم هي أساليب الكتابة في الغرب، ومذاهب الأدب اليوم هي مذاهب الأدب في الغرب، حتى الرمزية بنت الأفق الغائم والنفس المعقدة واللسان والمغمغم، يريدون أن تتبناها العربية بنت الصحراء المكشوفة والشمس المشرقة والطبع الصريح! وحتى الوجودية وليدة الخلق المنحل والذوق المنحرف والغريزة الحرة، يحاولون أن تتقبلها العربية لغة الرسالة الإلهية التي كرمت الإنسان وفصلته عن سائر الحيوان بحدود من الدين والخلق لا يتعداها وهو عاقل، ولا يتحداها وهو مؤمن.

ليس الأمر في الأدب كالأمر في العلم: الأدب للنفس والعلم للناس. الأدب مواطن والعلم لا

ص: 3

وطن له. الأدب روح في الجسم ودم في العروق يكون شخصية الفرد فيحيا مستقلاً بنفسه، ويبرز شخصية الشعب فيحيا متميزاً بأفراده الأدب جنس ولغة وذوق وبيئة وعقلية وعقيدة وتاريخ وتقاليد، والعلم شيء غير أولئك كله. فإذا جاز طبعا أن نأخذ عن غيرنا ما يكمل نقصنا في العلم، فلا يجوز قطعاً أن نرجع إلى هذا الغير فيما يمثل نفسنا من الأدب.

إن من أشد البلايا على الأدب الحاضر بليتين: العامية في اللغة والعلمية في الأسلوب. أما العامية في اللغة فلو كان الغرض منها إمداد الفصحى بما تزخر به لغة العامة من مصطلحات الحضارة وألفاظ الحياة العامة لقلنا نعم ونعام عين، ولكن الغرض الذي ترمي إليه الثقافة الضحلة والدراسة السهلة هي أن يكتب الكاتب كما يشاء، لا يتقيد بقاعدة من نحو، ولا قياس من صرف، ولا نظام من بلاغة. ولم يعرف قبل اليوم في تاريخ الآداب القديمة والحديثة من يعد في لغته كاتباً أو شاعراً وهو لا يعرف من وقواعدها الأساسية ما يقيم لسانه وقلمه. وإذا كنتم تقرءون الصحف والكتب ولا تقعون على الخطأ الذي يفضح المستور ويكشف الغش، فالفضل لأولئك الجنود المجهولين الذين يرابطون ليل نهار في دور النشر ويسمونهم المصححين، فإنهم يمرون بأقلامهم الحمر على المعوج فيستقيم، وعلى المعجم فيعرب، وعلى الركيك فيقوى.

وللعامية أنصار من بعض الكبراء الذين تعملوا في قصورهم على المربيات وهؤلاء لهم نفوذ معوق، ومن أشباه المعلمين الذين يتولون تعليم العربية في مدراس الأجانب وهؤلاء لهم توجيه ضار. حدثتني معلمة فاضلة أن أحد الأمراء رغب إليها في أن تنظر في تعليم ولديه، وفي المنهج الذي يدرسان عليه، ثم تكتب له تقريرا بما ترى. فكان مما لاحظته المعلمة أن الولدين يتكلمان العربية باللهجة التركية ولا يعرفان من قواعدها الضرورية شيئاً. فلما كلمته في ذلك أبتسم وقال لها ما نصه:(لا، مش عاوز كلام أزهر ولا كلام أولاد بلد). وحدثني معلم فاضل عين مشرفاً على امتحان النقل في مدرسة أجنبية، فلما أخذ يدقق في أجوبة التلاميذ قال له المفتش وهو رجل عربي من رجال الدين المسيحي:(حسبك يا أستاذ! إن تلاميذنا يتعلمون العربية ليكلموا بها الخدم)!

وأما العلمية في الأسلوب فلو كان الغرض منها اقتباس الروح العلمي في تحديد الفكرة وتصحيح القياس وتدقيق العبارة ونبذ الفضول وتوخي الفائدة لقلنا نعم ونعام عين؛ ولكنهم

ص: 4

يقصدون بالعلمية بخس القيمة الجمالية للأسلوب، وخفض المستوى الرفيع للبلاغة فيكون الكلام جارياً على نهج العلماء في تأدية المعنى المراد في اللفظ السهل، أو على سنن التجار في ضغط المعنى المحدد في اللفظ المختزل، ولا عليهم بعد ذلك من الروح الذي يبعث الحياة في المعاني فتؤثر، ولا من الفن الذي يلقي الألوان على الصور فتمتع، ولا من الشعور الذي يشيع الهمس في الجمل فتوحي

إن الأسلوب العلمي أسلوب من أساليب التعبير لا هو كلها ولا هو خيرها؛ وإنما هو أسلوب تقتضيه حال كما تقتضي غيره أحوال؛ فالسعي لتغليبه على غيره من الأساليب مخالفة للطبيعة ومجافاة للطباع. والمعروف في تاريخ الآداب أن المذاهب الأدبية والأساليب الفنية هي التي تتنافس في الشيوع وتتفارس على البقاء؛ أما الأسلوب العلمي فله مجال آخر ورجال أخر: مجاله العلوم ورجاله العلماء. والعلوم والعلماء يتخذون من اللغة أداة ضرورية للفهم والإفهام، لا وسيلة كمالية للجمال والالهام؛ فأساليبهم في فن الكلام أشبه بالصور الجغرافية والخطوط البيانية في فن الرسم: بقصد بها البيان لا الزخرف، ويراد منها الحق لا الجمال. فإذا صح أن نقول للرسامين اقتلوا في أنفسكم ملكة التصوير الجميل لتصبح رسومكم كلها جغرافية أو هندسية، صح بالقياس أن نقول للكتاب اقتلوا في أنفسكم ملكة التعبير الجميل لتصبح أساليبكم كلها علمية أو فلسفية.

سيداتي، سادتي. هذه على الإجمال الخطوط البارزة في صورة الأدب العربي الحاضر، منها خطوط بيض تشرق عليها أشعة من أقلام الصفوة الباقية من رجال المدرسة القديمة والتابعين لهم بإحسان من الشباب المعتدل؛ ومنها خطوط سود تخفق عليها ظلال من المستقبل الغامض يساعد على مدها تساهل المدرسة الحديثة والتابعين لها من الشباب المتطرف. فإذا تركنا الأمور تجري كما تجري انتهت بنا إلى تغلب العامية، لأن أساليبها غالبة على السمع، وقواعدها جارية مع الطبع، فلا يحتاج تحصيلها إلى درس، ولا النبوغ فيها إلى ملكة. وتغلب الأساليب العامية معناه فصل الأدب عن الدين، وقطع الحاضر عن الماضي، وتوهين الصلات بين العرب. وفي اعتقادي أن أمر العربية وأدبها لا يصلح إلا بما صلح به أوله: فقه اللغة جد الفقه، وفهم قواعدها أشد الفهم، وحفظ آدابها كل الحفظ. وذلك يستلزم الجهد والجد في إعداد المعلم، والعلم والخبرة في وضع المنهج، وتوفير الزمن

ص: 5

الأسبوعي لاستقصاء الدرس، وتنظيم الامتحان العام على النحو الذي يحرِّج ولا يخرِّج

وما أظنني أعدو الصواب إذا قلت إن الثقافة العامة للشاب إنما توزن بالقدر الذي يحصله من ثقافة لفته. فإذا استطاع بعد المدرسة أن يقرأ فيفهم، ويكتب فيحسن، استطاع أن يجد السبيل إلى كل علم والدليل إلى كل غاية. والمثقفون متى تركوا مقاعد الحياة المدرسية إلى مواقف الحياة العلمية، تبخر من رءوسهم أكثر ما تعلموه، فلا يكاد يبقى من ثقافتهم إلا ما حذقوه من اللغات وما شدوه من الآداب ذلك إذا كانت ثقافتهم الأدبية ثابتة الأصول نامية الفروع، فإذا كانت كغيرها من الثقافات الأخرى سطحية رخوة أني عليها النسيان فيصبحون أميين في المخطوط بعد أن كانوا أميين في الخط

أمامكم الساسة والقادة والزعماء والعلماء والمصلحون في كل أمة، هل تغني عنهم علومهم وعقولهم عند الناس شيئاً إذا لم يملكوا ناصية البيان فيقنعوا إذا كتبوا ويؤثروا إذا خطبوا؟ كلا يا سادة! إن العالم من غير أدب معمل ساكن. وإن الزعيم من غير بيان تمثال صامت. وإن المصلح من غير بلاغ مصباح مطفأ.

سيداتي، سادتي. لا بأس في أن نيسر النحو والصرف والبلاغة على الطلاب؛ ولكن البأس كله في المدى الذي بلغه هذا التيسير. لا بأس في أن نحذف الغث من التقديرات والتعليلات التي فلسف بها النحاة النحو، وننبذ الأوجه الإعرابية التي بقيت في اللغة أثراً من اختلاف اللهجات في الجاهلية، فبلبلت الألسن، وهوشت القواعد، وجعلت كل صواب خطأ وكل خطأ صوابا؛ ولكن البأس كله في أن نجرد علوم العربية من خصائص القوة والخصوبة والبراعة لتصبح أشبه بالهيكل العظمي، فيه الخفة والبساطة والشكل، وليس فيه العضل والعصب والروح.

إن ما يبقى من هذه العلوم يعد النقصان، وما يبقى من هذا المنقوص بعد النسيان، لا تحيى به لغة ولا يبقى عليه أدب. وإن استطاع يوما أن يجيز امتحاناً أو ينيل شهادة، فلن يستطيع أبداً أن يخرج أمثال من خرجهم الأزهر، كمحمد عبده وسعد زغلول وطه حسين والمنفلوطي والبشري، ولا أمثال من خرجتهم دار العلوم كجاويش والمهدي والخضري والسكندري والجارم، ولا أمثال من خرجتهم مدرسة القضاء كأحمد أمين وعبد الوهاب عزام والخولي، ولا أمثال من خرجتهم مدرسة المعلمين العليا كالمازني وشكري وأحمد

ص: 6

زكي وفريد أبو حديد، ولا أمثال من خرجتهم كتب الأزهر كالعقاد والرافعي وشوقي وحافظ في مصر، كاليستانيين واليازجيين والشدياق ومطران والخوري في لبنان، والمغربي وجبري والطنطاوي والأفغاني في سورية، وكالرصافي والزهاوي وكاشف الغطاء والراوي والانري في العراق، وكالنشاشبي والسكاكيني وغيرهما في فلسطين.

هذه يا سادتي مخاوف ألقاها في روعي ما أرى من ضيعة الأدب الحاضر بين تسامح القائمين عليه وزهادة الناشئين فيه، والأمل في عميد الأدب القائم عليه الآن في مصر، وفيكم يا حماة العربية ودعاة العروبة في كل قطر، ألا يتحقق من هذه المخاوف شيء. ومناط هذا الأمل أنكم تؤمنون جميعاً بأن العربية هي عماد ثقافتنا، ورباط جماعتنا، وبأن أدبها هو التراث الروحي المشترك الذي يثور في دمائنا لننهض، ويصرخ في آذاننا لنتحد، ويشتد في حدائنا لنلحق.

إن الأدباء في كل أمة هم الذين يحملون شعلة الفن والفكر وينقلونها بالتتابع، يسلمها السالف للخالف فيغذيها وينفخ فيها لتظل في طريق الأبد باقية نامية هادية. وأدباؤنا الشيوخ وهم خريجوا الماضي قد تسلموا شعلة الفكر العربي في أواخر القرن التاسع عشر من أدباء لم تهيئهم ثقافتهم ولا حضارتهم ليمدوها بوقود من عصارة الذهن ولا بقبس من نور الوحي، فكادت تنطفي؛ ولكن الله قد أتاح لأدبائنا الذاهبين من مواتاة الملكات وتهيئوا الوسائل ومعاونة الظروف واستكمال الأداة ما مكنهم من إذكاء هذه الشعلة، فأوقدوها بالزيت والكهرباء، وجلوا نورها السماوي في بلور كالكوكب الدري، فتألق سناها وتنشر هداها. وهاهم أولاء يكادون يسلمونها لشباب الغد خريجي هذا العصر، فليت شعري ماذا تصنع بها الأحداث، وماذا يخبئ لها القدر؟

أنا بالرغم مما أتوجس من المخاوف متفائل، لأن الله سبحانه الذي يقول:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) قد ضمن للعرب بقاء البيان ببقاء القرآن. وفي هذه القلة البارة من أدباء الشباب في أقطار العروبة نرجو أن يحقق الله وعده، وان الله لهو خير الصادقين.

أحمد حسن الزيات

ص: 7

‌التشبيه في القرآن

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 4 -

أول ما يسترعي النظر من خصائص التشبيه في القرآن أنه يستمد عناصره من الطبيعة، وذلك هو سر خلوده، فهو باق ما بقيت هذه الطبيعة، وسر عمومه للناس جميعاً، يؤثر فهم لأنهم يدركون عناصر، ويرونها قريبة منهم وبين أيديهم، فلا تجد في القرآن تشبهاً مصنوعاً يدرك جماله فرد دون آخر، ويتأثر به إنسان دون إنسان، فليس فيه هذه التشبيهات المحلية الضيقة مثل تشبيه أبن المعتز:

كأن آذريونها

والشمس فيه كالية

مداهن من ذهب

فيها بقايا غالية

مما لا يستطيع أن يفهمه على وجه، ويعرف سر حسنه، إلا من كان يعيش في مثل حياة أبن المعتز، وله من أدوات الترف مثل أدواته.

تشبيهات القرآن تستمد عناصرها من الطبيعة. أنظر إليه يجد في السراب وهو ظاهرة طبيعية يراها الناس جميعاً، فيغرهم مرآها، ويمضون إلى السراب يظنونه ماء، فيسعون إليه، يريدون أن يطفئوا حرارة ظمئهم، ولكنهم لا يلبثون أن تملأ الخيبة قلوبهم، حينما يصلون إليه بعد جهد جهيد، فلا يجدون شيئاً مما كانوا يؤملون. أنه يجد في هذا السراب صورة قوية توضح أعمال الكفرة، تظن مجدية نافعة، وما هي بشيء، فيقول: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.

ويجد في الحجارة تنبو على الجس ولا تلين، ويشعر عندها المرء بالنبو والجسوة، يجد فيها المثال الملموس لقسوة القلوب، وبعدها عن أن تلين لجلال الحق، وقوة منطق الصدق، فيقول:(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو اشد قسوة) أولا نرى أن القسوة عندما تخطر بالذهن، يخطر إلى جوارها الحجارة الجاسية القاسية؟

ويجد في هذا الذي يعالج سكرات الموت، فتدور عينه حول عواده في نظرات شاردة تائهة، صورة تخطر بالذهن لدى رؤية هؤلاء الخائفين الفزعين من المضي إلى القتال وأخذهم بنصيب من أعباء الجهاد، فيقول: (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم: هلم إلينا،

ص: 8

ولا يأتون البأس إلا قليلاً، أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت).

ويحد في الزرع وقد نبت ضئيلا ضعيفاً ثم لا يلبث ساقه أن يقوى، بما ينبت حوله من البراعم، فيشتد بها ساعده، ويغلط، حتى يصبح بهجة الزارع وموضع إعجابه، يجد في ذلك صورة شديدة المجاورة لصورة أصحاب محمد، فقد بدءوا قلة ضعافاً ثم أخذوا في الكثرة والنماء، حتى اشتد ساعدهم، وقوى عضدهم، وصاروا قوة تملأ قلب محمد بهجة، وقلب الكفار حقدا وغيظاً، فقال:(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم،. . . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) ويجد في أعجاز النخل المنقعر المقتلع عن مغرسه، وفي الهشيم الضعيف الذواي، صورة قريبة من صور هؤلاء الصرعى، قد أرسلت عليهم ريح صرصر تنزعهم عن أماكنهم فألقوا على الأرض مصرعين هنا وهناك، فيقول:(إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، تنزع الناس، كأنهم أعجاز نخل منقعر) ويقول: (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة، فكانوا كهشم المحتظر).

