المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 899 - بتاريخ: 25 - 09 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٩٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 899

- بتاريخ: 25 - 09 - 1950

ص: -1

‌دفاع عن الثقافة العربية

للأستاذ عمر حليق

- 3 -

قال (بروكسي أتكنسون) الناقد المسرحي لمجلة النيويورك تايمس الواسعة النفوذ:

(على الرغم من أن الثقافة الأمريكية لا تلقي الاحترام الكافي في كثير من بقاع العالم إلا أن الأفلام والمسرحيات والكتب الأمريكية تلقى رواجاً واسعاً في تلك البقاع يعادل رواج البضائع والمنتجات الصناعية الأمريكية. فإن الروح التي تسيطر على معظم أسواق العالم).

ووضع الإنتاج الصناعي على قدم المساواة مع الإنتاج الفني والأدبي في الحضارة الأمريكية المعاصرة هو الوصف الصادق لروح الثقافة الأمريكية. ولو سلمت مع (هيجل) بأن الثقافة روحاً فإن للثقافة الأمريكية روحاً مادية تنتج الأدب والفن ليخدم الناحية العلمية في النشاط الصناعي، أو بمعنى آخر تجعل الإنسان في خدمة الآلة نسترقه فيتفانى في ماديتها على حساب النواحي الأخرى في النشاط الإنساني. والأمريكي يفخر بأن ليس للثقافة الممتازة مكان في سلوكه وفي أهدافه وما يصبو إليه من مجد ورفعة و (نجاح). وهذه النظرية البرجماتزمية هي المسئولة عن رواج أدب اللذة والمجون في أمريكا وسيطرته على عناصر الغذاء الفكري للقارئ. فالكاتب والفنان هناك لا يرتفعان عن ذوق السطحيين والذين من طبائعهم (عامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد). وتاريخ الفكر في أمريكا لم يسمح للمثقف الممتاز الفنان الأصيل والعالم المتبحر أن يحتل المكانة والنفوذ والسلطة التي سمحت له بها الثقافات الإنسانية الأخرى.

ولذا فإن مساهمة أمريكا في الحضارة العالمية هي في الواقع مساهمة (صناعية) وليست ثقافية التقليدي المعروف. ولذا فليس للمستعير من الثقافة الأمريكية، مجال للاختيار فالبضاعة في مجملها بضاعة صناعية، اللذة والمجون جوهرها.

والأمريكي يكره السلطة بجميع أنواعها ثقافية كانت أو سياسية. ومن ثم أنكر الأمريكي على مثقفيه الممتازين أن يحتلوا مكان التوجيه فافتقرت الثقافة الأمريكية إلى المدارس الفكرية العميقة التي تتميز بها ثقافات الأمم. وأنكر الأمريكي على المثقفين الممتازين كذلك

ص: 1

أن يحتلوا مكانة اجتماعية ونفوذاً أدبياً يفوق مكانة الصانع والمزارع بالرغم من التفاوت في المواهب العقلية وأهمية الإنتاج في التراث الفكري. وقد أعرب أحد أقطاب الفكر الأمريكي عن هذه الحقيقة حين قال:

(قاموس الكاتب الأمريكي هو الحياة العملية (المادية). فالفن والثقافة الرفيعة تعد من قبيل الهراء والسخف إذا لم تتمش مع مقومات هذه الحياة العملية).

وسبب ذلك أن أسس المجتمع الأمريكي بنيت على المزارع والنجار والحطاب الذين فرضت عليهم حياة الهجرة في أوائل التاريخ الأمريكي أن يواجهوا الحياة بأيديهم قبل معالجتها بعقولهم ومواهبهم الأدبية والفنية. ومرت الأجيال ونما المجتمع والحضارة الأمريكية أن على هذا الأساس من المثالية. فكان أن أحتل المسرح والفلسفة والفن والشعر والثقافة الرفيعة بجميع ألوانها مكانة ثانوية في الحياة الأمريكية. وإذا حدث فنجحت مسرحية أو راج كتاب أو تبوأ مثقف مكانة مرموقة فذلك لا يكون إلا لأن إنتاجه كان إنتاجاً بمعنى أنه يتمشى مع (عامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد) التي هي من طبائع الحياة العملية التي لا سبيل المجتمع الصناعي أن يتخلص منها أو أن يتغلب عليها إذا أراد ذلك.

وقد تجد من المفكرين في أمريكا من يبرر عامية الإنتاج وسطحيته بقوله (إن الثقافات والتراث القديم عالة على الأجيال الجديدة، وإن القارات التي تتطعم بالتراث التقليد العريق قد تجد نفسها عاجزة عن قبول الفكر الجديد والتطور المفاجئ.

فإذا افتقرت الثقافة الأمريكية المعاصرة إلى جمال العنصر الكلاسيكي التقليدي فإن ذلك الافتقار هو من النعم التي حظي بها الأمريكان وحدهم، إذ أنهم يتفادون بذلك تكرار الأخطاء التي ارتكبتها الثقافات الأخرى في تطلعها إلى الأدب والفن الكلاسيكي تستمد منه الوحي والإلهام).

وهذه النظرية البرجماتزمية تبدأ من حيث اعتقدت بأن الحياة قد بدأت فقط منذ اختراع البخار والكهرباء والطاقة الذرية، فهي إذن استنتاج مبني على خطأ. ووجه الخطأ أن الحياة قديمة قدم آدم، وأن الثورة الصناعية لم تستهل حياة إنسانية جديدة وإنما أدخلت على هذه الحياة عقداً نفسانية ومشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية أضيف إلى العقد التي عاش بها الإنسان في المجتمع الكلاسيكي. فبدل أن يبدأ الفكر الأمريكي فيعالج مشاكل النفس

ص: 2

الجوهرية على النحو الذي يعالجه فلاسفة الإغريق وحكماء الشرق وأنبياؤه - بدل أن يبدأ الفكر الأمريكي في معالجة الجوهر أتجه يعالج القشرة السطحية من العقد والمشاكل والمسرة والبؤس التي أضافتها (الثورة الصناعية) إلى حياة الفرد والمجتمع. والبدء في تجميل البشرة وتطرية الجلد قبل تطهير النفس والروح هو الطابع الذي يحمله الإنتاج الأدبي والفني في العالم الجديد.

فهم الحضارة الأمريكية أن توفر الغذاء والمسكن ووسائل الراحة المادية للفرد قبل أن توفر الطمأنينة الروحية. ولو أن الضائقات الاقتصادية والأزمات السياسية العنيفة والمصائب والبلايا التي حلت بالشرق يصمد لها وجلد في صراعه لها - لو أن هذه الضائقات والأزمات والبلايا قد حلت بأمريكا لفقد أهلها الجلد ولعجزوا عن مواجهة الحياة. فليس لديهم مناعة وطمأنينة روحانية تصمد للنوائب. والشواهد عديدة على تفكك عرى المجتمع الأمريكي أبان الضائقة الاقتصادية العابرة التي مرت بها أمريكا في أعوام 1929 - 1933 فلقد عم الفساد وانطمست كثير من أوجهه الفضيلة وشاع في الناس القنوط والتمسوا الرخاء والقناعة فلم توفر لهم فلسفتهم البرجماتزمية وراحوا ينتحرون بالمئات. والواقع أن نسبة الانتحار بين البروتستانت الأمريكان هي أعلى نسبة بين المجموعات الإنسانية الأخرى كما شرح ذلك (أميل في دير كهايم) دراسته المعروفة عن الانتحار.

والثقافة البرجماتزمية في إصرارها على النواحي المادية في السلوك والحياة الإنسانية لا تختلف كثيراً عن الفلسفة الماركسية وتفسيرها المادي للتاريخ وسعيها الآخرة بالدنيا.

وأدب وفن وثقافة وحضارة هذا عنصرها الجوهري هي ثقافة راحة وترف لا يعنيها توجيه النفس توجيهاً ثقافياً أصيلاً بقدر ما يعنيها توفير المتعة وإشباع الغريزة واللعب بالعواطف وإثارتها واصطناع اللذة. وليس لنا أن نستعرض هنا حسنات ثقافة الترف والمتعة والغريزة أو سيئاتها في التكافل الاجتماعي في الحضارات الصناعية، فمشاكل العائلة والصراع الطائفي والعنصري من نتائجها. ومن نتائجها كذلك القلق الاقتصادي وفقدان الطمأنينة السياسية وما يستتبع ذلك من توسع استعماري وحروب وويلات صبغت تاريخ الغرب بالدم والنار، وهو اليوم يدفع الإنسانية إلى المحو والدمار بالقنابل الذرية والهيدروجينية.

ولكن الذي يعنينا أن الثقافة الصناعية المادية أمريكية كانت أم ماركسية ابتدأت - خطأ أو

ص: 3

صواباً - من حيث اختارت البدء. ونحن في العالم العربي وريثو حضارة لا يمكن أن توصف بأنها صناعية مادية. واتجاهنا الآن إلى التصنيع والإنعاش الاقتصادي لا يبرر مطلقاً التقليد الأعمى والمحاكاة الضالة وتجاهل المقومات التقليدية الأصيلة المتأصلة فنياً والتي ورثناها عن ثقافتنا الكلاسيكية بما فيها من النزعات الروحانية والخلق القومي والاتجاهات العاطفة والصلات الاجتماعية والمشاعر والاحساسات الخاصة بنا والتي نتميز بها عن غيرنا من الأمم. وحتى لو تعمدنا تجاهل هذه المقومات لما استطعنا وإلا كنا أشبه بالديك الذي تعمد تقليد مشية الطاووس فلم يكن له من تكوينه الطبيعي عون على المحاكاة التامة فنسي مشيته وفقد نفسه وأصبح مدعاة إلى السخرية:

فطبيعة المجتمع العربي ليست كطبيعة المجتمع الأمريكي أو السوفيتي أو الفرنسي. فهناك اختلاف جوهري في التطور التاريخي والصناعي وفي العواطف والاحساسات والمشاعر. وسبب هذا التباين مستمد من العوامل البيولوجية، من الوراثة والبيئة والتفاوت في مستوى التطور.

فتغذية القارئ العربي بالإنتاج الثقافي (الخام) أمريكياً كان أم فرنسياً أم روسياً مخالف لسنن الطبيعة فوق مخالفته للمنطق السليم والمصلحة القومية.

ومشاكلنا الاجتماعية تختلف، وملذتنا وآلامنا ومستقبلنا الثقافي والسياسي والاجتماعي تختلف عن مثيلاتها في الثقافات الأخرى.

ولقد وجدنا أن الثقافة الأمريكية قد تحكمت في الزمان والمكان حين وضعت دعائمها وأسسها ومقوماتها واتجاهاتها البرجماتزمية. ومثل ذلك ينطبق على الثقافة السوفيتية الماركسية التي تذرعت بالديكتاتورية لتتحكم في الأوضاع والزمان والمكان.

فترك ميدان الفكر في العالم العربي في أيدي المغرورين من الديوك التي تحاول تقليد الطاووس الأمريكي أو الدب الروسي جريمة والنتائج المترتبة على هذا الوضع لن تظهر عواقبها السيئة ألا بعد مضى فترة غير قصيرة من الزمن. والزمن في حياة الأمم لا يقدر بالشهور والسنوات.

فلئن علت أصوات الإنكار لهذه التيارات من أدب اللذة والمجون (وعامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد) فلأن الثقافة العربية حساسة لا تزال في جوهرها أصيلة وعريقة. ولقد

ص: 4

شعرت بالتحدي قبل أن يستفحل خطره ولمست الشيء فبل أن ترسخ أسسه.

فدفاع المثقفين عن سلامة المقومات الأصيلة للثقافة العربية مستمد من عراقة الثقافة ومتانة هذه المقومات واستقلال العقلية العربية ونفورها من أن لا تعيش على قدم المساواة مع الثقافات الإنسانية الأصيلة. وكما تحمس المدافعون عن أصول هذه الثقافة ونقلوا حماسهم إلى المجالس العامة ازدادت مناعة تلك المجالس ضد الانسياق مع لأدب الترف والمتعة والمنحط من الغرائز والشهوات.

ويخيل إلى أن المثقفين في العالم العربي قد استشعروا منذ زمن هذا التحدي لثقافتهم. فالكتب التي أنتجها أمثال أحمد أمين والعقاد وهيكل وطه حسين وعبد الرزاق والزيات وغيرهم من الكتاب عن الثقافة الإسلامية والأدب العربي - وهذا التراث الكلاسيكي الذي أخذ يحييه الباحثون والمصنفون من خزائن الثقافة العربية القديمة، وتشعب برامج التعليم في الجامعات ومعاهد العلم العالية لتشمل المواضيع العربية الأصيلة، وصمود الحياة الدينية وقيامها بوظيفتها التقليدية في عالم تهب عليه تيارات اللذة والمجون كل ذلك - على ضآلته - أجابه لهذا التحدي الذي تواجهه الثقافة العربية، وهو خطوات في الطريق الصواب.

بقي أن يزداد حفظة الثقافة العربية إدراكا لخطورة هذا التحدي لتزداد أصواتهم حدة فلا تقتصر على الخاصة وإنما تجد صداها في المجتمع العام وفي الدوائر المسؤولة فلعلها تجد العناية التي يبدو أن حفظة الدين من علماء الأزهر ورجال الشرع الشريف والأدباء الروحانيين مستطيعون تحقيقها في تحديهم لموجات اللذة والمجون وألوان المستوردة المصطنعة، فدفاع حفظة الدين هو جزء من الدفاع الجماعي عن أسس الثقافة العربية.

عمر حليق

جامعة كولومبيا - نيويورك

ص: 5

‌ذكرى عالم مصلح

محمد رشيد رضا

لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الجليل عيسى

في أواخر العقد التاسع من القرن الثالث عشر الهجري وفد على مصر رجل عظيم، ومصلح كبير، هو السيد جمال الدين الأفغاني، وسرعان ما ألتف حوله عدد كبير من رجالات مصر وشبابها على اختلاف درجات ذكائهم وتباين ثقافاتهم، فصار ينفخ فيهم من روح اليقظة والحمية الإسلامية، والعزة والكرامة ما فتح عيوناً عمياً، وآذاناً صماً، مما اعتبره الباحثون عود ثقاب أشعل به ناراً على المستعمرين والظالمين.

وكان من بين رواد مجالسه الطالب النابغة الشيخ محمد عبدة الأزهري، فلم يكد يتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني. حتى ألهب منه استعداداً للثورة على القديم البالي، وأيقظ فيه طموحاً إلى الحرية والاستقلال، فأطلق عقله من عقال كاد يقضي عليه كما قضي على كثيرين من رجالات الأزهر وشبابه الذين لم تتح لهم فرصة الاتصال بمثل هذا المصلح الكبير، أو لم يهيئهم استعدادهم للانتفاعبهذه المبادئ السامية.

لازم الشيخ محمد عبدة الرجل العظيم ثماني سنوات كاملة (وهي المدة التي أقامها السيد جمال الدين في مصر) إلى أن غادر البلاد سنة 1296 هجرية إلى الهند، وأخذ يطوف في العالم مطارداً من قطر إلى قطر حتى استقر به المقام في الآستانة حيث وافته منيته سنة 1314 هجرية.

وكان لتعاليم الأستاذ السيد جمال الدين الأثر الكبير في نفس الشيخ محمد عبده فلم تهدأ ثورته، ولم يخفه نفي أستاذه، بل أزكى فيه روح الثورة والخروج على كل مبدأ ظالم إلى أن نفي هو أيضاً. وبعد مضى ست سنوات عليه منفياً رجع إلى مصر.

وكان بعد رجوعه من منفاه أشد ثورة من ذي قبل، فأخذ يؤدي رسالة إصلاحه في الأزهر، وفي خارج الأزهر بجرأة وشجاعة، أزكاهما النفي والتشريد، وكان أوسع ميادين جهاده دروسه التي كان يلقيها في الأزهر على كبار الطلاب والنابهين من رجالات مصر الذين أشربوا حب الحرية والاستقلال.

وفي هذا الوقت، في سنة 1315 وفد على مصر شاب لبناني من (القلمون) إحدى قرى

ص: 6

جبال لبنان الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط من شريفة، وكانت سنة إذ ذاك نحواً من ثلاث وثلاثين سنة، هذا الشاب هو السيد محمد رشيد رضا.

نزح هذا الشاب إلى مصر بعد أن حصل على قسط كبير من التعليم في بلده على يد بعض العلماء الأحرار المفكرين الذين اتصلوا بالسيد جمال الدين الأفغاني، وتفهموا شيئاً من مبادئه.

