الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 9
- بتاريخ: 15 - 05 - 1933
شروح وحواشي
في المرأة أيضا
كتبنا في العدد السابع كلمة عن العيد جاء فيها أن غياب المرأة عن المجتمع الإنساني جر عليه فيما جر الجفاء والجفاف والسآمة والفوضى. فوقع هذا القول من الجنسين البارز والمستتر موقع التسليم والرضا. ولكن قليلا من صالحي الإخوان لا يزالون يرون إقصاء المرأة عن الحياة العامة أمراً من أوامر الدين، وقاعدة من قواعد الخلق، فكتبوا إلينا وإلى بعض الصحف يفندون هذا الرأي بحجج انتزعوها من أحاديث الظنون، وهواجس الخوف، ومواضعات العرف.
أما صلة الحجاب بالدين فقد فرغ من توهينها العلماء من أمد طويل. وشديد على العقل أن يسلم بأن البدويات والقرويات ومعظم الحضريات (ومجموعهن يربى على تسعين في كل مائة من جميع المسلمات) قد تعدين بسفورهن حدود الله منذ ظهر الاسلام، ولم يأخذ على أيديهن إمام ولا حاكم حتى اليوم.
وأما الاعتقاد بأن احتجاب المرأة هو الضمان الوحيد لحصانتها وعفتها فذلك إفلاس للتربية، وسوء ظن بالدين، وإلقاء بالنفس إلى الرذيلة!
فلو أن الفتاة وهي صغيرة فتحت عينها على القدوة الحسنة، وأذنها لصوت الواجب، وقلبها لنور الله لوجدت من روحها القوى وضميرها النقي وزرا من الفتنة وعصمة من الغواية.
فالتربية الصحيحة إذن هي الضمان الذي لا يضر معه سفور، ولا ينفع بدونه حجاب، وهي وحدها السبيل المأمونة إلى الغاية التي قصدناها من تلك الكلمة، ولا زلنا نعتقد اعتقادا لا ظل عليه للريب أن غاية الكمال الاجتماعي أن يكون الرجل في كفة والمرأة في كفة من ميزان المجتمع، وتلك هي السنة التي فطرنا عليها الله، والنظام الذي فرضته علينا الطبيعة، والواجب الذي يتطلبه العدل، أما المجتمع الأعرج الأشل البليد الخشن، فغير جدير بالسباق ولا باللحاق في هذا العصر الطموح الطائر، ومجتمعنا بغير المرأة هو ذلك المجتمع: فهو اعرج لأنه يمشي على رجل واحدة، أشل لأنه يعمل بيد واحدة، بليد لأن حدة العواطف تنقصه. خشن لأن لطافة الأنوثة تعوزه.
لاحظ مجلسا من مجالسنا احتشدت فيه الرجال شبابا وشيبا فماذا تجد؟ تجد الحركات
العنيفة، والأصوات الناشزة، والمناقشات الفجة، والأحاديث الجريئة، والكلمات المندية، والذوق العامي، والإحساس البطيء!
لاحظ هذا المجلس نفسه وقد حضرته امرأة (امرأة واحدة ليس غير) تجد الحركات تتزن، والأصوات ترق، والمناقشات تنتج، والأحاديث تحتشم، والكلمات تنتقى، والذوق يسمو، والإحساس يدق، ذلك لأن الرجل حريص بطبعه على أن يجمل سمته في عين المرأة، ويحسن صوته في أذن المرأة، ويسوغ رأيه في عقل المرأة، والأخلاق المكتسبة تبتدئ بالتطبع وتنتهي إلى الطبع.
جهل الأولون وظيفة المرأة فلم يعرفوها إلا متاعا وزينة، لذلك اشتد تنافسهم فيها وتنازعهم عليها واستئثارهم بها حتى ضربوا دونها الحجب، وأحصوا عليها الأنفاس، وبثوا حولها العيون، فجعلوها بذلك قينة لا شريكة، ومملوكة لا مليكة، وكان من جريرة ذلك عليها أن وهن جسمها لقلة العمل، وساء خلقها لفقد الحرية، وضعف تفكيرها لترك التدبير، وغفل ضميرها لعدم المسئولية، فلم تفكر إلا في حللها وحليها، ومدافعة الضرائر والجواري عن نصيبها من زوجها. . . لقد كان للأسلاف ولا شك عذر في إقصاء المرأة عن مكانها من المجتمع وخير أعذارهم انهم كانوا ينظرون إلى المرأة نظرهم إلى الكنز الثمين،. وكان من عادتهم في الكنوز أن يدفنوها في الأرض أو يحفظوها في الخزائن. ذلك إلى أن عمرانهم لم يكن من السعة والتعقد بحيث يطلب نشاط الجنسين جميعا، فحملَ الرجال وحدهم أعباءه وقالوا:
كتب الموت والقتال علينا
…
وعلى الغانيات جر الذيول
أما نحن فبأي عذر نعتذر وعلى أي حجة نعتمد؟ إن الأمم الراقية التي نعاصرها ونصارعها لم تزل تنظر إلى المرأة نظر الأسلاف إليها، ولكنها عرفت كيف تحتفظ بالكنوز وتستفيد منها، فهي تعرضها اليوم في المتاحف أداة علم ومتعة، وفي المصارف رأس مال وقوة. وعمراننا قد زخر واستبحر حتى اعتدى فيه العمل على الراحة، والتنافس على العدل، والقوة على الحق، وتسلح الغربي في جهاد الحياة بقوى الطبيعة في السماء والأرض، ونحن ما زال نصفنا اللطيف قاعداً عن الإنتاج عاطلا من العمل.
أنا لا أريد أن ندفع بفتاتنا في أتون الحياة المستعر فتحمل الفأس، وترفع المطرقة، وتقعد
للبيع، وتجلس للحكم، إنما أريد أن تعطى حريتها الطبيعية في حدود عملها الطبيعي، وأن تعلك كيف تساهم في شركة الزوجية، فتربي الولد، وتدبر البيت، وتدير الأسرة، وتعدل ميزانية الرجل، وتشعر أنها تعمل متضامنة مع بنات جنسها وبني قومها لتكوين أمة متماسكة الأجزاء وثيقة البناء لا ينال من وحدتها شهوة من هوى، ولا نزوة من جهل.
ذلك ما قصدنا إليه في تلك الكلمة الموجزة بسطناه اليوم بعض البسط لعل فيه جلاء لما اختلج في بعض النفوس من هذا الموضوع.
لعل في الثرثرة فائدة!
تريد (العاصفة) البيروتية أن تضع الموازين القسط للأدباء، فتقول فلان أحسن وفلان أساء، وهي لم توفق إلى إدراك الغرض القريب من الكلمة الواضحة التي وجهناها في عددنا الماضي إليها!! فقد قلنا لها ما خلاصته (أن محاولة التفريق بين أدباء العرب طيش ورعونة، وان التعصب للبلد كالتعصب للقبيلة نزعة بدوية ونغمة مملولة) ففهمت من ذلك أن الرسالة تقول: (. . . إن الإشادة بفضل أدباء سورية ولبنان على النهضة الأدبية في مصر ضرب من الطيش، وإن الإيجاز في الكلام نعرة بدوية ونغمة مملولة)
فإذا كان هذا مبلغ فهم العاصفة للكلام، فقد أخطأنا حين مضضناها بالملام، فان اللوم على العجز ظلم، والمناقشة مع الخبث مهاترة!
أحمد حسَن الزيات
أدب القوة وأدب الضعف
للأستاذ أحمد أمين
يروون أن جماعة من آل الزبير كانوا يجتمعون إلى مغنية فيسمعون ويطربون. حتى إذا استخف الطرب أحدهم (وهو عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير) قال فيها:
أحلف بالله يميناً ومن
…
يحلف بالله فقد أخلصا
لو أنها تدعو إلى بيعة
…
بايعتها ثم شققت العصا
فبلغت هذه الأبيات أبا جعفر المنصور فدعاه إليه وعنفه على قوله، وعيّره بضعف آل الزبير من هذه الناحية إلى أن قال له (حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع المغنيات، فدونكم يا آل الزبير وهذا المرتع الوخيم!)
وسخر المنصور من هذا الضرب من القول. وهذا النوع من الحياة، وقال إنما يعجبني أن يحدى لي بهذه الأبيات:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها
…
غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفاً تأمن مسارحه
…
وإن أخف آمناً تقلق به الدار
هذه القصة تمثل نوعين من الأدب: فنوع يصح أن تسميه أدبا رقيقاً، وإن كنت أشد صراحة فسمه أدبا ضعيفاً أو أدبا (مائعاً) كما يصح أن تسمي النوع الثاني أدبا قويا أو أدبا رصيناً.
ولست أعني بالضعف أو القوة ضعف الأدب أو قوته من الناحية الفنية، وإنما أعني ضعفه وقوته من الناحية الخلقية والاجتماعية، فقد يكون هذا النوع الذي أسميه ضعيفاً أو مائعاً في منتهى الرقي من الناحية الفنية، كما قد يكون الأدب القوي ليس قويا بالمقياس الفني.
وهذه القصة تمثل لنا أيضاً أن الأدب المائع والقوي أثر من آثار الحوادث والظروف، فقد فشل آل الزبير سياسياً ولم تتحقق مطامعهم. فاستولى عليهم اليأس وانصرفوا إلى اللهو وانسوا بالسماع وما إليه واحتقروا الخلافة حتى ليهمون أن يبايعوا جارية مغنية، ويحدث عبد الله بن مصعب هذا عن نفسه فيقول: إذا غنتني هذه الجارية.
حسبت أني مالك جالس
…
حفت به الأملاك والموكب
فلا أبالي واله الورى
…
أشرق العالم أم غربوا
أما المنصور فنجح وأسس ملكا ضخما، ووصل إلى هذا النجاح بقوته وحزمه، لذلك كان أحب شعر إليه شعر القوة والعظمة والحمية.
يخيل إلي إنا إذا ألقينا نظرة عامة على الأدب العربي من هذه الناحية رأينا الأدب الجاهلي قويا (كجلمود صخر حطه السيل من عل) حماسة قوية، وفخر قوي، بل وغزل قوي، والأدب الإسلامي إلى آخر العهد الأموي، أدب قوي، فيه عزة الفاتح، وإعجاب الناجح، ونشوة المنتصر، وإن كان فيه نغمات ضعف فنغمات الحزب الذي غلب على أمره، أو المحب الذي يئس في حبه، أما من عدا هؤلاء ففخر وإعجاب، وهجاء في أعلى درجات القوة.
فإذا نحن انتقلنا إلى العصر العباسي رأينا العزة العربية تأخذ في الضعف، ورأينا الانهماك في اللهو يبعث أدباً جميلا في فنه، ضعيفاً في روحه، فيقول رئيس المجددين في عصره بشار بن برد:
قد عشت بين الريحان والراح وال
…
مزهر في ظل مجلس حسن
وقد ملأت البلاد ما بين قغفو
…
ر إلى القيروان فاليمن
شعرا تصلى له العوانق وال
…
ثيب صلاة الغواة للوثن
وتوالت النكبات على الشرق من ظلم وجور وسوء في كل نظم الحياة الاجتماعية فكان الأدب العربي ظلاً لهذه الحياة (كان أدبا ضعيفاً)، إن أنت حصرته وجدته بين باك على مصائب الدهر كأبي العلاء، ومادح للولاة والأمراء والأغنياء. ومستهتر يصف استهتاره وصفاً أنيقاً بديعاً يرضي الفن ولا يرضي الروح، وما اخترع من الفنون كان من هذا الضرب، مقامات للبديع والحريري بنيت على التسول والاستجداء، وإفراط في المجون، أو إفراط في التصوف، وكلاهما فرار من حياة الجد والنثر حمل كل أنواع الزينة من سجع وبديع، فكان كالفتاة تسرف في التجمل الصناعي لما شعرت بنقصان جمالها الطبيعي.
ولم يظفر العالم العربي من العهد العباسي إلا بأفراد قلائل منحوا من القوة في أدبهم ما كان موضع الإعجاب كالمتنبي والبارودي، وكلاهما كانت قوته صدى لحياته، فالمتنبي فارس شجاع كان في أكثر شعره يسجل وقائع سيف الدولة مع الروم، ويدوّن مظاهر القوة
والفروسية، والبارودي كذلك رب سيف وقلم، فكان قلمه مسجلا لآثار سيفه، وقليل كان أمثال هؤلاء. وإلا فخبرني عن شعر البطولة والفروسية والحياة والقوة بعد، وأين الشعر الغنائي الذي صدر عن شعور بالعزة القومية في الأدب العربي؟ أليس عجيباً أن نرى شعر البهاء زهير وقد كان في أسمى منصب من مناصب الدولة وكان مشرفاً على الحروب الصليبية ومساهماً في تدبير شئونها لا يذكر لنا في شعره شيئاً من أغاني الفروسية، ثم ينصرف بكله إلى الغزل المائع. على حين أن الصليبيين خلفوا لقومهم أغاني وأشعاراً صليبية قوية، ولم يخلف لنا الأدب العربي في هذا الباب الا ما كان تافهاً ضعيفاً، لعل السبب في هذا ان المسلمين كان موقفهم في هذا موقف دفاع لا هجوم (وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا).
وبعد، فكل عاطفة من عواطف الإنسان (على كثرتها وتعددها) موضوع للأدب، وخير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة، فالشعر المتناهي في وصف ما يلاقي المحب من عذاب والذي يذوب رقة وحناناً ليس (في نظري) مؤسساً على عاطفة صحيحة كالذي في شعر العباس بن الأحنف وأمثاله، وهذا الشعر وإن أرضى الجمهور ولذ لهم هو في كثير من الأحيان أجوف، وهو في كثير من الأحيان نتاج عاطفة مريضة. وليس من الحق أن يبيع الإنسان عواطفه بهذه السهولة (والشاعر المجيد) هو الذي يثير العواطف بقدر، ويبنيها على أساس عميق، أما إن هو تغالى في ذلك وأثار عواطف حادة لأسباب واهية كان أدبه أدباً خفيفاً ضعيف القيمة مهما استلذه الناس وأعجبوا به.
هناك عواطف حنان، وعواطف إجلال. وعواطف جمال وعواطف قوة، وهناك ما يثير البطولة، وما يدفع إلى المجد، وما يدفع إلى اللهو، وكلها صالحة للأدب، وكلها في نظر الأدب سواء وان اختلفت قيمتها في نظر الأخلاق، ونظر دعاة الاصلاح، فالأخلاقي يرى أن الأدب الذي يثير لذة حسية أقل رقياً من أدب يثير شعوراً أخلاقياً كالإعجاب بالبطولة، واحتمال الآلام في سبيل أعمال جليلة، وأرقى الأدب في نظرنا ما أحيا الضمير وزاد حياة الناس قوة.
وأغرب ما في الأمر أن أدبائنا الذين انتفعوا بالأدب الغربي وعملوا على نقله إلى الأدب العربي أفرطوا في نقل هذا النوع من الأدب المائع وفرطوا في نقل الأدب القوي، وسبب
ذلك أنهم جاروا ميول الجمهور وسايروا رغباته فكانوا تجاراً أكثر منهم قادة، والجمهور إنما استلذ هذا النوع لأنه من قديم ألف البكاء، وكانت حالته الاجتماعية تدعو اليه، ولأنه ترك جده على كاهل غيره ففرغ للهو.
وكان هذا النوع من الأدب أضر بالشرقي من ضرره بالغربي، لأن الغربي عنده بجانب هذا الأدب الضعيف أدب آخر قوي، فإذا بعث الأول حناناً ورقة، بعث الآخر قوة وجلداً، فتعادلت حياته وتغذت نواحي عواطفه. أما الشرقي فليس له تراث حاضر من أدب قوي يسند ضعفه ويحيي نفسه، وسبب آخر وهو أن الشرقي (على العموم) ذو عاطفة أحد وهو لها أقل ضبطاً، فإذا نحن غذيناه دائماً بهذا الأدب الحاد زادت عواطفه ميوعة، مع أنه أحوج ما يكون إلى ما يقوي عاطفته ويضبط جموحها.
الحق أن الأدب عود ذو أوتار ويجب أن تكون أوتاره على نظام ما عند الإنسان من عواطف جدية وهزلية، ورقيقة وقوية، وضاحكة وباكية، ورخيصة وغالية، والعود الذي يوقع عليه الأديب الشرقي ناقص الأوتار، تنقصه الأوتار القوية والأوتار التي تبعث الحياة، والأوتار التي تبعث الضحك ليتلوه جد، والأوتار التي تهز النفس لتملأها أملاً، والأوتار التي تبعث النغم بصور بطولة، والتي تبعث النغم ليوقظ من سبات، عود الأديب الشرقي على نحو عود المغني الشرقي، أشجى أغانيه أحزنها، وخير نغماته أبكاها.
فهل يتقي الله الفنانون والأدباء في الجيل الناشئ فيصلحوا أغانيهم ويكملوا ما نقص من أوتارهم، ويستدركوا ما فاتهم، وينشدوا طويلا نشيد الحياة، كما أنشدوا من قبل طويلاً نشيد الموت؟
ساعة مع الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك
دقائق مجهولة من حياة الإمام محمد عبده
كانت نسائم الأصيل في مصر الجديدة قد أخذت تنفح جوها المحرور بالطراوة المنعشة حين غمزنا الجرس مستأذنين على الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك، وكان جوسقه الأنيق غريقا في سكون فلسفي حالم، وحديقته البهيجة ترف على جوانبها الأربعة بالجمال والعطر فتذهب عن صمته الانقباض وعن سكونه الوحشة، وكان كل شيء يقع عليه طرفك في الحديقة والدار يعلن عما وراءه من مزاج حكيم، وذوق فنان، ونفس شاعرة.
كان الأستاذ على عادته يستريض مع أرسطو في كتابه (الطبيعة) وهو السفر الثالث الذي يخرجه للناس من آثار المعلم الأول، وفي رأيه انه أجلّ كتب أرسطو وأدلها على سمو عبقريته وسر نبوغه. لقينا في البهو لقاء ذوي البيوتات الكريمة والأبهاء القديمة فسلّم في أريحية وحيا في هشاشة، ثم خيرنا بين مجلس الدار ومجلس الحديقة فاخترنا هذا، وجلس ثلاثتنا على كراسي قصيرة القواعد وثيرة المقاعد حول منضدة مستديرة فوقها مظلة صيفية على طراز ما يستعمله المصطافون على شواطئ البحار وفي فنادق الجبال، وجلس الأستاذ الحكيم قبالتنا على كرسي له ظلة كالعلبة المستطيلة تقي الجالس فيها وهجة شمس، أما كلبه الضخم الجميل فقد ذهب يتهادى في المماشي المزهرة، ومن حين إلى حين كان يعود ليداعب السامرين على قدر ما يفهم من الدعابة.
أخذ الأستاذ يطارحنا الحديث (على نحو ما كان يتحدث إلى تلاميذه صديقه أرسطو زعيم المشائين في مماشيه المظللة) بصوته النقي العذب، وجرسه العربي الواضح، وأدائه المتئد الموزون، ولهجته (الشرقاوية) التي ينثرها عمداً في خلال الحديث فتكسبه ظرفاً ورقة. ولطفي بك مسامر حلو النغمة، فكه اللسان، متفنن الحديث، متخير اللفظ، فلو رحت تكتب ما يقول لكان قريب الشبه مما تكتب. وبراعة الحديث صفة امتازت بها طبقته التي تأثر بها وأثر فيها من أمثال محمد عبده وسعد زغلول والهلباوي، فأنت في حضرتهم لا تشتهي الكلام لأن لذتك في أن تسمع، ولا تثير الجدال لأن همك في أن تستفيد. ومجلس لطفي بك يصدق الصورة التي رسمتها له في ذهنك قبل أن تلقاه من شهرته المستفيضة وأعماله المنشورة: فبديهته حاضرة وفكره نفاذ وبيانه أخاذ واطلاعه شامل ومنطقه مستقيم وهو
يتوخى في حديثه الإفادة واللذة فسامعه لا ينفك راضي العقل ريان العاطفة.
وقصارى ما تقوله فيه أنه خلاصة الجيل الماضي بأسره، وتطبيق صحيح لمدرسة الأفغاني وعصره. وأوضح مظهر لهذا التطبيق كان في نزعته السياسية وطريقته الكتابية. ففي (الجريدة) نهج للناس سياسة مصرية خالصة لا تتصل بالدعوة
العثمانية ولا بالجامعة الاسلامية، وفي (الجريدة) ابتكر للكتاب أسلوباً لفظه قدر لمعناه، ووصفه طبق على موصوفه، وسبيله قصد إلى غايته. فكان مذهباً جديداً جرى عليه الصحفيون إلى اليوم وأصدق الأمثلة عليه أسلوب صاحب البلاغ.