فأنت في هذا تراه يتخذ الطبيعة ميداناً يقتبس منها صور تشبيهاته، من نباتها وحيوانها وجمادها، فما اتخذ مشبها به من نبات الأرض العرجون، وأعجاز النخل، والعصف المأكول، والشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، والحبة تنبت سبع سنابل، وهشيم المحتضر، والزرع الذي أخرج شطأه، ومما اتخذ مشبها به من حيوانها الإنسان في أحوال مختلفة والعنكبوت والحمار، والكلب، والفراش، والجراد، والجمال، والأنعام. ومما اتخذ مشبها به من جمادها العهن المنفوش، والصيب، والجبال، والحجارة، والرماد، والياقوت، والمرجان، والخشب. ومن ذلك ترى أن القرآن لا يعني بنفاسة المشبه به، وإنما يعني العناية كلها باقتراب الصورتين في النفس، وشدة وضوحها وتأثيرها.

هذا ولا يعكر على ما ذكرناه من استمداد القرآن عناصر التشبيه من الطبيعة ما جاء فيه من تشبيه نور الله بمبصاح وصفه بأنه في زجاجة كأنها كوكب دري، لأن هذا المصباح قد تغير وتحول؛ فإن المراد تشبيه نور الله بالمصباح القوي، والمصباح باق ما بقي الإنسان في حاجة إلى نور يبدد به ظلام الليل.

ص: 9

ومن خصائص التشبيه القرآني، أنه ليس عنصراً إضافياً في الجملة، ولكنه جزء أساسي لا يتم المعنى بدونه، وإذا سقط من الجملة انهار المعنى من أساسه، فعمله في الجملة أنه يعطي الفكرة في صورة واضحة مؤثرة، فهو لا يمضي إلى التشبيه كأنما هو عمل مقصود لذاته، ولكن التشبيه يأتي ضرورة في الجملة، يتطلبه المعنى ليصبح واضحاً قويا، وتأمل قوله تعالي:(صم بكم عمي فهم لا يرجعون)، تجد فكرة عدم سماعهم الحق وأنهم لا ينطقون به، ولا ينظرون إلى الأدلة التي تهدي إليه، إنما نقلها إليك التشبيه في صورة قوية مؤثرة، كما تدرك شدة الفزع والرهبة التي ألمت بهؤلاء الذين دعوا إلى الجهاد، فلم يدفعهم إيمانهم إليه في رضا وتسليم، بل ملأ الخوف نفوسهم من أن يكون الموت مصيرهم، تدرك ذلك من قوله سبحانه (يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون). وتفهم اضطراب المرأة وقلقها، وعدم استقرارها على حال، حتى لتصبح حياتها مليئة بالتعب والعناء - من قوله سبحانه:(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل، فتذروها كالمعلقة). وتفهم مدى حب المشركين لآلهتهم من قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله). وهكذا تجد للتشبيه مكانه في نقل الفكرة وتصويرها، وقل أن يأتي التشبيه في القرآن بعد أن تتضح الفكرة نوع وضوح كما في قوله تعالى:(وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) وإذا أنت تدبرت أسلوب الآية الكريمة وجدت هذا التعبير أقوى من أن يقال: وإذ صار الجبل كأنه ظلة لما في كلمة نتق من تصوير أن انتزع الجبل من الأرض تصويراً يوحي إلى النفس بالرهبة والفزع، ولما في كلمة فوقهم من زيادة هذا التصوير المفزع وتأكيده في النفس، وذلك كله يمهد للتشبيه خير تمهيد، حتى إذا جاء مكن للصورة في النفس، ووطد من أركانها. ومع ذلك ليس التشبيه في الآية عملاً إضافياً بل فيه إتمام المعنى وإكماله، فهو يوحي بالإحاطة بهم، وشمولهم، والقرب منهم قرب الظلة من المستظل بها، وفي ذلك ما يوحي بخوف سقوطه عليهم.

ومن خصائص التشبيه القرآني دقته، فهو يصف ويقيد حتى تصبح الصورة دقيقة واضحة أخاذة، وخذ مثلاً لذلك قوله تعالى:(مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) فقد

ص: 10

يتراءى أنه يكفي في التشبيه أن يقال: مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل، ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقاً والتحاماً حين يقرن بين هؤلاء وقد حملوا التوراة، فلم ينتفعوا بما فيها وبين الحمار يحمل أسفار العلم ولا يدري مما ضمته شيئاً، فتمام الصورتين يأتي من هذا القيد الذي جعل الصلة بينهما قوية وثيقة.

وقوله تعالى: (فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) فربما بدا أنه يكفي في تصوير إعراضهم بأنهم كالحمير، ولكنه في دقته لا يكتفي بذلك، فهو يريد أن يصور نفرتهم من الدعوة، وإسراعهم في إبعاد أنفسهم عنها، إسراعاً يمضون فيه على غير هدى، فوصف الحمر بأنها مستنفرة تحمل نفسها على الهرب وتحثها عليه يزيد في هربها وفرارها أسد هصور يجري خلفها، فهي تتفرق في كل مكان، وتجري غير مهتدية في جريها ، أو لا ترى في صورة هذه الحمر وهي تجد في هربها لا تلوي على شيء تبغي الفرار من أسد يجري وراءها، ما ينقل إليك صورة هؤلاء القوم معرضين عن التذكرة فارين أمام الدعوة لا يلوون على شيء، سائرين على غير هدى، ثم ألا تبعث فيك هذه الصورة الهزء بهم والسخرية؟.

ومن ذلك وصفه الخشب بأنها مسندة في قوله تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة) فهي ليست خشباً قائمة في أشجارها لما قد يكون لها من جمال في ذلك الوضع، وليست موضوعة في جدار، لأنها حينئذ تؤدي عملاً، وتشعر بمدى فائدتها، وليست متخذاً منها أبواب ونوافذ لما فيها من الحسن والزخرف والجمال، ولكنها خشب مسندة قد خلت من الجمال، وتوحي بالغفلة والاستسلام والبلاهة.

ولم يكتف في تشبيه الجبال يوم القيامة بالعهن، بل وصفه بالمنفوش إذ قال:(وتكون الجبال كالعهن المنفوش)، للدقة في تصوير هشاشة الجبال، كما لم يكتف في تشبيه الناس يخرجون يوم القيامة بأنهم كالجراد بل وصفه بالمنتشر، فقال:(يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر)، حتى يكون دقيقاً في تصوير هذه الجموع الحاشدة خارجة من أجداثها منتشرة في كل مكان تملأ الأفق، ولا يتم هذا التصوير إلا بهذا الوصف الكاشف.

ومن خصائص التشبيه القرآني المقدرة الفائقة في اختياره ألفاظه الدقيقة المصورة الموحية، تجد ذلك في كل تشبيه قرآني، وحسبي أن أشير هنا إلى بعض أمثلة هذا الاختيار.

ص: 11

نجد القرآن قد شبه بالجبال في موضعين فقال: (وهي تجري بهم في موج كالجبال)، وقال:(ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام) ولكنك تراه قد آثر كلمة الجبال عند الموج لما أنها توحي بالضخامة والجلال معاً، أما عند وصف السفن فقد آثر كلمة الأعلام جمع علم بمعنى جبل؛ وسر إيثارها هو أن الكلمة المشتركة بين عدة معان تتداعى هذه المعاني عند ذكر هذه الكلمة، ولما كان من معاني العلم، الراية التي تستخدم للزينة والتجميل، كان ذكر الأعلام محضراً إلى النفس هذا المعنى، إلى جانب إحضارها صورة الجبال، وكان إثارة هذا الخاطر ملحوظاً عند ذكر السفن الجارية فوق البحر، تزين سطحه، فكأنما أريد الإشارة إلى جلالها وجمالها معاً، وفي كلمة الأعلام وفاء بتأدية هذا المعنى أدق وفاء. وشبه القرآن الموج في موضعين، فقال:(وهي تجري بهم في موج كالجبال) وقال: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) وسر هذا التنويع أن الهدف في الآية يرمي إلى تصوير الموج عالياً ضخماً مما تستطيع كلمة الجبال أن توحي به إلى النفس، أما الآية الثانية فتصف قوماً يذكرون الله عند الشدة وينسونه لدى الرخاء، ويصف موقفاً من مواقفهم كانوا فيه خائفين مرتاعين، يركبون سفينة تتقاذفهم الأمواج، ألا ترى أن الموج يكون أشد إرهاباً وأقوى تخويفاً، إذا هو ارتفع حتى ظلل الرءوس، هنالك يملأ الخوف القلوب، وتذهل الرهبة النفوس، وتبلغ القلوب الحناجر، وفي تلك اللحظة يدعون الله مخلصين له الدين، فلما كان المقام مقام رهبة وخوف، كان وصف الموج بأنه كالظلل أدق في تصوير هذا المقام وأصدق. وعلى طريقة إيثار كلمة الأعلام على الجبال التي تحدثنا عنها آثر كلمة القصر على الشجر الضخم، لأن الاشتراك في هذه الكلمة بين هذا المعنى، ومعنى البيت الضخم يثير المعنيين في النفس معا فتزيد الفكرة عن ضخامة الشراء رسوخاً في النفس. وآثر القرآن كلمة (بنيان) في قوله سبحانه:(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) لما تثيره في النفس من معنى الالتحام والاتصال والاجتماع القوي وغير ذلك من معان ترتبط بما ذكرناه، مما لا يثار في النفس عند كلمة حائط أو جدار مثلاً.

واختار القرآن كلمة (لباس)، في قوله تعالى:(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن)، لما توحي به تلك الكلمة من شدة الاحتياج كاحتياج المرء للباس، يكون مصدر راحة وعنوان زينة معاً.

ص: 12

ومن مميزات التشبيه القرآني أيضاً أن المشبه قد يكون واحداً ويشبه بأمرين أو أكثر، لمحا صلة تربط بين هذا الأمر وما يشبهه، تثبيتاً للفكرة في النفس، أو لمحا لها من عدة زوايا، ومن ذلك مثلاً تصوير حيرة المنافقين واضطراب أمرهم، فإن هذه الحيرة يشتد تصورها لدى النفس إذا هي استحضرت صورة هذا الساري قد أوقد ناراً تضئ طريقة فعرف أين يمشي ثم لم يلبث أن ذهب الضوء، وشمل المكان ظلام دامس، لا يدري السائر فيه أين يضع قدمه، ولا كيف يأخذ سبيله، فهو يتخبط ولا يمشي خطوة حتى يرتد خطوات. أو إذا استحضرت صورة هذا السائر تحت صيب من المطر قد صحبه ظلمات ورعد وبرق، أما الرعد فمتناه في الشدة إلى درجة أنه يود انقاءه بوضع أصابعه إذا استطاع في أذنه؛ وأما البرق فيكاد يخطف البصر، وأما الظلمات المتراكمة فتحول بين السائر وبين الاهتداء إلى السبيل. وتجد تعدد هذا التشبه في قوله سبحانه:(مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً. . . أو كصيب من السماء. . .). ومن النظر إلى الفكرة من عدة زوايا أنه حينا ينظر إلى أعمال الكافرين من ناحية أنها لا أثر لها ولا نتيجة فيرد إلى الذهن حينئذ هذا الرماد الدقيق لا يقوى على البقاء أمام ريح شديدة لا تهدأ لأنها في يوم عاصف، ألا ترى هذه الريح كفيلة بتبديد ذرات هذا الغبار شذر مذر، وأنها لا تبقي عليه ولا تذر، وكذلك أعمال الكافرين، لا تلبث أن تهب عليها ريح الكفر حتى تبددها ولا تبقي عليها، وللتعبير عن ذلك جاء قوله سبحانه:(مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد). وحيناً ينظر إليها من ناحية أنها تغر أصحابها فيظنونها نافعة لهم، مجدية عليهم، حتى إذا جاءوا يوم القيامة لم يجدوا شيئاً، ألا ترى في السراب هذا الأمل المطمع ذا النهاية المؤيسة ولأداء هذا المعنى قال تعالى:(والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا). وحينا ينظر إليها من ناحية ما يلم بصاحبها من اضطراب وفزع، عندما يجد آماله في أعماله قد انهارت. ألا تظلم الدنيا أمام عينيه ويتزلزل كيانه ويصبح كهذا الذي اكتنفه الظلام في بحر قد تلاطمت أمواجه، وأطبقت ظلمة السحاب على ظلمة الأمواج؟ ألا يشعر هذا الرجل بمصيره اليائس، وهلاكه المحتوم؟ ألا يصور لك ذلك صورة هؤلاء الكفار عندما يجيئون إلى أعمالهم، فلا يجدون لها ثواباً ولا نفعا، ولتصوير ذلك جاء قوله سبحانه:

ص: 13

(أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج، من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).

للكلام بقية

أحمد أحمد بدوي

ص: 14

‌الغزال وعلم النفس

للأستاذ حمدي الحسيني

الوجدان

- 4 -

تحدثنا في مقالنا السابق عن العلم أو المعرفة أو الإدراك في نظر الإمام الجليل أبي حامد الغزالي وبينا ما عنده عن علم المعاملة وعلم المكاشفة أي المعرفة الشعورية واللاشعورية فظهر ما سماه بالعلم ظهوراً واضحاً وأضاه ما سماه إيماناً إضاءة جميلة وأشرق ما نعته باليقين إشراقاً قويا باهراً ساحراً.

ونحن الآن نتحدث عن الوجدان أو ما يسميه الإمام الغزالي بالحال. ولكننا نرى من الخير - قبل أن نبدأ بهذا - أن نذكر التعريف النفسي للوجدان لنستطيع المقابلة بينه وبين ما سنراه من قول الغزالي في هذا الموضوع.

(يقول النفسيون إن الوجدان يطلق على ما تجده في نفسك من لذة وألم يصحب الإدراك أو النزوع، فإذا ما حال حائل دون مسير أية عملية عقلية أو جسمية أو عاقها عن المضي في سبيلها، كان التأثر مصحوباً بالألم. إما إذا سارت في طريقها حرة لا يعوقها عائق كان التأثر سروراً وارتياحاً.

وهذا الوجدان يصحب كل علمية عقلية كما يصحبها الإدراك، فالوجدان يشمل اللذة والألم والفرح والحزن والغضب والندم، وكل انفعال نفساني، كما يشمل العواطف أيضاً. وأنت الذي تتأثر بهذه العلاقة التي بينك وبين الشيء الذي تشعر به وتنفعل بتلك العلاقة).

هذا ما يقوله علم النفس في الوجدان الذي يسميه الغزالي الحال. ولنسمع الآن ما يقوله الغزالي عن الحال الذي يعرفه علم النفس بالوجدان.

يقول الغزالي في تحليله لإحدى العمليات العقلية وهي التوبة ما يأتي: إن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة: علم. وحال. وفعل. فالعلم الأول والحال الثاني. والفعل الثالث، والأول موجب للثاني إيجاباً اقتضاء اطراد سنة الله. أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب فإذا عرف هذا معرفة محققة بيقين غالب على القلب ثار من هذه

ص: 15

المعرفة تألم للقلب، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى، انبعثت من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل).

ثم يقول في موضع آخر: (أن اللذة تابعة للادراكات. والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة وغريزة لذة، ولذتها في نيلها لمقتضى طبعها الذي خلقت له فإن هذه الغرائز ما ركبت في الإنسان عبثاً، بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور وهو مقتضاها بالطبع. فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام، فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذي هو مقتضى طبعها. وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الأبصار والاستماع والشم فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة بالإضافة إلى مدركاتها).

