المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 898 - بتاريخ: 18 - 09 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٩٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 898

- بتاريخ: 18 - 09 - 1950

ص: -1

‌الدفاع عن الثقافة العربية

للأستاذ عمر حليق

- 2 -

رأينا في القسم الأول من هذه الكلمة أن الثقافة العربية والثقافات الأخرى مهددة بأدب التبذل والسطحية واللذة والمجون التي تنبعث من (هوليود) و (برود واي) وتجد سبيلها إلى صميم المقومات الثقافية والخلقية للشعوب الأخرى.

ورأينا كذلك أن من حق الثقافة العربية أن تتحدى هذه التيارات الدخيلة وأن تمحصها وتختار منها ما تستسيغه وما يتفق مع ثقافتها القومية. ورأينا أن على الخاصة من أهل الدين والفكر والأدب والفن مسؤولية مضاعفة في حمل لواء الدفاع والتصدي للمتطفلين من رجال الصحافة الصفراء والثقافة السطحية، والنفعيين من رجال الأدب والفن ومنافستهم في هذه السلطة الثقافية التي ليست من حقهم والتي يفرضونها على حاضر الثقافة العربية فيدفعونها في مسالك قد تؤدي بها إلى (سطحية الذهن وعامية الفكر وسآمة الحد) ومن ثم إلى هامش الحياة وزوايا التاريخ.

ورأينا أيضاً أن الثقافة الناشئة التي تمر في عهد أحياء وتجديد كالثقافة العربية المعاصرة اكثر ما تكون تعرضاً لخطر هذه التيارات الدخيلة إذا كانت سياسة شعوبها قلقة واقتصادهم مضعضعاً وكيانهم الاجتماعي متوتراً، خصوصاً وأن تلك التيارات صادرة عن شعب له في عالم المال والسياسة والحرب نفوذ كبير.

ولو كانت الثقافة العربية المعاصرة لا تستند إلى تراث، ولا تفخر بعرف، ولا تباهى بعدد الذين ينضوون تحت لوائها لهان الأمر؛ وذلك لأن الناس ينظرون إلى ثقافات الشعوب الصغيرة نظرة استخفاف ويعدونها من قبيل (الصدف) التاريخية التي تعلق بذيل الثقافات الإنسانية ولا تساهم في جوهرها، وتجرف من ثقافات الأمم ولا تصب في جداولها، ومن قبيل ذلك مثلاً ثقافة البرتغال.

أما الثقافة العربية فقد ساهمت في جوهر الفكر الإنساني وحافظت على كثير من خصائصها على ممر السنين وتعداد القرون. وحاضرهاالآن يشمل سبعين أو ثمانين مليوناً من البشر ويتصل من قريب وبعيد بأربعمائة مليون مسلم يحتلون بقاعاً هامة في مجالات السياسة

ص: 1

والاقتصاد والسلم والحرب؛ فالموجب أذن لأن يقف الخاصة من المثقفين العرب في الآونة الحاضرة موقفاً سلبياً - واعين أو غير واعين - ويتعلقون بأذيال لندن أو نيويورك أو موسكو أو باريس دون ترو أو تحميص، ويسلكون سلوك الثقافات الصغيرة التافهة التي تمتص من ينبوع الفكر ولا تصب فيه؟

والقول بأن الفترة الحالة من تاريخ الثقافة العربية فترة هضم واستيعاب لا يبرر هذا الانسياق نحو التقليد والمحاكاة والاستعارة الضالة. ومثل هذا القول فيه الكثير من التضليل.

فالغذاء الفكري الذي يعيش عليه الناطقون بالضاد في الآونة الحاضرة هو في كثرته الساحقة غذاء يبلع ولا يهضم ويقلد ولا يستوعب وينقل ولا ينتج.

فعصر النهضة والأحياء عصر خطير. والخوف عليه من التقليد والنقل الأعمى اكثر من الخوف على ثقافة اكتمل أحياؤها واشتد ساعدها كالثقافة الفرنسية المعاصرة مثلاً. فإذا أخاف أهل القمر في فرنسا من تيارات هوليود فحري بأقرانهم في العالم العربي أن يهلعوا وأن يعلنوا الثورة ويحملوا أقوى أسلحة الدفاع.

ولو فرضنا - كما افترض جون بول سارتر - أن شعباً أوربيا صغيراً اضطر بحكم الظروف السياسة والاقتصادية لأن يستعير من الأيدلوجية الأمريكية أو السوفيتية شيئاً، فهذا الشيء المستعار لن يتبدل جوهره بعد الاستعارة إلا بعملية هضم ضحية سليمة، وذلك لأن أصوله مستمدة من طبيعة الاقتصاد والوضع الاجتماعي والسياسي في أمريكا أو روسيا. والمستعير حين يكون سطحي الثقافة لن يستطيع أن يبدل طبيعة هذا الوضع فيبقى الشيء المستعار في جوهره أمريكا أو روسيا يفرض على ثقافة صغيرة لا قبل لها بتحويله أو طبخه من جديد؛ وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة الضعف السياسي والحاجة الاقتصادية والفقر الثقافي في ذلك الشعب الصغير، وبطبيعة الحول الذي يسند هذه الأشياء المستعارة.

فإذا لم تقم خاصة المثقفين من أبناء ذلك الشعب الضعيف بالتدقيق في جوهر الشيء المستعار على ضوء الثقافة القومية ومصلحتها وتعديله أو رفضه، وإنما تركوه للمتطفلين على الأدب والفن والحياة الروحانية يفرضونه على تلك الثقافة القومية فإن مصير هذه الثقافة الانشقاق أولا، والانزواء والاستقرار في الحضيض بعد ذلك.

فستكثر الأشياء المستعارة وترسخ في الحياة الفكرية والنشاط الإنساني لذلك الشعب

ص: 2

الضعيف فتنافس عناصر الثقافة القومية منافسة شديدة عنيفة فإذا لم تجد هذه الثقافة القومية منافسة شديدة عنيفة فإذا لم تجد هذه الثقافة من يحمل لواء الدفاع عنها فإنها لا مراء ستصاب - في المراحل النهائية - بالتفكك والانحلال، وسيفقد ذلك الشعب طابعه الأصيل ويصبح كالسيارة الأمريكية تسير في شوارع دمشق والقاهرة - ويسوقها عرب بوقود عربي، ولكنها مع ذلك لا تمت إلى صميم الثقافة العربية بصلة وثيقة، فإذا رآها المستطلع الأجنبي لم ير فيها سائقها العربي - ووقودها العربي و (رخصتها) العربية وإنما أصر على أن يرى فيها الحضارة الأمريكية ممثلة أبلغ تمثيل.

وانقسام الثقافة القومية على نفسها شر من المستطاع تفاديه إذا تصدى نواب الثقافة لبواعثه وعالجوا جرثومة الشر؛ فالافتراض من الثقافات الأخرى دون قيد أو شرط ودون مراقبة ومحاسبة سيولد في المجال الثقافي والاجتماعي مثل الحالة التي وجدت مصر نفسها فيها حين أوسع الخديوي إسماعيل على نفسه وعلى الدولة في الاقتراض والاستعارة المالية وما استتبعه ذلك من عجز في التسديد ومن ثم الحماية السياسية وما جرت من عواقب وآلام على تاريخ مصر الحديثة.

وحين تجد عناصر الثقافة القومية نفسها قاصرة عن منافسة العناصر الدخيلة والمستعارة أو عاجزة عن هضمها ووضعها في قالب قومي أصيل، وحين تفقد تلك الثقافة الأنصار من أهلها يكون مصيرها مصير الطفل الذي لم يجد من يرعاه ويحنو عليه فسينفذ مجهوده الضعيف في صراع الحياة ويشب ضعيف البنية ناقص التغذية مشلول النشاط.

وحين يمر عصر التقليد والمحاكاة وترسخ العناصر المستعارة في الثقافة الوطنية ثم تحاول العناصر القومية الأصلية أن تنهض لتطالب بحقها في الحياة يكون التنافس بين طرفين غير متكافئين - كما يقول علماء القانون - فيحلق بأضعفها غبن يترك أثره السيئ في صميم المصلحة السياسية والاقتصادية والتكافل الاجتماعي.

إذن فوزر حفظه الثقافة القومية في إهمال الدفاع، واستخلاص التوجيه الثقافي من الأقليات الدخيلة، ومن يد السطحيين والمتطفلين وأصحاب الثقافة المنشقة المشوهة وزر عظيم، والنكوص عن الدفاع عنه مع القدرة عليه أثم عظيم - على حد قول الفقهاء.

ولقد اشتكى مورياك وزيجفريد وسارتر بأن الثقافة الأمريكية البرجماتزمية المعاصرة لا

ص: 3

تعترف بدينها للحضارات الأوربية القديمة أو الحديثة. (وهذا ينطبق على النازية والماركسية كذلك) وإنما تفخر بأنها وليدة التاريخ الأمريكي والدفع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نبت في العالم الجديد. ولذلك فإن في الأمريكان مزيداً من الشعور بالعظمة وفيهم لون من الاحتقار والاستخفاف بكل ما هو أوربي. وما ذلك إلا لأن أوربا لم تكن البادئة في صنع السيارات والثلاجات وألف نوع ونوع من هذه الحضارة المادية التي هي ابرز عناصر الثقافة الأمريكية.

فإذا كان هذا موقف الأمريكان من الحضارات الأوربية فإن موقفهم من حضارات الشرق يكون أشد وأعنف.

فالشرقيون عند الأمريكيان علم على الانحطاط الخلقي والضعة الاجتماعية وسوء السلوك والحسن والدناءة وكال ما في قاموس اللغة من صفات ونعوت سيئة. وهذا التحامل وإن لم يكن مقصوراً. على الأمريكان - وإنما يشترك فيه جميع الشعوب الأوربية - إلا أن الأمريكان يقرونه في دساتيرهم المدونة ومعاملاتهم القانونية وصميم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي جعل مشكلة الصراع العنصري في أمريكا وصمة في جبين القارة الأمريكية.

وقد يستطلع المثقف الأمريكي ألوانا من العظمة في حضارات الشرق، ولكن هذه الألوان لا تثير فيه إعجاباً صادقاً مخلصاً ولا تؤثر في عقليته ومشاعره. وقد يستشهد بها في معرض الكتابة أو المحادثة ولكنه لا يسمح لنفسه ولا لثقافة أن تتطعم بها لأنه - وهو برجماتزمي أصيل - لا يجد فيها إمكانيات لمستقبله الثقافي.

فحضارات الشرق عند الأمريكي أمر عفا عليه الزمن، فهو جزء من الماضي ولا مكان له في حضارة العالم الجديد بالرغم مما في الثقافات الشرقية من عناصر خالدة تصلح لكل زمان ومكان.

ولذلك يندر أن تجد في ملاعب أمريكا مسرحيات أو أفلاما تعالج الشرق من ناحية مشرقة. فالشرق لا يمد المنتج الأمريكي إلا بالمواد التي تصور له ولجمهوره الصورة الخاطئة التي يحملها من الشرق: ضعة وخسة ومكر ودهاء، وألوان من القساوة والشذوذ يعرفها كل من شاهد الأفلام وقرأ القصص الأمريكية التي اتخذت الشرق وحضاراته وشعوبه مواضيع لها.

ص: 4

ثم هناك مشكلة أخرى يخلقها التقليد الأعمى والنقل (الخام) والمحاكاة والاستعارة بدون هضم صحي سليم للعناصر الثقافية المستعارة.

هذه المشكلة تتعلق بطبيعة الخلق القومي وطبيعة المكونات المثالية (الأيديولوجية) التي تجعل الخلق القومي على ما هو عليه من تميز وتفاضل.

فالثقافة الأمريكية ثقافة مادية (برجماتزمية) بنيت على الفلسفة الدارونية التي تبرر انتهاك حرمات العدالة والأنصاف والفضيلة على أساس الفكرة التي تقول بأن (البقاء للأصلح) والحق للقوة؛ وهذا يعني إنها لا تؤمن بمساواة الضعيف العاجز في الحقوق التي للقوى المتمكن. وهذه المثالية في الثقافة الأمريكية البرجماتزمية لا تقتصر على الحياة الصناعية والتجارية ولا على السياسة (كما ابتلى بها العرب في مأساة فلسطين) وإنما تشمل كذلك صميم العلاقات الاجتماعية وسائر اوجه النشاط الإنساني.

قال (شارل بير نز أحد مؤسسي الفلسفة البرجماتزمية ما يلي:

(اختيار الطبيعة للصالح من الأشياء كما يراه دارون يعنى أن عنصر التقدم وجوهره لا يتبع إلا عاملاً واحداً هو الإنتاج. فإذا أريد لهذا التقدم أن يستمر وينمو ويزدهر فلا مفر من خلق العراقيل للقضاء على العناصر التي لا تنمو، ومن ثم فإن القضاء على الضعيف وسيلة جوهرية من وسائل التقدم والرقى. وهذه مثالية لا تختلف في جوهرها - كما ترى - عن النازية والشيوعية المادية.

فهي لتأصل العنصر المادي فيها تنكر الروحانية، والروحانية عنصر أصيل في الثقافات الشرقية.

وإلا فما فائدة الدين والمثل والقيم الروحانية التي تسنده فتعين الفرد والمجتمع على اتباع حياة فاضلة؟

والدعوة إلى القضاء على الضعيف أو تجاهله كوسيلة جوهرية من وسائل (التقدم والرقي) مبدأ يعرض صلب التكافل الاجتماعي إلى خطر التفكك والانحلال، ويخلق في الناس مشارب وأهواء وفلسفات لا يرضى عنها الدين، ولا تنمي في النفس السماحة، ولا تحقق لها الطمأنينة الوجدانية، وعلى ضوء هذه البرجماتزمية نستطيع أن نفسر نصرة كثير من رجال الدين والفكر والسياسة والاقتصاد في أمريكا للعدوان اليهودي في فلسطين وإمداد هذه

ص: 5

المناصرة من أغراء اليهود المادي.

فاحترام الوالدين مثلاً نظام لا تقره الثقافة البرجماتزمية - أو بالأحرى لا تقر عليه - والولد بحكم هذه الثقافة لا يؤمن بحق والده عليه في الولاء وفي الطاعة وفي الواجبات التي تحتمها صلة الرحم والشيخوخة وهي واجبات أصيلة تؤلف عنصراً أساسياً في التكافل الاجتماعي.

ومن ثم كان هذا الانحلال الذي أصاب العائلة الأمريكية واستدعى هذه النسبة العالية من حوادث الطلاق ومشاكل الزوجية بالإضافة إلى ذبول العقوق وانقطاع الصلات الروحية والعاطفية بين الأب وابنه والزوج وزوجته. ولولا الرخاء الاقتصادي (الذي من قبيل المصادفات التي جادت بها الطبيعة البكر على سكان (العالم الجديد) والذي صاحب التاريخ الأمريكي، لدفعت عناصر هذا التفكك الاجتماعي بأمريكا إلى الفوضى والانهيار. إذ أن أسس العلاقات بين هذه النظم الاجتماعية كلها هي صلات برجماتزمية مادية. ومن قال أن المادة هي أساس التكافل الاجتماعي؟ أو ليست هذه الوصمة هي محور النقد الذي يوجهه العالم إلى الماركسية وتعاليمها؟

والأدلة عديدة على أن العلاقات البرجماتزمية لا تصلح للحياة السعيدة يلمسها المراقب هنا في أمريكا ويلمس كذلك سمي الأمريكان عبثاً للتغلب عليها وأصلاحها بمثل وقيم تشوبها طوابع الروحانية وتبتعد أكثر فأكثر عن الفلسفة الدارونية.

فمسرحية (موت البائع) مثلاً التي لا تزال تمثل على مسارح برود واي في نيويورك وفي كثير من المدن الأمريكية الكبرى باستمرار منذ اكثر من عامين، تضرب على هذا الوتر الحساس في مشاعر الأمريكي - فهو إنسان قبل أن يكونبرجماتزمياً - فستنزف دموع رواد المسرح كما لو انهم في مأتم. فالمسرحية تدور حول أب وجد نفسه في سن الشيخوخة في مدينة صناعية وقد عجز عن توفير الطمأنينة الاقتصادية لنفسه ولزوجته العجوز في أيامهما الأخيرة. فلم يشفق عليه المجتمع ولن ترأف به النظم (البرجماتزمية). ومع ذك لم يستلم إلى القنوط إلا بعد أن تحقق من فقدان الشفقة والرأفة عند فلذات كبده من بنين وبنات، وهم الذين ساهم معهم في أيام شبابه في توفير المعيشة لهم وتزويدهم بما يزود به الناس أبناءهم من تربية وحسنى فكان أن عجز هذا الشيخ عن مواجهة الحياة البرجماتزمية

ص: 6

فألقى بنفسه تحت عجلات القطار!