جاء إلى مصر كما يحي كثير غيره من أبناء الأقطار الإسلامية للإفادة من الأزهر الذي ورث سمعة كبيرة في العالم الشرقي، ولما اتصل هذا الشاب بعلماء الأزهر وتفقدهم لم يعم عليه الأمر كما عمى على كثير غيره، ولم يتحير أو ينحرف عن الهدف، ولم يطل به المقام حتى أدرك بنور بصيرته، وثاقب فكره، وطيب استعداده أن الشيخ محمداً عبده هو الضالة المنشودة، وأنه العلم المصلح الوحيد الذي يمكن الاستفادة منه، فعكف على ملازمته، وشغف بالسماع منه، في الدرس وفي غير الدرس، في المسجد وغير المسجد.

وبالرغم من كثيرة المستمعين للشيخ محمد عبده، وتفاوت درجاتهم في الذكاء والتحصيل، فإن أحداً منهم لم تعمل فيه آثار الشيخ أقوى مما عملت في السيد محمد رشيد رضا، فكانوا على ضروب وأنواع كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الخباري عن أبي موسى الأشعري، قال صلى الله عليه وسلم:(مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. . . الخ).

كذلك كان تلاميذ الأستاذ الشيخ محمد عبده. منهم من لم ينفع غيره ولم ينتفع في نفسه، لأنه مجدب الطبع، سبخ التربة، ومنهم من نفع غيره فنقل مبادئ الشيخ لغيره وأن كان هو لم ينتفع بها أو قل انتفاعه، ومنهم من انتفع في نفسه وعم نفعه غيره. فكان كالأرض الخصبة التي شربت من الماء وأنبتت الزرع فأفادت الناس.

والسيد محمد رشيد كان من هذا النوع الأخير، فقد حرص على أن يسجل آراء أستاذه التي يلقيها على الطلاب في الدرس، والتي تصدر عنه في المجتمعات، والتي يراسل بها أصحابه، أو يرد بها على مستفتيه في أمور الدين والدولة حتى صار شبيهاً بشريط تسجيل

ص: 7

لا يغادر صغيرة ولا كبيرة لأستاذه إلا أحصاها.

ومع عظيم هناء هذا العمل الجليل الذي سجله السيد رشيد، والذي لولاه لذهبت آثار الشيخ عبده، وتبخرت أفكاره كما ذهب مع الريح كثير من آثار غيره من كبار علماء الأزهر، نقول مع هذا: إن هذا التلميذ لم يكن مسجلاً لأفكار شيخه فحسب، بل كان مع ذلك مناقشاً وممحصاً وموجهاً كما هو الشأن في التلميذ الذي كانت تعده العناية ليقوم برسالة شيخه بعد موته، وليكون امتداداً لحياته ووصياً على تركته الخالدة.

قال السيد رشيد يتحدث عن نفسه.

(إني طلبت العلم بوازع من نفسي لتكميلها بالمعرفة والعمل لا لأجل الانتفاع في تحصيل مال أو جاه، وقد عرض على الدخول في الحكومة أصحاب النفوذ فأبيت). وذكر في موضع آخر سبب ذلك فقال:

(أحمد الله أن حفظني من الابتلاء بالمناصب، ومن الامتحان بخدمة الحكومات، ومن فتنة حب المال والجاه، فإن أهون رزايا كل من هذه الفتن أن تصد عن قول الحق وتغرى بالسكوت على شيء من الباطل، وقد تبلغ بالمفتون أن يخذل الحق وينصر الباطل، ويوالي الظالمين، ويحارب المصلحين، وأن يبيع دينه بدنياه، بل قد يبيع دينه بدنيا غيره).

لكل ذلك مكث مدة عمره الطويل ثابتاً في الدعوة إلى الله على بصيرة، وإلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، بتفسير كتاب الله على طريقة السلف الأول، وإحياء سنة رسوله، وسيرة السلف الصالح. وهو في كل ذلك لم يعتمد على ملك ولا حكومة، أو جمعية، أو حزب، بل كان في كل أولئك ليس معه معين إلا الله، يكتب ويراجع ويحقق ويصحح ويتفقد الصحف والمجلات المحلية والخارجية، ويتصفحها كل يوم فإذا وجد ما لا يصح السكوت عليه بادر عليه في المنار أو الصحف الكبيرة، كالأهرام. والمؤيد. والمقطم. واللواء.

كل ذلك كان يقوم به وحده. فحقاً إن السيد محمداً رشيداً كان أمة، ولعلك تدهش إذا علمت أن كل هذه الأشياء من إخراج المنار بإتقان ومثابرة بضعة وثلاثين عاماً، وغير ذلك مما تقدم من صنع رجل واحد، فإنه عندما جاور ربه حاولت هيئات كبيرة وجماعات محترمة أن تخرج للناس مجلة تسد فراغ المنار فلم يستطع أحد منهم على كثرتهم.

وإذا علم أيضاً أن العقبات التي طالما وقفت في طريق المصلحين وهي كثيرة. من عبودية

ص: 8

الناس لما يألفون، ومن حب الشهوات الذي يغري المترفين بالراحة والدعة، والصد عن المصلح. - وكثرة الجماهير دائماً جاهلة تجري وراء صاحب المال أو السلطان - إذا علم أن كل أولئك صادفت السيد رشيداً، علم أنه كان يحارب وحده في ميادين كثيرة، يحارب قوماً قعد بهم استعدادهم عن اللحاق به، فصاروا بتأثير الغيرة والحقد لا يألون جهداً في محاربته. وأقوى أسلحتهم التي يبرزونها إذا عجزوا عن الحجة هي الرمي بالزندقة والإلحاد، وهي قذائف لا تكلف صغير النفس فاقد الحياء إلا أن ترسلها من فمه فتتلقفها آذان العوام فينصرفوا من حول الداعية.

وهذا سلاح قديماً حورب به الأنبياء والمصلحون. ألم يقل ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي، وقد ذاق البخاري والغزالي، وابن خلدون، وابن تيمية، وغيرهم مرارة ذلك ولكن كانت العاقبة للمتقين.

فخلد الله لهم لسان صدق في الآخرين، وأهال على خصومهم تراب النسيان. وكان السيد رشيد يحارب أيضاً في ميادين أخرى، زنادقة وملحدين، وجهلة مخرفين، وعلماء جامدين مقلدين، وسلاطين جائرين، وحاكمين ظالمين.

حارب كل هؤلاء في ميادين فسيحة، كان أفسحها مجلة المنار التي أتخذ منها منبراً عالياً يدوي منه صوته في جميع بقاع الأرض، في جاوة، وسومطره، والهند، والصين شرقاً، إلى أوربا وأمريكا غرباً، فلم تبق في الأرض بقعة فيها مسلم أو من يعرف العربية إلا دخلها المنار. فكان المنار مدرسة تتلمذ فيها عدد كبير من المسلمين ونبغ بفضلها رجال مصلحون ظهرت آثارهم في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وبرز منهم في الصفوف الأولى رجال عظماء لهم في حركات الاستقلال الأخيرة في الأمم الشرقية مواقف مشهورة.

والذي يتتبع تاريخ هذا العالم الجليل يقف على سر نجاحه فيما عالج من أمور، ذلك أنه كان يحمل بين جنبيه قلباً قوياً، وعزيمة صادقة، وإيماناً لا يتزعزع، ووراء كل ذلك رغبة شديدة في إتقان ما هو بصدده.

والرغبة الصادقة هي سبب كل النجاح، لأنها الحافز على مواصلة العمل، والشعور باللذة فيه، والجد في إتقانه حتى يرضى بذلك نفسه.

ولما كان الحديث عن السيد رشيد لا يتسع له هذا المقام الضيق، فإني تارك الإفاضة فيه

ص: 9

للكتب التي تعرضت لأعماله وهي كثيرة موسعة.

وأكتفي اليوم بذكر حادثة واحدة وقعت لي أنا شخصياً ومعي ثلاثة من كبار علماء الأزهر؛ ذلك أنه في أصيل يوم من عام 1924 ميلادياً زارني بالمنزل ثلاثة من علماء الأزهر، توفي اثنان منهم إلى رحمة الله، وبقي واحد؛ وبعد قليل خرجنا أربعتنا نسير نحو السيدة زينب، وبينما نحن في الطريق ذكر أحدهم حديثاً نبوياً فقال آخر أظن أن هذا ليس حديثاً، ولم يستطع الأول أن يثبته، وكنا وقتئذ قاربنا ميدان السيدة.

ولما كنت أعلم أن كثيراً من علماء الأزهر في ذلك الحين، خصوصاً الكبار منهم، كانوا يحيطون السيد رشيد بهالة من الشك في تدينه وعلمه، رغم أنهم لم يجالسوه أو يختبروا علمه أو حتى يكلفوا أنفسهم قراءة كتبه، أردت أن أحتال عليهم حتى يلتقي الجمعان، وكانت مكتبة المنار ومطبعتها بجوار السيدة زينب، وكان لي بالسيد صلة معرفة، فقلت لهم: يمكنني الآن أن أعرف لكم هذا الكلام أهو حديث أم لا؟ فتعالوا معي إلى مكتبة قريبة منا، وكانوا لا يعرفون أنها للمنار. فلما دخلنا من الباب الكبير أسررت لصبي من الخدم: هل السيد موجود بالمكتب؟ قال نعم. فقلت له: أستأذن لجماعة من علماء الأزهر. فرجع يحمل الإذن. فصعدنا للدور الذي فيه السيد، غرفة مكتب واسعة، محاطة جدرانها بالكتب المنضدة في خزائنها بترتيب بديع. وهو رحمة الله رابض على مكتب كبير يرتدي عباءة حجازية على قباء أبيض. فقابلنا هشاً مرحباً. وقدم التحية، فعرفوا عندئذ أنه رشيد رضا، فسكت لحظة حتى إذا أنس أصحابي نوعاً ما عرضت عليه الموضوع، فكان في لمح البصر جوابه: إن هذا حديث صحيح رواه البخاري في بين، باب كذا عن فلان، وباب كذا عن فلان، ورواه مسلم في باب كذا عن فلان بتغيير يسير هو كذا.

فلما خفت أن يخرجوا مرتابين في صحة ما يقول: تلطفت في سؤاله أن يعطينا الأجزاء والصفحات لنقرأ ألفاظ الحديث وتفهمها على مهل، فكان بالسرعة الأولى واضعاً الأجزاء بين أيدينا كأن الأحاديث كانت في طبق أمامه يلتقط منها ما يريد، فقرأنا الحديث في كل باب وإذا به كما قال: فوجموا ونظر بعضهم إلى بعض، وكان المغرب قد حلت صلاته فدعا بحصير للصلاة، وعزم عليهم ليتقدم أحدهم إماماً، فرجوته أن يصلي هو فأمنا، ووالله لا زلت أذكر وأتلذذ بتلك الصلاة وتلك القراءة، قرأ بخشوع وخضوع فبكى وأبكانا. ولما

ص: 10

فرغت الصلاة خرجنا من عنده وكأنما على رءوسنا الطير.

وبعد أن سرنا في الطريق إلى منازلنا قلت لهم: ماذا رأيتم اليوم؟ قال أحدهم رحمة الله: ما هكذا كنا نسمع عن الرجل، كنا نسمع غير ما رأينا، فإذا هو مسلم صالح. فقلت وما رأيكم في علمه؟ فسارع أحدهم وهو الذي على قيد الحياة الآن قائلاً: وأي فضل له في هذا وهو منقطع لهذا العمل نحو ثلاثين عاماً؟ فقلت ولأي شيء منقطع أنت والدولة تدر عليك من المال ما يكفيك ويكفي من تعول، لتتفرغ لمثل ما تفرغ له هذا الرجل الذي لا يساعده أحد بفلس لينفقه على نفسه وعلى عياله؟ فبهت الرجل.

فرحمة الله عليك يا سيد رشيد، حفظت كتاب الله وحافظت عليه، وشغلت حياتك كلها في خدمته، فكلن جزاؤك في الدنيا أنك لم تفارقها إلا وكتاب الله بين يديك وتحت ناظريك تقرأ كلام ربك، وفاضت روحك وهو على صدرك. ألم يكن من علامات قبولك ورضا ربك عنك أن آخر آية من كتاب الله سطرت شرحها بخطك، ولم تطبع إلا بعد موتك هي قوله تعالى:

(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين).

فسلام الله عليك في المسلمين الأولين. وسلامه عليك في الصالحين المصلحين.

عبد الجليل عيسى

ص: 11

‌بمناسبة ترميم مسرح الأزبكية

بناء المسارح الحقيقية

للأستاذ يوسف الحطاب

كان انصراف الممثلين فجأة عن المسرح واشتغالهم بالسينما وتحويل بعض المسارح إلى دور عرض سينمائية بغية الكسب المادي - من الظواهر الغربية التي سجلها النقد الفني في السنوات الخمس الأخيرة. والمسرح - ككل فن - حين يفقد رجاله والإطار الذي يقدم من خلاله، فإنه يفقد كل شيء ولا يعود له أمل إلا في حركة قوية ترد الأمور إلى ما كانت عليه، باعتبار أن ما لحقه طفرة غير طبيعية. ولهذا السبب لم يمض وقت طويل على هذه النقلة المفاجئة من المسرح إلى السينما إلا وقد ألمت بالسينما نكسة أفسحت الطريق أمام المسرح وجعلت الأنظار تتجه إليه من جديد والجهود تبذل للنهوض به. فأنشئ المعهد العالي لفن التمثيل لتخريج فنانين يمثلون على خشبة المسرح ونقاد ومؤلفين يخدمونه بأقلامهم. وبحث هذا الجيل الجديد عن مجال مسرحي يصرفون فيه نتاجهم الفني فلم يجدوا أمامهم من دور المسرح سوى دار الأوبرا ومسرح الأزبكية. والدار الأولى - كما يدل أسمها - لا تصلح إلا لنوع معين من التمثيليات هو الأوبرا أو الأوبريت، والمسرح الثاني لم تقدم عليه حتى اليوم مسرحية ذات قيمة من الوجهة الفنية لعجز وسائله عن تقديم مسرحية كاملة؛ والمسرحان بوجه عام لا يتناسبان وطبيعة الفن الحديث. ومن هنا كان لابد - وقد عاد للمسرح الفنان الذي افتقده، وتوفر له جيل جديد من الممثلين - أن نرى عكس ما حدث أثناء الحرب، فأخذت دور السينما تتحول إلى مسارح وفتحت أبوابها لهذا الفنان الجديد.

وكنا نظن أن هذا الجيل سيثبت وجوده المتميز عن وجود غيره، ويشعر المسئولين أنه نوع آخر ممتاز ويدفعهم إلى إيجاد مسارح جديدة، تمكنه من تحقيق فنه، حسب الاتجاهات الفنية المعاصرة - خاصة وأن هناك تباشير ميل إلى تعديل بناء المسارح القائمة أو هدمها وبناء مسارح جديدة. لا أن يقف عند هذه المسارح غير الحقيقة والتي لا تحمل من سمات المسرح سوى الاسم المجرد فحسب. ولنضرب مثلاً بأكبرها (دار الأوبرا) فهي لا تعدو أن تكون بهواً مستطيلاً في نهايته ممثل ضيق وعلى جانبه شرفات متراكمة فوق بعضها؛

ص: 12

وسواء جلست في البهو أوفى إحدى الشرفات، فأنت حتما متجه ببصرك إلى الممثل وما سيجري فوقه، دون إحساس بالجماعة التي أنت فرد منها؛ والتي أنت جالس بينها وستخرج بعد قليل لتنضم إليها وتعيش في كنفها. هذا هو المسرح الذي نفجر به. مسرح مغلق حينما تجلس فيه تصاب باستغلاق فكري ونقص، يحولان دون كمال استمتاعك بما يمثل فيه من مسرحيات. وقل هذا عن بقية مسارحنا لأنها صورة مصغرة منه.

