الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 897
- بتاريخ: 11 - 09 - 1950
الدفاع عن الثقافة العربية
للأستاذ عمر حليق
- 1 -
ليست الثقافة العربية وحدها مهددة (بأدب اللذة) و (أدب المجون) الذي أصبح يؤلف الجزء الأكبر من الثقافة الأمريكية المعاصرة وبفرض ديكتاتورية على الثقافات الأخرى في مواصلات فكرية سريعة أسبابها مثقفة وأساليبها على غاية من الدهاء الحذق لأنها مستمدة من أحدث ما أنتجه علم النفس وعلم النفس الاجتماعي من دراسات نظرية وتطبيقية.
فلئن دوت في العالم العربي الآن صرخات لمقاومة هذا التحدي الثقافي الذي أعرب عن خطورته على الأخلاق والفضيلة لجماعة كبار العلماء وعن إفساد للذوق والإنتاج الأدبي كتاب لهم في حاضر الأدب العربي مكانة ونفوذ كالأستاذ الزيات - لئن دوت في العالم العربي هذه الصرخات فما ذلك إلا لأن ذيول هذا الاتجاه قد تخطت نطاق الحلقات الخاصة من أهل الأدب والفن إلى المجامع العامة فأخذ ينفذ إلى صلب التكوين العقلي والنفساني لجمهرة القراء والكتاب، ويترك أثره السيئ في صميم الأوضاع السياسية والاجتماعية للشعب الغربي بالإضافة إلى تعريضه تراث الثقافة العربية العريقة لفقدان ما حافظت عليه من مقدمات أصيلة أكسبتها هذه المكانة التي تحتلها بين ثقافات الأمم.
والذي يعيننا من هذه الكلمة دراسة عناصر الثقافة الأمريكية المعاصرة فهي المسؤولة عن هذا التحدي الذي تواجهه الفضيلة والفن في العالم العربي، فهذه العناصر هي المصدر الرئيسي للدكتاتورية التي تفرضه على الثقافات والاتجاهات الفكرية الأخرى (هوليود) وآلة دعايتها الجبارة التي من (دواعيها عامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد). . ومن دواهيها أنها تلفظ أهلها على ساحل الحياة فلا يخوضون العباب ولا يغوصون على الجوهر، وتدفعهم إلى هامش الوجود فلا يكون لهم في متنه مكان مرموق ولا شأن يذكر)
وليست المسألة قضية (جمود) و (رجعية) و (محافظة) فأن هذه الكلمات على ما لها من مكانة أصيلة في التكاتل الاجتماعي أصبحت الآن كالجذام يتجنب الناس لمسها والاقتراب منها، إنما القضية تتعلق بتراث عريق يقف موقفها سلبياً إزاء أخطار تهدد أسسه وتدفعه إلا الانحطاط: وتلفظ أهله على ساحل الحياة).
ليست الثقافة العربية وحدها هي التي تواجه هذا التحدي. فلقد قام في الآونة الأخيرة بعض أئمة الفكر الفرنسي المعاصر يحملون لواء النقد اللاذع للثقافة الأمريكية وللفجر والتبسط والتبذل التي يشوبها - أو على الأقل يشوب ألوانها التي تجد سبيلها إلى صحافة العالم ومجلاته ومنها الشرق العربي - فكتب (فرانسوا مورياك (سلسلة من المقالات التحليلية العنيفة في (الفيجارو يصف الثقافة الأمريكية بأنها (تشكل في غزوتها الثقافية للثقافة الفرنسية العريقة خطراً لا يقل عن خطر المادية الماركسية) وساند مورياك كاتب فرنسي عنيد هو (أندريه زيجفريد) فعزز رأيه وتناول بالنقد والتحليل المقارن ذيول هذا الخطر الداهم وعواقبه على الإنتاج الفكري وصميم المصلحة السياسية والاجتماعية للشعب الفرنسي.
حتى (جون بول سارتر) وهو من دعائم أدب اللذة ثار على الثقافة الأمريكية ثورة لم يكن مبعثها انتقاد عناصر اللذة والمجون التي تهيمن على إنتاج أمريكا الأدبي والفني فحسب، وإنما مبعثها تحليل لوضعية الثقافة الفرنسية ومواقف الضعف والقوة فيها إزاء هذا التحدي الأمريكي، ولم يكن في موقف سارتر هذا شيء من التناقض؛ فالرجل صاحب مدرسة في الأدب والفن، المجون واللذة من أصولها؛ ولكنه فوق ذلك مثقف فرنسي يأبى إلا أن تكون مدرسته وثقافته أصيلة لا تقلد، وعريقة لا تستعير، وعميقة لا تنساق في موكب القشور والسطحية والابتذال التي يبدأ في هوليود وينتهي في أكثر شعاب الأرض.
ولقد أقر البرلمان الفرنسي مؤخراً قانوناً - يمنع استيراد (الكوكاكولا) من أمريكا، لأنها من العناصر التي تؤثر في أسلوب الحياة الفرنسي. وكان البرلمان الفرنسي في هذا القرار جاداً وليس بهازل. فقد عبر عن مخاوف الفرنسيين في أن يفقدوا العناصر والمقومات التي تحفظ للمجتمع الفرنسي طابعه ويصون له مكانته بين الثقافات الإنسانية.
وأمثال مورياك وزيجفريد وسارتر كثيرون في بريطانيا. فالبريطاني أديباً كان أو سياسياً أو من رجال الأعمال يحمل في نفسه نفوراً للكل ما يمت إلى العقلية الثقافة الأمريكية بصلة وهذا النفور لا يستره ولا ينسيه تحالف بريطانيا مع أمريكا في عالم السياسية والاقتصاد.
وندر أن تقرأ كتاباً أو بحثاً بريطانياً في السياسية أو الأدب أو الاقتصاد أو شتى مظاهر الفكر إلا وتلمس هذا الاستخفاف بالثقافة الأمريكية والنفور منها نفوراً لا قبل للبريطانيين
بدفعه. وقد أعرب (هارود لاسكي) عن هذا النفور البريطاني في دراسته القيمة للديمقراطية الأمريكية التي صدرت قبيل وفاته. وكذلك فعل (جفري نمورا) في كتابه عن (الخلق الأمريكي) الذي صدر منذ عامين.
إذن فحملة (الزيات) وأقرانه وكبار رجال العلماء والذين يشاركونهم في الرأي للدفاع عن الفضيلة والفن هي حملة صادقة.
فالمرء يولد في ثقافة تتشعب أصولها في تكوينه العقلي ونشاطه الروحي وحياته الاجتماعية. وهذه الثقافة عزيزة عليه لأنها توفر مستقبلاً ينفث فيه ذلك النشاط.
والثقافة الحية تعيش في جماعة حية ترى في ثقافتها إمكانيات تنطوي عليها ما تفور به نفس تلك الجماعة من انفعالات ومثل وقيم.
وهذه الأوضاع النفسانية تختلف باختلاف الجماعات وذلك لأسباب بيولوجية وتاريخية تشمل البيئة والوراثة والمقدمات الخلقية وما شاكلها في هذه الوجوه التي تنفرد بها الجماعات عن بعضها البعض.
وللثقافة الحية إذا شاءت أن توفر لنفسها حياة التقدم والرقي أن تسلك سلوكاً قومياً فتحتفظ لنفسها بالسلطة الفكرية والسيادة الثقافية بحيث تهيئ للمفكر والفنان ورجل الدين أن يقوموا بوظائفهم في تغذية تلك الثقافة بشتى عناصر الحياة والنمو.
وعناصر الحياة والنمو هذه لا تكون بالاستعارة والمحاكاة والتقليد الأعمى، بل باستيعاب الأسس العريقة التي بنيت عليها ثقافة الفنان والمفكر ورجل الدين واطلاعه على ثقافات الأمم الأخرى، فيختار منها ما يستسيغه ذوقه وما يهضمه عقله فيتطعم بها ثم يقدمها إلى ثقافته الوطنية مساغة منقحة على النحو فعله بناة الثقافة العربية حين اتصلوا بحضارات الإغريق والفرس والرومان، وكما فعله بناة الثقافة الأوربية حين استساغوا من الثقافة الإسلامية في القرون الوسطى وما بعد.
أما إذا فقدت الجماعة حولها إزاء هذا التقليد الأعمى الاستعارة والمحاكاة الضالة فقل على ثقافتها السلام.
وفقدان الحول يكون بواحدة من اثنتين: أما أن تكبت ألسنة المفكرين وحفظة الدين وأهل الفن كبتاً كما فعل أتاتورك الأتراك فأفقد ثقافتهم طابع الحياة والنمو، وإما أن يقف من أهل
العلم والفن. موقفاً سلبياً أمام نشاط المقلدين والمحاكين ويتركونهم يعيشون بالثقافة القومية وخصائصها ومقدماتها العريقة فساداً في غير وعي ونباهة.
ولقد صدق (فرانز كافكا) حين قال (إن المثقف في الدولة الديمقراطية نائب يحمل لواء الدفاع عن مقومات الثقافة وجوهرها ويصونه من عبث العابثين؛ حتى ولم يوله أحد هذه النيابة. فالدفاع عن الثقافة واجب وطني كالواجب السياسي والاجتماعي. بل الواقع أن النيابة الثقافية أهم أنواع الالتزامات القومية شأناً؛ أنها المصدر الذي يستمد منه السياسي دهاءه، والاقتصادي كفايته، والجندي معنويته واستعداده، والمصلح الاجتماعي مواد الخام)
وفي عنق الخاصة من الكتاب والباحثين من أهل الثقافة أمانة مضاعفة إزاء موجات العبث والتحدي. فالكاتب إذ ينشر في الناس آراءه وانطباعاته وزبدة اختباره وتجاربه يعد مسؤولاً عن كل شيء كما قال سارتر، عن الحب والموت والكيان الاجتماعي والحياة السياسية والمشاكل الاجتماعية وشتى أنواع النشاط الإنساني. وريشة الفنان وقلم الكاتب وحديث المعاصر مهما تقيدت بالانفعالات النفسية الخاصة ليست في الواقع إلا دعوة إلى معالجة ذلك النشاط الإنساني. والشاعر حيث يتغنى بجمال الحياة أو ينعي بؤسها إنما يعد نفسه مسؤولا عن إطلاع الناس على ذلك الجمال أو البؤس.
فحين كتب تولستوي قصته الخالدة عن (الحرب والسلم) كان يعد نفسه مسؤولاً عن الحرب وشرورها. وقل مثل ذلك من المعري في (لزوميائه) وفي جوته في (فاوسته) وفي الفارابي (في مدينته الفاضلة).
وسواء صارح الكاتب أو الفنان نفسه بهذه المسؤولية وصارح بها الناس أو لم يصارح فهذا ليس بالأمر المهم. إنما المهم أنه أنتج ونشر في الناس وبذلك عبر - واعياً أو واع - عن مسئوليته في القالب الذي يستعذبه وفي الأسلوب المحبب إلى نفسه وعواطفه ومشاعره.
فكيف إذن يقف الخاصة من المثقفين موقفاً سلبياً إزاء هذا العبث الذي يفسد كيان الثقافة التي يعيشون فيها والأسس والمقدمات العريقة التي استمدوا منها نيابتهم ومسئوليتهم؟
وقد برر (أندريه زيجفريد) انتقاده للتيارات الأمريكية التي تعصف بالثقافة الفرنسية فقال (إن الثقافة الفرنسية لا تستطيع مواجهة هذه التيارات في قوة ومناعة إلا إذا أستشعر المثقفون الفرنسيون مسئوليتهم. فالثقافة لا تحفظ طابعها أو مقوماتها العريقة إلا إذا صمد لها
العارفون بها المؤمنون بعزتها المحبون لها من أبنائها الخلص)
والتصدي للتيارات الأجنبية يتطلب مزيداً من الدفاع وقسطاً أكبر من الحماس والنشاط حين تكون تلك التيارات صادرة عن ثقافة تسندها دولة قوية البأس وافرة العدة الاقتصادية والسياسية.
ففي الثقافة الاسكندنافية مثلاً عناصر كثيرة من المستحب السائغ الذي قد يستهوي التقليد والمحاكاة، ولكن الدول الاسكندنافية ضعيفة الحول في عالم السياسة والاقتصاد، ولذا فأن تياراتها لا تندفع نحو الثقافات الأخرى فتفرض نفسها عليها على نحو ما تفرضه ثقافة الإنجلو سكسون على ثقافات المعسكر الديمقراطي، وثقافة السوفييت على منطقة نفوذه في شرق أوربا والشرق الأقصى. وقد ضرب جون بول سارتر مثلاً بألمانيا إبان العهد.
الهتلري وقال أن المواطن في هولندا وبلجيكا ولوكسمبرج مثلا كان مدفوعاً إلى التماس الثقافة الألمانية لأنه كان يشعر بأنه سيصبح عاجلاً أو آجلاً جزءً منها. وما ذلك إلا لأن النازية كانت على قسط كبير من القوة والبأس السياسي والاقتصادي كانت سبباً في هذه الهزيمة التي شاعت في المواطنين الهولنديين والبلجيكيين والتي سهلت لألمانيا احتلال هذه الشعوب في يوم وليلة وسهل لها كذلك أدارتها وتسيير شئونها المحلية بالتعاون مع الكثرة من المثقفين وغير المثقفين.
وتاريخ الاستعمار الأوروبي في شرقنا يؤيد ذلك.
إذن فعلى المثقفين مسئولية سياسية وقومية بالإضافة. إلى الواجب الأدبي والفني في الدفاع عن مقدمات الثقافة التي نشأ فيها وتعرف على سرائرها وعرف بها الناس. ووزر القصور مضاعف، والصمت في مثل هذه الحالة جريمة قومية.
وقد يحلو لبعض الخاصة من أهل الفكر أن لا يتقيدوا بالقوميات في معناها الضيق المحدود، وألا يتعرفوا بأن للفن والفكر حدوداً ومعالم جغرافية وزمنية. فهذا لون من الاتجاه الفكري كلما أمعنت فيه الدرس وجدته مناقضاً لطبيعة السلوك الإنساني؛ فعلم الاجتماع ينفيه وعلم النفس لا يقره. والسلوك الشخصي لمعظم الداعين له ينقضه نقضاً تاماً.
فالعصبية القبلية في حقيقتها الاجتماعية مستمدة من علاقة الفرد بعائلته وأمه وأبيه؛ وإلى أن يولد مجتمع تزول منه هذه العلاقة الطبيعية فأن العصبية ستظل من الحقائق الاجتماعية
الراسخة. المرء حيوان اجتماعي، وهو يألف الجماعة التي تبادله مشاعره وتشاركه طبائعه وتبادله المحبة والألفة. وإلى أن يتطور المجتمع إلى وحدة متجانسة في مشاعرها وطبائعها فأن المرء سيظل يألف القوم الذين هو منهم، ويعتز في قرارة نفسه بالقومية التي يدينون بها. وتاريخ الحضارة لم يحقق - ولا يبدو أنه يستطيع أن يحقق - هذه الوحدة وهذا التجانس.
فمن أبرز دعاة (العالمية) رجل يعلم عن طبيعة الكون ما لم يعلمه إنسان آخر؛ ذلك الرجل هو (البرت انشتاين). وقد نشر انشتاين بحوثاً في السياسة والاجتماع وهي غير مؤلفاته الرفيعة الشأن في الرياضيات الفلسفية. وحيث تقرأ ما كتبه انشتاين عن القومية و (العالمية) تشعر بأنك أمام رجل، العالم بأسره وطن له فهو لا يعترف بحدود ولا يتقيد بولاء (قومي) معين. ولكن ذلك لم يمنعه في السنوات الأخيرة أن ينشر النداء تلو النداء يستجدي فيه المناصرة الأدبية والسياسية والمادية للوطن القومي اليهودي في فلسطين. فعالمية أنشتين شطحة فلسفية لم تصمد أمامٍ الحقائق الاجتماعية وطبيعة السلوك الإنساني. فهو يهودي قومي قبل أن يكون مواطنا عالمياً. وقد وجه كاتب هذه السطور في السنة الماضية أسئلة بهذا المعنى إلى البروفيسور أنشتاين خلال محاضرة عن (الجامعة العبرية بالقدس وضروية مؤازرتها) ألقيت في معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برنستون هنا في أمريكا حيث يعيش اليوم أنشتاين. فكان جواب هذا المواطن العالمي ما يلي بالحرف الواحد:(إسرائيل لي وطن روحي. وأني أعز في إسرائيل ثقافة العبريين وهي ثقافة لها مكانتها في الفكر العالمي وهي جديرة بالإعزاز والإحياء.)