ففقدان الشفقة والرأفة والحنان بالشيخوخة عند البرجمانزميين مرجعه احتقارهم للضعف مهما كانت بواعثه. والشيخوخة ضعف بغض النظر عن أسبابه.

ولما كانت الفلسفة الدارونية هي جوهر الثقافة البرجماتزمية التي تعيش عليها أمريكا فلذلك لا تؤمن العقلية الأمريكية بالنظريات والروحانيات وهذه الصلات الرقيقة الرفيقة التي تلطف من قساوة الحياة وعصفها كما نؤمن بالنتائج وبالنواحي العملية في النشاط الإنساني ومن ثم فقد الأمريكان احترامهم للثقافة بمعناها الحقيقي.

فالمدرس وأستاذ الجامعة في أمريكا لا يحظى بالاحترام الذي يحظى به في ألمانيا وفي مصر والهند مثلاً. وما ذلك إلا لأن إنتاج المعلم شيء لا يلمس باليد. ولا شك أن الأمريكي يدرك أهمية التعليم وأهمية تعميمه ونشره وترقيته ولكن لا لهذه المتعة العقلية التي توفرها الثقافة الحقة. ولذلك فلأمريكي لا يحترم مهنة المدرس احترامه لصاحب المصنع ومخترع آلة غسل الأطباق مثلاً؛ فلا غرابة أذن أن يكون رجال التعليم في أمريكا اقل أصحاب المهن دخلا، وإلا يلاقوا في المجتمع الأمريكي ما تستحقه وظيفته من مكانة أدبية واحترام ومكافأة مادية تتفق مع ما يحظى به أصحاب الإنتاج الزراعي والصناعي المادية.

فالمستوى والمكانة الاجتماعية عند البرجماتزمين يقاس بالدخل المادي. وبنسبة النجاح الذي أصابه المرء في عالم الحضارة المادية بغض النظر عن طبيعة الوسائل التي حقق بها المر هذا النجاح، شريفة كانت أم غير شريفة. ويقول لك البرجماتزمى أن الحياة كالمصعد (الأسإنسير) لا يسألك الناس فيه من أين جئت، وبماذا جئت، ومن أين لك هذه، وإنما همهم أن يعرفوا إلى أين أنت ذاهب!

وقد يختلف الناس في تفسير هذه الحكمة البرجماتزمية ولكنهم لن يختلفوا في شيء واحد وهو أن البرجماتزمية تجرد الأشياء من جميع القيم كانت أم غير فاضلة، وتقيسها بمقياس الحالة الراهنة. فهي لا تسأل عن الموجبات ولا تهتم كثيراًبالعواقب، وإنما تنظر إلى الأمور نظرة زمنية مادية بحتة. ومن ثم كانت الأخطاء السياسة الشنيعة التي ارتكبتها أمريكا في فلسطين مثلاً وفي هذه البلية الاقتصادية والسياسية التي تواجهها أمريكا إزاء التحدي الروسي الذي يبدو أنه يتخطى في كثير من الحالات النظرة المادية المحددة وتتلاعب

ص: 7

بالتطور في مرونة وانتهازية تستمد قوتها من طبيعة الخلق القومي الروسي التي فسر بها لينين وستالين المبادئ الماركسية وجعلا منها فلسفة روسية (سوفيتية)

فالنجاج عند البرجماتزميين هو مقياس كل شيء، فقد تجد فناناً يبدع أرقى أنواع الفن ولكنه لا يحظى بالتقدر، ولن (ينجح) إلا إذا استطاع أن يوجه فنه توجيهاً (ماديا) تجارياً. فإذا اتجه الفن والعلم مثلا لتبسيط القواعد وابتذال الفكرة ووضعها على أسس (عملية) تزين الصحف بالرسومات الإعلانية، وتفكيك الفلسفة والمعرفة وجعل عاليها سافلا بحيث يهضمها الجهلة وأنصاف المتعلمين - إذا انحط رجل العلم والفن إلى هذا المستوى (نجح) أو بمعنى آخر ازداد دخله واتسعت شهرته وارتفعت منزلته الاجتماعية والأدبية. وقد تكون هذه الحقيقة عامة تشتر فيها اكثر الثقافات ولكن لا ريب في أن رسوخها في أمريكا أشد من أي مكان آخر.

ويبدو أن هذه الناحية في الثقافة الأمريكية قد وجدت سبيلاً إلى بعض الكتاب والفنانين من رجال الثقافة العربية. - ودار الهلال مثلاً - وهما رمز للتحدي الذي تواجهه الثقافة العربية على النحو الذي استعرضناه في هذه الكلمة - قد (بسطت) الأدب والفن والعلوم وكثيراً من عناصر الثقافة في وسائل برجماتزمية صادقة حققت لهذه الدار ومثيلاتها ألوانا من (النجاح) وجندت لذلك أقلاما ما كان انفعها إلا تنبسط وأن لا تجند.

ويخيل إلى أن العظمة التي تتبوؤها الثقافة الأمريكية في هذه الفترة من التاريخ لا تعود إلى علو كعبها بالقياس إلى الثقافات الأخرى، وإنما تعود إلى القوة المادية التي تجعل من أمريكا السلطة التي - بحكم ما لها من نفوذ سياسي وبأس اقتصادي - تفرض برجماتزميتها على مختلف الثقافات الإنسانية المعاصرة التي تصل بأمريكا بمختلف الصلات وتحت مختلف الأوضاع والظروف.

فلنحاول - في العدد القادم - أن نتابع دراسة أوجه أخرى من هذه الثقافة البرجماتزمية العملية (الناجحة).

) للبحث بقية)

عمر حليق

ص: 8

جامعة كولومبيا - نيويورك

ص: 9

‌فخري أبو السعود

للأستاذ محمد محمود زيتون

أوشكت عشر سنوات أن تنقضي على وفاة الشاعر الكاتب فخري أبو السعود على اثر محنة لم تمله حتى أسلمته إلى يد الردى، فقصفت شبابه الغض، وترك هذين البيتين أولهما لزهير والآخر للمتنبي:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعيش

ثمانين حولا لا أباًلك يسأم

وإتى لمن قوم كرام نفوسهم

ترفع أن تحيا بلحم وأعظم

وهذه الثلاثون التي سئمها فخري كانت حافلة بحياة أدبية ممتازة أن لم تكن نادرة، فقد تخرج - رجمه الله وغفر له في مدرسة المعلمين العليا، ونجح في مسابقة وزارة المعارف فبعثته إلى جامعة اكستر بإنجلترا، وتوفيت أمه فرثاها بقصيدة دامعة نشرتها مجلة (الأيام) ولم يكن يعلم بنشرها لولا أن قدمتها إليه ذات عشية التقيت به فيها بداره في شتاء سنة 1938.

وعاد فخري إلى الوطن وقد اختار زوجته من إحدى زميلاته الإنجليزيات، وانجب منها ولدين. وأقام في منزل وادع برمل الإسكندرية، وسافرت قرينته إلى وطنها تزور أهلها ومعها ولداها. فلما شبت نار الحرب، واستهدف إنجلترا للغارات، كان الولدان من بين أطفال الإنجليز المرحلين إلى أمريكا فغرقت بهم السفينة جميعاً. أما زوجه فقد حبستها الحرب عن اللحاق به في مصر.

وفي صيف سنة 1939 التحق فخري بجامعة (جرينوبل) في دراسة صيفية خاصة، وفي نيته أن يلقى زوجه هناك، ولكنه عاد ولم يتمكن من لقائها هناك.

كان فخري محباً للرياضة ولا سيما (التنس)، ومغرماً بالسير على الأقدام على شاطئ البحر في هدأة الفجر، ونأمة السماء، وكان من رواد السينما إذا كان بها فلم يتفق مع ثقافته وهواه. خرج ذات يوم من عرض سينمائي وهو حانق على الأجانب لاستهجانهم موكباً وطنياً جاء في الجريدة الناطقة، فالتهبت له اكف الجماهير، بالتصفيق، فكتب فخري في (الرسالة) قصيدة تفيض بالوطنية قال منها:

أفم صاغراً وأرغم حياتك وشقها

فإنك مصري وانك مسلم

ص: 10

وعنى فخري بالتاريخ، فوضع (الثورة العرابية)، ونشر في (الرسالة) قصيدة بمناسبة (ذكرى موقعه التل الكبير)، واخذ نجمه يلمع في الأفق الأدبي لما كانت تمتاز به قصائده من أصالة ودقة حتى ارتفع إلى مصاف كبار الأدباء على الرغم من حداثة سنه، وفي غير جلبه أو دعاية.

واحتفل في شعره بالطبيعة والوطنية والوجدان، وعنى بكل لفظ جزل رصين، وبالروي الجميل الناعم. هذا وهو مدرس لغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية.

وتقدم فخري إلى المسابقة التي عقدتها وزارة المعارف سنة 1039 فأنفرد بجائزتين ماليتين بكتابيه: (الخلافة) و (البار ودي) ونال من الدكتور هيكل باشا (وزير المعارف حينذاك) ما هو أهل له. وقد أطلعني فخري بعد عودته من جرينوبل على كتب تاريخية هامة أحضرها معه، وعكف على دراستها في شغف وهدوء، وكان يعد هذه المراجع كنزاً ثميناً يعتز به ويفخر.

وكانت دراسات فخري في طال أدب المقارن (التي كانت تنشرها له الرسالة تباعاً أكبر دليل على أنه تملك ناصيتي العربية والإنجليزية، وأن محاولته تلك لم يسبقه إليها أحد من مواطنيه بل ولا من المستشرقين. وقد نقل إلى العربية (تس سليله دربرفيل) للشاعر القصصي الفيلسوف توماس هاردي، نشرتها له لجنة التأليف والترجمة والنشر من سلسلة عيون الأدب الغربي.

هذه لمحة قصدت منها إلى التنويه بما كان لفقيد الأدب من مكانة لم ينلها غيره، ومع هذا درج إلى وادي النسيان. وكأنه ما كان، أفلا يجدر بالدوائر الأدبية في مصر أن تستعيد ذكرى فخري أبو السعود قبل أن يحين العام العاشر على وفاته، فتؤلف لجنة لجمع شعره في ديوان، وبحوثه عن الأدب المقارن في كتاب. وعسى أن يتفضل معالي وزيرنا الأديب الدكتور طه حسين بك فيأمر بنفض الغبار عن أصول كتابيه الفائزين وبذلك ندفع منا وصمة التنكر لذوى الفضل، ولا شك أن في أحياء ذكراه تكريماً للأدب والأدباء.

محمد محمود زيتون

ص: 11

‌مشكلة الفن والقيود

للأستاذ علي محمود سرطاوي

ذكر الأستاذ المعداوي في تعقيبات عدد الرسالة (885) عن مشكلة الفن والقيود ما يأتي:

(في القصيدة الشعرية، وفي اللوحة التصويرية، وفي القطعة الموسيقية، وفي كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب، يحس بالفنان، بل يجب عليه، أن يكون له هدف. . . هذا الهدف لا بد له من تصميم، ولا بد من خط سير، ولا بد له من خطوات تتبع خط السير وتعمل في حدود التصميم. ذلك لأن الفن في كل صورة من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسميها (ملكة التنظيم، وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة آلتي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل شيء في مكانه؛ كل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فناً، بل هو (فوضى فكرية) أساسها وجدان مضطرب، وذهن مشوش، ومقاييس معقدة، أو مزلزلة. وابلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلماً إلى الفن، هو تلك الحركة السريانية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى ميدان النحت والتصوير والقصة، فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع الفن بطابع التسلسل والوضوح والدقة والوحدة والنظام. . . مثل هذه الحركة في الفن ليس لها دف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأسس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود، وشبيه تلك الحركة في جنايتها على معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضى بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تقفز بعض الأذهان إلى تلك (الملكة التنظيمية) التي تلائم بين الجزيئات وتوائم بين الكليات، وتفصل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد. . .

(نريد من الفنان سواء أكان شاعراً أم مصوراً أم موسيقياً أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم يرسم أصلوه وقواعده قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضى فيه وقبل أن ينتهي منه. . . نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم الفني الذي يأمره بالوقوف عند هذا المشهد، وبالتقاط الصورة من هذه الزاوية، وبتركيز الانفعال في هذه الموطن من مواطن الإثارة. عندئذ نوجد نظاماً، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد أقمنا بناء

ص: 12

الفن. هذا التصميم الذي تدعو إليه بنظم هيكله العام أصول الأداء النفسي في الشعر والتصوير والموسيقى. هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزع الظلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. ولا بد للأداء النفسي في الشعر من هذا (التصميم الداخلي). لا بد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق. مستودع النفس، قبل أن تدفع بها إلى الوجود كائناً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء. . . أننا ننك ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تطمس فيه معالم الطرق وتنمى الجهات أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات!) أهـ.

والذي ينعم فيما اقتبسناه من رأى الأستاذ الفنان المعداوي يخيل إليه أن عمل الفنان لا يفترق عن عمل المهندس في كثير أو قليل؛ ذلك أن المهندس يجلس إلى منضدته وأدواته الهندسية في زحمة الأرقام والأبعاد والحجوم، وتحت سيطرة العقل الواعي وحدة الذهن، وهدوء الطبع، يرسم على أوراقه التصاميم التي يطلب منه عملها؛ من عمارات، وجسور، وطرق، وإنفاق، إلى أخر ما هنالك من أعمال هندسية، حتى إذا ما فرغ من عمله المعقد الدقيق، وحساباته التي تحطم الرأس، نقل ما على الأوراق من أشكال إلى مسرح العمل، وراحت تلك التصاميم تأخذ طريقها إلى الوجود رويداً، رويداً، كل ذلك وهو يراقب العمل مراقبة دقيقة يعينها عليها العلم، وتسنده التجارب لئلا يقه في أخطاء قد تنشأ عنها كوارث تدمر حياة الآخرين وما يملكون، وتقضى على مركزه في المجتمع الذي لا يرحم من يمنى بالفشل الذريع.

والواقع أن الفنان من شاعر، ومصور، وموسيقي، لا علاقة له بكل ما ذكرناه. أنه يعمل في الجو الذي يندمج فيه الفنان بروحه مع السر الغامض في الطبيعة حيث يسقط العقل الواعي صريعاً تحت ضربات النفس الإنسانية التي يكتبها ذلك العقل دائماً؛ أنه يعمل في منطقة التخدر الحسي، تلك المنطقة التي لا تسيطر عليها غير العواطف؛ تتجمع في أجوائها كما يتجمع السحاب، من بواعث إثارة المشاعر عن طريق مؤثر خارجي حينا، وعن طريق مؤثر يطل برأسه من رماد الذكريات المخيفة في مخزن النفس العميق حينا آخر، فإذا بتلك السحب ترسل الغيث مدراراً، وإذا بتلك النفحات الإلهية تأخذ مكانها إلى الحياة وراء

ص: 13

الكلمات في الشعر، وبين الألوان والظلال في الصور، وبين الأنغام في القطعة الموسيقية.

إن الفنان؛ الذي يزعم أنه يعمل من تلقاء نفسه، ويضع التصاميم ويعد العدة سلفاً لعمله الفني، أشبه ما يكون في نظر الحقيقة بذلك الإنسان الذي تخيل إليه معلوماته القليلة أنه سيد العارفين، وقديماً قال البشر في أمثالهم: اخطر على الإنسان من المعرفة الضئيلة. . . وليس اخطر على الفنان والفنون من أن يزعم زاعمون انهم ينتجون آثارهم الفنية وفق خطط مرسومة سلفاً، فقد تنطلي تلك المقولة على الفنانين فإذا هم جربوها أوصدت في وجوههم آفاق الإلهام، والطريق إلى سر الحياة الذي يغرفون ويسبحون في غمره.

إن السحب لا تلقي حمولتها من الأمطار على الأرض إلا إذا كانت أسباب نزول المطر مهيأة؛ من درجة حرارة مواتية ورياح كافية، وكذلك النفس الإنسانية في الفنان لا تلقى حمولتها من الفن على الوجود إلا إذا كانت أسباب الإبداع والإثارة مهيأة تلك الأسباب التي تحمله على أجنحة الانفعالات إلى عالم بعيد عن الترتيب والتنظيم.

إن القطع الفنية الخالدة التي يعتز بها كل فنان لم تكن من عمل أرادته، وإنما كانت من عمل قوى خفية لا قدرة له على استحضارها كلما أراد، وإنما هي التي تحمله على الإنتاج مرغماً متى شاءت، حتى إذا ما أصبح الأثر الفني بين يديه وعاد إلى وعيه، تأخذه الدهشة في كثير من الأحيان مما يشاهد ولا يكاد يصدق عينه، وكثيراً ما يعجز عن إضافة حاشية صغيرة وهو في ظلال العقل الذي يرسم ويفكر ويفلسف.