ونحن حين نطالب بتغيير هذه المسارح المغلقة بأخرى مفتوحة نريد مسارح حقيقية ليس فيها مظاهر الاستقلال البادية في المسارح القائمة الآن. وإذا كنا نربط بين ضرورة إجراء هذا التغيير وبين اتجاهات هذا الجيل الجديد من الممثلين، فليس معنى هذا أنه لم يكن عندنا ممثلون من قبل وإلا كنا كمن يجافي الحقيقة ويتجنى على بعض أعلام التمثيل الذين تستطيع مصر أن تفاخر بهم كبريات الفرق المسرحية. ولكنا نؤمن بأن ما قلناه ظاهرة تنطلق بها الفترة التي نمر بها من هذا العصر الحديث. وإذا التمسنا تفسيراً لهذه الظاهرة فلن نجده في المسرح وحده أو ممثليه لأن المسرح لا يستطيع أن يفسر ظواهره بنفسه منعزلاً عن العالم إلا إذا كان تفسير الشي بأتي من داخله - وهذا مذهب في التفسير لا تثق كثيراً فيمن يتبعونه؛ لأن أصحابه مصابون بضيق في الأفق، وسطحية في النظر وحصر في الفكر. ومادام المسرح نشاطاً إنسانياً خلاقاً، وأنه للحياة قبل أن يكون لنفسه؛ ومادامت الحياة التي تلون كل نشاط إنساني تتشكل - وتشكل معها كل نشاط - بروح العصر السائد، فإن طبيعة البحث تقتضينا أن نلتمس هذه الروح التي جعلت البعض ينادي بتعديل المسرح وأملت علينا ضرورة المناداة بتغييرها وتحويلها إلى مسارح حقيقة، ولن نجد هذا التفسير إلا في ثورة العصر الحديث على ما لمسناه من مظاهر الاستغلاق في المسارح القائمة. ويرجع أصل هذه الظاهرة إلى الانطواء النفسي والاجتماعي الذي كنا وكانت فنوننا مصابة به. ولقد جعلها هذا الانطواء فنوناً مغلقة من الناحيتين النفسيةوالاجتماعية - مثل مبدعيها - تقف ضد كل أسلوب جديد، وتتوهم أن كل شيء خارجي دخيل عليها فتكتفي بما هي عليه دون تطلع إلى مستقبل أو تطور. فيصيبها الانطواء بالركود والتعفن ويكاد يتهددها بالفناء لعدم إحساسها بالحياة وبعدها عن العالم الخارجي الكبير. ولعل هذا هو السبب الذي يلتمسه نقاد الفن ولأدب الغربيين عند بحثهم في أسباب تقطع الصلة بين الفن والحياة،

ص: 13

وعدم قدرته على تحقيق الوظيفة الاجتماعية التي هو مطالب بها. بل لعل هذا هو السبب في المحسنات اللفظية في الأدب وعناصر التطريب في الموسيقى، والمبالغة في الألوان في الرسم، والمغالاة في التمثيل على المسرح حتى أصبح الجمهور المتلقي لهذه الفنون والآداب واحدا من اثنين. فريق قليل يفهم فلا يطرب، وأغلبية طاغية يطرب لما لا يفهم. أما الفريق الأول فيرك أنه أمام أدب أو فن مغلق فقد شكله ومضمونه؛ الحقيقيين أما الجمهور الذي يطرب فلأنه ينساب مع البهرج فلا يلبث أن ينغلق ويتخدر.

هذه هني الظاهرة التي شملت كل مرافق الحياة والفن، نجدها متمثلة تماماً في المسرح باعتبار أنه أقرب إلى الفنون الحياة وأسرعها تأثراً بأساليبها، ونجدها على الأخص في بناء المسرح المتجمد الذي لا تنفذ الحياة إلى داخله، ويجمد من يجلس أمامه.

ويبدو أن المسالة لا يمكن إيضاحها إلا بإيراد عرض تاريخي لطرز المسرح؛ لنعرف تقدم مسارحنا أو تأخرهاعنها. ومن المعروف أن أول مسرح كان منصبه مرتفعة يتجمع الناس حولها في دائرة كاملة تمكن كل إنسان من رؤية التمثيل من خلال من حوله، ويشعره بوجود الجماعة المستمر. ثم تغيرت الطرز بعد ذلك حين جاء دور البناء ولم يستطيع التحكم في طبيعة الأرض التي تقام عليها المسارح. فأقيم المسرح اليوناني مثلاً في بطون الجبال ورغم تعذر تحقيق الدائرة المسرحية فإنه ظل نصف دائري ولم يفقد المشاهدين الشعور الجماعي. وكانت هذه المسارح رغم بدائيها سليمة، وسلامتها راجعة إلى أنها كانت بنت النفس البشرية الأولى التي لم تلحقها تعقيدات الحضارة الملتوية - كما حدث بعد ذلك. ولقد وضح التواء هذه الحضارات فيما ألحقته بالفن من شوائب أفسدته حين بنت المسارح على أنها سجون للفن: دور مغلقة لها أول ولها نهاية، يحدان من انطلاق البصر، وانسراح الفكر ويفسدان على الفن المسرحي طبيعته الحرة، واستهدافه الانتشار بغية تفتيق جوانب حياتنا وتوسيعها.

ولكم ارتفع صوتنا بضرورة تخليص المسرح من هذا الانغلاق؛ ومعالجة الإنسان المريض بالانطواء المرير. وقد ظن المسئولون أننا نبغي بذلك المسارح المكشوفة فقدموا إلينا المسرح الصيفي. والواقع أنه جاء خالصاً من بعض مظاهر الانطوائية - بعد أن تخلصت نفوس المشرفين عليه من بعض ما تنطوي عليه - ولكن بيت له أكثر مظاهر الانطواء

ص: 14

الموجودة في المسارح المغلقة، غير الحقيقة. فبناء الممثل الضيق ظل بعيداً في نهاية المسرح، معزولاً عن المشاهدين. وحال ما به من ضيق وعزلة دون انطلاق حركة التعبير. ولا نغالي إذ قلنا إن الحال ظلت كما كانت عليه في المسارح المغلقة. لأن الضيق والعزلة أشياء تضيق بها النفس، وتفقدها العثور بالحياة التي تتطلب الانطلاق التام وانعدام الحدود.

وقد يقال إن هذا الأمر لا يحسه إلا من جلس بعيداً عن المسرح، وإن علاجه في القرب من الممثل. ولقد جربت هذا فكانت المنصة العالية تحول دون الاستمتاع الكامل بما يجري فوقها لأنها تتعالى عن الجمهور. وأقسم أني كنت أشعر بأقدام الممثلين تروح وتجيء فوق رأسي بمجرد رفع الستار وبدء الرواية.

ولو أضفنا هذا الستار إلى ضيق الممثل لا كتملت لنا مظاهر الانطوائية لأنه يشعرنا ببقاء الحائط الرابع الذي لا يبدأ العرض الحقيقي إلا بزواله. وفي بقائه إيحاء بأن المسرح صندوق أسرار كبير إن باح ببعضها، أمسك بالجانب الأكبر منها. وهذه السرية الممرضة تتنافس وكيان المسرح باعتباره فناً من فنون العرض يهدف إلى تجسيم الأشياء التي تجري فوق الممثل بشكل لا يتأتى إلا إذا كشف كل جوانبها. ولقد هدمت نظرية الحائط الرابع مع هدم المسارح القديمة في القرن التاسع عشر. ومن المؤكد أن المسارح المفتوحة أو المنتشرة لم تكن لتظهر إلى الوجود قبل مناقشة نظرية الحائط الرابع هذه ومؤداها أن المسارح - قبل مجيء الطبيعيين كانت مثل مسارحنا: مسارح مغلقة على نفسها تريد إغلاق جمهور المشاهدين معها. فالممثلون في جهة والمشاهدون أن يتصلوا بالجمهور حالت دونهم المنصة المرتفعة وقد مج المشاهدون هذا الانفصال فكانوا لا يذهبون إلى المسرح إلا لمجرد تمضية وقت يتحدثون فيما بينهم أو يغازلون الممثلات - كما يحدث عندنا.

وهكذا كان حال المسرح - بعد المسرح الإغريقي السليم حتى مجيء أصدقائنا الطبيعيين وعلى رأسهم أنطوان الذي تبلورت فيه ثورة الناس على هذه الأوضاع السخيفة ورأى أن العلاج يتمثل في أن يشعر الجمهور بأنه ليس في مسرح بل أمام حياة فقضى على الفكرة القديمة - السائدة في مسارحنا - من ضرورة إبقاء الجمهور في الظلام لجذب انتباهه بطريقة مفتعلة إلى ما يجري فوق المسرح. أو تقديم مناظر مغرية تأخذ عليه وتحافظ على

ص: 15

جذب انتباهه حتى أن (سترندبرج) المسرحي النرويجي الكبير يرجع تقسيم المسرحية إلى فصول إلى هذا السبب ويقول إن الاستراحات تقدم حتى يتخلص المشاهد من تأثير التنويم المغناطيسي الذي يصاب به أثناء مشاهدة المسرحية وإعطائه فرصة للتفكير وتدبر ما شاهد.

وكما كان لهذا الأمر تأثيره على المشاهد والمؤلف فقد كان تأثيره كبيراً على الممثل؛ فهو لا يؤدي الأدوار كما لو كان في الحياة بل أنه لا يعترف بهذه الحقيقة فتراه لا يتابع الجمهور، أو يستجيب لتأثراته لأن هناك فاصلاً قائماً بينهما، ولا يدرك أن مقدمة المسرح يجب أن تصبح حائطاً شفافاً أمام الجمهور ومنفذاً يعبر منه الممثل.

أن الحائط الرابع (فرجة) يطل الإنسان من خلالها على الحياة مصورة بشيء من الدقة؛ فلنوسعها، ولنذهب بمقدمة المسرح حتى النهاية، ولنقدم مسرحاً مستوياً، لنخرج الممثل من هذا الإطار ولنرد عليه وعلى المسرح إبعادهما الإنسانية الثلاثة، ولنقض على محاولة خلق الوهم والخداع، ولنجعل الممثل ممثلاً حقيقياً، ولنحل المسرحية المجددة مكان التصوير الجامد، ولنخرج الممثل من قفصه، ولنجره من الإطار الفارغ الذي يتحرك فيه لموانع الحياة.

ولن يتم لنا تخليص مسارحنا من كل هذا وإرسالها على طبعتها إلا بهدم الحائط الرابع حتى لا يحول دون إدراكنا لحقيقة ما يدور ويرفع الممثل من طرف المسرح - ففي وجوده هناك أشعار ببعده عنا - وفي هذا العبد تحطيم للوحدة التي أن تتم بينه وبينا، ثم يرفع الستار فالمسرح الحديث تتجنب الخفاء وكل ما فيها مبذول للعين معروض أمام الجميع. ولو أكتمل لنا مثل هذا المسرح لقضينا على فكرة المسارح المغلقة وقدمنا مكانها مسارح مفتوحة كالحياة. تجمع بين الفن والحياة - مسارح حقيقية، المثل فيها ليس في طرف المسرح بل في وسطه، يتجمع الناس حوله في حلقة تقضي على استطالة المسرح التي تحيل الناس إلى جموع متراصة ينظر كل في ظهر الآخر دون أن يشعر بدبيب الحياة الذي يتراءى في وجهه. المسرح بهذا الشكل يصبح كلاً واحداً: فهو حلقة مستديرة يمثل عليها، خارجها حلقة تجمع المشاهدين. سيضطر الممثلون إلى الحركة يميناً ويساراً وخلفاً وإماماً وتقضي على فكرة الرسوخ والثبات المتسلطة على فنون المسرح عندناونرد إلى المسرح عنصر الحركة

ص: 16

التي تفتقدها في مسارحنا. وسيصبح التمثيل أكبر تعبيراً وأدق واقعية لأن الممثل سيدرك أن هناك من هناك يراه من كل جانب فيحرص على جمال الوضع وتمام التعبير.

وسيكون لهذا المسرح الكايلي تأثيره على تأليف المسرحية التي ستعرض فيه. فما دامت المسرحية متصلة بالمسرح فلا شك أن المسرح الكامل سيقدم لنا المسرحية الكاملة لا المسرحيات الزائفة التي تقدمها المسارح المغلقة التي تغلقها بطابعها، وتحد من انطلاقها بالقيود التي تفرضها عليها.

وأخيراً. فإن هذا المسرح هو أكثر المسارح تناسباً مع طبيعة بلادنا. فما دمنا شعب زراعة مربوطين بالأرض نحتشد لكل مناسبة في حلقات فالواجب أن يكون مسرحنا شبيهاً بتلك الحلقات حتى يؤكد فينا غريزة الاجتماع نتجاوز حدود نفوسنا ونتخطى النطاق الضيق الذي تحصرنا فيه مسارح اليوم المغلقة.

يوسف الحطاب

ص: 17

‌سبيل النقد الفني

للأستاذ ماجد فرحان سعيد

يعاني النقد عندنا حادة ترجع في الغالب إلى أن الكثيرين ممن يمارسونه حديثو العناية به أو يجهلون أصوله وخواصه. فلقد أصبح النقد عند فئة من الناس سواء أكان في مضمار الأدب أم الفن أم السياسة ضرباً من اللهو والعبث، الغاية الأولى منه عند محترفيه إظهار عيوب الآخرين والفض من شأنهم لا لشيء إلا لأن حظهم من الثقافة يسير، ولأن الله لم يؤتهم موهبة في الذوق أو سعة الاطلاع أو سداد المنطق أو صدق الشعور - وهي من أهم مقومات النقد - فجاءت أحكامهم منحرفة. ولقد قرأت قبل مدة قصيرة مقالاً قيماً بالإنجليزية حول النقد وفوائده للكاتب الأديب تايجل بولشن عرض فيه بعض الآراء الطريفة التي تربط بين النقد والأثر المنقود عرضاً وافياً متزناً حداني إلى درسه وعرضه مع بعض التعليقات لعل ذلك يجلو بعض ما ألتبس علينا من أصول النقد وأحكامه وطرائفه.

يشير الكاتب في مستهل موضوعه إلى أن النقد هو (الحكم على محاسن أي إنتاج من الفنون الجميلة أو مساوئه). وسواء أكان الحكم صالحاً أم غير صالح، فلا معدى لنا عن الإدلاء به، لأن النقد كما يقول توماس إليوت ضروري كالتنفس لا غنى عنه للإنسان.

ولئن كان النقد حكماً يصدر، إلا أنه ليس من المحتم أن يكون حكماً جائزاً لاذعاً؛ أقول هذا لأن بنا نزوعاً شديداً في هذه الأيام إلى إطلاق الكلمة كما لو كانت تعني البحث عن الأخطاء فحسب. ومع أن البحث عن الأخطاء من وظائف النقد المشروعة إلا أن البحث عن المحاسن وظيفة ثانية لا تقل أهميتها عنها.

ويصبح الناقد إذ يمارس مهمة التفتيش عن المحاسن والمساوئ حاكماً في وسعه أن يقول ما يشاء. ولكن هنالك نوعين من الحكام أولهما ذاك الذي يجلس إلى منصة القضاء. يدين الناس بالعقوبات عند ما تثبت عليهم إحدى التهم. وأما النوع الثاني فهو الحكم الذي يتجول في معرض الزهور، لم يتقاعس عن التنويه بها ومنح الجائزة لصاحبها.

والفنان عند ما يقدم للناس إنتاجه، إنما يتمنى في نفسه لو كان هؤلاء النقاد من الفئة الثانية، لأنه يكره أن يعامله الناقد معاملة الحاكم للمجرم، وإنما يتوخى دائماً يقاوم وزن لإنتاجه فينوه بفضائله ومحاسنه.

ص: 18

وفكرة النقد تتطلب الاستناد إلى قواعد ثابتة، نستطيع في ضوئها أن نتعرف بالشعر الجيد أو الصورة الحسنة أو الموسيقى الرائعة. ولصعوبة الاتفاق على هذه القواعد - مقاييس الجودة والرداءة - تنشأ صعوبة النقد. فهنالك طائفة من الناس تقول أن ليس في استطاعة الناقد أن يصدر حكماً صحيحاً إلا إذا استند إلى قواعد موضوعة متوارثة مع الزمن. بينما تقضي طائفة ثانية بأن متطلبات النبوغ تفرض علينا تحطيم هذه القيود وعدم إخضاع الفن لقواعد معينة. ولهذه الفكرة التي تعتبر الفن فوق القيود جاذبية ساحرة تستهوي نفراً من الناس يودون أن يصبحوا فنانين على حساب الفن دون أن يجهدوا نفوسهم بتعلمه إلى درجة الحذق والإتقان.