ولطفي بك بارع في سلسلة الحديث سريع إلى اقتناص المناسبة فلا تخشى على الحديث في مجلسه أن يبوخ ولا على الصموت في محضره أن يحرج.
قال حينما استقر بنا الجلوس يعيد التحية ويفتتح السمر: أنا أقرأ ما تكتبونه في (الرسالة) بشوق ولذة. . . ويسرني ان الكتابة في مصر قد بلغت من الكمال الفني حد الاعجاب، فأصبحت للألفاظ دلالتها الدقيقة، وللأوصاف بيانها المقصود، أما الكتابة في (أيامنا) فكانت بالتقريب، فمعاني الكاتب تقريبية وألفاظها الدالة عليها تقريبية، والأثر الذي تتركه في نفس القارئ (إن كان مبهم أو تقريبي) فقال له أحدنا:
- ولكن سواد القراء يقرءون اليوم بالتقريب
- طبيعي! فالكاتب أيام كان يكتب بالتقريب كان القارئ لا يقرأ وإذا قرأ لا يفهم، فلما ارتقى الكاتب إلى التدقيق ارتقى القارئ إلى التقريب.
ولقد تصرف كتاب العصر في فنون الكتابة فعالجوا بها شتى الأغراض في براعة وحذق. ولذلك لا أوافق الدكتور طه على جعله النثر لسان العقل والشعر لسان العاطفة فان من النثر ما يكون شعراً.
ثم تشاجن الحديث وتشقق بعضه من بعض فتناول المويلحيين والخضري وشوقي وأبا النصر والأفغاني والطويل حتى أدى إلى علاقته بالشيخ محمد عبده فقال:
- تخرجت في مدرسة الحقوق وأنا في الثانية والعشرين من عمري فرغبت الأسرة في زواجي فأوعز أبي إلى أمي ان تكلمني في ذلك فأبيته، ولم يشأ والدي أن يفاوضني بنفسه في ذلك الأمر فلجأ إلى الشيخ عبده وكانت المعرفة قد اتصلت بينهما بسببي فدعاني الشيخ
إلى داره. . . .
- لقد كان حسنا من الإمام أن يجمع قلوب الشباب حوله ويتدخل بالنصح في أمورهم الخاصة.
- لم يكن الأمر في التعميم والإطلاق على ما فهمت، فقد كان الشيخ في علاقته بالناس على انقباض وتحفظ والشباب أنفسهم هم الذين سعوا إليه والتفتوا حواليه لأنه كان بطبعه رجل ثورة، ولأن اتصاله بصالون نازلي هانم ومصطفى فهمي وكرومر أوهن أسبابه بالقصر وأيبس ما بينه وبين الخديوي، ولأنه كان يدعو إلى الإصلاح والتجديد فكان قريباً بنزعته إلى هوى الشبان، ولأنه كان ينتدب في كل عام لامتحان طلاب الحقوق المنتهين وقد اتصلت به معرفتي بسبب ذلك الامتحان نفسه. . .
- شت!! فكف الكلب المطيع عن النباح وكان ينبح شيئا أو شخصا خارج السور.
- فجاء الكلب الوديع حتى دنا من سيده.
- فانتبذ مكانا قريبا ونام.
ثم عاد الأستاذ إلى حديثه يقول: اقترحوا علينا في امتحان الإنشاء أن نكتب في هذا الموضوع: كيف كان للحكومة حق عقاب المجرم؟ وجعلوا زمن الإجابة أربع ساعات على ما أظن. فكتبت المذاهب الأربعة التي قررها العلماء في هذه المسألة ثم عقبت عليها ففندتها ونفيت أن يكون للحكومة على أي شكل من أشكالها (حق) عقاب المجرم لأنها قائمة على القوة لا على الحق. وأسرفت في التدليل على ذلك حتى ملأت الكراسة ثم خرجت فذكرت لرفاقي ما أجبت به فاضطربوا واكتأبوا وقرروا جميعاً أني لا محالة راسب، ثم اشتد من جانبهم اللوم والتقريع حتى ذهب من نفسي كل أمل في النجاح فلما كان يوم الامتحان الشفهي وقف الشيخ فقرظ موضوعي وكان قد وضع الدرجة النهائية، ولكنه نصح لي أن اقتصد الآن في هذه الآراء إشفاقا علي.
وكم للشباب من شطط في الآراء.
زرت الشيخ بعد ذلك في جهة شارع الشيخ عبد الله نائبا عن فريق من الطلبة التمس منه أن يقرأ لنا درساً في التفسير بمسجد الفتح على مقربة من مدرسة الحقوق، فأجاب الملتمس وانضم إلينا طلبة من دار العلوم فكنا بين الثلاثين والأربعين. وهنالك قويت الصلة بيني
وبين الشيخ حتى بلغت حد الألفة.
وفي سنة 1897 سافرت في الشتاء إلى جنيف لغرض سياسي، فانتهزت هذه الفرصة وانتسبت إلى جامعتها في دروس في الأدب والفلسفة أقامتها في الصيف خاصة للحاصلين على درجة علمية، واتفق أن جاء الشيخ وسعد بك زغلول وقاسم بك أمين مصطافين وكان المرحوم قاسم بك يشتغل في كتاب تحرير المرأة وكان يقرأ لنا غالبا بعد الظهر في كتاب للفيلسوف الفرنسي (تين) ومن العجيب إننا كلما التوى علينا فهم عبارة كان الشيخ وهو أقلنا علماً باللغة الفرنسية، يجلو لنا غامضها.
سافر سعد باشا وقاسم بك وبقى الشيخ عبده فانتسب معي إلى دروس الأدب واقبل عليها بجد ومثابرة، وأذكر أن أستاذ الأدب كان قد قرر علينا فيما قرر كتاب (روي بلاس) لفكتور هوجو نقرأه وندرسه ثم نناقشه وننقده في الدرس أمامه فلما جاء يوم المناقشة أدلى كل طالب برأيه والأستاذ يعقب على الآراء فيخطئ ويصوب ويصحح حتى نخرج آخر الأمر بطائفة صالحة من الآراء الصائبة. وخرج الشيخ شديد الإعجاب بما رأى وسمع وقال: هكذا يكون التعليم! نحن في بلدنا لا نعلم واعتزم أن يدخل هذه الطريقة في الأزهر.
كان مراحنا ومغدانا قبل الدرس وبعده إلى حلوانية تجاه الكلية تدعى (اكسلين) ويأبى الشيخ رحمه الله إلا أن يدعوها (اخصلين) على الرغم من وسامتها الظاهرة. وكان زيه وعمامته قيد الأبصار وموضع التساؤل ومستجر الحديث في كل مكان نحله. وهنا ذكر الأستاذ بعض الطرف التي تدل على ظرف الشيخ ولطف روحه ورقة شمائله ثم قال:. . . وكان من عادتنا أن المتقدم منا ينتظر المتأخر عند هذه الحلوانية حتى نذهب إلى الدرس معاً. ففي ذات يوم جئت قبله فانتظرته ثم انتظرته حتى مضى الوقت الذي كان يصل فيه عادة إذا تأخر وكانت الجامعة قد استقدمت أحد العلماء الطبيعيين ليحاضر في استحضار الأرواح والدخول عام والزحام لا بد شديد، فلما أزف موعد المحاضرة ولم يبق إلا دقائق قلت للفتاة: إذا جاء الشيخ فأخبريه أني انتظرته إلى قبيل المحاضرة. ثم مضيت فدخلت مدرج المحاضرات من بابه الأعلى وأخذت مجلسي بين الحضور. ولشد ما كانت دهشتي حين وثبت إلى عيني عمامة الشيخ جالساً في الصفوف الأمامية بين سيدتين جميلتين، يميل على هذه مرة وعلى تلك أخرى!! فداخلني من أمر الإمام ما لم أكن أعهده. ثم خيل إلي أن الزمن
يبطئ والدرس يثقل لأن رغبتي كانت تلح في الوقوف على جلية الخبر. فلما انتهت المحاضرة أسرعت في النزول إليه وفي عيني دهشة وعلى وجهي تعجب وبين شفتي كلام! وتبين الشيخ ذلك في هيئتي من بعيد، فصاح قبل أن أحدثه:
- تعال يا لطفي أقدمك إلى البرنسيس!!
وقدمني إلى الأميرتين نازلي وخديجة!
وكان ذلك أول معرفتي بالأميرتين المصريتين فدعتانا إلى الشاي في الفندق الفخم الذي تنزلانه.
وفي سنة 1898 رغب الشيخ أن يقضي معي أياما بالبلد. فما علم بمقدمه رجال الإدارة والقضاء بالمنصورة حتى توافدوا إلى لقائه، وفيهم المرحوم حشمت باشا، وحفل المجلس بالناس على اختلافهم ودار الحديث. فقال الشيخ فيما قال أن السيد جمال الدين كان يقول: إذا أردت أن تحكم على أخلاق أمة فاجلس في قهوة من قهوات الفقراء، فما انطبع في نفسك من الانفعالات فاحكم به على هذه الأمة من غير تحرج، فأخذت أنقض هذا الحكم وأفنده والشيخ يدافع عنه ويؤيده فاستحييت أن ألح في معارضة الشيخ في المجلس فأمسكت.
وفي العصر ركبنا جوادين، وخرجنا نرتاض في المزارع والحقول فعدت إلى ذلك الموضوع فقال الشيخ لا أدري لماذا لا تصدق هذا؟ أليست قهوة الفقراء تجمع الفقير الذي سيبقى فقيراً، والفقير الذي سيصير غنياً، والغني الذي صار فقيراً؟
وفي سنة 1905 أذكر إن الشيخ كان قادماً من الوجه القبلي وأظنه كان في السودان، فنزل عندي بالمنيا وكنت يومئذ نائبا بها، وحضر للسلام عليه رجال القضاء الأهلي والشرعي ووجوه البلد. فلما احتشد المجلس بالجمع قال أحد العلماء من رجال المحكمة الشرعية أن كثيراً من النصارى يدخلون في الإسلام فتضاعف بذلك شغلنا. فقال له الإمام: فيم تشتغل أيها الشيخ؟ فقال نعلمهم أركان الدين. فقال له: يكفي أن تقول له صل وصم وزك وحج فقال ولا بد أن نعلمه الوضوء. فقال قل له اغسل وجهك ويديك إلى مرفقيك وامسح رأسك واغسل رجليك، فقال ذلك لا يكفي ولا بد أن نعلمه حدود الوجه من أين يبتدئ وإلى أين ينتهي، فقال الشيخ بصوته الجهير في شيء من الحدة: سبحان الله يا سي الشيخ!! قل له
يغسل وجهه! كل إنسان يعرف حدود وجهه من غير حاجة إلى مساح!!
وهنا استأذنا الأستاذ الجليل في الانصراف على نية العودة إليه من حين إلى حين فنستزيد من طرائف هذه الأحاديث.
الزيات
هل للشعر المرسل مكان في العربية
للأستاذ محمد فريد أبو حديد. وكيل المدرسة التوفيقية الثانوية
يسر الرسالة أن تقدم إلى قرائها صديقاً من خيرة أصدقائها وهو الأستاذ محمد فريد أبو حديد صاحب (ابنة الملوك) التي تحدث عنها بالخير الأستاذ جيب في العدد الماضي، ومؤلف (صلاح الدين) وكاتب (المرحوم محمد) ومترجم (فتح العرب لمصر) لبتلر. والأستاذ فريد من أصفى أدبائنا شعوراً وأخصبهم قريحة وأوفرهم انتاجاً، وهو جندي باسل من جنود الأدب العربي، أغرم بالقراءة والبحث والكتابة وأسرف حتى خامره من ذلك داء مؤلم موئس عقله عن إخوانه وتلاميذه وقلمه بضعة شهور، فنحن بتقديمه اليوم إنما نقدم التهنئة الخالصة لأصدقائه بسلامته، والبشرى الطيبة لعشاق أدبه بقراءته.
(التحرير):
قرأت مقالين قيمين في الرسالة بعنوان (مجمع البحور) تعرض فيهما كاتباهما المفضلان إلى الشعر المرسل ومكانه في اللغة العربية. وليس بالعجيب أن ينفر بعض الكتاب من أسلوب لم يألفوه كما أنه ليس بالعجيب أن ينكر الأديب بدعة في الأدب العربي إذا ظن أن تلك البدعة قد تدخل إليه ما لا يزينه أو ما قد يتخذ سبيلاً إلى التزييف والابتذال. ولكنا مع ذلك لا نجد بدا من التسليم مع المنطق السليم بأنه إذا كان يراد إدخال بعض أنواع من التأليف في اللغة العربية فلا بد من وسيلة لفك قيود القافية. فالقافية غل متين يمنع الاسترسال في القول وإذا كان الاسترسال والإطالة لازمين كانت القافية حجر عثرة لا بد من إزالتها. فالشعر القصصي والرواية الشعرية لا بد فيهما من ترك القافية أو الاحتيال عليها لأنه من الطبيعي في الشعر القصصي أن يصور الشاعر صوراً كثيرة واضحة قد يحتاج في تصويرها إلى نظم آلاف الأبيات. وبذلك يحتاج الشعر القصصي إلى أن يكون النظم حراً لا يلتزم فيه قافية تضطر الشاعر إلى ما يجعل المعنى مبهما أو مقتضبا. وفي هذا وحده علة وجود الشعر المرسل في لغة مثل اللغة الإنجليزية.
وإنما يورد للشعر المرسل عيبان أولهما أنه يحرم الأذن من موسيقى القافية. والثاني أنه يحطم الحدود بين الأبيات فلا ترتاح الأذن إلا ما اعتادته من الوقف في آخر كل بيت والترنح مع الوزن من بدء مقدور إلى خاتمة منتظرة. وهذا قول لا شك في أن به حقا
كثيرا، فمن أراد الموسيقى والغناء فلا بد له من شعر موزون خفيف الروح إذا بدأت أول قطعة منه توقعت ما يليها، وإذا سمعت جرس القافية في أول بيت توقعت تمام المتعة بجرس ما بعدها. غير أنا لا نقصد أن يكون شعر الأغاني مرسلا فإنما للمرسل موضع غير الأغاني وهو كما ذكرنا ضرورة يلجأ إليها من أراد الإطالة في غرض من الأغراض.
وقد قال أدباء ممن يؤثرون الإبقاء على القافية في كل صنوف الشعر أن الشعر المرسل لا ضرورة إليه، فإذا شاء امرؤ أن يطيل وصفاً أو يؤلف قصة فما من شيء يمنعه من أن يفك نفسه من قيدي الوزن والقافية جميعاً ويجعل قوله نثراً صافيا. وليس في مقدرة أحد أن يقنع الناس برأيه في مسألة أدبية بأكثر من أن يعرض عليهم ما يستطيعون بناء حكمهم عليه، فان الحكم في مسائل الأدب مرجعه إلى الذوق وموقع الكلام من النفس. وليس من قصد أحد أن يتعصب لأسلوب خاص، فانه لا مأرب لأحد في ذلك إلا أن يكون لذلك الأسلوب في نظره ميزة على سواه. على أن مجال القول فسيح لمن شاء الانتصار للشعر المرسل، فانه فوق النثر في أنه موزون وللوزن حظ من الأثر الموسيقي الذي يمتاز به الشعر، كما أن الشعر المرسل يجعل الأديب ينحت قوله على نمط مقدر، فتخرج المعاني في ثوب مقدود على قدر ومقياس ينحيانه عن الفضول ويكسبان الأسلوب شيئا من الأناقة التي تنشأ عن اختيار الألفاظ الموافقة للوزن وتزويقها وتوثيق الاتصال بينها.
وبعد فالمثل أولى من تلك الحجج. ولهذا قد آثرنا أن نختار قطعة من تأليف ملك الشعر المرسل وهو شكسبير في روايته المشهورة (عطيل) وأنّا عارضوها على القراء مترجمة مرتين، مرة منهما من قلم الشاعر الكبير (خليل مطران) في نثر سهل حلو أدى المعنى أداءً دقيقا في أكثر المواضع ولكنه على كل حال لا يعاب عليه شيء في سلاسته ووضوحه. والترجمة الأخرى من قلم رجل آخر واتته المقدرة على أن يؤدي المعنى الإنجليزي في شعر مرسل. ورأينا ان نقرن بين الترجمتين حتى يمكن للقارئ أن يحكم بينهما ويحدث لنفسه رأياً في أفضلهما. والقطعة المختارة هي نبذة من الموقف الذي كان بين (ياجو) و (عطيل) يحاول فيه (ياجو) أن يظهر نفسه في مظهر الصديق الناصح ويدس في حديثه سم سوء الظن يبعثه إلى قلب (عطيل) ليجعله يحقد على زوجته الفاضلة راميا من وراء ذلك إلى غرض مادي شخصي ظن أنه لن يبلغه الا بالقذف في امرأة عطيل وتصويرها في
صورة من تهوى رجلاً آخر اسمه (كاسيو). كان ذلك الواشي (ياجو) يريد الإيقاع به. وعطيل يحب امرأته حباً شديداً فكان على الواشي المخادع أن يحكم حيلته ومكره حتى يستطيع أن يثير الشك
في قلب ذلك الزوج المحب. فابتدأ متظاهرا بالتردد في اتهام الزوجة وجعل يلمح إلى إن الشرف أغلى متاع للمرء حتى إذا ما رأى (عطيل) ينساق مع الغيرة جعل يتظاهر بذم غيرة الأزواج على نسائهم حتى دفع الزوج المسكين إلى أن يفتح قلبه وعقله للاتهام. وهذا البدء هو الموضع الذي نقلناه.
قال مطران في ترجمة تلك القطعة:
ياجو: حسن السمعة للرجل والمرأة يا سيدي العزيز أثمن جوهرة من حلي النفس. من يسرق كيس نقودي يسرق شيئا زريا. كان لي واصبح له وكان قبلنا لألوف آخرين. أما الذي يسرق حسن سمعتي فيختلس شيئاً لا يغنيه ويجعلني فقيراً جهد الفقر.
عطيل: وأيم السماء لأعرفن أفكارك
ياجو: لن تعرفها ولو كان قلبي في يدك. فهل تصل إليها وذلك القلب في حراستي.
عطيل: آها!
ياجو: أي مولاي أحذر الغيرة. تلك الخليقة الشوهاء ذات العيون الخضراء التي تسخر مما تتغذى به من لحوم الناس. الرجل الذي يثلم عرضه فيعرف مصابه ويكره جالبه عليه سعيد. سعيد بجانب ذلك الذي يقضي الدقائق الجهنمية شغفا إلا انه مستريب. عاشقا أشد العشق ولكن تساوره الشكوك.
عطيل: يا للشقاء!
ياجو: الفقر مع القناعة غنى بلا جاه عريض. أما النعم التي لا تحصى فتكون فقراً عقيماً عقم الشتاء البارد للذي يخشى أبدا أن يصبح معسرا. اللهم يا ذا الراحم أعف من الغيرة نفوس أمثالي.
عطيل: لم كل هذا، أتظن إنني سأعيش هذه العيشة مغيِّرا ظنوني كلما تغير هلال. كلا. متى نفذ الريب ثبتت النفس على حالة معه. تبدل مني بتيس قطيع يوم أدع نفسي بين أيدي الشبه التي تحدثها كل دسيسة. أنا لا تستفز غيرتي بأن يقال لي إن امرأتي جميلة وأنها
لطيفة المحاضرة وأنها تحب معاشرة الناس وأنها طليقة النفس في أحاديثها وتغني وتلعب وتحسن الرقص، كل هذه الأفعال تكون فاضلة متى كانت المرأة فاضلة. الخ
وقال المترجم الآخر في تأدية القطعة نفسها:
ياجو: شرف الإنسان أغلى (سيدي).
من سواد القلب هذا يستوي
فيه من كانوا ذكورا أو إناثا.
إن من يسرق مالي إنما
نال مني تافهاً غير خطير
إنما المال متاع هيّن
فلقد كان معي ثم مضى
ليديه بعد حين مثلما
كان قبل الآن عبداً لألوف
إنما سالب عرضي نال ما
ليس يغنيه وقد أفقرني
عطيل: قسماً لا بد من كشف ضميرك
ياجو: لا. لن تكشفه حتى ولو
كان ذاك القلب ما بين يديك
لا. ولن أفصح ما دام هنا
بين أضلاعي.