إن النقد كثيرً ما يفلسف الحوادث، ويزيف المنطق، ويخدع العيون ببراعة تبعد عن الحقائق كثيراً والذين يفلسفون الحوادث هم في لغالب يعجزون عن وضع الحوادث أو الفنون نفسها.

فهؤلاء المؤرخون الذين يفلسفون حوادث التاريخ كثيراً ما ركبوا متن الشطط وهم يتحدثون عن أبطال التاريخ وصدى أعمالهم وبواعثها، ونتائجها وأسبابها. ومن المؤكد أن أولئك الأبطال لو أطلعوا عل ما كتبه المؤرخون عنهم لأنكروا قسماً كبيراً منه لأنه لم يخطر لهم على بال.

ومثلهم أولئك النقاد الذين كثيراً ما حملوا من الشعراء ما لا يذكره الواقع عنهم، كابي نواس والمعرى والمتنبي. . .

ص: 14

ولعل قصة الحسن بن هانئ مع أحد المعلمين في بغداد تلقى بعض الضوء على ما نحن بسبيله من حديث؛ فلقد زعمت بعض كتب الأدب، أن النواسي كان منصرفاً إلى قضاء بعض حاجات فمر بمدرسة سمع المعلم فيها يشرح إلى طلابه قصيدته المشهورة:

ألا فاسقني خماً وقل لي هي الخمر

ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر

فأنصت إليه وإذا به يمضي في شرحه على الصورة بما معناه: إن الشاعر أراد أن يشرك حاسة الذوق، وحاسة السمع، وحاسة النظر، فإن اشتراك الحواس مجتمعة ابلغ في الشعور باللذة. ولم يتمالك النواسي نفسه لغرابة ما سمع فأطل عليه يؤكد له أن شيئاً مما ذكره للطلاب لم يدر يخلده وهو ينظم ذلك البيت.

ولسنا نشك في أن ملكة (التنظيم) التي وردت الإشارة إليها في قول الأستاذ المعداوي لا تخرج في حقيقتها عن حصول الفنان على درجة من المعرفة، لا كما يقال من الثقافة، تعينه على إزالة الصدأ الذي يغطى الدر والجوهر والذهب المتراكم في روحه، وهذه المعرفة لها قيمتها وأثرها، ذلك أنها تجعل نور الفن يشع وهاجاً كنور الشمس وراء آثار الفنان المهذب. أما الفنان غير المتعلم، فيبدو الاضطراب، وتطل الفوضى من آثاره، أن هذه الملكة في الفنان المتعلم أيضاً تتوارى كالشهادة المدرسية التي توصل حاملها إلى باب الحياة فيلجه مجرداً منها، حين ينتج الفن كما تصنع النحلة الشهد من الأزاهير.

ومن تحصيل الحاصل أن نقول في هذا الموضع من حديثنا أن الفنان يخلق ولا يضع؛ وإن كثيراً من آثار الفنانين غير المتعلمين اقرب إلى روح الفن من آثار الأدعياء الذين امتلأت بهم الطرقات، والذين يحملون أكبر الشهادات الجامعية، ذلك لأن الفن من صنع الله وليس من صنع الإنسان.

أن الحركة السريالية والرمزية إلى جانبها، وما قد يتبعها من حركات فكرية، ليست في واقع الأمر (فوضى فكرية تنسب ظلماً لي الفن)؛ بل لعل فيها بعض الشيء الذي لم تستطع تذوقه أو أبصاره وأبصره وتذوقه بعض من سوانا. أن الذين يعرفون أسرار الذرة يعدون على الأصابع، ولكن هل يعني جهل الكثرة من البشر هذه الأسرار أن قوانين تحطيم الذرة مضطربة مشوشة لا يطمئن الفكر إليها. أن الطبيعة حولنا لغز من أسرار لا تحصى، وما تزال في أول الطريق إلى التافه القليل من هذه الأسرار. .

ص: 15

إننا في واقع الأمر، نحب الشيء أو نكرهه، لأسباب لا تمت للشيء المكروه أو المحبوب بصلة؛ إنما مرد ما تشعر به نحوها من صدى إلى العادة والذوق.

لقد كان غاندي العظيم يقول لاتباعه وهو يوصيهم بالمسلمين في الباكستان: ليس كلما تقولون صواباً، وليس كل ما يقول ويعتقد خصمكم باطلاً، هنالك شيء من الباطل فيما تعتقدون وتقولون، وشيء من الصواب فيما يعتقد ويقول خصمكم.

نحن كثيراً ما نرى الأشياء في شكل خاص، لا نلبث أن نراها تختلف عنه إذا تغير الزمان والمكان، واختلفت زاوية النظر، فلقد مات غاليلو حرقاً بسب آرائه حول دوران الأرض على يد محاكم التفتيش وهو يقول: ومع ذلك فإن الأرض تدور.

ليس من عمل الناقد، ولا مهمة النقد أن يفرض رأياً بعينيه أو فكرة بذاتها قد يرى فيها غيره من قرائه أشياء وأشياء! كما ليس من عمل الناقد التحليق بجناح النسور بعيداً عن عالم الحقائق، إلى عالم يموج ويضطرب بالرؤى الحالمة والخيال الجميل!

أترى هل حقيقة أن الجمال مرتبط بالنظام؟ وأننا إذا أوجدنا النظام خلقنا الجمال؟ لست ادري، وإنما يخيل إلى أن أيجاد النظام كثيراً ما يعجز عن خلق الجمال؛ فالطبيعة لسبب واحد؛ ذلك لأنها فوضى شاملة وإسراف في عدم النظام.

والفن سر الطبيعة البكر، لا يبلغ الذروة إلا إذا كان كالطبيعة نفسها. والإنسان الضعيف الذي ما فئ يمد بصره وراء الأسرار الغامضة في صدر الطبيعة، محملقاً فيها، يخدع نفسه دائماً، وهو يدور الحقاق ولا يقوى على مواجهتها، يفتش عن الأسرار والأسرار أمامه محملقة فيه، تمد ألسنتها إليه من بعيد ومن قريب.

وبعد فإن الأستاذ أنور المعداوي. قد أوجد فناً جديداً في النقد يستحق عليه شكر الذين يعشقون الأدب والفن من الناطقين بالضاد؛ فقد قضى على تلك الأساليب الميتة، وراح يقيم على أطلالها صرحاً من الذوق الرفيع، والخيال الجميل، والرأي السديد يعالج بكل ذلك مشاكل ما زلنا نتخبط في دياجيرها، وما زلنا ننظر إليها بعيون الموتى من البائدين، ونفهمها بعقول أهل الأساطير.

وأنا واحد من آلاف المعجبين بالأستاذ العبقري المعداوي، أغتنم هذا الفرصة فأبعث إليه بأطيب ما في قلبي من إكبار وإعجاب بأدبه وفنه وذوقه. . .

ص: 16

بغداد

علي محمد سرطاوي

دار المعلمين الريفية

ص: 17

‌هؤلاء كلاب!

للأستاذ الحوماني

(ليعلم أعيان الأدب والعلم في مصر االتنفس منهم يثير كل

عربي في كل قطر عربي)

يسألني السيد كرد علي، ونحن في وقاعة المجمع العلمي بالشام، وحوله قلة من زملائه: ما وراءك في مصر؟؟ فقلت: أن إخوانك في مصر يعتبون عليك بقسوة إذ لم تحسن ذكرهم في مؤلفك الأخير (المذكرات) فقال: أن هؤلاء كلاب. .

تلك هي الجملة التي صدمني بها وهو مزهو يتميز في كرسيه ثم يدور به إلى الجهة اليسرى ليقابل جاره وهو يقول: (الأستاذ الحوماني يأتينا من مصر بأخبار طريفة، بينما يعود إلينا الأستاذ المغربي من القاهرة وكأنه علينا من الصين)

كنت ارقب ولو كلمة من هؤلاء الذين يحدقون بالسيد كرد علي كما تحدق البطالة متهمين مكانته شاخصين إلى وجهه حتى كأنه أرض المعبود، ولم نشأ صراحتي التي فطرت عليها أن اسكت، ثم لم يشأ لي الحق الذي ناديت عليه منذ كثبت وخطبت أن افر هذا الرئيس على زلته التي لا يتسع لها صدر الحر، ولا يجمل برجال المجمع العلمي أن يحدث مثلها في قاعة مجمعهم وهم شهود ثم يسكتون عليها - من اجل ذلك قلت له: ليس مثل هذا القول جديراً بإخوانك المصرين وفيهم من نحن مدينون لهم في علمنا وأدبنا وسياستنا؛ ولعل مصر وجهتنا الأولى وفي كل ما نتقوم به من عناصر الحياة.

فأعاد القول محتفظاً بنفس الجملة وزاد عليها: انهم لا يريدون إلا التهويش. ثم يقفل الباب ويتجه صوب السيد الهندي عباس إقبال يخوض معه في حديث كان ختام طعنه على مصر وأدباء مصر.

وكنت حريصاً على أن أتفرس في وجوه القوم لعلي أرى منهم ما يشير إلى تذمر إنكار فإذا بهم صموت يتهامسون فيما لا يمت إلى حديث رئيسهم بصلة ما، وأذ بي لا أرى شافياً لنفسي غير أن أغادر مجلسهم هذا.

وأعود إلى دأبي من الطواف على مجالس دمشق وأنديتها ومن أتوسم فيه الأدب والعلم

ص: 18

والفن من رجالها، وعلى كل سمع ألقي هذا الحديث فإذا هم جميعاً ينكرون على (كرد علي) ما بدر منه، وإذا على كل لسان منهم شيء يصمونه به وإنه أصبح في الدور الأرذل من عمره حتى طلب إلى أديب فاضل أن أشفق على هذا الرجل، وأحبس قلمي عنه لأنه في دور يستحق الإشفاق.

أما أنا فلم أر من كل ما دار هذا الحديث في مجالس هؤلاء الأساتذة: من وحوار ينتهي أكثره إلى أن هذا الرجل قد خرف، وإن هذه الزلة ليست الأولى منه.

أقول: لم نجد في كل ذلك مكفراً عن سيئات هذا الرجل، وحائلاً دون أن اعلق على مجالسه بما يستحقه من تعليق:

هؤلاء السادة، ومنهم من هو صميم المجمع، يقرون أنه اصبح ضعيف العقل، وأن أقواله ليست من المنطق بحيث يحاكم عليها، وانه إذ يقول فيزل، اخلق بإشفاق السامع الحكيم وتغاضيه من أن يحاسبه على قوله، ويعاقبه على زلته، هؤلاء السادة يقرون ذلك ثم جلسوا إليه ويحدقون ويخشعون ولا ينكرون عليه شيئاً مما يقول، فهل هم في ذلك مخلصون له ولمجمعهم ثم لأنفسهم من وراء ذلك كله؟

قد أعجب ويعجب القارئ معي أن كلامنا ينكر على الحكيم أن يكون مرؤوساً للسفيه وهو قادر على تحرير نفسه من رئاسته، وهل هم أعضاء المجمع أو الحكماء منهم يقرون بسفاهة رئيسهم ثم لا يفكرون في تحرير نفوسهم من سفاهته. ولعلهم يفتخرون في انتسابهم إلى مجمع هذا رئيسه، ويحاسبون كل صحيفة تنشر أقوالهم غفاً من هذا الانتساب.

ما أسفه الناس إذ يضعون حداً للمناظرة في العوم والآداب، والمناظرة نوع من الأدب المطلق الذي يكبر عن التحديد، فكم يعجبني قول الأمام علي، هو يوصى بالتواضع ويبالغ في الحث على التخلق به حتى قال: التكبر على المتكبر هو عين التواضع) فإذا صدق في عرف أمام البلغاء أن التكبر قد يكون تواضعاً حيناً ما، فلم لا يصدق على السفاهة في الأدب أن تكون عين الحكمة حينا ما؟؟

فلنخاطب كرد علي بنفس المنطق الذي يخاطب به الناس، أفليس أدبيا في عرف المستخذين له، فإذا خاطبناه بمنطقه لم نخرج في عرف هؤلاء المستخذين عن حدود الأدب، والسيد كرد على، إذ يعلم أركان مجلسه وأعضاء مجمعه أن الأدب رهن بمثل هذا المنطق،

ص: 19

خليق بان يناظر فيه، لأنا نسيء إليه والى المجمع العلمي إذ نتجاوز عنه فيحسب أنه على حق ويتمادى في غيه فنكون أداة لتضليه فيما يقول.

لنسأل هذا (الأديب) عن أي المصريين من علماء وأدباء يستحق لقب الكلب في منطقة؟؟ ثم يستحق هذا المصري أن ينزه رئيس المجمع بهذا اللقب في ندوة المجمع وهي مشاع لأعيان العلم والأدب في الشام التي تؤاخي مصر، وعلى مسمع من أناس لا يرون في مصر إلا العلم والأدب اللذين هما علم الشام وأدبه، ثم لا يروني مجمع العلم المصري إلا أخوانا يتضافرون معهم على أحياء التراث العربي وتغذية هذا التراث بما يعززه وينميه على التاريخ؟؟

لقد زرت مصر وزرت فيها منتدى لجنة التأليف والترجمة والنشر اكثر من مرة يجتمع أعضاء هذه اللجنة على رأس كل أسبوع فإذا هم مجمع علمي أدبي يضم أعيان العالم العربي اليوم أمثال أحمد أمين وأحمد حسن الزيات وأحمد موسى وتوفيق الحكيم وعبد المنعم خلاف ومحمد فريد أبو حديد ومحمد عبد الله عنان ومحمد عوض محمد وعبد الوهاب عزام وحسين مؤنس ومحمود الخفيف وإبراهيم المازني وزكي نجيب محفوظ وكثير غيرهم؛ وكانت مجامهم هذه تفيض بالحوار العبقري حول ما يضطرب له العالم من مشكل سياسي وأدبي واجتماعي، فكنت والله اذكر بمجالسهم ما نقرأ عنه في عهد المأمون من مرابد ومعاهد، فهل في هذا المجلس من يستحق ما ينبره كرد علي به من تلك الألقاب؟

ينقل إلى السيد أنور العطار: إن كرد علي هذا عندما رجع من مصر كان داعية كبرى لهؤلاء انفر أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر (وإنهم بالغوا في الحفاوة به، وانهم بعد تكريمه ادخلوه حجرة راعه منها شكل هرم كبير مكون من الكتب التي أخرجتها هذه المؤسسة من عالم الخط والعجمة إلى عالم الطباعة والتعريب، وقد كان هذا الهرم معداً ليهدى إلى رئيس المجمع العلمي العربي الذي يطلق بعد الإهداء على لمهدين لفظ الكلاب. . .!!

وزرت دار الأهرام فجلست إلى أسرتها التي تتألف من الأساتذة زكي عبد القادر وكامل الشناوي وأحمد الصاوي وعزيز ميرزا ومحمد الكاظم وغير هؤلاء ممن نقرأ لهم في الأهرام أم الصحافة في العالم العربي وفي غيرها من مؤلفات وصحف، فهل في هؤلاء من

ص: 20

يلمزهم السيد كرد علي فيصدق عليهم لفظ كلاب؟؟

وزرت إدارة الثقافة بوزارة المعارف مراراً وفيها من أعيان الأدب والفن أمثال الأستاذ مفيد الشوباشي وزملائه الأدباء كامل محمود حبيب وأنور المعداوي وعباس خضر وأحمد عطيه وبدران والمنفلوطي وغيرهم من أعيان مصر، وكانت لهم في هذه الدار جولات في الأدب والسياسة والفنون تغذى العام العربي كله، فهل هؤلاء الذين ينهم أبو (طريف) بقوله: انهم كلاب؟؟

وكنت أزور المجمع اللغوي فاجتمع فيه إلي ثلثه من أهل العلم والأدب أمثال عباس العقاد وعبد الوهاب خلاف ومحمد الخضر حسين وعلى الجارم ولطفي السيد وكثير من أمثالهم يتناجون قبل البحث في ما يهذب اللغة العربية اليوم من تراثها المنسي وفيهم الحكمة والنضج والتفكير الذي يسود أقوالهم. فهل في هؤلاء من يعينهم أبو (الخطط) بقوله: انهم كلاب؟

وزرت ندوة (الرسالة) وفيها يأتمر أعيان الأدب مساء كل اثنين من كل أسبوع فيحتدم بينهم ساعات يختمر فيها الفكر بما يدور عليه الحوار، وعلى رأس المؤتمرين شيخ الأدباء أبو علاء صاحب الرسالة التي سلخت ثمانية عشر عاماً من حياته وهو يعالج بها أدواء الأمة في علمها وأدبها حتى وشكت أن تأكل كبده، وتذهب بنصره في هؤلاء من يستحق لقب الكلب على لسان التالد أبي طريف؟؟؟

من أهم الكلاب أيها الرجل وأي الرجل هم هؤلاء الذين تصمهم بما أنت فيه؟ في الجامع الأزهر عند الأساتذة فريد وجدي وعبد اللطيف دراز وعبد المجيد سليم؟؟ أم في الندوة الأدبية عند علوية باشا وأحمد فهمي العمروسي وكامل الكيلاني ومصطفى الماجي وأمين حسونة والعوامريأم في دار الهلال عند أباظه والطناحي ومؤنس؟؟ بلى. . . لعلك تعنى بلمزك النقر القائم على تهذيب الأمة في جامعت فؤاد وفاروق تفيضان عل الأمة العربية بخير؟

يا لله الذين يقبضون على زمام الحكم فيها وهم زعانف الأمة، عنيت بالحكم حكم أدب لا السياسة، هذا هو أحد الحكام فيها يجلس إلى منصته ثم يتلفت فيرى حوله إخلاصا من الناس يحسب نفسه السيد فيهم، فيتنحنح ويقول: أن في مصر أناسا يعدهم الناس أعيان علم

ص: 21

وأدب وليسوا في الحقيقة إلا كلاباً لا تريد إلا التهويش.