نرى في قول الإمام الغزالي هذا صورة واضحة الأجزاء دقيقة التركيب متناسبة لأقسام تطابق في وضوح أجزائها ودقة تركيبها وتناسب أقسامها، الصورة التي رسمها علم النفس للوجدان تمام التطابق. فقد عرف الغزالي هذه العلاقة الدقيقة العجيبة بين المعرفة والوجدان والنزوع، وعرف أن العلم أو الإيمان أو اليقين يثير الوجدان وأن هذا الوجدان قد يكون لذة وقد يكون ألماً وأن اللذة تجلب والألم يدفع وأن هذا الجلب وهذا الدفع هما النزوع، وأن هذا النزوع هو الإيجابية والسلبية في السلوك وأن بين طيات هذه السلبية وهذه الإيجابية السلوك العادي والسلوك الشاذ.

بل في هذين السلوكين الخير والشر والفضيلة والرذيلة والقوة والضعف والشجاعة والجبن، بل في هذين السلوكين كل تاريخ البشرية من أقصى أزمنة التاريخ إلى أن تبيد الأرض ومن عليها.

هذا هو الوجدان أو الحال عند الغزالي. هو اللذة أو الألم يصحب الإدراك أو المعرفة أو العلم أو يصحب النزوع أو الإرادة أو العمل، وما دام الحال هو اللذة والألم عند الغزالي كما هو الوجدان عند علماء النفس المعاصرين بالضبط فمن الحق أن نعرف ما عند الغزالي عن الغرائز التي هي منابع الوجدان أو مسارح اللذة والألم لا سيما الغرائز القوية العريقة في القدم التي يحافظ بها الإنسان على حياته وينافح بواسطتها دون بقائه.

نقف الآن قليلاً لنشير إلى ما كنا ذكرناه في المقالات السابقة من أن نفسية الإمام الغزالي كانت سلبية بكل ما في السلبية من معنى وها نحن أولاء نرى هذه السلبية واضحة في

ص: 16

معرفته للغرائز البشرية ووصفه لها وتعليقه عليها، فإنه يقسم الغرائز إلى قسمين، منجية من نار جهنم ومهلكة بهذه النار، فمن الغرائز المنجية من النار الخوف والخضوع والانقياد وما يتبع هذه الغرائز من الرغبات في الفقر والزهد والقناعة.

ومن الغرائز الغضب والتغلب والسيطرة وما ينشأ عنها من الرغبات في الانتقام وحب الجاه والمال والشهرة والمدح.

ونحن ذاكرون هنا طائفة من الغرائز على الترتيب الذي اتخذه لنفسه في ذكرها لنرى أن الغزالي قد فهم الغرائز فهما علميا صحيحاً مع المعرفة بأنه أراد - كمرب ديني عظيم - أن يستعملها في خدمة عقيدته الدينية القوية ويقينه الإسلامي المستولي على قلبه ولنسمع الآن ما يقوله عن غريزة الخوف التي جعلها من الغرائز المنجية من الهلال، يقول:

(إن الخوف عبارة عن تألم القلب وإحراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال. فالعلم بأسباب لمكروه هو السبب الباعث المثير لإحراق القلب وتألمه، وذلك الإحراق هو الخوف، ثم إذا كملت المعرفة أورثت جلال الخوف واحتراق القلب، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب إلى البدن بالنحول والاصفرار والغشية والزعقة والبكاء، وقد تنشق به المرارة فيفضي إلى الموت، أو يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل، أو يقوى فيورث القنوط واليأس). أما فضل الخوف في نظر الغزالي كمرب فلأنه قامع للشهوات، يقول: لا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات فإن فضله بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات.

ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف. وكيف لا يكون الخوف ذا فضل وبه نحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى. وأما غريزة الغضب فيصفها الغزالي بهذا الوصف الدقيق البديع البارع يقول: (إن الله تعالى خلق الحيوان معرضاً للفساد في داخل بدنه وأسباب خارجية عنه) إلى أن قال (أما الأسباب الخارجية التي يتعرض لها الإنسان فكالسيف والسنان وسائر الهلكات، فافتقر إلى قوة وهمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينته. فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده، اشتعلت نار الغضب وثارت به ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى

ص: 17

أعالي البدن كما ترتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها، وإنما ينبسط الدم إذا غضب الإنسان على من دونه واستشعر القدرة عليه، فإذا صدر الغضب على من فوقه وكان من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب وبالجملة فقوه الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام. وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي بعد وقوعها والانتقام قوة هذه القوة وشهوتها، وفيه لذتها ولا تسكن إلا بها).

هذا وصف الغزالي لغريزيتي الخوف والغضب وهما من أقدم الغرائز وأقواها وافعلها في حياة الفرد والجنس، الأولى سلوكها سلبي والثانية سلوكها إيجابي وهو المقاتلة بغية الانتقام والتشفي وقد وضع الغزالي كل غريزة من هاتين الغريزتين الأساسيتين في موضوعها الطبيعي بالنسبة للحياة، بل بالنسبة لمن يستهدف الحياة.

ومن يستهدف الحياة مطلقة مجددة لا يطمئن إلا بالهرب من الأخطار والنجاة منها. وأما الغضب والمقاتلة فلا يخلو أمر الحياة معها من خطر مهلك ولهذا فقد وضع الغزالي هذه الغريزة على رأس الغرائز المهلكة.

ومهما يكن من أمر الغزالي في فهمه للحياة فإنه قد فهم الغرائز الحيوانية والطبائع الإنسانية فهما صحيحاً دقيقاً كما رأينا.

حمدي الحسيني

ص: 18

‌إنشاء اتحاد برلماني عربي على أسس جديدة

للأستاذ أحمد بك رمزي

مقدمة ونظرة عامة:

1 -

المجالس النيابية والأنظمة البرلمانية من عمل الأوربيين، وهي حديثة العهد في الشرق، فإذا كانت قد نجحت في الغرب، فإنا نرجو لها نجاحاً مماثلاً لدينا، لأنه إذا أثبتت قواعدها ظهرت فعاليتها في أوساط الأمم العربية، وأمكن أن تؤثر في تطورها ونجاحها. بل أن أمم العروبة في حاجة إلى هذه النظم لتحركها وتهزها وتشعرها برسالتها.

نشير إلى هذا بمناسبة ما توارد من مدينة دمشق عن التفكير الجدي في دعوة الاتحاد البرلماني العربي إلى الاجتماع، وهي فكرة تستحق كل تقدير وتشجيع من المؤمنين بالأنظمة البرلمانية وتستدعي كل اهتمامهم لأن الديموقراطية لا تزال تسير في مراحلها الأولى، بل إن بعض البلاد العربية والإمارات الصغيرة ليس لها أنظمة أو دساتير، فالعرب في حاجة لمن يدعوهم إلى الأخذ بها. ولا تزال فكرة إشراك الجماهير في حكم البلاد جديدة عندنا، كما أن إعطاء المدن مسئولية حق التصرف في المرافق العامة وحاجيات السكان لا تزال محصورة في نطاق ضيق، كذلك فكرة السير نحو تطبيق اللامركزية وتوزيع مسئولية الحكم بين الهيئات المختلفة من مجالس مديريات وبليدات لا تزال في دورها البدائي التحضيري، ولا يمكن أن تستند أسس الحياة البرلمانية العربية على قواعد ثابتة وتتجه البلاد العربية نحو الديموقراطية الصحيحة قبل أن يتمرن السكان ويتدرب أهل القرى والبلاد والمدن على إدارة شئونهم المحلية أولا ثم يثبت في عقولهم وعلى المراقبة والإشراف على المصالح القومية والمسائل العامة: كما نرى ذلك في البلاد الأخرى.

فالحياة البرلمانية يجب أن تقام على أسس اللامركزية التي يجب أن تأخذ بها البلاد العربية في سيرها نحو الحياة الديموقراطية الصحيحة.

يقظة الوعي الجماعي نحو الاتحاد العربي:

2 -

أن المحاولات التي تمت في السنوات الأخيرة بإيجاد هيئات اتحادية بين الدول العربية لا تزال في خطواتها التمهيدية وتعد جامعة الدول العربية خطوة أولى نحو هذا

ص: 19

التعاون في الميدان الدولي الحكومي، وقد ظهرت بجانبها هيئات شعبية رأينا منها: منظمة الاتحاد العربي وجمعية الوحدة العربية، وهي هيئات غير حكومية يقوم بها الأفراد وتتجه مع جامعة الدول العربية نحو إيجاد هذا التعاون والتفاهم المنشود الذي حلم به الغرب منذ أكثر من ربع قرن.

الاتحاد البرلماني حلقة من حلقات هذا الاتحاد

3 -

فقيام فكرة تأسيس اتحاد برلماني عربي فكرة وجيهة إذا قصد منها تقوية العمل الذي تقوم به جامعة الدول العربية وإذكاء الجهود التي تقوم بها الهيئات التي تمثل الناحية الشعبية الحرة بين الأمم العربية المختلفة. لأن قيمة أي نظام شعبي أو برلماني أو حكومي هي في مدى الجهود التي يبذلها لتحقيق نهضة هذه الأمم ونقلها من الحياة التي تعيش فيها إلى حياة القرن العشرين ثم في مقدار التأثير الذي يوجده هذا النظام في تحويل الشعوب وتركيز الجهود لجعل هذه المجموعة العربية ذات كيان حائز لاحترام وتقدير بقية العالم المتمدن وثقته فيها وإيمانه بأنها شعوب حية قادرة على حمل أعباء الاستقلال والسير به نحو البناء والنماء والتطور.

تكوين الاتحاد البرلماني العربي

4 -

ولهذا نرى من المبدأ أن يكون هذا الاتحاد ممثلاً لبرلمانات البلاد العربية وهيئاتها النيابية، وأن يكون أول أغراض هذا الاتحاد تحقيق التعاون والتفاهم في الشئون السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية رغبة في إيجاد نوع من التقارب والتكاتف بين الحكومات والشعوب والجماعات: وهذا ما لم يتحقق للأسف.

وإن مجرد وجود فكرة عن تشجيع اجتماع عدد من النواب والشيوخ الممثلين لمختلف الشعوب العربية في هيئاتها البرلمانية من فترة لأخرى ونهوض هيئة إدارية ونوع من الرئاسة ومكتب دائم، كل ذلك من شأنه أن يساعد في تكوين فكرة عملية واتجاه معين للتقريب بين وجهات النظر في الأوساط البرلمانية إذا أحسن القائمون بهذا الأمر سياستهم وابتعدوا عن إثارة الشكوك القائمة بين الدول العربية، ولم يشغلوا أنفسهم بانتزاع ما هو من صميم اختصاص الحكومات العربية وما هو من صيم عمل جامعة الدول العربية وميثاقها.

ص: 20

وإلا فإن هذا الاتحاد إذا بدأ بالوقوع في الأخطاء التي وقع فيها غيره من المنظمات والهيئات كان أثره في يقظة هذه الشعوب ضعيفاً وغير ملموس كغيره من المنظمات التي أشرنا إليها. وفي مقدمتها جامعة الدول العربية.

وأجزم بأن عمل الحكومات العربية وعمل الجامعة العربية سيدعمه هذا الاتحاد البرلماني العربي ويدفع به إلى الأمام إذا كانت أهدافه إنشائية أي حينما يشعر الممثلون البرلمانيون بعظم الأمانة التي يحملونها ويقدرون أثر الحياة النيابية في رفع شأن البلاد العربية ودفعها نحو الرقي والتقدم كما قلنا.

5 -

إنني أتصور أن يكون في كل بلد عربي هيئة محلية للاتحاد البرلماني العربي يدخلها أعضاء المجالس النيابية من النواب والشيوخ بعد دفع اشتراك معين كأعضاء عاملين كما يجوز أن يدخلهما كأعضاء منسبين كل النواب والشيوخ السابقين ويجوز أن ينضم إلى هذه الهيئة ممثلو الأحزاب المختلفة والنقابات والهيئات المحلية التي تشتغل بشئون التجارة والصناعة والزراعة وهيئات العمال والجمعيات النسائية والجمعيات التي تعمل لكل غرض إنساني أو علمي. وهذه الهيئة البرلمانية المحلية هي التي تتصل بالهيئات المحلية من مثيلاتها في البلاد العربية الأخرى عن طريق المكتب الدائم ورئاسة الاتحاد البرلماني العربي.

وأجد في القاهرة خير مدينة عربية تكون فيها رئاسة الاتحاد البرلماني العربي ومجلس إدارته وسكرتاريته، وأرى أن تدعو الرئاسة كل عام إلى مؤتمر للاتحاد البرلماني العربي يجتمع كل عام في إحدى العواصم العربية ويشترك في حضوره كافة أعضاء الهيئات المحلية بعدد لا يتجاوز خمسة عشر مندوباً من نواب وشيوخ كل بلد ويمكن أن يضم إليهم خبراء وسكرتاريون، ولا مانع في المستقبل من زيادة هذا العدد، وأن يضم إليه أعضاء من الهيئات التي أشرت إليها أو من النواب السابقين بشرط ألا تنقص نسبة عدد النواب والشيوخ عن النصف دائما.

وأفضل أن تكون جلسات المؤتمر علنية وكذلك اجتماعات اللجان إلا إذا دعت المصلحة لغير ذلك.

إن مجلس إدارة الاتحاد البرلماني هو الذي يدير أعمال الاتحاد ويقرر جدول أعمال المؤتمر

ص: 21

ويضع التقرير السنوي وتقرير الميزانية ويراقب تنفيذها.

أهداف الاتحاد البرلماني العربي

6 -

إن لكل حركة أهدافا معينة، ودعوة قائمة وإذا سارت فكرة الاتحاد البرلماني العربي على طريقة المنظمات والهيئات التي تقدمتها أي بقيت في نطاق السلبية أصبح عملها لا أهمية له وحكمت على نفسها بالجمود والأفضل عدم السير في تكوين الاتحاد والاكتفاء بالحال التي نحن عليها. والسبب في ذلك واضح وبين يتلخص في أن علة هذه الهيئات هم الرجال الذي يسرعون الخططي لتصدر الحركات العامة واحتكارها لأنفسهم قبل نضوجهم النضوج الكافي وقبل تهيئة أنفسهم بالعلم الواسع والثقافة الكافية لهذا العمل. فإذا اجتمع مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي تدافع فريق ممن يعتقد في نفسه الكفاءة والقدرة والسياسة وتبدأ بسماع عدد من الخطب المنبرية المحفوظة أو بعض المحاضرات الإنشائية التي تصلح لطلبة الثقافة أو إتمام الدراسة التوجيهية - ونقول إن المؤتمر درس المسألة المستعصاة فتكتب الجرائد ويصفق الأتباع والأنصار. إن مثل هذا العمل استمر أعواماً يهدم في كفايتنا منذ انتهت الحرب العالمية الثانية أي منذ سنة 1945.

7 -

إنني أسلم بأن المصلحة تقضي بأن تكون حركة الاتحاد البرلماني العربي حركة تقدمية ترمي إلى تقوية أواصر المودة وإلى بذل النصيحة للبلاد العربية المتخلفة في مضمار الحضارة والتي سيكون عليها واجب إدخال الأنظمة النيابية والهيئات البلدية والإقليمية والإقناع بالأخذ بها بطريقة سهلة واضحة دون مساس بشئون الدول العربية الداخلية ودون إجحاف بحقوق الناس وإنما عملاً بالنص القرآني الكريم (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)

أمام هذه الحقائق الثابتة وتحت نظرة إيجابية غير متأثرة بالعاطفة وضعت مشروعاً لتنظيم الاتحاد البرلماني العربي.