ويمكنك أن تستنتج ما شئت من سلوك أنشتاين هذا ولكنك لن تستطيع أن تنفي عن هذا المواطن (العالمي) قوميته الثقافية ولا أقول ولاءه السياسي لإسرائيل. فليس المقام هنا ليسمح باستعراض النقاش السياسي العنيف الذي دار بين البروفيسور أنشتاين وبين الدكتور فيليب خليل حتى المؤرخ العربي المعروف على صفحات الجريدة المحلية في برنستون وكيف كشف أنشتاين عن حقيقة نعرته القديسية وتعصبه اليهودي على أوضح ما تكون النعرات ويكون التعصب.
للبحث بقية
نيويورك
عمر حليق
الطابع القومي
في الثقافة الأزهرية
(ألقيت في اليوم الأول من أيام المؤتمر الثقافي العربي الثاني
للدكتور محمد البهي
هناك في التوجيه التربوي نظرتان مختلفتان، أو اتجاهان متعارضان: اتجاه يهدف إلى التكتل في نطاق خاص صونا لجماعة معينة أو شعب معين، وهو ما يعرف بالاتجاه القومي؛ وآخر يرمي تحطيم الفواصل الخاصة بين الجماعات أو الشعوب أملا في تحقيق وحدة عامة أو اتخاذ عام بينها، حتى يستقر بين الناس جميعاً ما أعتيد تسميته (السلام العام)، وهذا الاتجاه هو ما يعرف بالاتجاه العالمي في التربية والتوجيه.
ويقال ضد نزعة القومية في التربية: أنها ظاهرة من ظواهر البدائية في الجماعة، لأن مثل هذه النزعة تعتمد على ضرب من المبالغة في تقويم المميزات الخاصة بجماعة ما والرغبة في صيانة هذه المميزات، والتقويم على هذا النحو دخل فيه عندئذ عنصر غير ذاتي، وهو انتساب نوع من الخصائص للجماعة المعينة، ولم يقف حد جوهر الخصائص، والمبالغة في التقويم تنشأ عادة عن في أفق التفكير أو عن سطحية النظرة إلى الأشياء؛ وضيق الأفق، وكذا سطحية النظرة من إمارات البدائية في تفكير الفرد والجماعة.
لكن قد يقال: أن الاتجاه القومي في التربية لا يدل حتماً على بدائية في التفكير، بل قد يصدر عن حاجة قوية في الجماعة إلى تكتل ما أثر شعورها بالضعف والاضطهاد من جماعة أخرى. والالتجاء في مقاومة الضعف أو مدافعة الاضطهاد إلى إذكاء الروح القومية عن طريق التنشئة والتربية لا يعبر عن بدائية، بل بالعكس ينم عن رقي في تفكير الجماعة. إذ الشعور بمعنى الجماعة - وهو الأشخاص والأفراد - واتخاذ وسيلة غير حسية في مقاومة الضعف أو الاضطهاد، وهو وسيلة التربية هنا، يدل على تطور في التفكير.
وسعى كل من المعسكرين السياسيين الشرقي والغربي، أو الشيوعي والديمقراطي، في وقتنا الحاضر إلى التكتل بتنبيه كل منهما إلى مزاياه الخاصة لا يعد ظاهرة من ظواهر البدائية، إذ هو وليد العبقرية السياسية وقيادة الجماعات. وهو فن لم يصل البدائيون بعد إلى إدراكه
فضلا عن ممارسته.
وربما كان تصوير الاتجاه القومي في التربية بأنه نزعة بدائية يتصل بالدعاية التي يباشرها أرباب الاتجاه الآخر عندما يحاولون تبرير وجود اتجاههم ووجوب سيادته.
أما الاتجاه العالمي فقد كثر الحديث عن مزاياه منذ بداية القرن العشرين وقيل في تفضيله: إنه يدعو إلى الاخوة الإنسانية، يدعو إلى محو الفوارق التي أقامتها التقاليد والعادات بين الأجناس والجماعات، يدعو إلى إزالة أسباب الحقد من نفوس البشر قاطبة، يدعو إلى إضعاف العقبات التي تحول دون تمكين الأفراد من استغلال مواهبهم الذهنية أو الاقتصادية أينما وجدوا، يدعو إلى وجه الإجمال إلى الحرية والإخاء والمساواة. . إنه من وحي الديمقراطية وهدف الأحرار.
ويجب في نظر أصحابه ألا يأخذ الدين، ولا التقاليد والعادات، ولا اللغة، ولا مقومات الحياة في الجماعة الخاصة على وجه العموم، ولا تاريخها وما أنطوي عليه من أحداث كان لها أثرها في خلق شخصيتها، الاعتبار الأول في التوجيه. وبالأحرى يجيب - تمكيناً لمعنى الديمقراطية في التربية - أن تغفل هذه المعاني أو تهمل، على الأقل من الوجهة الرسمية ومن المباشرين الرسميين لشئون التعليم.
وقد برز هذا الاتجاه اللا قومي في التربية بعد الحرب العالمية الأخيرة في صورة جديدة وأخذ طريقاً رسمياً بين حكومات العالم المختلفة، واحتضنته مؤسسة الثقافة والتعليم والتربية التابعة لهيئة الأمم المتحدة (اليونسكو).
لكن مما يأخذه بعض المرابين على هذا الاتجاه أنه لا يعدو دائرة الأمل إلى واقع الحياة الأمم على السواء. ويعللون ذلك بأنه ما دامت هناك أمم كبرى وأمم صغرى. ما دامت هناك قوة مادية لها السلطان في التوجيه وقيم أخرى معنوية باقية في دائرة (المثل) التي لا ظل لها في الوجود الواقعي سوف لا يتحقق معنى الإخاء والمساواة،، وبالتالي لا يتحقق السلام العالمي الذي هو الهدف الموعود لمذهب (العالمية) في التربية والتوجيه.
على أن بعضاً آخر من المربين لا يحسن الظن فوق هذا بدوافع هذا الاتجاه، ويرميه بأنه وسيلة من وسائل الخداع التي تستعملها الدول الكبرى وهي تلك التي لها القوة المادية في الصناعة والاقتصاد، ولها القوة العلمية كذلك لاستغلال الأمم الصغرى وهي المختلفة عنها
في هذه النواحي من الحياة، لكن لها ثروة كبيرة في المواد الأولية.
وهذا البعض يحاول أن يدلل على سوء ظنه من واقع الأمم الكبرى نفسها، فيذكر أن الأمم الكبرى - سواء عن طريق الحكومات فيها أو عن طريق الجمعيات المختلفة هناك - تعني بالاتجاه القومي في التربية، تعني في توجيه الناشئة بمقومات هذا الاتجاه، وهي الدين، والتقاليد، واللغة وتراثها الماضي الذي يتمثل نمط تفكيرها وتاريخ تطورها كجماعة خاصة.
حتى العادات التي لا تتفق على الإطلاق مع النزعة العالمية - كما هو الحال في أمريكا وإنجلترا وجنوب أفريقيا من التفريق بين البيض والملونين في المعاملة والتقدير - لا تلقى معارضة جدية من السلطات الرسمية هناك، وهذه السلطات بعينها تدعو الشعوب الأخرى إلى تطبيق الاتجاه العالمي في معاهدها التعليمية.
ويقولون إن من يزر كلية (أيتون) بإنكلترا يدرك إدراكاً واضحاً عناية القائمين على التوجيه فيها بعناصر القومية في التربية من دين البلد وتقاليده، والتاريخ الماضي له، فطلاب هذه الكلية - وهو أبناء الطبقة الأرستقراطية في إنجلترا - يفتتحون الدروس اليومية كما يختتمونها بالصلاة في كنيستها التقليمية.
وجامعة أكسفورد ترجع شهرتها في الغالب إلى رعاية التقاليد في كثير من نظمها، والإنكليز عرفوا على العموم بالحرص على التقاليد. وقصر ثقافتهم اللغوية على الوطنية مظهر من مظاهر هذا الحرص. إذ قلما نجد بين المثقفين فيهم من يجيد لغة أجنبية أخرى.
مثل هذه الظواهر تحيط الإخلاص للنزعة العالمية في التربية من جانب الأمم الكبرى ببعض الشك عند من لا يحسن الظن من المربين بدوافع هذه النزعة، وتجعله يتساءل في حيطة: أليس أولى بالأمم الضعيفة ألا تزيد في عوامل ضعفها بالتحلل أو بالخروج عن مقوماتها الذاتية كجماعات خاصة؟
إن كيان الأمة - كجماعة - يعتمد على تاريخها واتجاههم الخاص في التفكير، ودينها ولغتها وتقاليدها أكثر مما يعتمدون على مصدر الثروة المادية فيها وعلى موطنها الجغرافي الخاص فأن هي عملت على إغفال هذه المقومات في التنشئة والتربية أصبحت أفراداً منثورة أو انقسمت إلى طوائف متعددة تختلف حينئذ في الانتساب إلى اتجاهات فكرية متعارضة وتتبع مذاهب مختلفة في السلوك وتقدير قيم الحياة.
الاتجاه العالمي أمل يجب أن نباركه في حيطة وحذر. ولا غنى لنا عن الأخذ بالاتجاه القومي في تربيتنا كشعوب صغيرة، لا إقتداء بواقع الأمم الكبرى، ولكن محافظة فحسب على كياننا ووجودنا الخاص.
وإن فكرة هذا المؤتمر الثقافي وعقده من ممثلي الشعوب العربية لمناقشة الأسس التربوية السليمة في توجيهها مشتقة من الرغبة في الحرص على هذا الكيان الخاص.
ومقومات شعوبنا هذه كأمم تعيش في جو عربي إسلامي تتصل اتصالاً وثيقاً بالدين والتقاليد واللغة العربية وأدبها، وبالفكر الإسلامي واتجاهاته، وبتاريخ الأطوار السياسية التي تتعلق بنظام الحكم والتغييرات الداخلية وعوامل هذا التغيير في الأمة الإسلامية. وبعبارة أخرى تعتمد مقومات هذه الشعوب على ماضيها في المعرفة والفكر والتاريخ. وذلك ما يمثله التراث الإسلامي.
والأزهر منذ وجوده - في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي - يعنى بهذا التراث الإسلامي. . يعنى بالدين في صوره المختلفة، إن في دائرة العقيدة، أو التشريع، أو السلوك، ويعنى باللغة العربية وما يتصل بأسلوبها وأدبها، ويعنى بدراسة الحركات السياسية الإسلامية منذ الدعوة إلى الإسلام حتى تدخل النفوذ الأوربي في توجيه سياسة البلاد الإسلامية في الوقت الحاضر.
بل ذهب بعض علماء الأزهر في الحرص على هذا التراث والعناية به إلى حظر دراسة أية مادة أخرى لا تتصل بالإسلام نفسه وأن اشتغل بها كثير من علماء المسلمين في كل العصور، وكان لها أثر في مجال الفكر العربي الإسلامي.
وأستمر هذا البعض من العلماء على هذا الحظر مدة طويلة إلى بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ومن أجل ذلك رمى بالجمود مرة والتعصب مرة أخرى. وربما كان لهذا الحظر على هذا النحو - مضافاً إلى عوامل أخرى سنذكرها - أثر في تضييق المجال أمام الثقافة الإسلامية.
ولم يكن موقف هؤلاء المتشددين إلا إسرافاً في الغيرة على التراث الإسلامي. فالأزهر بحق موطن الدراسة القومية في الشرق الإسلامي. ولذ كان مصدراً للحركات السياسية الوطنية في مصر وغيرها من البلاد العربية، كما كان مدرسة لتخريج زعماء الفكر وقواد
النهضات التحريرية من النفوذ الاستعماري في العالم الإسلامي.
وليس ذلك لأنه كان المعهد الوحيد أو الرئيس في القرن التاسع عشر لنشر الثقافة والتعليم في مصر، بل لأنه كما ذكرنا مصدر الثقافة القومية.
أرتبط الأزهر بهذه الثقافة الإسلامية عرفت به في العالم الإسلامي حتى صار تلازمهما في تصور الشعوب الإسلامية الأخرى أمراً واضحاً. إن ذكر الأزهر ذكرت الدراسات الإسلامية، وإن أشير إلى الثقافة الإسلامية عرف الأزهر كمصدر لها.
والأزهر إن تطاول على غيره من معاهد العلم في الشرق بهذا الصلة في معرض الإشادة بالمحاسن فهذه الصلة نفسها قد جرت عليها كثيراً من المتاعب، كانت سبباً في محاربته وتضييق الخناق عليه.
فالاستعمار الأوربي للشعوب الإسلامية أتخذ وسيلتين رئيسيتين للوصول إلى تحقق هدفه:
(أ) عمل على كبت النزعة القومية في الشعوب الإسلامية أينما وجدت هذه النزعة، في التعليم والتشريع، أو في مجال الاقتصاد وميدان الصناعة، أو في دائرة العادات والتقاليد.
(ب) ساعد على نشر الثقافة الغربية في هذه الشعوب عن طريق ترويج اللغات الأوربية بشتى الوسائل وحمايتها من منافسة اللغة العربية لها وهي اللغة الوطنية، وكذا عن طريق تمكين الفكر الأوربي من أن يأخذ طريقه نحو السيطرة على توجيه الجماعات الشرقية الإسلامية.
والذي يعنينا من ذكر الوسيلة الأولى بيان أنه: لماذا كان الأزهر هدفاً لاضطهاد غير مباشر من حملة الاستعمار الغربي. . .
أخذ اضطهاد الأزهر صوراً عديدة: أكثر لسان الاستعمار من الحديث أولاً عن جموده وتعصب رجاله وتشددهم في تعصبهم؛ ثم تطور هذا الحديث إلى ذكر أن الأزهر يبعد قاصديه عن الحياة العامة أو يحول بينهم وبين الانتفاع بالحياة المادية والتمتع بالوجاهة الاجتماعية، ثم أنتقل إلى ادعاء أن الأزهر عقبة في تقدم مصر وسيرها نحو المدنية الأوربية أو الأمريكية. ولا زلت أذكر قصة تلك الآنسة الفلسطينية التي طلبت في عام سابق على العام الماضي معلومات عن الأزهر واتجاهاته التربوية والتعليمية كي تستعين بها على إعداد رسالتها في قسم الماجستير بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وأدهشني منها أول
سؤال وجهته ألي وهو: هل الأزهر حقيقة عقبة في طريق رقي مصر. . . فلما سألتها عن تحديد مظاهر ذلك أجابتني أنها قرأت مضمون السؤال فقط في كتاب تربوي حديث لأستاذ أمريكي.
وأثرت فعلا هذه الحملة المغرضة على الأزهر وعلى المنتسبين إليه وحالت بين رجاله والمساهمة في الحياة التعليمية في مصر والمعاهد الأخرى غير المعاهد الدينية، واضطر كثير منهم تحت ضغط هذه الحال إلى الانزواء عن الحياة العامة والاحتكاك بغيرهم على مسرح عام.
وهذا الذي نسب إلى الأزهر في مصر من جمود وتعصب وكونه عقبة في طريق التقدم رمى به جامع الزيتونة في تونس وما شاكله في مراكش وبغداد ودمشق وأم درمان من معاهد الثقافة الإسلامية.
ولم يقف الأمر في محاربة هذه المعاهد عند حد تصويرها بهذه الصورة المنفرة، بل أتخذ معها عمل إيجابي آخر هو محاولة الحيلولة دون قوم بعثات من البلاد الإسلامية التي لم يكن بها ما يشبه الأزهر في نظامه وهدفه إلى مصر لتلتحق بالأزهر وتتم دراستها فيه. وإن لم تأخذ هذه المحاولة صورة المنع الواضحة. فموسيليني مثلاً أنشأ أيام حكمه معهداً إسلامياً في (هرر) له مظاهر نظم التعليم في الأزهر وأرسل إليه طائفة من أبناء المسلمين في ليبيا بجانب أبنائهم في الحبشة وإريتريا والصومال الإيطالي.