عطيل: ها!
ياجو: أيها السيد حاذر (لا تطع
هذه الغيرة) حاذر إنها
غولة ذات عيون خضرة
إنها تسخر من مقتولها
بعد أن تنهشه - كن حذرا
إن من يعرف في زوجته
أنها تخدعه، لكنه
ليس يهواها فلن تزعجه
إنما البؤس لمن في شكه
يتلظى والهوى يكوي فؤاده
عطيل: وا شقاءاه
ياجو: موسر من كان في الفقر قنوعا
وأشد الفقر مال طائل
مع خوف الفقر. ربي نجني
من لظى الغيرة واحفظ منه أهلي
عطيل: لم هذا القول؟ هل تحسبني
ذلك الغيران يمضي هائما
سابحا في غير من شكه
مثلما يسبح في أبراجه
قمر الليل؟ فلا كنت إذن
إنني إن كنت أمضي هائما
مثلما تحسب لم أبلغ سوى
مبلغ التيس. ولكن عزمتي
عزمة لا شك فيها إن بدا
لي وجه الريب. إني لا أرى
سببا للريب عند امرأتي
لو يقول الناس عنها أنها
ذات حسن. تشتهي الأكل اللذيذ
أو تحب الناس. أو ثرثارة.
أو تغني. بل إذا ما زعموا
أنها تلعب أو تحسن رقصا
ليس هذا الوصف عيبا. إنه
صفة محمودة عند العفاف.
ولعلي أستطيع أن آتي لقراء الرسالة ببعض أمثلة أخرى من هذا النوع من أساليب القول. تاركا لهم أما الانتصار له وإما خذلانه. فإذا وجدوه صالحا كان بابا يستطيع ذوو المقدرة من شبان الأدباء أن يلجوا منه إلى ميادين فسيحة.
العشق النجمي
للدكتور محمد عوض محمد
لئن كنت أيها القارئ ممن وقاهم الله غائلة العشق، ولم تنفجر في
صدورهم قنابل الغرام، ولم تضع المقادير قلوبهم بين سندان الشقاء
ومطرقة البلاء، إذن فأحمد الله، واشكرجدك الباسم!
لكن إذا كنت خلياً فاذكر الشجي، ولا تمنعك السعادة من أن ترثي للشقاء؛ فأن لصرعى الغرام عليك حقا، أن تذرف من أجلهم لتراً أو لترين من الدمع الساخن، ثم تسقي به ثراهم وتروي به الطلحة الحزينة التي تظل جدثهم.
وأني محدثك اليوم عن ضرب جديد من العشق، أو على الأقل ضرب كنت أحسبه جديداً. . إلى أن ألفيته قديماً، شأن كل الأشياء التي يطلع علينا بها المجددون. .
بيد أن العشق الذي نحن بصدده، إن لم يكن جديداً، فقد استحدثنا له اسمأً جديداً. ودعوناه (العشق النجمي). . وهو كما ترى
أسم طريف؛ ليس في الكتاب من سبقنا إليه. . . ولا خير في كاتب لا ينهض للجليل من الأمور فيبتدع لها الجديد من الأمور فيبتدع لها الجديد من الأسماء.
وأول من أصيب بالعشق النجمي فيما نعلم؛ أو على الأقل أول من سجلت أصابته رسمياً، هو العباس بن الأحنف إذ يقول عن حبيبته:
هي الشمس مسكنها في السماء
…
فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصعود
…
ولن تستطيع إليك النزولا
هكذا كان ذلك العشق المسكين: يطلب ما ليس إليه سبيل، ويظمأ والشراب عزيز، ويشتهي وقصارى جهده أن يشتهي.
ولعمرك مادام مناط حبه الشمس، فليس حظه منها سوى التطلع والتحديق، والزفير والشهيق. . هل كان يعلم عفا الله عنه! أن بينه وبين الشمس 92 ، 000 ، 000 ميلا في الصيف و 93 ، 000 ، 000 ميلا في الشتاء؟ وهي في كلا الحالين بعيدة المنال، ليس إليها في شتاء ولا صيف وصول.
ومن العبث أن ننصح أمثاله من العشاق أو نعذلهم، أو نطلب إليهم أن يصرفوا هواهم إلى
الممكن المتيسر، والقريب الداني. وان يراعوا صحتهم، فأن في طلب المحال سقماً وسهداً وإن التحديق في الشمس يضني القلب كما يضني البصر. . ولكن هيهات. . .
إن المحب عن العذال دائماً في صمم.
وأحسب القارئ قد أخذ الآنيفهم ما أعنيه بالعشق النجمي. وأظنه يتوهم أن العشق النجمي هو عشق الشيء البعيد المنال. . لكن هذا ليس الذي أرمي إليه. إن العشق النجمي هو عشق النجوم نفسها. . أجل النجوم التي في السماء على طريقة العباس بن الأحنف المذكور. ورويداً يظهر لك ما أظمره، شيئاً فشيئاً.
هنالك أمراض تصيب الناس من آن لآن. لكنها تصيبهم فرادى. أي تصيب هذا مرة، وذاك مرة أخرى. ثم يأتي بعد ذلك زمان تصبح فيه تلك الأمراض وباء يجتاح العالم كله إقليماً بعد اقليم، وشعب بعد شعب.
وهكذا (العشق النجمي) كان فيما مضى يصيب الناس فرادى، فأمسى الآن وباء شائعاً فاشياً، قد ملأ السهل والجبل وانتشر في المشرق والمغرب. وسبب ذلك أن قد ظهرت في العالم سماء جديدة تدعى (السينما) وقد امتلأت أرجاؤها بالنجوم.
والعشق الذي تتأجج ناره في قلوب المغرمين ببعض هذه النجوم لا يختلف، في كثير ولا قليل، عن ذلك الهوى المبرح الذي وصفه لنا العباس بن الأحنف. وقد يظن بعض البسطاء أن نجوم السينما أدنى إلينا وأقرب منالا، إذ نراها أمامنا ونشاهدها بأعيننا. وهذا لعمرك خطأ محض! فإنها قريبة على بعد، بعيدة على قرب.
والشرق نحو الغرب أقرب شقة
…
من بعد تلك الخمسة الأمتار. . .
والآن قد أدركت أيها القارئ ما (العشق النجمي) وأنه هو تلك اللوعة التي تحرق قلوب الناس في مشارق الأرض ومغاربها ومن أجل بعض النجوم التي تدور في أفلاك تدعى (الأفلام) في سماء يسمونها (الشاشة) البيضاء.
فالعشق النجمي أذن منسوب إلى نجوم السينما، وبالله لا تقل كواكب السينما! لأن الكواكب في علم الهيئة قريبة المنال دانية المزار ومن علمائنا اليوم من يحلم بالوصول إلى بعض الكواكب كالمريخ، أما النجوم فبعيدة بعد الشيء المستحيل وكذلك العشق النجمي فأن مرامه بعيد، ومأربه محال.
وأكبر ما يمتاز به هذا العشق أنه عذري. . فأنك قد تولع بنجمة فتانة من نجوم هوليود، فيمتلئ بحبها قلبك، وتملك عليك مشاعرك، فلا ترى في الأرض الفسيحة غير وجهها، ولا تسمع غير صوتها. هي حلمك إذا هجعت، ونجواك إذا صحوت. إن أبصرتها في قصة حزينة استولى عليك الحزن والألم. وإن أصابها برد أو زكام أصابك مثلها سعال وزكام. وإن رأيتها ويا للهول!، صريعة قتيلة، قطع الحزن نياط قلبك، وأظلم العالم في وجهك، فلا تزال كئيباً أسيفاً، جاحظ العين متقلص الشفتين، حتى تراها في فلم آخر فرحة ضحكة؛ فيسري عنك؛ وتبرق أسارير محياك. وتضحك حتى تبدو نواجذك. .
ومن الغريب انك لا تأخذك الغيرة حين ترى عشاقها الكثيرين، ولا تستنكر منها أن تبدل في كل فيلم زوجاً مكان زوج أو صاحباً مكان آخر. لا يهمك من هذا كله شيء لأنك لا تفكر في سعادتها، فكل ما ترضاه ترضاه. ويحلو في عينك ما يحلو في عينها. بل لقد ألهاك التفكير فيها عن التفكير في شيء آخر. . .
ثم أنت بعد كل هذا لا ترجو نوالا ولا وصالا، تعلم أنها بعيدة عنك بعد النجم. وإن قرّبها منك الفلم. وقد رضت النفس على هذا البعد الممزوج بالقرب، وهذا النوال المنطوي على الحرمان. وهذا الوصل الذي هو أدنى إلى القلي والهجران.
فلا تريد على حبك جزاء ولا لدائك دواء. ذلك أن هواك عذري أفلاطوني بريء. فلا تريد لنارك المتأججة أن تطفأ، ولا لغليك المستعر أن يشفى. حب هو الغاية والوسيلة، نار تأبى إلا اضطراماً ودمع يأبى إلا انسجاماً، وتنور يريد أن يفور، وكان يحلو له أن يثور. من غير مأرب تنشده، أو أمل تريد تحقيقه، أو غاية تبغي الوصول إليها. . بل إن الحب هو الشغل الشاغل عن كل أمل أو مأرب أو مرام. .
تلك إذن هي الظاهرة الأولى للعشق النجمي: انه هوى عذري طاهر عفيف نظيف. أما الظاهرة الثانية لذلك العشق. فهي انه يصيبك من بعيد. . وقديماً وصف لنا الشريف الرضي هذه الظاهرة فقال يخاطب نجمته!:
سهم أصاب وراميه بذي سلم
…
من بالعراق. . . لقد أبعدت مرماك!. . .
ذو سلم هذا مكان في جوار المدينة المنورة، يكثر الشعراء من ذكره حين ينسبون. ولو كان لديك أيها القارئ مصور جغرافي لأمكنك أن تقيس المسافة بين العراق وذي سلم، ولعلمت
أنها لا تتجاوز سبعمائة من الأميال. ومع ذلك يندهش
الشريف الرضي لان سهم الحب قد أصابه من ذي سلم والشاعر في العراق. لكن تلك المسافة لا تعد شيئاً إذا قورنت إلى البعد الهائل الذي يفصل ما بين هوليود وبين وادي النيل السعيد. . وأن النجمة الفاتنة لترمي بسهمها من تلك الأقطار القاصية.، فلا يلبث أن يصيب صميم الفؤاد، ويفتت الأكباد، في شرق العالم وغربه. لا تحول دونه بحار ولا قفار. . .
وفي الحب العادي قد يكون البعد من أسباب السلو، والبعيد عن العين بعيد عن القلب في زعم الناس. لكن البعد بين المحب والمحبوبة شرط أساسي في هذا الصنف من الغرام. بل إني زعيم بأن عاشق النجمة لو رآها على قارعة الطريق، وهي تبتاع شيئاً من الحلوى، أو داخلة إلى دكان الحلاق. . لرأى شيئاً كسائر الأشياء وامرأة كسائر النساء، ولما حدثته نفسه بأن قد يصيبه من مثل هذه قنبلة غرام. . بل ولا سهم ضئيل. .
كلا إنما يلعب حب النجوم بالأرواح عن بعد. ومن مستلزماته تلك الحجرات المظلمة القاتمة، تبعث في النفس رهبة، وتثير فيه شغفاً ورغبة. وهذه الأنوار الساحرة تنبعث من مكان خفي، وتسطع على لوح فضي: ظلام يتوسط النور، ونور يحيط به الظلام. وحسبك تلك الحال السحرية باعثة على الشجن، ومثيرة لمكامن الجنون.
وهكذا تستطيع النجمة، وهي على سواحل المحيط الهادي أن ترسل أشعتها إلى أطراف العالم، وتنشر شباكها في جميع الأقطار.
هذا وللعشق النجمي خصائص أخرى، ولكننا ضربنا عن ذكرها صفحا، لأنها تعد في المرتبة الثانية من الأهمية، وحسبنا ما ذكرناه وصفا لأعراض ذلك المرض. . أستغفر الله بل تلك العاطفة القاهرة، التي استرقت قلوب الناس من شباب وكهول، وصفدتهم بسلاسلها وأغلالها. وقد أسلموها قيادهم طائعين خاضعين. .
لقد تحسب أيها القارئ أن فيما ذكرناه غلوا أو أن نصيب الخيال فيه أكثر من نصيب الحقيقة. . وفي الحق أننا ما كنا نعلم أن لهذا الشيء وجوداً أو أن شره قد استفحل. وخطره قد أشتد إلى هذا الحد، لولا أن صديقنا العزيز (رشاد) قد أصابه ذلكالسهم، فأحزننا مصابه. ولقد تتاح لنا قريباً فرصة أخرى فنحدث القارئ بحديث ذلك الصديق وإن كان حديثاً أليماً.
هذا العذاب.
. .
للأستاذ راشد رستم.
دخل الغابة ينشد الوحدة الهادئة الهادية، فرآها أول ما رأى في صمت الجذوع وتحملها، ثم تمثلها عند تساقط الأوراق واستسلامها، وفي السكون الشامل الذي يحيط به، وفي اللون الأخضر القاتم الذي يغشاه، ثم سمعها في أنين الغابة الداوي، ولاقاها عند الغدير الصغير الجاري، ورآها في قاع مجراه الصافي كامنة بين الحصا الأبيض الناعم، ثم شاهدها في تهدل الأغصان واضطرابها، وفي رعشة الأوراق المتحيرة ذات الحفيف المحزن، ووجدها ساكنة في الأعشاش الخاوية، ولمحها عالقة بأجنحة الطير المتثاقلة وهي تبيت. وفي آخر أشعة الشمس الصفراء وهي تغيب.
جلس في تلك الظلال القاتمة وحيداً بين الشجر، ينظر إلى السماء الناعسة يستنجدها وحيها المهيب. أو يستودعها سره العجيب. وقد بدت فروع الأغصان مع الأوراق على صفحة السماء وقت هذا الغروب في لون من سواد كئيب، كأنها (دنتلة) الحزن على صدر أملس رائع أسيف. قد صبغته نيران الزفرات والتنهدات بلون الشفق الوردي الهادئ صدر واسع عميق جذاب تحنو عليه شفاه الرحمة والإشفاق بقبلات العطف والحنان تترك فيه آثارا من حرارة التضامن الكامن في الصدور بين قلب حنون وآخر محزون. .
لم يفكر في شيء، فقد أحاطت به الأفكار من كل جانب، قام هارباً من تهافت الأفكار متعمقاً في الغابة يطلب الهدوء الأصيل في حضنها الظليل، ومن هاجمته أفكاره أعجزته تفكيراته، وقد يضيع بها أو يبقى بينها حيران زماناً حتى تجذبه إحداها فتشغله عن سواها، وهكذا يفر المرء من عذاب إلى عذاب.
على أنه وقد وجد سكينته عند الطبيعة فقد سلبها منه وآلمه فيه ابن الطبيعة، طلع عليه من خلال الأشجار أطفال يلعبون، والناس ملائكة صغاراً شياطين كبارا.
كَمِنَ له الصغار لما رأوه مقبلا هائماً، انتظروه إذ ظنوه سارحا هادئاً. فاجئوه يحسبونه خائفاً، فلما وجدوه رابطا ثابتا، عادوا يخشونه متحفزا ثائراً. ثم تنبه هو من تيهه فوقف باسماً، يدعوهم لاعبا مسالماً ضاحكاً، ولكنهم من الرجفة الأولى يفرون مستنجدين صارخين. فأنجدهم أهل لهم في الغابة يحتطبون، يسألونهم عن أمرهم وما دهاهم من
مفترس أو روح شرير، فكانوا يبكون صامتين، يشيرون إلى مكان قريب.
مفترس! وحش! روح شرير!!
ليس في المكان إلا ما في الغابة من شجر ووحشة ودوي طويل. خرج عليهم (الوحش) يدعوهم إلى الهدوء والاطمئنان. فتلقوه مؤنبين معرضين، فتولى عنهم في غيظ وكمد. مختفياً في الغابة الممتدة الواسعة. تلك الغابة العنيدة التي هو سيدها ومالكها والتي يهبها صدقه يسمح بحطبها وحياتها ومتاعها حلالا طيباً للسائلين والمحرومين.
أقبل على الغدير الصغير، وهنالك أمام خرير الماء الطاهر البريء، الجاري من الأزل إلى الأبد، وقف في إطراق وصمت وتسليم قليلاً ثم نظر إلى العود الذي يتوكأ عليه. وهو من حطب الغابة، وكتب به في بطء ولين وتفكير كلمات لا شك أنها ذاهبة مع الماء في مجراه. .
ثم أتخذ سبيله عائداً إلى البيت الذي يأويه وكان قد هجره بمن فيه وما فيه.
وإذ هو يمشي وئيدا كئيباً وقد طواه غسق الليل، أبصر المحتطبين خارجين من الغابة فرحين محملين وهم يذكرون الوحش المفترس والروح الشرير. . .
تثور نزعاته تطلب لوجودها جهراً. ولكنه يكظمها في نفسه صبرا، ثم تفور عواطفه فورا. فيحبسها في صدره غورا ثم يسرع الخطى على غير هدى قليلا حتى يدله الألم الساري وسط ظلام الحياة على حقيقة عذاب الإنسان للإنسان، ومكان الإحسان عند الإنسان، وأن الجهر بالإحسان إحسان. .
ثم يذكر ما كتب على صفحة ذلك الغدير الصغير، ويردده في ألم وثورة وأسف، حقاً إن في صمت الإحسان جنة للناس وعذاب للمحسنين. .
التجديد في الأدب
يناقش الدكتور عبد الوهاب عزام الأستاذ أحمد أمين في رأيه عن التجديد في الأدب، وقد دفعتني هذه المناقشة إلى إبداء رأي وذكر مناقشة، أما الرأي فهو: إن المعاجم اللغوية التي يقول الأستاذ أحمد أمين إن فيها (ألفاظا كثيرة ليس لها قيمة الا أنها أثرية تحفظ فيها كما تحفظ التحف في دار الآثار)، في هذه المعاجم ألفاظ كثيرة لها قيمة عظيمة عند من يحسن الأداء بها في مواقعها وكثير منها يؤدي لنا عن معان كنا نظن أن ليس لها في الألفاظ العربية ما يدل عليها، فالبحث عن هذه الألفاظ واستعمالها يزيد من غير شك في حيوية اللغة ونمائها، وقد فعل الدكتور محمد شرف والدكتور أحمد عيسى شيئاً من ذلك في معجمهما عن الحيوان والنبات، فكشفا في هذه القواميس عن ألفاظ عربية لنباتات وحيوانات كنا نستعمل عند الدلالة عليها أسماءها العلمية اللاتينية. وذلك لظننا خلو لغتنا من أسمائها.
وأما ما ذكره الأستاذ أحمد أمين من إلغاء هذه الألفاظ لأن الذوق العام للقراء لا يسيغها الآن، فأنا أظن بأن درجة المعرفة التي يصل إليها جمهور القراء ليست كافية للاعتبار والحكم على اللغة والكاتبين، والكاتب النافذ البصيرة له أن يقدم لهذا الجمهور القارئ ما يرى أنه مفيد من الألفاظ للإبانة عما يريد من معنى أو إحساس، ولو كان الجمهور القارئ لا يعرف هذه الألفاظ أو لا يسيغها ذوقه، ولكن المهم أن يقتصد في ذلك على الضروري المفيد ولا يتعمد الأِغراب.
هذا مع ملاحظة أن ما لا يسيغه ذوق الجمهور هو الأقلية من هذه الألفاظ المهجورة.
هذا عن رأيي، وأظنني فيه قريبا من الدكتور عزام وإن كنت أخالفه في بعض الشواهد التي أوردها في مقاله وفي بعض الآراء كذلك.