ميثاق الاتحاد البرلماني العربي 23 أغسطس 1948

وليست هذه الفكرة جديدة على رجال العرب، فقد أقرت الهيئة التأسيسية التي اجتمعت بمدينة (صوفر) في 23 أغسطس سنة 1948 ميثاقاً للاتحاد جاء في إحدى عشر مادة كما

ص: 22

أقرت نظاماً للمؤتمرات في جلستها المنعقدة في 20 ديسمبر سنة 1948 والمطلع على المشروع الذي أقدمه اليوم يجد أنه لا يتعارض مع الميثاق ولا يغير في نظام المؤتمرات.

وإنما يتجه اتجاهاً شعبياً فلا يتقيد بالقواعد الواردة في أنظمة المؤتمرات البرلمانية الدولية وإنما يعطي بجانب التمثيل البرلماني العربي للاتحاد الحق في تمثيل البلاد العربية التي لم تحصل على أنظمة برلمانية تحت إشراف جامعة الدول العربية التي تبرز لأول مرة ممثلة في الاجتماعات وقد أخذت بفكرة تمثيل الجماعات الشعبية مثل الأحزاب السياسية والجامعات والجمعيات السياسية والنسائية من نظام الاتحاد البرلماني العربي لدول البلقان:

والقصد من توسيع دائرة التمثيل هو جعل الاتحاد البرلماني العربي ممثلاً لرغبات الشعوب العربية ولشتى نواحي التيارات الفكرية ولكي يتجه الاتحاد البرلماني العربي إلى قيادة العالم العربي نحو الديمقراطية الصحيحة وتأكيد نظام اللامركزية والأخذ بقواعد استقلال سكان كل إقليم بإدارة شئونه والعمل على جعل المدن العربية ممثلة بواسطة بلدياتها في شئون العروبة العامة لحين يأتي الوقت الذي ينظم فيه اتحاد بين البلديات العربية بجانب الاتحاد البرلماني العربي.

أحمد رمزي

المراقب العام لمصلحة التشريع التجاري والملكية الصناعية

ص: 23

(كشاجم)

- 2 -

للأستاذ عبد الجواد الطيب

ثقافته:

إذ شئنا أن نتحدث عن ثقافة الرجل والتمسناها في المصادر التي تحدثت عنها، لا نجد إلا كلاماً فيه كثير من التكرار والتهويل على طريقة القدامى في النقد والتقريظ، مثل الذي قال المسعودي في مروج الذهب: وكان (أي كشاجم) من أهل العلم والرواية والمعرفة والأدب فهذه أوصاف أربعة عامة منها اثنان متقاربان هما العلم والمعرفة، وأما الأدب فلا مشاحة فيه، والرواية إذا قصد بها الرواية للأدب فقد لا يكون فيها مشاحة كذلك. وأما إذا قصد بها رواية الحديث، فإنا نستطيع القول بأن كشاجم لم يكن محدثاً، أو حتى عالماً مبرزاً في أي علم من علوم الدين، اللهم إلا أن يكون ذلك هو القدر الذي يلزم تحصيله ولا يسلك به الشخص في عداد العلماء. حقاً إننا نجد في شعر كشاجم إشارة إلى أنه سمع شيئا من الحديث، وذلك يبدو في مدحه لبعض العلماء:

إن سألناك هن حدود كتا

ب الله أوضحت مشكلات الحدود

أو سمعنا منك الحديث فاسنا

دك لا بالواهي ولا المردود

وهذا البيت الأخير إن أفاد فإنما يفيد أن الرجل قد سمع شيئاً من الحديث، ولكن لا ينهض دليلاً على أن كشاجم كان من رواة الحديث بالمعنى الصحيح.

ثم إليك هذه الألفاظ البراقة وتلك السجعات المتكلفة التي نجد مثلها كثيرا في تراجم الأدباء والعلماء: (كان رئيسا في الكتابة، ومقدماً في الفصاحة والخطابة، له تحقيق يتميز به على نظرائه، وتدقيق يربى به على اكفائه، وتحديق في علوم التنجيم أضرم في شعلة ذكائه فهو شاعر المفلق، والنجم المتألق

فأما عن الكتابة فنعم، وأما الرياسة فيها فلا شك أنها محل نظر، وأما الخطابة فما أظن أحداً قال بأن كشاجم كان خطيباً ولم تصلنا خطبة واحدة ولو قصيرة تثبت ذلك، ثم إن ديوانه لا يكاد يشير إلى هذا ولو في بيت واحد مجرد إشارة اللهم إلا هذا البيت الذي يقوله ناصحاً -

ص: 24

فيما يبدو لبعض المتصلين به:

فرد الكتابة والخطابة والبلاغة والعبارة

وهذا لا يقتضي أن يكون هو نفسه خطيباً وإن كان يستأنس به في ذلك لو قد وجدنا في شعره ما يؤيده، فنحن كثيراً ما نجده يفتخر بشعره وكتابته وعلمه ولكنه لم يفخر مرة واحدة بخطابته

وقد نفهم البيت على أن به فخراً ضمنياً، أو حتى فخراً صريحاً بكتابته هو، وخطابته وبلاغته، ولكن عل كل حال هذه هي الإشارة الوحيدة في ديوانه كله وما قرأت له من شعر خارج الديوان

وبعد هذا لا أدري ما هو التحقيق الذي يتميز به على نظرائه والتدقيق الذي يربى به على اكفائه. . . غلى آخر ما ذكروا من هذه الأوصاف الفضفاضة؟!

وليس يبعد عن هذا كثيراً ما يحيكونه خول لقبه من قولهم كان من الشعراء المجيدين، والفضلاء المبرزين. حتى قيل إن لقبه هذا منحوت من عدة علوم كان يتقنها فالكاف للكتابة، والشين من الشعر، والألف من الإنشاء، والجيم من الجدل، والميم من المنطق) وقولهم في هذا المعنى تقريباً مع خلاف يسير:(لقب نفسه بكشاجم فسئل عن ذلك فقال: الكاف من كاتب والشين شاعر، والألف من أديب، والجيم من جواد، والميم من منجم) وقد زاد على ذلك أبن العماد الحنبلي في شذراته: (قال في تثقيف اللسان: كشاجم لقب له جمع أحرفه من صناعته، ثم طلب علم الطب حتى برع فيه وصار أكبر علمه (كذا!!) فريد في اسمه طاء من طبيب وقد مت فقيل طكشاجم ولكنه لم يشتهر).

وكل من كتب من المحدثين - عرضاً في كشاجم تابعوا القدامى في ذلك دون أن يلفت نظرهم هذا الكلام؛ فينظروا فيه نظرة دقيقة فاحصة، ولكن لعل عذرهم في ذلك أنهم لم يفردوا بحثاً خاصا لكشاجم؛ وإنما جاء الحديث عنه في غمار حديث عام ربما لا يحتمل الوقوف كثيراً عند كشاجم وحده.

وقد ذكر صاحب أعيان الشيعة من المحدثين إن كشاجم مأخوذ من أربع كلمات: كاتب شاعر، منجم متكلم، مجيد للأوصاف كلها لا عديل له في عصره) فهو يذكر أن كشاجم كاتب شاعر مع أنه هو نفسه لم يذكره فيمن ذكر من الكتاب وإن كان قد عده في الشعراء،

ص: 25

فهو في هذا أشبه بمن يناقض نفسه إلا أن يكون قد رأى أن كشاجم الكاتب ليس هنالك فأسقطه من عداد الكتاب؛ وهذا شيء آخر!!

بقي أن نقول إن هذه الأوصاف الأربعة: كاتب شاعر منجم متكلم لو سلمنا بها جدلاً، فقد كان يجب الوقوف عندها مادامت قد حددت بأربعة ومع هذا فقد يكون فيها ما فيها، إذ لم يحدثنا أحد عن كشاجم كما لم يحدثنا هو عن نفسه أنه كان (متكلماً) ومع ذلك فقد كان يجب الوقوف عند هذا الحد.

ولكن الرجل يأبى إلا أن يكون كشاجم بعد هذا (مجيد الأوصاف كلها؛ لا عديل له في عصره)!!

فلننظر إذن في ثقافة الرجل في شكل تعقيب على تحليلهم لهذا اللقب الذي قد حللوه على طريقهم مثل قولهم: الكاف من كاتب والشين شاعر. . . إلى غير ذلك مما سبق الحديث عنه، والإفاضة فيه.

فأما عن الكتابة فقد نظرت في بعض كتب الإنشاء مثل صبيح الأعشى فلم أجد لكشاجم الكاتب فيه ذكر بينا تراه يعرض رسائل بعض كتاب الدواوين القريبين من عصر كشاجم مثل أبن عبد كان، وأبن الداية، كما نراه في الاخوانيات ينقل إلينا رسائل لأبي الفرج الببغاء - المعاصر لكشاجم في التهنئة بولاية عمل والتهنئة بالعودة من الحج، وبالقدوم من السفر وبالصوم وبالعيد كما يثبت له رسائل في التعازي والاستهداء والشكر. . . ولكن لم ترد إشارة ما إلى كشاجم الكاتب في أي جزء من أجزاء الكتاب؛ ومع هذا فصبح الأعشى لا يهدف إلى إحصاء الكتاب في كل عصر حتى يكون المصادر الأساسية في إثبات الكتابة لكشاجم أو نفيها عنه، فإذا كان هذا الكاتب أو غيره لم يشر إلى كشاجم كاتباً، فإن جميع من ترجموا له صرحوا بأن الكتابة كانت شيئا بارزاً عنده، وربما لا تقل في ذلك عن الشعر، وقد يستدل على هذا بأن ترجمته على ظهر ديوانه تبدأ بهذه العبارة التي تلفت النظر، والتي لها دلالتها الخاصة. هو محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك الكاتب) ومثل ذلك ما قاله المسعودي: فأخبرني أبو الفتح محمود بن الحسين بن السندي أبن شاهك الكاتب المعروف بكشاجم. . . فكل هذه إشارات لا يصح إهمالها ولا بد من تحقيقها. . . وإذا كان شعر الشاعر هو سجل حياته فمن الطبيعي أن يكون مصدرنا الأول الذي نهتدي بهديه

ص: 26

ونسير على سننه:

يقو لكشاجم في سكين سرقت له:

يا قاتل الله كتاب الدواوين

ما يستحلون من سرق السكاكين

لقد دهاني لطيف منهم ختل

في ذات حد كحد السيف مسنون

فابتزنيها ولم اشعر به عبثا

ولست لوساء في ظن بمغبون

يقد يفهم من هذا أن الرجل من بين كتاب الدواوين هؤلاء الذين حصل منهم هذا العبث، ولكن هذا مجرد احتمال يقلل من قيمته ما يحتمل من أن هؤلاء الكتاب ربما كانوا مجرد أصدقاء، وأن هذا العبث كان في بيته مثلاً أو في مكان آخر غير الديوان.

ولكنا نراه في موطن آخر يرثي غلاماً له بهذه البيات

من لدواة كنت تعنى بها

عناية تعجز عنها القيون

تغدو مع الكتاب غلمانهم

وأغتدي وحدي ومالي قرين

فالدار والديوان من بعده

كرسم دار خف منها القطين

فهذا كلام يثبت أنه كان كاتباً بالفعل وأنه كان من كتاب الدواوين. واليك نصاً آخر ينطق في وضوح وجلاء بأن الرجل كان من كتاب الديوان في مصر ذاتها:

قد كان شوقي إلى مصر يؤرقني

والآن عدت وعادت مصر لي دارا

أغدو إلى الجيزة الفيحاء مصطحباً

طوراً وطوراً أرجي السبر أطوارا

بينا أسامي رئيساً في رئاسته

إذ رحت أحسب في الحانات خمارا

فللدواوين إصباحي ومنصرفي

إلى بيوت دمي يعملن أوتارا

وهذا وقد عثرت في ديوانه على نص صغير قي يمثل رسائله الاخونية، فقد ذكر في ثنايا الديوان: وقال في أبي الحسن الاسكافي، وقد وجد به علة، وقد أهدى إليه طيور حجل وكتب إليه رقعة نسختها: لم يدع منظوم هذه الرقعة لمنثورها حظاً في المعنى الذي اشتملت عليه، وسيدي يقف على الأبيات فيتطول بتشريفي بما التمسته فيها، وجعلتها سبباً له، إذ كان الغرض إسعافه بما لا يزال يستدعيه، ويرتاح له من لطيف المذاكرة والمفاكهة للأدب الذي وفر الله من حظه وحبب إليه أهله، لا أزال الله عنهم ظله، ولا سلبهم سيادته ورياسته

ولو قد صح أن تكون هذه الفقرة الصغيرة عنواناً لنثر كشاجم لقلنا أن كتابته سهلة، مرسلة.

ص: 27

سليمة من التعقيد، خالية من السجع والبديع إلا ما جاء من ذلك عفواً، ولكن هذا النص وحده - كبر أو صغر - لا يكفي في الواقع في إثبات حك أو نفيه ولهذا فمن حق البحث علينا أن نرجئ هذا الحكم حتى ندرس فيما بعد ما يمكن أن تصل إليه يدنا من آثاره الأدبية النثرية الأخرى مثل كتاب (المصائد والمطارد) وكتاب (خصائص الطرب) وكتاب (أدب النديم) فإن بعضها في متناول اليد وبعضها الآخر لا تعرف عنه إلا أسمه أو ما جاءنا من فقر وعبارات متناثرة في بطون الكتب وأمهات المراجع.

أما عن الشعر فنحن نسلم بالمبدأ، وهو شاعرية كشاجم ونرجئ الكلام المفصل عن هذه الشاعرية في ذاتها ومقدار حظها من العمق أو السطحية؛ ومن التقليد أو الاصالة، ومن توفر الصدق النفي أو عدم توفره. . . لأن هذا كله جدير بالعناية الخاصة بعد الفراغ من هذه الفصول التمهيدية في البحث.

أما ما يختص بالحديث عن كشاجم المنجم، فقد عده صاحب (أعيان الشيعة) - من المحدثين - من منجمي الشيعة ونقل ذلك عن كتاب معالم العلماء لابن شهر اشوب، كما أن التراجم التي سردناها تكاد كلها تجمع على ذلك. ولا ندري مبلغ هذا القول من الصحة، فقد يكون من قبيل التكثر والتزيد، لا سيما أن كشاجم لم يترك في هذا العلم أثراً ولم يؤلف فيه كتابا ولكن مهما يكن من شيء فإن الرجل لابد وأن يكون قد ألم نشئ من ثقافة المنجمين ظهر أثره في شعره:

قال يصف اسطرلابا:

ومستدير كجرم الشمس مسطوح

عن كل رائعة الأشكال مصفوح

ملء البنان وقد أوفت صفائحه

على الأقاليم في أقطارها الفيح

كأنما السبعة الأفلاك محدقة

بالنار والماء والأرضين والريح

تنبيك عن طالع الأبراج هيئته

بالشمس طوراً وطوراً بالمصابيح

فإن مضت ساعة أو بعض ثانية

عرفت ذاك بعلم فيه مشروع

وإن تعرض في وقت تقدره

لك التشكك جلاه بتصحيح

مميز في قياسات النجوم به

بين المشائم منها والمناجيح

وفي الدوائر من أشكاله حكم

تنقح العقل منها أي تنقيح

ص: 28

لا يستقل لما فيه بمعرفة

الحصيف اللطيف الحس والروح

حتى يرى الغيب فيه وهو منغلق

الأبواب عمن سواه جد مفتوح

نتيجة الذهن والتفكير صوره

ذوو العقول الصحيحات المراجيح

وقال يصف تخت الحساب والرمل:

وقلم مداده تراب

في صحف سطورها حساب

يكثر فيه المحو والإضراب

من غير أن يسود الكتاب

حتى يبين الحق والصواب

وليس إعجام ولا إضراب

فيه ولا شك ولا ارتياب

وأما ما قيل من أنه كان من المتكلمين، ومن علماء الجدل والمنطق؛ فهذا ملتمسته رغبة الوقوع على ما يؤيده صراحة أو استنتاجاً فلم أعثر عليه، وقد تتبعت صلات الرجل فلم أجد نصاً واحداً يؤيد أنه درس الجدل أو المنطق أو علم الكلام، أو جلس من أحد الأعلام المشهورين في هذه العلوم مجلس التلميذ من أستاذه ثم أنه لو كان له في ذلك حظ لا نعكس في شعره شأنه في ذلك شأن النواحي الأخرى التي أخذ منها بطرف؟ فشعر الرجل لا يعطينا ولو خيطاً دقيقاً يتعلق به القائلون بأن كشاجم كان له حظ من هذا النوع من الثقافة.