والرحالة الألماني (بول أشيد) يتحدث في كتابه - (الإسلام قوة الغد) الذي أخرجه في سنة 1937 بعد رحلة ست سنوات في البلاد الإسلامية عن مكانة الأزهر كموطن للثقافة الإسلامية ومعقل للحركات الوطنية التحريرية من الاستعمار الأوربي، ويعده وأمثاله في شمال أفريقيا والبلاد الإسلامية عاملاً من عوامل ثلاث - لو نجت من الاضطهاد الغربي - تقوم عليها النهضات الإسلامية وقوة العالم الإسلامي في غده. والعاملان الآخران في نظره هما: قوة النسل في الشعوب الشرقية، والثروة الاقتصادية الكامنة في أراضيها.
خرج الأزهر عن عزلته رويداً رويداً منذ بداية القرن العشري وطلبت منه المساعدة الرسمية في الوزارات والمصالح الحكومية المصرية، وعلى الأخص في وزارة المعارف. واظهر المتخرجون فيه أمانة واتقاناً وحسن أداء فيما يقومون به من عمل هناك، حتى فيما
لم يكن متصلا بالمواد الأساسية في ثقافتهم، كعملهم في مصلحة الأموال المقررة بوزارة المالية.
ونرجو أن يكون طلب المساعدة الرسمية من الأزهر وليد تصحيح الفهم عنه كمعهد تمثل الثقافة فيه الاتجاه القومي، وليس وليد الحاجة التعليمية أو السياسية. عندئذ يكون تفاؤلنا بمستقبل النهضات الوطنية عندنا في الشرق العربي ليس من قبيل السراب الخادع.
إن بالأزهر الآن أكثر من ألفين من طلاب البعوث الوافدة إليه ينتسبون إلى أكثر من عشرين موطن إسلامي ويتكلمون شتيتاً من اللغات ولهم عادات مختلفة، ولكن لغتهم المحببة هي العربية، ودينهم المعتقد هو الإسلام، وتقاليدهم المفضلة هي المتصلة بالأمة الإسلامية.
الأزهر يمكن أن يساهم مساهمة فعالة في دفع النهضة الشرقية الوطنية خطوات إلى الأمام لو أزيلت من طريقه العقبات.
إن المرحوم الشيخ محمد عبده أشتغل بالسياسة، وأشترك في الحركات الوطنية الاستقلالية في الفرق الثورية، وأطلع على الفكر الأوربي، لكن آثر أخيراً في دفع الحركات الوطنية الاستقلالية في الشرق عامل التربية، وآثر في التربية أن تكون قوية، وآثر في عناصرها أن تكون ذا صلة بالتراث الإسلامي، ورجا أن يكون الأزهر قواماً على هذا التراث.
الأزهر لا غنى عنه، وهو باق في العالم الإسلامي ما بقي الإسلام في تصور الشعوب الإسلامية وما بقي عقيدة لأبنائه. فبدلاً من أن توضع العقبات في طريق رسالته - وهو الخطر بعينه على الإسلام وعلى الشعوب الإسلامية والعربية - يجب أن تتضافر القوى كلها في صدق وأخلاص لتمكينه من أداء رسالته.
والأمل معقود على الفاروق قائد النهضة العلمية والتعليمية والدينية.
محمد البهي
أستاذ الفلسفة الدينية بكلية أصول الدين بالأزهر
النهضة الأفغانية
بقلم الأستاذ محمد محمود زيتون
شهد الإسلام في القرن الثامن عشر الميلادي ركوداً، شعر به الغيورون بضرورة البعث والنهوض. فقد هب محمد بن عبد الوهاب بحركة (تجديد للدين الإسلامي) وأخذت دعوته تنتشر من نجد إلى ما وراءها من سائر بقاع الإسلام، حتى قامت نهضة إسلامية في البنجاب؛ وجدت صداها في بلاد الأفغان. ولا سيما عندما عانى الإنجليز الأمرين في فتح الهند، إذ وقفت الحركة الوهابية الهندية في وجه الاستعمار، بينما أخذ السنوسي في الجزائر بنظم (الأخوان) ويعدهم لفتح كل مرفق اجتماعي واقتصادي مستمداً نشاطه من التعاليم الإسلامية. وإذ بيت الاستعمار الإيطالي نية الغدر والانقضاض على بلاد المغرب، فقد استعدت السنوسية لهذا الخطر، فأعلنت الجهاد المقدس، وأخذت للأمر ما يتطلبه من السلاح والتموين والزهد جميعاً.
وتبلورت هذه اليقظة، فلم يكن بد من انضواء المسلمين تحت لواء الجامعة الإسلامية. نهض جناحها الأيمن شرقاً على يد الوهابية التي لم تأل جهداً في تطهير الدين مما أعتوره من نوائب كادت تطمس جوهره في عصور الظلام بينما نهض جناحها الأيسر على يد السنوسية التي أدركت صميم الإسلام كدين ودنيا عقيدة وعمل وعبادة وسياسة، وحق وجهاد، ومصحف وسيف بالسنوسية والوهابية قامت حركة التحرير والتنوير في هذا القرن الصاخب بالاستعمار وأساليبه.
ومما هو جدير بالذكر، أن هذه الحركة لم تخالطها نزوات التعصب، بل ذهبت إلى أبعد حد في التسامح، واقترنت بالدعوة إلى الاقتباس من الغرب كل ما ينفع ولا يضر. دعا إلى ذلك المصلح الإسلامي الهندي، السيد أحمد خان، غير عابئ بالجمود الذي خيم ردحاً من الزمن على كل أفق إسلامي، حتى تلألأت شرارة الإصلاح في كل مكان، وقامت ثورة (تركيا الفتاة) سنة 1908م كنتيجة لازمة خاتمة لهذه المقدمات الدينية السليمة. في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي فتح الهند السلطان محمود أبن سبكتكتين الفزنوي التركي، فانهارت أباطيل البراهمة أمام كتائب الإسلام المظفرة. واقتفى أثره من الأفغان السلطان محمد الغوري الذي ضم دلهي إلى ممالكه سنة 1194م. ونسج عل منواله القائد بختيار الأفغاني
الذي طهر البنغال وكوجرات من البوذية، فكانت هذه الحركة الجهادية إرهاصاً بقيام دولة إسلامية في الهند عاصمتها دلهي، ظل الزمان يحالفها من القرن العاشر إلى أوائل القرن التاسع عشر. حيث أخذت الضربات الإنجليزية تتوالى على هذا الصرح العتيق، الذي لم يكن بد من أن يتصدع بعد أن صمد طويلاً أمام الطغيان، وشهد الدهر كم كانت همة الأفغان مرادفة للجبال الرواسي التي - على الرغم من ثلوج عمائمها - أوقدت نار الحمية في نفوس أبطالها.
فإذا كان القرن التاسع عشر، بعث نابليون بونابرت الجنرال غاردان لمفاوضة إيران للدخول في محالفة مع فرنسا لفتح الهند، فأسرعت إنجلترا إلى الأفغان لتتخذ منها درعاً ضد إيران، ولما قامت الثورة الأفغانية التجأ أخو الصدر الأعظم إلى الإنجليز يستعديهم على أخيه دوست محمد خان وهو إذ ذاك حليف لروسيا.
اهتبلت إنجلترا هذه الفرصة وجردت حملتها على الأفغان سنة 1839م، وبعد عامين، زاد فيهما حنق الأفغانيين الأحرار على الغاصبين الإنجليز، قتل المعتمد البريطاني في كابل؛ ومعه عدد من ضباط الاحتلال. ولم يزل الأفغانيين يناصبون الإنجليز العداء حتى نصبوا الكمين لهم في (خورد كابل) فاستأصلوا حوالي سبعة عشر ألفاً من الإنجليز الذين استعانوا بحمايتهم في الهند على نسف قلاع العاصمة، وبذلك ثأروا لأنفسهم.
أما وقد شمخ الأفغانيون بأنوفهم للأحداث، وعافوا الاستبداد ولم يستنيموا للضيم فأن الإنجليز رأوا أنفسهم مضطرين لتغيير نظرتهم إزاء الأفغان الحر الأبي، وحاولوا أن يبثوا عقارب السوء فذهبت محاولاتهم أدراج الرياح، وأوقعوا خلال الصفوف يبغون الفتنة، فارتدت سهامهم إلى نحورهم. ولكن الأفغانيين وقفوا صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص إذ تضافر الشعب والسلطان. وكان الدورانيون - وهو الأسرة المالكة ويبلغون ثلث الأفغان - أشد اعتزازاً بالوحدة أمام الدسائس الإنجليزية من جهة، والأسلحة الفتاكة التي يتذرع بها الدخيل البارد من جهة أخرى.
حقاً لقد كان الشعب الأفغاني أعزل من كل سلاح إلا التضامن والإيمان بالحق، والجهاد حتى يتحرر الوطن من الطغاة المعتدين.
ولما مات (دوست محمد خان) سنة 1863 دب الشقاق بين أولاده، وظن الإنجليز أنها ثغرة
يستطيعون النفاذ منها إلى إشباع سعارهم، لكن فوت عليهم هذه الفرصة ما توارثه الأمراء الأفغانيون من بغض الاحتلال، وأعداء الوطن. أليس أبوهم القائل للورد لورنس:(إن كنتم تريدون أن نبقى أصحاباً، فلا تكرهوني على قبول ضباط إنجليز في بلادي)؟ وضرب (شير علي خان) أروع المثل في الإباء إذ استعصى عوده على الإنجليز الذي غمزوا جانبه فلم يلن لهم، ولم يهن هو على نفسه. فأحنقوا على السلطان أبنه (يعقوب خان) وحرضوه على أبيه، واحتضنوه وأفسحوا له صدراً بارداً منذ أخذوه إلى إنجلترا، ولقنوه تعاليمهم الاستعمارية ظاهرها وباطنها، كما أغروا الفقراء بالعمل في الحاميات البريطانية بالهند لقاء أجور عالية استعداداً لتجنيدهم ضد بلادهم في القريب المنتظر على ما كانوا يزعمون.
وفي سنة 1878 أعد الإنجليز عدتهم للإجهاز على الأفغان، فإذا بأمراء الهند ومرتزقة البنجاب والسيخ وأخلاط من المنبوذين وعباد البقرة والعنزة يدخلون كابل بقيادة اللورد دوبرتس.
وفر (شير علي خان) إلى مزار شريف في القسم التركي من بلاده، وكان قد أستدعى أبنه يعقوب وأمنه على نفسه ثم سجنه حتى إذا دخل الإنجليز كابل أطلقوا سراحه ونصبوه أمير وعقدوا معه معاهدة (غاندامق)، وأملوا عليه طبعاً كل رغائبهم التي يئسوا من نيلها من أبيه، غير أنهم لم يكادوا يتمتعون بما ظفروا به حتى اندلعت نار الثورة الوطنية من جديد فخلعوا يعقوب خان ونفوه إلى الهند، وأخذوا يولون ويعزلون بعد موت (شير علي خان) سنة 1879 حتى هدأت البلاد على يد الأمير (عبد الرحمن) وتم الجلاء عن البلاد، وبذلك توطد نفوذه، وأقام مصانع السلاح والذخيرة، ودرب الجيش، ووسع الحدود شرقاً، وباتت البلاد في أمان واطمئنان حتى مات سنة 1901.
وخلفه أبنه الأمير (حبيب الله خان) الذي لم يشأ أن يطعن الإنجليز من الخلف حين شبت الحرب العامة، ولم يصخ إلى تحريض الألمان والأتراك حتى اغتيل وهو في مشتاه بجلال أباه وخلفه ولده (أمان الله خان)، فبايعه الشعب دون أخيه ولعهد أبيه نصر الله خان، وبغير موجدة من أحدهما على الآخر.
فلما استقرت الأمور، وأجمعت العناصر المختلفة على المطالبة الوطنية، صعرت بريطانيا خدها، فبدأ الجيش الأفغاني مخترقاً حدود الهند، وأبلى أحسن البلاء. وكانت الحرب وسئم
المحاربون الإنجليز بعد أن توالت عليهم الضربات من سياستهم الغاشمة، فطلبوا الهدنة وتم الصلح سنة 1921. استقلال الأفغان في سياسة الداخل والخارج، مع تحديد المناطق الحرام بين الهند والأفغان.
وإيماناً من الملك بنفسه، واعتزازاً بالاستقلال التام يؤخذ بالجهاد، ولا يستجدي من أحد، أسرع - قبل عقد الصلح - إلى إرسال سفرائه إلى طهران وأنقره، كما عقد معاهدة مع تركيا وروسيا، فكان لهذه السياسة نتائجها العملية في الاستقلال حقيقة واقعة.
ولما فرغ الشاه من المشاكل الداخلية في بلاده، شرع يعمل على توطيد الروابط بينه وبين إنجلترا من جهة، والدول الإسلامية من جهة أخرى، ولا سيما تركيا ومصر، وبذلك لم يهمل الأواصر المتينة التي تربط الأفغان بالعالم الإسلامي حرصاً منه على المشاركة الفعالة في آلامه وآماله وفي سنة 1929 خلعه الشعب المسلم المستنير لما رأى من تطرفه الأوربي وخلفه جلالة الملك الحالي محمد ظاهر.
في معترك هذا النضال أنجبت الأفغان فيلسوف الشرق (السيد جمال الدين الأفغاني) الذي يعتبر أول باعث لفكرة الإسلامية، وأستاذ المفكرين الأحرار ممن تلقوا على يديه تعاليم النهضة الفكرية، ورفعوا مشاعل الاستقلال في وجه الاستعمار الجاثم على صدر العالم الإسلامي.
كان أبوه السيد صفدر ممن يخشى نفوذهم (دوست محمد خان)، ولما بلغ جمال الدين الثامنة عشرة. كان قد أستكمل علومه في كابل، فارتحل إلى الهند حيث تعرف على أحوالها في خلال السنتين اللتين قضاهما بها. ثم وصل إلى مكة سنة 1857 ووقف هناك على ينبوع الجامعة الإسلامية. فأنشأ بها جمعية أم القرى. ولما بلغ السابعة والعشرين أختاره أعظم خان ليكون رئيس وزرائه لسعة أفقه، وإدراكه لعظائم الأمور.
ومن الطبيعي أن تعمل له دول الاستعمار ألف حساب، وأن تحاربه بكافة الطرق المباشرة وغير المباشرة. وحشدت في وجهه الفلول الجامدة، كلما قصد بلداً إسلامياً، وكثيراً ما كان يتهافت عليه الناس تهافت الفراش على النار.
وفي الحق أن جمال الدين كان كذلك، فلم ينزل ببلد إلا أرث فيه الجذوة الكامنة، وجلا جوهره النفيس الذي ينطوي عليه كل مؤمن بدينه، وحذر من تألب المستعمرين على
الشرق، وانقضاضهم على الإسلام بحرب صليبية جديدة.
وتتلمذ عليه في مصر رواد الحركة الإصلاحية والجهادية من أمثال محمد عبده وأحمد عرابي وسعد زغلول ومصطفى كامل وعبد الله النديم، الذين يرجع إليهم الفضل في القضاء على الجمود الفكري، ونبذ الخرافات، واجتمعت أهدافهم على توجيه الأمة إلى التطلع بعين البصيرة، وقلب الحمية، إلى عالم النور والحرية، كما نشطت الصحافة حتى كانت لمراجل الثورة وقوداً غير منقطع، وتبودلت الصحف الإسلامية في شتى الأقطار للوقوف على احدث الخطوات، واعتلى دعاة الحرية منابر الثورة، لتحريك النفوس الهامدة، وتأجيج النار الخامدة تحت رماد الخطوب.
وما وافت سنة 1911 حتى صدقت الحوادث نبوءات السيد جمال الدين، وكان كالذي أمر قومه بأمره وتحذيره، حتى استبانوا الرشد في صحوة الصباح فقد انتهكت إيطاليا حرمة طرابلس، وشقت الدول النصرانية البلقائية عصا الطاعة على تركيا بتحريض من دول الاستعمار على دول الخلافة، أملاً في خضد شوكتها، وتوهين نفوذها في سائر البلاد الإسلامية، فلم تلبث هذه البلاد أن استنفرت آسادها في سبيل الله والوطن، فكان ما لم يكن له حساب عند الأوربيين الذين استيقظوا من سباتهم على القوة الإسلامية الكاسحة مما جعل (السير موريسون) يقول (لا مراء في أن الإسلام أكثر من عقيدة دينية بل هو نظام اجتماعي تام الجهاز: هو حضارة أكتمل نسيجها، حضارة لها فلسفتها وتهذيبها وفنونها) ثم أخذ يستعرض صمود هذا الدين المتين في مواجهة الأحداث (حتى صار وحدة جامعة نامية نمو الجسم الطبيعي سائراً سيره بفعل نظامه الذاتي الكامن فيه).