وأما عن المناقشة فقد جرت منذ شهور بيني وبين كاتب من كبار كتابنا المتحمسين لتبسيط اللغة، وكان يقول إن هذه الألفاظ الموجودة في القواميس هي مثل الزوائد والبقايا الأثرية في جسم الإنسان (كالزائدة الدودية وعجب الذنب مثلا) ويجب علينا طرحها لنكسب الوقت والسرعة، فقلت أنا، إن في هذه القواميس ألفاظا تؤدي لنا عن معان نتحير الآن في الأداء عنها بكلمة واحدة، فنعبر عنها بجملة أو سطر، فلو أننا استعملنا هذه الألفاظ وأشعناها لاكتفينا بلفظ واحد عن هذه الجملة أو السطر، فكسبنا بذلك الوقت والسرعة ولفظاً جديدا يزيد في لغتنا سعة، فقال: اذكر مثلا، قلت: أقرب مثل هو صديقك فلان الذي عرفتني به
أخيرا، فقد لاحظت ان لون عينيه مختلف فله عين زرقاء والأخرى كحلاء. فلو أردت أن أذكر لك هذه الصفة فيه استعملت لها سطراً من الكلام، ولكني وجدت في القاموس كلمة واحدة تؤدي هذا المعنى كله وهي (أخيف) وهذه الكلمة نفسها تغنينا عن جملة أخرى، فإن الأبناء الذين هم من أم واحدة وأباء شتى يقال لهم (أخياف) فيمكنك في الأول أن تقول (فلان أخيف) بدل (فلان إحدى عينيه زرقاء والأخرى كحلاء) وفي الثاني (هؤلاء الاخوة أخياف) بدل (هؤلاء الاخوة من أم واحدة وآباء شتى)، وقد كسبنا بذلك الوقت والسرعة ولفظة جديدة، وهذه الكلمة لا أحد يقول (حتى الأستاذ أحمد أمين) إنها نافرة أو ثقيلة على الجيل الحاضر، وقد استعملها ابن زيدون في قطعة جميلة من شعره.
فقال صديقي الكاتب الكبير في صيغة التحدي والتهكم، إنك بذكر هذا اللفظ أطلت في الوقت وأضعفت من السرعة لأنك ستشرحها للقارئ بهذه المعاني التي ذكرتها، فكان خيراً لك وله لو انك اكتفيت بالشرح عن المشروح فلم تذكر اللفظ الواحد ثم تتبعه بجملة شارحة، فقلت أنا أولاً لا أسلم بضرورة الشرح فان القارئ واحد من أثنين، قارئ يقظ يقرأ ليفهم ويفتش عن كل كلمة ولا يكتفي بالفهم الإجمالي، وهذا القارئ عندما يجد هذه الكلمة (إذا لم يكن يعرفها) سيبحث عنها في القاموس حتى يعرفها، ومن المرجح انه بعد ذلك لن ينساها، وهذه وحدها فائدة أخرى، والقارئ الثاني يمر على الكلام مراً ويكتفي بالفهم الإجمالي، فهذا ليس يهمني أن أشرح له، ولعله هو أيضا لا يهتم لشرحي، وعلى فرض التسليم بضرورة الشرح لهذه الكلمة ومثلها، فان الشرح لن يكون الا بمقدار ما تشيع هذه الألفاظ وتعرف لجمهور القارئين وعند ذلك تترك وحدها فيفهمها القارئ ونكسب نحن وهو الوقت والسرعة وألفاظاً جديدة تزيد في لغتنا وتنميها، ثم ذكرت له بعضاً من الألفاظ والجمل استعملها هو بدءا وشرحها في أول ما استعملها وأصبحت الآن مفهومة لكل قارئ وشائعة على أقلام الكاتبين وألسنة الناطقين حتى كأنها تستعمل منذ مئات السنين.
ولعلنا نجد في المقالات القادمة للأستاذ أحمد أمين أننا فهمنا من كلامه غير ما يقصده هو، وعندئذ فنحن على وفاق، أو في (خلاف لفظي. . .) كما يقول الأصوليون.
محمود. ع. الشرقاوي. عالم من الأزهر
فلسفة كانت
للأستاذ زكي نجيب محمود
كانت الفلسفة وهي في مهدها مطمئنة إلى تلك الأداة التي اتخذتها سبيلا إلى تفهم الكون وما يحوي من سر مكنون، فكانت تأتمن هذا العقل الإنساني وتثق به وثوقا لا يعرف الشك، ولكنها ما لبثت أن اشتد ساعدها واستقامت على قدمين راسختين، فانقلبت على تلك الأداة نفسها، وداخلها الريب في أمانتها ودقتها فيما تنقل إلى ذهن الإنسان من صور العالم المحس، فتناولتها بالبحث والتحليل.
وتظن أن (لوك) كان أول من تصدى لذلك البحث في تاريخ الفكر الحديث، وقد انتهى بعد بحثه الطويل إلى إنكار الآراء الفطرية التي يقول دعاتها أنها تولد مع الإنسان كمعرفة الخير والشر مثلا، وأكد أن العقل عند ولادة الطفل يكون كالصفحة البيضاء، خالياً من كل شيء، وقابلا للانفعال بالبواعث المختلفة، فإذا ما مرت به تجارب الحياة المختلفة، تركت فيه آثارا لا تمحى، وطريق تلك التجارب إلى العقل هي الحواس وحدها، وليس في حنايا العقل أثر واحد لم يسلك طريق الحواس أولا، فالآثار الخارجية تنتقل إلى الذهن في احساسات مختلفة، ثم تولد هذه الاحساسات شتى الآراء والأفكار. وما دامت الأشياء المادية وحدها هي التي يمكن أن تنتقل عن طريق الحواس، إذن فكل معلوماتنا مستمدة من الأجسام المادية دون غيرها. ومعنى ذلك ان المادة عند (لوك) هي كل شيء.
ثم جاء (بركلي) وخطا بعد ذلك خطوة جريئة. فقد سلم بمقدمات لوك، ولكنه اختلف وإياه في النتيجة. ألم يقل لوك بأن معلوماتنا جميعاً مشتقة مما يجيء عن طريق الحواس؟ إذن فنحن لا ندري عن الشيء الخارجي الا الاحساسات التي تنبعث إلينا منه، والأفكار التي تتولد من هذه الاحساسات عند وصولها إلى الذهن. خذ تفاحة مثلا، فهذا لونها يصل إليك ضوءاً عن طريق العين، وهذه رائحتها تصل عن طريق الأنف، وذاك طعمها تعلمه عن طريق الذوق، وذلك ملمسها وشكلها يصلان إليك عن طريق أعصاب اليد، فإذا تناول هذه التفاحة كفيف البصر؛ علم عنها كل شيء الا لونها، وإذا كان فاقداً لحاستي الشم والذوق، اقتصرت معرفته على الشكل والملمس، فإذا فرضنا أن أعصاب يده فقدت عملها أيضا، أنكر صاحبنا وجود التفاحة في يده مهما قدمت إليه من وسائل الإقناع. فلولا الحواس لما
كان للأشياء الخارجية وجود بالنسبة إلينا على الأقل. فالحواس هي التي كونتها. ولذلك لم يتردد بركلي في إنكار المادة إنكاراً تاماً. ولا يعترف بوجود شيء الا حقيقة واحدة يحسها في نفسه وهي العقل.
أجهز بركلي على المادة فمحاها من صفحة الوجود، وأشفق على العقل فسلّم به، ولكن جاء بعده هيوم، فأبى أن يقف عند هذا الحد المتواضع من الإنكار، وسارع إلى العقل بمعوله فألقاه في هوة العدم! ما هذا العقل الذي يتشبث بوجوده بركلي؟ ابحث في نفسك بحثاً باطنياً وحاول أن تعثر على ذلك العقل باعتباره ذاتاً مستقلة، فلن تعود بطائل، ولن تصادف في نفسك إلاّ سلسلة من الأفكار والمشاعر والذكريات يسوق بعضها بعضاً. فليس ثمة عقل، ولكنها عمليات فكرية وصور ذهنية لا أقل ولا أكثر. وإذاً فقد انهار العقل كما انهارت المادة من قبل! وهكذا قوضت الفلسفة بفؤوسها كل شيء، ثم وقفت بين تلك الأنقاض الخربة لا تجد وقوداً يذكيها، فقد ضاع العقل وضاعت المادة ولم يبق لها منهما شيء!؟
ولكن الله قيض لها فيلسوفنا العظيم (عمانوئيل كانت) فأعاد البناء من جديد، وشيده على أسس قوية ثابتة لا تزال قائمة حتى اليوم. فقد أنكر بادئ ذي بدء ما ذهب إليه لوك والمدرسة الإنجليزية إنكاراً تاماً، لأن التجارب التي يقول عنها لوك أنها مصدر معرفتنا جميعاً، لا يتحتم أن تلازمها الصحة دائماً، فهي إن صحت نتائجها اليوم فقد تخطيء غداً، فضلا عن أنها تقتصر على الجزئيات ولا تتعداها إلى التعميم الذي ينزع إليه العقل بطبيعته، ومما لا ريب فيه أن لدينا من الكليات العامة ما يستحيل عليه الخطأ، كأن نقول مثلا أن 2 2=4 فهذه حقيقة لم نعتمد في تحصيلها على تجربة خارجية، وإنما اكتسبت ضرورتها من طبيعة عقولنا، فليس العقل الإنساني سلبياً، ليس قطعة من الشمع تولد خالية ثم تخط فيها التجارب ما تشاء كما ذهب لوك، كلا ولا هو أسم يطلق على سلسلة الحالات العقلية كما ادعى هيوم، انما هو عضو فعال، يتناول الاحساسات التي تأتي إليه من العالم الخارجي فيؤلف بينها، ويكون منها الأفكار المختلفة، ويصبها في القالب الذي يشاء. العقل الإنساني قوة إيجابية تعمل على تنظيم ملايين التجارب التي تصادف الإنسان في حياته، وتخلق منها وحدة فكرية منظمة! ولكن كيف؟
يجتاز العقل في ذلك مرحلتين: الأولى هي الانتقال من مجرد الإحساس إي وصول الأثر
إلى الذهن، إلى الإدراك، أي فهم ذلك الأثر المعين. والثانية هي الانتقال من هذه المدركات الجزئية إلى المعقولات والكليات العامة. وسنفصل هذا الإجمال فيما يأتي:
تأمل نفسك لحظة، تجد عدداً من المؤثرات لا يحده الحصر يندفع إليك ويتسلل إلى ذهنك عن طريق الحواس، فهذه عشرات الأصوات تنتقل إلى أذنك من جهات مختلفة، وتلك آلاف المرئيات تبعث ضوءها إلى عينيك، وها هو ذا جسمك يحس في كل جزء من أجزائه بالمؤثرات المختلفة: يحس نعومة ملابسك أو خشونتها. كما يحس الحرارة والبرودة. فهذه الاحساسات العديدة المختلفة التي تصل إلى ذهنك من أبواب متباينة، تسبح في العقل صماء دون أن يكون لها معنى خاص الا إذا تآلفت أجزاؤها وارتبطت بمكان وزمان، وذلك التأليف والربط لا بد لهما من قوة ايجابية، هي العقل. فأنت قد ترى اللون الأصفر وتحس الشكل الدائري، وتشم رائحة معينة، وتذوق طعما خاصا ولا يكون لكل تلك المؤثرات مدلول واحد، الا إذا جمع العقل هذه الأشتات وربطها بمكان خاص (في جسم برتقالة مثلا) وعندئذ ينتقل إحساسك إلى إدراك لهذا الشيء المعين. فالواقع إن الاحساسات الأولية ليست إلا مؤثرات متفرقة تجيء إلينا من الخارج. ولا يكون لها معنى بذاتها، وهذا ما يشعر به الطفل في أول حياته العقلية. إذ يرى لون البرتقالة ويلمسها بيده، ويشمها ويذوقها. ولكنه مع ذلك لا يعرفها فإذا ما نمت قواه العقلية، أخذت هذه المجموعة من الاحساسات تتجمع وترتبط بهذا الشيء، وبذلك ينتقل حسه إلى مرتبة المعرفة والإدراك، ولا تعود صفات البرتقالة تؤثر في ذهنه مستقلا بعضها عن بعض كما كانت الحال من قبل، بل تنتقل إلى ذهنه كتلة متحدة مترابطة لا انفصال فيها. ولكن كيف أخذت تتجمع هذه الصفات في الذهن حتى تكون منها كل لا يتجزأ له مدلول خاص؟ هل تم ذلك بطريقة آلية، أي أخذت تتراص بجانب بعضها البعض. فسارع لون البرتقالة ووقف بجانب الرائحة والطعم والشكل. حتى تكونت صورة البرتقالة في الذهن، دون أن يتدخل العقل في هذا التكوين؟ هنا يجيب (لوك) ومدرسته بالإيجاب وينكره (كانت) كل الإنكار: ولا يفهم كيف تتحد جزئيات الإحساس التي سلكت إلى الذهن ألف سبيل وسبيل من تلقاء نفسها، الا أن يكون هناك قوة تنظم هذه الفوضى الحسية، قوة تؤلف بينها وتوجهها في الطريق التي تريد. قوة تشكلها وتصبها في قالب المعنى. هي قوة العقل. وآية ذلك أن الإنسان يأتيه في
كل لحظة آلاف الاحساسات، ولكنه لا يقبلها جميعا، بل ينتقي من ذلكالجيش الجرار من الدوافع والمؤثرات ما يلائم حالته في تلك اللحظة المعينة، وهذا دليل قاطع على فاعلية العقل، ولو كان الأمر يتم بالطريقة الآلية التي زعمها لوك وهيوم، لما كانت هناك أفضلية لإحساس على آخر، بل يرغم الإنسان على قبولها بأسرها، فكل صوت يقرع الأذن لا بد أن يصل إلى الذهن، وهكذا في سائر الحواس. ولكن ليس هذا هو الواقع. فها هي ساعتي تدق على مكتبي أثناء كتابة هذا المقال، ولكنني لا أسمعها لأنني لا أريد أن أسمعها فإذا ما توجهت بإرادتي إلى استماعها، تم ذلك على الفور مع أن صوتها لم يرتفع عن ذي قبل. وقد تكون الأم نائمة مستغرقة في نومها، فتحدث جلبة شديدة. أو تمر موسيقى أمام البيت بطبلها وزمرها. فلا تستيقظ من نعاسها، أما إذا تحرك ابنها الرضيع في مهده حركة خفيفة، أو بكى بصوت منخفض، هبت من نومها مذعورة، فما الذي آثر عندها هذا الصوت الخافت على مئات الأصوات التي تقرع أذنها؟ ألا يكون هناك قوة فعالة تعرف كيف تختار من المؤثرات ما هو صالح ملائم.
خذ مثلا آخر يدلك على إيجابية العقل في الإدراك. . انظر إلى هذين الرقمين 3، 2، وأجر فيهما عملية الجمع، تسارع إلى ذهنك النتيجة وهي خمسة، ثم أقرأهما ثانية معتزما إجراء عملية الضرب تجيء إلى ذهنك نتيجة أخرى هي ستة. هاتان فكرتان أو نتيجتان مختلفتان نشأتا في الذهن من باعث واحد. وكان السبب في اختلافهما اختلاف الغرض الذي توجه به الذهن نحو ذلك الباعث، ويتضح من هذا أن العقل ليس مجرد آلة (كمرآة) تلتقط الاحساسات كما هي، وعلى رغم أنفها، ولكنه قوة تدعو من البواعث ما تريد. ثم تفكر فيها بأشكال مختلف. وهو يستعين في هذا التفكير بالغرض الذي يوجهه إلى المؤثرات الخارجية.
ولما كان لا مندوحة للعقل عن أن يفرض مكانا وزمانا يسند إليهما أثر الأحاسيس المختلفة. لأنه لا يستطيع أن يتصور مدركات مطلقة، فليس في مقدوره مثلا أن يفهم اللون الأبيض مجرداً عن (مكان) ولا أن يدرك حادثة الا إذا نسبها إلى (زمان)، إلى ماض أو حاضر أو مستقبل، أقول لما كان لا مندوحة له عن فرض الزمان والمكان لفهم المادة التي تقدمها له المؤثرات الخارجية. اخترعهما اختراعا، فهما ليسا حقيقتين في ذاتهما. أي ليس في الوجود
الخارجي زمان ولا مكان، إنما خلقهما العقل ليتخذهما وسائل للادراك، وسبيلا لصب المعاني في المحسات.
شرحنا فيما سبق كيف تنتقل الاحساسات المنبعثة من الأشياء الخارجية إلى إدراك، ونريد الآن أن نوضح الخطوة الثانية التي يجتازها العقل في أداء وظيفته، عند الانتقال من هذه المدركات إلى مرتبة المعقولات أي تصور العلاقات الكائنة بين أجزاء الوجود بعضها ببعض، وبعبارة أخرى تلك الخطوة التي يخطوها العقل من مرحلة التجارب الجزئية إلى العلوم الكلية. فكما أن للعقل قوة يتمكن بها من تنظيم البواعث المختلفة في قالب المكان والزمان، فيدرك بذلك معنى الأشياء، كذلك له قوة أخرى، تجيء بعد هذه، وهي التي تنظم تلك المدركات في قوانين عامة، كقانون السببية، وقانون الجاذبية، وما إلى ذلك من النواميس التي تبوب على أساسها معلومات الإنسان، وهذه العملية هي كنه العقل وطبيعته. فالعقل عبارة عن عملية تنظيم التجارب وتبويبها، وهو في هذا التبويب والترتيب إيجابي فعال، وليس كما توهم لوك وهيوم قطعة من الشمع اللين التي تشكلها التجارب المختلفة وإلا فهل تستطيع أو تتصور الوحدة الفكرية التي تشتمل على فلسفة (أرسطو)، والتي تكونت ولا ريب من جزئيات أتته عن طريق التجربة والحواس، هل تستطيع أن تتصور أن تلك الجزئيات قد نظمت نفسها بطريقة آلية حتى بدت متماسكة في فلسفة متحدة، دون أن يتدخل العقل في ذلك التنظيم؟
تخيل أن بطاقات دار الكتب قد انتثرت في غرفها واختلطت ألفها بيائها، فهل تصدق أن هذه البطاقات تستطيع أن تجمع نفسها وترتب صفوفها؛ وتسلك طريقها إلى قمطراتها في نظامها الأبجدي؟!
هل يمكن أن يتم ذلك دون أن يتدخل الإنسان ويتناولها بالترتيب؟
كذلك حال العقل مع المدركات، فهي في الكون شتيت متضارب، وهي تصل إلى الذهن في هذه الفوضى: ألوان متباينة، وأصوات مختلفة، وأذواق عدة، وأشكال متنوعة، فيأخذ العقل في ترتيبها وتبويبها حتى ينتهي بها الأمر إلى هذه العلوم المنظمة المنسقة، وبديهي أن هذا التنسيق لم ينبعث إلينا من الأشياء الخارجية نفسها، وإذن فقد أخطأ لوك كل الخطأ حين زعم أن العقل سلبي، تنقش فيه التجارب بطريقة آلية، فإذا لم يكن الأمر كذلك فهل يستطيع
لوك أن يبين لنا كيف ان التجارب الواحدة تؤثر في مجموعة من الرجال، فتخرج منهم هذا الغبي وذاك الفيلسوف؟
كلا! لا ندحة عن التسليم بإيجابية العقل وقوته في تكوين المدركات من الاحساسات أولا، ثم في تكوين المعقولات من المدركات ثانيا.
وإن صح هذا التحليل، فيكون العالم كما نعرفه من تكوين عقولنا وصنعها، فنحن لا نعلم عن الأشياء الخارجية إلا مظاهرها التي تنتقل الينا، وليس في مقدورنا أن نتغلغل في بواطنها، وقد تكون هذه الصورة الذهنية التي كونتها عقولنا عن العالم الخارجي بعيدة جدا عن الحقيقة في ذاتها، فنحن لا نعلم عن القمر مثلا إلا ما انبعث إلينا منه من احساسات زائداً ما عملته عقولنا في تلك الاحساسات، فتكونت لدينا من هذا المزيج صورة عقلية عن القمر، أما أن هذه الصورة العقلية تطابق الواقع أو لا تطابقه، فلا يستطيع البشر أن يجيب!
وهكذا أثبت (كانت) وجود المادة، إلا أنه أنكر أن تكون فكرتنا عنها على مثال الحقيقة الواقعة.
ثم يعود (كانت) بعد ذلك فيرفض ما زعمه لوك من أن العقل يولد كالصفحة البيضاء، ويؤكد في يقين انه إنما يرث شعوراً لا يأتيه عن طريق التجربة والحواس ولا بد لكل إنسان أن يسلم بوجوده، هو ذلك الشعور الذي يدلنا على أن هذا خير وذاك شر، هو ذلك الشعور الذي لا يفتأ يؤنبك إذا نبوت عن جادة الخير ويطمئن ما دمت سالكها، هو ذلك الشعور الذي تحس من أعماقك انك لو اتبعت ما يمليه عليك، وحذا حذوك البشر أجمعون، لكان الخير كل الخير. ذلك الشعور الذي يقف لك بالمرصاد والذي يولد معك. هو الضمير. ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر هذا الصوت الواضح الجلي الذي يضيق للشر ويطمئن للخير. فأنت قد تكذب. وقد تنهب حقوق غيرك. ولكن لا يسعك إلا الاعتراف ولو أمام نفسك إن هذا خطأ ولو خيرت لما رضيت أن يسود الكذب والسلب بين الناس. وكل إنسان على الإطلاق يحمل بين جنبيه هذا الوازع الذي لا تأخذه عن أعمالك سنة ولا نوم، والذي يملي على صاحبه في غير لبس ولا غموض ما يجوز عمله وما لا يجوز.