وتتصارع حول هذا الموضوع ذهنيتان، تنص أولاهما على أن الفن وسيلة لنقل شيء ما؛ ففي استطاعة الإنسان أن يصور أو يكتب ليرضي نزعاته الشخصية إذا شاء فحسب، وما من قانون يحرم عليه ذلك. ولكنه متى عرض إنتاجه، فإنه بذلك يحاول الاتصال بغيره من الناس لينقل إليهم خواطره أو شعوره أو أفكاره. فإذا عجز هؤلاء الناس عن فهم ما أراد إيصاله لهم، كان ذلك دليلاً ساطعاً على إخفاقه فيما حاول. ولكن لنبين بصراحة وجلاء أن قيمة الإنتاج ليست حتما في تناسب طردي مع عدد الأشخاص الذين يستهويهم ذلك الإنتاج. فما هو المحك إذاً؟ إنه الناقد الحق الذي يستحق حكمه الأخذ به. وهنا نعود من جديد إلى فكرة الأصول النقدية الثابتة.

أما الذهنية الثابتة فتصر على أن النقد الجيد أمر مستحيل، لأنه ليس للفن من قواعد. وقد يسهل اعتناق هذه الفكرة والأخذ بها لو كان الفنان يعيش وإنتاجه كنوع من الظواهر الطبيعية في فراغ تام. ولكنهما في الحقيقة ليسا كذلك، فالفنان، سواء أحب أم كره، خليفة لجميع المتعاطين الذين سبقوه في ذلك المضمار، وما إنتاجه سوى تتمة لإنتاجهم. وبحكم عدم استطاعته الإفلات من قيود الزمن، فأن هذا الفنان يبدأ في إنتاجه بخبرة الأجيال التي سبقته. ومهما حاول التنصل من ذلك، فسيظل عاجزاً عن الابتداء بنقطة العدم. وأما الأصالة التي قد يدعيها، فلا تعدو أن تكون في أغلب الأحيان تحسيناً ضئيلاً أدخله على ذلك التراث الضخم المتوارث عمن سبقوه في ذلك الفن. وفي ضوء هذا المعنى نستطيع أن نقول إن جميع الفنانين تقليديون. ولست أعني بهذا أنهم مجرد مقلدين؛ فإن جيمز جويس

ص: 19

مثلاً فنان أصيل، مع أن آثاره تتخللها بعض الصفات التقليدية لمن سبقه من الكتاب.

أما الناقد الجيد فهو الذي يملك حاسة للنقد مرهفة يستشير بوساطتها انحدار التقليد الفني منذ نشأته. فبينما نجد الرسام مثلاً يركز جميع قواه على اللوحة التي أمامه، وعليها وحدها نرى الناقد عندما يصوب عليها أشعة نقده، لا ينظر إلى هذه اللوحة نفسها فحسب، بل يعتبرها جزءاً من الظواهر الطبعية الفنية جميعاً بين ما يقدمه الرسامون للناس من إنتاجهم كي يقيموا فيه موازنة عادلة. يقول المستر كلاتون بروك (ليست قواعد النقد قوانين يسنها البرلمان، وإنما هي في حقيقتها مجموعة أحكام الماضي) فمن شأن الناقد إذاً أن يلم بهذه الأحكام، وأن يحكم على الفنان في ضوئها. ولذلك يجب علينا أن نسلم هنا بضرورة وجود الناقد البارع وفوائده كشخص ينقل إلى الفنان تقاليد الماضي الذي هو أحد أجزائه، ويذكره دائماً بهذه التقاليد والأحكام، فيستطيع آنئذ أن يتفادى الأخطاء التي تردى فيها سابقاً.

ومن هنا تنشأ علاقة بنائية مفيدة بين الناقد والفنان. غير أن هذه العلاقة نفسها قد تكون هداية في كثير من الأحيان، وذلك عندما ينظر الناقد إلى الفنان نظرة تهكم وتسفيه وازدراء. وسبب هذه النظرة السقيمة يرجع غالباً إلى الملابسات الواقعية التي تكتب فيها أحكام الصحف الرائجة التي تجعل من المستحيل الإتيان بنقد جيد. ترى الناقد الفني مثلاً ينتقل بسرعة فائقة من معرض إلى آخر، يحاول أن يضع في خمسمائة كلمة حكماً على نتاج استغراق ثلاثة أو أربعة من الفنانين حولاً كاملاً. ثم ترى سبعة من الكتب تقدم إلى أحد النقاد فيه دفعة واحدة، ويطلب منه مراجعتها فيما لا يزيد على ستمائة كلمة خلال أسبوع من الزمن أو أقل. ومما لا شك فيه والحالة هذه أن ليس في استطاعته أي إنسان - مهما بلغ علمه أو ذكاؤه أو إحساسه - أن يقوم بعمل كهذا على الوجه الصحيح، إذ ليس من المعقول أن يفهم في عشر دقائق فهماً صحيحاً إنتاجاً شغل شخصاً آخر يضارعه ذكاء وإحساساً سنين من الجهد المتواصل. وهنا يشعر الناقد أنه لا يقوم بعمله على الوجه الصحيح، فيكره هذا الوضع ويرذله؛ والفنان بدوره ينقم منه ويزري عليه، لأنه يتقن أن الحكم الذي صدر حول إنتاجه كان سخيفاً سقيماً هزيلاً، فكيف لا يعافه ويتنكر له؟!

ولكن ليس من العدل في شيء أن ننسب هذه النقائض إلى الناقد أو إلى الفنان، لأنها عيوب نظام تجاري سارت عليه الصحف في النقد. ولكنها مع هذا وذاك عيوب سيئة، لأنها تلحق

ص: 20

الضرر بالناقد والفنان على السواء؛ فهي تجعل الفنان يكره النقد ويحتقره، بينما ينبغي له أن يبدو لديه مفيداً قيماً. ثم إنها تحمل الناقد أحياناً على هجر النقد واللجوء إلى عمل أيسر، كأن يدلي بملاحظات عامة عابرة حول كتاب أو صورة أو عرض مفصحاً عن إعجابه بهذا أو مقته لذاك، دون أن يقيم الحجة على ما يرى. ولا يعدو هذا أن يكون تعليقاً خالياً من الدقة والتعيين؛ ولا يمكن اعتباره نقداً بالمعنى الصحيح، لأنه ليس تعليقاً على الإنتاج الفني وإنما على ذوق الجمهور. وما أشبه الناقد في هذه الحالة بصاحب الوليمة في العصور الوسطى عندما كان يتذوق أصناف الطعام قبل أن يقدمها لضيوفه ليتأكد خلوها من كل ما هو سام ومضر. وفي كثير من الأحيان نجد الناقد قد حاد عن إصدار حكمه على الإنتاج الفني، وعمد إلى مداعبة الفنان حول إنتاجه منهمكاً مرة ولاذعاً أخرى، ليضحك القراء بتلك الدعابة المستطابة لأنها لا تضر شخصياً سوى الفنان نفسه. فيغفل الفنان ذلك حانقاً لأن الناقد استخدم إنتاجه مطية لروح الدعابة عنده ولكن على الفنان قبل كل شيء ألا يعير هذا النوع من النقد المبتذل أي اهتمام. والحقيقة التي لا يمكن ابتكارها أن الفنان مهما بلغت درجة غروره أو ثقته بنفسه وعبقريته، ليظل في أغلب الأحيان يصارع شكاً مخيفاً يساوره حول إنتاجه، ولذلك كان أحوج ما يكون إلى نقد رفيق يدخل إلى نفسه قليلاً من التشجيع لأن ما يحتاجه فوق كل شيء أن يحظى إنتاجه بشيء من الجد الذي عاناه عندما شرع في خلقه. لسنا نطالب في الحقيقة إلا أن يقوم النقد بوظيفته الصحيحة، مشيداً بذكر جهود الفنان في حقل التراث الفني العظيم مهما كانت تلك الجهود متواضعة. أما إذا تناولها الناقد بالتهكم والتجريح والغض والسخرية، فإنه بذلك يدفع الفنان إلى الشك في قدرته وإمكانياته، ويحمله على الاعتقاد في قرارة نفسه بضآلة شأنه وتفاهة إنتاجه.

ولسنا نعدم وجود نفر من الفنانين الذين يتحلون بقدر وافر من روح الدعابة، ويتظاهرون بأنهم لا يقيمون وزناً للنقد اللاذع الجارح ولكنهم في الحقيقة يكرهونه ويحتقرونه، لأنه يؤذي شعورهم ويحز قلوبهم حزاً، ويوقعهم في أكثر الأحيان في هوة من اليأس المرير. ذلك لأنهم يظنون أن ما قيل فيهم، حتى ولو كان سطحياً تافهاً، يمكن أن يكون على جانب من الصحة، فهم بحكم الواقع لا يستطيعون أن يروا إنتاجهم عن كثب، ولا يمكنهم الاعتماد في ذلك إلا على الآخرين ينظرون إليه نظرة موضوعية مجردة عن كل هوى.

ص: 21

وإن أشنع أنواع النقد النقد السلبي الهدام الذي يترك الفنان يعاني شعوراً أليماً يظن معه أنه يحارب عالماً بأجمعه، عالماً ليس يكره إنتاجه فحسب، بل يكره الطموح الذي دفع إلى وضعه. ومن هذا النوع نقد جيفورد الشهير للشاعر كيتس فلقد أوحى جيفورد في نقده أن من الخير لكيتس أن ينقطع عن نظم الشعر جملة واللجوء إلى مهنة شريفة كأن يصبح مثلاً مساعداً لصيدلي. ويحضرني في هذه المناسبة النقد العنيف الذي وجهه ابن سينا للفيلسوف البغدادي أبي الفرج الجاثوليق حين قال:(من حق تصنيفه أن يرد على بائعة ويترك عليه ثمنه).

وفي هذه الحالة يرى الناقد أن لا شيء خير من شيء ما؛ فخير لرسام أظهر لوحة فنية لو أنه لم يرسمها. غير أن الاعتقاد الصحيح الذي لا جدال فيه لدى كل عقل مبدع، مهما استبدت به السذاجة، أن عكس ذلك هو الصحيح. ولذا كان العقل الخلاق ولا يزال وسيظل على مدى العصور في صراع دائم مع العقل الهدام.

وكي أوفى البحث حقه أقرر من جديد أن من واجب الناقد ألا ينصب نفسه حاكماً يجلس إلى منصة القضاء ينزل العقوبات بالناس كي يحول دون اقترافهم الجرائم. وأحرى به أن يكون كالداخل إلى معرض الزهور، يقابل بين أنواعها باحثاً عن الحسنات والسيئات، مظهراً إعجابه بالمحاسن ومانحاً بعض الحواجز لأصحابها، غير كاتم استياءه من هبوط المستوى حيث تغلب العيوب على المحاسن. وعليه قبل كل ذلك كله أن يؤمن بأن شيئاً ما خير من لا شيء، وأن الجهود الخلاقة مهما كانت متواضعة، خير من لا شيء، وأن الرغبة في الإبداع فضيلة في حد ذاتها، والرغبة في الهدم لأكبر جريمة لا تغتفر.

ماجد فرحان سعيد

مدرسة الفرندز للبنين

- رام الله -

ص: 22

‌من وحي المؤتمر الثقافي العربي

للآنسة عزيزة توفيق

ها نحن أولاً جلوس حجرة الاستقبال (الصالون) بكلية الآداب بالشاطئ بالإسكندرية وقد تعددت اللهجات، كل جاء يحمل مشعلاً ليشترك في إشعاع الضوء من الكوكب الدري الذي مرت على ضوئه غيوم خفيفة حجبت نوره فترة من الزمن، وإن لم يفقد الضياء.

وها نحن أولاً نشم عبير الهواء محملاً برائحة (اليود) فتسري في أرواحنا نشوة نشاط، ونرى الأمواج تسرع متسابقة متلاحقة يستخفها الفرح والسرور كأنها ترحب بناء. لقد دار الزمن دورته واجتمعت وفود العرب في الإسكندرية التي كانت مهد الثقافة العربية ومتلقى العلماء من كل فوج.

لقد اجتمعت وفودنا نحن العرب لنتباحث في أحسن الوسائل العلمية التي تساعد على نشر الثقافة العربية. لقد جرف الشرق تيار قوى الموج يحمل معه زيف المدينة والحضارة وجرفنا نحن العرب أمامه، وما زال يدفعنا ولما نستطيع الرجوع ضد التيار بعد. قام كل من المصلحين أو الداعين إلى الإصلاح يدلي برأي؛ فمن قائل: يجب أن نعني بالتراث القديم، ونحي ذكر العلوم العربية القديمة وتخرج كنوزها ونبتعد عن الثقافة العربية، ونسي أنه لكي نكون مثقفين يجب ألا نغلق عقولنا على ثقافة واحدة، وأن نأخذ الخير من الثقافات الغربية لتكون بمثابة طعم لثقافتنا. لقد سلكت وزارات المعارف العربية طرقاً شتى في وضع برامج مختلفة تغيرت مرات كثيرة تبعاً للظروف السياسية وما تقتضيه سياسة الاستعمار أو ما حظيت به بعض الشعوب من استقلال.

وها قد اجتمعت وفودهم اليوم ليوحدوا برامج التعليم ونسوا أن هذه فكرة مستحيلة؛ إذ أنه لكي تكون الفائدة من العلم محققة يجب أن يتمشى مع عادات كل أمة وتقاليدها وما تقتضيه مصالحها ونواحي الحياة الاجتماعية والسياسية فيها. إن البلد الواحد يجب أن ينوع فيه التعليم حسب الأقاليم؛ فمثلاً البلاد الزراعية يجب أن يعم فيها التعليم الزراعي، وفي المدن الصناعية يجب أن يعمم التعليم الصناعي، وهكذا.

ولكني أرى أن الفائدة الحقة من العلم والثقافة بوجه عام هي أن يكون علماً تربوياً وثقافة سلوكية؛ أي نعني بتربية أبنائنا التربية الحقة التي تتناول كل مرافق الحياة من النواحي

ص: 23

الخلقية والدينية والعلمية والفنية. يجب أن نعلم أولادنا الحياة، أي نعدهم ليعرفوا كيف يعاملون الناس وكيف يحترمون أهليهم ومن هم أكبر منهم سناً وكيف يأكلون ويشربون ويلبسون.

هذه هي أغراض التعليم والثقافة الصحيحة، إذ لا فائدة من علم أو ثقافة تقرأ في الكتب لتنمي العقل وليس له أثر في التكوين الشخصي والشعور والوجدان الذي يعبر عنه بالضمير.

لقد رأينا أولادنا وإخواننا وزملاءنا في الجامعات والمعاهد العالية يقفون حيارى، فقد احتشدت أذهانهم بالعلوم والنظريات التي تلقوها وسيلة مهما اختلفت المناهج وطرق التعليم. ولكنهم لا يجدون لهذا الحشد من النظريات العلمية والمعارف الثقافية أي صدى في نفوسهم. لقد ساروا في مرحلة المراهقة التي يتشك فيها الطالب في كل شيء، وليس لهم من أساس ديني يقوى فيهم الروح والعقيدة فباتوا يتساءلون من هم، وماذا يراد بهم في الحياة؟ وثاروا على كل شيء، وانّتهز دعاة السوء ثورتهم تلك فباتوا يملئون أوعية نفوسهم الفارغة بآرائهم ومعتقداتهم الهدامة. وكانت مأساة الشباب التي شهدناها في مصر وغيرها من البلدان العربية. لقد تلقى النشء العلم مجرداً، ولم يعن بتربيتهم تربية صحيحة سلوكية أو دينية خلقية، فمشى العقل وبعد مسافات عن الروح، ومن هنا كانت الثورة وكان النزاع وكان عدم الاستقرار الذي يهدد حياة السباب وأهدافهم ومثلهم العليا في الحياة وما يسعون له في الحياة.

وإذا تنبهت وفودنا إلى ذلك وراح بعض المصلحين ينادون بجعل الدين عنصراً أساسياً في الثقافة العربية إذا بقائل آخر يعترض متسائلا عن أي دين يتبع.

ولو فكر قليلاً لعلم أن جميع الأديان تهدي وتبين الشرائع والسبل الخيرة لإصلاح الفرد والمجتمع، وأن الدين - على حسب المثل القائل - هو المعاملة. وما أريد بجعل الدين جزءاً من الثقافة أن يحفظ النشء آيات الكتب المقدسة وتفسيرها على حسب ما يذهب إليه رجال الدين، وأن هذا حرام وأن هذا حلال دون أن يكون لذلك من أثر في تربية الروح، بل يراد به أن يتخذ كوسيلة للتربية الخلقية والتكوين النفسي على أسس تتمشى مع وسائل العلم الحديثة وتطور المجتمع.