محمد محمود زيتون
تحقيقات حول صدر وسدر على الطريق المهجور
بين مصر والشام
للأستاذ أحمد بك رمزي
(لقد أنهت مصر الحروب الصليبية وكان من الخطأ ترك الاتصال قائما بينها وسائر بلاد الشام)
مؤرخ أوربي
(أن إسرائيل سيقدر لها أن تعيش وتنمو وتغير التاريخ وحوادث الزمن، حينما تعزل مصر عن بقية الأمم العربية: أي إذا عزلت القاهرة عن دمشق وبغداد ولو بممر لا يزيد عرضه على كيلو مترين)
أحمد رمزي
1 -
وردت عين سدر ووادي في خرائط ملحة المساحة في الطبعة الأولى والثانية، كما وردت بالاتفاقات التي عقدتها الحكومة المصرية مع شركات البترول وفي القوانين التي عرضت على البرلمان لإقرارها بواسطة الحكومة المصرية فلم ينتبه أحد من رجال مصلحة المساحة ولا رجال القانون إلى تحقيق هذا الاسم وضبطه ضبطاً علمياً يتفق مع مكانة مصر وأثرها في العالم العربي إلى أن صحح في الخريطةمصر الصادرة باللغة العربية فنحمد لمصلحة المساحة هذا الاهتمام.
2 -
ويظهر أن بعض الأسماء العربية الواردة بخرائط مصلحة المساحة كانت مترجمة ترجمة حرفية من اللغة الإنجليزية التي وضعت من الأصل هذه الخرائط فيها، فجاء الناقلون إلى العربية - وهم ليسوا أهل اختصاص فوضعوها بأخطائها دون عودة إلى المراجع العربية ودون ضبط للأعلام والأسماء.
3 -
والذي أعلمه هو أن صحة الاسم (صدر) لا (سدر) وجاء ذكر صدر في معجم البلدان لياقوت جزء 3 صفحة 375: (قلعة حراب بين القاهرة وأيلة) أي العقبة ويظهر من كتب القدماء توالي استعمال (عين صدر) و (وادي صدر) وهي واقعة على طريق يبدأ من عيون موسى إلى عين الروبت أو (الرييثة) ثم ينتهي الطريق إلى منبع وادي صدر وهو الذي
كان على مر الحصن الذي أشار إليه ياقوت في معجمه وهو حصن قديم لا تزال بقاياه مرسومة على الخرائط تحت أسم يسير الطريق منه إلى نخل.
4 -
ويظهر أن هذا الطريق - وهو يقع جنوبي طريق الحاج العام والمعروف على الخرائط - هو الذي يمر بوادي صدر وكان يستعمل للذهاب إلى العقبة علاوة على الطريق المطروق المعروف، فقد جاء في السلوك صفحة 58 سنة 570 هجرية أن صلاح الدين أقام ببركة الجب وهي معروفة في شمال القاهرة ثم سار منها على صدر التي أشرنا إليها متجها إلى آيلة في سبعمائة فارس - ويقصد إخفاء حركاته فقد جاء كتاب الروضتين نقلاً عن (أن صلاح الدين زحف من البركة ورحل إلى بلبيس ونزل جنوباً إلى صدر ثم إلى آيلة) فلم يسلك طريق الحج المعتاد وإنما سلك هذا الطريق البعيد عن الأنظار والرقباء حتى يطمئن إخفاء حركاته وهو في طريقه إلى الشام ليقرن حملته المفاجأة، وفعلاً أناخ على بصري بالشام ثم على مدينة صرخة ثم إلى الكسوة وهي من ضواحي مدينة دمشق إجابة للرغبة أبديت له بعد وفاة نور الدين الشهيد رحمه الله.
5 -
وأرجح أن هذا الطريق الذي لم يكن يطرق إلا هو نادراً هو الذي سلكه أبو الطيب المتنبي في خروجه هارباً من كافور الإخشيدي ليلة عيد الأضحى سنة 350 هجرية. فقد أعد ما هو في حاجة إليه وأخذ يظهر الرغبة في المقام، وتظاهر لمن من الرقباء أنه سيسلك طريق الشمال بدليل مدحه لعبد العزيز يوسف الخزاعي زعيم خزاعة النازلة ببلبيس بقوله:
جزى عرباً أمست ببلبيس ربها
…
بمسعاتها تقرر بذاك عيون
فلفت أنظار الرقباء بمديحه هذا إلى طريق بلبيس فأقامت العيون عليه هناك وكتبوا إلى عمالهم بالحرفين - الشرقي الغربي والجفار - أي سيناء - وغزة والشام وجميع البوادي حتى يقطع طريقه ويقبضوا عليه وأتجه هو إلى الطريق البعيد عن الأنظار عيون موسى ووادي عين صدر فوصل إلى نخل، ودليل على ورود موقع الرثنة ضمن المياه التي مر بها أبو الطيب المتنبي قبل وصوله إلى نخل وبذلك نجح في إخفاء طريق هربه فلم يعرف له أثر حتى قال بعض أهل البادية:(هبه سار فكيف محا أثره) وقال بعض المصريين) إنما أقام حتى عمل طريقاً تحت الأرض).
6 -
والرثنة تشبه الرتمة: يقول عنها قاموس الكتاب صفحة 475 أنها محطة نزلها بنو إسرائيل واسمها مأخوذ من الرتم الذي ينبت بالبداية. ونلاحظ أن هناك مكانا آخر باسم الرتمة في سيناء، غير هذا الموقع ولا أجزم بأن الرتمة والرثنة مكان واحد والمسألة تحتاج إلى تحقيق علمي واسع. ولكني أميل إلى الظن بأن الرثنة التي جاءت في ديوان أبو الطيب المتنبي هي الرييثة التي ذكرها الإدريسي في نزهة المشتاق طبعة ليدن كمحطة في الطريق بين عجرود المعروفة وآيلة - التي هي العقبة - وليس لدينا على الخرائط المتداولة عند وادي صدر سوى عين روبت أو رويث وهي على المنحدر الذي يوصل إلى عين صدر وقد تكون الرثنة هي الرييثة حرفها النساخ وقد تكو الرييثة هي رويث.
فكأن أبو الطيب المتنبي سلك طريقاً كان معروفاً ببعده عن الرقباء. وقد ركب الهجن من الفسطاط وأشاد بمدحها ولهذا يقول:
ضربت بها التيه ضرب القما
…
ر إما لهذا وإما لذا
7 -
بين يدي كتاب صحراء سيناء الذي وضعه لورانس مع (ليوراند وولي) البريطانيين عن نتيجة أبحاثهما في هذه الصحراء وهو يتضمن معلومات أثرية وتاريخية عن المنطقة الواقعة بعد الحدود المصرية، لا تقل أهمية عن الكتاب الشائق الذي وضعه الدكتور عباس مصطفى عمار ع أهمية شبه جزيرة سيناء وفي كل منهما دراسة عميقة عن أحوال هذه المناطق ومسالكها وكل منهما يكمل الآخر، وليس لي ما أزيد على تقديري للكاتبين سوى شادتي بعبقرية رجلين عظيمين الأول: صلاح الدين الأيوبي والثاني الظاهر بيبرس. فلقد كان لكل منها الفضل الذي لا ينكر في فهم استراتيجية الحروب الصليبية كما يفهمها رجل عبقري فذ ففي كل مرحلة ومفترق طرق أقيمت الحصون والقلاع التي لا تزال بقاياها موجودة وفي كل حملة أستعمل أحدهما طريقاً وعبد آخر وأخذ خصمه بالمفاجأة والعمل الحاسم.
فهل لنا أن نتساءل اليوم: واللجنة السياسية بجامعة الدول العربية منعقدة: هل نبه أحد من الناس الأنظار إلى أن هذا الركن من العالم حيوي لنا وعليه يستند تاريخنا القادم؟. . . لا أظن
وإنما أعتقد وأجزم بأن رجال الدولة اليهودية كانوا على علم بأهمية الطرق والمسالك
وكانوا على حق في اهتمامهم بأراضي النقب وفي وصولهم إلى خليج العقبة وأن الذي وضع خريطة فلسطين سنة 1917 بشكلها المخروطي أي الذي يبدأ متسعاً في الشمال وينحدر ضيقاً إلى الجنوب حتى البحر الأحمر قد كان يستوحي من مملكة أورشليم الصليبيين هزت الكيان العربي والإسلامي والتي لولا أن قدر لنا في التاريخ أمثال صلاح الدين وبيبرس لبقيت في الوجود إلى اليوم.
8 -
أننا لا نطمع في أمثال هذه العبقرية الفذة في التاريخ وإنما نطلب إلى الدول العربية أن تفهم جيداً أن مواجهة الحاضر مشاكله لا تكفي لإيجاد الحلول المطلوبة بل أن أخطر سياسة هي المرتجلة أو المعتمدة على الذكاء الفطري. . . الذي يرسم لنا الديبلوماسية التي ألفناها وهي ذات العبقرية في ترتيب الدسائس بين مصر والدول العربية والاستفادة من الأهواء والغرائز) ونقول أن حل المشاكل الكبرى يتطلب قبل كل شيء دراسة علمية وتوجيهاً معتمداً على الحقائق التاريخية والجغرافية والتاريخ الحربي لمصر وللعالم العربي. فإذا كانت السياسة والاقتصاد (صنوان) لا يفترقان، فأن استخلاص الحقائق الكبرى من دروس الماضي هو الذي يضع الزعماء والقادة في الصف الأول بين زعماء العالم وتنير لهم السبيل لحل المشاكل الكبرى. أننا نأسف أن نلفت النظر إلى هذه الحقائق، المرة بعد المرة فتذهب صيحتنا هباء ورحم الله أبا الطيب المتنبي الذي علمنا الطرق وجغرافية مسالك الجزيرة فقد بح صوته أيضاً حتى قال:
وما فكرت قبلك في محال
…
ولا جربت سيفي في هباء
أحمد رمزي
المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي
التشبيه في القرآن
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 5 -
ويهدف التشبيه في القرآن إلى ما يهدف إليه كل فن بلاغي فيه، من التأثير في العاطفة، فترغب أو ترهب، ومن أجل هذا كان للمنافقين والكافرين والمشركين نصيب وافر من التشبيه الذي يزيد نفسيتهم وضوحاً، ويصور وقوع الدعوة على قلوبهم، وما كانوا يقابلون به تلك الدعوة من النفور والإعراض.
يصور لنا حالهم وقد استمعوا إلى دعوة الداعي فلم تثير فيهم تلك الدعوة رغبة في التفكير فيها لمعرفة ما قد تنطوي عليه من صدق، وما قد يكون فيها من صواب، بل يحول بينهم وبين ذلك الكبر والأنفة وما أشبههم حينئذ بالرجل لم يسمع عن الدعوة شيئا، ولم يطرق أذنه عنها نبأ، بل ما أشبههم بمن في أذنه صمم، فهو لا يسمع شيئاً مما يدور حوله، وبمن أصيب بالبكم، فهو لا ينطق بصواب اهتدى إليه، وبمن أصيب بالعمى فهو لا يرى الحق الواضح وبذلك شبههم بالقرآن، فقال:(ويل لكل أفاك أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يصر مستكبراً، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقراً، فبشره بعذاب أليم) وقال: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي، فهم لا يعقلون).
أما ما يشعرون به عندما يسمعون دعوة الحق فضيق يملأ صدورهم، ويئودهم حمله، كهذا الضيق الذي يشعر به المصعد في جبل، فهو يجر نفسه ويلهث من التعب والعناء، وهكذا صور الله ضيق صدورهم بقوله:(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)
وما دام هؤلاء القوم لا يستخدمون عقولهم فيما خلقت له، ولم تصغ آذانهم إصغاء من يسمع ليتدبر، فقد وجد القرآن في الأنعام شبيها لهم يقرنهم بها، ويعقد بينهم وبينها وثيق الصلات، فقال:(ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)، وأنت ترى في هذا التشبيه كيف مهد له التمهيد الصالح، فجعل لهم قلوباً لا يفقهون بها،
وأعينا لا يبصرون بها وآذانا لا يسمعون بها. ألا ترى نفسك بعدئذ مسوقاً إلى إنزالهم منزلة البهائم، فإذا ورد هذا التشبيه عليك، وجد في قلبك مكانا ولم تجد فيه بعداً ولا غرابة، بل يزل بهم حيناً عن درجة الأنعام فيراهم خشباً مسندة.
وحيناً يريد أن يصورهم، وقد وجدوا في الهرب والنفرة تلك الدعوة الجديدة فيقول:(فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمرة مستنفرة، فرت من قسورة)، وقد تحدثنا عن هذا التشبيه فيما مضى.
أما هذا آمن ثم كفر وأنسلخ عن الإيمان وأتبع هواه فقد عاش مثال الذلة والهوان، وقد وجد القرآن في الكلب شبها يبين عن خسته وحقارته. ومما يزيد في الصلة بين الاثنين أن هذا المنسلخ يظل غير مطمئن القلب، مزعزع العقيدة مضطرب الفؤاد سواء أدعوته إلى الإيمان، أم أهملت أمره، كالكلب يظل لاهث طردثه أو زجرته، أم تركته وأهملته، قال:(وأتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فأنسلخ منها، فأتبعه الشيطان، فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض وأتبع هواه، فمثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، فأقصص القصص لعلهم يتفكرون).
ولم ينس القرآن تصوير حيويتهم، واضطراب نفسيتهم في اضطرابهم صلة بينهم وبين من أستوقد ناراً ثم ذهب الله بنورهم وبين السائر تحت منهمر فيه ظلمات ورعد وبرق.
وصور وهن ما يعتمد عليه من يتخذ من دون الله أولياء بوهن بيت العنكبوت، وحين أراد أن يتحدث عن أن هؤلاء الأولياء لن يستفيد منهم عابد وهم بشيء، رأى في هذا الذي كفيه إلى الماء، يريد وهو على تلك الحال أن ينقل الماء إلى فيه، وما هو ببالغه شبيها لهم فقال:(له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، ما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).
وتعرض لأعمال الكفرة كما سبق أن ذكرنا ولصدقاتهم التي كان جديراً بها أن تثمر ونزهر، ويفيدوا منها لولا أن هبت عليهم ريح الشرك فأبادتها، كما تهب الريح الشديدة البرد بزرع كان ينتظر إثماره فأهلكته:(مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح، فيها صر، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته، وما ظلمهم الله، ولكن أنفسهم يظلمون).
وهناك طائفة من التشبيهات ترتبط بيوم القيامة لجأ إليها القرآن للتصوير والتأثير معاً، فإذا
أراد القرآن أن يبين قدرة الله على أن يأتي بذلك اليوم، بأسرع مما يتصور المتصورون لجأ إلى أسرع مما يراه الرائي، فأتخذه مثلا يؤدي إلى الهدف المراد، فيقول:(وله غيب السماوات والأرض، وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب، إن الله على كل شيء قدير).
ويقرب أمر البعث إلى الأذهان بتوجيه النظر إلى بدء خلق الإنسان، وأن هذا البعث صورة من هذا البدء فيقول:(كما بدأكم تعودون) وبتوجيه النظر إلى هذا السحاب الثقال يسوقه الله لبلد ميت، حتى إذا نزل ماؤه دبت الحياة في أوصال الأرض خرج الثمر منها يانعاً، وهكذا يخلق الله الحياة في الموتى، قال سبحانه: وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقاه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون)
وإذا جاء يوم القيامة أستيقظ الناس لا يشعرون بأنه قد مضى عليهم حين من الدهر طويل منذ فارقوا حياتهم، ويورد القرآن من التشبيه ما يصور هذه الحالة النفسية العجيبة، فيقول (يوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم، قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وما كانوا مهتدين)، وإذا نظرت إلى قوة التشبيه مقترنة بقوله: يتعارفون بينهم، أدركت مدى ما يستطيع أن يحدثه في النفس من أثر. وقد كرر هذا المعنى في موضع آخر يريد أن يثبته في النفس ويؤكده فقال:(يسألونك عن الساعة إيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها).