وهذا الخير الذي يمليه الضمير إنما يقصده لذاته على الرغم من انه قد يتضارب مع صالح الفرد تضاربا صريحا. فالمثل الأعلى الذي يصبو إليه هو أداء الواجب دون النظر إلى
السعادة الشخصية.
ووجود الضمير دليل قاطع على ما للإنسان من حرية الإرادة لأن معنى رقابته أن الإنسان يستطيع أن يسلك هذا السلوك أو ذاك. ولو كان الإنسان مرغماً على أن يسير في طريق مرسومة لما كان لهذا الضمير فائدة. وكذلك يدل وجود الضمير على خلود الروح. ذلك لأن الحياة الدنيوية لا تأخذ المجرم بالقصاص في كل الأحيان، لا بل تضرب لنا الحياة آلاف الأمثلة بأن الشر هو السبيل إلى السعادة الشخصية، تعلمنا الحياة أن نمكر بالآخرين وأن من لا يظلم الناس يظلم، ولكنا على الرغم من ذلك ننشد الخير وننبذ الشر، فهذا الشعور لم يستمد من الحياة طبعا، فمن أين جاءتنا تلك النزعة للخير إذا لم نكن نعلم في أعماقنا أن هذه الحياة الدنيا ليست كل شيء، بل هي جزء من حياة ثانية خير وأبقى من الأولى، وأن هذا الطيف الزائل ليس الا مقدمة لبعث جديد؟
ثم يستطرد (كانت) في هذا المنطق، حتى يصل إلى إثبات وجود الله عز وجل، لأنه إذا كان الشعور بالواجب الذي يمليه الضمير بتضمن الدليل على حياة أخرى خالدة تجزي كل امرئ بما قدمت يداه، فهذا الخلود ناشئ بالضرورة عن سبب يلائمه، كي تتكافأ العلة والمعلول، أو بعبارة أخرى لا يمكن أن تتفرع الحياة الخالدة الا عن إله خالد.
هذا هو البناء الشامخ الذي شيده كانت، ولا يزال قائما في عالم الفلسفة تعمل فيه معاول الهدم فلا تنال منه الا كما تنال الريح الهينة من الجبال الشم الرواسخ، وعلى الرغم من أن كتاب القرن التاسع عشر حاولوا أن ينقضوا رأيه في الأخلاق والدين فقال قائل أن ليس ثمة ضمير يملي الخير، لأن الخير ليس مطلقاً فما هو خير اليوم قد يكون شرا غدا؟ وسخر ناقد من منطق (كانت) في إثبات وجود الله، فقال انه (كالحاوي) الذي يخرج من قبعته الفارغة ما يشاء، يريد بذلك انه انتزع نتيجة من مقدمات لا تؤدي إلى ذلك. أقول على الرغم من ذلك جميعا فلا يسعنا إلا أن نطأطئ الهامات إجلالا له وإكبارا.
المغنية الضريرة
من رسالة إلى صديق
أنت تأخذ على تبرمي بالحياة وانقباضي عما تزخر به القاهرة من شهوات السمع والبصر. ولكن أنسيت أن العين التي بيضها الحزن لا تستطيع أن تجتلي جمالا يرف في روضة، ولا حسنا يشرق في طلعة. وأن الفم المريض أزهد ما يكون في طعام وشراب. أنسيت أن صديقك كان يقطع أيام الشباب في مثل طلعة الصبح إشراقا وبهجة. ثم أمسى وقد استحال كل أولئك إلى ذكريات أليمة تعاوده في غرفة معزولة تدور به في مثل حلقة الواو كربا وضيقاً، فهو أبدا موصول الحنين متتابع الزفرات. أنسيت آمالي وأحلامي؟ (أما الآمال فقد عصفت بها النكبات حتى أحالتها إلى هشيم تذروه الرياح) وأما الأحلام فأنت تعرف أنها تكشفت عن رجاء ضائع وشباب هالك وحسرة لذاعة من شماتة الأعداء. ولكن مالي وللحديث في هذا ولست بسبيل من أن أتحدث إليك فيه اليوم؟ وإذن فدعني أحدثك حديث المغنية الضريرة التي سمعتها ليلة الأمس في حفل سعيت إليه في رفقة من الأصدقاء على الرغم مني. . . هي حلوة القسمات بديعة التكوين جميلة كالزهرة تسند في حدود الخامسة عشرة من عمرها. . . أخذت مجلسها على استحياء فيما يشبه أن يكون ذلة وانكساراً وشيئاً من الخجل غير قليل. وصدقني أن مرد ذلك فيما أعتقد أنها فقدت بصرها وهي طفلة لم تدرج بعد من لفائف مهدها. . وما أحسبك تعتقد أن سلاح المرأة في هذه الدنيا شيئا غير سهام العين. وفتنة اللحاظ ترسلها ذابلة مريضة، فإذا بها السيف حدة ومضاء، والشرك المنصوب لا يخطئ الفريسة ولا يعد والغرض. ولكن الأقدار التي قست عليها فجردتها من سلاحها الوحيد كامرأة لم تشأ أن تقسو عليها القسوة كلها فمنحتها صوتا عذبا حنونا يفيض بالأسى وتقطر من جوانبه اللوعة. . . وارتفع صوتها بالغناء حزينا شاكيا يهيج ودائع القلب. ويستدر روافد الدموع.
أتعرف ذلك البلبل الذي هاجمته جيوش الظلام. قصياً عن العش الذي عرف، والدوح الذي ألف، والنبع الذي منه رشف، والجو الذي في أنحائه غنى وهتف، أسمعته وهو بين لهفة إلى مهوى الفؤاد تقيمه، ووحشة من رهبة الليل تقعده، يصب ألحانه في إذن الوجود باكية حزينة تهز أوتار القلب. وتنتزع منه العطف والإشفاق والرثاء؟ أسمعته يشكو بغير لسان،
ويبكي بغير دموع فيبعث لك من الماضي البعيد كل دفين ومستور؟ إن كنت سمعته على هذه الصورة التي أسلفت لك. وكنت مثلي تحيا على أمل عزيز لديك ففقدته، وكنت مثلي تذيب حبة قلبك وجداً على حبيب يجزيك على عبادته كفرانا وجحوداً وعلى دمعك المسفوك ووجدك المبرح هوانا ونسيانا. إن كنت كذلك فأنت وحدك الذي يستطيع أن يدرك ذلك الأثر العميق الذي خلفته في نفسي تلك الفتاة الناشئة بصوتها الساحر الجميل. غناء كأنفاس الفجر ندية لينة، وشدو يصافح الأسماع في رفق ولين كنجوى العاشقين في هدأة السحر وقد بسمت لهما الدنيا وهاودتهما الأقدار والسلام!!.
عبد الوهاب حسن. قلم نشر مطبوعات الحكومة بوزارة المالية
في الأدَب العَرَبي
ابن خلدون والتفكير المصري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 4 -
قضى ابن خلدون في مصر ثلاثة وعشرين عاما (784 - 808 هـ) ولكنها كانت بين مراحل حياته أقلها حوادث وأقلها إنتاجا.
فأما عن الحوادث فان الحياة السياسية العاصفة التي عاشها ابن خلدون بالمغرب، والتي جاز خلالها معتركا شاسعا من المغامرات والدسائس الخطرة، وعانى كثيراً من الخطوب والمحن، كما نعم مراراً بمراتب النفوذ والسلطان، والتي هي في الواقع صفحة قوية شائقة في تاريخ المغرب في أواسط القرن الثامن: هذه الحياة المضطرمة العاصفة، استبدلها المؤرخ في مصر بحياة أكثر هدوءا ودعة. وفي مصر يعيش ابن خلدون شخصية عادية لا علاقة لها بشئون الدولة العليا، بعد أن لبثت بالمغرب ربع قرن روح هذه الشئون، يتجرد من ثوب السياسي المغامر ليتشح بثوب العالم المقتدر، وليستوحي نفوذه المحدود من هذه الناحية. على أن المؤرخ لقى في هذه الفترة حادثين من أهم حوادث حياته، هما فقد أسرته. ولقاؤه للفاتح التتري تيمورلنك.
وأما عن الإنتاج، فقد رأينا أن المؤرخ حقق أعظم أعمال حياته، أعني كتابة تاريخه الضخم ومقدمته الرائعة قبل مقدمه إلى مصر. ولا نعرف أن ابن خلدون وضع أثناء مقامه بمصر مؤلفاً جديداً. غير أن الذي لا ريب فيه هو أن وجوده بمصر على مقربة من المكاتيب والمراجع الشاسعة قد أتاح له فرصة التنقيح والتهذيب في التاريخ والمقدمة، خصوصا فيما تعلق فيهما بمصر والشرق، كذا استمر المؤرخ في كتابة ترجمة حياته أثناء إقامته بمصر، واستمر فيها إلى قبيل وفاته، وضمنها فصولا جديدة عن خواص دول المماليك المصرية، ونشأة التتار مما أشرنا إليه في موضعه. وكتب أثناء مقامه بالشام وصفاً لبلاد المغرب ورفعه إلى تيمورلنك كما قدمنا. كذلك لا ريب في أن ابن خلدون كان يعنى في دروسه ومجالسه ببث مذاهبه وآرائه الاجتماعية وشرحها.
غير أن ابن خلدون لم يستطع على ما يظهر أن ينشئ له بمصر مدرسة حقيقية، يطبعها
بآرائه ومناهجه، وقد كان حريا أن ينشئ مثل هذه المدرسة في بلد انقطع فيه للبحث والدرس أعواما طويلة. نعم ان التفكير المصري المعاصر ليس خلواً من تأثير ابن خلدون كما سنرى، ولكن هذا التأثير الذي كان حريا أن يزدهر بمصر وأن ينبث في مدرستها التاريخية التي كانت يومئذ في أوج قوتها، كلن ضئيلا محدود المدى. ونستطيع أن نرجع ذلك إلى الروح الذي استقبل به المؤرخ من المجتمع المصري المفكر، وهو روح نفور وخصومة، فقد جاء ابن خلدون إلى مصر يسبقه حكمه على المصريين في مقدمته بأنهم قوم (يغلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب) ويورد ابن خلدون هذه الملاحظة في معرض كلامه عن أثر الهواء في أخلاق البشر ويعتبرها نتيجة لوقوع مصر في المنطقة الحارة. على أنه مهما اتخذت هذه الملاحظة سمة البحث العلمي فإنها لا يمكن أن تقابل ممن قيلت في حقهم بغير الاستياء والحفيظة. واكن طبيعيا أن يحدث هذا الغرض السيء أثره في شعور المجتمع المصري المفكر نحو المؤرخ. وكان هذا المجتمع نفسه يجيش عندئذ بكثير من عوامل الخصومة والمنافسة، وزعامته يطبعها لون من الجفاء والقطيعة. وكان اضطرام المنافسة بين أعلام التفكير والأدب يومئذ سواء في ميدان التفوق والنبوغ أو في تحصيل ما تسيغه الزعامة الأدبية من الجاه والرزق ظاهرة هذه الخصومة. وكان المجتمع القاهري الأدبي ينقسم عندئذ إلى شيع وطوائف تنحاز كل شيعة أو طائفة إلى زعيم أو جناح معين من الزعماء فتؤيد جهوده الأدبية وتناجز خصومه في ميدان الجدل. فلم يكن من السهل على أجنبي مثل ابن خلدون جاء ينتظم في سلك هذا المجتمع منافساً في طلب الجاه والرزق أن ينعم بصفاء الأفق، أو يلقى خالص المودة والصداقة، هذا إلى ما كان يغلب على خلاله من حدة وصرامة وكبرياء تزيد من حوله الجفاء والقطيعة. كان طبيعياً أن تلقى آراء ابن خلدون ودروسه في هذا الأفق الكدر من الإعراض والانتقاص أكثر ما تلقى من الإقبال والتقدير، وان تكون محدودة الذيوع والأثر. ومع ذلك فقد درس على ابن خلدون جمهرة من أعلام التفكير والأدب المصريين وانتفعوا بعلمه، وظهر أثره جليا في بعض ثمرات التفكير المصري المعاصر. وممن درس عليه وانتفع بعلمه الحافظ ابن حجر العسقلاني المحدث والمؤرخ الكبير فهو يقول لنا في كتابه (رفع الإصر عن قضاة مصر) إنه (اجتمع بابن خلدون مراراً وسمع من فوائده ومن تصانيفه خصوصاً في التاريخ) وإنه
(كان لسنا فصيحاً حسن الترسل وسط النظم مع معرفة تامة بالأمور خصوصا متعلقات المملكة). وإنه كان جيد النقد للشعر وإن لم يكن بارعا فيه. بيد أن ابن حجر يحمل على ابن خلدون بشدة، وينقل في ترجمته كثيراً مما قيل في ذمه وتجريحه. فهو يقول لنا في تاريخه أن ابن خلدون مؤرخ بارع (ولكنه لم يكن مطلعا على الأخبار على جليتها ولا سيما أخبار المشرق) ويعارض المقريزي في مدح المقدمة ويرى أنها لا تمتاز بغير (البلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية) وان محاسنها قليلة (غير أن البلاغة تزين بزخرفها حتى يرى حسناً ما ليس بحسن) وأما ابن خلدون كقاض فان ابن حجر يقول لنا:(أنه باشر القضاء بعسف وبطريقة لم تألفها مصر. وانه لما ولي المنصب تنكر للناس وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود، وانه عزل لأول مرة بسبب ارتكابه التدليس في ورقة ثم ينقل في هذا الموطن كثيراً مما قيل في ذم المؤرخ وتجريحه. من ذلك إن أهل المغرب لما بلغهم ولايته للقضاء تعجبوا ونسبوا المصريين إلى قلة المعرفة بحيث قال ابن عرفة: (كنا نعد خطة القضاء أعظم المناصب فلما وليها هذا عددناها بالضد من ذلك) ومن ذلك قول الركراكي أحد الكتاب الذين عملوا مع ابن خلدون (أنه عرى عن العلوم الشرعية) بل ينقل ابن حجر أيضاً بعض المطاعن الشخصية والأخلاقية التي قيلت في حق المؤرخ من ذلك ما نقله عن العينتابي وهو أنه كان يتهم بأمور قبيحة وما نقله عن كتاب القضاة للبشبيشي، وهو (أن ابن خلدون كان في أعوامه الأخيرة يشغف بسماع المطربات ومعاشرة الأحداث وأنه تزوج امرأة لها أخ أمرد ينسب للتخليط) وأنه كان (يكثر من الازدراء بالناس) وأنه (حسن العشرة إذا كان معزولا فقط فإذا ولى المنصب غلب عليهم الجفاء والنزق فلا يعامل بل ينبغي أن لا يرى) وهذه أقوال تنم عن خصومة مضطرمة ومبالغة في الانتقاص تنحدر إلى معترك السباب والقذف. وقد كان البشبيشي بلا ريب من ألد خصوم المؤرخ وأشدهم وطأة عليه. وقد دوَّن حملاته على المؤرخ في كتاب ألفه في تاريخ القضاة ولم يصل الينا، ولكن ابن حجر ينقل إلينا منه تلك الفقرات الشخصية اللاذعة.
وأخيراً يقول ابن حجر من ابن خلدون وأثره يدعو إلى التأمل، فهو على رغم اتزانه واعتداله وعفة قلمه ينساق هنا إلى نوع من التجريح والانتقاص ليس مألوفا في كتاباته. ولا ريب أن في لهجته وأقواله مبالغة وتحامل، ولكن لا ريب أيضا أن لها قيمتها في تقدير
الرأي المصري المعاصر لأبن خلدون، بل نستطيع أن نعتبرها ممثلة لرأي الفريق المفكر الذي كان يخاصم المؤرخ ويشتد في تجريحه، والحملة عليه، وقد كان الفريق الأقوى بلا ريب لأنه كان يضم كثيراً من المفكرين والفقهاء البارزين مثل ابن حجر، والجمال البشبيشي، والركراكي، وبدر الدين العيني (العينتابي). وقد امتدت آثار هذه الخصومة الأدبية طوال القرن التاسع الهجري حتى جاء السخاوي في أواخر هذا القرن يردد كل ما ذكره ونقله شيخه ابن حجر في ذم ابن خلدون وتجريحه والانتقاص من أثره، ولكن في لهجة مرة لاذعة تنم عن الخبث، وقصد التشهير والهدم أكثر مما تنم عن قصد النقد الصحيح، وهذه الروح المرة اللاذعة تبدو في معجمه (الضوء اللامع) في معظم تراجم الشخصيات البارزة. بيد انه يعترف في كتاب آخر له (بنفاسة) مقدمة ابن خلدون ويبدو أكثر اعتدالا وتقديرا.
إسماعيل صبري
بمناسبة مضي عشر سنوات على وفاته
يوم نستقبل الربيع نذكر الخمائل على ضفاف النيل وهي ترسل نسماتها البليلة الندية، والطير جاثمة فوق غصونها تشدو بأغانيها الجميلة الشجية، ومن خلال أشجارها تجري جداول تدفقت فيها المياه العذبة الروية. . اليوم الذي تستجيب فيه العين والأذن للزهر وللطير وللماء، لا ننسى انه اليوم الذي ذوت فيه زهرة أرجة ناضرة، وانقطع صوت لين حنون، وجف في مجراه ماء عذب دفيق: ففي مثل هذا اليوم استوفى إسماعيل صبري ظمأ حياته.
فهلا يجمل بنا اليوم، يوم تمضي على وفاته عشر سنوات أن نذكره ولو بهذه الإجمالة الموجزة؟
لا نريد أن نترجم حياة صبري وإن كانت خطيرة، فقد تدرج في وظائف الحكومة حتى شارف ذروتها، ذلك لأن هذه المناصب الرفيعة، وإن أحلت صاحبها في حياته مقاماً محموداً، أهون على الناس من أن تبعثهم على أن يحفلوا بأمره بعد أن بت ما كان يصلهم به من أسباب الحياة، هذا إلى أن مراد القول أضيق من أن يستفيض لترجمة شاملة وافية نتبين منها
ما تركته أطوار حياته من آثار وندوب في هذا الجانب الروحي الذي يمس النفس الإنسانية فيصل بين أجزائها وإن اختلف ما يحفها من عهود وبيئات.
أستقبل صبري حياته، في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي. وقد تجمعت عدة جهود أدبية وقامت فيما يشبه الثورة: فبعثت طائفة من معاجم اللغة وأسفار الأدب ودواوين الشعر من خزائنها وطبعت، وأخذت الصحف الأدبية تنشأ وتعمل لتقويم اللغة وإحياء الأدب العربي، وأعيدت البعوث إلى أوربا بعد أن وقف إرسالها أيام عباس وسعيد، وأقيمت نظارة المعارف وعهد إليها بأمور التعليم وأنشئت دار الكتب ومدرسة المعلمين، وظهرت مسارح التمثيل والموسيقى والغناء وغير هذا مما لم يكن إلا ناحية من نواحي الثورة الاجتماعية التي أقامها الخديوي إسماعيل يوم رسم لمصر خطة الاتجاه إلى أوربا واقتباس حضارتها الجديدة.
في هذه البيئة التي يدب النشاط في جنباتها فيبتعث الملكات الهامدة، بدأ صبري يقرأ الشعر ويحبه، وأخذ ينعم النظر فيه ويحاول أن يقلده، حتى استقامت له وهو في السادسة عشرة بضعة قصائد في مدح الخديوي وتهنئته نشرتها له مجلة (روضة المدارس المصرية) التي أنشأها جماعة من صفوة الكتاب البارزين إذ ذاك. وكانت هذه الأشعار مجرد تقليد واضح في أغراضها ومعانيها وأساليبها لمن سبقه من شعراء عصره كالبارودي وعبد الله فكري، وإن ظهرت علينا حيناً مسحة رقيقة من روحه وشخصيته.