ص: 24

نحن لا نريد من النشء أن يذكر لنا لأنه حائز لشهادات عالية، بل نريد أن نرى ونلمس بأنفسنا أنه قد تثقف ثقافة عالية. نريد تربية لأولادنا ولا نريد لهم علماً مجرداً يدفعهم إلى صخرة صلدة تحطمهم وتمزق أوصالهم. ولقد قال الأستاذ محمود شلتوت عضو هيئة كبار العلماء في بعض محاضراته (إن حياة القلب هي التي تنمي حياة العلم والإدراك). وما دمنا نريد تربية روحية حقه فعلينا أن نلاحظ فيها التربية الجمالية بأوسع معانيها فهي كل فروع الروح، فننمي فيهم حب الجمال الذي يشع منه تربية الذوق الجميل والحس المرهف.

فإذا ما نادينا بتربيتهم تربية روحية يجب أن ننادي بالتربية الثقافية الفنية التي تتناول كل ما يتعلق بحياتهم وتعلمهم السير فيها على أحسن ما نرجوه لهم من خير وسعادة.

وفقنا الله أعيننا النور قوياً ساطعاً، لا شيء يحجبه دوننا، وأن نسمع الصوت قوياً واضحاً فنسعى إلى الضوء ونلبي جميعاً النداء، لنكون خير أمة عالمية ونحقق الغرض الذي اجتمعت لأجله وفودنا العربية فيزداد الكواكب الدري سناء وحتى تقتبس منه الأمم الغربية والشرقية بعض ما تهدى به ثقافاتها.

عزيزة توفيق

عضو المؤتمر

ص: 25

‌الأمل الذاوي

دمعة على قبر الشاعرة الراحلة ق. ط. ع.

عزيز علينا أن يمضي أحباؤنا الذين نحبهم. . . إننا دوما نذكر ليالينا وأيامنا الجميلة، وقد أصبحت ذكرى نبكيها من حبات قلوبنا. ويوم تعود بنا الذكرى إلى الأيام الخولي يعصرنا الأسى ولا نملك إلا البكاء. . .

عزيز علينا أن نفقد إنساناً كان إلى جوارنا يعيش، وعلى أرضنا يمرح، ومن قوتنا يطعم، ثم يصبح بعد ذلك أثراً وخبراً وذكرى.

والله إنه لعزيز علينا أن نتلفت حوالينا فلا نجد إلا العذاب، ونفتش عن الجنة التي افتقدناها فلا نجد إلا الشقاء؟

عزيز علينا أن نعيش في القفر من غير قلب وناس. . أما قلبنا فقد افتقدناه عند موت قريب أو صديق، وهؤلاء الأحباء جميعاً كانوا سلوه لنا في دنيا الأسى والنحيب! كانوا بعضاً منا يصلون من أجلنا ويحبون علينا ويباركوننا ويملؤون علينا دنيانا. . . وفي خطفة البرق يذهبون ولا نملك لهم الدعاء!

وأمسكت بالجريدة ثم أرسلت الطرف الحزين أفتش عنها فسقط بصري على نعيها فحارت في مقلتي الدموع!. .

أماتت (ن)؟ وكيف يموت ذلك الشباب يا أرحم الراحمين؟ يا حسرة قلبي على الأمل الذي ضاع، والشباب العف الذي راح، وحلت في زوايا القلب ذكراه!

وكانت رحمة الله عليها تنظر إلى الحياة نظرة الطائر المعذب يلتمس الانطلاق فلا يجد إلا القيود، ويهفو إلى النور فلا يجد إلا الظلام. . . ويرغب في الحياة فلا يجد الموت. . . حتى إذا أعوزته النجاة كل جناحاه وهو في التراب!

يا ضيعة العمر

في ذلك السجن

محبوسة الفكر

في ميعة السن

وتركب زورق اليأس والحزن المرير:

وسار الشراع بأثقاله

وقلب يضيق بهذا العذاب

يجوب الحياة فتمضي السنون

وتذوي الأماني ويبلى الإهاب

ص: 26

وما من شعاع ينير السبل

ويهدي النفوس خلال الضباب

وجلست سعاة الأصيل في حديقة بيتي، ومضيت أتأمل الأزاهير ريانة تتفتح الطيور تغني وتصدح وتنهل من جمال الحياة.

وحدقت في زهرة من بعيد أتأملها وأنا حزين ملتاع. . إنها الساعة يفوح منها أريج الشباب، وتختال في نضرة العمر؛ وبعد قليل سوف تذبل وتموت وتصبح لا شيء!

وأفقت من ذهولي على صوت تردد صداه أشبه بالقذيفة انطلقت من بندقية، أعقبه أنين خافت ابتلعه السكون، ففزعت وتلفت حوالي أرى من عكر ذلك السكون، وأنا مضطرب لهيف، فثبت بصري على خيط من دماء تنسكب من الطائر الكناري المسكين وهو ملقى بين جدران القفص! وأدركت عبث الأيام وصروف الدهر، وقد لمحت من بعيد صياد! يبعث ببندقيته بين يديه!

كانت (ن) طيب الله ثراها أشبه بهذا الطائر المسكين، تنشق عبير الحياة، وهي ترسف في الأغلال، وكانت وكانت ثم عدا عليها الموت فأصبحت لا شيء!

يا لقسوة الحياة! أتثوي (ن) في قبرها المظلم، وقد غلقت وراءها أمانيها ودنياها!؟ ولن يشرق عليها بعد ذلك صباح، ولن يغمرها شعاع شمس أو ضياء قمر.

كانت يرحمها الله شاعرة دقيقة الحس، فياضة الشعور، تتشوق إلى الحياة، وتصبو إلى الأمل الباسم، والمستقبل الزاهر ولكنها تنظر بعين اليأس نحو مقبل الأيام:

يقولون في الغد يأتي الهناء

ترى أين ذاك الغد المنتظر

أيقبل بعد الشتاء النعيم

كما يقبل الصحو بعد المطر

إذا كان هذا نظام القضاء

أصبحت أسعد من البشر

ولكنني قد رأيت الزمان

أصم السريرة أعمى البصر

وبرغم ذلك فهي تناضل في سبيل السمو والمجد وتود أن تنالهما من أنهار الشعر، وقد نضر حواشيها الضمير والوفاء والشباب غير عابثة بمن يزرع طريقها بالأشواك:

وقلنا سلاحك هل من سلاح

لديك به تقهرين العباب

طريقك أختاه وعر طويل

وسوف تلاقين شتى الصعاب

فقلت سلاحي صدق الوفاء

وهذا الطموح وهذا الشباب

ص: 27

وفي زورقي ما يروق النفوس

ويبعث منها الرضا والسرور

مجاريه مكفولة بالهدى

مراسيه موكولة للضمير

يرف عليه لواء القريض

فيدنو له كل قاص عسير

وتنشب في صدرها معركة هائلة بين الموت والحياة، ويحتدم الصراع، وينتفض الخلود بين أنياب الفناء فنقول في آخر قصيدة لها:

ألم تسمعني وقع خطو الزمان

ألم تفزعي من نداء الحفر

وفزعت أيتها الإنسانية وطلبت الحياة ولكنك لم تجدي غير الموت:

لقد مالت الشمس نحو المغيب

إلى أين مسراك يا فانية

وانهمرت دموعي من أجل عمرها الذي ذبل، ومجدها الذي ضاع ودفنت بواديه.

أهو الشعور بالسخط على الحياة يوم تذبل زهرة في تباشير الصباح؟ أم هو الشعور بالأسى واللوعة يوم تطوى أعلام وتقبر روح كانت تود أن تنطلق في سماء الحياة؟

أجل، لقد انطلقت أيتها الروح، فحلقي ما شئت طليقة من كل قيد، عند الله والحياة، من بعدك قفر وموت وأي موت وظلام وأي ظلام؟

أحمد شفيق حلمي

ص: 28

‌رسالة الشعر

في مصر

للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان

يا مصر، حلم ساحر الألوان رافق كل عمري

كم داعبت روحي رؤاه فرف روحي خلف صدري

حلم كظل الواحة الخضراء في صحراء قفر. .

أن أجتلى هذا الحمى. . . وأضمه قلباً وعين

واليوم، في حلم أنا، أم يقظة، أم بين بين؟!

صدحت بقلبي إذ وطئت ثراك أنغام سواحر

فكأنما في قلبي المأخوذ غنى ألف طائر. . .

وغرقت في أمواج إحساس بعيد الغور خائر

أأنا هنا في النيل، في الأهرام، في ظل النخيل!؟

وتلفتت عيناي في دهش، وفي لهف غريب. .

ماذا؟ هنا الدنيا الخلوب تثير أهواء القلوب. .

ماذا؟ هنا نار الحياة نؤج صارخة اللهيب. .

في كل مجلى فتنة رقصت وسحر مد ظله

ماذا؟ أمصر؟ أم رؤى أسطورة من ألف ليلة!؟

أنى اتجهت تجاوب وصدى لموسيقي الوجود

في النيل يعزف لحنه الأيدي للشط السعيد

في وشوشات النسمة المعطار، في النخيل الميود

حتى النجوم هنا أحس لهن ألحاناً شجية

حتى السحاب إخاله تحدوه موسيقي خفية

يا مصر بي عطش إلى فرح الحياة. . . إلى الصفاء. .

يا مصر نحن هناك أموت بمقبرة الشقاء. . .

لا يطمئن بنا قرار. . . لا يعانقنا رجاء. . .

ص: 29

لا شيء إلا ضحكة الهزء المرير على المباسم!

كالضحكة الخرساء قد يبست على فك الجماجم!!

نفسي مصدعة. . . فضميني لأنسى فيك نفسي

قست الحياة وأترعت بمرارة الآلام كأسي

والظلمة السوداء مطبقة على روحي وحسي

فاحني على وزوديني من مفاتنك الجميلة. . .

هي نهزة لم أدر كيف سخت بها الدنيا البخيلة

يا ليتني يا مصر نجم في سمائك يخفق

يا ليتني في نيلكالأزلي موج يدفق

يا ليتني لغز. . . أبو الهول احتواء، مغلق. . .

تهوى وتنسحق الدهور مواكباً، وأنا هنا

بعض خفي من كيانك لست أدرك ما أنا!

يا مصر، حلم ساحر الألوان رافق كل عمري

كم داعبت روحي رؤاه فرف روحي خلف صدري

حلم كظل الواحة الخضراء في صحراء قفر

أن اجتلى هذا الحمى وأضمه قلباً وعين. . .

واليوم، في حلم أنا، أم يقظة، أم بين بين!!

القاهرة

فدوى عبد الفتاح طوقان

ص: 30

‌الخطيئة المجسمة

للأستاذ محمد مفتاح الفيتوري

الكرى عاقد جفون البرايا

والدجى مطبق عيون النهار

والرياح النكباء أقفرت الطرق

وأخلت نوادي السمار

وأيادي الضباب ألقت على الآفاق

مما يحكن ألف إزار

فاحملي قلبك المكفن بالآثام

وامضي ملعونة الآثار

احمليه على يديك كما تحمل

أم اللقيط تاج العار

احمليه كزهرة وطأتها

قدم العابثين والفجار

ويك يا هاته الذبابة من أنت؟

ومن أي حماة أو قرار

أنت جرثومة من الشر جوعي

لامتصاص القلوب والأفكار

أنت مخلوقة حضيضية الأصل (م)

كدود الغدران والآبار

أنت شيء أنكرت ذاتيتي فيه (م)

وفيه عرفت معنى انهياري

ويك يا هاته وأنت دخان

كيف أطفأت ثورة الإعصار

كيف قاربت هيكلي ثم لم يجرفك

سيلي ولم تحرق ناري

كيف لطخت بالخطيئة محرابي (م)

وقد كان كعبة الأطهار

كيف أطبقت مقلتي فلم أبصر

طريقي المشوب بالأوضار

كيف قيدت في حبالك عنقي

ثم سيرتني بغير اختياري

كيف أذللت كبريائي فهانت

وهي من لم تذل للأقدار

آه وا حسرتا لما ضاع مني

من سموي وعزتي ووقاري

فاغربي - أغربي بوجهك لا بورك

يوم ألقاك خلف جداري

حسب شيطانك الغوي خضوعي

وأنا الحر - عند ساق عاري

ويحسبي ندامة ليس تمحوها (م)

صلاتي وخالد استغفاري

محمد مفتاح الفيتوري

ص: 31

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

ذكريات يثيرها العيد:

(ونظر إلى السماء نظرة طويلة، حار فيها دمع واضطراب بريق. . واحة في صحراء؟ ونبع يتدفق ماؤه؟ وزهرة ندية بالعطر فواحة بالأرج؟ كل هذه الأشياء يا رب له؟ أين كانت وأين كان؟!. وابتسم للحياة من قبله، وأضفى عليها من روحه، وقبس لها من حبه، وأصبح إنساناً غير الذي كان!

وألقى بالماضي كله في زوايا العدم. . لقد كان يعيش في حاضرة؛ حاضره الذي داعبته رؤى من المستقبل الباسم، ورقصت على حواشيه أطياف من الأمل الوليد، وانطلقت في أرجائه صيحة العمر الذي بعث. . هناك ينظره المجد تدفعه إليه يد حانية، وقلب يخفق، وبسمة تشرق، وروح برح بها الشوق إلى لقاء روح؛ ويا بعد الدنيا التي كانت في قلبه والدنيا التي تراءت لعينيه!

ومضت به الحياة في طريقها تطوي الأيام. . الزهرة الحبيبة يسقيها من فيض عطفه، والنبع الرقراق يسعى إليه إذا ظمؤه، والواحة الوارفة تحميه بظلها من لفح الهجير: يا صحراء: أين كانت الجنة؟ لقد كانت في رحابك وهما بغيضاً لا غناء فيه!

يا صحراء: أين كانت السعادة؟ لقد كانت في عذابك حلماً مخيفاً لا تأويل له! وأنت يا زهرته الحبيبة أين كنت؟ لقد قالت له عيناك إن الجنة ليست وهماً، وإن السعادة ليست حلماً، وإن ماضيه كله يمكن أن يختصر في لحظة من حاضره. . وماضيه الذي أصبح ذكرى في طوايا الغيب، وومضة في ثنايا الخاطر، وصرخة كتمت أنفاسها يد النسيان!

وفي تلك الدار من ذلك الحي كان هواه. . يذهب إليها مع الصبح، وحين يقبل الليل، وكلما هزه الشوق وطال الحنين؛ ولن ينسى كيف كانت تستقبله الدار يوم كان يقصد إليها: ملء يديه زهر، وملء عينيه أمل، وملء قلبه حب، وملء نفسه دنيا من الأحلام. . أبداً لن ينسى الوجه الذي كان يتلقاه باليدين حين يقبل، وبالروح حين يجلس، وبالدعاء حين ينصرف مودعاً إلى لقاء قريب. ولن ينسى أنها كانت تهوى الأدب، وتعشق الفن، ويملك عليها المشاعر كل معنى جميل. . ولن ينسى أن صلتها به كانت عن هذا الطريق الذي

ص: 32

جمع بين قلبها وقلبه، وبين طبعها وطبعه، وبين شعورها وشعوره. ومن أجل هذا كله كان يدفع إليها بكل كتاب يقرؤه، وكل مقال يكتبه، وكل أثر من أثار الفن يعلم أنه يلقى من نفسها هوى ورعاية.

أبدا لن ينسى يا دار هواه، يا من كنت وحي قلمه ومهبط إلهامه وحيث أمانيه. . . لن ينسى حين غاب عنك أياماً ثم ذهب ليرى أهلك في تلك الأمسية التي يسفر من بعدها صباح العيد:

لقد كنت يا دار واجمة، كئيبة، يمرح في جنباتك الصمت ويطبق السكون! أين يا دار من كانت تفتح له الباب وكأنها تفتح له أبواب الشعور بالدنيا على مصاريعها؟ أين. . . أين؟ لقد قالوا له إنها مريضة. . مريضة؟ وهرع إلى حجرتها مسلوب الوعي مرتاع الخطو ملتاع الضمير، وأخذ مكانه إلى جانبها وتناول يديها بين يديه، وألقى على الوجه الشاحب نظرة سكب فيها من ذوب قلبه كل ما ادخرته الليالي وحفظته الأيام. أما هي. . فلم تنطق بكلمة، لقد أطبقت شفتيها الذابلتين، وشع من عينيها بريق عتاب لونته الدموع!

وأطرق برأسه إلى الأرض برهة، وطوقت نظرته الذاهلة هنا وهناك كأنما تبحث عن الألفاظ الحيرى في ساعة اللقاء. . . واستطاع بعد جهد أن يجمع شتات نفسه ليقول لها: لا أدرى كيف أعتذر إليك. أحقا كنت غائباً وأنت مريضة؟ كيف بالله لم يحدثني قلبي؟. ألا تغفرين لي؟!