هاهم أولاء قد بعثوا خارجين من أجداثهم في كثرة لا تدرك العين مدرها، وماذا يستطيع أن يرسم لك تلك الصورة، تدل على الغزارة والحركة والانبعاث، أفضل من هذا التشبيه الذي أورده القرآن حين قال:(خشعاً أبصارهم، يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشرة، مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر). وحينا يصورهم ضعافاً يتهافتون مسرعين إلى الداعي كي يحاسبهم فيجد في الفراش صورتهم، فيقول:(القارعة ما القارعة، وما أدراك ما القارعة، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث). ولا أخال أحداً لم ير الفراش يسرع إلى الضوء، ويتهافت عليه في ضعف وإلحاف معاً، ولقد تناول القرآن إسراعهم مرة
أخرى، فشبههم بهؤلاء الذي كانوا يسرعون في خطوهم، ليعبدوا أنصاباً مقامة، وتماثيل منحوتة، كانوا متحمسين في عبادتها، يقبلون عليها في رغبة واشتياق فيقول:(يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون).
ويتناول المجرمين، فيصور ما سوف يجدونه يومئذ من ذلة وخزي، ويرسم وجوههم وقد علتها الكآبة:(كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). أما طعامهم فمن شجرة الزقوم يتناولونها فيحسون بنيران تحرق أمعائهم فكأنما طعموا نحاساً ذائباً أو زيتاً ملتهباً، وإذا ما أشتد بهم الظمأ واستغاثوا قدمت إليهم مياه كهذا النحاس والزيت تشوي وجوهه. قال تعالى:(إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) وقال سبحانه: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه) ألا ترى التشبيه يثير في النفس خوفاً وانزعاجا؟
ويصور آكل الربا يوم القيامة صورة منفرة منه، مزرية به، فهل رأيت ذلك الذي أصابه مس من الشيطان فه لا ينهض واقفاً حتى يسقط، ولا يقوم إلا ليقع، ذلك مثل آكل الربا (الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا).
ولعب التشبيه دوراً في تصوير يوم القيامة، وما فيه من الجنة النار، ففي ذلك الحين، تفقد الجبال تماسكها، وتكون (كالعهن المنفوش) وتفقد السماء نظام جاذبيتها، فتنشق، ويصبح الجو ذا لون أحمر كالورد:(فإذا انشقت السماء، فكانت وردة كالدهان)، وأما جهنم فضخامتها وقوة لهبها مما لا يستطيع العقل تصوره، ومما لا يمكن أن تقاس إليها تلك النيران التي نشاهدها في حياتنا، وحسبك أن تعلم أن شررها ليس كهذا الشرر الذي يشبه الهباءة اليسيرة، وإنما هو شرر ضخم ضخامة غير معهودة، وهنا يسعف التشبيه، فيمد الخيال بالصورة، حين يجعل لك هذا الشرر كأنه أشجار ضخمة تتهاوى، أو جمال صفر تتساقط، (إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر) وأما الجنة ففي سعة لا يدرك العقل مداها، ولا يستطيع التعبير أن يحدها، أو يعرف منتهاها، ويأتي التشبيه ممداً في الخيال، كي يسبح ما يشاء أن يسبح فيقول:(وجنة عرضها كعرض السماء والأرض).
وهكذا ترى التشبيه يعمل على تمثيل الغائب حتى يصبح حاضراً، وتقريب البعيد النائي
حتى يصبح قريباً دانياً.
ولجأ القرآن إلى التشبيه يصور به فناء هذا العالم الذي نراه مزدهراً أمامنا عامراً بألوان الجمال، فيخيل إلينا استمراره وخلوده فيجد القرآن في الزرع يرتوي من الماء فيصبح بهيجاً نضراً، يعجب رائيه، ولكنه لا يلبث أن يذبل ويصفر ويبح هشيماً تذروه الرياح، يجد القرآن في ذلك شبهاً لهذه الحياة الدنيا، ولقد أوجز القرآن مرة في هذا التشبيه وأطنب، ليستقر معناه في النفوس ويحدث أثره في القلب، فقال مرة:(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فأختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدراً). وقال مرة أخرى: (اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة، وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً). وقال مرة ثالثة (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فأختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأزينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلنا حصيداً كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).
ولما كان للمال أثره في الحياة الاجتماعية لعب التشبيه دور في التأثير في النفس كي تسمح ببذله في سبيل تخفيف أعباء المجتمع فقرر، مضاعفة الثواب على ما يبذل في هذه الناحية فقال في موضع:(ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، فأن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير). فلهذا التشبيه أثره في دفع النفس إلى بذل المال راضية مغتبطة، كما يغتبط من له جنة قد استقرت على مرتفع من الأرض ترتوي بما هي في حاجة إليه من ماء المطر وتترك ما زاد عن حاجتها، فلا يظل بها الماء حتى يتلفها كما يستقر في المنخفضات، فجاءت الجنة بثمرها مضاعفاً. وفي مرة أخرى رأى مضاعفة جزاء الحسنة كمضاعفة الثمرة لهذا الذي يبذر حبة قمح فتخرج عوداً يحمل سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة:(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم). وحاط القرآن هذه المضاعفة بشرط كون الإنفاق عن رياء. وهنا قف أمام هذا التشبيه القرآني الذي سيق تصويراً لمن يتصدق لا
عن باعث نفسي، نتبين إيحاءاته، ونتلمس وجه اختياره، إذ يقول سبحانه:(يا أيها الذي آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق رثاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب، فأصابه وابل، فتركه صلداً، لا يقدرون على مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين)، أرأيت هذا الصلد قد غطته قشرة رقيقة من التراب فخاله الرائي صالحاً للزرع والإنبات، لكن وابل المطر لم يلبث أن أزال هذه القشرة فبدأ الحجر على حقيقته صلداً لا يستطيع أحد أن يجد فيه موضع خصب ولا تربة صالحة للزراعة؟ إلا ترى في اختيار كلمة الصفوان هنا ما يمثل لك هذا القلب الخالي من الشعور الإنساني النبيل، والعطف على أبناء جنسه عطفاً ينبع من شعور حي صادق، ولكن الصدقة تغطيه بثوب رقيق حتى يخاله الرائي، قلباً ينبض بحب الإنسانية ويبني عليه كبار الآمال فيما سوف يقدمه للمجتمع من خير، ولكن الرياء والمن والأذى لا تلبث أن تزيلا هذا الغشاء الرقيق، فيظهر القلب على حقيقته قاسياً صلباً لا يلين.
وتأتي الكاف في القرآن أحيانا لا لهذا التشبيه الفني الخالص، بل لإيقاع التساوي بين أمرين، ومن أمثلة هذا الباب قوله تعالى (وعد الله المنافقين والكفار نار جهنم خالدين فيها، هي حسبهم ولعنهم الله، ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم، كانوا أشد منكم قوة، وأكثر أموالاً وأولادا، فاستمتعتوا بخلاقهم كما استمتعتم بخلاقكم. كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، وخضتم كالذي خاضوا، أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون) وقوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداًعليكم، كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول، فأخذناه أخذاً وبيلاً)؛ فهو يعقد موازنة بينهم وبين من سبقهم، ويبين لهم الوجوه التي يتفقون فيها معهم، ولا ينسى أن يذكر ما أصاب سابقيهم. وإلى هنا يقف تاركاً لهم أن يصلوا بأنفسهم إلى ما ينتظرهم من العواقب، وإنها لطريقة مؤثرة في النفس حقاً أن تضع لها شبيها، وتتركها تصل بنفسها إلى النتيجة في سكينة وهدوء، لا أن تقذف بها في وجهها، فربما تتمرد وتثور.
ومن كاف التساوي أيضا قوله تعالى (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)، وقد يلمح في ذلك الرغبة في إزالة الغرابة عن نفوس السامعين واستبعادهم نزول الوحي على الرسول، فالقرآن يقرنه بمن لا يشكون في رسالته، ليأنسوا بدعوة النبي؛ وقد
يكون في هذا التساوي مثار للتهكم، كما في قوله تعالى:(ولقد جئتمونا فرادى، كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم)؛ أو مثار للاستنكار، كما في قوله (ومن الناس من يقول آمنا بالله، فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) فسر الاستنكار كما ترى هو تسوية عذاب الناس بعذاب الله.
وقد تأتي الكاف وسيلة للإيضاح، وتقوم هي وما بعده مقام المثال للقاعدة، وغير خاف ما للمثل يضرب من التأثير والإقناع؛ ومن ذلك قوله:(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً، وأولئك هم وقود النار، كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب)، فجاء بآل فرعون مثالا لأولئك الذين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً. ومن كاف الإيضاح قوله سبحانه:(خلق الإنسان من صلصال كالفخار) وقوله: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، فتنفخ فيه فتكون طيراً بإذني).
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم
الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
النزوع
النزوع أو الإرادة أو العمل، هو المظهر الثالث للشعور الإنساني، وما دمنا قد تحدثنا في المقالين السابقين من هذه السلسلة عن المظهرين الأولين للشعور عند الغزالي وهما المعرفة والوجدان، أو على حد تعبير الغزالي العلم والحال، نرى من الحق أن نتحدث هذه المرة عن المظهر الثالث للشعور وهو النزوع أو العمل. وبهذا نكون قد تحدثنا عن أجزاء العملية العقلية عند الغزالي تامة، وصورنا مظاهر الشعور الثلاثة في نظر هذا العبقري كاملة.
وها نحن أولاء الآن نورد وصف النزوع في علم النفس الحديث فنقابله بما سنورده من وصف لهذا النزوع عند الغزالي. يقول النفسيون: النزوع هو الوجه الثالث لأية عملية عقلية، وهو محاولة (أو جهد) يبذله الإنسان ليستديم الارتياح الذي وجده، أو يبتعد عما شعر به من الألم والضيق. فهو ما يشعر به الإنسان عندما يكون هو الفعال نفسياً، فيؤثر في ما يجري في نفسه من الخواطر منتقلاً من اللحظة التي هو فيها، نازعاً نحو أخرى آتية أو مبتعداً عنها في حين أنه في الوجدان يكون هو المتأثر المنفعل.
وليس الإدراك والوجدان والنزوع أجزاء منفصلة يتكون من مجموعها الشعور، إنما هي أوجه (ومظاهر لشيء) وأخذ يمكن تميزها بعضها عن بعض يا لفكر ليس إلا. فهي متصلة بعضها ببعض اتصالاً وثيقاً، وتوجد في كل عملية عقلية، وتحدث كلها في آن واحد. فالإدراك لا يوجد من غير أن يصحبه وجدان؛ ولا يوجد وجدان بغير نزوع أو أدراك، والنزوع لا يوجد بدون أخويه الآخرين.
فالشعور وحدة متصل بعضها ببعض. الإدراك والوجدان والنزوع مظاهر ثلاثة لتلك الوحدة).
ولنر الآن ما كتبه العبقري العظيم أبو حامد الغزالي في هذا الموضوع (أعلم أن النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد، وهو حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران، علم وعمل والعلم يقدم لأنه أصله وشرطه؛ والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه وذلك لأن كل عمل، أعني كل حركة وسكون اختياري فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم واردة وقدرة، لأنه
لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلا بد وأن يعلم ولا يعمل ما لم يرد فلا بد من الإرادة ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض، إما الحال أو المآل. فقد خلق الله الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور ويلائم غرضه، ويخالفه بعض الأمور، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه، ودفع الضار الخافي عن نفسه، فأفتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك للشيء المضر والنافع حتى يجب هذا ويهرب من هذا. فإن من لا يبصر الغذاء لا يمكنه من أن يتناوله. ومن لا يبصر النار لا يمكنه الهرب منها فخلق الله الهداية والمعرفة وجعل لها أسباباً وهي الحواس الظاهرة والباطنة.
ثم لو أبصر الإنسان الغذاء وعرف أنه موافق له فلا يكفيه ذلك للتناول ما لم يكن فيه ميل إليه ورغبة فيه وشهوة له باعثه عليه. إذ المريض يرى الغذاء ويعلم أنه ولا يمكنه التناول لعدم الرغبة والميل، فخلق الله له الرغبة والميل والإرادة، وأعني به نزوعاً من نفسه إليه وتوجيهاً في قلبه نحوه. ثم ذلك لا يكفيه، فكم من شاهد طعاماً راغب فيه يريد تناوله عاجز عنه لكونه زمناً، فخلقت القدرة والأعضاء المتحركة حتى يتم التناول. والعضو لا يتحرك إلا بالقدرة. والقدرة تنتظر الداعية الباعثة والداعية تنتظر العلم والمعرفة أو الظن أو الاعتقاد وهو أن يقوي في نفسه كون الشيء موافقاً له، فإذا جزمت المعرفة بأن الشيء موافق لابد يفعل وسلمت عن معارضة باعث آخر صارف عنه انبعث الإرادة وتحقق الميل. فإذا انبعثت الإرادة إنتهضت القدرة لتحريك الأعضاء. فالقدرة خادمة الإرادة، الإرادة تابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة. فالنية عبارة عن الصفة المتوسطة وهي الإرادة. وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما هو موافق للغرض إما في الحال وأما في المآل فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث والغرض الباعث هو المقصد المنوي والانبعاث هو القصد والنية. وأنتهاض القدرة لخدمة الإرادة لتحريك الأعضاء هو العمل، إلا أن أنتهاض القدرة للعمل قد يكون بباعث واحد وقد يكون بباعثين اجتماعا في فعل واحد. وإذا كان بباعثين فقد يكون كل واحد بحيث لو أنفرد لكان ملبياً بإنهاض القدرة؛ وقد يكون كل واحد قاصراً عنه إلا بالاجتماع. وقد يكون أحدهما كافياً لولا الآخر لكن الآخر انتهض عاضداً له معاوناً).
حقاً أن الإمام الغزالي رحمه الله قد ظهر في هذه القطعة النفسية الجليلة الخالدة التي
انتزعناها من كتابه إحياء علوم الدين عالماً نفسياً كبيراً وعبقرياً في فهم الطبائع البشرية وأسرار النفس الإنسانية خطيراً. قد ظهر الغزالي في هذه القطعة فاهماً للشعور الإنساني كل الفهم، مدركاً للعملية العقلية كل الإدراك، فهو لم يعالج في هذه القطعة موضوع (العمل) فحسب بل عالج جملة الشعور وكلية العملية العقلية. عالجها هذه المعالجة الدقيقة المتقنة السهلة الواضحة المبسطة التي تدل دلالة تامة على أن الرجل قد أوصله تأمله في نفسه وملاحظته لغيره إلى أعمق أغوار النفس البشرية فتغلغل في تلك الأغوار البعيدة تغلغل القوي القادر وعاد يحمل إلى العقل البشري هذه الأسرار العظيمة عن النفس البشرية والطبائع الإنسانية فينتفع بها الناس كافة. ونحن لا نحب أن نترك هذه القطعة النفسية العظيمة الفائدة دون أن نشير إلى التشابه بين ما جاء فيها وما جاء على قلم العالم الاجتماعي الكبير غوستاف لويون في كتابه الآراء والمعتقدات عن اللذة والألم كعاملين للحركة وباعثين للرغبة. ويقول الدكتور لويون:
(اللذة والألم يورثان الرغبة، أي الرغبة في بلوغ اللذة واجتناب الألم. فالرغبة هي المحرك الأساسي للإرادة والباعث على العمل، والرغبة هي التي توحي إلى الإرادة التي تكون بدونها معدومة. وعلى نسبة الرغبة تكون الإرادة قوية أو ضعيفة. ومع ذلك لا يجوز خلط الإرادة بالرغبة كما فعل كثير من الفلاسفة كشوبنهور وكوندياك. فإذا كانت الرغبة مصدر كل ما يراد فإنه يرغب في أمور كثيرة لا تراد. فالإرادة تتضمن التأمل والقصد والتنفيذ. إلى أن يقول:
والأمل أبن الرغبة لا الرغبة نفسها. إذ هو عبارة عن استعداد نفسي يجعل الإنسان يعتقد إمكان تحقيق ما فيه من رغبة. فقد يرغب المرء في شيء دون أن يأمله، فعلى قلة من يأملون الثروة نرى جميع الناس يرغبون فيها، وكذلك العلماء فأنهم يرغبن في اكتشاف علة العلل مع أهم لا يأملون أن يصلوا إليه. وقد تقرب الرغبة من الأمل في بعض الأحيان فتختلط به. فالإنسان في لعبة الدولاب يرغب في الربح ويأمله. ويمكننا أن نعرف الأمل باللذة المرجوة. وفي الغالب يكون الأمل في دور الرجاء أشعتي للعلة منه في إيجازه، وسبب ذلك واضح، فاللذة المنجزة تكون محدودة مقداراً وزماناً مع أنه لا حد لما يوجه الأمل من أحلام ولم يوجد سلطان الأمل وفتنته إلا لاشتماله على ما في اللذة من ممكنات.