ولا يتغير الموقف كثيراً إزاء ما ذكره بعض أصحاب التراجم من أن كشاجم طلب علم الطب حتى مهر فيه وصار أكبر علمه إذ لو كان ذلك كذلك لكان قد ترك لنا في هذا العلم شيئاً مما تركه العلماء فيما مهروا فيه من علم، أو على الأقل قد كان يستطيع أن يخلد اسمه بين الأطباء الذين حمل ألينا التاريخ أسماءهم وإن لم تصلنا آثارهم، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث؟ فهذا كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي يحدثنا عن بعض الأطباء المعاصرين لكشاجم مثل أبي الحسن بن كشكرايا بينما لم يرد فيه ذكر لكشاجم. وهذا طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة يحدثنا عن كثير من الأطباء المعاصرين للرجل مثل أبي الحسن أبن كشكرايا هذا الذي قال عنه أنه كان طبيباً عالماً مشهوراً بالفضل والإتقان لصناعة الطب وجودة المزاولة لأعمالها وكان في خدمة سيف الدولة بن حمدان ومثل البالس الذي (كان طبيباً فاضلاً متميزاً في معرفة الأدوية المفردة وأفعالها، وله من الكتب كتاب التكميل في الأدوية المفردة ألفه لكافور الإخشيدي) ومثل أبي جعفر أحمد بن إبراهيم المعروف بابن

ص: 29

الجزار. . . هذا ول يرد ذكر لكشاجم بين هؤلاء جميعاً. وكل ما هنالك أنه قد وردت إشارة إليه لا على أنه طبيب، بل شاعر يثنى على هذا الطبيب أبي جعفر ويصف كتابه المعروف بزاد المسافر:

أبا جعفر أبقيت حياً وميتاً

مفاخر في ظهر الزمان عظاما

رأيت على زاد المسافر عندنا

من الناظرين العارفين زحاما

سأحمد أفعالاً لأحمد لم تزل

مواقعها عند الكرام كراما

فكل ما في الأمر أن كشاجم ربما قد قرأ هذا الكتاب فألم بشيء منه. ثم إنه من المحتمل أن يكون قد عرف شيئاً من هذا عن طريق تعارفه ببعض الأطباء الآخرين ممن مدحهم في شعره ولكن ليس في هذا ما يدل على أنه مهر في علم الطب حتى سار أكبر علمه!!

ثم إذا كان كشاجم قد حاول أن يعرف شيئا من الثقافات المختلفة في عصره فهو ليس بدعاً في هذا وإنما شأنه شان غيره من الكتاب الذين عاصروه أو تقدموا عصره بقليل فقد كانت الحياة تموج من حولهم بألوان الثقافات الدينية والعقلية في العصر العباسي الثاني مما ظهر أثره في شعر الشعراء ونثر الكتاب في حاضرة الخلافة أولاً، ثم في الولايات الإسلامية المختلفة، وقد كان أبن عبد كان كاتب أحمد بن طولون، وأول كاتب ديواني في مصر من هذا الطراز من الكتاب. فنحن لا نغمط كشاجم حقه، وإنما نود أن نقول أنه واحد من هؤلاء الكتاب، الذين كانت تفرض عليهم مهنتهم أن يتصلوا اتصالاً ما بمختلف الثقافات.

وهكذا نرى أن المسألة شيئاً من المبالغة التي نجدها كثيراً عند القدامى من النقاد وأصحاب التراجم، وهذا الطابع طابع المبالغة قد تأثر به كشاجم نفسه فهو الآخر يقول في صديق له من الأطباء

الحمد لله قد وجدت أخاً

لست مدى الدهر مثله واجد

أسكن في صحتي إليه فإن

مرضت كان الطبيب والعائد

طباً يعيا منجماً جدلاً

يجمع منه الكثير في واحد

ينظر في الجزء والخطوط ولا

ينتقد النطق مثله ناقد

وقد يقف هذا الموقف حتى من نفسه ولا ندري أهو سذاجة أم غرور أم هو شيء بين بين أم إنها المبالغة الأدبية لا أكثر.

ص: 30

وما زلت أبغي العلم من حيث يبتغي

وافتن في أصنافه وتطر

فقد صرت لا ألقى الذي أستزيده

ولا يذكر الشيء الذي لست أعر

وليت شعري هل وقف الرجل على هذه الحكمة المأثورة لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم. فإن ظن أنه قد علم فقد جهل!

ولكن لعل في هذا ما يدل على أن الرجل كان يحاول كما قلت أن يأخذ من كل شيء بطرف وإن لم يصل في الواقع في شيء إلى القمة أو ما يقرب منها.

عبد الجواد الطيب

ص: 31

(الفكاهة في شعر المتنبي)

للأستاذ أحمد حسن الرحيم

شعر الفكاهة في ديوان المتنبي نادراً جداً، وليس ذلك لأن أبا الطيب لا يحتاج إلى الترويج عن النفس، أو أنه لا يدرك مفارقات الحياة، أو لا يحس التعبير عنها، بل لأنه ألزم نفسه أسلوباً جدياً صارماً فقضى عمره في كفاح عنيف متواصل يريد أن ينال لنفسه ما رسم لها من المناصب يأخذه غلاباً ويخوض له المهالك إن استطاع، قال لبعض الكلابيين وهم على شراب:

لأحبتي أن يملئوا

بالصافيات الأكؤبا

وعليهم أن يبذلوا

وعلي ألا أشربا

حتى تكون الباترا

ت المسمعات فأطربا

وقال في رثاء جدته:

يقولون لي ما أنت في كل بلدة

وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى

أما منية المتنبي - كما كشف عنها في شعره - فهي ولاية يرأس بها الناس فتشبع نهمه للزعامة، وقد ضن بها عليه الزمان وقتل قبل أن يبلغها.

فالفتى الذي أغرى الناس بالثورة منذ صغره وصمد - منفرداً - لدرس الكاشحين وخصوماتهم في بلاط سيف الدولة يعز على نفسه الطموح أن تنصرف - إلا نادراً - إلى اللهو والفكاهة قبل أن يحقق مأربه الفخمة. فهو فتى قل أن نجد بين الفتيان من له استكباره لنفسه وصلابة همته واحترامه لذاته.

فهو شديد الميل إلى الجد، يريد أن يكون ممحدوحه متزناً وقوراً مهيباً؛ فقد ورد في ترجمة أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني للمتنبي أنه صده عن مدح الوزير المهلي (ما سمعه من تماديه في السخف واستهتاره بالهزل واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه، وكان المتنبي مر النفس، صعب الشكيمة، حاداً مجداً

وهو إذا ضحك فلا يريد أن يحمل ضحكه على فراغ القلب بل هو كتكشيرة الليث بداية شروفتك

وجاهل غره في جهله ضحكي

حتى أتته يد فراسة وفم

ص: 32

إذا نظرت نيوب الليث بارزة

فلا تظن إن الليث يبتسم

ومع كل هذا فلا يخلو ديوانه من شعر الفكاهة فقد قال وقد تاب بدر بن عمار من الشراب مرات عديدة ثم رجع إليه فرآه أبو الطيب يشرب فأنشد ارتجالًا؛

يا أيها الملك الذي ندماؤه

شركاؤه في ملكه لا ملكه

في كل يوم بيننا دم كرمة

لك توبة من توبة من سفكه

والصدق من شيم الكرام فنبنا

آمن الشراب تتوب أم من تركه

هذه الكياسة من الصفات التي حببته إلى نفوس الأمراء والملوك فقد مزج الدعابة بالمديح المتين: أصدقاء الأمير شركاء في ما يملك من ثروة يأخذون ما يريدون بلا منّة ولا استحياء، وهذه من سمات الكرم الأصيل. ثم ما أبرع أبا الطيب في قوله (لك توبة من توبة) فالمعنى الأصلي أنه نكص ومنعفت عزيمته فارتد عن توبته ولكن براعة المتنبي تأبى أن تقول هذا المعنى بهذا اللفظ القارص فتحايلت لإبرازه بعودة أخرى؛ فالأمير لا يزال مستمرا في توبته ولكنه تائب عن التوبة. هذه المغالطة الفكهة حبيبة إلى كثير من النفوس، ثم وسع له الفرصة ورفع عنه الحرج إذ مهد له الجواب في سؤاله:(أمن الشرب تتوب أن من تركه؟) فمن اليسير المقبول أنه يقول الأمير: (بل من تركه)

ومن شعر الفكاهة قوله من قصيدة طويلة قالها عندما أنقذ سيف الدولة أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان من أسر الخارجي:

ولو كنت في أسر غير الهوى

ضمنت ضمان أبي وائل

قدى بفسه بضمان النضار

وأعطى صدور القنا الذابل

ومناهم الخيل مجنونة

فجئن بكل فتى باسل

طرافة يصورها المتنبي لهذا الأسير، فهو يضمن النضار لأعدائه ولكنه يعطي صدور القنا عوضه، فياله من تعويض طريف. ويمنيهم الخيل يعدون بها غنيمة فجاءت الخيل - كما وعد - ولكنها تحمل الموت الزؤام بسنان (كل فتى باسل).

إن المتنبي يجوز في شرعته أن يمكر الإنسان بعدوه ويخلف وعده ولكنه يأبى هذا في الحب.

وهو ينحدر إلى السخرية الجارحة مخاطباً أعداء أبي وائل في قوله: -

ص: 33

خذوا ما أتاكم به واعذورا

فأن الغنيمة في العاجل

وإن كان أعجبكم عامكم

فعودوا إلى حمص من قابل

فهو يزعم - ساخراً - أن ما نالوا من قتل وتدمير على يد سيف الدولة فذلك (إحسان) ومن شيم المحسنين أن يعتذروا عن قلة إحسانهم ولو كان جسيما. فخذوا ما تيسر واعذورا. وإذا ارتضيتم صنيعا هذا فهلموا إلينا في العام المقبل إلى مثل ما غنمتم في هزيمتكم المنكرة.

وأنشد المتنبي أبا بكر الطائي فنام والمتنبي ينشد فقال: -

إن القوافي لم تنمك وإنما

محقتك حتى صرت مالاً يوجد

وكأن أذنك فوك حين سمعتها

وكأنها مما سكرت المرقد

إن البيت الثاني دعابة واعتذار إذ ألقى تبعة النوم على الشعر فقد حسبه كالأفيون الذي يجلب النوم، أما البيت الأول وفيه (إن القوافي محقتك) فهو وخزة عميقة أملتها نفس المتنبي الثائرة وقد جمع المتنبي بين الهجوم والاعتذار في بيتين متتابعين.

ومن الفكاهة الجيدة قوله

بلغت بسيف الدولة النور رتبة

أنرت بها ما بين غرب ومشرق

إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق

أراه غباري ثم قال له الحق

صورة بديعة مضحكة حالة هذا الأحمق يبيت له سيف الدولة المكر فيحثه على اللحاق بالمتنبي وهو منطلق لا ترى إلا عجاجته ليكشف ضعف هذا العاجز فيضحك من تقصيره، صورة حسنة منظورة في منافسات الفرسان استعارها أبو الطيب لمباراة الشعراء فبلع الغاية.

ومن التهكم والسخرية قوله وقد قبض عليه أبن علي الهاشمي في قرية يقال لها (كوكتين) وجعل في رجله وعنقه خشبتين من خشب الصفصاف.

قال: -

زعم المقيم (بكوتكين) بأنه

من آل هاشم بن عبد مناف

فأجبته مذ صرت من أبنائهم

صارت قيودهم من الصفصاف

وقد ذكر هذين البيتين المرحوم البرقوقي في المستدرك من شعر المتنبي في آخر الجزء الثاني من طبعة سنة 1930 فإذا صحت هذه الزاوية فربما قالهما بعد أن نجا من قيد هذا

ص: 34

الهاشمي المتهم بنسبه على رأي المتنبي ولا يعقل أنه قالهما وهو في قبضة الآسر فيضاعف من نكاله وآلامه.

وقال في صباه وقد رأى جرذاً مقتولاً: -

لقد أصبح الجرذ المستغير

أسير المنايا صريع العطب

رماه الكناني والعامري

وتلاه للوجه فعل العرب

كلا الرجلين إتلا قتله

فأيكما غل حر السلب

وأيكما كان من خلفه

فان به عضة في الذنب

ففي وصف معركة الجرذ لفتات تدل على براعة التصوير ودقة التعبير؛ فالجرذ مستغير أغار على العامري والكناني فحاب في حملته لأن بأس خصميه فوق ما قدر وقد تظاهرا عليه فقتلاه، وتلاه للوجه كصنيع العرب في الوغى، ولكن من منهما اقتدى بشاعر الفراسان عنترة العبسي ذاك الذي (يغشي الوغى ويعف عند المغنم) فتنازل لصاحبه عن حصته في السلب فقد انفرد بغنيمته شخص واحد.

ووصف المتنبي السلب بأنه (حر) لا عار على آخذه فهو من أسلاب الحرب يأخذه الغالب بكامل عزته وكبريائه، ثم يتساءل المتنبي عن الندب الذي فتك به بغتة فعضه من الذنب فلعل هذا أحذق بفن الحرب وأدخل في باب الشهامة الحربية لأنه لم يستعمل من السلاح خيراً مما يملك خصمه.

هذا المتنبي من شعراء القوة والدم في العالم قطبت الأحداث جبينه وألهبت نظراته الخصومات فلا يبتسم إلا لماماً. وأحسب لو أنه نال بغيته لانبسطت أساريره وأولى شعر الفكاهة أكثر من هذه العناية، والفن القوي يخلد مع كل غرض.

الحلة العراق

أحمد حسن الرحيم

ليسانس بالأدب العربي

ص: 35

‌رسالة الشعر

ليالي بغداد

للأستاذ محمد محمود زيتون

أين يا بغداد هاتيك الليالي

كالرؤى مرت سراعاً بالخيال

لم تعد بغداد عندي غير ذكرى

عصفت بالقلب لما جئت مصرا

أين أيامك يا (عقد النصارى)

أين في الدهر لياليك العذارى

وأنا الهيمان ليلاً ونهارا

أقتفي ظل حبيبي أين سارا

أين بغداد هاتيك الليالي

لست أنسى ليلة الشط الجميل

ههنا (دجلة) مذ ولى الأصيل

وضياء البدر كالتبر يسيل

وارى الموج على الموج يميل

أين يا بغداد هاتيك الليالي

لست أنسى زورقاً في النهر يجري

وحنين الناي في المجداف يسري

تلك أحلام الصبا مرت بفكري

هل درى الملاح سرى؟. . . لست أدري

أين يا بغداد هاتيك الليالي

يا حبيبي عد بنا فالفجر لاح

والشذى الريان في الأرجاء فاح

وانتشى إليك بأطيار الصباح

ص: 36

هذه إحدى لياليه الملاح

أين يا بغداد هاتيك الليالي

كالرؤى مرت سراعاً بالخيال

لم تعد بغداد عندي غير ذكرى

عصفت بالقب لما جئت مصرا

محمد محمود زيتون

يا وردتي

للأستاذ محمد محمود عماد

أريحك رف على جبهتي

وشعرك نام على راحتي

أتدرين أنك في قبضتي؟!