ولكن هذه البيئة الأدبية النشيطة لم يقتصر أثرها على توجيه صبري إلى الأدب وإذكاء ميله إلى الشعر، بل حببت إليه قراءة الشعر العربي القديم من ناحية، وحثته على قراءة الأدب الفرنسي منذ أرسل إلى فرنسا ليدرس الحقوق في جامعة إكس من ناحية أخرى. فقرأ الشعر العربي وتذوقه وأحب منه بوجه خاص شعر البحتري، ذلك أن صبري، كما وصفه الدكتور هيكل (ابن بلد) والبحتري كما قال حافظ إبراهيم (يأخذ قارئ شعره بالحضن) وقرأ الأدب الفرنسي وصادف فيه جمالاً يرضي عاطفته؛ وسيولة تروي شعوره. وبهذا تأثر صبري ببعض مميزات الشعر الفرنسي حيناً، وببعض مميزاتهما معاً حيناً. ولكن ما مدى هذا التأثير في أطواره الادبية، وما هي مظاهره في نتاجه الشعري؟ هذا سؤال يتناول ناحية خطيرة في دراسة الشاعر، وأنا لا أملك الآن ما يؤهلني لبحثها في دقة وتحقيق. ولكني أراني ملزماً بأن أعرض لها ولو في هذه الصورة التي أعرف أنها ليست دقيقة كل الدقة، وليست شاملة كل الشمول.
حين نقرأ هذه الأشعار القليلة التي خلفها صبري نرى أنفسنا أمام طائفتين متمايزتين من الشعر، تشتركان في صفاء الديباجة ورواء الأسلوب بوجه عام، وتختلفان في الشعور الذي صدرتا عنه، وفي العاطفة التي أوحت بهما، وفي المعاني التي تدوران عليها. وقد يضعف هذا الاختلاف حيناً وقد يشتد حينا آخر اشتداداَ يحملنا على أن نزعم أننا لا نقرأ شاعراً واحداً وإنما نقرأ شاعرين مختلفين. وليس في هذا ما يدهشنا، فصبري قد عاش ما يقارب سبعين عاماً، مرت عليه أثنائها عهود الشباب والرجولة والكهولة، حاملة أراءها وأفكارها، وخواطرها وخلجاتها، وآلامها ولذاتها، وتنقلت حياته أثناءها بين هذه الآراء المتضاربة التي يمتلئ بها العقل تبعاً لما يتغذى به من ألوان الثقافة المختلفة، وبين هذه الاحساسات
المتباينة التي يجيش بها القلب تبعاً لما يعرض له من مناسبات وملابسات.
فأما الطائفة الأولى من شعره فهي التي أنشأها بين العشرين والأربعين وأكثرها قصائد في مدح أو تهنئة إسماعيل وتوفيق وعباس، وفي هذه الأشعار نرى أثر الشعر العربي ظاهراً واضحاً، ونرى أثر البحتري وحده، على وجه الدقة، عميقاً بارزا، إلى حد يبيح لك أن تشرك شعريهما في مميزات واحدة. خذ مثلا قصيدته في تهنئة الخديوي بحلول شهر رمضان ومطلعها:
بعلاك يختال الزمان تبختراً
…
وبقدرك الأسمى يتيه تكبراً
وقارنها بكثير من مدائح البحتري تجد أن صبري قد تأثر فيها بالبحتري تأثراً هو أشد من تقليد شاعر لشاعر، وهو أقرب إلى حلول روح شاعر في جسم شاعر آخر. ولكن، وعلى رغم هذا كله، فان هذا الأثر تناول الديباجة وحدها فأكسبها جزالة وسهولة في مفرداتها وتراكيبها، من غير أن يمتد إلى المعاني فينتج منها شيئا جديداً قيما، وذلك لأن البحتري، وهو الوشيجة التي تصل صبري بالأدب العربي، قل أن نظفر في شعره بكثير من المعاني المبتكرة، وقل أن نحب فيه غير متانة الأسلوب وسلاسته. تأثر في هذا الطور الأدبي، بين العشرين والأربعين بالشعر العربي وحده، فأين كان الشعر الفرنسي؟ أليس من الشذوذ أن نرى صبري قد ذهب إلى فرنسا قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وبدأ إذ ذاك يقرأ الآداب الفرنسية ويتذوقها ويشدوها ثم لا نكاد نظفر في شعره أثناء هذا العهد بأثر قوي لهذا الشعر الفرنسي بل ولا لأي مظهر من مظاهر الحياة الأوربية؟ ولكن يظهر أن صبري قد أوتي، إلى جانب حواسه المرهفة، ذاكرة قوية مكنته من أن يختزن فيها ما يعرض له حتى يتمثله في تؤدة وأناة وحتى ينتجه مكتمل النمو مستوفي النضوج.
ونحن لا نفترض هذه الموهبة ولا نتكلف التماسها، وإنما يحملنا على الاطمئنان إليها أننا نجد فيها تعليلا لهذا الاضطراب الذي يغشي أطوار حياته الأدبية. فقد قضى صبري شبابه وشعره يكاد يقتصر على المدح وما إلى المدح مما تنفر منه نفس الشباب، ولا تكاد تبين فيه إثارة من هذه العواطف التي يحفل بها الصدر في ربيع الحياة، بينما تفتحت شاعريته الجائشة وأخذ يتغنى بأناشيد الحب والهوى أثناء الكهولة التي تنطفئ فيها عواطف الشباب الفياضة. ذلك لأن ذاكرته القوية قد استطاعت أن تحتفظ بهذه الاحساسات الفتية التي
اختلفت عليها أثناء شبيبته، حتى تفجرت بعد ذلك شعراً ثميراً لا تشوبه فجاجة الحس ولا غضاضة العاطفة.
ولهذا ظهر أثر الشعر الفرنسي في هذه الأشعار التي تغنى فيها بالعاطفة الإنسانية التي يسمونها الحب أو العطف أو الوداد وناجى فيها الله وتخوف وتشوف إلى الممات، وشاد بمجد وطنه واستنهض أبناءه إلى استعادة الماضي المجيد. في هذه القصائد والمقطوعات، التي كتبت أسمه في ثبت الخالدين، ظهر أثر الشعر الفرنسي بارزاً شاملا: بارزاً حتى يكاد يخفي وراءه كل أثر للشعر العربي، شاملا فلا يقتصر على الديباجة وحدها، ولا على المعاني وحدها، وإنما ينال الأسلوب فيضفي عليه جمالا ورواء، ويتعداه إلى الفكرة فيمزجها بروح غريبة لم يألفها الشعر العربي من قبل.
وهل ترى في الشعر العربي مثالا لهذه القطع التي أنشدها في الحب؟ كلا! فالشاعر العربي الغزل لا يرى في المرأة الا (أنثى) جميلة الوجه دقيقة القسمات، مهفهفة القوام رشيقة الأعطاف، رخيمة الصوت شيقة الحديث، يهصر صدرها ضما ويشبع ثغرها تقبيلا، وهي تتهافت وجداً وتتهالك هياما! والغزل في الشعر العربي يضيق عن أن يستفيض لجميع وجوه الجمال الإنساني، وينصب على ناحية الجمال الجسمي وحده، فيصفه جملة أو تفصيلا، سواء كان الغزل عذريا أو إباحياً أو متكلفاً. أما شعر صبري في الحب فيختلف عن هذا الغزل العربي في صلته بالمرأة، إذ يتسامى عن الجمال المادي إلى الجمال المعنوي في أرحب آفاقه وأشمل معانيه. فلا تستخفنا فيه هذه العيون والحدود، والصدور والنهود، والملاسة والرشاقة، والتقبيل والضم، والتأود والتثني، والتأوه والأنين وإنما نهتف فيه بالمثل الأعلى للمرأة في أفتن جمالها، وأذكى فؤادها، وأنبل روحها.
وأني لأشعر حين أقرأ قصيدته (تمثال جمال) أني أنظر إلى صورة فنية رائعة، فلا أميز بين هذه المرأة التي يهتف بها الشاعر، وبين هذه المرأة التي يتخذها المصور رمزاً لمعنى من المعاني الإنسانية كالألم أو الأمل أو الحنان! بل أني لأحس حين أرتلها أن قلبي قد صفا مما به من شره وأنانية وغرور وكبرياء، وأن صدري قد انطفأت فيه جذوات الحقد والحسد والغيرة والطماح، وأن فؤادي قد غمر الخشوع والإيمان ما يغشاه من شك وضلال: أشعر أني قد سموت من الأرض إلى السماء!
ولم لا وصبري قد امتزجت فيه الروحية بالجمال؟ ألم ينشأ على ضفاف هذا النيل الذي أوحى إلى الإنسانية أن تبتكر ديناً وإيمانا، ألم يلابس الحياة الأوربية وما تضفيه من فتنة وجمال؟ وبهذا استجاب للروحية المصرية وتمثل الجمال الأوربي، وبهذا اجتمعت فيه مصر بروحيتها وأوربا بجمالها، وبهذا كان نتاجه الشعري مزاجاً من الروحية في معانيه ومن الجمال في أساليبه.
وشعره في الحب، بعد هذا، سمح وديع رضي: لا يفطر القلب أسى، ولا يرسل من العين دمعاً، ولا يبعث من الصدر أنيناً، ولكنه لا يشيع في المرء غبطة في الحياة ورغبة في متاعها ولا يغري بالإسراف والتوفر على لذاتها، وإنما يجمع في شعره لوعة غير مسرفة، ومتعة غير غالية، ذلك لأن صبري لم يكن لاهياً ولا عابثاً ولم يكن كئيباً ولا محزوناً، وإنما كان سمح الذوق، وديع الخلق، رضي النفس، فما كان يذعن قلبه لامرأة واحدة تأسره وتطغي عليه، وما كان ماجناً في حبه سادراً، ولا متهتكا في لهوه مستهتراً، وإنما كان ينشد المرأة التي تشبع القلب ولا تتخمه، وتروي الفؤاد ولا تغرقه، وترضي الشعور ولا تقسو عليه.
وهذه الدعة التي تميز بها في حبه، تشيع كذلك في شعره في مناجاة الله، وازدراء الدنيا، واستشفاف ما في الحياة الأخرى. فهو لم يكن ناسكا في الدنيا زاهداً في لذاتها، ولم يكن مفتوناً بالحياة متوفرا على متاعها، وإنما كان ينال من هذا في قصد ويأخذ من ذلك في اعتدال، فإذا أسرف في حبه للحياة واستمتاعه بلذاتها الرخيصة، ذكر الدنيا وما فيها من نكر وخداع وضلال، وذكر ما بعدها من حساب وعقاب وثواب، فاستعجل الموت وراحة القبرحيناً، وناجى الله وأمل فيه حينا.
ولكن صبري الوادع الهادئ كان إذا تحدث عن وطنه جاشت الحماسة في أنحاء صدره، وفاضت الحرارة في سياق شعره، فمثلت الوطن بجلاله وروعته، وأشعرت المصري بمجده وكرامته، وأذكت نار الوطنية في فؤاده، وألهبت فيه عاطفة التضحية في سبيل بلاده.
وهو في شعره يستلهم العاطفة ويستوحيها. كانت تختلف عليه غير السياسة وأحداثها فلا يحفل بها، وتتوالى أمامه الكوارث والخطوب فلا يأبه بها، وتتراكب في عينيه شؤون الحياة وأمورها، وتزدحم بخيراتها وشرورها، وتغص بلذاتها ومنغصاتها، فلا تسترعي منه حاسة
ولا تستثير في نفسه عاطفة، بينما يجيش وجدانه وتهتز عواطفه عند موت طفل، أوفراق صديق، أو قراءة كتاب، أو وقفة عند سفح الأهرام. هذه الحوادث التي تمر بنا فلا نلتفت إليها كانت تثير شاعرية صبري بهذه المقطوعات التي تمس النفس الإنسانية في أعمق حواسها وأدق مشاعرها. وهذه هي مهمة الفن: يفتح العين المغمضة، ويذكي الحاسة المطفأة، ويبعث العاطفة الهامدة، ويحيي موات القلوب، حتى يشركنا لحظ مما فاتنا من اللذات السامية التي قصرت على النفوس الموهوبة. وهل نرى بهجة الحياة إلا بعين المصور، وهل نستمع إلى أنغامها إلا بإذن الموسيقي، وهل نحس الحق والجمال إلا بقلب الشاعر؟ وأي شعر أرفع من شعر صبري الذي (فاضت به) العاطفة من غير أن تتكلفه أو تكره عليه؟ وأي شعر أنضج من شعر صبري الذي كان يؤمن بشيطانه ولا يعصي له أمراً، فيستوحيه الشعر ولا يستجديه؟ وأي شعر أسمى من شعر صبري الذي تشيع فيه هذه المرارة وهذا الحنين، فيذيب في الصدر أطماع الحياة وآثامها، ويسمو بالنفس عن متعها الخسيسة الهينة، إلى المستوى الإنساني حيث يستحيل البغض حباً، والقسوة حناناً، والأثرة إيثارا، والتناحر وداداً، والصراع عناقا. . .
إلى جانب هذا النضوج في روح صبري، نذوق جمالا في أسلوبه يملك على المرء نفسه حين يتلوه، ويحمله على أن يرتله مرة بعد مرة وعلى أن يذكره آونة بعد آونة، فلا يزداد الشعر إلا عذوبة وصفاء تزيد المرء لذة ومتاعاً، ويخيل إلى المرء أنه أمام وجه جميل، كلما أطال النظر إليه، ازداد رغبة فيه وحباً له. وهكذا يقاس نضوج الفن: يزداد المرء بالصورة إعجابا كلما انعم النظر فيها، ويزداد حنيناً إلى الموسيقى كلما أطال الاستماع إليها، ويزداد فتنة بالشعر كلما أكثر ترديده وترتيله. وكيف لا يكون شعر صبري جميلا وقد استقاه من ينابيع فياضة بالجمال: تأثر بشعر البحتري الذي امتزجت فيه الجزالة بالسهولة، وتأثر بالشعر الفرنسي الذي يفيض سيولة ورواء. ويتجاوب ألحاناً وأنغاماً، وهو قبل هذا قد أوتي أذناً دقيقة تجيد انتقاء المفردات، وتحسن الاستماع إلى اتساق العبارات (وتحس نبو الوتر). وصبري كان مولعاً بالموسيقى، مفتوناً بالغناء، وكان متصلا بمن عاصروه من الموسيقيين والمغنيين، وأمدهم بكثير من المقطوعات الغنائية الشعبية، ومن أجملها (قدك يا أمير الأغصان)(الفجر لاح يا تجار النوم). وكانت تستخفه عذوبة الحديث وبلاغة الإلقاء
ولهذا كان كثير التبديل والنقد لشعره، وكان يبذل في صياغته جهداً ناصباً، حتى إذا استقام له البيت أو البيتان أو الأربعة أهملها ثم نسيها، فلم يبق لنا من شعره إلا القليل.
هذه سوانح تخطر لي عندما أتلو شعر صبري الذي لم تتطرق إليه البداوة العربية التي تغشى غيره من شعرائنا، أكتبها لنذكر صبري (أستاذ الشعراء) الذي صبغ الشعر العربي الحديث بطابع نلمس آثاره في شوقي وحافظ.
عبد الحميد عبد الغني
من طرائف الشعر
شوقية لم تنشر
نظمها شاعر الخلود شوقي بك فغنت بها إحدى القيان ولم تنشر
بي مثل ما بك يا قمرية الوادي
…
ناديت ليلى، فقومي في الدجى نادي
وأرسلي الشجو أسجاعاً مفصلة
…
أو رددي من وراء الأيك إنشادي
لا تكتمي الوجد، فالجرحان من شجن
…
ولا الصبابة، فالدمعان من واد
تذكري! هل تلاقينا على ظمأ؟
…
وكيف بل الصدى ذو الغلة الصادي
وأنت في مجلس الريحان لاهية
…
ما سرت من سامر إلا إلى نادي
تذكري قبلة في الشعر حائرة
…
أضلها فمشت في فرقك الهادي
وقبلة فوق خد ناعم عطر
…
أبهى من الورد في ظل الندى الغادي
تذكري منظر الوادي ومجلسنا
…
على الغدير كعصفورين في الوادي
والغصن يحنو علينا رقة وجوى
…
والماء في قدمينا رائح غاد
تذكري نغمات ههنا وهنا
…
من لحن شادية في الدوح أو شادي
تذكري موعداً جاد الزمان به
…
هل طرت شوقا؟ وهل سابقت ميعادي؟
فنلت ما نلت من سؤل ومن أمل
…
ورحت لم أحص أفراحي وأعيادي
طائري المهاجر
في قفار الفلاة كان مسيري
…
والشمس ترسل نارا
// لفحات كأنها من سعير
…
زادت أواري أوارا
// ليس فيها سوى رمال كثيب
…
من فوقهن رمال
لا غدير ولا جناب رطيب
…
تحنو عليه الظلال
متعباً يائساً آويت لكهف
…
مالت عليه الصخور
وتراميت بين جهد وخوف
…
تضيق منه الصدور
غير أني أبصرت طيرا جميلا
…
ما راعه أن رآني
لونه كالسماء، أحلى هديلا
…
من مطربات الأغاني
قلت يا طير: إن قلبي وجيع
…
فغنني واشف قلبي
أنا في هذا القفار مضيع
…
فكن عزائي وطبي
فدنا عند ذاك مني وغنى
…
والسحر في نغماته
وأتى فوق راحتي مطمئنا=يفتر عن بسماته
وغدا طائري أنيس حياتي
…
في وحشة الصحراء
وألفت البقاء وسط فلاتي
…
حتى نسيت شقائي
فكأن الرمال أضحت غياضا
…
تجري بها الأنهار
وكأن الصخور صارت رياضا
…
تزينها الأزهار
غير أني. أواه! أبصرت يوما
…
طيري على غير عهدي
فتوددت في خشوع فأومأ
…
عليّ عبوس وصد
وتوسلت ضارعا بودادي
…
وما تضمن قلبي
وجرى الدمع من دماء فؤادي
…
ولست اعرف ذنبي
بم ناديت حسب نفسي شقائي
…
وما ترى من بكائي
إنني لا أعيش إلا رجاء
…
فلا تضيع رجائي
فلوى رأسه الجميل مجيبا
…
في قسوة وجفاء
قال: ما تبتغي؟ كفانا نحيبا
…
أف لهذا البكاء!
أنا طير ولي جناحا فدعني
…
أطير نحو السماء
والتمس صاحبا شبيهك، أني
…
سئمت طول البقاء
قال هذا وطار عني يغني
…
بين ثنايا السحاب
تاركا مهجتي لنيران حزني
…
تلقى صنوف العذاب
م. ف
علالة المجنون
(قطعة تمثل مجنون ليلى في إحدى خلواته، وهو يرفع إلى عشيقته عفوه عن الحب ويشرح ماله من يد وفضل على المحبين، وهو الذي ذهب بعقله وأورده موارد التلف، ويسر في أذن الليل صبابته وإخلاصه لفاتنة قلبه ومالكة لبه)
(الناظم)
عفا الله يا ليلاي عن ذلك الحب
…
وجدد ما قاسيت في البعد والقرب
ولا زادني إلا عذابا ومحنة
…
أفانيهما حتى أغيب في الترب
صبرت على عيشي زمانا وللهوى
…
جراح لم يجرؤ لساني على العتب
وغالب غيري حبه متبرما
…
وغالبته نشوان مختبل اللب
ولولا الهوى لم يعمر البيد خاطري
…
ولا طار في أجواء مأنوسة قلبي
ولولا لم يحل من وجنة جنى
…
ولا شرع الهيمان في السلسل العذب
ولولا الهوى لم يسفح البين أدمعاً
…
تسيل على الخدين كاللؤلؤ الرطب
ولم تسلك الألحاظ في النفس مسلكا
…
كما خامر الرعديد طيف من الرعب
ولولاه أصبحت الشقى بوحدتي
…
وإن ضافني قومي وعللني صحبي
به أبصرت عيني ولم أك مبصراً
…
وهبت رياحي وأنجلت غمرة الكرب
وزفت لي الدنيا كفردوس آدم
…
وطالعني الريحان في المهمة الصعب
إليك أبث الحب يا ليل فاستمع
…
لأنت إذا نامت عيون الورى حسبي
عشقت ومالت بالفؤاد صبابة
…
ومن حسنات الكون يا ليل ما يصبي
يقولون ما أغناك عمن تحبه!