فهو عصا سحر قادرة على تحويل كل شيء. وهذا هو سر الكون دعاة التجدد لم يفعلوا سوى إقامة أمل مكان آخر).
ولا يفوتنا بعد كل ما تقدم عن النزوع أن نتحدث قليلاً عن سلوك الغزالي بالنسبة إلى أهدافه، يقول الغزالي:
(قد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور ويخالفه بعضها، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق ودفع الضار المنافي) وهو بهذا قد وضع قاعدة جلب اللذة ودفع الألم. وقال في موضع آخر:
(المحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث. والغرض الباعث هو القصد المنوي، وهو بهذا قد وضع قاعدة الهدف الباعث. ولننظر الآن لنعرف ما هو الهدف الباعث للغزالي في حياته. وأين اللذة المجلوبة في هذا الهدف وأي الألم المدفوع. نريد أن نعرف هذا لنستطيع أن نعلل سلوك هذا الرجل على ضوء علم النفس الذي يشرف علينا من هذه السطور التي سطرها قلمه مغموسً بعصارة نفسه وخلاصة حياته.
قد وضع الغزالي لنفسه هدفاً يجلب بالحصول عليه اللذة وهو الجنة، فالجنة هدف الغزالي الباعث له على ذلك السلوك الذي سلكه في حياته؛ وقد كانت العبادة هي الطريق - أو الوسيلة - الموصلة إلى الهدف. وقد تركزت في هدف الغزالي كل رغباته، فكان منساقاً إلى الهدف بكل ما في رغباته من قوة وعنف. وقد وضع الغزالي لنفسه باعثاً آخر ولكنه باعث مكروه لأنه مصدر ألم وهو نار جهنم والعياذ بالله. فقد حرك هذا الألم في نفس الغزالي الرغبة في الهروب ابتغاء النجاة والطمأنينة، الهروب من الدنيا إلى الآخرة، من نار جهنم إلى جنات النعيم ونحن إذا فهمنا هذا جيداً استطعنا أن نفهم العلة في سلبية الغزالي وانطوائه على نفسه وعده رغبات الحياة الإيجابية مهلكة تجب النجاة منها، ورغبات الحياة السلبية منجية يجب الاعتصام بها. إذا فهمنا هذا جيداً استطعنا أن نفهم السبب في اعتبار الغزالي غرائز الغضب والتغلب السيطرة والمنافسة وحب المدح والجاه والثراء وما إليها يجب الابتعاد عنها والتخلص منها بالخوف والخضوع والانقياد والزهد والفقر وما إليها من الغرائز والرغبات السلبية.
حمدي الحسيني
رسالة الشعر
كيف أدعوك
لصاحب السعادة عزيز أباظة باشا
مهداة إلى الآنسة أم كلثوم
(اعتدت أن أهدي إليك وأنا غريب الدار. تقولين أنني أفعل ذلك توفيراً للهدية! وأقول أنني أفعله توقيراً للمهدى لها: فهل تصنعين فيه لحناَ! لقد خلدت الخالدين، فتنزلي إلى المغمورين)
مونت كاتيني
عزيز أباظة
كيف أدعوكِ! لا أقولُ منَى
…
النفس ونعماءها، فأنك نفسي
وأنا أَنتِ إنَّ روحيَ في
…
روحك تَفْنىَ، وإنَّ حسَّكِ حسَّي
ما خلونا إلاَّ تساءلتُ هل همسُك
…
هذا القدسي أَم هو همسيٍ
لفَّ أَعراقَنا الهَوى وطوانا
…
فآمنَّا سُعارَ جنسِ لجنسٍ
حسبيَ النظرةُ الشهيةُ تلقىِ
…
لُمَعَ النورِ في غياهبِ يأسي
وحديثٌ كأنَّه من صلاةِ اللهِ
…
ذو طابعٍ وعرفٍ وجرسِ
أتراءكِ بينَ أجنحةَ الفجر
…
إذا رفرفتْ ترُفُّ اللَّجينا
قُبَلاً من مُجاجَةِ النورِ تنهلُّ
…
فتشفي جوانحاً قد ظمينا
أنت إشراقهُ السماءِ ومجلىَ
…
الله في خلقهِ كمالَا وزيناَ
أنت حسنٌ جم الأفانين ما
…
شعشع لونا إلا ليبدع لونا
قلتُ للفجرِ حين لُفَّت بهِ
…
الشمس وشفَّت أسداله فانطوينا
آيه يا فجرُ في غلائِلك البيضِ
…
حبيبي فأمضِ الهوينىَ الهوينى
أتراءكِ والدجى مُسبَلُ الستر
…
عَلَى الكونِ مستترُّ الجفون
في زُهَا البدرِ في حياءِ الثرُّيا.
…
في صلاة الأطيارِ فوقَ الغصون
في سقيطِ الندَىَ يطلُّ بهِ النبتُ
…
فيَرِوي عن سَّره المكنون
نورَ عيني مذ وادَعَ الدمعُ عيني
…
غِبَّ يومٍ مردٍ ورزء طحون
كنت بَرداً لقلبيَ المحزونِ
…
ثم شُغلَا لهُ فحبَّ الحنون
ثم كنت الحياةَ حاليةَ الأفوافِ.
…
ريا الأعطاف شتَّى الفنون
قبلتي أنت حيثُ أضربُ في
…
الأرضِ فصونيِ أمانتي واذكريني
عزيز أباظة
لن أنساك
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
السنا والظل من عي
…
نيك لاحا في خيالي
في مساء ساحر الأن
…
وار، مسحور الظلال
وأنا وحدي غريب
…
بين يأسي واعتزالي
أشرب الأوهام والأح
…
لام من كأس الليالي
آه من عينيك يا حو
…
راء يا نبع الحنان
كم شربت النور من عي
…
نيك في ظل التداني
فانتشت روحي وهامت
…
فوق آفاق الزمان
أين مني الآن هذا
…
السحر؟ بل أي مكاني
نحن كنا في ظلال
…
الحب، للحب نغني
نحن كنا نقطف الأح
…
لام من روض التمني
ثم غاب الروض والأح
…
لام. . لما غبت عني!
يا حياتي خبريني
…
أي شيء كان مني؟
كالورود الذابلات
…
هكذا صارت حياتي
هكذا ضيعت عمري
…
في الأماني الضائعات!
م أزل مذ غبت عني
…
هائما في ذكرياتي!
ذاهل الإحساس حتى
…
لم أعد أعرف ذاتي
إن دعاني الليل طارت
…
نحوه روحي الحزينة
واستقرت في يديه
…
وهي حيرى مستكينة
ومضت تشكو إليه
…
وهي بالشكوى ضنينة
غير أن الليل يغري
…
كل روح بالسكينة
لم أعد أخشى من المو
…
ت، فقد مت مرارا!!
رب يوم كنت أفني
…
فيه شوقاً وانتظاراَ
شارد الإحساس، حي
…
ران الأماني، مستطارا
وتوارى اليوم لم أش
…
عر به لما توارى
كنت أخشى الموت لما
…
كنت أحيا مطمئنا
كان لي في الحب قلب
…
بهواه يتغنى
ثم صار القلب يبكي
…
حبه مذ غبت عنا
يا حياتي لست أدري
…
لحياتي أي معنى!
أنا لن أنساك مهما
…
طال بالذكرى عذابي
كيف أنسى نور أيام
…
، وأحلام شبابي؟
فارحميني حين أبكي
…
فأنا أبكي لما بي!
وأعذريني حي يأتي
…
ك على الهجر عتابي
واذكريني، فعسانا
…
نلتقي بعد الغياب
إبراهيم محمد نجا
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
بين بلزاك ودستويفسكي
في مقالكم القيم الذي ظهر في العدد (889) من الرسالة، تحدثتم عن أثر القصاص الفرنسي بلزاك في صقل الموهبة القصصية عند الكاتبة الأمريكية مرجريت ميتشل، وذلك عن طريق القراءة والدراسة والاحتذاء. . ولقد وردت في ثنايا المقال فقرة من الفقرات قلتم فيها بعد شيء من العرض والتمهيد:(وجاء اليوم الذي كان يحلم به الزوج وتحلم به، وخرجت إلى حيز الوجود (ذهب مع الريح). . أول نفحة من نفحات الكاتب الفرنسي العظيم، أستاذ مرجريت الذي درست فن القصة على يديه، أستاذ الأساتذة في فنه بلا جدال)!
قلتم هذا عن بلزاك، وهو قول يعبر عن رأيكم في الكاتب الفرنسي وخلاصته أنه أعظم كتاب القصة بلا استثناء. . فما هو موقفكم من هذا الرأي الآخر طلع به علينا الأستاذ العقاد في عدد أغسطس من (الهلال)، حيث قال في معرض الحديث عن القصاص الروسي دستويفسكي:(ذلك هو دستويفسكي العظيم، دستويفسكي الخالد، دستويفسكي الذي لا يعلو على منزلته في القصة ولن يعلو عليها فيما أظن كاتب من كتابها المبرزين)؟!
ترى هل اطلعتم على هذا المقال الذي كتبه الأستاذ العقاد؟ وإذا كنتم قد اطلعتم عليه فكيف نوفق نحن القراء بين نظريتين، تدفع إحداهما ببلزاك إلى مقدمة الصفوف بينما تقصيه الأخرى عن مكانه لتحل محله دستويفسكي؟. نحن في انتظار رأيكم على صفحات الرسالة.
(دمشق سورية)
عدنان المطيعي
حقيقة نحب أن يعلمها الأديب السوري الفاضل ويعلهما غيره من القراء، وهي أن اختلاف الآراء حول قيم العباقرة من أهل الفن أمراً لا غرابة فيه. . وكيف لا تختلف الآراء وهناك تلك الحقيقة الأخرى التي تدور حول اختلاف الأذواق، وتنتهي إلى أن الذوق هو دعامة كل نظرة وسند كل لمحة وأساس كل ميزان؟ لا عجب إذن من أن ينظر الأستاذ العقاد إلى دستويفسكي نظرتنا إلى بلزاك، وأن يتنازع القصاصان الخالدان مكان الصدارة في عالم
النقد بما خلفاه للإنسانية من تراث عظيم!
الأستاذ العقاد معجب كل الإعجاب بدستويفسكي لا يكاد يفضل عليه قصاصاً سواه، هو لا يقف وحده في مجال الإعجاب بسيد كتاب القصة الروسية إنما يقف إلى جابه الكاتب الفرنسي الكبير أندريه جيد. وكاتب هذه السطور مقدر كل التقدير بلزاك لا يكاد يعدل به أحداً في مزاياه، وهو لا ينفرد بهذا التقدير لسيد كتاب القصة الفرنسية وإنما يشاركه فيه الكاتب الروسي العظيم فيدرودستويفسكي. . وإذا شهد دستويفسكي لبلزاك فهي الشهادة التي يعتز بها النقد ويحلها من مقاييسه في أبرز مكان!!
هذه حقيقة لا يجادل فيها كل مطلع على تاريخ دستويفسكي وكل دارس لحياته الفنية. . لقد قرأ الكاتب الروسي كثيراً من آثار بلزاك قبل أن تناول قلمه ليخرج للناس أول قصة، وكان إعجابه به هو إعجاب المعترف بالفضل حين يتمثل في القول المأثور أو الرأي المكتوب. . . وأبلغ الدلالة على هذا الإعجاب هو إقباله في مطلع الشباب على إحدى روائع بلزاك يقرؤها في نهم ويدرسها بعناية، ثم يأخذ في نقلها إلى لغته كنموذج رفيع لأدب القصة، ونعني بها رواية (أوجيني جرانديه) التي نشر ترجمتها في إحدى الصحف الأدبية الروسية!
حدث هذا على الرغم من تلك العصبية الإقليمية التي أشتهر بها دستويفسكي ورمي في سبيلها من مؤرخي الأدب بأقسى النعوت والأوصاف. . كان يفضل الشعب الروسي على غيره من الشعوب: فثقافته في رأيه هي خير الثقافات؛ وحضارته في نظره هي أرقى الحضارات، وقس إلى ذلك أغلب آرائه وأحكامه حين تدعو المناسبة إلى وضع الأدباء الروسيين في الميزان. . . هو مفتون بشعر (هيجو) الفرنسي يردده بينه وبين نفسه وبينه وبين الأصدقاء، ولكنه ينتصب واقفاً على قدميه ليدفع عن شعر (بوشكين) الروسي كلما هم لسان بالمقارنة بين الشاعرين، ثم لا يعدو مكانه إلا وقد خفض من قدر الأول ورفع من شأن الأخير! وهكذا كان حاله في كل موقف يتطرق الحديث فيه إلى المدح بين أدباء وطنه وأدباء غيره من الأوطان، إلا بلزاك. . فقد رأيه فيه فوق ك شك وفوق كل اتهام، حتى لتتوارى العصبية الإقليمية ولا تبقى غير كلمة الحق يجهر بها في إعجاب منقطع النظير. وحسبنا من دستويفسكي تقديراً لبلزاك تلك الحملة شنها على الناقد الروسي (بلنسكي)
لتفضيله إحدى قصص (تولستوي) على (أوجيني جرانديه!!)
ولقد قلنا ونحن نستعرض جوانب الملكة القاصة عند بلزاك ونشير إلى مزاياه: (لقد كان بلزاك دارس نفسيات من الأول، حتى لتستحيل النفس الإنسانية تحت لمسات ريشة غرفة مفتحة النوافذ والأبواب. وكان راسم شخصيات لا له، حتى لتطالعك النماذج البشرية في ساحة عرضه الفني كما تطالعك في ساحة العرض الكبرى نعني بها الحياة. . . وكانيخسر الحوادث والشخوص لإبراز فكرته العامة التي ينسج خيوطها العرض والحوار، فإذا هذه الفكرة منشورة على حدود القصة تمتد ظلالها من البداية إلى النهاية. . . وكان في التزامه لعنصر الواقعية الفنية مثلاُ أعلى للمراقبة الحسية والنفسية حين تعملان في خط اتجاه فكري واحد ينتظم كل من خطوط).
ويقول الأستاذ العقاد عن دستويفسكي في مقاله الذي نشر في الهلال: (فالمواقف الغرامية من أهم المشوقات في القصة على العموم، ولكنك لا ترى رواية لدستويفسكي تحل الغراميات في المحل الأول، ولعلها لا ترتقي في معظم روايات المرتبة الثانية من مراتب العناية، فهي فضول يأتي في السياق اضطراراً ويوشك أن يسقط من الحساب لولا أن إسقاطه واحدة مجافاة للواقع في العلاقات بين الناس. . . ومن نواحي التشويق التي لا يكترث لها دستويفسكي تضخيم الحوادث والأكثار من المزعجات أو الطوارق التي تهول العدد الأكبر من قراء القصص فربما دارت القصة كلها على حادثة واحدة من الحوادث اليومية، وهي تشتمل على مئات من الصفحات. . . وقلما يتحدث هذا الكاتب الموهوب عن (الشخصيات) العظيمة التي تعود الناس أن يستطلعوا أنباءها ولو كانت من توافه الأنباء، فمعظم شخصياته من صغار القوم الذي يعدون في المجتمعات بالألوف والملايين، ولكنه يجعلهم على الرغم من ذلك (مهمين) جداً كأنهم ذوو قرابة يشغلون بال القارئ لقرابتهم لا لأنهم ذوو خطر أو لأن حوادثهم ذات بال.
هذه هي النواحي التي لا يكترث لها دستويفسكي في رواياته، فليس هو كاتب غراميات ولا كاتب جرائم ولا كاتب بطولات ومظاهر تروع الناس بالمناصب والألقاب. . . وعلى الرغم من هذا كله يكتب ويشوق ويبلغ الغاية في التشويق والإبداع، فلولا قدرة خارقة في ذلك القلم لما استطاع أن يرتفع إلى القمة العليا بين كتاب الرواية في جميع العصور! ما
هي هذه القدرة الخارقة؟ هي القدرة على الغوص في السريرة الإنسانية، ففي بضع صفحات ينتقل القارئ من الشاطئ إلى أعمق الأغوار الإنسانية فإذا هو غارق معه في بحر لجي لا يحف فيه بالأرض والسماء، ولا يسأل أهو في ربيع أو شتاء، وفي صباح أو مساء، لأن (معمعان) هذه النفوس التي يغوص فيها يشغله عن الدنيا وما فيها ويبلغ من طغيانه على خيال القارئ أن يتوهم أنه عائش في قلب الرواية، فهي عنده الدنيا الحقيقية والدنيا التي تحيط بها هي الخيال)!