وأمام اللهفة الحرى والخشوع الضارع والصمت المبتهل غفرت له. . ويا لحظة الغفران كم خففت من وخز ضميره، وكم حملت من عبء عذابه، وكم قربت بينه وبين الله!!

ومضى يحدثها وتحدثه، ويا عجباً. لقد عاد إلى الوجه الشاحب إشراقه الفجر، وإلى الوجنة الذابلة نضارة الورد، وإلى النظرة الفاترة صفاء النبع، وإلى الجسد المنهك تدفق العافية! وقالت له وهي تستوي في سريرها جالسة: أنظر. . ألا ترى أن العافية قد عادت إلى بعودتك؟ فأجاب والفرحة الجارفة تهز كل ذرة في كيانه: لو كنت أعلم لزرتك قبل اليوم، ولما تركتك نهباً لعوادي السقم! ومضى يحدثها وتحدثه، ويقرأ لها وتصغي إليه، ويبني لها من قصور الأوهام ما شاءت فنونه وشجونه. كم أقام على دعائم الخيال عشهما المنتظر؛ الجميل الهادئ، ذلك الذي يملؤه الأطفال أنساً ومرحا وبهجة، وتملؤه حباً وحناناً ورحمة!

ص: 33

وتقول له وهي في غمرة الأماني وزحمة الأحلام:

بالله دعنا من المستقبل وخلنا في الحاضر. . إن غداً ليوم عيد، فهل فكرت في أن تهيئ لنا مكاناً جميلاً نقضي يومنا فيه؟! ويقول في صوت تنطلق فيه الهمسة من فجاج روحه: أما العيد فأنا اليوم فيه. . وأما المكان الجميل فقد هيأته لك في قلبي!

وترنوا إليه معجبة، ويرتسم على شفتيها ظل ابتسامة فاتنة، وتهتف من الأعماق قائلة له: هل تعرف أنك تجيد فن الحوار؟ لماذا لا تعالج كتابة القصة؟ أنا في انتظار اليوم الذي تكتب فيه قصتك الأولى!

ويعدها أن يكتب قصته الأولى، ويودعها وتودعه، وينطلق عائداً إلى بيته على أن يراها في صباح العيد. ولم يكن يعلم أن المقادير تدخر له أسود ليله في رصيد العمر، وأبشع صباح في حساب الشعور! ولم يكن يدرك أن ما رآه من ومضات العافية حين جلس إليها كان أشبه بومضات المصباح قد فرغ زيته، فهو يرسل أسطع أضوائه قبل أن ينطفئ، ويترك الحياة من حوله يختنق فيها النور تحت قبضة الظلام. . لقد طوى الموت في المساء صفحة عمر، وغيب القبر في الصباح أحلام عذراء!!

وسأل نفسه وهو يشهد ليلة تنطوي وفخراً يبزغ: أيمكن أن تمر تلك الليلة على إنسان كما مرت عليه؟ وسمع جواب نفسه منبعثاً من أعماقه: محال!

وكانت ليلة عيد: ولا يذكر أنه أحس القفر في حياته كما أحسه في تلك الليلة، ولا يذكر أنه أنكر دنياه كما أنكرها في تلك الليلة، ولا يذكر أنه استشعر الوحدة والغربة والفراغ كما استشعرها في تلك الليلة. . لقد كان يشم في كل شيء حوله رائحة الموت؛ الموت الكريه البشع الذي يتراءى للأحياء في الليالي السود، ويلف الآمال في أكفانه، ويهيل على جمال الحياة أكوام التراب!

وأشرقت الشمس العيد ترسل ضياءها إلى قلوب الناس إلا قلبه. لقد بقي وحده في الظلام؛ ظلام الأماني التي ذوت، والفرحه الكبرى التي انطوت، والدنيا التي ذهبت إلى غير معاد. ولأول مرة منذ سنتين شعر بدافع قوي إلى البكاء، وحاول أن يبكي ولكنه لم يستطع لقد تجمدت الدموع في عينيه، ثم تحدرت إلىقلبه قطرات: فيها من دفء عاطفته، وفيها من وقد وجدانه، وفيها من لوعة حرمانه. . . وفيها من وهج أساه!

ص: 34

ونظر إلى السماء نظرة من يبحث عن شيء عزيز قد ضاع منه أو نظرة من يسأل السماء سؤالا لا جواب عنه: أين يا رب يجد الصبر وينشد السلوى ويلتمس العزاء؟ كل شيء قد انتهى، وكل جلد قد انقضى، وكل زاوية من زوايا النور قد أغلقتها يد الزمن. وها هو يمضي في الحياة وحيداً بلا رفيق، وغريباً بلا حبيب، وجرحاً تخضبت معالم الطريق من فيض دمه!)

فقرات من مقال حزين كتبه للرسالة منذ عامين. . . زهرات تمتد يده إلى حديقة الذكريات لتقطفها في حنو بالغ. . . ثم تقدمها إلى قبرها الحبيب تحية وفاء في يوم عيد!

عامان في حساب الزمن، تطمس فيهما يد النسيان من تاريخ كل حي سطوراً وكلمات. أما هو فقصة حياته ماثلة أبداً لعينيه، يرقب على مسرح الشعور فصولها المتلاحقة. . ويصفق بالجوانح لذلك المشهد المثير الذي هز قلبه في يوم من الأيام!

وكانت قصة عجيبة. . . بدأنها هي فكتبت بمداد النبوغ فصلها الأول. . . وحين لمح هو بوادر الإلهام أحب أن يقاسمها الخلود فكتب فصلها الثاني. . وحين أوشكت معجزة الخلق في يد البشر أن تنافس القدر، ضاقت السماء بهذه الألوهية فكتبت فصلها الأخير!!

وتركته وحده يشهد ختام المأساة. . ومنذ ليلتين رآها في الحلم طيفاً يعاتبه؛ يعاتبه على أنه لم يف بوعده منذ عامين في ليلة عيد! وقالت له فيما قالت: ترى هل نسيت عهد الوفاء؟ إنك منذ رحلت لم تذكري بكلمة. . ولم تذرف على دمعة. . . ولم تبعث إلي نفحة عزاء. . . أتحسب أنني في العلم الآخر لا أدرك؟! وأجابها في نظرة المتهم البريء يريد أن يدفع عن نفسه مرارة الاتهام: لقد وفيت بوعدي يا أختاه. . شيعتك إلى المكان الذي قدر لي ولك أن يطوي بين جنباته أول أمل. . وقدمت إليك (من الأعماق) نداء من القلب يؤنس وحشتك في ظلام القبر. . وكتبت (من وراء الأبد) قصة إنسانية وفت وفيها من سماتك روح وعنوان. أما الدموع فلا تسأل عنها العيون وإنما تسأل القلوب. . وما أصدق دموع الأعماق!

وقالت وهي تشرق بدمعها وترنو إليه في حنان: لقد كنت أمتحن وفاءك. ترى هل أنت سعيد في صحبة الأحياء؟ وأجاب وهو يمد في عينيه إلى الأفق البعيد حتى لا تلتقي منهما النظرات: لا أدري. . فمنذ أخذتك السماء من الأرض وأنا أهرب من السؤال إشفاقاً من

ص: 35

الجواب!

وبدأت خيوط الفجر تتسلل من النافذة لتوقظه في رفق من حلمه القصير. . وهب من نومه ليرى ذراعيه ممدودتين في الهواء. . . تعانقان الفراغ والوحشة والسكون! وهتف في صوت لم يسمعه غير الله: يا رب. . هل تأذن لي في أن أعتب عليك؟!

إتجاه جديد لتوفيق الحكيم:

(وكم لنا في بعض الناس من آراء لا ينقصها لتظهر غير عدد من المناسبات). . هذا ما ختمتم به جزءاً من تعقيباتكم في العدد (897) من الرسالة. وهاأنذا اتخذتها ذريعة لكي تنشروا رأيكم بصراحة في مسرحيات توفيق الحكيم التي تنشر في (أخبار اليوم) من وقت إلى آخر. . وكفى بذلك مناسبة!

وما كنت لأوجه إليكم هذا السؤال إلا لعلمي بأنكم من أصدقاء الأستاذ الحكيم، ولما عهدناه فيكم - نحن القراء - من حرية الرأي وقوة في القلم، ومع أني لا أنكر أن الأستاذ الحكيم من أكبر الكتاب في مصر إلا أنني قد أحسست ومعي كثير من القراء بما في مسرحياته المذكورة من السرعة وعدم الإتقان. . . فإذا أخذنا مسرحيته الأخيرة المنشودة بالعدد (305) من (أخبار اليوم) والمسماة (مفتاح النجاح)، كان ذلك أصدق مثال لما ذكرته عن بعض هذه المسرحيات. فالموضوع كما هو واضح للذي قرأ المسرحية، ما هو إلا تصوير لبعض أعمال الوزراء بما فيها استثناءات وما ينتج عن حرية الرأي والصراحة في المصالح الحكومية! والمسرحية تكاد تكون جميلة، إلا أنه قد أقحم فيها بعض الشخصيات التي لا تتصل اتصالا وثيقاً بجوهر الموضوع كشخصيتي سميرة ونبيلة. . . ثم ألا توافقونني على أن الإطار الذي وضعت فيه المسرحية لم يكن قوى الحبكة؟ إنني لا أفهم أن يقحم أي شخص في سير الحوادث ما لم يكن له تأثير كبر أم صغر، وإن أومأ الأستاذ الحكيم إلى زيارة وسميرة ونبيلة بجملة واحدة قالها الوزير على لسانه ليظهر بعض أعماله وهي:(كان عندي زوار في موضوع هام)، حينما قال وكيل الوزارة:(جئت إلى معاليك منذ لحظة فوجدت النور الأحمر على الباب)!

ألم يكن الكاتب الكبير يستطيع أن يظهر هذا الرأي ولكن بأشخاص لهم صلة وثيقة بالموضوع وتأثير مباشر بالمسرحية؟ إني لكبير الأمل في أن أقرا في صفحات الرسالة

ص: 36

رأيكم في الأستاذ توفيق الحكيم عامة وفي مسرحيته خاصة.

(مصطفى أ)

قبل أن أعقب على هذه الرسالة أشير إلى أمرين يثيران الدهشة والعجب: أولهما أن الأديب الفاضل يريد أن يسمع رأيي في الأستاذ توفيق الحكيم. . . أين كنت يا أخي وقد كتبت عنه اكثر من عشرين مرة؟! انك إذا رجعت إلى أعداد (الرسالة) فسيطالعك عن توفيق الحكيم آراء متعددة طفت بها حول كل الجوانب في شخصيته الفنية! أما الأمر الثاني الذي يدهشني من صاحب هذه الرسالة فهو إخفاء الجزء الأخير من اسمه لسبب غير معلوم. . . لماذا آثر أن يختفي وراء هذا الإمضاء الذي ظهر أوله وغاب آخره؟ سؤال يحتاج إلى جواب!

بعد هذا أقول له أن الأستاذ الحكيم في مسرحيته الأخيرة بعيد كل البعد عما تخيله ورماه به، واعني به السرعة وعدم الإتقان. . الحق أن الأديب الفاضل هو الذي كان متسرعاً في قراءته للمسرحيه وفي حكمه عليها من غير تثبت ولا مراجعة! وأشهد لقد طلبت الأستاذ الحكيم في التلفون يوم أن ظهرت هذه المسرحية لأهنئه، ولكنني وجدته متغيبا عن القاهرة. . . طلبته لأهنئه على هذا الاتجاه الجديد الذي يسير فيه!

إنه اتجاه سبق أن تحدثت بشأنه إلى الأستاذ الحكيم منذ أن وضع بذرته الأولى في أول مسرحية قدمها إلى المسرح وأعني بها مسرحية (اللص). . . لقد عاد توفيق الحكيم منذ هذا التاريخ إلى الحياة المصرية بعد أن غاب عنها فترة طويلة قضاها في ضيافة الأسطورة التاريخية. عاد إلى هذه الحياة ليسلط عليها أضواء فنه في كثير من الخبرة الواعية والمراقبة الصادقة.

من حق توفيق الحكيم على النقد الأدبي أن يسجل له هذا الاتجاه الاجتماعي الجديد، وأن يهنئه على أن خط السير الفني في أعماله الأخيرة كان مستقيماً لا انحرف فيه. . هذه كلمات لا أثر فيها للمجاملة التي تكون بين الأصدقاء، لأن صفحات الرسالة قد سجل لهذا القلم حملات قاسية على فن هذا (الصديق) يوم أن فاحت منه رائحة الجدران المغلقة بعد جولة طويلة في الهواء الطليق!

وأعود إلى مسرحية (مفتاح النجاح) لأقول للأديب صاحب الإمضاء: إن شخصيتي سميرة

ص: 37

ونبيلة لا تقلان في الوضع الفني لتصميم المسرحية عن بقية الشخوص، أعني أن وجودهما على المسرح أمر لا غنى عنه إذا ما أردنا للواقعية الفنية أن تسير في طريقها المرسوم. . . إنهما شخصيتان غير دخيلتين كما يتوهم الأديب الفاضل، بل هما أصيلتان في واقع الفن وواقع الحياة!

لقد أبتلى توفيق الحكيم يوماً بداء الوظيفة الحكومية، ومن وراء المنظار وقعت عينيه الفاحصة على كثير من المآسي الخلقية التي صبها عن طريق مسرحيته في قالبها الفني الذي يتسع لها ولا يزبد. . . وكيل الوزارة المساعد يريد أن يتقرب إلى الوزير بشتى الطرق والأساليب، وهو في سبيل هذا التقرب يطلق كل ما في جعبته من سهام: السهم الأول هو وضع زوجته (سميرة) في خدمة (نبيلة) بنت الوزير، ولا بأس في أن تكون خادمة في بيت وزيره تقضي للزوجة والابنة كل ما يحتاجان إليه من أمور. . . وتريد العدسة الواعية من وراء هذه اللقطة البارعة أن توحي إلى القارئ بمدى تأثير هذه الخدمات (المنزلية) في نفس الوزير، وما يترتب عليها من خدمات (مصلحية) ينتظرها الوكيل المساعد. . . ومن هنا تظهر القيمة الحقيقة لظهور هاتين الشخصيتين الأنثويتين على مسرح الحوادث لغرض مقصود!

هذا هو السهم الأول، أما السهم الثاني فيستقر في قلب هذه الحقيقة الثانية التي سجاها توفيق الحكيم، وهي سعي الوكيل المساعد إلى النيل من زميله وكيل الوزارة حين أوحىإلى الوزير بوجوب منح أحد (المحاسيب) ترقية استثنائية، مقدماً أوفى الأدلة على ما يتمتع به هذا المحسوب من (كفاءة) منقطعة النظير. . . وعلى جناح الكيد والدس والوقيعة ينقل إليه أن وكيل الوزارة معترض على منح هذه الترقية لأنها حق غير مشروع، وأنه بهذا الاعتراض المتكرر يعطل أعمال الوزير ويقف في وجه مشروعاته (الإصلاحية)!

ويبقى السهم الثالث والأخير، وهو جناية الصراحة على أهلها حين يستدعي الوزير وكيله ليستطلع رأيه في هذا الذي نسب إليه. . . ويدور بينهما نقاش طويل يبدؤه الوزير بأنه يحب الصراحة ويقدرها ويضع صاحبها من نفسه في أحب مكان! وحين يطمئن الوكيل إلى هذا الخلق (الحميد) يجهر برأيه في شجاعة، وخلاصة هذا الرأي أن (محسوب) الوزير صفر اليدين من كل ما يؤهله للظفر بدرجة ليست من حقه وإنما هي من حق الآخرين. . .

ص: 38

وتقديراً لهذه الصراحة يجتمع مجلس الوزراء لينظر في شكوى الوزير من أن وكيله يعطل أعمال الوزارة حتى ليستحيل معه كل تعاون منشود. . . ويحال الوكيل الأصيل إلى المعاش ليظفر الوكيل المساعد بمنصبه، والفضل قي هذه الخدمة (المصلحية) إلى ما سبقها من خدمات (منزلية) توضع في المقام الأول من قيم المواهب والحسنات!!

حول مشكلة الفن والقيود

في العدد الماضي من الرسالة قرأت كلمة للأستاذ الفاضل علي محمد سرطاوي يرد بها على رأي سابق لي حول مشكلة القيود في الفن. . . ولقد رأى الأستاذ أن يخالفني في بعض وجهات نظر لم تتضح له كل الوضوح، فراح يعدد مظاهر الاختلاف بين نظرتين تذهب كل منهما في فهم مشكلات الفن إلى طريق!