ولماذا؟ لأنهم لم يعطوه حقه فيما كتب؟ وماذا كتب!؟

رحم الله رضا الركابي إذ كان يقول: (الغريب في هذه الأمة العربية كيف تستخذى للأمر دون أن تفكر في كنهه؟؟ أن جل أهل الرأي من العرب يعلمون أن محمد كرد على إنما اخذ مكانته فيهم بعمله للفرنسي وهو إلى جانب التركي يتملق له، ثم يعلمون أنه وهو يعمل للتركي كان يفتئت على العربي؛ فعمله (الصالح) أذن كان مزدوجا، ومع هذا كله اقروه على مكانته التي كانت وليدة هذا الازدواج).

ويقول عندما اخرج كرد علي كتابه (الخطط) إذا لم يمكن إحراق كرد فلا اقل من إحراق كتابه هذا لما فيه من خلط يعود بأسرة على أمة التي أقرت كونه رئيساً للمجمع العلمي فيها، والخلط في كتابه هذا مائل بين حملاته البهتانية على أهل بيت الرسول باسم الدين وكلنا يعرف منزلته من الدين. وبين طعنه على الأتراك اليوم، وقد أخر كتاباً بمدحهم فيه بالأمس، وبين كذبه في أن الشام خرجت بأسرها لاستقباله يوم عوده من منفاه، بينما كنت في الشام وعفنت الذين استقبلوه هم بضعة نفر من آذانه وأذناب المستعمر.

هذا حديث أفضى به إلى حد أعضاء المجمع العلمي ورجائي آن اكتم اسمه إذ لا يرى من الضرورة التصريح به حتى إذا لزم هذا التصريح كان مستعداً للتصديق على ما يقول. وينقل إلى فاضل آخر من آل أبي الشامات، ونحن في مجلس الأستاذ نهاد القاسم في دمشق فيقول:

(لقد عرض جمال باشا السفاح على أبي توقيع عريضة يثبت فيها صحة الحكم بإعدام الحسين بن علي أبي فيصل من طريق الشرع فآبى والدي هذه الفتوى. ثم زاره السفاح مرة أخرى على انفراد وقال له: أنا اعلم أن السبب في عدم توقيعك انك طلبت من أنور باشا إعفاء السيد رشدي الشمعة من الإعدام فلم يشفعك فيه. تم اخرج السفاح من جبينه خطاً بتوقيع كرد علي يخاطب فيه السفاح بقوله: إذا لم تعدم رشدي الشمعة فليس في هؤلاء المحكومين من يستحق الإعدام.

ويقول هذا الفاضل: زار المستشرق الفرنسي ماسنيون دمشق ثم قصد المجمع ليأخذ من كرد على، وكان غائباً فقلت للمستشرق أن الذي تحاول النقل عنه كذاب) فقال: وما يهمنا

ص: 22

من ذلك ما دام أفكارنا وسياستنا. ويقول الناقل: إن السيد أمين سعيد كان شاهد هذا الحديث.

تلك هي سيرة هذا الرجل في بلده واقبح من ذلك أنه لم يتورع في ختام (خططه) عن الطعن الشائن الذي وجهه للمرحوم الدكتور رضا سعيد مؤسس لجامعة السورية ورئيسها ثم لا يندى جبين زملائه الحافين به خجلاً حين يقرون هذا الطعن وهم يرون بأم أعينهم مئات الشباب المثقف يتخرجون من الجامعة السورية بفضل فقيدها على رأس كل عام ولم تتحرك في واحد منهم عاطفة نبيلة تدفعه للدفاع عن الحق وراء بهتانه هذا.

تلك هي أثار كرد على:

كتاب الخطط يطعن فيه أعيان الأمة قديمهم وحديثهم، ومذكراته المحشوة بالبهتان على أعيان مصر علماء وأدباء وما عدا ذلك حديث يليه في ندوة المجتمع كل يوم ينال فيه من قوم نحن مدينون لهم في كلما نعتز من حياة، فعلى أي عذر نقيمه في كل ذلك؟؟ وبأي منطق نناقشه الحساب، وهو في مكانه هذا من رجال الأمة؟؟ هل يفيد معه أدب في المنطق المهذب؟؟ أم يكون المنطق غير سلم معه الدعوة إلى لحن بالحكمة والموعظة الحسنة؟

فأي منطق يستقيم في تأديبه وهو يبز أخبار أمة أعلامها أمثال لطفي السيد باشا وأحمد أمين وأحمد الزيات وطه حسين وعباس العقاد وأحمد بدوي وعبد الرزاق السنهوري ومحمد علي علوبه ومحمد فريد وجدي، أقول: أي منطق يستقيم في تهذيب كرد على نحت سماء المجمع العلمي بالحكمة والموعظة الحسنة وهو ينبز هؤلاء بالكلاب؟؟

دمشق

الحوماني

صاحب مجلة العروبة

ص: 23

‌من الحوادث الأدبية

عام الكف

للأستاذ محمد سيد كيلاني

كانت حانة درا كتوس فيما مضى مجمعاً للأدباء والوجهاء يلتقون فيها كل مساء يقضون شطرا كبيرا من الليل يتحدثون في مواضيع شتى ويتبادلون النوادر والفكاهات. وكان بعض الكتاب يحرر فيها مقالاته آلت ينشرها في الصحف. ومن هؤلاء محمد بك المويلحي صاحب جريدة مصباح الشرق التي كانت تصدر وقتئذ. وكانت بينه وبين الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد عداوة شديدة وخصومة عنيفة وكانا يتبادلان الشتائم والسباب على صفحات جريدتهما.

وقد حدث في ذات ليلة من ليالي أكتوبر سنة 1902 بينما كان المويلحي جالساً مع بعض أصدقائه أن دخل شاب من أبناء الأغنياء اسمه محمد نشأت فداعبه المويلحي كعادته فما كان من هذا الشاب إلا أن رفع يده وهوى بها على خد المويلحي.

فانتهز صاحب المؤيد هذه الفرصة واخذ يذيع خبر هذا الحادث بين الناس ويكب عنه في جريدته مظهراً الشماتة والسخرية بعدوه اللدود محمد المويلحي. فنشر مرة تحت عنوان (تنصرت الأشراف من أجل لطمة) مقالاً جاء فيه (فخرج جيله الأيهم من دينه ولم تخرج أنت من جمودك، فإن كان ذلك لحلم منه وأنت في الحان فما معنى هذا الغضب وأنت في دارك بين الجدران؟).

وقد فتح للشعراء باباً سماه (عام الكف) فشرع هؤلاء يتسابقون في نظم المقطوعات التي تفيض بالهزء والسخرية.

وقد اعترض أحد الشعراء عل قولهم (عام الكف) واقترح أن يطلق عليه (عام القفا). قال:

سموه عام الكف وهو الذي

يؤخذ من معناه أن قد كفى

ما هو عام الكف لو انصفوا

لكنه في الحق عام القفا

فهو هنا يبين وجهة نظرة في اقتراحه فيقول أن الكف مصدر كف عن الشيء بمعنى تركه وارتد عنه. ولو انهم وقفوا إلى الصواب في نظر هذا الشاعر لدعوه (عام القفا) ولكن يرد عليه بان المويلحي لم يضرب على قفاه وإنما لطم على خده فذكر القف هنا أمر لا محل له.

ص: 24

وشاعر صعيدي يزعم أنه سمع دوى هذا الكف وهو مقيم بالصعيد. ويتساءل عن صاحب هذه الراحة الجبارة التي صفعت خد المويلحي. قال:

لي سؤال يا أهل مصر فردوا

بجواب عن السؤال مفيد

أي كف قد باشرت صفع خد

سمعنا دويها في الصعيد

فانظر إلى هذا الكذب الصريح الذي يدعو الإنسان إلى الضحك.

وآخر يعرب عن سرور الصحافة وفرحها بما حدث للمصفوع فيقول:

هي صفعة سر الصحافة وقعها

ورجا بيان مثلها وبديع

كانت تؤملها البلاد ليرعوي

غر ويعرف قدره المخدوع

أو يقول

هي صفعة لهج الأنام بذكرها

ودرى البعيد بها ومن لم يعلم

قد بالغ الأدباء أوصافها

ما بين منثور وبين منظم

فغدا قفاك منذ هلالهم

هل غادر الشعراء من متردم

فهنا ترى مبلغ الخصومة الصحيفة وأثرها في هذه الأبيات فالصحافة مبتهجة فرحة وكذلك البيان والبديع. والبلاد كانت في شوق شديد إلى ما لحق المويلحي من الإهانة على يد الصافع فلعله يرعوي ويزدجر ويترك الشتائم التي يجرى بها قلمه كل يوم، ولعلع يرجع عن غروره ويعرف أنه ضعيف لا يقدر على رد الأذى عن نفسه.

والشاعر هنا قد نفس عن شعوره المكبوت وعبر عن غيظه وحق على المفزع. وخيل إليه إن البلاد ملها تشاطره فرحه وسروره بما حدث للمويلحي. ويقولان هذه الصفعة قد سار ذكرها في الأفاق وعلم القاصي والداني واكثر الناس من التحدث عنها وتناولها الكتاب والشعراء. وانظر إلى التضمين في البيت الأخير.

على أن أبلغ ما قيل في هذا الموضوع وادعاه إلى الضحك تلك المقطوعات التي نشرها تباعاً في المؤيد الشاعر لكبير إسماعيل صبري. وقد أجرى هذه المقطوعات تارة على لسان المويلحي مفتخراً بمتانة صدغه الذي لم تؤثر فيه أكف الصافعين بل ارتدت عنه كما تريد القذيفة إمام الحصن القوي. وتارة على لسان ابن المويلحي، وتارة على لسان صاحب المؤيد، مرة على لسان الصافع، وأخرى بسوق القول في صورة نصيحة يزجيها إلى

ص: 25

المصفوع. ومثال ذلك قوله:

يا أبن الآلي رسخت أحلامهم ورست

إذ الأكف مجانين مها ويس

لا تدخل الحان والصفاع ثائرة

حتى تقام حواليك المتاريس

وقل لصدغك يستقبل وفودهم=بالباب: انهم قوم مناحيس

وهذا إمعان في السخرية. فأنت ترى الأكف تهوى على خد المويلحي في حالة هوس وحنون وتتوالى مندفعة بغير رؤية ولا تفكير والمصفوع جالس كالطرد الثابت لا يبدى حراكاً ولا يحاول أن يقاوم أو يذود عن حياضه، بل ترك الكف تفعل بخده ما تريد. ثم أخذ الشاعر يفصح المصفوع بألا يدخل الحان ولا يأخذ مكانه فيها قبل أن تقام حوله الحاجز التي تحميه من شر الأكف. ثم تمادى الشاعر في التهكم وبالغ في السخرية فأشار على المصفوع بأن يدع خده يستقبل وفود الصفاع على الباب ويجلس هو وراء الحواجز آمناً مطمئناً على نفسه فصدغه سيحمل عنه عبء هذه الأكف الثائرة المجنونة.

والحق أن إسماعيل صبري اظهر في هذه المقطوعات براعة فائقة في التهكم المر والسخرية القاسية. وفيها مع ذلك فكاهات تدل عل خفة روح ذلك الشاعر وانظر إلى قوله:

أعرني يا ابن إبراهيم صدغا

أخوض به غمار الصافعينا

فإن هو قد أعارك ما ترجى

رايتهم أمامك هاربينا

كما هرب الفتى الصفاع يوماً

أمام الكاتب ابن الكار تبينا

وخلف ثم رب الحان يجلو

على المغلوب كأس الغالبينا

ويغبط ذلك الصدغ المفدى

على إرغام كف الضاربينا

فإسماعيل صبري تمادى في التهكم حتى عكس القضية فجعل الغالب مغلوباً مهزوماً أمام صدغ المويلحي، وذلك لأن هذا الصدغ كما تصوره الشاعر كجلمود صخر تدمى عليه اكف الضاربين فيولون منه هربا. وجعل الحان يغبط المصفوع لأنه انتصر بصدغه القوى المتين، وينصحك بأنك إذا أردت أن تخوض غمار الصافعين وتخرج من المعركة ظافراً منتصر كانتصار المويلحي فما عليك إلا أن تذهب وترجوه أن يعيرك صدغه. فإن أجابك إلى طلبك رأيت الصفاع أمامك وقد ولو هرباً. وهذا نوع طريف من الهجاء فيه صور جديدة مضحك إلى حد بعيد.

ص: 26

ومن الصور الجديدة في هذا الشعر الهجائي تلك المحاورات التي تدور على لسان والد المويلحي أو على لسان ابنه أو على لسان الصافع أو على لسان المصفوع أو على لسان صاحب المؤيد فكأنك تقرأ شعراً تمثيلياً وكأن مقطوعات إسماعيل صبري ثم من تمثيلية جرت وقائعها في حانة دراكتوس. وأبطال هذا التمثيلية هم محمد المويلحي المصفوع ووالده إبراهيم والصافع محمد نشأت وصاحب المؤيد مع نفر من أصحابه وقد ظهرت عليهم دلائل الفرح والسرور بما وقع على المولحي. ثم يظهر في هذا المشهد صاحب الحانة معجباً بصدغ المصفوع ويقترب من هذا الصدغ ويتأمله في شيء من الغبطة.

وهذا من غير شك صورة جديدة في فن الهجاء لم تعرف من قبل

محمد سيد كيلاني

ص: 27

‌في الشعر السوداني

الأخلاق والعادات

للأستاذ علي العماري

- 8 -

لست في حاجة إلى أن أؤكد هنا ما قلته مراراً من أني لا أقصد من تصوير أدب الأمة لحياتها أن يكون - فقط - سجلاً تصور فيه مناظرها الطبيعية أو مشاكلها السياسية، أو تحصى فيه عاداتها وأخلاقها وتقاليدها، وإنما أقصد أن يتأثر الأدب بهذه الظواهر في الأمة، فيجرى في أوصاله ما تعكسه هذه الأمور من شمائلها، وما توحيه إلى أنفس الشعراء من خصائصها، فالأخلاق التي توجه الأمة؛ والعادات التي تذيع فيها، والخرافات التي تسيطر عليها، كلها ذات انعكاسات نفسية، لا مندوحة من ظهورها في الأدب - أن صدق الأدب - ونحن حين ننظر في الأدب لنحكم عليه بالتخلف أو النجاح، وبالتقاليد أو الأصالة، من واجبنا أو لا أن نتفهم جيداً ما يحيط بهذا الأدب من شتى الاتجاهات والمؤثرات.

وإذا كان الباحثون في الأدب العربي يجعلون أول همهم حين يفصلون تصوير الشعر العربي للحياة الاجتماعية عند العرب أن يعدوا ما ورد على السنة الشعراء مما يعد تسجيلاً لعادات قومهم فإننا نجعل هذا آخر همنا وننظر أولا في المظاهر العامة للأدب. ونرى هل تأثرت في اتجاهها بيئتها وانحرفت عن السبيل، وظهرت فيها خصائص بيئات أخرى، ولنضرب لذلك مثلاً:

من ابرز الأخلاق التي يمتاز بها عرب السودان البطولة والجلادة، والصبر على المكاره، وقد اتخذت هذه الصفات مظاهر متعددة، وبدت في أشكال مختلفة، فمن أكبر العار عند العربي السوداني الفرار من الميدان، وهو يقاتل ما دام النصر يتراءى له؛ فإذا تأكد الهزيمة لم يول ظهره ولم يقاتل قتال المستميت بل يلقى فروته على الأرض ويجلس عليها رابط الجأش، ثابت النفس حتى يقتل أو يؤسر، كما فعل الملك جاويش الشايقي الكبير عندما تغلب عليه بشير ملك الخندق. كان فرسان الشايقة يفتخرون بأنهم يفترشون (فراويهم) إذ بدا لهم أنهم غلبوا، وكما فعل الملك نمر عندما تغلب عليه الترك في واقعة النصوب فإنه

ص: 28

ترجل عن جواده، وجلس مفضلاً الموت.