هذه كلمات تصدق على فن دستويفسكي كل الصدق وتنطبق عليه كل الانطباق، اللهم إلا في موضع واحد تختلف بشأنه مع الأستاذ العقاد، وهو قوله بأن دستويفسكي لم يكن كاتب جرائم. الحق أن أحداً من القصاصين لم يتناول الجريمة في قصصه بالتحليل العميق كما تناولها هذا الكاتب الفنان: هناك في روايته (الساذج) عامة، وفي روايته (الشياطين) خاصة، وفي روايته (الجريمة العقاب) على الأخص. . ولقد كان تحليله للجريمة في هذه الروايات الثلاث منصباً على الناحية النفسية والخلقية الاجتماعية!
وكل ما ذكره الأستاذ العقاد بعد ذلك عن قدرة دستويفسكي على الغوص في السريرة الإنسانية كما وهبة كبرى من مواهبه حقيقة ناصعة يندرج تحتها فن الكاتب الفرنسي فهما في هذه الموهبة متساويان. . . ولكن بلزاك يتفوق على صاحبه حين له تلك العناصر المشوقة التي لم يكن دستويفسكي يكترث لها التحقيق. وتبقى ناحية أخرى في فن الكاتبين من شأنها أن تثير بحثاً منفصلاً في أدب القصة. ومحورها أن دستويفسكي كان فهما للحياة من بلزاك وأن بلزاك كان أعمق تذوقاً للحياة من دستويفسكي. . . وسنتحدث في عدد مقبل من الرسالة عن الفوارق الفنية بين طبيعة (الفهم) وطبيعة (التذوق) تحت هذا العنوان: (القصة بين فهم الحياة وتذوق الحياة)
حول رأي قديم في أحد الكتاب
قرأت لكم في تعقيبات العدد (889) من الرسالة كلمة تحت عنوان (الإنتاج الأدبي بين الأصل والترجمة) تقولون فيها ما نصه: (أما عن وجود التفاوت بين الأصل والترجمة في الروح فهذا أمر لا جدال فيه). . وتقولون في نهاية الكلمة: (بلغ المترجم من الإجادة والصدق والأمانة فأن روح النص في غير لغته لا يمكن أن تسمو إلى المستوى الحقيقي
لهذه الروح في الأصيلة التي يتذوقها المتذوقون)!
قرأت ذلك فقمت مسرعاً يدفعني شعور خفي إلى البحث عن أعداد الرسالة السابقة وسرعان ما وجدت ما كنت أبتغيه. العدد (817) كلمة في تعقيباتكم بعنوان (كاتب لا يعرف قدر نفسه) رددتم بها على الأستاذ سلامة موسى الذي كتب العدد (188) من المسامرات كلمة جاء فيها: (وقد ترجم من كتب جتيه إلى العربية كتابان، الأول (آلام فرتر) الذي (ألفه) وترجمه الأستاذ أحمد حسن الزيات، والثاني (فاوست) الذي ترجمه الدكتور محمد عوض محمد. . . وكلتا الترجمتين لا تحتفظ بالروح الأصلي لقصتي الشاعر الألماني، وعلى من يريد الوصول إليه أن يرجع إليهما في الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية) وقد هاجمتموه هجوماً عنيفاً مراً. . وكلمتكم الأخيرة تدل المرء على اتفاقكما في الرأي. . . فهل يا ترى غير الأستاذ الناقد رأيه؟. وإذا كان، فهل تنظر إنصاف الأستاذ سلامة نن قلم كقلم المعداوي؟. . الأمل كبير. . وتقبل سلاماً من المعجب.
رجاء عبد المؤمن النقاس
طالب توجيهي
لو دقق الأديب الفاضل فيما رمينا إليه من معنى في هاتين الفقرتين اللتين نقلهما من كلمة سابقة، ولو دقق مرة أخرى فيم رمى إليه الأستاذ سلامة موسى لأدرك أننا غير متفقين معه في الرأي كما يقول. . فكلمة (ألفه) التي ينسبها سلامة موسى إلى ترجمة الأستاذ الزيات لقصة (ألام فرتر)، هذه الكلمة ترمي إلى تجريد الترجمة الزياتية من الصدق والأمانة وهما لازمتان من لوازمها الحقيقة. . وكلمته الأخرى التي يقول فيها:(إنها لا تحتفظ بالروح الأصلي لقصة الشاعر الألماني) ترمي هي أيضا إلى نفي كل أصالة فنية عن حقيقة تلك الترجمة وهي صفة أولى من صفاتها الجوهرية!
هذا السخف الذي لا يستند إلى شرعة واحدة من العدل والإنصاف، هو الذي دفعنا إلى كتابة تلك الكلمة في الرد على باطل الأستاذ سلامة موسى في مجلة المسامرات. . . ومع ذلك فأن قولنا:(ومهما بلغ المترجم من الإجادة والصدق والأمانة فإن روح النص في غير لغته لا يمكن أن تسمو إلى المستوى الحقيقي لهذه الروح في لغتها التي يتذوقها المتذوقون)، هذا
القول لا يؤدي مطلقاً إلى ما يؤدي إليه قول الأستاذ سلامة موسى: (وكلتا الترجمتين لا تحتفظ بالروح الأصلي قصة الشاعر الألماني). ذلك لأن هذا التعبير (لا يمكن أن تسمو) معناه في لغة الألفاظ الدقيقة أن ترجمة المترجم الصادق الأمين وإن احتفظت بروح النص في غير لغته فهي لا يمكن أن تحتفظ بجوهر تلك الروح في صورته الكاملة، ومثل في ذلك مثل المصور البارع الذي ينقل إليك لوحة (الجيو كندا) لدافنشي. . ليس من شك في أنه يستطيع أن ينقل إليك اللوحة نقلاً أميناً بما تزخر به من الملامح الألوان والظلال، ولكن الصورة التقليدية لا يمكن أن توحي إلى الشعور المتذوق (بكل) ما في اللوحة الطبيعية نبض وحياة! وإذن فترجمة الزيات العربية تستوي وأي ترجمة أخرى سواء أكانت إنجليزية أم فرنسية، ولا مبرر هناك يصر الأستاذ سلامة موسى على الرجوع إلى هاتين الترجمتين!
هذا هو المعنى الدقيق الذي درنا حوله وقصدنا إليه، وهو يفترق كل الافتراق عن المعنى الآخر الذي دار حوله الأستاذ سلامة موسى، حينا خطر أن يجرد ترجمة الأستاذ الزيات وصحبه (كل) احتفاظ بروح النص في لغته الألمانية!
ترى هل ينتظر الأديب الفاضل بعد هذه الكلمة سلامة موسى شيئاً من الأنصاف؟ إن رأينا اليوم في هذا الكاتب هو رأينا بالأمس، وإنه لرأي قديم دفعتنا المناسبة وحدها إعلانه، وكم لا في بعض الناس من أراء لا ينقصها لتظهر غير عدد من المناسبات!
رجاء إلى القراء:
هناك قراء لا يزالون يبعثون إلينا ببعض الأسئلة التي تتعلق بأمور شخصية؛ فهذا طالب حصل على التوجيهية يسألنا عن أي الكليات أكثر ضمانا للمستقبل وتوجيها إلى الحياة، وهذا آخر يسألنا النصح والمشورة؛ هل يتزوج الآن أم يرجئ هذا الأمر ليتفرغ لدراسته الجامعية، وهذا طالب ثالث يكتب إلينا راغباً في (إعطائه) بعض الدروس في الأدب العربي، قارئ رابع أضناه الحب وعذبه الأرق فه محتاج إلى (فتوة غرامية) تهيئ له أن يظفر بمن يحب، وهذا قارئ خامس يرغب في (وساطتنا) لدى وزير المعارف لينقل أحد أقربائه من المدرسين إلى القاهرة لأن الوزير الأديب في رأيه لن يرد طلباً للكاتب الأديب. . إلى آخر هذه النماذج العجيبة من الرسائل الطريفة!
إن ردنا على هذا النوع من القراء هو أننا نعتذر إليهم من الإجابة على أمثال هذه الأمور، لأنها تخرج عن دائرة اختصاصنا في هذا المكان من الرسالة، وإن رجاءنا إليهم هو أن يقصرون أسئلتهم على الشئون الأديبة والفنية!
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أعمال المؤتمر الثقافي وتوصياته:
أتينا في الأسبوع الماضي على اللجان التي الفت في المؤتمر الثقافي العربي الثاني، ونذكر الآن أنه بعد أن فرغت هذه اللجان عرضت تقريراتها على الهيئة العامة للمؤتمر التي عقدت جلستين في اليومين الأخيرين من أيام المؤتمر فناقش الأعضاء توصيات اللجان، وكان الرأي يؤخذ فيها واحدة واحدة، ووافق المؤتمر عليها مع تعديل بعضها. وقد رأس هاتين الجلستين الأستاذ شفيق غبريال بك نائبا عن معالي الرئيس الدكتور طه حسين بك؛ وقد جرت المناقشة في نظام تام وكان شفيق بك حريصاً على إتاحة الحرية في الإعراب عن الرأي، كما كان صبوراً واسع الصدر في حزم.
نظر المؤتمر تقرير اللجنة المكلفة بدراسة ما نفذته دول الجامعة العربية من قرارات وتوصيات المؤتمر الثقافي الأول، فتبين أن مناهج التعليم في أكثر البلدان العربية تسير وفق الكثير من تلك التوصيات، وأن أكثر هذه البلدان عملا بها هي سوريا، أن الحكومتين السعودية واليمنية لم ترسلا تقريريهما بهما في هذا الشأن، غير أن مندوبيهما أدليا ببيانين شفويين يتضمنان أن قرارات المؤتمر الأول موضع عناية هناك. وقد تقرر تشكيل لجنة للنظر في موضوع الكتاب المدرسي وفي وضع مناهج موحدة في القدر المشترك المبين في قرارات المؤتمر الأول، وتوصية حكومات الدول الأعضاء بضرورة تنفيذ ما يوصي به المؤتمر.
ونظر تقرير اللجنة المؤلفة لبحث موضوع تعليم أولاد اللاجئين الفلسطينيين، فلوحظ أن الجهود التي بذلتها البلاد العربية إلى الآن في هذا الغرض جهود متفرقة ولم تشمل إلا تعليم عشرين في المائة من مجموع من هم في سن التعليم من أبناء اللاجئين، كما تبين أنه ليس هناك إحصاء دقيق لعددهم وأحوالهم وقد أوصى المؤتمر بعدة توصيات منها تأليف لجنة تتفرع من اللجنة العامة لشؤون فلسطين، تكون مهمتها التفرغ للنواحي التعليمية من القضية الفلسطينية، ومنها فتح أبواب المدارس جميعها في البلاد العربية في وجه أبناء اللاجئين وأن يعاملوا كأبناء الدولة نفسها، وأن تستفيد كل دولة من المعلمين النازحين إليها من
فلسطين بضمهم إلى هيئاتها التعليمية الأصلية ومعاملتهم كالمواطنين على أساس المساواة، وتعديل الأنظمة والقوانين التي تحول دون استخدامهم، وأن تقوم اللجنة المقترحة بإحصاء دقيق لعدد من الأساتذة والطلاب اللاجئين.
ونظر تقرير لجنة الثقافة العربية، وقد وافق المؤتمر على ما اقترحته اللجنة من تخصيص مؤتمر عربي ثقافي مقبل لدراسة موضوع الثقافة العربية دراسة تحليلية مفصلة، كما وافق على سائر توصياتها، وأولها العمل على تحقيق الوحدة اللغوية في المجتمع العربي حتى تكون لغته الفصحى لا لغة التعليم والتأليف فحسب، وقد جرت مناقشة في هذه النقطة أراد فيها بعضهم أن يعدل صيغتها بحيث تكون: العمل على نشر اللغة الفصيحة في المجتمع العربي، ولكن الأكثرية أصرت على الصيغة الأصلية، ومن هذه التوصيات مواصلة العمل على ترقية الثقافة العربية من طريق إحياء تراثها القديم وتأليف لجنة من المختصين في البلاد العربية لحصر المخطوطات واختيار ما ينبغي تقديمه منها للنشر، ويتألف لجنة أخرى لاختيار أمهات الكتب الأجنبية في العلم والأدب والفن لترجمتها إلى اللغة العربية، وتسهيل نشر الكتب والمجلات والصحف العربية في مختلف البلاد العربية وإزالة القيود المفروضة على التصدير والاستيراد، ومعالجة مشكلة تحويل النقد، وعدم الحد من حرية التفكير والتداول إلا في الحدود التي يسوغها القانون.
وتقرر تأليف لجنة برياسة معالي وزير المعارف المصرية وعضوية ممثلين للدول العربية، للمعاونة على الإعداد للمؤتمر الثالث ويكون من عملها وضع كتاب عن خصائص الثقافة العربية ومقوماتها والمشكلات التي تواجهها في العصر الحاضر ووضع كتاب في وصف خصائص الثقافة العربية للمقالة والموازنة.
ونظر المؤتمر في تقرير لجنة الإعداد للحياة، وقد لوحظ أنه أطال بذكر أمور تربوية مما هو معروف ومدون في كتب التربية، هو يتضمن الحث على مقاومة النزعة الكلامية والاهتمام بالناحية العلمية، وهو مع ذلك أكثر التقريرات كلاماً! تتجه التوصيات في هذا الموضوع إلى العمل على أن يكتسب الناشئ القدرة على ممارسة الحياة المشاركة في شؤونها، وتضمنت هذه التوصيات أهمية العناية بإعداد المعلمين، ورفع مستوى المدرسين مادياً واجتماعياً، وعقد مؤتمر خاص بأعداد المعلم في البلدان العربية.
وأقر المؤتمر تقرير لجنة التوسع في التعليميين الثانوي والعالي، ومن توصياته في هذا الموضوع أن يكون التعليم في مرحلتيه الابتدائية والثانوية مجانياً، وأن تكون المناهج ذات صلة وثيقة بالبيئة الحياة، أن يكون التعليم العالي حق للنابغين وذوي المواهب وعلى الحكومات أن تيسره لهم بإعفائهم من نفقاته ومنحهم المساعدات المالية، ولخصت اللجنة عقبات التوسع في المعلمين والمباني والميزانية، وأوصت بالتوسع في إيفاد البعوث إلى الجماعات الأجنبية وفي استقدام الأساتذة الأجانب، وذلك للتغلب على عقبة قلة الأساتذة الجامعيين.
ثم عقدت الجلسة الختامية برياسة معالي الدكتور طه حسين بك رئيس المؤتمر، فتحدث ممثلو الوفود الرسمية حديث المودة والتحية والشكر، ثم وقف معالي الرئيس فألقى كلمة أعرب فيها عن شعوره بالتقصير في جانب الوفود العربية وأشاد بفضل العرب على مصر قائلاً إن قامت بشيء نحوكم فإنما ترد على الفضل فمنكم تعلمنا أدب العرب عنكم أخذنا الحضارة العربية وقال معاليه للأعضاء: أنني أهنئكم بأمرين الأول خاص بالجهود التي بذلتموها والنتائج التي وصلتم إليها، أعاهدكم على أنني سأدرس القرارات التي اتخذتموها وسأعمل على إنفاذها فوراً ولن أنتظر حتى تدرسها الجامعة العربية وتوصي بها لأنني مؤمن بها كما أنتم بها مؤمنون، الأمر الثاني هو أنكم قد فرغتم من عناء الدرس والبحث في المؤتمر وتستطيعون الآن أن تتفرقوا في البلاد المصرية دون أن تأخذوا أنفسكم بشيء من القيود ودون أن يأخذكم شفيق بك غربال بالحزم.
وأنتقل جميع الأعضاء على أثر ذلك إلى (كازينو سان استفانو) حيث تناولوا العشاء تلبية لدعوة معالي الرئيس، وبعد العشاء ألقى الشاعر العراقي الكبير الأستاذ مهدي الجواهري قصيدة مطولة عنوانها (تحية مصر) وهي قصيدة جيدة فيها عما يربط مصر والعراق من روابط الأخوة التي لا ينال منها صنيع بعض الساسة الذي ينكره الشعب. وبعده ألقى معال الدكتور طه حسين بك كلمة وصف بها قصيدة الجواهري بأنها جمعت بين طرائف العصر وجزالة العرب وكرر معاليه الدعوة إلى عقد الثالث في مصر، وكان قد وجه هذه الدعوة أيضا في جلسة المؤتمر حتى يتاح لمصر أن تقدم للوفود من الحفاوة ما لم يتيح لها في هذا المؤتمر.