…
إذا هو أصلاني الغرام فما ذنبي؟
ولولا شعاع بين عينيه راعني
…
وشرد عقلي ما اهتديت إلى الحب
كذبت هوى ليلاي إن لم أمت به
…
وأقضي على تذكار قاتلتي نحبي
أأجزيه من دمعي؟ لقد نفد البكى
…
فهات لأجفاني دموعا من السحب
أأكتمه والسقم واش، وحيرتي
…
وليلى، وأنفاسي تحدث عن صب؟
حنانك يا ليلى ألم تحملي الهوى؟
…
ألم تعلمي يا منية النفس ما خطبي؟
رفيق فاخوري (سورية حمص)
ليلة!
// ليلة الأنس تقضت
…
في شراب ومجون
// لم يشاهدها الندامى
…
في مقاصير الأمين
طلع الفجر وكنا
…
من هوانا ثملين
ضمني صدر وفي
…
كله عطف ولين
وفم يعبق طيباً
…
كعبيق المورلين
لذة العمر لديها
…
كل شيء قد يهون
لا ترم مني شرحا
…
أنا للسر أمين
حسين شوقي - كرمة ابن هانئ
في الأدَبِ الشرقي
من الأدب التركي
الزامر الأعمى
للدكتور عبد الوهاب عزام
جلست إلى دواوين الشعر التركي أقلب الأجيال بين يدي: أطالع مرة وجه (نجاتي) و (ذاتي) وأنظر أخرى إلى (باقي) و (نفعي) وثالثة أرى (نديما)(وراغب باشا) و (الشيخ غالب) ثم أعمد إلى العصور الأخيرة فإذا اسناسي و (نامق كمال) و (ضيا باشا) و (توفيق فكرت) و (عبد الحق حامد) وغير هؤلاء.
وبينا أطوي العصور باللمحات، وأقلب الأجيال تقليب الصفحات، بصرت (بالصفحات) ديوان الشاعر الكبير صديقي الكريم محمد بك عاكف. فسارعت إلى الجزء الأول فانفتح عن قطعة عنوانها (الزامر الأعمى) فقرأتها ثم عمدت إلى القلم فترجمتها نثراً إذ ضاق الوقت دون نظمها وأنا أقدمها للقراء كما جاءت عفو البديهة في الاختيار والترجمة:
الزامر الأعمى
كنت أرى هذا السائل الضرير، يتأبط ذراع قائده، وفي يده قصبة عتيقة، ينبعث منها صوت قوي، كأنه النواح في المأتم. ويمر به الناس فيقفون ويستمعون رحمة به ورثاء له. ثم يلقي كل منهم إلى كشكوله البائس الذليل خمس بارات أو عشراً.
كان يبعث أناته في قصبته المرضوضة فينبعث إلى أذنه في رنين العشرات والخمسات صدى البشرى، ورسالة المودة، رنات لا تفنى في أنين الناي الحزين، ولكنها تؤلف نغمة أخرى تسايره. كم أحزنني هذا الصوت! وكم أمضني ذلك المرأى الأليم!
إنه من دهره في ليال متتابعة مديدة، لا يتنفس في آفاقها المظلمة صبح، ولا يلوح في وجهه لمحة من النور، تحدث عن بسمات الرجاء والأمل. كلا. إن هذا لوجه الأغبر، هذا الوجه التعس قد أقتمت فوقه سحب متراكمة من الشقاء: ماضيه ظلام، وظلام مستقبله. سله عن الحياة فهي حقيقة مظلمة مديدة. تراها نظراته حجابا من الظلمات دون حجاب. انه لا يبصر المصائب، ولكن كل شيء حوله مصيبة، يمتد به العمر الشقي في هذا العالم البائس،
ويتحسس ظلامه الذي ما ينتهي فلا يظفر بطريق تخرجه إلى صبح الأمل المسفر.
وعلى كتفيه مزق من عباءة بالية قد اتخذها مجنا في عراك الأيام، ولكن يد الريح العابثة تنازعه هذا الستر كلما هبت، فتكشف عن كتفيه، وتلقي بصدره أمواج المطر والبرد.
بينما أخرج السوق بصرت بسائل يبعث أنينا حزينا، وهو متكئ على أحجار تغشاها أوحال. وتحته حصير أبلاه مر الأيام ولا يظله إلا طنف (سبيل) هناك. ولكن صوت الناس لا ينطلق الآن بعيداً، وإنما سمعت عن كثب صدى كنسيس المحتضر.
ليت شعري أكان يزمر لنفسه أم كان يئن؟ لا أحد يسمع له! ولا أحد يقف عنده! ولكن المارة يلقون إليه بنظراتهم ثم تمضي بهم السبل. ومن ذا الذي يصيخ إلى صدى تلفظه المقابر؟ أيها المسكين! وطّن على الموت نفسك! واقطع أنات الشكوى. لا لا. أصخ! قد سمع في الكشكول رنينا مديدا! يا لها نغمة من الرجاء مطربة! يا لها بشرى أستمع لها القلب والأذن معاً.
الماء يخترق الطنف، فينسكب المطر من ثقوبه فيضرب الكشكول البائس! سمع الأعمى الصوت فحسبه نبض الرحمة قد جاشت به قلوب المارة. فمد يده، مدها إلى الكشكول، ولكن هيهات! قد خاب رجاؤه، وكذب ظنه، ارتدت يده المتجمدة من البرد! ارتدت إليه فارغة مبتلة!
في الأدَب الغربيّ
عنزة المسيو سيغان
لألفونس دوديه
إلى الشاعر الملهم بيبر غرينفوار - بباريس
ستظل طول حياتك على حالك التي عهدتها يا صديقي البائس!
كيف تعرض عليك وظيفة مخبر لإحدى كبريات الجرائد في باريس ثم ترفض! تأمل في حالك أيها المسكين! أنظر إلى ثوبك الممزق وإلى حذائك البالي، والى وجهك الضعيف الشاحب، أذلك ما أجداه عليك غرامك بالشعر. وهذا جزاء خدماتك الجلى (لأبولو) مدة عشر سنوات. . . ألا تخجل من نفسك بعد هذه النتيجة؟
إقبل هذه الوظيفة أيها الغبي! إعمل مخبراً! ستكسب الدنانير الجميلة فتستطيع بها أن تأكل في المطعم أكلا شهياً وأن تلبس في أول الشهر معطفاً جديداً. . .
ألا تريد أن تقبل؟ أترفضها إذن؟ تريد أن تبقى حراً إلى الأبد. . . أصغ إذاً إلى قصة عنزة المسيو سيغان لتعلم ما يجنيه المرء من الإخلاد إلى حياة الحرية!
لم يلاق المسيو سيغان حظاً في اقتنائه المعز. فقد خسر أعنزه كلها بطريقة واحدة: كانت تقطع حبلها في الصباح لتهرب إلى الجبل حيث يفترسها الذئب. فلا وداعة سيغان ورفقه، ولا اسم الذئب وبطشه، كانت تثنيها عن خطتها. فكانت، على ما يظهر، معزى مستقلة بنفسها، لا ترضى بغير الهواء الطلق مربطا ولا بغير الحرية مرتعاً.
ولكن سيغان لم يكن يفهم طبعها ولا يعرف شيئاً من خلقها ليخفف قليلا من حدته وذعره. فكان يقول:
- انتهى الأمر! إنني لن أقتني بعد اليوم عنزة واحدة لأنها تمل عشرتي.
ولكنه على رغم ذلك لم ييأس اليأس كله. فبعد أن خسر ست عنزات بالطريقة المعلومة اشترى السابعة. ولكنه في هذه المرة عنى باختيارها صغيرة ليأمن بقاءها عنده.
آه! يا صديقي غرينفوار ما كان أجمل عنزة سيغان هذه المرة! عينان ناعستان ولحية صغيرة كلحية الضابط، وحافر أسود لماع، وقرنان معقوفان، وصوف طويل أبيض يتدلى
على جسمها! إنها أحلى وألطف من جدي اسميرالد الذي رأيناه يطوف به الشوارع بالأمس، أتذكره يا صديقي؟ إنها كانت هادئة، وديعة، سهلة الانقياد. . .
وكان سيغان يربط ما عزه في حضيرة محاطة بالعليق خلف منزله. فربط فيها العنزة الجديدة، وأطال لها الحبل لترعى ما جاورها من الأعشاب النضرة، واخذ يطل عليها من وقت إلى آخر ليتعرف حالها. ولشد ما كان سروره عظيما عندما رآها سعيدة، منكبة على مرعاها الخصيب. تأكل منه ما لذ لها وطاب. فقال سيغان في نفسه:
- الحمد لله! لقد وفقت أخيرا إلى عنزة لا تمل عشرتي.
ولكن السيد سيغان كان مخطئأً، فإن العنزة أدركها السأم والملل!
نظرت عنزة صاحبنا إلى الجبل ذات يوم، فقالت في نفسها:
- لا شك إن الحياة هنيئة حلوة في هذا الجبل ما أسعدني عندما أمرح بين أعشابه من غير هذا الحبل اللعين الذي يحز رقبتي!. . . لا بأس إذا رعى الحمير أو البقر في مثل هذا المكان الضيق!. . . أما نحن معشر المعزى فلنا الخلاء الفسيح.
ومنذ ذلك الحين أصبحت لا ترى لعشب الحضيرة طعماً. وأخذ الملل يستولي عليها. فهزلت، وشح حليبها، وأصبحت لا ترى طيلة النهار إلا ممددة على الأرض، شاخصة إلى الجبل وهي تثغى بصوتها المحزن.
ولاحظ المسيو سيغان أن العنزة أصابها شيء، ولكنه لم يعلم ما هو. . . . ففي ذات الصباح بينما كان يحلبها التفتت إليه وخاطبته بلهجتها القومية:
- أصغ إلي يا مسيو سيغان، أني أكاد أموت هنا، فدعني أذهب إلى الجبل.
فصاح مسيو سيغان فزعاً:
- آه! ربي!. .
وترك الوعاء من يده، ثم جلس إلى جنبها على العشب وقال:
- عجباً! وأنت أيضاً تريدين مفارقتي يا بلانكيت؟ فأجابته:
- نعم يا مسيو سيغان.
- أتنقصك الأعشاب هنا؟
- لا يا مسيو سيغان.
- ربما كان رباطك قصيراً، أتريدين أن أطيله لك؟
- لا، أرح نفسك من هذا العناء يا مسيو سيغان.
- إذاً ما بك، ماذا تريدين؟
- أريد أن أذهب إلى الجبل يا مسيو سيغان.
- ولكن، ألا تعلمين أيتها المسكينة أن الذئب هناك. . . وماذا تصنعين عندما يهاجمك؟. .
- أضربه بقرني يا مسيو سيغان.
- ولكن الذئب لا يبالي بهما. فقد أكل لي معزى كان قرناها أطول من قرنيك. إنك تعرفين رينود التي كانت عندي في العام الماضي؟ فقد كانت قوية نشيطة ظلت الليل على طوله في عراك مستمر مع الذئب. . . وفي الصباح تغلب عليها وأكلها.
- مسكينة! مسكينة!. . . . ولكن لا بأس، دعني أذهب إلى الجبل يا مسيو سيغان.
- سبحانك ربي!. . . هذه أيضاً واحدة ستكون للذئب طعاماً. . . لا، لا. . . سأمنعك رغما عنك! وسأقفل عليك باب الحضيرة حتى إذا قطعت الحبل لا تجدين لك مهربا.
حينئذ قاد المسيو سيغان عنزته إلى حجرة مظلمة في الحظيرة وأغلق دونها الباب. ولكنه نسى أن يغلق النافذة، فما كاد يخرج حتى وثبت العنزة إليها وفرت منها هاربة. . .
أظنك تقهقه يا صديقي غرينفوار وترى رأي الماعز. . . ولكن ستعلم بعد حين إذا كان ضحكك يدوم طويلا.
ولما وصلت العنزة البيضاء إلى الجبل، أغتبط بها وأكبر حسن طلعتها، ذلك لأن أشجاره القديمة لم تر فيما مضى عنزة جميلة كهذه العنزة، وانحنت الأغصان المورقة نحوها لتحظى بلمس ثوبها الفتان، وتفتحت الأزهار وأرسلت في الهواء كل ما تحمل من عبير وعطر احتفالا بملكة الجبل الجديدة.
تأمل يا صديقي غرينفوار ما كان أشد سرور بلانكيت! لا حبل، ولا وتد. . . ولا شيء يعوقها عن القفز والجري، والرعي كما تشتهي. . . هنا وجدت العشب كثيراً ناميا! وفي هذا المكان أحست بطعمه!. أي عشب لذيذ، طري، مطرز الأطراف، كثير الأنواع. أنها لم تجد مثيلا له في الحظيرة الضيقة. والأزهار الجميلة على اختلاف أنواعها! أنها أخاذة ساحرة.
هنا أحست بالشبع، فأخذت تلهو وتمرح، تروح وتغدو، تثب في الهواء وتجري على الارض، تقفز من فوق السيول فتبلل صوفها بالماء، ثم تتمدد على صخرة في الشمس لتجففه، حتى أعادت للجبل سالف حياته، وبعثت فيه نشوة الفرح والحبور! وكان يخيل للناظر أن في الجبل عشر عنزات للمسيو سيغان لا عنزة واحدة.
وبينا هي على قمة الجبل ممسكة بين أسنانها زهرة جميلة أبصرت في الوادي منزل المسيو سيغان والحظيرة التي بقربه، فقهقهت ضاحكة وقالت:
- ما أصغر هذا المسكن! كيف صبرت على بقائي فيه؟ ورأت نفسها على قمة عالية فحسبت أنها أصبحت تملك الكون بأسره. . .
والخلاصة يا صديقي أن يومها كان سعيدا جداً.
ومما هو جدير بالذكر أن بلانكيت التقت في طريقها عند الظهر بقطيع من الوعل يقضم بأسنانه أشجار الكرم. فأحبت أن تشاركه في طعامه ففسحوا لها المجال بأدب. ويظهر أن هناك وعلاً وقع من قلب العنزة موقعاً حسنا، فاختفت وإياه في الغاب مدة ساعة أو ساعتين. فإذا أردت أن تقف على حقيقة ما جرى بينهما فاذهب وسل عيون الماء المتفجرة، المنسابة بين الأعشاب المخضوضرة.
وفجأة برد الطقس، وأخذ الليل يرخي سدوله على الجبل. فقالت العنزة:
- عجباً! كيف يمضي النهار بسرعة؟
وكان السهل قد اختفى عن ناظريها في الظلام، ولم تعد ترى من منزل المسيو سيغان إلا سقفه الأحمر وقليلا من الدخان المتصاعد منه. ولما أخذت تصغي إلى صوت قطيع من الغنم عائد إلى حضيرته أحست في أعماق نفسها بوخز الضمير فتألمت. ومر إذ ذاك طائر ليبيت في وكره فكاد يلمسها بطرف جناحه. في هذه اللحظة سمعت في سفح الجبل صوتا يدعوها إليه (وكان ذلك صوت المسيو سيغان ينبعث من بوقه) فتذكرت الذئب وأخذت تفكر فيه بعد أن أنساها فرح النهار وجوده.
ثم سمعت صوت الذئب يتجاوب صداه في الأرجاء. فوطدت العزم على النجاة من مخالبه بإجابة المسيو سيغان. ولكنها تذكرت الحبل والوتد فشق عليها أن تعود إلى سالف حياتها وفضلت البقاء.
وفي هذه الأثناء انقطع صوت البوق. . .
وسمعت العنزة خلفها حفيف الأوراق، فالتفتت لتنظر فرأت أذنين صغيرتين ترتفعان وعينين تقذفان بالشرر. . فعرفت أنه الذئب. . .
ربض الذئب الكبير ينظر إلى العنزة نظرة نهم، ويتأملها دون أن يعجل إلى افتراسها. ولما همت بالمضي في سبيلها أخذ يضحك ويسخر، ثم مد لسانه الأحمر الغليظ.
هنا أحست بلانكيت بخطر الموت. . وتذكرت حكاية العنزة رينود التي قاومت الذئب طيلة الليل عبثاً، فألقت عصا الطاعة وصممت على أن تتلقى الذئب صاغرة ليأكلها سريعا.
ولكنها في اللحظة الأخيرة رجعت عن رأيها هذا، ووقفت للدفاع عن نفسها، فأحنت رأسها وأشهرت قرنيها، لا لتقتل الذئب وهي تعرف أن المعزى لا تقدر عليه بل لتجرب إذا كانت أقوى بأسا من صديقتها رينود. . .
آه! يا صديقي ما كان أشجع هذه العنزة الصغيرة! أنها اضطرت الذئب أكثر من عشر مرات إلى أن يستريح فترة من الزمن كانت في خلالها تقضم العشب بسرعة لتعود إلى القتال مملوءة الفم. . .
وظلت الحال على هذا المنوال، الصراع مستمر يقطعه تقهقر وقتي من الذئب، والعنزة تنظر إلى النجوم الرجراجة وهي تأمل دوام القتال حتى مطلع الفجر، إلى أن أخذت النجوم تهوي واحدة بعد الأخرى. . وامتد في الأفق شعاع باهت. . وأرسل الديك صيحته من إحدى المزارع المجاورة. فقالت العنزة المسكينة التي انتظرت الفجر لتستسلم للذئب:
- ها قد وصلت إلى بغيتي أخيرا!
ثم تمددت على الأرض وصوفها الأبيض مخضب بدمها. . . عند ذلك هجم الذئب عليها وأكلها.
وداعا يا صديقي إن القصة التي رويتها لك واقعية لا أثر فيها للخيال. ويمكنك إذا جئت إلى هذه الضاحية يوما أن تطلب من أحد أهليها أن يقص عليك حكاية عنزة المسيو سيغان التي قضت الليل بطيلته في عراك مستمر مع الذئب. . . وفي الصباح تغلب عليها وافترسها.
أسامع أنت يا غرينفوار!. . . وفي الصباح تغلب عليها وافترسها.
بيروت. محمد كزما
العُلوم
حديث قملة عجوز
للدكتور احمد زكي. الأستاذ بكلية العلوم
لا يلذ لكم معشر البشر أن نتحدث إليكم نحن معشر القمل، لأننا في
أعينكم شارة الأقذار ظل الأوساخ، وتلك قذيفة لا تقوم على حجة ولا
يدعمها برهان، فنحن لا نتغذى إلا من دمائكم، ولا نرتوي إلا من
ثغور نثقبها في جلودكم، وسواء لدينا الجسم القذر والجسم النظيف،
وربما كان الجسم النظيف أحب إلينا، لأن مثاقب القوت تكون عندئذ
أقرب إلينا ولكن صاحب الجسم النظيف لا يعطينا المهلة للحياة فهو
يغير ملابسه المرة تعقبها المرة، فيحول بذلك بيننا وبين موارد أرزاقنا
فنموت جوعا في يومين وقد نحيى إلى سبع، لأننا في طيات هذه
الملابس نتخذ منازلنا ولا نخرج عنها إلى الجسم الا طلباً للقوت، فإذا
أصبناه عكفنا راجعين إليها.
وقلتم أن القمل سبب لأمراض قاتلة كالتيفوس، والحق أننا لا نخلق المرض ولا نبتدع الشر فأصول هذه الأوبئة فيكم وعنكم نأخذها في الدم الذي نستقيه منكم، وبالرغم حبنا لمساقط رؤوسنا وألفتنا للجسم الذي نشأنا عليه وترعرعنا، تضل منا أحياناً أفراد فتنتقل غير واعية من رجل مريض إلى رجل سليم لا سيما في الزحمة حيث تتلاقى المناكب وتتلاصق الثياب، فإذا هي وردت منهله العذب لوثته، بما حملت من المنهل الأكدر، فترون من هذا أنا لا نخلق السوء وإنما نسوي بينكم في الأسواء.
وأسميتمونا المتطفلة لأننا لا نستطيع هضم كل طعام كما تستطيعون، وليس لنا جهاز هاضم راق كالذي به تهضمون، فأنتم تهضمون لنا الغذاء، فنمتصه منكم مهضوماً في الدماء، وليت شعري أي سبة في هذا أو عار أفلستم تتطفلون على الشاة والبقر وصنوف الطير
والنبات الحي فتزدردونها كلها ازدراد، أفترون الشعرة في أعين الناس ولا ترون الخشبة في عيونكم، على أنه مقدار حقير ذلك الذي نمتصه في الوجبة الواحدة ولسنا نطعم غير وجبتين في اليوم، لنا في الطعام ذوق الأعزة الكرام، فنحن نعاف دم المريض ونتقزز من أجسام الموتى فنفارقها مع الحياة.