أود قبل أن أعقب على كلمة الأستاذ الفاضل في العدد المقبل من الرسالة، أن أبعث إليه بأخلص الشكر على تحيته الرقيقة التي وجهها إلي ختام كلمته، هذه التحية التي يعطرها الخلق ويزجيها الوفاء.

أنور المعداوي.

ص: 39

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

الثقافة العربية في المؤتمر الثقافي:

أشرت من قبل إلى التقرير القيم الذي وضعته لجنة الثقافة العربية في المؤتمر الثقافي. وأرى الآن من تمام الفائدة أن نذكر بعض ما احتواه.

أخذت اللجنة كلمة الثقافة في مدلولها الواسع، وهو معارف الأمة وأدبها وعاداتها وتقاليدها واتجاهاتها الروحية والفنية. ونظرت بهذا المعنى إلى الثقافة العربية فوجدت أن من أهم مقوماتها (1) تراثها الفكري الخصب الغني الذي اتسعت آفاته لثمار الثقافات القديمة الأخرى التي احتك بها العرب في أيام نهضتهم وأثر بدوره في ثقافة العالم من طريق تأثيره في الفكر الأوربي.

(2)

أن لغة تلك الثقافة - وهي العربية الفصحى - لغة ذات تاريخ قديم متصل الحلقات، وأنها قد سايرت الحضارة وكانت أداة طيعة للعلم والأدب والفلسفة في العصور الازدهار الفكري للعرب.

(3)

أن لهذه الثقافة أدبها وفنونها وآثارها التي انطبعت بطابعها وتأثرت وترجمت عن أطوار تاريخها.

(4)

أن هذه الثقافة منذ ظهور الإسلام أصبحت تستمد أهم مثلها واتجاهاتها من الدين وتعاليمه، وأنها قد حاولت في مختلف عصورها أن تستمد من تشريعه قواعد وأساسا لحياتها الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأن أدبها ودراستها الأساسية قد تأثر بكتاب ذلك الدين والحرص على حفظه وفهم أسراره.

(5)

أن هذه الثقافة تمثل فلسفة في الحياة والاجتماع أهم ما تتميز به توفيقها بين سلطة الحاكم وحرية المحكوم، واحترامها للملكية الفردية وتوجيهها للتعاون بين الغني والفقير، وعدم تفريقها بين الأجناس والألوان، وإصرارها على قسط معين من الأدب والاحتشام في حياة الجنسين (الرجل والمرأة) وتسويتها بينهما - إلا في حالات معدودة - في الحقوق والواجبات.

وتناول التقرير بعد ذلك حاضر الثقافة العربية فقال إنها منذ قرن من الزمان - دخلت في

ص: 40

دور نهضة - بعد مرحلة طويلة من التأخر والركود - واتجهت في ذلك اتجاهين لم تجد من كليهما بداً: الأول إحياء قديمها الزاهر، والثاني الاقتباس من معارف الغرب وعلومه. وقد لا بست تلك النهضة ظواهر أهمها ما يلي:

(1)

انقسام المثقفين العرب طوائف: إحداها اندفعت نحو ثقافة الغرب دون أن تتسلح بالمعرفة الحقيقة لتراثها القديم، والثانية ظلت منطوية على نفسها عاكفة على قديمها الذي فقد أصالته في عصور التأخر، والثالثة طائفة وسط حاولت أن تزيد في ثروة الثقافة العربية بخير ما تثقفه من الثقافة الغربية. وقد أثر هذا الانقسام بدوره على الفرد فأورثته التناقص وكاد يشله عن السير في الحياة.

(2)

اضطراب الموازين الخلقية والاجتماعية في المجتمع العربي، والحيرة بين مقتضيات روح الدين والتقاليد من جهة، وما تتطلبه بعض مظاهر الحياة المدينة الحديثة من جهة أخرى.

(3)

ضعف الوحدة التعليمية في البلاد العربية لاختلاف معاهدها في ألوانها واتجاهاتها الثقافية فتعددت النظم واختلفت تبعاً لذلك العقليات والأهداف.

(4)

اضطراب المجتمع العربي بين الذوق الفني المتوارث وبين ما يفد عليه من الفنون والآداب الغربية مما نوع الاتجاهات فلم يعن على تميز طابع واضح للإنتاج الفني العربي.

(5)

انشغال الذهن العربي بمشكلاته السياسية والتعليمية والعمرانية، فلم يستطع بعد أن يفرغ كثيراً للشعور الحقيقي بكيان ثقافته وتعرف مقوماتها ومحاولة التوفيق بينها وبين ما نقتبسه من ثقافة الغرب.

ولخصت اللجنة أهداف الثقافة العربية الحاضرة، بأنها في زوجها ثقافة إنسانية، وأنها تستطيع الإقبال على الثقافة الإنسانية العصرية دون أن تفقد خصائصها ومقوماتها الجوهرية، وأن الإقبال على الثقافة العصرية ضرورة لحياتنا وسلامة أوطاننا ونهضتنا العلمية والاقتصادية، ولا ينجم عنه إلا الخير والقوة إذا ما وعى العرب خصائص ثقافتهم العربية وعياً صادقاً واعتزوا بها وتمثل فيهم روحها في التربية المدرسية وفي مناهج الحياة.

إهمال الفنون:

ص: 41

رأينا توسع لجنة الثقافة العربية في مدلول كلمة (الثقافة) بحيث شملت العادات والتقاليد، وقالت اللجنة إنها تشمل الاتجاهات الفنية، وقد حوت توصياتها كثيراً من الأمور الثقافية المختلفة التي ذكرنا أهمها في عدد سابق. ولكنها مع ذلك لم تلتفت إلى الفنون باعتبارها من ألوان الثقافة وأدواتها، فلم تقل ولم توص بشيء عن المسرحوالسينما والإذاعة والموسيقى والنحت والرسم.

حقاً أننا نعاني أزمات في هذه الفنون، وأن أمورها مضطربة، وبعضها ينحرف عن جادة الفن، وخاصة السينما التي لا تزال أداة للهو الرخيص والتسلية الفارغة من الموضوع، مما يجعل المثقفين يزورون عنها ولا يكادون يعترفون بثقافيتها بل فنيتها. . .

وحقاً أيضاً أن فنوناً - في مجموعها - لم تستطع بعد أن تقنع ذوي الجد والوقار بأنها فنون لها غايات تقصد.

لكن ذلك كله لا ينبغي أن يدعو إلى إهمالها، بل هو على العكس يدعو إلى الاهتمام بها لتحديد موقف الدولة منها وتوجيهها توجيها نافعاً بحيث تؤدي رسالتها على الوجه الصحيح.

ومما يؤسف له أن برنامج المؤتمر أيضاً خلا من المظاهر الفنية عدا (معرض الزخرفة الأندلسية) الذي تحدث عنه في الأسبوع الماضي والذي لم يلق ما هو جدير به من العناية. وقد كان من الممكن أن تدبر بعض الحفلات التمثيلية أو الموسيقية. وكانت هناك في المسرح القومي بالإسكندرية الفرقة المصرية لتمثيل التي أنهت مدتها بالإسكندرية قبيل انعقاد المؤتمر وقد حدثت في ذلك بعض المسئولين، ولكن الوقت قد فات فلم يدبر الأمر من قبل ولم يكن في الإسكندرية غير شكوكو وإسماعيل يس وتحية كاريوكا. . .

ألا ترى معي أن انعقاد مؤتمر عربي كبير دون أن يكون في برنامجه ومظاهره نشاط فني، يدل على فقر البلاد في الفن، وأن هذا الفقر الفني كان جديراً بنظر المؤتمر؟

ولعل عذر لجنة الثقافة أنها كانت بصدد الإجمال وأنها تركت التفصيل للمؤتمر الخاص بالثقافة، ولعله القادم، ولعل الفنون تأخذ بطرف من عنايته.

ومما يذكر أيضاً أن المؤتمر لم يكن فيه أحد من المشتغلين بالفنون يوجه الاهتمام إليها.

تكوين المؤتمر

ص: 42

وعلى ذكر خلو المؤتمر من الفنانين أقول إن أعضاء كانوا إلا قليلاً من المعلمين وشاغلي مناصب التعليم، وإن الإدارة الثقافية ووزارة المعارف في البلاد العربية عنيت باختيار الأعضاء من رجال التعليم، ومن القليل أن الوفد السوري كان به طبيب بيطري وموظف كتابي. وعلى ذلك لم نلق في المؤتمر أحداً من الأدباء غير المشتغلين بالتعليم، وقد كنا نود أن نرى وجوها عرفنا أقلامها. وكان يجب أن يشكل المؤتمر من هؤلاء وهؤلاء، وكان يجب أن يكون فيه كتاب صحفيون يحدثون قراءهم عنه وينقلون صداه إلى آفاق أوسع من قاعته. .

ومما يؤسف له أنه قصد إلى إهمال الأدباء والصحفيين في عضوية المؤتمر قصداً، فقد سمعت الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية يقول إنهم لا يبيحون العضوية العاملة للصحفيين، بل يحضر منهم من يريد دون الاشتراك العملي في المؤتمر!!

والأستاذ لا يقول ذلك أو يفعله بسوء نية. . إنما هو نوع من الإدراك! ولكنه يحتاج إلى أن يعلم أن معالي رئيس المؤتمر الدكتور طه حسين بك ومدير الإدارة الثقافية الدكتور أحمد أمين بك وأحد أعضاء وفد مصر الرسمي الأستاذ أحمد حسن الزيات وغيرهم من قادة الأدب والفكر - صحفيون. بعضهم كان وبعضهم لا يزال. والكلام في هذه المسألة بدهي، ولكن ما حيلتي؟!

العنصر النسوي في المؤتمر

كان معظم النساء آلائي اشتركن في المؤتمر مرافقات لأزواجهن وخاصة المصريات، فلم يكن من غير الزوجات إلا اثنتان، هما الدكتورة رمزية غريب والآنسة عزيزة توفيق. وقد أشرت فيما سبق إلى إهمال دعوة الهيئات النسوية في مصر إلى الاشتراك في المؤتمر، وفي وزارة المعارف سيدات وآنسات فضليات بعضهن مراقبات وناظرات ومفتشات، ومع ذلك لم تشترك إحداهن في المؤتمر ولم تشرك إحداهن في الوفد الرسمي كما فعلت سوريا ولبنان.

وقد كان المؤتمر نحو سبعين سيدة وآنسة أكثرهن من سوريا، وقد لوحظ أنه لم يكن لهن نشاط يذكر في المؤتمر، وكل ما في الأمر أن عدداً قليلاً منهن اشترك في بعض اللجان،

ص: 43

ولم يشترك في المناقشة العامة في جلسات المؤتمر إلا الدكتورة رمزية غريب وهي مدرسة في معهد التربية العالي للبنات، وقد تحدثت على المنصة حديثاً منطقياً قيماً.

وبعد فمتى نرى النصف الآخر في مجتمعنا نصفاً حقاً؟

عباس خضر

ص: 44

‌الكتب

من وحي السيرة

تأليف الأستاذ جمال الدين الرمادي

(95 صفحة - دار الفكر العربي)

للأستاذ محمد محمد علي

كتب الكثيرون عن السيرة النبوية الشريفة، ولا غرو فليس هناك منهل أعذب من السيرة ولا ميدان أوسع منها. بيد أن القليلين هم الذين رأوا في حياة الرسول (ص) إلهاماً، هؤلاء هم الفنانون، أولئك الذين بهرتهم حياة الرسول الكريم، فصوروا خلجات نفوسهم وخفقات قلوبهم بعد إذ أثرت فيهم السيرة تأثيراً عظيماً. ومن هؤلاء صديقنا الأستاذ جمال الدين الرمادي. فهل أني بجديد؟ نعم فقد (أعجبته مواقف رائعة من مواقف الرسول (ص) فانطلق ببراعة يصورها وطفق بريشته يحيطها بإطار يود أن يكون بفكرته وأسلوبه بهياً أنيقاً، ولكن مع هذا لا يحيد عن الحق ولا ينصرف عن التاريخ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً!) هذا هو الدستور الذي سار عليه المؤلف في رسم روائعه الفنية.

وتقرأ الكتاب فلا تكاد تميز أسلوبه عن أسلوب عميد الأدب العربي. وهذا حق فقد أعجب صديقنا بمعالي الوزير وقلد أسلوبه حنى أصبح بحق: طه حسين الصغير. ويرد الجميل لصاحبه فيهدي باكورة إنتاجه إلى صاحب على هامش السيرة. ولكن كيف كان ذلك:

وضع الأستاذ نصب عينيه منذ الصغر أن الأدب منهل عذب يجب على الجميع أن يرشفوا من سلسبيله. فنشأ محباً للأدب العالي مغرماً بالشعر الرصين فإذا به ينظم الشعر حلواً رصيناً بالعربية والإنجليزية. وكان ذلك حينما بلغ خياله أعظم درجات خصوبته في مرحلة المراهقة. ولما أوتي من الأدب نصيباً موفوراً أخذ يغذي (البلاغ) بتحفة الأدبية كما لمع اسمه على صفحات المصري والأهرام والرسالة من هنا لا تأخذه نشوة الجرس الموسيقي الذي تبعث من وضعه البديع للنور الوليد:

(ابشري يا نفوس، وأفرحي يا قلوب، وغردي يا طيور، وأملاي الدنيا بحلو الأغاريد وعذب الترانيم، وحلقي بين الأجواء سكارى بذكر الواحد القهار وذكر الرسول المرتقب

ص: 45

المختار)

رسم لنا المؤلف في كتابه إحدى وعشرين لوحة من وحي السيرة الشريفة تمثل فجر الإسلام: النور الوليد، الفتى الراعي، وانتشاره: سحر الإيمان، الزفاف الحزين، العزيز المفقود، وانتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى: الفوز الراحل. صاغها في أسلوب عذب، وكفاه عذوبة أنه أسلوب طه حسين الصغير.

تأمل قوله في المخاطرة الكبرى: (وتنفس الصبح وأخذت الغزالة ترقي إلى عرشها النور في كبد السماء شيئاً فشيئاً، تسكب الأضواء الزواهر على الرمال الشقراء فترف كأنها شعور غادة فاتنة هيفاء، وتلتمع الحصباء كأنها سبيكة ذهب أو جذوة لهب. ويتبدى السبيل ساكناً صامتاً ويتراءى قبل العين واضحاً لا تبدو على أديمه إلا آثار خطى لا تلبث قبالة الغار أن تفور.)

ولقد طغى العصر الحديث بماديته على أعين الشباب فنأوا بجانبهم عن غذاء الروح. فما أحوجهم اليوم إلى مثل هذا الكتاب فيقظهم من ظلمات المادة ويردهم إلى نور الدين وبهجة الروح عليهم يجدون خلاصاً من قلقهم.