أشاغل عرفاً رنا في امتثال

وأرعى عهيداً هفا للوصال

وما زلت ظمآن. . يا وردتي!

فتنت، وكان صباك السبب

ومجدت ربي. . فيا للعجب

تكون صلاتي من فتنتي!

شبيهك غازل زهر النجوم

وأرسل قبلته. . . للغيوم

يغار. . وحقك. من قبلتي!

أناغيك والعشب من حولنا

يحن إلينا. . ويصغي لنا. . .

ويحجب عنا الذي. . والتي.!

غصينك يا وردتي في يدي

ص: 37

أميل عليه. . . يميل علي. . .

أنا في حماه. . . فيا قوتي!

يقولون: للورد شوك يخون

خداع لعمري الذي يزعمون

سوى الورد. لم ألق في جنتي

محمد محمود عماد

ص: 38

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

شاعرة مصرية تودع الحياة:

في اليوم الثامن من نوفمبر عام 1949 صدر عدد الرسالة الأسبوعي يحمل في أول كلمة من تعقيباته (قصة الدموع التي شابت). . . وفي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم نقل إلى التليفون صوت الشاعرة (ن. ط. ع) حزيناً كالعهد به، خافتاً كأنما يأتي من بعيد، قاتماً كأنما تعكس نبراته لون شعور عاش في الظلام: هل يتسع وقتك لأن أقرأ لك هذه القصيدة التي فرغت منها منذ دقائق؟ تفضلي يا ناهد!. . . هل تعدني بنشرها في (الرسالة) يوم أن تتحدث عني بعد الرحيل؟ أعدك يا آنسة!. . . إذن فاستمع إلى ولا تعترض، لأنها شعر غير موزون:

(جاء إلى الحياة والدمع في عينية، ورحل عنها والدمع في عينيه. . . وتلك هي قصته: قصة الدمع الذي شاب والشعر في سواد الليل، والروح الذي اكتهل والعمر في ربيع الأمل، والزهر الذي صوح والعطر في رياض الشباب!

من هو؟ لا أحد يعرفه. . . لقد عاش غريباً في دنياه: همسة تنطلق من فجاج الصمت لتتلاشى في سكون العدم، وومضة تشع من وراء الأبد لتخبو في ظلام الياس، ولحن ينساب من أوتار الزمن ليشجي كل عابر سبيل!

يخيل إلى أنه يكن بشراً من البشر. . . لقد كان روحاً. روحاً شرب من خمرة الأسى المعتقة في دنان الشجن حتى ثمل، وكأن الأيام حين طافت عليه بكئوسها قد ثملت معه فنسيت غيره من الشاربين! وكان طيفاً: طيفاً شفه الحزن حتى لكأن الوجود مأتم كبير، ترملت فيه أحلامه ومنيت بالثكل أمانيه، فكل تعزبة في حساب الشعور، وهم لا يجدي وسلوة لا تحين!

تسألني عنه؟ لقد كان (قارئاً) من قراء الرسالة، حدثني عن نفسه يوما فكتبت إليه، وشكا إلى الحياة فأشفقت عليه، ثم لم نلتق بعد ذلك إلا في عالم الرؤى والطيوف! كل ما بقي منه سطور رأيته من خلالها رأى الفكر، وصورة رأيته من ظلالها رأى العين. . . وما تستطيع يدي بعد اليوم أن تمتد إلى رسائله، وما تستطيع عيني بعد اليوم أن تنظر إلى صورته.

ص: 39

رباه، إنني لا أخشى أن تحرقني ناره إذا ما قرأت، ولكنني أهاب نبش القبور إذا رقدت فيها الذكريات. . . ولا أن يلوعني وهج نوره إذا ما نظرت، ولكنني أفزع من رؤية الشموس إذا احتضرت على فراش الغروب!

ألا ما أعجب القدر حين يفرق بين الناس ويدفع بكل حي إلى طريق. . . بسمة ترف على الشفاه هنا ودمعة تقرح الجفون هناك، وحياة في موكب الصفو تمضي وحياة في موكب الشجو تقيم، وكأس مزاجها الشهد للسكارى وليس فيها للحيارى نصيب، وليل يقصر وليل يطول. . . وندامى. . . ويتامى. . . وفرحة يهتز منها شعور وحرقة تلتهب منها صدور، ويا جرعة الصبر في قلوب الصابرين ما أعمق مرارتك، حين يصور لك الوهم أن في التراب أكواباً من العزاء!

لقد كانت كل رسالة من رسائله تحمل إلى معنى من معاني القبر: في كلماتها كم شهدت مصرع الفكر، وفي زفراتها كم شممت رائحة الموت، وفي أناتها كم سمعت صوت النعاة. كم أشفقت أن يصبح الظن حقيقة. . . وأن أصحو يوما على وقع أقدام المشيعين!

من حمرة الشفق حيث طويت الشمس الغاربة، يصطبغ اليوم وجداني وأنا استعيد ذكرى حياة. . . حياة أشبه بحيرة الغريب دفعت به المقادير إلى دار غير داره، فكل ما فيها خواء يبعث على الشكوى ويغري بالرحيل!. . . ولكم وقفت منه موقف الطبيب من مريض تبخرت قطرات الأمل في شفائه: مبضعي الذي يفتش عن مكامن الداء قلم، ودوائي الذي يأسو جراح الزمن كلمات. وكان هذا هو كل ما أملكه. . . أعالج بالقلم ودماء القلب تنزف، وأسباب الرجاء تخيب، وزورق العمر يمخر العباب والضباب إلى شواطئ الفناء!

رباه، لقد كنت رحيماً به حين أخذته. . . لقد تحملت سنواته السبع والعشرون فوق ما يحمل طوق الأحياء من عبادك)!

وسكت الصوت المتهدج لحظات. . . ثم انطلقت صاحبته تقول: (هذه هي القصيدة التي فرغت منها منذ دقائق، ثم أعدت قراءتها عليك. . . إنها من كلمات أنت، ولكن قلمك قد استمد موضوعها من حياتي: الدموع التي شابت، والزهر الذي صوح، والروح الذي أكتهل، والإنسانية التي لا يعرفها أحد وعاشت في دنياها غريبة، وهذا الوجود الذي يبدو لعينها دائما وكأنه مأتم كبير، وهذه التعزية التي تقدمها إلى في التليفون كلما شكوت إليك

ص: 40

الحياة، وهذه الرسائل التي حملت إليك ألف معنى من معاني القبر؛ كل هذه الأشياء التي خرجت بها من أحاديثي إليك قد سطرتها اليوم على صفحات الرسالة. . . وكأني بك قد نفضت يديك من كل أمل في أن تحبب إلى الحياة، فرحت تخصني بهذا الرثاء الصادق قبل الموعد المنتظر؛ الموعد الذي طالما قلت لك عنه إنني أترقبه في الغد القريب)!

ومرة أخرى سكت الصوت المتهدج لحظات. . . وغمرت شعوري موجة من الأسى وأنا أجيبها في تأثر عميق: (الحق يا ناهد أنني لم أستمد موضوع كلمتي من حياتك، وإنما كانت هناك حياة أخرى هي التي أوحت إلى ما كتبت. . . وما أكثر الذين يشكون إلى الحياة في قصص تفيض بالدمع، وتتشابه في قصتك وقصصهم ألوان من الحقائق النفسية. حسبك يا آنسة أن تقرئي هذه القصة لتعلمي أنك لا تقفين وحدك في زحمة الوجود متفردة بالمزاج القاتم والطبع الحزين، إن لك هناك أشباهاً ونظائر، تتمثل لهم الدنيا من وراء المنظر الأسود وهي غارقة في الظلام! لو رفعت هذا المنظار عن عينيك وأنت تقرئين هذه القصة لشعت منها روحك ومضات العزاء، ولكنك تأبين إلا تنظري من خلال ضبابه إلى كل شيء. . . إلى الحياة التي تبد لعينيك مظلة وهي مشرقة، عابسة وهي باسمة، حافلة بأشواك اليأس وهي ملأى بزهور الأمل)!

وقالت قبل أن تنهي الحديث وتلقي بسماعة التليفون: (أقسم لك أنني أشعر شعوراً خفياً بأنني لن أعيش، لأن الحياة لا يمكن أن تحتمل فتاة من هذا الطراز. . . لقد كانت (قصة الدموع التي شابت) أبه بمرآة صافية وقفت أمامها طويلاً لأرى نفسي. . . وسواء قصدتني بها أم لم تقصد، فإنني سأضعها داخل إطار يضم صورتي الحقيقة التي يجهلها أقرب الناس إليّ وتعلمها أنت. . . أنت الذي شكوت إليك آلامي فلقيت منك عطف الأخ الشقيق وعرضت عليك شعري فلم تبخل عليّ بنصحك وتشجيعك. . . إن في هذا كله عزاء أي عزاء، ولكنني أقسم لك مرة أخرى أن الشعور بأن مقامي في هذه الحياة قصير، حقيقة نفسية ترسب في أعماق رسوب الإيمان بالله. . . مهما يكن من شيء فسأذكر دائما بوعدك، وهو أن تنشر (قصة الدموع التي شابت) في يوم من الأيام)!!

وماتت ناهد طه عبد البر. . . وكأنما كانت تخترق بشعورها المرهف حجب الغيب، وتنفذ بوعيها الباطن إلى ما وراء المجهول. . . ماتت دون أن تظفر من أحلام دنياها بغير هذا

ص: 41

الحلم الصغير، وهو أن ترثى بقصة الدموع التي شابت وهي في رحاب السكون والعدم!!

نشأت ناهد في أسرة كريمة، محافظة، ترعى حقوق الخلق وتتمسك بمعاني الفضيلة. . . ومن هذا الجو الذي عاشت فيه، جو التقاليد الصارمة والمثل المفروضة والقيم الموروثة، لم تستطع أن تواجه الحياة والناس بشيء من الشجاعة يتيح لفنها أن يتنفس كما يريد. . . كانت تخشى لقاء الحياة وتشفق على نفسها من ألسنة الناس، لأن المجتمع المصري في رأيها لم يبلغ من النضج الخلقي ما يجعلها تثق به وتطمئن إليه! من هنا عاشت في عزلة، عزلة مريرة قاسية فرضتها عليها ظروف التربية وطبيعة النشأة، عزلة طبعت آثارها النفسية القاتمة في أول كلمة بعثت بها إلي ونشرت في الرسالة تحت هذا العنوان:(شاعرة حائرة تسأل عن الفن والحياة). كان ذلك في العدد الصادر بتاريخ 23 مايو سنة 1949 ومن كلمتها تلك تستطيع أن تلمس صدق اللوعة وهي تتحدث إلي عن ظلم التقاليد، هذا الظلم الذي حال بينها وبين التعليم الجامعي الذي كانت تتطلع إليه، وحرمها فرصة الاتصال بالمجتمع الذي لم تعرفه إلا عن طريق الصحف والكتب والخيال!

ولا تعجب إذا قلت لك إن هذه الشاعرة الراحلة قد بلغت من الانطواء على النفس ذلك الحد الذي لم تطق معه أن يعرف اسمها أحد أو يرى وجهها إنسان، اللهم إلا هؤلاء الذين كانت تثق بهم وتلجأ إليهم في سبيل شيء من العون أو أشياء من العزاء. . . ولقد كان كاتب هذه السطور يعلم من أسرار حياتها ما لم يتح للآخرين أن يطلعوا عليه، لأنه كان موضع ثقتها في كثير من الأمور. ومع ذلك فهو لم يرها رأى العين في يوم من الأيام لأن لذلك قصة ستعلمها بعد سطور. . . قصة تطلعك على مدى خشيتها من الناس وكلام الناس، ومدى حرصها على أن تظل بمنأى عن كل ما يثير من حولها الظنون والشبهات! قالت لي يوماً في حديثها التليفوني الذي كان يطرق سمعي كل صباح:(لقد أذنت لي منذ شهور في أن أضع مستقبلي الأدبي بين يديك وأشهد لقد أخذت بيدي وفعلت من أجلي الكثير: فتحت لي أبواب (الرسالة) و (الأهرام) فقرأ الناس شعري هنا وهناك، ويا لها أبواب أمل كانت موصدة فتجدد بفتحها كل رجاء. . . والآن لم يبق لي عندك غير أمنية واحدة، وهي أن تكتب مقدمة ديواني الذي أريد أن أدفع به إلى أيدي القراء). وسكتت قليلاً ثم قالت: (لقد كنت أزور الدكتور طه حسين منذ يومين، ومع أنه كما قلت لك غير مرة يعطف عليّ

ص: 42

عطف الوالد على ابنته، فقد خشيت أن اشق عليه إذا ما عرضت عليه هذه الرغبة التي عرضتها عليك. . . ومن هنا خطر لي أن ألقاك أنت لأقدم إليك مجموعة شعري كاملة قبل أن تقدم لها بما شئت من كلمات).

وتوقفت لحظات قبل أن أقول لها وعلى شفتي ظل ابتسامة: (إنني أعلم يا ناهد أن لقاءك للدكتور طه لم تسمح به طبيعتك النفسية إلا لسبب واحد، وهو اطمئنانك إلى أن أحداً لن يظن بك الظنون إذا ما جلست إلى أديب قد بلغ مرحلة الكهولة وتخطي الستين. . . أما أنا فأخشى إذا ما علمت حقيقة سني أن تحذفي من قائمة أمانيك هذه الأمنية الأخيرة، لأنني يا أختاه لم أبلغ الثلاثين بعد)!. . . وهتفت في صوت امتزجت في نبراته الدهشة الخالصة بالأسف البالغ: ماذا؟ لم تبلغ الثلاثين بعد يا لله، ماذا كان يمكن أن يقول الناس لو أنك كتبت هذه المقدمة؟ أنت بالذات؟ إن كلمة واحدة تنطلق من لسان جاهل بحقيقتي الخليقة لكفيلة بأن توردني موارد الهلاك. . . أقسم لك أنني ما فكرت في لقائك إلا لاعتقادي بأنك في سن الدكتور طه حسين! هل تغفر لي إعفاءك من كتابة هذه الكلمة التي لن تعفيني من كلام الناس)؟

وراحت الشاعرة القديسة تعتذر إلي، معلنة عن رغبتها في أن تلقي الأستاذ الزيات ليحل قلمه محل قلمي في تقديم شعرها إلى القراء. . . ومهدت لها سبيل اللقاء حتى تم، وكان الأستاذ صاحب الرسالة ثاني اثنين رأتهما هي رأي العين قبل أن تودع دنيا الأحياء لتعيش في جوار الله!

لقد عاشت حزينة وماتت حزينة. . . هي التي كانت تسكن البيت الأنيق في حي من أجمل أحياء القاهرة، وتعيش في ظل أسرة هيأت لها من رغد العيش وطيب المقام ما لم يتح لكثير من الفتيات! ولقد كانت العزلة سبباً من أسباب حزنها بلا مراء، ولكنها لم تكن السبب الأصيل لهذا الألم الدفين الذي أحال حياتها إلى أقباس من العذاب، وانعكس على شعرها لوعة وشكاة وأمسك القلم عن أن أحدثك عن سر حزنها الحقيقي، لأنها الآن تشفق على حرمة ذكراها من كلام الناس!