ومن العار الذي لا يمحى، ويبقى سبة للرجل وأولاده من بعده يعيرون به، أن ينطق المريض مهما اشتد مره بكلمة تدل على تألمه، أو يبدى المضروب اقل توجع مهما اشتد عليه الضرب أو يظهر على المسوق إلى القتل اقل جزع أو خوف. وقد حدثت بأحاديث كثيرة في هذا الشأن، فقد ذكروا أن جماعة من المجموعة حكم عليهم بالإعدام وكانوا يساقون إلى المشنقة واحداً واحداً، فجلسوا يلعبون (السيجة) وهم ينتظرون نوبتهم في القتل، وكان الجلاد يأتي فيأخذ أحدهم للقتل، ويبقى الآخرون مستمرين في لعبهم دون أن يبدو عليهم أي ذعر أو خوف. . . وهكذا حتى قتلوا جميعاً.

وحدثت أن بعض الفرسان بق إلى المقصلة، وكان مكانها بعيداً، وقد أبى أن يمشى مقيداً، ولكن القيد كان من النوع المفرغ، فلا يمكن فكه، فأيئسوه من فك قيده، فطلب أن يقطعوا قدمه ففعلوا، وجعل يمشى وما رؤى عليه أي تأثر.

ومن العار أن يرفع الإنسان صوته بالأنين والتوجع في حادث من الحوادث حتى لقد تجرى لأحدهم عملية جراحية دون مخدر ومع ذلك لا يرتفع له صوت، رأيت مثل ذلك في مثقفيهم، وتأكد لي من مناقشتهم طويلاً في هذا الشأن، ولقد قلت مرة لأحد المترفين: ماذا وضربت عشرين سوطا؟ قال: أتألم اشد التألم، قلت أما ترفع بالتأوه والأنين؟ قال: لا. لا. (الكوراك) لا سبيل إليه (والكوراك: رفع الصوت)

ومعروف من عاداتهم في (البطان) أن الشاب إذا اعجب بفتاة ووقع حبه في قلبها نزعت من معصمها سواراً، وألبسته إياه، فيأخذ الشاب إذ ذاك سوطه، ويهزه فوق رأسها ويقول:(ابشري بالخير أنا أخو البنات عشرة) فإذا كان له بين الحضور منافس فيقف له حامل السوار واضعاً يده اليمنى فوق رأسه فيجلده بسوطه إلى أن يكل فيرمى السوط فيجلده حامل السوار في نوبته بما أعطي من قوة، ويقف المضروب في حالة الضرب جامداً لا يتحرك، ولا يطرف له جفن كأنه صخر أصم، ومن بدت عليه ظواهر التألم بل من بدت منه أقل حركة كهز الكف أو طرف الجفن، لبس العار، ولم يعد له في البنات نصيب.

بل قد حدثت بما هو ابعد من هذا، حدثت أن سيدة أبت أن تقوم في مأتم أخيها، أو تقف على قبره، لأنها رأت في وصيته ضعفاً وخوراً لم تحبهما فيه، رأته يوصى بان يدفن

ص: 29

بجوار قبر ولي من الأولياء، ولا يدفن في مقابر أهله وعشيرته، فقالت لا أبكيه أيخاف من النار وأبكيه؟!

هذا الخلق لابد أن يظهر في الشعر وإلا كان الشعراء يعيشون مع قوم آخرين فليس طبيعيا أن ترى الأنين والباء والتوجع والتأوه في الشعر السوداني، وإنما الطبيعي أن ترى التسامي على حوادث الدهر، والسخرية بتقلبات الأيام، والنفور من الضعف والهوان. وإذا كان للشعراء في أي جهة أخرى أن يسهوا الليل وأن يعدوا النجوم، وأن يلطموا الخدود، ويشقوا الجيوب في سبيل محبوبة هاجرة، وإذا كأنهم أن يشيعوا موتاهم بالعويل، وأن يتلقوا حوادث الأيام بجفن باك، وقلب واجف، وصبر متخاذل، فإنه ليس للشاعر السوداني إلا أن يقول كما قال ابن سناء الملك:

ولو مد نحوي حادث الدهر كفه

لحدثت نفسي أن أمد له يدا

فليس من الطبيعي أن نقرأ للشاعر شيئاً من هذا إلا حين يئس نفسه وقومه، كقول الشيخ عمر ألا زهري:

سلا عن فؤادي مسبلات الذوائب

فقد ضاع من بين القلوب الذوائب

فلا سلمت نفسي من الحب قد خلت

ولا كان جفن دمعه غير ساكب

ولا أن تقرأ للشيخ أحمد المرضى:

لقد آن أن أبكي وأبكي البواكيا

وانظم من حب الدموع المراثيا

ولكن من الطبيعي جداً أن نقرأ للشاعر عبد النبي مرسال هذه الأبيات.

أنا أن عضني الزمان بناب

ودهائي يوماً بفرس

وبلتني الخطوب من كل نوع

ودهتني الكروب من كل جنس

أن لي كالحديد عزماً ونفساً

لا تفل الخطوب عزمي ونفسي

ومن الطبيعي أن يفتخر الشاعر السوداني بالبطولة والشجاعة وأن يتمدح بها، وأن يمدح حين يمدح بها ويهجو إذا هجا بالجبن والضعف والفرار يوم الزحف، وأن تظهر عواطفه في مثل هذه الأبيات:

ألقى بصبري جسام الحادثات ولى

عزم أصد به ما قد يلاقني

ولا أتوق لحال لا تلائمها

حالي، ولا منزل اللذات يلهيني

ص: 30

ولست أرضى من الدنيا وإن عظمت

إلا الذي بجميل الذكر يرضيني

وكيف اقبل أسباب الهوان ولى

آباء صدق من الغر الميامين

وإذا كان أهل السودان يعدون الكرم من أكبر مفاخرهم والبذل من أحد سجاياهم - وهو كذلك - فبديهي أن تظهر هذه الحضارة النبيلة في الشعر، وأن تأخذ مكانها اللائق بها، وكثير ما نقرأ لهم الأبيات الجميلة في تمدح بالكرم، والافتخار بالجود كما نجدهم إذا هجو كان من أبلغ الهجاء عندهم أن يصفوا الرجل بالشح، وانه لا يؤدى واجب أضيافه، وكما تجد هذا في الشعر المعرب تجده في الشعر العامي، ويعجبني قول امرأة ترث زوجها.

بي عبدو، بي خادمو.

للدهر العيش مورادمو

يكفى الضيف، ويقادمو

فهي تصف زوجها بالسيادة، وأنه صاحب عبد وخادم، تدق في الوصف، وتبلغ في التعبير وتنبل في المعنى، فتصف زوجها بالبذل والأنفاق، وإنه يعطى ما لديه، وإذا كان البخلاء يختزنوه العيش مخافة حوادث الدهر، وتقلبات الأيام، وإذا كان ظنهم في الله سيئاً فإن زوجها رجل لا يخاف إلا البخل، ولا يهرب إلا من قالة السوء، ولا يحسب حساباً للدهر والأيام، فهو لم يردم العيش ويختزنه خوفاً من الدهر (للدهر العيش المرادم) ثم تتحدث عن مظهر من مظاهر الكرم فتصف زوجها بأنه يكفي الضيف، وهذا لباب الكرم، ومع ذلك لا يقصر في الإكرام فهو يودع أضيافه إلى مسافة بعيدة على عادة الكرماء وعبرت عن ذلك ابسط تعبير (يكفى الضعيف ويقادموا) كما يعجبني رجل من البطاحين:

من منا ولى منا

كذبوا القالوا متلنا

يكفى مراره فيسلنا

ويصد القوم عاطلنا

فهو يفتخر هنا بنسب قومه ومكارمهم وشجاعتهم ويقول: أنه لا يساميهم أحد ومن قال أنه مثلهم فقد كذب، ويسكن البطاحين بين الجعليين والشكرية، الجعليون شمالهم، والشكريية جنوبهم، أو على تعبيرهم الشكرية في الصعيد، والجعليون في السافل، وهو يقول: من هنا والى هناك يقصد الجعليين والشكرية يكذب من يقول أنه مثلا، ثم يصف قومه بالكرم فقال: يكذب مرارة فسلنا، والفسل البخيل، ويكفى مرارة إشارة إلى العادة المعروفة في السودان وهي أنه إذا نزل أضياف برجل وكان كريما ذبح لهم، وللدلالة على أنه ذبح يقدم لهم أول

ص: 31

ما يقدم الكبد والطحال والكرش، وتؤكل كل نيته، يرون في ذلك دلالة على نهاي الكرم، ويعبرون عن هذا الطعم (بالمرارة) والشاعر البطحاني يقول: أن يخيلهم يبلغ به الجود إلى درجة أنه يكفى الأضياف ويذبح لهم حتى يباع حد الكرم، وإذا كان بخيلهم يقوم بحق الأضياف، فضعيفهم يصد الجيش المغير، وهذا نهاية المدح والافتخار.

والحق أن شديد الإعجاب بهذا الشعر البدوي، وهو عندي أصدق لهجة واقرب إلى الواقع من الشعر المعرب.

أما تسجيل الشعر للعادات، فالمطلع يجد كثيرا من هذه العادات في الشعر السوداني، ولا سيما العامي منه، وسأقتصر هنا على بعض تلك العادات؛ فمن العادات الشائعة في السودان أن يلبس النوادب لباس الحرب الميت ويحملن آلاته التي كان يستعملها في القتال، تتقلد واحدة من قريباته سيفه وتلبس أخرى جبته أو عمامته، ويدرن باكيات في ساح الدار، ولا يعمل هذا العمل إلا للعظماء من الرجال ملوكاً كانوا أو محاربين، وقد يستمر هذا خمسة عشر يوماً، والشاعر السوداني يذكر هذه العادة في معرض الحسرة والألم على ما صارت إليه حال قومه، فهو يبكى على زمن مضى كان السيف فيه في يدي البطل يدافع به عن حوزته ويدفع به في صدر عدوه، فعدا الزمان وسلب السيف من يديه ووصفه في يد الناعية، فأصبح لا يرى إلا في يدها، والخوذة ويسمونها (التربك) لا ترى إلا على رأسها:

كأن الزمان برغم الزم

ان أمسى تبيعا لسلطانيه

غفرت له وهو ذاك العتي

فكم ناشئ بيد عاتيه

عدا فاستباح دروع الكما

ة فلف بها رمما بالية

وخلى التربك وهز البوا

تر حبساً على الغادة الناعية

والشعوذة والدجل، وضرب الرمل، وطرق الحصى، والودع كثير في السودان، والناس يؤمنون بكثير من هذه الضلالات، ولا يفوت الشعراء أن يحدثونا عن صاحبة الودع، وأن يصفوا لنا ما يفعله الحاوي، ويجرى على ألسنتهم ذكر التعاويذ والتمائم، ومن ذلك ما يقوله التيجاني يوسف:

عوذوا الحسن بالرقى وخذوني

أنا تعويذة لكعبة روحي

قربوها مجاماراً أنا وحدي

عوذ للجمال من كل روح

ص: 32

احرقوني عل يديه وشيدوا

هيكل الحب من فؤادي الذبيح

واعصروا قلبي المفزع للحسن

أماناوعوذوه (ينوح)

وللمجامر في الحياة السودانية شأن أي شأن، فليس يخلو منها بيت من البيوت، ويوضع فيها البخور حيث تتطيب به النساء والتيجاني يشير إلى ذلك حين يقول:

وليلة من جمادي

في مثل روعة شهره

درجت والحسن حولي

إلى خبيئة سره

ورحت احرق نفسي

على مجامر عطره

أذبت من خمر روحي

على يديه وثغره

بقية من ربيع

شقيت وحدي بزهره

ومن عادة الزوجة في السودان إلا تخاطب زوجها باسمه بل تدعوه بأسماء أخرى تتحاشى طوال حياته أن تناديه باسمه، والشاعر يسجل هذه العادة فيقول:

ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني

فتاته اللحظ ذات الحاجب النوني

يا بنت عشرين والأيام مقبلة

ماذا تريدين من مرءرد خمسين

قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى

أطيعه وحديث ذو أفانين

ولا منى فيك والأشجان زائدة

قوم وأحرى بهم إلا يلوموني

في ذمة الله محبوب كلفت به

كالريم جيداً وكالحيروز في اللين

يقول لي وهو يحكي البرق مبتسماً

يا أنت، ياذا، وعمدا لا يسميني

على العماري

ص: 33

‌رسالة الشعر

عتاب

لصاحب السعادة عزيز أباظة باشا

(مهدأة إلى أم كلثوم أيضاً)

أأضوي ولي من ظلك الكنفُ الرحبُ

وأظمى ولي من ثغرك المنهل العذبُ

أحبك ألوانا من الحبِ لم تزلْ

تجدُ لا يهدأ لظاها ولا يخبوُ

ترادفن في قلبي جوى غير مقلع

وبرحاً يا شد ما حمل القلبُ

ولي فيك إجهاش الليالي، وَمدمُع

إذا كف غربُ منه أعقبه غربُ

وجنة مشتاق إذا شطتْ النوى

وأنأتُ محروم إذا جمع القربُ

ومحمومة من غيره ما تدافعت

بصدري إلا قلتَ زلزلتْ الهضبُ

أبثك تحت الفجر والكون جاهد

تسابيح نفس ملء أحنائها عتبُ

إذ كان حب الناس سهداً ولوعةً

وأفئدة تهفوُ لأفئدة تصبوُ

فليس الذي ألقاه فيك من الضنى

ومن حرقٍ تفرى الضلوعَ هو الحبُ

بلي أنه التقديس قد طهر الهوى

فرف كما رفَ الندى المونقُ الرطبُ

قصاراك منى والدنا في مدارها

تقلبُ حتى ما يقرُ لها جنبُ

أساكيب وقد في الجوانح تنصبُ

وحز مدى بين الأضلع لا ينبوُ

وذمة وافٍ والوفاء مشقة

وَما حسبي أن أدنى المرتقى الصعبُ

لئن لم أكن حسباً لنفك أنني

لاعتدَ نعمى العمرُ انك لي حسبُ

) فلورانس)

عزيز أباظة

ص: 34

‌تعقيبات

لأستاذ أنور المعداوي

وجهات نظر في رسالة:

أوفر شكر واجمل تحية:

عدت إلى دمشق من نزهة مضنية في حلب وضواحيها كما عدت أنت من رحلتك الطويلة: (خيالاً لا ينفض بعدها يديه من خداع الأوهام ويلقى عصاه). . واستقبلني المرض فاعتصمت بالسرير أياما طويتها في القراءة والتأمل، ولقد طلعت على الرسالة قبل غيرها من بريد الكتب والمجلات، فقرأت تعقيبك على كلمتي الأخيرة، وأسفت اشد الأسف أن حالت الحوائل دون زيارة الإسكندرية والقاهرة خلال انعقاد المؤتمر الثقافي الثاني، ويسرني أن تعلم أن رؤيتك ورؤية الأستاذ الزيات تعدلان عندي هذا المؤتمر الثقافي الذي لا يعدوا أن يكون مؤتمر كلام وطعامدون أن يكون مؤتمر تنفيذ وأفعال. . وما عهدي بالمؤتمر الثقافي الأول الذي عقد في (بيت مرى) من لبنان ببعيد، وما احسب حكومة (عربية) واحدة نفذت قرارات المؤتمر الثقافي الأول حث بحق لها أن تشترك في المؤتمر الثقافي الثاني!

على أني آملة من الله آن يكتب لنا لقاء قريباً في أعقاب الخريف فأزور القاهرة والقه الأستاذ الزيات في دار لرسالة ونبحت طويلاً في (شؤون الأدب والأدباء ومشكلة الكتب وأزمة القراء. .) ولعلها احب الأحاديث إلى نفسي وأشهاها إلى خاطري.

لا أحب أن نتقارض الثناء فنتحدث عن أسلوبي بتميز بالنضج والأصالة، وأتحدث عن شباب أسلوبك وأناقة صورك ورفاهة أخيلتك، ولكنها كلمة صريحة أود أن أطلعك عليها فلقد قرأتك كثيراً وعرفتك كما تعرف نفسك ولكني في هذه المرة اكتشفت ناحية أدبية جديدة فيك وهي أن لك حين تكتب عقل (طه) وقلب (الزيات). . وما رأيت أحدا غيرك من أدباء هذا العصر؛ استطاع على طراءة الشباب أن يبلغ ما بلغت من أسلوب مكين متين، وصور أنيقة رقيقة، وخيال خصيب عجيب! فاحرص ما استطعت على صداقة الزيات واحرص على مكانك من رسالته، فليس أجدى على الأديب مثل أن يلقى الأديب ويصادقه ويعايشه.