محاضرات المؤتمر:
كانت المحاضرة الخامسة، من المحاضرات العامة التي عدت لتلقي في خلال الأيام التي ينعقد فيها المؤتمر، هي محاضرة تربية العلمية لدى الشباب) للدكتور زكي نجيب محمود وقد بدأها بالتسائل عن سبب تأخرنا عن الغرب، وانتهى إلى أن هذا السبب إنما هو أننا نصدر في أعمالنا وتصرفاتنا عن العاطفة، قائلا: إن الشائبة التي تعيب كياننا وتضعف بنياننا هي (تضخم في العواطف والانكماش في العقل) وأن العلاج الذي يطالب رجال التربية أن يتناولوا به الجيل الناشئ هو أن يحصروا العاطفة في أضيق دائرة ممكنة ليفسحوا للعقل أوسع نطاق ممكن وقد عرف العاطفة بأنها الميل الشخصي الذاتي الذي لا يؤيده شيء من الواقع وعرف العقل بأنه مجموعة الأقوال التي يمكن التحقيق من صوابها أو خطئها. وقال إن أوربا نهضت في القرن السادس عشر لأنها نقصت عن نفسها غبار العقيدة (فسر العقيدة بأنها الذي يصدر عن عاطفة) لتلقي بزمامها إلى العقل، وإن التقدمالذي أصابه الإنسان إنما يرجع إلى تغيير نظرته إذا أصبح في البحث العلمي لا يقول القول إلا إذا اقتنعت به الحواس ورضي العقل، وإننا إذا أردنا أن نلحق بركب التقدم يجب أن نصنع ما صنعت أوربا إبان نهضتها، فأن حالنا شبيه بحالها إذ ذاك، فيجب أن ننزل عن الإيمان بالقلب إلى الإيمان بالعقل، والدعوة إلى العلم وحده هي الدعوة إلى المعرفة الصحيحة. ثم ندد بالطريقة المدرسية عندنا لأنها تعتمد على الحفظ سواء أكان المحفوظ قرآنا أم غيره، فالمدارس لا تزال (كتاتيب) وقال: إن تربية الناشئ تربية علمية معناها ألا يسلم بعقيدة لأنها شائعة وألا يأخذ برأي لأنه رأي موقر بتوقير صاحبه بل يجب أن تقوم التربية على تحكيم العقل فيكون للناشئ حق النقد كيف شاء.
ولا شك أن أساس المحاضرة سليم من حيث الدعوة إلى العلم والسير على مقتضى العقل، من حيث نقد ما يسود حياتنا على اختلاف نواحيها من عواطف حمقاء وعشواء ولكن الدكتور زكي نجيب قد غالى واشتط كدأبه فقلل من شأن العاطفة بل أنكرها كل الإنكار، وجعل العقل وحده كل شيء في تقدم الإنسان ورقيه أسند تأخرنا إلى ما سماه (تضخم العواطف) الواقع أن عواطفنا المتضخمة التي تسوقنا إلى الخرافات والأوهام ليست هي العواطف المنشودة للإنسانية والتي لا تكون الإنسانية إلا بها، فالعاطفة المنشودة هي
(العاطفة العاقلة) إذا اعتبرنا هذا المعنى أمكن القول بأننا لا نصدر فيما نأتي وندع عن عاطفة ولا عن عقل.
فليدع من يدعو إلى العقل والى العلم، وما أشد حاجتنا إليهما، ولكن كيف نعيش من غير عقيدة وقلب وعاطفة، وما موقفنا أذن من قيمنا مثلنا الروحية؟ حقاً أشار الدكتور زكي في المحاضرة إلى أنه لا ينكر أثر الأدب والفنون في ترقية الأذواق وتهذيب النفوس لكنه لم يبين كيف يتفق الإقرار بهذا مع إنكار العاطفة والوجدان هل يريد (فنونا علمية) وكيف تكون؟
ثم كيف يتجرد الناس من القلب الإنساني وكيف تكون حياتهم إذا أسكتوا نبضه؟ وهل حقاً يسير المجتمع الغربي - إذا سلمنا بأن لا بد من السير في أثره - بلا عاطفة؟ وإذا أحتج أحد بعسف السياسة وطغيان الاستعمار فهل الحياة الغربية كلها سياسة واستعمار؟ وكانت المحاضرة الأخيرة هي محاضرة فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت عن (العنصر الروحي وصلته بأعداد المواطن الصالح وقد بين فيها أثر الدين في تربية الناشئ تحدث عن أعداد من سماه (الديني الخاص) وعني به المختص بالثقافة الدينية وقال إنه لا يكفي في إعداده أن يتبحر في علوم الدين بل يجب أن توجه أكبر عناية إلى تربيته بحيث يمتزج الدين بقلبه كما يلم به عقله. ومما قاله أن العالم يحتاج إلى هداية يرجى أن تشع عليه من هذا الشرق.
الشغب في المؤتمر:
كانت محاضرة الدكتور زكي نجيب محمود مساء يوم الاثنين، وكان المقرر أن يتلوه الأستاذ عبد العزيز القوصي بمحاضرة عن الأزمات النفسية بين طلبة المدارس الثانوية، ولكن المحاضرة الأولى أثارت ضجة، إذ اعتبرها بعض الأعضاء دعوة إلى الإلحاد، وطلبوا أن يجر التعليق عليها والمناقشة فيها مهما طال الوقت ولو أدى ذلك إلى تأخير المحاضرة الثانية، ورأى الرئيس المشرف على المحاضرات، الأستاذ متي عقراوي، أن تلقي المحاضرة الثانية أولاً، وأيده في ذلك بعض الأعضاء ولكن طلاب المناقشة وقفوا بعنف وحالوا دون إلقاء المحاضرة، وانقلبت هذه إلى عراك، وأراد بعضهم أن (يتفاهم) بالأيدي والكراسي. . ثم أنفض الجمع أغلقت القاعة. وقد أدى ذلك إلى إلغاء المحاضرات
ما عدا محاضرة الأستاذ الشيخ شلتوت التي ألقاها يوم الأربعاء.
ومما يذكر أن تلك (المهارشة) وقعت بين الأعضاء المصريين فقط، وأنها امتداد للحملة أو العاصفة التي تحدثت عنها في الأسبوع الماضي، ولم يفت الأعضاء غير المصريين أن يلاحظوا أن هذا الشغب يرجع إلى دوافع شخصية أو دوافع نفسية أو كليهما، ولم يفت أحد من العقلاء جميعاً أن يستنكر هذه الأساليب التي لا تليق بالمجتمعات الثقافية.
ومما يذكر أيضا أن ذلك الشغب أنقطع أو كاد بعد الحادث الذي وقع على أثر تلك المحاضرة، وقد فهمت - من بعيد - أن انحسار الشغب عن المؤتمر بعد ذلك يرجع إلى أن معالي رئيس المؤتمر الدكتور طه حسين بك أبدى غضبه لهذه الحال بطريقة ما، فعلموا أنه غير راض عن هذه التصرفات، على خلاف ما كان يوعز إليهم!. .
معرض الزخرفة الأندلسية:
هو معرض روائع من عمل الفنان العراقي السيد يوسف محمود غلام، وقد استدعته الإدارة الثقافية من بغداد ليعرض أعماله الفنية في المؤتمر الثقافي. وآسف لضيق المقام في هذا الأسبوع عن الحديث عن هذا المعرض العظيم، غير أنه لا بد الآن من الإشارة إلى أن المعرض لا يزال في كلية الآداب بالشاطئ على رغم انقضاض المؤتمر ومجيء الأعضاء إلى القاهرة، وصاحبه السيد غلام لا يزال حائراً، وقد نفذت نفقته ولم يلق ما كان يؤمل من تشجيع أدبي وعون مالي، أيعود إلى بغداد بعد أن أنفق على معرضه وعلى نفسه وولده نحو مائتي جنيه من جيبه، أم ينتظر لفتة أحد من ذوي الشأن ينقل المعرض إلى القاهرة، عسى. . .؟
عباس خضر
البريد الأدبي
إلى هجران:
ليتك ما تكلمت يا (هجران) فإنك لم تخرجي من تعقيب صاحب
التعقيبات إلا بطائفة من كلمات لا تقنع. أما الأجواء الفنية التي حلقت
بينها الأجنحة النفسية فما تناولت بإشارة تدل عليها، كأن القضية لا
تحتاج إلى نتيجة. . وأين الفن في أبيات صاغها (الحداد) من حديد،
فاتبعه الوزن، وأعياه التكلف، وخانه (النحو). وكل واحدة من هؤلاء
قاصمة لها في عالم الشعر ما للذر في عالم الحرب. . وإني لحائر فأي
ذوق فني في قول الحداد.
أرم عينيك يا سحاب
…
إن بكى قلب شاعر
أو قوله:
وأغنى ليزهدا
…
بهتاف الضحى لهزار
وأين الواو العاطفة التي
…
يفتقر إليها (ظمأي)
عندما يقول:
إن جوعي كوى للحجر
…
ظمأي جفف العيون
إن العنوان الحق الذي يليق برأس تلك المقطوعات لا يكون غير (هذيان) هذا إن قصد الإنصاف واعتدلت الموازين، أما إن أريد غير ذلك فلا حرج في الإفتاء بجواز تجريد جواب الشرط من فائه.
ليتك ما تكلمت يا (هجران) فإن القلم يوشك أن يقرض اللجام ليكشف الغطاء عن (الأداء النفسي) وذاك أمر أن يبد يسوء الأستاذ (المعداوي).
وسلام عليك على صاحب التعقيبات.
طنطا
بركات
وفاة البارودي
نشرت الرسالة الغراء بالعدد (895) بضعة سطور ظن كاتباها أنه قد استدرك علينا فيما نشرناه بالعدد 892 من أن وفاة البارودي كانت في يوم الاثنين 12 ديسمبر سنة 1904 فقال: أن هذه وفاة كانت ليلة الثلاثاء 13 ديسمبر سنة 1904 وكأننا بهذا الاستدراك (التجاري) قد احتملنا وزر تقديم تاريخ وفاة البارودي ساعة أو بعض ساعة!!
وقد كنا نود لو أن هذا الاستدراك قد ظهر من عشر يوم أن كتب هيكل باشا في مقدمة الجزء الأول من ديوان البارودي الذي طبع سنة 1940 أن الوفاة: كانت في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر سنة 1904!!
إن الذي يتصدى لمثل هذه الأمور يجب عليه أن يتحرى التحقيق البالغ لكي يصيب الغرض الذي يرمي إليه وهو ما في توخيناه في تحقيق وفاة البارودي رحمه الله فقد رجعا فيه إلى ثلاثة مصادر كبيرة لايشك أحد في روايتها ولا يجادل مكابر في تحقيقها في حين أنه كان يكفي في هذا التحقيق مصدر واحد منها وهذه المصادر هي مجلات: المقتطف والهلال المنار.
أما المقتطف فقد قال في الصفحة 7 من المجلد 30 جزء يناير سنة 1905 من ترجمة مستفيضة للبارودي بقلم العلامة الدكتور يعقوب صروف ما يأتي: (وعاد إلى القطر المصري ليموت فقضى إلى رحمة ربه يوم الاثنين في الثاني عشر من الشهر (ديسمبر) ودفن بما يليق من الإكرام) وقال في الصفحة 92 من جزء فبراير سنة 1905 هو يتكلم عن حفلة تأبينه ما يلي: (وقد أجتمع الأدباء بدعوة الكاتب البليغ والشاعر المطبوع خليل أفندي مطران صاحب جريدة الجوائب المصرية في العشرين من يناير فتلوا ما نضموه من المرائي الخ).
وقالت مجلة الهلال في الصفحة 261 من عدد فبراير سنة 1905 (السنة الثالثة عشرة) من كلمة لصاحبها جورجي زيدان بك (وظل بين أهله وذويه حتى توفاه الله في 12 ديسمبر سنة 1904 - وفي الصفحة 246 من هذا العدد قالت المجلة (ونظراً لمنزلته الرفيعة في نفوس الشعراء فقد اجتمعوا على ضريحه في الإمام الشافعي يوم الأربعين من وفاته
الموافق 20 يناير الخ).
أما مجلة المنار فقد زادت الأمر تحقيقاً وبالغت فيه إثباتاً، ذلك أنها ذكرت في الصفحة 832 من المجلد السابع ما نصه: توفاه الله تعالى في يوم الاثنين لخمس خلون من شهر شوال (سنة 1322) فشيعت جنازته باحتفال عظيم وصلى عليه الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) ولم أر صلى على ميت غيره إلا مأموماً، وسيجتمع شعراء مصر أدباؤها في اليوم (التاسع والثلاثين) لموته (الجمعة 14) ذي القعدة (20 يناير) عند ضريحه ويؤبنونه ويرثونه الخ). فنظر إلى هذا التحقيق الذي تحراه صاحب هذه المجلة هو العلامة الجليل السيد رشيد رضا رحمه الله فإنه بعد أن ذكر أن وفاته كانت يوم الاثنين الموافق 12 ديسمبر سنة 1904لم يقل كما قال غيره أن حفلة تأبينه كانت في 20 يناير الذي هو يوم الأربعين، وإنما قال إنها كانت في اليوم التاسع الثلاثين لموته، وذلك لأن الأيام الباقية من شهر ديسمبر بعد اليوم الذي توفي فيه تبلغ تسعة عشر يوما فإذا ضم إليها 20 يوماً من شهر يناير كان مجموع ذلك 39 يوماً.
وأن لرواية هذا الإمام لمنزلة محترمة من التقدير والثقة فأنه على دقته المعروفة عنه كان صديقاً حميماً للبارودي وكان كذلك في مقدمة من شيعوا جنازته هو وأستاذه الإمام محمد عبده.
أما ما جاء في ظهر الورقة (و) من مقدمة الجزء إلاول من ديوان البارودي فهذا لا يعول عليه ولا يؤخذ به وقد طلعنا على هذا الجزء عند ظهوره في سنة 1916 وأغضينا طرفنا حينئذ عما جاء به شارح الديون في المقدمة مما أساء به إلى البارودي (وقصيدته)!! رحمهما الله، وانتقدنا بعض ما شرحه ونشرناه في جريدة السفور وكنا نريد المضي في هذا النقد ولكن الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق رحمه الله رغب إلينا أن نكف عن نقده بكلمة رقيقة.
هذا هو الحق في أمر تاريخ وفاة البارودي ننشره على قراء الرسالة في بعضه غنية لمن أراد أن يقنع أو يقتنع بأن الوفاة قد كانت في يوم الاثنين 12 ديسمبر سنة 1904.
المنصورة
محمود أبو رية
سويا تؤدي معنى معا
خطأ أديب بالعدد 895 من الرسالة استعمال كلمة (سوياً) بمعنى (معاً)، وبعد أن أورد جملة من قصة مترجمة بقلمي بعدد سابق من الرسالة استعملت فيها كلمة (سويا) بمعنى معاً قال (إن الذي تراه اللغة في مثل هذا أن تكون كلمة معاً هي التي يليق بها أن تحل محل سوياً لا العكس في الترجمة لكلمة فهي التي تؤدي المعنى المراد)!. .
ولهذا الأديب أقول إن استعمال كلمة سوياً بمعنى معاً استعمال صحيح لا غبار عليه يشهد لذلك قوله تعالى في سورة مريم (قال رب أجعل لي آية، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً) والتقدير (ثلاث ليال وأيام سوياً). ذلك أن ذكر الليالي والأيام في آل عمران يدل على أن المنع من الكلام أستمر ثلاثة أيام ولياليهن! فذكر الأيام يتناول ما بازائها من الأيام عرفاً! فيكون المعنى المراد من الآية إذن هو الامتناع من الكلام (ثلاث ليال وأيام معاً) وحينئذ يكون استعمال كلمة سوياً بمعنى معاً استعمال صحيح!.
ولا عبرة بما يذهب إليه بعض المفسرين من تفسير سوياً في الآية الكريمة بأنها حال من ضمير (تكلم) للتعسف الظاهر في هذا التفسير ولانطباق السياق على الوجه الذي أوضحناه.
المنصورة
كمال رستم