وأشهد لكم وقفت منها موقف الطبيب من مريض تبخرت قطرات الأمل في شفائه: مبضعي الذي يفتش عن مكامن الداء قلم، ودوائي الذي يأسو جراح الزمن كلمات. وكان هذا هو كل

ص: 43

ما أملكه. . . أعالج بالقلم ودماء القلب تنزف، وأسباب الرجاء تخيب، وزورق العمر يمخر العباب والضباب إلى شواطئ الفناء!!

أنور المعداوي

ص: 44

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

عاصفة في المؤتمر الثقافي:

أشرت في الأسبوع الماضي إلى ما حدث في جلسة افتتاح المؤتمر العربي الثاني عندما وصل برنامج الجلسة إلى مناقشة جدول أعمال المؤتمر، إذ قامت حملة عنيفة على الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية التي نظمت هذا الجدول، ولم يسمح المقام وضيق الوقت بتفصيل ذلك في العدد الماضي.

بدأ نذير هذه، الحملة عند ما كان الدكتور أحمد أمين بك يلقي كلمته طالباً الشروع في تأليف لجان المؤتمر، إذ قاطعه الأستاذ محمد جبر قائلاً أنه يجب أن يناقش جدول الأعمال قبل كل شيء، وكان الواقف على ملابسات الحال يلمح في جو المؤتمر سحباً توشك أن تنهمر. . . وقد بدأ هذا الانهمار بكلمة ألقاها الأستاذ محمد سعيد العريان قال فيها إن جدول الأعمال المعروض ليس هو الذي كان معداً من قبل، وإن المؤتمر بناء على ذلك سينظر في غير ما حضر له، وأسند هذا إلى أن الإدارة الثقافية تستبد بالعمل دون الرجوع إلى الحكومات العربية ووزارات معارفها، وذهب إلى أن هذه الإدارة لا تمثل الدول التي ينعقد المؤتمر باسمها فليس لها أن تفرض عليها موضوعات معينة! واقترح تأليف مكتب دائم للمؤتمر تمثل فيه الحكومات العربية لينظم شئونه وأعماله.

وتكلم بعد الأستاذ العريان الأستاذ جبر، فأنتقد موضوع (التوسع في التعليم الثانوي والعالي) واقترح موضوعاً آخر هو (فلسفة التربية) يقصد منه تحديد الاتجاه الثقافي الذي ينبغي أن يوجه إليه الناشئون. ووصف الأستاذ سامي عاشور تصرف الإدارة الثقافية بالتفرد والاستبداد وأنها حلت بذلك محل المستعمرين الذين كانوا يستبدون بالأمر في توجيه التعليم بالبلاد العربية على وفق هواهم الاستعماري، واقترح موضوعاً آخر هو مكافحة الأمية في البلاد العربية. ورأى الأستاذ شفيق غربال بك أن يعدل الموضوع الأول من موضوعي المؤتمر بحيث يكون (ما العقبات التي تعترض التوسع في التعليم وما وسائل تذليلها) وأن يبقى الموضوع الآخر كما هو، وهو (الإعداد للحياة العملية)

وأوضح الأستاذ إبراهيم اللبان الفرق بين طرق التربية وروح التربية وبين أهمية الثاني،

ص: 45

ولاحظ أن الموضوعين المعروضين لا يتجهان إلى روح التربية، ودعا إلى أن يبحث المؤتمر كيفية خلق المواطن العربي الصالح.

وقال الأستاذ سعد اللبان أنه يلاحظ أن موضوعات هذا المؤتمر، وكذلك المؤتمر الأول، كلها موضوعات مدرسية، وأن هناك ما أهم من هذه المدرسيات، وهو الشؤون الأدبية والثقافية العامة، لأن الثقافة الأدبية هي الرباط المتين الذي يربط بين شعوب العرب في بلادها المختلفة، وقد كان قائماً قبل قيام جامعة الدول العربية.

وبعد ذلك قال معالي رئيس المؤتمر الدكتور طه حسين بك أظن أنه من حق الإدارة الثقافية بعد كل هذا الذي وجه إليها أن تدافع عن نفسها. وهنا تقدم الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية فأوجز الرد في أن الإدارة لم تنفرد بالعمل وإنما أشركت معها كبار رجال التعليم في وزارات المعارف بالبلدان العربية، وأن موضوعي المؤتمر وضعتها اللجنة الثقافية التي تمثل الحكومات العربية، وأن مجلس الجامعة العربية أقر جدول أعمال المؤتمر.

ولما كان الوقت قد تأخر فقد أعلن معالي الرئيس اختتام الجلسة على أن نجتمع في الصباح التالي الهيئة المشرفة على المؤتمر، وهي تتكون من معاليه ومن رؤساء الوفود الرسمية، على أن يتلو اجتماعها انعقاد الهيئة العامة للمؤتمر. وقررت الهيئة المشرفة أن يعدل الموضوع الأول بحيث يكون (ما العقبات التي تعترض التوسيع في التعليم الثانوي والعالي وما وسائل تذليلها) وأن يبقى الموضوع الثاني كما هو، ووافقت الهيئة العامة للمؤتمر على ذلك ثم أخذ في تأليف اللجان - فألفت كما ترى في (كشكول الأسبوع)

أريد بعد ذلك أن ننظر في تلك العاصفة التي هبت على الإدارة الثقافية وجدول أعمالها، وما نشرته الصحف حول هذا الموضوع والذي أراه أن الإدارة أو اللجنة الثقافية؛ لم تكن موقفه في الموضوع الأول - على نحو ما بينت في الأسبوع الماضي - بل أقول أنه موضوع غير ذي موضوع. . .

فنحن الآن لسنا بصدد البحث في التوسع والتحديد وبأيهما تأخذ؛ وما هي خطة ذاك؛ وما الغرض من هذا؛ فقد انتهينا إلى أنه لابد من تعليم الناس جميعاً.

وأرى أيضاً أن الموضوعين تافهان وأوافق المعترضين على أن الموضوعات التي اقترحوها أهم من هذين الموضوعين؛ ولست أدري - كما قال الأستاذ سعد اللبان - لماذا

ص: 46

يقصر المؤتمر أعماله على الموضوعات المدرسية ولا يهتم بالثقافة العامة. ويظهر أن اللجنة الثقافية عندما وضعت موضوع (التوسع في التعليم) أو وافقت عليه؛ لم يكن في حسبانها أن الإدارة الثقافية ستفرغ من التحديد ونسأل عن خطط التوسع. ولو أن الإدارة تفادت هذا الوضع الشائك الذي أثار الاعتراض لما ترتب على ذلك أن تغير الموضوع وصار موضوعا آخر لم يسبق له تحضير.

ولكن هل الإدارة الثقافية حقاً انفردت وارتجلت واستبدت. . . وهل حقاً أيضاً أنها لا تمثل الحكومات العربية؟

هناك هيئات ثلاث: اللجنة الثقافية والمكتب الدائم يتألف من الملحقين الثقافيين بالمفوضيات العربية بالقاهرة. أما الإدارة الثقافية فهي هيئة منظمة وهي قسم من أقسام الأمانة العامة للجامعة. نرى ذلك أن هذه الهيئات ممثلة للبلاد العربية تمام التمثيل، وهو لهذا لم تتعد اختصاصها، ولم تعمل عملاً كان يجب أن يقوم به غيرها، وليس معنى توجيه المؤاخذة إلى عمل من أعمالها أنها دخيلة عليه منصوبة له بغير حق.

وثمة ثلاث ظواهر تلاحظ في هذا الموضوع، الأولى أن الحملة جاوزت حد القياس المعقول فقد بدت الرغبة في الهدم والمعارضة بالحق وبالباطل، وتتابع في الكلام المتحمس الثائر جماعة ممن إذا دعوا لم يسألوا لأية حرب أو بأي مكان. والظاهرة الثانية هي انحصار هذه الحملة بين الأعضاء المصريين، فلم يشترك فيها أحد من سائر الوفود العربية، بل وقفوا منها موقف المشاهد المتفرج، يستغربون أحياناً، وأحياناً ينطبق عليهم القول المأثور (من يسمع بخل) فيوجهون اللوم إلى الإدارة الثقافية حتى فيها لا تملكه، أولئك الذين تتملكهم شهوة الكلام فيهرعون إلى المنصة ليخطبوا. ولا يدري أحد ماذا يريدون.

أما الظاهرة الثالثة - وهي ثالثة الأثافي - فهي ما نشرته بعض الصحف أخباراً وتعليقات. نشرت هذه الصحف أولا أن وفد مصر هدد بالانسحاب من المؤتمر، مع أن المسألة لم تعد ملاحظات من جانب الوفد وقبول لهذه الملاحظات من جانب الإدارة الثقافية، فلم يصل الأمر إلى أزمة ولا إلى تهديد بانسحاب. والعجيب أن جريدة كبيرة متزنة كالأهرام تخرج على ما عرفت به فتنشر أخلاطاً من الكلام تصور الموقف على غير حقيقته، إلى ما فيها

ص: 47

من الخبط الأعشى، فمما قالته أن الجانب المصري غير راض عن طريقة تأليف اللجنة الثقافية وأعمال الإدارة الثقافية، وأن وزارة المعارف تبحث الآن أمر الموظفين الذين يمثلون مصر في اللجنة الثقافية والإدارة الثقافية على أساس أن وجودهم في هذه المناصب لم يعد متفقاً وسياسة الوزارة في الوقت الحاضر!

ليس هناك موظفون في اللجنة الثقافية يمثلون مصر، حتى تفكر وزارة المعارف في أمرهم، فموظفو الإدارة الثقافية تابعون للأمانة العامة وهم كسائر موظفيها لا يخضعون للحكومات، أما اللجنة فتتكون من أعضاء لا من موظفين. ومن ذلك الخلط أن يقول المراسل إن تأليف لجنة للثقافة العربية يعد تجاهلاً سافراً للجنة الثقافية بالجامعة العربية! واللجنة الأولى من لجان المؤتمر ألفت لبحث موضوع معين، فأين هي من اللجنة الثقافية العامة الدائمة؟

والخطير في الأمر أن تصور وزارة المعارف على أنها خصم للإدارة الثقافة. وليس هذا معقولاً ولا لائقاً. فوكيل وزارة المعارف الأستاذ شفيق غربال بك هو الذي يرأس اجتماعات اللجنة الثقافية. ومما يذكر أن معالي وزير المعارف يبدو على كرسي رياسة المؤتمر فوق كل هذه المنازعات، وهو يدير الجلسات بروح ودي للجميع.

وقد عرض على المؤتمر قرار الهيئة المشرفة بصيغة الإقرار لجدول الأعمال كما أعدته الإدارة الثقافية، ولكن بعض الأعضاء ثاروا وأبوا إلا أن ينص على أن الجدول عدل، فكان عند رغبتهم، هذا يدل على حيدته بل على مجاملته للإدارة الثقافية.

بقي أن أسأل: من الذي يوحي إلى مراسل الصحف وإلى فرسان المعارضة في المؤتمر بأن وزارة المعارف جبهة ضد الإدارة الثقافية؟ هل هناك تدبير لهذه الحركة أو هي حركة (شيطانية) وأن كل تلك الظواهر محض اتفاق؟!

محاضرات المؤتمر:

كانت أول المحاضرات العامة التي نظمها المؤتمر الثقافي، محاضرة الدكتور عبد الوهاب عزام بك في (تحقيق موضع سوق عكاظ) وقد ألقاها يوم الأربعاء الماضي. قال فيها أنه بحث أثناء إقامته بالحجاز عن موقع سوق عكاظ، وقد هداه البحث إلى موضع يقع جهة الشرق من الطائف على مسيرة يوم منها وثلاثة أيام من مكة، وقد طبق على هذا الموضع

ص: 48

ما ورد في الكتب من أوصاف سوق عكاظ، فوجدها مطابقة له.

وألقى بعده الدكتور محمد البهي محاضرة موضوعها (الطابع القومي في الثقافة الأزهرية) شرح فيها مذهبي القومية والعالمية اللذين يختلف فيهما علماء التربية، وأورد حجج كل من الفريقين ثم رجح مذهب القومية، وخلص من ذلك إلى تأييد جانب الدراسات الإسلامية والعربية التي يقوم بها الأزهر باعتبارها الثقافة القومية التي يجب أن تسود. ويخيل إلى أنه اضطر إلى ترجيح القومية ليخلص إلى هذه النتيجة، وما أراه كان بحاجة إلى ذلك، فالإسلام دين عالمي، ودعوته دائمة عامة، وإذا كانت المذاهب الاجتماعية والسياسة السائدة في العصر الحديث تدعي لنفسها صفة العالمية وتدعو العالم إلى اعتناقها، فكذلك الإسلام من حيث هذه الناحية.

وألقى أستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات محاضرة يوم السبت عن (حاضر الأدب العربي) وقد حلي بها صدر هذا العدد من (الرسالة).

وألقى بعده الأستاذ واصف البارودي محاضرة عنوانها (الشباب وأزمة الثقافة) وقد عرف فيها الثقافة بأنها التوازن بين الناحية العملية والناحية النظرية، وعندما سار في المحاضرة لم يأبه لهذا التوازن، بل رجح الجانب العملي، فقلل من قيمة العلم والذكاء بالنسبة إلى العمل والمهارة فيه، وذهب إلى أن الذي لا يوافق قوله عمله لا يعد مثقفاً مهما كانت معلوماته وذكاؤه. وقد غالى الأستاذ في ذلك، حتى خلناه يعد الثقافة من الحرف والصناعات وحتى أنه عندما بين مظاهر أزمة الثقافة عد منها (البطالة) وكان الأستاذ يرتجل في أسلوب لا بأس به، ولكن لو أنه كتب المحاضرة لكانت أجزاؤها وأفكارها أوثق ارتباط وأكثر تنسيقاً.

عباس خضر

ص: 49

‌البريد الأدبي

فكاهة

خمس وست، سبعة أو تسعة قولان؛ قالهما الخليل وثعلب!

كتب الصديق المحترم الدكتور محمد يوسف موسى، في (الأهرام) يقترح:(توحيد المدرسة) وقام الأزهريون وقعدوا، وانشعبوا فريقين، بين ناقد، ومؤيد، بتحفظ وبغير تحفظ. . . وما أشد شهوة الكلام عند المثقفين بعامة، وعند الأزهريين بخاصة! وكتب خبيث في عدد 893 من الرسالة بتوقيع (أزهري عجوز) وكان رأيه:(سمك لبن تمر هندي)؛ ويعلم الله ما أراد بمقاله وتوقيعه، على أنه أصاب بعض هدفه، عامله الله بما يستحق!

وأرجو أن تسمح لي الرسالة، فأدخل - لأول مرة - خصماً ثالثاً في قضية الإصلاح الأزهري، في إيجاز (برقي) خاطف:

فكرة (توحيد المدرسة) بتعليلاتها الحديثة، فكرة قديمة؛ خامرت أول من خامرت، المغفور له الإمام المراغي، في مشيخته الأولى، وهم بتطبيقها فعلاً، ثم بدا له. . . ونستغفر الله من أنا كنا من دعاتها ومحبذيها! ذلك بأن المدرسة المدنية في شتى أنواعها، ما تزال في طريق الإصلاح والتهذيب، وما تزال أكثر نظمها في حاجة إلى إعادة النظر؛ وما تزال تستهدف لضروب من النقد لا تقل في قوتها عن نقد الإصلاح الأزهري في أسوأ ضروبه

على أننا لو سلمنا بصلاح الفكرة، لن نسلم أبداً أبداً أبداً، بأن الظرف الحاضر، ظرف مناسب للدعوة إليها، ولا للاستجابة لها! أليس كذلك يا دكتور موسى؟!

وفي النفس حاجات، وفيك قطانة

سكوتي جواب عندها وسؤال.