مع هذه الرسالة قصيدتي (قصة قلب) وهي لون جديد من ألوان الشعر العاطفي يلخص

ص: 35

قصة القلب الإنساني ويتحدث عن الحب حديثاً جديداً أن تعقب عليها وعلى أختها (القمر) في فصل من فصولك الرائعة، لأنه يهجني ويثلج صدري أن انقد وانتقد، ويسرني أن أصغي إلى نقد من أعايشهم من رجال الأدباء والفكر إن نقد الأحياء للأحياء أجدى من نقد الأحياء للموتى، وأعاظم رجال الفكر في بلاد الناس يعنون اشد العناية بهذا النقد لأنهم فيه تجاوباً وتوجيهاً.

كنت أحب أن أزوك في القاهرة، وما كنت أدري أن قصيدتي (القمر) و (قصة قلب) ستنوبان عني في هذه الزيارة فأكرم وقادتهما لأنها حبيبتان إلي عزيزتان علي أثيرتان عندي.

وذلك التحية الطيبة والمودة الدائمة والشكر الموفور.

(دمشق - سورية)

هجران شوقي

لست أدري ماذا أقول للآنسة هجران شوقي بعد أن أسرفت في الثناء. إنها وجهة نظر أول تنقلها إلى رسالتها الثالثة واقف منها كما وقف الزعيم الخالد سعد زغلول من قوم أسرفوا في الثناء عليه. ارتدى الآنسة ماذا قال لهم سعد؟ لقد قال لهم عباراته المشهورة: (لقد أخجلتم تواضعنا) فصارت مثلاً من الأمثال.

أعمق الشكر يا آنسة، واخلص الأسف أن حالت الظروف بينك ويبين الحضور وبيننا وبين رؤيتك. . ولئن عاقك اليوم المشهود عن هذه الأمنية فأرجو لا يعوقك الغد المرتقب، وسواء صافحت روحك أنسام هذه الأرض الطيبة في أعقاب الخريف أم في أوائل الشتاء، فإني أقول لك كما قلت بالأمس مرحباً بك ضيفة كريمة تلقى في ديارنا أهلا غير الأهل ووطناً غير الوطن.

صدقيني لقد كانت وجهة نظرك الثانية عن المؤتمر الثقافي لفتة مشرقة، واشهد لقد كانت هي وجهة نظري وكأننا كنا في اتفاق الرأي على ميعاد ولقد كنت على وشك الكتابة حول هذا الموضوع قبل انعقاد المؤتمر بأيام، ولكنني تذكرت أن هناك أناسا يهمهم أن ينتهي المؤتمر دون أن يثار من حوله الغبار! وما كففت القلم مجاملة لهم لي حساب الحقيقة

ص: 36

الصارخة والواقع الشهيد ولكن لأنني قد وضعت من ميزان أوهامهم في كفة الشك والاتهام. . من هنا كففت قلمي ورجوت المؤتمر شيئاً من التوفيق ينسى أناس في ظلاله بعض ما ساورهم من خيبة الرجاء في المؤتمر أول، ولكن البداية السيئة التي تجلت في مظاهر الارتجال حتى أوشك الشمل أن يتفرق؛ هذه البداية كانت تشير إلى النهاية وتغنى عن كل وجهة نظر في مجال التعليق!.

ومع ذلك فقد انتهى المؤتمر وأشهد ما خرجت منه بشيء ذي خطر سوى محاضرة الأستاذ الزيات، هذه المحاضرة القيمة التي أقول فيها رأيي خالصاً لوجه الحق لا لوجه الصداقة وما تعودت أن أجامل أحدا ولو بلغت أواصر الود بيني وبينه ما بلغت بيني وبين هذا الصديق. . ما أريد أن أخرجه حين أطلب أن يجهر برأيه فيما أصاب المؤتمر من نجاح أو فيما منى به من إخفاق، بنفس الصراحة السافرة التي زخر بها رأيه الأخر في حاضر الأدبي العربي الحديث.

أما عن وجهة نظرك الثالثة يا آنسة فلا أوافقك على شقها الأول وإن كنت أوافقك على شقها الأخير: تقولين عني أن لي (عقل) طه حين اكتب (وقلب) الزيات؟. . من الصعب أن تتشابه العقول في مناهج التفكير وطرائق التعبير، لأن لكل أديب عقله الخاص الذي هو من صنع الله أولا ومن صنعه هو في نهاية المطاف، أعنى أنه وليد نشأته ونتاج ثقافته وثمرة مداركه وكل هذه الأشياء لا بد أن تعكس أثارها الواضحة على مظاهر النشاط العقلي وتوجه كلا منها إلى طريق: ومن هنا كان عقل طه غير عقل العقاد؛ وعقل العقاد غير عقل الزيات؛ وعقل الزيات غير عقل الحكيم، وقفل الحكيم غير عقل تيمور. أما القلوب فقد تلتقي في دفقة الشعور وجيشان العاطفة، وتأتلف فيها وخفقة خفقة أمام هزة من هزات الكون أو مشهد من مشاهد الحياة، لأن رواسب الإنسانية المستقرة في أعماق النفوس قسط مشترك بتقاسيمه الأحياء كل بنصيب!

بقيت إشارتك إلى الحرص على صداقة الزيات ومكان هذا القلم من رسالته. أود أن أقول لك أن ما بينه وبيني من قرابة الروح وأصالة المودة ظاهرة يعز وجودها في مثل هذا المجتمع الذي نعيش فيه؛ وليس لمكاني في الرسالة اثر يذكر في هذا الدير يربطني بصاحبها منذ عرفته، وإنما هو رفاء يقابل بوفاء! أما عن قصيدتك (قصة قلب) وأختها

ص: 37

(القمر) فموعدي معها في ميدان النقد آت لا ريب فيه، وذلك بعد أن تقع عليهما الأعين والأذواق في الأيام المقبلة. وإذا كنا قد تأخرنا في نشرهما بعض الوقت فمرجع ذلك إلى ما بين أيدينا من قصائد أخرى قد سبقت في الوصول ويقتضي الأنصاف أن ينشر كل شيء في وقته المعلوم

كلمات من شوينهور:

مما روى عن الفيلسوف الألماني شوينهور أنه خرج على الناس يوماً بمذهب فلسفي جديد حمله إليهم كتابه المعروف (العالم كإرادة وفكرة). . واعجب النقاد بكتاب الفيلسوف ناعتين مذهبه بأنه غزوة موفقة في ميدان الفكر الأوربي عامة وميدان الفكر الألماني على الأخص وكن ناقداً واحداً أتصدى للكتاب القيم في حملة ساخطة هدفها الحط من قدره وقد صاحبه وفكر شوينهور طويلاً: هل يتناول قلمه ليناقش هذا الناقد المطموس؟ وبعد جولة فكرية طاف بها حول عقلية ناقدة، انتهى إلى أنه لا يستحق منه غير هذه الكلمات: (أن بعض آثار الفكر مثلها كمثل المرآة إذا نظر فيها الحمار. . فلا ينتظر أن يجد وجه ملاك!

وبالأمس خرج كاتب هذه السطور عل الناس أيضاً بمذهب جديد في النقد وهو مذهب (الأداء النفسي). . . وسجلت صفحات (الرسالة) ورسائل الأدباء مدى ما لقي المذهب الجديد من تقدير وثناء. . . ولكن ناقداً واحدا اشق عليه إلا يكون هناك صوت ينكر ورأى يعارض، فكتب في البريد الأدبي من العدد الماضي من الرسالة كلمة ختمها بهذه اللمحة البارعة:(أن القلم يوشك أن يقرض اللجام ليكشف الغطاء عن الأداء النفسي، وذاك أمر أن يبد يسؤ الأستاذ المعداوي). . من هنا تذكرت رد شوينهور على ناقده. ولعل أول شيء ذكرني بهذا أرد الخالد هو كلمة (اللجام) التي وردت في لمحة الأديب الطنطاوي المجهول!

أما الشيء الثاني الذي ذكرني شوينهور فهو موقفه من ناقده المعروف حين رأى أنه غير جدير بمناقشته: وكذلك عزمت على أن اقف نفس الموقف من ناقدي الذي لا يعرفه أحد وأرجو إلا يغضب إذا ما أهملت ذكر اسمه الذي لا يعرفه أحد وأرجو إلا يغضب إذا ما أهملت ذكر اسمه خشية أن يعرفه الناس مرتين. . وخمول الذكر خير من الذكر الذميم على كل حال!!

لقد تعرض هذا المجهول العظيم لما كنت قد كنته عن الشاعر اللبناني يوسف حداد، متخيلاً

ص: 38

أني سأهتم بمناقشته لتستطيع أن يطل برأسه على دنيا الأدب والأدباء. . . ومعذرة يا عزيزتي إذا ما أغلقت الباب في وجهك، لأنني لا اهتم بمناقشة الرؤوس الفارغة ولو ركبت فوق أعناق طويلة، تتيح لها أن تطل على دنيا الأدب والأدباء من حين إلى حين!

مذهب الأداء النفسي لا يرضيك؟ من أنت إذا رضيت أم سخط؟! أن الجمال إذا تمثل في لوحة الرسام أو سيمفونية الموسيقار أو ميزان الناقد أو قصيدة الشاعر، ثم وجد من ينكر أصداءه في فجاج النفس وأضواءه في شعاب القلب فإن الذنب ليس ذنب الجمال. . . ولكنه ذنب كل عين عمياء وكل أذن صماء وكل شعور بليد!!

بين عزيز أباظة وأم كلثوم:

في العدد الماضي من الرسالة قصيدة محلقة مهداة إلى الآنسة أم كلثوم من الأستاذ الشاعر عزيز أباظة. وما أريد أن أعقب على فن الشاعر وإنما الذي أريد أعقب عليه هو ذوق المطربة! لقد أثارت عبارة الإهداء التي وجهها عزيز باشا إلى الآنسة أم كلثوم بعض الخواطر الكامنة في النفس منذ أمد بعيد. . . وقبل أن أنثر بين يد القارئ شيئاً من هذه الخواطر المثارة أعيد هنا نشر عبارة الإهداء (اعتدت أن أهدي إليك شيئاً من الشعر وأنا غريب الدار وتقولين أنني أفعل ذلك توفيراً للهدية وأقول أنني أفعله توقيراً للمهدى لها. . فهل تصنعين فيه لحناً؛ لقد خلدت الخالدين فتنزلا إلى المغمورين).

أرأيت إلى هذا الإهداء المضمخ بعطر التواضع وإنكار الذات؟ أن عزيز أباظة ليس من الشعراء المغمورين ولكنه من الشعراء الملحوظين. وهكذا يصنع التواضع بأهله حين يجردهم من محاسنهم في رأي أنفسهم ونريد من تلك المحاسن في رأي الناس! بعد هذا افتح الباب على مصراعيه فأقول لأستاذ الشاعر: هون عليك. . . أن الآنسة أم كلثوم لا تستطيع أن ترفع من شأن شاعر لم يرفعه شعره أو تخفض من قدر شاعر قد ذاع في الناس قدره هذا إذا غنت للقول ولم تغن للأخير! ما معنى هذه الكلمات؟ معناها عندي إنها غنت شوقي العظيم المشهور فلم تضف إليه مجداً فوق مجده أو معجباً ينظم إلى زمرة المعجبين، ولو لم تغن له لبقى شوقي كما كان. . وغنت لمصطفى على عبد الرحمن الشاعر المغمور فلم تستطع أن تنتشله من مهاوي الخمول أو زوايا العدم، ولو غنت له ألف مرة لبقة كما كان. . . واعجب العجب في هذا الذوق أنه لا يجد حرجاً في المساواة بين القمم والسفوح!!

ص: 39

لو اقتصرت الآنسة أم كلثوم على شعر شوقي وحده لا لتمسنا لها بعض العذر كله، لأن هناك شعراء لو اطلعت على شعرهم لوجدت فيه من الروائع ما يشرف به الغناء. . . ولكنها تنسى شعر علي محمود طه مثلاً لتصدح بشعر مصطفى عبد الرحمن! ماذا أقول في هذا الذوق؟ هذا الذوق الهابط سواء أكان منسوباً إليها أم كان منسوباً إلى (مستشارها الفني) أحمد رامي؟! لقد بلغني أن رامي هو الذي يشير عليها بأن تغنى لهذا ولا تغنى لذاك. . إذا كان هذا صحيحاً فأحب أن انصح للآنسة أم كلثوم بأن تستشير الشعراء في اختيار الشعر الصالح للتغريد، لأن رامى قد ترك صفوف الشعراء منذ عرفها وانظم إلى صفوف الزجالين!

لماذا لم يشر عليها المستشار الفني بأن ترجع إلى شعر على محمود طه وهو سيد الشعراء (الغنائيين) في الأدب العربي قديمه وحديثه؟ سؤال يحتاج إلى جواب. . ومع ذلك يتطوع صديق لبق بهذا الجواب فيهم في أذني بهذه الكلمات: هل نسيت أن رامى كان هو الإنسان الوحيد الذي لم يودع الشاعر الراحل بكلمة رثاه؟ وهل نسيت أن السبب في هذا الجحود هو شعوره بأن علي محمود طه قد اعتدى على حقه في وكالة دار الكتب المصرية قبل أن يلقى ربه بأسابيع؟ ابحث عن النتائج يا صديقي في ضوء المقدمات!

منطق سليم لم أستطيع له دفعاً. . ولكن متى كان علي محمود طه محتاجاً إلى الخلود تضفيه على ذكراه كلمة يرثيه بها رجال أو قصيدة تغنيها له إحدى المطربات؟!

أنور المعداوي

ص: 40

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

المؤتمر الثقافي العربي الثاني في الميزان:

أول ما لوحظ على هذا المؤتمر الانتقادات التي وجهت إليه، هو عدم التوفيق في الأعداد له، وخاصة في موضوع (التوسع في التعليم) وقد فصلنا الكلام عليه فيما سبق. وقد تغيرت صيغة هذا الموضوع بحيث انقلب إلى موضوع آخر، فلم يبق معداً للنظر أمام المؤتمر إلا موضوع بحيث انقلب إلى موضوع آخر، فلم يبق معداً للنظر أمام المؤتمر إلا موضوع (الأعداد للحياة). ثم نشأ عن الكلمات التي ألقيت في حفلة لافتتاح والمناقشات التي دارت فيها، أن تقرر عرض موضوعين آخرين مرتجلين، هما مسألة تعليم أبناء اللاجئين الفلسطينيين، وموضوع الثقافة العربية؛ وهكذا وجد المؤتمر نفسه إزاء ثلاثة موضوعات جديدة، عليه أن يدرسها ويقرر توصيات فيها.

أما موضوع التوسع في التعليم فإن اللجنة التي الفت له لم تلق كبير عناء في توصياتها، فهي من آراء معالي الدكتور طه حسين ومن وحي سياسته الثقافية التي ينهض التعليم في مصر الآن على أساسها. وأما موضوع تعليم أبناء اللاجئين فقد بدا أمام لجنته معقداً، وليس من اليسير أن يرتجل بحث موضوع كهذا، ولا سيما أنه ليس هناك سابق دراسة أو بيانات أو إحصاءات يمكن الاستناد إليها وتبين نواحي الموضوع في ضوئها، وعلى ذلك دارت التوصيات في هذا الموضوع على (تأليف لجنة) تعنى به. . مع توصيات عامة أخرى على قدر الإمكان. وأما موضوع (الثقافة العربية) فقد اشتمل تقرير اللجنة التي ألفت له وتوصياتها، على نقط وأمور قيمة، ويبدو لي أن ذلك يرجع إلى أن بعض أعضاء اللجنة وخاصة الذين اشتركوا في كتابة التقرير من الأساتذة المختصين الذين شغلت هذه الأمور أفكارهم من قبل.

والموضوع الوحيد الذي ظل كما حضر من قبل، هو (الأعداد للحياة) وقد وفته اللجنة حقه واكثر من حقه. . إذا أن توصياتها جاءت حشداً كبير من الأمور الفنية الجزئية، فكانت اقرب إلى أن تكون (ملزمة) من كتاب في التربية، منها إلى توصيات مؤتمريه عامة.