لذا فليس غريباً أن نغض الطرف عن الأخطاء المطبعية التي لا ندري كيف مرت رغم دقة مطبعة الاعتماد وفطنة ملاحظها الحريص، وإنا لنشارك صديقنا المؤلف أمله في مواصلة الكتابة في السيرة النبوية، وذلك المنبع الروحي يروي الظمآن في كل زمان ومكان

محمد محمد علي

ليسانسيه في الآداب

ص: 46

‌قصص تمثيلية

لعميد الأدب العربي معالي الدكتور طه حسين بك

للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد

أمثال هذه الآيات المسرحية العالمية لها أكثر من جانب يصل بينها وبين البقاء الطويل؛ منها أنها تقدم للشباب الذين يعالجون هذا اللون من الإنتاج نماذج ناضجة تأخذ بأيديهم وتسدد خطاهم، وتجد فيها الطبقة المثقفة التي تقرأ للمتعة الذهنية الراقية أروع ما يتيح لها هذه المتعة الفكرية والوجدانية، ويجد القارئ العادي في أسلوب - الدكتور - السهل الممتع ما يرضي حاجته؛ ويثقف ذهنه، ويشيع وجدانه؛ ويجد فيها الشاب من الأساليب الفكرية ما يغذي نزعته المنطقية؛ وفي عمق فلسفتها ما يرشده في حيرته النفسية وفي فنها ما ينضح خياله؛ ويخصب وجدانه ويتكفل بإشباع نوازعه وما يحول بينه وبين ما يفسد عقله ويشوب عواطفه من هذا الذي يعرض بين يديه ولا يجد من يعصمه من شره؛ وتدفعني قوة تأثير هذه القصص؛ وحيويتها إلى الاعتقاد أن هذه الآثار ليست أوضح فكرة؛ ولا أدق تحيلا في لغتها منها في هذا التخليص والتحليل؛ وعمل الدكتور في هذا التحليل والتخليص قد ألقى الأضواء على جو القصة؛ وقربها إلى الأذواق والإفهام. فقد تعمق هذه المسرحيات؛ ونفذ إلى صميمها؛ ووقف على أهدافها ومراحيها الفكرية والوجدانية والاجتماعية؛ وأعطانا صورة دقيقة للأفكار والمذاهب والمشاكل النفسية التي عالجها - المؤلف - مع تقاضيه عن تلك الألوان المحلية التي ليس لها خطر في صميم العمل الأدبي، وهنا أيضاً تتجلى مقدرة - الدكتور - حيث استطاع أن يبرر لك أدق الخطوط؛ ويصور لك أعمق الخوالج النفسية في عفوية حية مؤثرة. فقد يعمد المترجم إلى أروع الآيات في لغتها فإذا حاول أن يترجمها شوه جمالها وجنى على روعتها على روعتها؛ فلا بد للمترجم من الفقه الواضح؛ والقدرة الفائقة في إبراز ما يحاول المؤلف إبرازه. ولا شك أن التخليص أشق وأعسر من الترجمة؛ لأنه يعرض عليك أفكار المؤلف وصورة والأمانة في تقديمها كما أرادها صاحبها أن تخرج للحياة؛ والإيجاز بالتخلي عن بعض ما يسوقه المؤلف مما لا خطر له على معارف القصة، وقد كان لهذا اللون أثره في مرحلة المراهقة التي من أهم سماتها أزمات نفسية عنيفة. وقلق فكري ووجداني مضى وظهور الميل القوي نحو القراءة والإطلاع ولا سيما كتب الأدب

ص: 47

وسير الأبطال فكانت هذه القصص وأمثالها تشبع في كيانهم النفسي هذه الحاجات؛ وفي القصة أيضاً نوع سام من التربية الخلقية وقد أصبحت القصة أسلوباً تربوياً مؤثراً في مختلف مراحل النمو البشري. ويزيد في الإعجاب بأمثال هذه الكتب أننا نشكو الفقر في المكتبة القصصية عامة ومكتبة المراهق خاصة فليس فيها ما نزخر به مكتبة زميله في القرب. أليس في بعض هذه الآثار لأمثال هذا الكتاب ما يغري بالإقبال؛ ويدفع للقراء والتذوق.

محمد عبد الحليم أبو زيد

دبلوم في التربية وعلم النفس

ص: 48

‌القصص

من القصص التركي الحديث

الحلة العسكرية

للكاتب القصصي التركي الأستاذ ق. تان كور

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

لم يكن الجيش الذي أحرز النصر الحاسم قد رايل (بوزيوك) بعد، وكان أهل قرى (أفيبنار) و (قرة كوس) و (جاس دره) وبقية القرى المجاورة يذهبون إلى (بوزويوك).

وكانت قوافل أولئك القرويين التي ازدحمت بهم الطرقات مكونة من النساء والفتيات والشيوخ الذين جاوزوا الستين من أعمارهم. ولم يكن بين تلك الأمواج الزاحفة إلى (يوزويوك) فتى واحد بلغ العاشرة لأن أولئك الفتيان كانوا في ميدان القتال منذ أسابيع.

فقد خفوا إلى ميدان القتال ليكونوا في مؤخرة جيش عصمت باشا ليساعدوه.

وكان في الصفوف الأمامية من ميدان القتال خطيب أجمل فتيان قرينه (جاس درة) زهرة الشقراء.

إن زهرة قد فارقت خطيبها (عمر) منذ بدء معركة (إبنونو) الأولى، وكان اندماج خطيبها مع الأبطال المجاهدين يهز أعطافها ويجعلها تتيه عجباً وغروراً، ولكن إلى جانب ذلك ألمها وحسرتها على فراق خطيبها ممضاً محزناً أيضاً.

أن هذا الفراق قد كسا خديها الورديتين شحوباً، وجعل لونهما مثل لون شعرها الذهبي الأصفر.

وكانت طول أيامها، وفي جميع ساعات يقظتها دائمة التفكير في (عمر) فإذا نامت رأته في منامها. وإذا نظرت في صفحة الماء تمثل لها. وكانت تحس في داخلها احساسات غريبة، وكانت كأنها تسمع أصواتاً تناديها قائلة: اقطعي أملك من عمر! ها هم أولاء أهل قرية (جاس درة) وقد انحدروا في الطريق، وها هي (زهرة) الشقراء بينهم، إنها اليوم نشوى طروب، كانت تمازح شيوخ القرية، وترسل ضحكاتها طليقة رنانة حيث ينتشر صداها في ذلك السهل المنبسط الفسيح.

ص: 49

إن خديها استعادتا لونهما الوردي الجميل، كما أن عينيها عاد إليهما بريقهما ولمعانهما السابق، وكانت ترتدي ثوبها الأصفر الجميل الذي يناسب شكلها، ويبرز بديع جمالها. كل ذلك لأنها.

- بعد ساعات معدودة - سترى حبيبها (عمر).

كان الجو في ذلك اليوم صحواً، والسماء زرقاء صافية، وكانت الشمس قد بلغت أقصى ارتفاعها إلا أنه كانت الريح تهب عاصفة هوجاء زعزعاً، وكانت الأرض كأنها تدور مع الريح في كل اتجاه، وكان البرد قارساً شديداً.

كان الميدان الفسيح الذي صفت فيه الخيام حلقات يموج بأولئك الذين انتشروا أمام الخيام يحتفلون بالعيد، وكانت الطبول تدق من غير توقف، وتنشد أناشيد قرية (يانيق). وكان آلاف الناس الذين جاءوا من قرى ومدن البلقان يشتركون في الأعياد ويهنئون بذلك النصر المبين في ميدان الجهاد.

وعند الظهر تماماً دوت ثلاثة أبواق معاً، فسكن كل شيء في الميدان، ثم نادى (باش جاويش) بصوت مرتفع:

(المدنيون إلى هذا الجانب، والعسكريون إلى هذا الجانب الآخر وليتقدم المختارون إلى جانبي).

كان قد صدر أمر قائد المعركة المظفر عصمت باشا أن يعطي كل متطوع في الجيش من شباب القرى المجاورة إذن يوم يقضيه بين أهله، على أن يعود في اليوم التالي إلى الجيش.

وكان (الباش جاويش) سيكلف مختار كل قرية أن يتلو قائمة أسماء شباب قريته، وكل من يقرأ أسمه يخرج من صفوف الجيش إلى صفوف المدنيين ويعتبر مأذوناً يوماً واحداً على أن يكون في مقر القيادة في اليوم التالي.

وعند الشروع في هذه العملية كان أهل قرية (جاس درة) قد وصلوا وانضموا إلى المدنيين من أهل القرى المجاورة المتجمعين في جهة اليسار، وبين هؤلاء القرويين الذين وصلوا أخيراُ (زهرة) الشقراء.

واستغرقت عملية القراءة الأسماء كاملة، وكان الميدان قد خلا إلا قليلا، وخفت جلبة الجماهير من المدنيين فيه إذ لم يكن قد بقي فيه إلا أهل قرية (جاس درة)، وإلا أمهات أو

ص: 50

آباء أو إخوان بعض المتطوعين الذين قرأت أسماؤهم ولم يظهروا.

في هذه الأثناء تقدمت فتاة قروية جميلة، وعليها ثوب أصفر جميل حتى صارت بجانب (الباش جاويش) وقالت:

وأين متطوعوا قرية (جاس درة)؟

وعند ذلك سمعت من جانب العسكريين أصوات تقول:

هنا. هنا، فقال لها (الباش جاويش) أين مختار قريتكم يا بنيتي؟ وأين قائمة الأسماء؟ فأجابته قائلة:

إن مختارنا أيضاً في الجيش، فالتفت الباش جاويش إلى (الأونباشي) الواقف إلى جواره وقال له: أعلنوا في صفوف المتطوعين: كل من كان من قرية (جاس درة) من الشبان فليأت إلى هنا حالاً. وبعد نحو دقيقة واحدة كان نحو عشرين شاباً قد أقبلوا إلى حيث كان الباش جاويش واقفاً، والتفوا حول (زهرة) الشقراء التي كانت هناك وهم يتصايحون:

أيتها الفتاة زهرة، مرحباً بك يا زهرة. كيف حال القرية أيتها الأخت؟

وكانت كأنها لا تسمع شيئاً مما حولها وهي تكرر كلمتين اثنتين لا تنفرج شفتاها عن غيرهما: أين عمر؟ أين عمر؟ عمر. عمر. وفي تلك الأثناء كان أهل قرية (جاس درة) قد اختلطوا بأولئك الشبان يعانقونهم، ويتبادلون معهم القبلات مع دموع الفرح والابتهاج، وكان الذين التقوا بأمهاتهم أو إبائهم أو أخواتهم لم يأبهوا - أول الأمر - للحال المحزنة التي كانت عليها فتاتنا الصغيرة (زهرة) الشقراء، ولم يكن بقي حولها من تعرفه سوى الباش جاويش والأونباشي، والحاج صادق.

كانت عينا صادق قد ابتلتا بالدموع، وكان لسانه كأنه محبوس في حلقه، فلم يتمكن من قول شيء، وبصعوبة استطاع أن يلفظ كلمتي: أختي. زهرة.

وهنا كان قلب زهرة الشقراء قد انسحق ألماً وحسرة، ولم تعد تملك السيطرة على دموعها، فرفعت يديها كما يفعل المبتهلون الذين يطلبون المدد من السماء - وصاحت:(عمر. عمر. أين أنت؟).

وبينما صادق يحاول التحدث مع زهرة وإعطاءها كتاباً أخرجه من جيبه مع منديل يماني. كان الباشا جاويش قد وصل إلى زهرة الجميلة. ورفعها من على الأرض وضمها بين يديه

ص: 51

كما بفعل الأب الحنون، وقلبها بين عينيها وهو يقول:

لا تبكي يا عزيزتي. أن البكاء لا يليق بالفتاة التركية، إن حبيبك عمر وقع في ميدان القتال شهيداً، ولكن التي نالها عمر لا ينالها كل أحد، واسمعي حتى أشرح لك المسألة:

وكان القرويون والشباب قد تجمعوا وكونوا حلقة ضيقة، وساد بين الجميع صمت رهيب، فأخذ الباش جاويش رأس زهرة بيده اليسرى وأشار بيده اليمنى إلى مسيل ماء ضيق يلوح من بعيد كأنه خيط دقيق رمادي اللون وقال: هل ترين مجرى الماء الذي أمامنا، فقد كنا بعد ظهر أمس نطارد العدو النازل حول ذلك المجرى، وكان - على ما علمت بعد ذلك - عمر معنا، وانتهينا من هذه العملية، إلا أنه كان بقي على الجانب الآخر من النهر جنديان من جنودنا فوقع في أيدي فلول جيش العدو، وكانا يصرخان صراخاً مؤلماً وهما يجودان بأنفسهما بين أيدي العدو. في تلك الأثناء خاض أحد جنودنا الماء من جديد واجتاز النهر، وذهب لنجدة أخويه في الجندية، وفجأة وعلى غير انتظار - لا أدري كيف حصل ذلك - ظهرت بعض فلول جيش العدو هناك، وصار هذا الجندي الباسل الذي ذهب لنجدة أخويه - وذانك الجنديان معه - صار هؤلاء الجنود الثلاثة محاطين بقوة كبيرة من جيش العدو، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الدفاع عن أنفسهم ضد قوة تفوقهم أكثر من عشرين مرة. فصاروا يقاتلون ويدافعون عن أنفسهم كالأسود الضارية. وكان قتال مرير تساقط فيه الأعداء مثل سنابل القمح حصدت بمنجل حاد.

إلا أن أحد أبطالنا المقاتلين ببسالة كان قد وقع على الأرض فجأة فرأيت ضابطاً من ضباط الأعداء يلقي بنفسه عليه. وعند ذلك تحامل جندينا على نفسه، وبذل كل ما في وسعه من جهد، وأمسك بيد ذلك الضابط، وعض إصبعه حتى قطعها، ويظهر أن ذلك الضابط فقد وعيه من شدة الألم، فلم يأبه للحربة التي في يده، وكأنه نسي طريقة القتال بالحراب، وأخرج مسدسه، وأفرغ كل ما فيه من رصاص في رأس ذلك الجندي الباسل.

ثم علمت هوية ذلك الجندي الشجاع - فق كان أشجع أفراد فرقتنا وأكثرهم إقداماً - إنه كان خطيبك عمر).

ثم واصل الباش جاويش تلك المشاهد أمامه، فقال:

(كان بطل (جاس دره) عمر مستلقياً على ظهره، وعيناه الواسعتان محملقتين في اتجاه

ص: 52

الميدان، كان قد فارق الحياة).

بعد أن سكت الباش جاويش هدأت نفس زهرة قليلاً، وانقطع صوت بكائها أيضاً، وعند ذلك وقف صادق أمامها ومد يده إلى زهرة وقال:

زهرة خذي هذا الكتاب الذي كان عمر أعده قبل المعركة بيومين ليرسله إليك، ولم يرسله. وهذا المنديل الأصفر الذي معه فهو هدية إليك. فتناولت زهرة آثار خطيبها الشهيد كما تتناول كتاباً مقدساً، ثم دستها في صدرها، ومرت عدة دقائق في صمت رهيب، ثم رفعت زهرة رأسها ونظرت إلى الباش جاويش نظرة توسل، ومدت إليه يدها بالكتاب الذي كاد يتمزق، وفهم الباش جاويش غرض زهرة من هذه الحركة، فقال: هاتي يا بنيتي حتى أقرأه لك.

هذا الكتاب الذي أعده عمر ليرسله إلى حبيبته، ولم يقدر له الوصول إلى القرية. لم يكن طويلاً، فقد قرأه الباش جاويش بنظرة سريعة ألقاها عليه، فامتلأت عيناها بالدموع. ويظهر أن هذا الجندي الذي كان قبل لحظات ينصح زهرة ويقول لها: لا ينبغي للفتاة التركية أن تبكي) - لم يستطع لن يغالب دموعه فمد الكتاب إلى الأونباشي الذي بجانبه قائلاً: أقرأه على زهرة.

إن هذا الكتاب القصير المكون من عدة أسطر المبدوء بكلمة: (زهرتي) كان يبين بوضوح أي بطل شجاع كان ذلك القروي التركي، وأي قلب كبير الآمال كان يحمل بين جنبيه (زهرتي) إني في شدة الشوق إلى رؤيتك، وألمي لفراقك لا حد له ولا نهاية.

في اليوم الذي نخرج العدو من هذه التربة - تربة الوطن - سنتزوج، وسأكون يوم عقد زواجنا في حلتي العسكرية. أن عمر الجاس دره صار الآن الأونباشي عمر. وإلى الآن لم ألبس الحلة العسكرية. ذلك لأن الملابس العسكرية غير متوفرة. وأخبرنا القائد أننا جميعاً سنعطي الألبسة العسكرية في القريب العاجل.

أمس لبست حلة أحد رفاقي الجنود العسكرية، فقالوا لي: إنها منسجمة عليك جداً يا عمر. وسأرى هل تقولين أنت أيضاً مثل ذلك يا زهرة؟ ابقي سعيدة. سلامي إلى كل أهل القرية).

من ذلك اليوم لم تظهر زهرة الشقراء في القرية، لأنها لم تكن قد عادت إليها، إذ ماذا عسى أن تساوي قرية (جاس دره) بدون عمر؟!

ص: 53

بعد انتهاء معركة (اينونو) بالنصر الحاسم ذهب بعض الجنود البواسل من هذا الميدان للاشتراك في معركة التحرير في (إزمير)، فتحدث بعض هؤلاء أنهم رأوا في الصفوف الأمامية في المعارك الأخيرة في ميدان (انينونو) امرأة قادمة من إحدى قرى (يوزويوك) تلبس حلة عسكرية وتقاتل قتال الأبطال المستبسلين.

فقد استولت زهرة الصغيرة على الحلة العسكرية التي لم يتمتع حبيبها عمر بفرحة ارتدائها، واشتركت في القتال انتقاماً لخطيبها، وقاتلت حتى استشهدت في ميدان الجهاد كما استشهد خطيبها وحبيبها من قبل.

(حلب)

برهان الدين الداغستاني

ص: 54