وقرأت في عدد الرسالة 894 مقالين لتلميذين من تلاميذي: أولهما: اللغة العربية والإسلام في الداغستان، لولدي النابه النبيل الأستاذ برهان الدين الداغستاني خريج كلية اللغة العربية؛ وثانيهما: الأزهر والاتجاه الحديث في التربية، للطالب في معهد التربية من كلية اللغة العربية ومن أبنائي المعمرين. . .!

وبمقدار فخري بالأول، كان خجلي للثاني. . . وهو الذي ذكرني بالبيت الذي جعلته عنواناً لهذه الكلمة؛ ونصيحتي إلى ولدي الأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد، أن ينجح أولاً ثم يكتب بعد أن ينجح إن شاء الله في الدور الثاني. في إصلاح الأزهر، وأطمئنه على أن الأزهر

ص: 50

لن يصلح قبل نجاحه أبداً، ولا في طيارة والأستاذ عبد الحليم أولى الناس بقبول نصيحتي، إذ تجمعني وإياه فوق رابطة كلية اللغة والأزهر، رابطة (البلديات)!

أما بعد، فلعل خير ما أختم به هذه الكلمة، أن أضرع - في رجاء - إلى كل كاتب في (إصلاح الأزهر) أن يرحم الأزهر وأهل الأزهر المساكين، ومن هذا الهوان الذي يصب على عمائمهم كل يوم باسم (إصلاح الأزهر) من طلال معاهد الإقليم، ومن أولاد (الكتاتيب) ومن أمثالي الجهلة الذين يرون الإصلاح كل الإصلاح في (إلغاء العلم) حتى يستريحوا من طلبه، ومن كد المعاناة في تحصيله! وأنا مع هذا الفريق، ولكن لا يسمع لقصير رأي! إذ ليست الصحف مكاناً مختاراً، لعرض الآراء في الإصلاح.

بقي أننا لا نستطيع أن نطلب إلى جميع الصحف أن تسعدني في إغلاق هذا الباب؛ ولكن آمالنا في الرسالة بخاصة تضاعف ثقتنا في أنها ستتردد طويلاً، قبل أن تسمح بالنشر في هذا الموضوع لكاتب، يسمو مثلي بنفسه عن أن ينزل إلى مساجلته والرد عليه.

وأكون شاكراً لو تفضلتم بنشر كلمتي هذه - حرفياً - تحت مسئوليتي.

عبد الجواد رمضان

المدرس في كلية اللغة العربية

إلى الأستاذ عباس خضر

قرأت في (الرسالة 887) بشغف الآراء المتبادلة بينك وبين الأستاذ سيد قطب فوجدت خلالها ما تشوبه وما يشوبه من ألم حين يقارن الشرق المتلكئ بالغرب المقدام.

وأظن وصف الشرق (بالمتلكئ) والغرب (بالمقدام) هو وصف عادل منطبق على واقع، على رغم الأوصاف المتداولة على الألسن عن روحية الشرق ومادية الغرب. فالذي شاهدته في الوطن المسكين وما أراه هنا، في طباع الناس واتجاههم في الحياة ومقدراتهم في الذكاء. . . يدفعني أن أقول جازماً ألا فرق بين الرجلين. أما الثروات الطبيعية فيوجه منها في الغرب ما يوجه مثلها في الشرق.

على أن الفرق الذي يلفت الأنظار هو أن كل فرد في أمريكا خادم إن لم يكن للمجتمع فهو لنفسه؛ أما هناك فكل فرد سيد. . على الجميع. . إلا على نفسه!!

ص: 51

فالأمريكي، مهما بلغت درجته ومنزلته، فهو عامل يشتغل في محل ما، أو بشيء ما ولا زلت أذكر (بول) الذي كان يغسل معنا الأواني ويكنس الأرض. وهو عميدنا ببحيرة (تاهو) ولم نعرف أنه دكتوراه في الفلسفة؛ وكان صعباً علينا، بعدئذ، ان نسميه باسمه الأخير دكتور رينولد (بعد أن تعودنا مخاطبته باسمه الأول (بول). ولن أنسى طبيب الأسنان المتقاعد في (مزولا) بولاية (منتانا) الذي كان يجمع الأخشاب الطافية في النهر ويعدها للحرق في الشتاء!

هذه بعض الأمثلة عن أمريكا. . فماذا عن الشرق؟

سلام على العراق وأهله. فلا زلت أسال أصحابي عن أصحابي فإذا فلان (بطال) والآخر (لم يجد عملا إلى الآن) والثالث (ينتظر. . .). وأذكر أن بعض طلاب إعدادية التجارة وهي مدرسة داخلية ببغداد كان يجد حطاً من كبريائه إن هو غسل الشوكة والملعقة التي يأكل بهما. . والطالب الأمريكي يكمل دراسته الجامعية ونفقاته على الأجور التي يحصل عليها من غسل الأواني في مطعم أو تنظيف السيارات في محطة بنزين!

وهذا (العمل) هو الذي جعل الفلاح الأمريكي يحصد زرعه بالقوة المكانيكية، ويحلب الأبقار بالكهرباء، ويفرق بين الحليب والقشطة بالكهرباء، ويملك ثلاجة وراديو أو تلفزيون وسيارة ومكائن للزرع والحصد. . . ويملك بعضهم الطائرات لرش البذور أو المساحيق قاتلة الحشرات بواسطتها على أرضه. . . والفلاح العربي المسكين لا يزال يستعمل الآلات التي استعملها أجداده قبل ألف سنة!

الفروق بين الشرق والغرب كثيرة تتلخص بكلمة واحدة: العمل. . العمل بأي شيء مهما كانت درجة الفرد؛ وبغيره لا يمكن الاستفادة من (الرصيد) المكنوز.

ترى هل يقتبس الفرد العربي والشرقي من الفرد الغربي اليوم كما أقتبس الغربي بالأمس؟

وبعد فإشارة قصيرة إلى الأستاذ قطب. . . إننا نسمع بين مدة ومدة همسات على صفحات الغراء ولم نتشرف بلقياه على قرب المسافة بيننا وبينه. . أيتفضل الأستاذ بإعطائنا عنوانه بواسطة هذا العنوان:

بركلي - كاليفورنيا

محمد تقي مهدي

ص: 52

‌القصص

قصة من دون عنوان

مترجمة عن تشيكوف

بقلم الأديب كارنيك جورج

تشرق الشمس عند الصباح، فتقبل أشعتها الأنداء ن وتعيد إلى الأرض الرونق والبهاء، فيمتلئ الجو بترانيم البهجة والآمال. وما إن يأتي المساء فتغرب الشمس حتى تلتف الأرض بالسكون وتغرق في لجة الظلام.

هكذا الأيام تمضي أبداً متشابهة، وبين حين وآخر تهب العاصفة أو يقصف الرعد أو يدوي صوت تهاوى نجم من نجوم الفلك، أو ينطلق أحد الرهبان في ليخبر رفقاءه عن نمر شاهده قرب الدير! وهذا أغرب ما يحدث. . ثم تتابع الأيام متشابهة. .

كان أكبر الرهبان في الدير يحب العزف على القيثار وقرض الشعر اللاتيني في إجادة فائقة. وحين يعزف على قيثاره يخلب الباب سامعيه من الرهبان، حتى أن الذين أضعفت الشيخوخة حدة أسماعهم كانت الدموع تتبلور في مآقيهم عند سماعه. وفوق هذا يمتاز هذا الأب بظاهرة أخرى، فهو إذا تحدث ملك المشاعر وجذب الأسماع حتى ولو تحدث في أتفه الأشياء. إذ تتغير سحنته حتى تبدو كأنها تفصح عما يريد قبل أن يقول ما يريد بلسانه. فيحمر وجهه، وترتفع نبرات صوته، فيصمت الرهبان مأخوذين، وهم يشعرون بسيطرة هذا الأب عليهم، ولا يريدون منها خلاصاَ، بل يتركون زمام أنفسهم لصوته كيفما يريد.

في بعض الأوقات يدب الملل في قلوب الرهبان، ويسأمون رؤية الأشجار والورود، والخريف والربيع، وتمل أسماعهم هديل الطير وخرير الماء، بيد انهم لا يسأمون غناء هذا الأب ولا يملون أحاديثه!

مضت أعوام كثيرة والرهبان يعيشون حياة مستقرة ولا جديد فيها. في ديرهم البعيد عن مساكن الأحياء بمقدار سبعين ميلاً أو أكثر. لذا فلم يقترب من الدير غير الطيور البرية والحيوانات المختلفة، أما أبناء آدم فلا يقترب منهم إلا من زهد في الحياة وتاق إلى تلك الحياة الشبيهة بالموت.

ص: 54

في ذات ليلة ردد الدير صوت دقات على الباب! فإذا رجل يدلف إلى الداخل؛ فتبين الرهبان من منظره أنه من المدينة، وانه من محبي تلك الحياة الصاخبة فاشتد عجبهم وقبل الصلاة والتماس بركات الأب الأعلى طلب الرجل بعض الطعام والنبيذ، فأتوا له بما طلب، وإذ سألوه عن سر قدومه إلى الدير، قص عليهم قصة طويلة. ذكر فيها أنه خرج للصيد فأمعن في السير أوغل في الصحراء حتى ضل طريقه، واهتدى إلى الدير. وإذ ذاك شرع الرهبان يرغبونه في البقاء معهم، بيد أنه أجابهم وهو يبسم:

- أنا لا أصلح لهذه الحياة

وبعد أن أكل وشرب، نظر حوله وتأمل الرهبان القائمين على خدمته ثم هز رأسه وقال: - أنكم أيها الرهبان ليس لكم غير الأكل والشرب، والصلاة والعبادة. فهل هذا هو سبيل الحياة؟ وهل بهذه الطريقة تريدون محاربة الشر والرذيلة؟ وانتم منزوون في هذه الصحراء؟. . . فكروا قليلا في وضعكم الحالي، فأنتم تقيمون بعيداً لا يشغل بالكم شيء تأكلون وتشربون وتمرحون، وتعيشون سعداء في حين يتردى سائر الناس في المهالك، ويتعثرون في طريق الرذائل، ويمضون وراء الشيطان ذلك الذي تحاربونه! ينبغي لكم أيها الآباء أن تمضوا إلى داخل المدينة، وتقفوا بأنفسكم على ما يحدث فيها. إنكم سترون الجائعين والمساكين إلى جانب الناعمين المترفين الذين يتهالكون على الرذائل والفجور! حتى لقد خمد في قلوب الناس نور اليقين فخلت نفوسهم من الأيمان! من المسئول عن هذا كله. ومن الذي يجب أن يرشدهم ويهديهم إلى السبيل القويم؛ أنا لا، بالطبع، فأنا مثلهم ولست ارفع منهم أبداً.

ارتفعت كلمات الرجل الغريب جارحة ساخرة. فأثرت تأثيراً كبيراً في نفس الأب الأعلى. فتغير لون وجهه وقال يخاطب الرهبان:

انه يقول الحق أيها الإخوان، فالواقع أن الناس هناك قد ضعف إيمانهم بالله، فانغمروا في الخطايا، فيجب أن أذهب إليهم واقوي إيمانهم واذكرهم بأقوال المسيح عليه السلام

وفي اليوم التالي تناول الأب الأعلى عكازه وودع أصحابه وتلمس الطريق إلى المدينة؛ تاركا سائر الرهبان محرومين من شعره وموسيقاه وأحاديثه الطلية، فقضوا شهراً مملا مضجراً، ثم قضوا شهراً آخر دون أن يعود إليهم الأب الأعلى حتى كادوا ييئسون من

ص: 55

عودته، وبعد انقضاء ثلاثة اشهر ردد الدير صوت دقات الباب فهرع الرهبان إليه، وأحاطوه من كل جانب يسألونه ويستفسرون عن سبب تأخره ولكنهم فوجئوا إذ رأوه يبكي. . دون أن ينبس ببنت شفه! وكأن في وقفته وفي هيئته يبدو كأنه غاب سنين عديدة وانه عاد بالرغم عنه ولكن الرهبان لم يفطنوا إلى ذلك فبكوا لبكائه وترفقوا في التحدث معه، فإذا هو ينسل من بينهم، ويدخل صومعته الخاصة، ويبقي سبعة أيام فيها دون أن يأكل أو يشرب ودون أن يقطع عن البكاء. وكان طيلة تلك المدة يقابل توسلات الرهبان بالإعراض والصمت. بعد ذلك خرج إليهم وتوسطهم ثم طفق يروي لهم ما شاهد في المدينة، ووجهه يعبر عن حزن عميق قال لهم أنه حين فاق الدير صافح أذنيه صوت الطيور التي أنشأت تغني له وتتطاير حوله، فجاشت في نفسه أحلام الشباب وآمال الصغر، فراح ينظم الشعر ويغنيه. وهو يخال نفسه جندياً يذهب إلى معركة الفوز فيها مضمون لا شك فيه. حتى أنه لم يشعر بأي تعب عندما دخل المدينة. . .

وخفت صوته ولاح بريق الحنق في عينيه عندما أخذ يتحدث عما لاحظ في تلك المدينة، وقال أنه رأى ما لم يكن يتصور أبداً طيلة حياته. فقد بدت له قوة الشيطان بأوضح معالمها. . . وتكشفت له فتنة الشر وتوقف على ضعف الإنسان وحيوانيته وجنونه. . .

فقد دخل أول ما دخل المدينة أحد البيوت التي تعج بأوضع الرذائل! فرأى نحو خمسين رجلا يأكلون ويشربون بنهم شديد وإذا لعبت الخمر برؤوسهم أرتفع أصواتهم تضج بأغنية مثيرة الكلمات وقحة المعاني! فبدوا للراهب الزاهد كأنهم لا يخافون الله ولا الشيطان ولا حتى الموت! فيغرقون في المجون إلى أبعد حد ممكن.

حتى النبيذ بدا للراهب كأنه يبسم لابتساماتهم. ويضحك لضحكهم وانه يشاطرهم ذلك المجون السائر الوضيع. فقد كان يزداد إشراقاً ولمعاناً كأنه يشعر بالفتنة الكامنة في أعماقه. فلا بد أنه كان حلو المذاق لذيذاً؛ يسطع بالروائح الذكية.

استشاط الأب الأعلى غضبا وانقدت عيناه واستطرد يقول أن ثمة امرأة نصف عارية وقفت وسط أولئك السكارى تتضاحك وتتراقص وتكشف عما أمر الله بستره، وتبدي جمالها الرائع وكانت سمراء اللون ممتلئه الشفاه لا تعرف اسم الحياء ولا معناه تتضاحك في وقاحة كأنها تقول (أيها الناس لا تخجلوا، إن حجابي فريد في نوعه) ثم راحت تشرب الخمر

ص: 56

وتغني وتمنح نفسها لكل من يمد يده إليها.

توقف الأب الكهل، وهز قبضة يده وشرع يصف ساحات سباق الخيل ومصارعه الثيران ودور التمثيل وأماكن الرسامين الذين يرسمون النساء العاريات كما ولدنهن أمهاتهن. . واستمر يتكلم بلهجة متدفقة ساحرة الجرس، حتى جمد الرهبان وتملكهم تلك السيطرة التي تتملكهم كلما سمعوا أحاديث هذا الأب. . . وبعد أن تكلم الأب الأعلى عن أوكار الشياطين وأماكن الشرور أو بين جمال المرأة المخيف المريع، وعاد يسب ويشتم أو يصب اللعنات على الشيطان مصدر كل هذا الوبال. ، ومن ثم قام ودخل صومعته وأقفل الباب خلفه!

وعندما ما فتتح الباب وخرج من صومعته في صباح الغد بحث عن إخوانه الرهبان فلم يجد لهم أثراً. فقد هرب الجميع إلى المدينة!

بغداد

كارنيك جورج

ص: 57