وعلى الرغم من كل ذلك، ومن أن اكثر موضوعات المؤتمر كان مرتجلاً، يمكن القول بأن

ص: 41

القول نج في مهمته، إذ وصل إلى نتائج وقرر توصيات مهمة فيما نظر فيه، والفضل في ذلك للروح التعاونية العامة، التي علت على المظاهرات والمشاغبات الشخصية وأغضت عنها، فقد عملت اللجان في نشاط، ونشط سائراً أعضاء المؤتمر في المناقشة وصبروا على طول الجلسات وخاصة الجلسة الأخيرة التي استمرت من الصبح إلى المساء، وأوسع الرئيس صدره حتى لبعض الصرخات التي فاضت بها بعض الألسنة، كما حدث عند النظر فيما نفذته الحكومات من قرارات المؤتمر الأول، إذ قام أحد الأعضاء وندد بما سماه (الحكم الإقطاعي) الذي يحول دون التوسع في التعليم مقترحاً أن يقرر المؤتمر تخصيص ثلث الميزانية في كل دولة عربي للتعليم.

وقد أدت زحمة الموضوعات التي كان بعضها يحتاج إلى مؤتمر خاص، أدت هذه الزحمة مع ضيق الوقت، إلى شيء من العجلة و (الكلفتة) من ذلك أن المؤتمر قرر - بناء على توصية اللجان المختلفة - أن يعقد مؤتمر خاص بكل يلي: الثقافة العربية، وإعداد المعلمين، والمرحلة الأولى للتعليم؛ ولم توزع هذه الموضوعات على دورات معية، ولم تتسع الفرصة لمناقشة استحقاق كل من الموضوعين الثاني والثالث لمؤتمر خاص، وهل هما أهم من موضوعات أخرى.

أقول مرة ثانية: لقد نجح المؤتمر كأي مؤتمر، نظر في موضوعات مهمة ووصل إلى نتائج مهمة وقرر توصيات مهمة، وماذا تصنع المؤتمرات اكثر من ذلك؟ ومن المؤسف أن تلك الحملة الشخصية التي وجهت إلى الإدارة الثقافية لا تزال تتنفس في بعض الصحف بعد انفضاض المؤتمر، والذي يؤسف له أنها اتخذت المؤتمر نفسه ذريعة إلى أغراضها، مع أن المؤتمر منذ انعقد اصبح مسؤولا عن نفسه وأصبحت إدارة الثقافية (خالية الطرف) وأنا لا أدافع عن هذه الإدارة، فقد نفذت أعمالها فيما سبق ولا أزال بصدد هذا النقد، وإنما أريد التنبيه على أن تل الحملة مفتعلة ومغرضة، وأنها تخلط الحق بالباطل. وقد كان واضحاً أن بعض الذين شاركوا في هذه الحملة يحاولون أن يجسموا اخطأ من لا شيء، وكان ذلك في مناقشات المؤتمر وفي الرحلات وقد شاهدت أحدهم يترك مكانه في السيارة بإحدى الرحلات ويتربع على أرضيتها بجوار المقاعد وينادي مصوري الصحف ليأخذوا المنظر دلالة على أن الإدارة الثقافية لن تعد سيارات كافية لركوب الأعضاء! ورأيت؟ (زعيماً)

ص: 42

منهم يقول لمن بجواره. انتظروا حتى أقومفأزعق لهم ويتجه إلى منظمي الرحلة، ليزعق من غير داع إلى الرعيق!

وقد قرأت في بعض الصحف أن معالي الدكتور طه حسين بك اعتذر بدا من التقصير في استقبال الأعضاء الوافدين، وهذا حق. وهو من قبيل التلطف والإحساس بأن ما بذل دون ما يستحق الضيف إظهاراً لمنزلته من نفس المضيف، ولكن العجيب أن يستدل الكاتب بذلك على إخفاق المؤتمر. . وقد فاته أن معالي الرئيس أبدى ارتياحه إلى قرارات المؤتمر واقتناعه بها وعزمه على العمل بها فوراً وهنا الأعضاء بما بذلوا من جهود وما وصلوا إليه بما نتائج. ولعل الكاتب لم يفته ذلك ولكن تلك الحملة المغرضة لا تزال متنفساً على قلمه. .

معرض الزخرفة الأندلسية

صاحب هذا المعرض الذي أجملت الحديث عنه في الأسبوع الماضي، هو السيد يوسف محمود غلام مدير إصلاحية الأحداث والمهندس العملي للفنون العربية الأندلسية ببغداد. تبدأ قصته مع الفن الأندلسي حينما كان يبحث عن نماذج للزخرفة؛ فاهتدى إلى بعض الرسوم الأندلسية في كتب آثار، فاهتم بها وجعل يكون من وحداتها أشكالا زخرفية يحلي بها الجدران، وأنشأ داراً له عنى بتوشيتها بهذه الرسوم حتى جاءت كأنها قطعة من قصور الأندلس، وعندما اضطر إلى بيعها لم يحز بنفسه إلا أن رأى المالك الجديد يعفي على رسومه بالطلاء المعتاد. . .

وأعانته الحكومة العراقية على السفر إلى أسبانيا، ليدرس الفن الأندلسي في موطنه على قصور الخلفاء وأثارهم، وقضى هنا عدداً من السنين متنقلاً بين غرناطة واشبيلية وقرطبة وغيرها، يشاهد ويصور ويجمع الصور، ثم عاد إلى بغداد، فأقام بها معرضه. وكان هذا المعرض قائماً هناك عندما زار بغداد الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، فعرض على السيد غلام أن ينقل معرض الزخرفة أندلسية إلى مصر حيث ينعقد المؤتمر الثقافي العربي الثاني، على أن تعينه الإدارة الثقافية بخمسة وعشرين جنيهاً لم تكن هي كل ما أغرى السيد غلام بالقدوم إلى مصر، بل وعده الأستاذ سعيد بأنه سيهي له وسائل الظهور التي تتطلبها الأعمال الفنية، وأكد له مساعدة ذوى النفوذ.

ص: 43

وجاء السيد غلام بمعرضه إلى مصر وانفق عليه وعلى نفسه وولده المرافق له ما انفق. ووضع المعرض أو سجن في سرداب بكلية الآداب تحت المؤتمر الثقافي. ولم يهبط إليه إلا القليل، وشغلت عنه الإدارة الثقافية، ولم يهتم به ذوو النفوذ ويقول السيد غلام: ماذا أقول إذا رجعت الآن إلى بغداد؟ أقول أن الشباب المصري لم يشجعني والفنانين المصرين لم يتلفتوا إلى؟ ولكن أين الفنانون المصريون، ومن يدر بهم به؟

ولندع هذه القصة فقد مضى أسبوع منذ قدومنا من الإسكندرية ولا ندري ماذا جرى بعد ولنقصد إلى المعرض ذاته هو يحتوي على250 قطعة وهي جميعاً أما من صنعه وتصويره وحده أو مما حصل عليه بالشراء من إسبانيا وهي تشتمل أشكالا زخرفية رسمها طبقاً لأحجامها في أصولها ونماذج من الخشب تمثل أبواب القصور الأندلسية ونماذج من الجبس بألوان وزخرفة أندلسية تمثل مدافئ عربية والكثرة الغالبة في المعرض تصاوير القصور وأجزائها من جوانب وزوايا مختلفة وقد عنى عناية خاصة بقصر الحمراء أهم الآثار العربية الباقية في الأندلس، في المعرض صور رائعة لأجزاء هذا القصر منها ساحة الأسود وفيها اثنا عشر أسدا فوقها حوض كبير يرتكز على مؤخرات الأسود ويعلوه حوض أصغر منه ونافورة ويخرج الماء في هذه الساحة من 37 منبعاً من بينها أفواه الأسود وقد نقش حول الحوض أبيات منها

تشابه جار للعيون بجامد

فلم ندر أيا منها كان جارياً

ألم تر أن الماء يجري بصفحها

ولكنه سدت عليه المجاريا

كمثل محب فاض بالدمع جفنه

وغيض ذاك الدمع إذ خاف واشيا

وهناك صور جميلة للبركة (ساحة الريحان) التي في الحمراء، وهناك أيضاً قاعة السفراء، ومما نقش في أحد مداخلها:

فأمنت حتى الغصن من نفحة الصبا

وأرهبت حتى النجم في كبد السما

فإن رعشت زهر النجوم فخيفة

وان مال غصن ألبان يشكرك دائماً

وهناك صورة برجين بين قصر الحمراء وجنة العريف (قصر الملك الصيفي) أحدهما سجنت فيه الملكة ايزابيلا التي أسرها آخر ملوك بني الأحمر، وفي البرج الثاني أطفالها الثلاثة (ثايدة وثريداً وثرويداً (وهذه الأسماء يرويها الإدلاء وليست مذكورة في التاريخ.

ص: 44

وفي المعرض صور لقصر بني عباد باشبيلية وبه ساحة الجواري وساحة الدمى، وفيه أيضاً صور لجامع قرطبة الذي يحتوي على 1200 عمود، وخرائط تخطيطية للمسجد الجامع بقرطبة في زمن العرب وفي الوقت الحاضر.

وفي المعرض قطع من القاشاني الذي تصنعه إسبانيا طبق الأصل لإصلاح ما تهدم من تلك القصور.

وبعد فإنها لمهزلة كبيرة أن يجئ إلى مصر معرض كهذا دون أن تصله الأسباب بأهل الفن ودارسي الآثار العربية في البلاد المصرية فضلاً عن جمهور المشاهدين.

عباس خضر

ص: 45

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ محمد زيتون:

قرأت مقالك يا سيدي عن الجامعة فحرك في نفوسنا خواطر طالما تمنينا تحقيقها، وأحيا في قلوبنا آمالاً كثيراً ما راودتنا في أرحامنا نحن أبناء الأزهر الذين ما زلنا تقف بباب الجامعة نسألها بصيصاً من نور العلم وقطرة من بحار العرفان، نحن أبناء الأزهر الذين ما فتئنا إلى الجامعة على أنها الفاكهة المحرمة. . . نحن أبناء الأزهر الذين ما زالت الجامعة تحوم عليهم دخول حرمها المقدس والوقوف أمام هيكلها الحرام إلا إذا لبسوا لها أردية (الثقافة) ومسوح (التوجيهية). . ونحن أبناء الأزهر الذين ما زلنا ننظر بعين الشرق العربي من لبنانيين وسوريين وعراقيين وحجازيين وقد فتحت لهم أبوابها على مصا ريعها واحتضنتهم في رفق وحنان ويجول في خواطرنا في تلك اللحظة بيت شوقي الخالد:

إحرام على بلابله الدوح

حلال للطير من كل جنس

ولئن كانت جامعة فؤاد قد شمخت علينا بأنفها فقد كانت - وما زالت - هناك جامعة قد ربتنا في حرها وأرضعتنا من لبانها كل مقدس طاهر إلا وهي جامعة (الرسالة) الحبيبة فلطالما نهلنا من بلاغة (الزيات) ورشفتا من بيان (عزام) وحلقنا في سماء خيال (الرافعي) وبتنا نصغي لأسماء زكي مبارك وأحاديثه ذات مشجون. . .!!

وبعد فهل آن الأوان يا سيدي لشيخ الجامعات ألا زهري النشأة أن بقي ببعض ما عليه لأبناء الأزهر فيأمر بالسماح لنا بدخول المعبد المقدس والصلاة فيه وهو الأمر المطاع؟ أم أنه سيترك هذه البلابل تنوح على الخرائب والأطلال وأمامها الأيكة وبجوارها الدوح. .؟ أمل الغد بالحكم عليه وإن غداً لناظره قريب.

معهد قنا

هارون المنيفي

استغفر من ذنب لست أعرفه

أوقفتني كلمة أستاذي فضيلة الشيخ عبد الجواد رمضان - التي شرفني بها في عدد الرسالة 896 في تلك الحيرة التي أخذت نفسي من جميع أقطارها ولم يستطع ذهني أن يتبين وجه

ص: 46

الرأي فيما آثار من ينوء كاهلي بأياديه؛ ما الذي يا ترى آثار غضبه؟ إلا أني تناولت مشكلة تناولتها عشرات الأقلام؟ إلا أني رأيت رأيا يعرضه صاحبه وكان عندي ما يخالف هذا الرأي فأعلنته بكل أدب؟ إلا أني حاولت أن أعرض بعض ما انتفعت به من دراسات تربوية ونفسية على أعلام التربية وعلم النفس في الشرق عن الطريق المباشر بأخذي عنهم وغير المباشر عن طريق مطالعاتي لمؤلفاتهم؟ كنت انتظر ما ينتظره كل طالب من أساتذة لو كان في هذه الكلمة مالا تهضمه قواعد المنطق، ولا ترتضيه سلامة الذوق، ولا تستدعيه روح العصر في رأى أستاذي أن يقوم ما فيها بالأسلوب العلمي فخير ما يقدم في ميدان الرأي هو المنطق الأسد لا العاطفية الثائرة.

أما أن يعلن سخطه علي زججاه مني فقط فهذا هو للظلم الذي اقف أمامه مكتوف الأيدي لا اعرف لي ذنباً استغفر منه. هذا هو الجانب الموضوعي، أما الجانب الشخصي فلا داعي لإثارته لأنهيعنى ولا يهم غيري وغير أستاذي وسأكون عند حسن ظنه دائماً.

المعترف بالفضل

محمد عبد الحليم أبو زيد:

من علماء الأزهر الشريف

في أدب الدعابة:

أستاذنا الجليل (عبد الجواد رمضان) دقيق السمت رقيق الحاشية، بارع النكتة، رائع اللمحة، وله فهم متفرد في الأدب، أخذناه عنه، ولا زلنا نعمل في ضوئه، ونسير على هديه.

إنه يعتز بأزهر ته على أوسع نطاق، لكنه (متحرر) الفكرة، مستقل الرأي، وحيد المنظرة، ويرى - بحسب ما عرفنا - أن (الجامعية) في الدراسة ليست في المحاضرة الخاطفة التي تجمع الإلمامة الشاملة، وإنما انطلاق الفكر مع الاحتفاظ (بالحرفية) يعطى منى الدراسة الصحيحة!

ولقد كان ينزع إلى (النصوص الليمة) يدعم بها دراسته القويمة، ويرى الاكتفاء فيما بين الصفحات قصوراً وتقصيراً؛ فلا بد من الموزانة العادلة والانئاد الحكيم، والمنطق المفصح!

ص: 47

قرأت له (فكاهة) على طريقته الخاصة في التعريض اللذاع المخبوء طي الدماثة اللفظية؛ فابتسمت لأني لاحظته بدين الخيال حينما يستعرض الحقيقة التي لا توائم رأيه فيأتي عليها بسخريته حتى يفندها ويبسيها إلى التفنيد!

لكني أرى - كواحد من الأثيرين عنده - أن هذه الفكاهة تباعد بعض الشيء رأيه الحصيف في الدراسة الأزهرية.

إني لن أتخلف عن دراسته (الحرة) للأدب؛ بل كنت في الصدارة على الرغم من سطحيتي الوهمية فيما كان يقذف من العبارات الاصطلاحية، والألفاظ (التعبدية) التي ينوء بها العقل إلا على جماعة الحفاظ الذين كانوا يباهون بإتخام رؤوسهم وهم لا يقيمون جملة عل جملة!

ولا أنسى ما كان يقرره فقيد العلم الأستاذ (محمد أبو النجا في الأعراب) بالتوهم وتعليقي على قول القدامى بقولي: (هذا كلام فارغ)؛ فيقول على الرغم من تحفظه: صدقت يا ولدي!. أن الاعتزاز بالأزهر واجب على أبنائه، والدعوة إلى تقويم طرق الأهواء لا تعد عقوقاً، ولعل أستاذنا يعنى بفكاهته لعن موقظ الفتنة النائمة، لكنه في صميم اعتقاده يقر (الحرية الفكرية)، التي لولاها ما عرفنا (الأدب الأندلسي) الذي يأتي فيه بالطرائف الفكرية المسطورة على هوامش الكتب إلى كانت بأيدينا للذكرى والتاريخ!.

إن عشر سنوات أن تنسينا فضل أستاذنا، فله علينا حق الاعتراف بفضله، ولنا عليه حق إبداء الرأي على ضوء توجيهه مهما يصطنع في فكآهته السخط الذي ينم عن زباية رضاه!

بور سعيد

أحمد عبد اللطيف بدر

إلى الأستاذ الجليل الزيات - مستقبل الأدب العربي

كان لتلك الكلمة البليغة التي ألقاها الأستاذ الجليل الزيات في المؤتمر الثقافي العربي الثاني بالإسكندرية والتي نشرت بالرسالة في العدد 896 وقع حسن إذا أصابت الصميم وعبرت عما تجيش به قلوب المتأدبين من (ضعف الملكة فيمن يكتبون وفساد الذوق فيمن يقرءون) وأشارته إلى (دراسة علوم الأدب فيما مضى دراسة عميقة تمكن الطالب المجتهد المستعد من فهم ما يقرأ وفقه ما يعلم وتعليل ما ينقد وتحليل ما يذوق).

ص: 48

ثم أعرب الأستاذ الكبير عن تشاؤمه - وله الحق - عمن تخلف تلك الطبقة الكريمة ذات الفئة القليلة (من أولئك الأدباء الأصلاء الذين حفظوا تراث اللغة وجددوا شباب الأدب وأسوا هذه النهضة الأدبية الحديثة).

والحق كل الحق إننا يجب أن نتوجس من الخوف بالرغم من وجود قلة بارة من أدباء الشباب نرجو الله مخلصين أن يهيئ لهم من الوسائل ما يمكنهم من إذكاء شعلة الأدب.

فها هو الراديو وها هما السينما والصحافة من أهم ما امتاز به هذا القرن وغلبها يعتد العالم إلى درجة تثير الجز في كل أموره وعليها تتوقف حياة الغد الفكرية وتحديد خطوطها المستقبلة، وقد اجمع أقطاب الفكر على إنها سطحية لا عمق فيها وبسببها سيقضى على الآداب والفنون الرفيعة العالية.

ويرى فيها الجيل الجديد المتظرف طريق الخلاص من القيود ويرى فيها أيضاً أنها لغة الجماهير التي يخاطبه بها حيث لم يفلح عظماء المفكرين وكبار الكتاب من الوصول إلى العاطفة الشعبية لأنهم يقصدون فيما يكتبون طبقة معينة من الخاصة.

زد على ذلك ما يتجه غليه نظر العالم نحو حياة اكثر غنى؛ نحو حياة مادية. فالعالم يسير - بالرغم منه. .

ومن المحقق أن تلك العوامل مجتمعة لها أثرها في التطورات الفكرية والاجتماعية المعاصرة ولها أثرها في أن الإنتاج الذهبي الرفيع قد فقد الكثير من نفوذه وسحره القديم.

طنطا

محمود محمد علي

ص: 49

‌القصص

شهيد القرية

لأستاذ مصطفى أحمد فوده

(قصة شابين وفتاة: أحدهما أراد أبوه أن يزوجه منها، لتكون أمها زوجاً له، وأحبت هي الأخر وأحبها، وأرادت أن تزف إليه عروساً، فدبرت معه مكيدة تم لهما بها ما أراد).

لم يكن الحزن يعرف سبيله إلى قلب هذه آلام، ولم تكن هي الأخرى تقدر أنه سيعرف سبيله إلى قلبها في يوم من الأيام. ولكن المقادير لا تجرى كما نريد، بل كما تريد هي؛ والحزن لم يكتب على قلوب دون سواها، وإنما هو بلاء يصيب القلوب جميعاً، لا فرق بين قلب وقلب، إلا في نصيب أحدهما منه، فقد يقسو الحسن فلا يعرف رافة ولا رحمة، إلا في نصيب أحدهما منه؛ فقد يقسو الحسن فلا يعرف رأفة ولا رحمة، وقد يترفق فيمس القلوب مساً هينا رفيقاً، ولا فرق في ذلك كذلك بين قلب وقلب إلا في الزمن الذي يصيب فيه الحزن أحدهما؛ فقد يتعجل به ويعرف سبيله إليه في شرخ شبابه، وقد يتأنى فلا يطرقه إلا في سن الشيخوخة، وقد يقيم فيه لا يفارقه بينهما عهداً لا يريد الحزن أن ينقضه.

ذاقت هذه ألام مرارة الحزن، وعرفت تباريح الأسى حين وقفت إلى جوار وحيدها إبراهيم وهو يفارقها لا إلى عمله كما هي عادته عند كل صبا ولكن إلى إلقاء ربه؛ وكأن الموت حينذاك قد أراد أن يكون رفيقاً بالفتى، فلم يمهله طويلاً يتلوى على سريره حينا، ويغادره حينا آخر ليستلقي على الأرض، ثم يتركها يطمئن إلى صدر أمه، وليحتويه ذراعاها، حتى يفارق الحياة أو تفارقه الحياة. وكأن الحزن قد أراد أن يكون قاسياً بالغ القسوة حين أبى إلا أن يستقر في قلب آلام، حتى أنست إليه أخيرا، وأصبحت تجد فيه عزاءها وسلواها.

كان (إبراهيم) فتى من فتيان هذه القرية التي تقع غير بعيدة من ترعة صغيرة تجري في شرقيها، والتي يعمل أبوه (شيخاً لحفرائها) وكان هذا الفتى يحمل بين جنبيه قلباً كريماً لم يكن ليحمله إلا اطهر الناس نفساً، وأتفاهم سريره، وأخلصهم لحقوق ربه، وحقوق غيره وحقوق نفسه. ولم يكن كغيره من شباب القرية الذين يوزعون وقتهم بين عمل ضيئل وعبث كثير؛ وإنما كان يقضى نهاره في عمل يضنيه، ويتفق ساعة أو بعض ساعة من ليله في السمر مع أمه، ثم ينهض إلى فراشه لينام نوعاً عميقاً يكسبه عزقاً وقوة، حتى إذا كان

ص: 50

الفجر، ينهض من نوميه ليؤدي فريضة الصبح، ثم يعتمد فأسه ويذهب إلى حقله. ولم يكن الفتى مع عمله هذا الكثير ليغفل أداء صلواته، وإنما كان حريصاً على أدائها في أوقاتها، فكان سلوكه موضع إعجاب شيوخ القرية، يكبرونه أيما إكبار ويثنون على أخلاق اجمل ثناء؛ وكان سلوكه هذه نفسه موضع سخرية غيره من شباب القرية الذين فتنتهم زينة الحياة الدنيا، فكانوا ينقدونه مر النقد، ويبشرونه بالكهولة في غير أوان. ولكن الفتى لم يكن بفرح لثناء المعجبين، ولا يغضب لنقد الساخرين، وإنما يمضى في سبيله تلك التي رسمتها له المقادير ولم يرسمها هو لنفسه، والتي شاء أن تكون طاهرة طهر نفسه، نقية نقاء سريرته.

ولم يكن (إبراهيم) يجلس إلى أبيه إلا لماما، ولم يكن يراه في اغلب الأحيان إلا حينما يكون ذاهباً إلى عمله مع الصبح، ويكون أبوه حينذاك عائداً من حراسة القرية.

ولكن إياه لم يخرج ذات مساء إلى أزقة القرية ليشرف على أثاث العس في أرجائها. وإنما يجلس إلى ابنه وزوجه يأخذ معهما في أطراف الحديث ساعة أو بعض ساعة، يحاول الفتى أن ينهض بعدها ليستريح مما أصابه من عناء العمل، ولكن إياه يستمهله قليلاً ويخوض في الحديث عن (آمنة).

وآمنة هذه فتاة ممشوقة القوام، فائقة الحسن بارعة الجمال ساحرة العينين، طويلة الغدائر، يفيض وجهها حيوية وأنوثة مات عنها أبوها وهي صغيرة. وأمها قابلة بالقرية تتردد عل بيوت أعيانها في مناسبة وفي غير مناسبة، ولها من الجمال والفتنة ومن طلاوة الحديث وأوقاتها ما يشجع جارتهم وبناتهم على إطالة الجلوس إليها، واستزادتها من هذا الحديث الطلى الساحر

استمهل محمود ابنه إبراهيم قليلاً، وراح يخوض في الحديث عن آمنة ولم يكن هذا الحديث محبباً إلى نفس الفتى، ولم يكن الفتى يقبل عليه إلا بسمعه، أما قلبه فكان بينه وبين حديث أبيه حجاب صفيق.

قال الفتى وهو ينهض للنوم: (أكبر الظن يا أبتي أن بيني وبين الزواج أمد طويلاً، لأنني لن أتهيأ بعد لهذه المخاطرة، ولم آخذ عدتي بعد لهذه المعركة) فيجب أبوه وهو يضحك (لقد ظلمت الزواج يا بني إذ سميته مخاطرة، ورسمته في صورة معركة آن الزواج يا بني نعمة، ولا يمكن آن يكون إلا كذلك:

ص: 51

وينهض الفتى بعد ذلك إلى فراشه، ويحاول النوم ولكنه عبثاً يحاول!! أن شيئاً يحول بينه وبين النوم لم يألفه الفتى من قبل، ولا يستطيع أن يجلو لنفسه حقيقة أمره ويحاول الفتى أن يهرب من هذه الفكرة التي ألمت به وألحت عليه؛ فقد استقر في نفسه أنه سيبقى حتفه على يدي هذه الفتاة.

وما زالت هذه الفكرة تلح عليه، وما زال هو يمعن في محاولة الهروب منها حتى استطاع أن يظفر بقسط ضئيل من النوم في الهزيع الأخير من الليل. ولكن القسي مع ذلك يستيقظ على صوت رفيق رفق (الله أكبر، الله أكبر. . .) فينهض ليؤدي صلاة الصبح كما هي عادته ويتناول فطوره، ويحزم غداءه في منديليه، ويعتمد فأسه، وينصرف إلى عمله ليشارك زملاءه في عمل الحقل،. . . ولكنهم يلاحظون أنه على غير عادته، فهو مهموم حزين، أو كالمهموم الحزين، وهو مطرق، مفكر دائم التفكير؛ واجم مغرق في وجومه؛ مزور عنهم وعن الحديث إليهم كل ازورارا.

وبينما هو يجلي وحيداً كئيباً، بتناول غداءه تحت شجرة على غير عادته - فقد عود إخوانه ايشاركهم حلقتهم تلك التي تكتم لهم، لا للحديث في شأن من شئون الزراعة ولكن لملء بطونهم بشهي الطعام - بينما أفتى يجلس وحيداً كذلك إذا بأحد زملائه ينهض إليه يسأله عن سبب أطرافه ووجومه، فيجب (إبراهيم) في غير ترد (والله يا (سعيد) لقد كان من أبي ليلة أمس ما لم اكن أتوقع. فقد عرض على أن محو بزوجتي من آمنة، بنت قابلة القرية، تلك الفتاة الساحرة الفاتنة، الساخرة بقلوب الشباب، الراغبة بعواطفهم ولا يخفى يا صاحبي أن أمها أصبحت بعد أن مات عنها زوجها، مطمع الأنظار والقلوب. ولست ادري، أي شقاء ينتظرني لو يصر أبي على رأيه هذا!

وما يكاد (إبراهيم) يختم حديثه إلى (سعيد) حتى ينهض هذا الأخير وفي عينيه بريق المحموم، وعلى وجنتيه احمرار المحنق، وينصرف عنه وفي قلبه غيظ مكتوم.

و (سعيد) هذا فتى في ريعان شبابه، أحب (آمنة) وصارحها بمكنون فؤاده، فبادلته الفتاة حباً بحب، ووفاء بوفاء، وإخلاصا بإخلاص، وتعاهداً على الزواج عندما يبيع أبوه محصول القطن، وتمتلئ جيوبه بالمال ولم يكن (إبراهيم) يعرف ما ربط بين قلب (سعيد) وقلب (آمنة) من حب، وما تعاهدا عليه من زواج، فلم يجد حرجاً في مصارحة بنما كان بينه

ص: 52

وبين أبيه من حيث ألامس.

وقد استمر (إبراهيم) على هذه الحال من القلق والتفكير زمناً لا يدري هو، أطال أم قصر، وإن كان يدري أنه كان يعود من عمله ليؤدي صلاة المغرب وصلة العشاء ثم ينهض إلى فراشه دون أن يجلس إلى أمه ساعة أو بعض ساعة كما هي عادته، وكانت أمه ترى في قسمات وجهه إمارات الحزن والشقاء وتسمع في صوته نبرات اليأس والقنوط ولكنها، مع ذلك، لم تكر تدرك حقيقة ما ترى وما تسمع،!

وتمر أيام وأيام، ويعود الفتى ذات مرة من عمله ليجد أباه في البيت ينتظر عودته، فيسلم ويجلس إلى أبيه وأمه. وتمر فترة من الزمن، يصمت فيهم الجميع، لا يدري الفتى أطالت أم قصرت. وكان أباه قد أراد أن يخرج من صمته فيقول لأننا وهو يضع بين يديه قلادة وقرطاً من ذهب (هذه (شبكة) عروسك يا بني، وما أرانا إلا أن ننهض الآن لتقدمها إليها، فهي وأمها في انتظارنا

وينظر الفتى إلى أبيه نظرة حائر، ثم يحول بصره إلى أمه ويهم أن يقول شيئاً، ولكن أباه لا يمهله، ولسانه لا يعفه، واسه لا يواتيها الحزم فتستمهل زوجها لتأخذ برأي ولدها. وينهض الجميع إلى بيت (آمنة).

بيت ريفي صغير، في زقاق ملتو، أمامه مصباح زيتي كبير، وفي داخله مصباحان، حولهما فتيات يغنين ويزغردن، وما هي إلا بعض ساعة، حتى يدخل محمود وزوجه وابنه إبراهيم، وتأتى فاطمة أم آمنة وتخوض مع محمود في حديث لا يكاد ينتهي، وكانت تتحدث إليه بلسانها وعينيها بل وقلبها كذلك وكان إبراهيم يجلس مهموماً أو كالمهموم، ثم تأتي آمنة في ثوب أنيق رشيق، وينهض إبراهيم ليزين بالقرط أذنيها ويحيط بالقلادة جيدها؛ ولكنها مع ذلك كانت مهمومة هي الأخرى أو كالمهمومة فقد كانت تود أن تزف إلى (سعيد) عروساً كما تعاهدا على ذلك

وتمضي أيام وأيام ولا حديث لشاب القرية سوى إبراهيم وعروسه آمنة، ولا هم لسعيد إلا أن يفكر كيف يمسح عن جبينه عار الهزيمة، فتتصل الأسباب بينه وبين آمنة من طريق خفي ويتفقان معاً على مكيدة يقصيان بها إبراهيم عن طريقهما ويحولان بها بينه وبين الزواج منها. وتمر الأيام كذلك ولا هم لمحمود إلا في التفكير في الزواج من فاطمة تلك

ص: 53

التي سحرته بجمالها الخلاب وبحديثها هذا لعذب الساحر فقد أصبحت السبل الآن أمامه ميسرة معبدة. ومن يدري لعله لم يفكر في زواج ابنه إبراهيم من هذه الفتاة إلا ليكون ذلك بابا ينفذ منه إلى قلب أمها لتكون زوجاً له في يوم من الأيام.

وتمضي الأيام كذلك، والأسباب متصلة جهاراً بين (آمنة) و (إبراهيم) من جهة، وفي الخفاء بينها وبين سعيد من جهة أخرى.

وبينما الجميع كذلك تتصل بينهم الأسباب، إذ بإبراهيم يهب إلى بيت (آمنة) ليقد لها هدية أعجبته، ويحدد مع أمها يوماً لزفافه، ويعجب إبراهيم لأمر آمنة في هذه الليلة، فهي معه على غير عادتها، وهي ترحب به فرخا مرحة، وهي تلطف في حديثها إليه وهي استمهله كلما أراد أن ينهض وهي تقدم إليه كوباً من شراب بتناوله فرحاً مسروراً إذا لم تكن آمنة قد عودته أن تقدم إليه هذا النوع من الشراب، وإنما هي (القهوة) تقدم إليه في كل مرة.

وما هي إلا دقائق معدودات إذ بآمنة التي كانت تستمهل الفتى قليلاً، تستحثه الآن على النهوض. وما لها تستعمله وقد نفدت مكيدتها وتحقق لها ما أرادت وأراد من تحب وتهوى ومالها لا تستحثه وهي تخشى أن يصيبه سهم القضاء وهو جالس إليها في دارها.

وينهض الفتى وهو يحس بألم شديد ويسعى إلى داره حيث كان الموت ينتظره، وتسأله أمه عما به، ولكنه لا يجيب إلا بهذه الحركات التي تدل على أن شيئاً يقطع أحشاءه، فهو راقد على سريره حينا، ويغادره حينا آخر، ليستلقي على الأرض ثم يتركها ليطمئن إلى صدر أمه، تطوقه بذراعيها حتى يفارق الحياة، أو تفارقه الحياة، وهو يقول (أن آمنة بريئة وفية لحبها، وإن أبي هو الآثم).

ويرتفع الضحى من الغد، ولا حديث لشباب القرية وشيوخها إلا موت هذا الفتى البريء الطاهر، الذي راح ضحية رخيصة لشهوة أبيه.

ويذهب محمود بعد ذلك بفتح لابنه باب القبر، وراحت الحكومة تفت لآمنة وسعيد باب السجن، وراح شباب القرية يبكون هذا (الشهيد) الذي سخروا منه بالأمس، كما راحوا ينثرون على قبره الأزاهير والرياحين.

وراحت أمه تنهض مع الفجر في كل يوم لتروى بدموعها قبر وحيدها شهيد القرية).

المنصورة

ص: 54

مصطفى أحمد فوده

ص: 55