واحتقرتمونا لصغر أجسامنا وكبر أجسامكم فإن فاتنا الجرم الكبير فقد أصبنا العدد الكثير، فالأنثى منا لا تبلغ اليوم الثامن بعد أفراخها حتى تلد ثم تلد ثم تلد، وهي لا تلد واحداً أو اثنين في العام كما تلدون وإنما تبيض في المرعى الخصيب عشراً كل يوم، فإن عاشت الأنثى أربعة أسابيع فقد تبيض مائتين من الصئبان، وإن امتد بها العمر إلى أرذله فعاشت ستة أسابيع فقد تبيض ثلاثمائة بيضة، والبيضة من بيضاتها تلبث السبعة الأيام أو الثمانية ثم تفرخ، فانظر إلى العدد الكبير من الخلف الصالح الذي تخلفه الأنثى منا قبل مفارقتها هذه الحياة الفانية. أنا بالطبع أنثى شيخة أكاد أستكمل الثلاثين ربيعا، وما ربائعنا إلا أياما، نسلت من الأبناء والأحفاد ما نسلت، ولكني انسل ولا أتعهد نسلي، وكل ما أفعله أن أتخير لهم الموضع الأمين، فأنا أبيضهم على كل شعار خشن ألقاه، وأبيضهم على فتائل الملابس ولا سيما حيث يخاط اللفاق باللفاق، ليكون لهم معتمد عليها وفي دروءها ستر من عصف الزمان. وأبيضهم على الأشعرة دون الأدثرة حتى إذا أفرخوا كانوا من طعامهم قاب خطوات من خطواتنا، ومن الدفء اللازم لأفراخهم على بعد قامة من قاماتنا، فنحن مثلكم حاجتنا للدفء لا تقل عن حاجتنا للطعام، وأوفق الحرارة التي نبيض فيها هي ما دون حرارتكم بدرجتين، والدرجات التي تعلو على الستين تهلك بيضنا، والدرجات الواطئة تعطل أفراخه، فإذا هبطت إلى ما دون ألـ 22 درجة امتنع أفراخه بتاتا.
وسواء ارتفعت الحرارة أو انخفضت فبيضنا لا صبر له على البعد عن أجسامكم طويلا، فإن رمى به الحظ العاثر إلى ملابس خلعتموها يصابر شهراً وبعض شهر رجاء أن تعودوا فتلبسوها ويعود هو إلى أفراخه، فان لم تفعلوا فالويل لذرارينا فانهم يهلكون يا كبدي ولم ينعموا بخطوة واحدة على جلدكم الوطيء ولم يستمتعوا بقطرة من شرابكم المريء.
وللفرد منكم معشر البشر عمر طويل موفور، وللفرد منا معشر القمل عمر قصير منقوص، الا أن حظنا من الزمن مجموعين مثل حظكم ونصيبنا من قديمه وحديثه مثل نصيبكم،
نطاولكم في القدم ونكاثركم فيما طويناه جميعا من مراحل الأزل، فإن كانت نطفتكم قديمة فلعل بيضنا أقدم، وسنسايركم إن شاء الله على حذاء في مجاهل الأبد، فما دام فيكم الجهل والفقر بقدر كائنا ما كان فرفقتنا لن تنفصم عراها بإذن الله، فالجهل والفقر لابد دائما فيكم دوام الأنانية والفردية بعون ربنا وربكم تقدست أسماؤه.
نعم ربنا وربكم، فإن لنا مكانا في الخليقة مثل مكانكم، فما الخليقة إلا قبائل وبطون وأفخاذ جمعها أصل واحد، وفرقت بينها أجواء مختلفة وبيئات متباينة وحظوظ من العيش متفاوتة، فنحن وكثير من أحياء البحار كالاربيان وأبي جلنبو والجنبري قبيل واحد، ولكنهم اختاروا الماء واخترنا الأرض فكان منا النحل والصرصور والجراد والبق وعدد عديد من الأجناس يبلغ المليونين لم يتعرف علماؤكم منه غير مائتين وخمسين ألف. فقبيلنا نحن أبناء الحشر في قبائل الأحياء أكبر قبيل، وانقسمنا بعد ذلك بطوناً، وانقسمت البطون أفخاذاً حتى بلغ التقسيم إلينا نحن عشائر القمل، ومنا عشائر تعيش على الطير تقرض ريشه، ومنا عشائر تعيش على الحيوان كالكلب والإنسان تمتص دمه. وتستوطن أجسامكم يا سادة الحيوان ثلاثة أجناس منا، جنس يستمرئ جذوعكم وأطرافكم، وهو أكبر الأجناس وأنا المتحدثة إليكم منه، وجنس يحب المسكن الأعلى والمرقب الأسنى فاختار رؤوسكم، وجنس استأثر بمواضع العفة منكم. نحن الثلاثة الأجناس نعيش في كنفكم ووفير كرمكم، نستجدي أجسامكم وهي لا تعرف المنع، ونستحلب دماءكم وعادتها العطاء، فتشكل خلقنا وفقا لهذا العيش اللين والنعمة الميسورة، ففقدنا أجنحتنا لما فقدنا الحاجة إلى التنقل، واشتدت أرجلنا وقصرت لتمسك بشعوركم وتلصق أشد التصاق بجلودكم وبفتائل ثيابكم ومن ذا الذي لا يستمسك بالمرعى الخصيب والرزق القريب، واستحالت أفواهنا فصارت قادرة على الثقب والمص، ولنا قناة هضمية ودورة دموية وجهاز للتنفس وجهاز عصبي، كلها بقدر بساطة حاجاتنا، ولنا عينان كبيرتان في مقدمة رأسنا، والى جانبيهما قرنان نستهدي بهما، ويلي الرأس صدر يحمل من الأرجل ثلاثة أزواج بأطرافها مخالب كالإبر إلا أنها تعرف كيف تترفق في السير عليكم، ويلي الصدر منا بطن كبير هو كل ما بقي منا. وعلى هذا المثال يتقسم الحشر جميعه، وتتراءى بظاهرنا تقاطيع حلقية كأنما ضم خاتم إلى خاتم إلى خاتم، ولا غرابة في هذا فبين قبيلنا وقبيل الديدان وشائج وأرحام.
وتفننتم يا أهل المروءة والحنان في طرق إبادتنا. كنتم تبيدوننا بالماء الساخن والصابون ففطنتم إلى أن كثيرا منا يفلتون بأرواحهم وإلى أنكم إن أعدمتم بذلك البالغين منا فقد فاتكم أن تعدموا الصئبان، فخلطتم الصابون بالجاز وبئس ما فعلتم، فالجاز من أسمّ السموم لنا، نموت نحن وبيضنا إذا غمسنا دقيقة فيها ولا نستطيع مقاومة بخاره غير ثلاثين دقيقة. وهداكم سوء طالعنا إلى مواد أسم وأفعل من الجاز نموت على الفور نحن وبيضنا إن تبللنا بها ونعدم بعد 5 دقائق في استنشاق أبخرتها، ولكن يعزينا أنها ليست في متناول كل أحد منكم لندرتها، ولغلائها.
على أنه لا ملامة عليكم ولا تثريب في ذلك، فكلنا يطلب العيش والحياة، فأنتم تسعون للبقاء ونحن نسعى للبقاء، والحرب بيننا سجال، والحرب بين أجناس الخلائق سجال كذلك، جنس يقاتل جنسا ثانيا فيقتل منه، وجنس ثان يقاتل جنساً ثالثاً فيقتل منه، وجنس ثالث يقاتل الجنس الأول فيقتل منه، فهي حروب في دوائر، وكل ما دار في دائرة فلا انتهاء له ولا انقضاء، وسبحان راسم الدوائر ذي الخلود والبقاء.
الكتب
في النقد
للدكتور طه حسين
سلمى وقريتها: كتبته باللغة الفرنسية (مدام أمي خير)
أهل الكهف: كتبه باللغة العربية (توفيق الحكيم)
ليختصم أنصار الجديد وأنصار القديم، ما وسعتهم الخصومة وما وجدوا من أنفسهم قوة على احتمال أثقالها، والمضي فيما تحتاج إليه من الجهاد. فان الزمن يمضي في سبيله رغم خصامهم وصلحهم. وهو لا يمضي وحده ولكنه يدفع أمامه قوما منا، ويجر وراءه قوما آخرين. وهو منته بأولئك وهؤلاء إلى حيث يريد هو من التغير والتطور والتجديد، لا إلى حيث يريدون هم من الوقوف والجمود والإسراف في المحافظة على القديم كل القديم. .
ولقد خطر لي هذا بعد أن فرغت من قراءة ما ينشره أصدقاؤنا في (الرسالة) حول التجديد وأنصاره، وحول المحافظة وأصحابها. وقد فرغت أيضاً من قراءة طائفة من هذه الكتب الكثيرة التي أظهرتها الشهور الأخيرة، والتي تجتمع أمامي تزداد من يوم إلى يوم، وتلح عليّ في أن أفرغ لها وأجلس إليها وأنظر فيها، فأنصرف بها عما يحيط بي من ظروف الحياة التي أعمل فيها كل يوم.
نعم فكرت في هذا، وقد فرغت من قراءة بعض هذه الكتب، فإذا نحن نختصم في الجديد والقديم، ونسرف في الخصومة، ونغلو في التفسير والتأويل، على حين يدفعنا الزمان في طريق التجديد دفعا لا سبيل إلى مقاومته، أو يجرنا في هذه السبيل جراً لا سبيل إلى الإفلات من قوته. ولكني وقفت عند ظاهرة لعلها تستحق أن يقف عندها النقاد والمفكرون، وهي هذا الشكل العقلي الفني الذي تأخذه الصلة بين الشرق والغرب في هذه الأيام، فقد كنا منذذ حين نتأثر بالغرب ونسعى إليه ونقتبس منه ونريد أن ننقله إلينا إن صح هذا التعبير. وكان هذا السعي يفني شخصيتنا أو يكاد يفنيها، فإذا نحن غربيون في تفكيرنا وتعبيرنا وحياة عقولنا وقلوبنا. وإذا حظوظنا تختلف من هذه الغربية قوة وضعفا. منا من يحسن التقليد، ومنا من يسيئه. وكان ضعف شخصيتنا هذا يبغضنا إلى المحافظين من أهل الشرق
ويزهدهم فينا. وكان يثير في نفوس المجددين من أهل الغرب حبا لنا يشوبه العطف والاشفاق، وكنا نضيق ببغض أولئك وحب هؤلاء، ونتمنى لو نقف من أولئك وهؤلاء موقفا طبيعيا لا حرج فيه ولا تكلف ولا ضيق.
كذلك كانت حال كتابنا وشعرائنا في هذا العصر الحديث حين كانوا يريدون التجديد أو يذهبون إليه. ولكن الأمر تغير في هذه الأيام فقويت شخصية الكتاب والشعراء حتى آمنت بنفسها وآمن بها الناس من حولها في الشرق والغرب جميعا، وأصبح كتابنا وشعراؤنا ينشئون النثر ويقرضون الشعر فلا يزور عنهم كثير من المثقفين حقا في الشرق، ولا يرفق بهم أهل الغرب، وإنما يحبهم أولئك فيقرئونهم ويخلصون لهم النصح والنقد والتشجيع، ويقدرهم هؤلاء فيدرسونهم ويقيسون الآماد التي قطعوها في سبيل التجديد والاتصال بالحضارة الغربية والتمكين لهذه الحضارة في بلاد الشرق دون أن تفنى شخصياتهم أو يصيبها الضعف والفتور.
وأغرب من هذا الذي تراه حين نقرأ ما يكتبه (جيب) و (كمفمير) وغيرهما عن كتابنا وشعرائنا، انك تلاحظ في هذه الأيام، أن من أهل الشرق من يتمثلون الغرب حتى كأنهم من أهله فيتحدثون إليه بلغته ويفكرون كما يفكر، ويشعرون كما يشعر، ويشاركونه بهذا في إنتاجه الأدبي الخالص، ويصدرون كتبهم حيث يصدر الغرب نفسهكتبه في لندن أو باريس. وإذا هذه الكتب تصل إلينا من عواصم الغرب فنتلقاها كما كنا نتلقى الكتب الغربية من قبل، وتتناولها صحفنا بما تتناول به كتب الغرب من نقد وتقريظ، وترى بعض أهل الشرق يتمثلون الغرب ويسيغونه ويهضمونه إن صح هذا التعبير، ويذيبونه في أنفسهم، ويغلبون شخصيتهم عليه ويغذون قوميتهم به. ثم يتحدثون إلينا بلغتنا مهذبة، ويفكرون معنا بطرائق تفكيرنا مصفاة، قد أضيفت إلى ثروتها ثروة أخرى فأخصبت وأتت ثمراً نحبه ونستعذبه ونستزيد منه فنلح في الاستزادة.
وكذلك يتصل الشرق بالغرب اتصالا عقليا وفنيا بعد أن كان الاتصال بينهما ماديا تقليديا، وكذلك نتقدم في التجديد خطوات واسعة قيمة مغنية حقا، فنضيف إلى ثروة الغرب كما يضيف الغرب إلى ثروتنا.
وأنا أريد أن أتحدث إليك الآن عن كتابين يمثلان هذه الحال التي وصفتها من الاتصال
المتكافئ الكريم بين الشرق والغرب. فأما أحد هذين الكتابين فقصة كتبت بالفرنسية. وأما الآخر فقصة كتبت بالعربية، لأول الكتابين قصص خالص، والآخر قصص تمثيلي؛ أول الكتابين لسيدة لبنانية هي السيدة أمي خير، والثاني لكاتب مصري هو الأستاذ توفيق الحكيم.
أما كتاب مدام خير فهو: (سلمى وقريتها)، سمعنا عنه منذ أكثر من عام وتحدثت إلينا صاحبته، بخلاصته وقرأت علينا بعض فصوله في محاضرة ألقتها مدام خير منذ عام في قاعة من قاعات الكونتننتال حيث يجتمع أصدقاء الثقافة الفرنسية في يوم الجمعة من كل أسبوع أثناء الشتاء. وكنا قد أحببنا ما سمعنا من هذا الكتاب ومن الحديث عنه، ومنينا أنفسنا ساعات لذيذة نقضيها معه بعد أن يتم طبعه ويعود إلينا من باريس في ثوبه الفرنسي الجديد. ولكني شديد الاحتياط، أسيء الظن بنفسي ورأيي ولا اطمئن إلى هذه الأحكام العجلى، ولست أخفي أني أسأت الظن بما أحسست من رضى عن هذا الكتاب في العام الماضي، وأشفقت أن يكون مصدر هذا الرضى براعة مدام خير في المحاضرة وحظها من حسن الإلقاء، وقدرت إن الخير أن انتظر حتى يصل إلي الكتاب فأقرأه بعيداً من صاحبته ومن صوتها العذب وحديثها الجميل.
ووصل إليّ هذا الكتاب منذ أسابيع، فخلوت إليه ساعات ولست أخفي أني رضيت عنه رضى كثيراً وأعجبت بفصول منه إعجاباً عظيما، ووقفت عند فصول أخرى وقفة من يشعر بشيء منالرضى لا إسراف فيه.
موضوع الكتاب ظاهر من عنوانه، فهو قصة فتاة لبنانية وتصوير للقرية التي عاشت وماتت فيها. والمؤلفة تنبئنا بأن كتابها صورة فوتوغرافية لسلمى وقريتها. وقد يكون هذا حقاً بل هو حق. وهو في الوقت نفسه مصدر فضل الكتاب ومصدر شيء مما يلاحظ عليه. وكم كنت أود لو أن هذا الكتاب لو يكن صورة فوتوغرافية، بل كانت صورة فحسب، صورة من عمل الإنسان لا من عمل الآلة الفوتوغرافية، صورة تظهر فيها شخصية الكاتبة ظهوراً واضحاً نأنس إليه ونستعين به على إساغة هذه الحقائق التي يشتمل عليها الكتاب. ولكن القصة كانت كما أرادت مدام خير صورة فوتوغرافية، فامتازت بالصدق وامتازت بالدقة، وفقدت شيئاً كثيراً من الحياة والتأثير.
ليست القصة غريبة ولا طريفة، وإنما هي شيء مألوف نكاد نقرءه في كل كتاب (استغفر الله) نكاد نقرءه في كتب كثيرة ألفت في القرن الماضي، ونكاد نجده في كل كتاب من كتب الأدب العربي حين يتحدث عن العشاق الذين يضنيهم الحب حتى يسلمهم إلى الموت. فقد أحبت سلمى فتحي من قرية مجاورة لقريتها في شمال لبنان. مرض أبوها وقامت أمها على تمريضه وانفردت هي بالذهاب إلى المزرعة فلقيت فيها هذا الفتى الغني الموسر المثقف بعض الشيء. فمال الفتى إليها ومالت هي إليه ثم تحدثا ثم عرف كل منهما أمر صاحبه. ثم ملأ الحب قلب الفتاة وملك عليها نفسها، ثم بريء الأب من مرضه وانقطع لقاء المحبين فكانا يختلسان ساعات يلتقيان فيها. ثم ظهر الأب على بعض الأمر. فضرب الفتاة وذهب يعاتب الفتى ويعرض عليه الزواج. فاعتذر وأرسله عمه إلى مصر يلتمس فيها الثروة ويبدد فيها حبه على ضفاف النيل، وأصاب الفتاة حزن عميق كان الأمل يخففه حيناً ويضاعفه أحيانا. ثم كان اليأس. وزوجت الفتاة من شاب كان يكلف بها. فحاولت أن تخلص له وجدّت في ذلك ولكنها لم تستطع أن تخلص من حبها القديم فيضعف قلبها وجسمها عن الوفاء بحبها الأول والإخلاص لحب زوجها فيأخذها مرض، ما يزال بها حتى ينقذها من هذه الحياة.
فأنت ترى أن ليس في القصة شيء غريب مبتكر، ولكن جمال القصة مع ذلك شيء لا سبيل إلى الشك فيه، ومصدره فيما يظهر هذا التصوير الفوتوغرافي الذي ينقل إليك قرية من قرى لبنان. وما فيها من حياة نحب سذاجتها، ووداعتها، وجمالها الطبيعي الذي لم يفسده التكلف، ولم يشوهه الإغراق في الحضارة. والذي يمتزج فيه الإيمان الخالص الحر بالحياة الخالصة الحرة. نعم ونحب في هذه الحياة التي يملؤها النشاط المنتج في فصل العمل، وتملأها الراحة الهادئة في فصل السكون، ولعلنا نحب أيضا هذا النوع من العشق الذي ينبعث من القلب الإنساني في غير تكلف ولا ترف ولا تأثر بفلسفة العقل وتهالكه على البحث والتحليل والاستقصاء. ثم نحن نحب بعد هذا كله وفوق هذا كله هذه الصور الفوتوغرافية لطبيعة لبنان في أشكالها المختلفة. لهذه الجبال الشاهقة يكسوها الجليد إذا كان الشتاء، ويزينها الربيع بالشجر المخضر. ولهذه الوديان التي يجاهدها الإنسان جهاداً عنيفاً ليستخرج منها القوت الذي يستعين به على الحياة، وحب اللبنانيين القوي الصادق الساذج
لطبيعتهم وجبالهم وأوديتهم، حتى انهم ليفتتنون بها فتنة تجعلهم جميعاً شعراء.
والغريب من أمر هذه القصة أنها ليست صادقة في تصوير موضوعها وحده، بل هي صادقة في تصوير ناحية من نواحي الكاتبة نفسها، أريد بها ناحية المهارة الفنية، ففي أولها شيء من الضعف والبطء واستقصاء اللغة، كأن الكاتبة تجاهد نفسها بعض الشيء، حتى إذا مضت في القصة مرحلة أو مرحلتين أصبح قلمها طيفاً وألقت إليها اللغة الفرنسية أعنتها واستقاد لها الأسلوب الفرنسي فانطلقت حرة سمحة كأنها قد أتمت التمرين. لهذا كان آخر الكتاب خيراً من أوله. ولهذا كان من حقنا أن نثق بأن الكتاب الذي ستصدره مدام خير سيكون خيراً من الكتاب الذي أصدرته. وإذا لم يكن بد من أن ألاحظ بعض العيب فقد آسف لأن شيئاً من التهاون في اللغة لم يبرأ منه الكتاب فقد استعملت ألفاظ عامية مبتذلة لا ينبغي ان توجد في كتاب أدبي إلا أن تدعو إليها النكتة. ولعل من أوضح الأمثلة لذلك ما يوجد في صفحة 72 و140. وجملة القول أننا مدينون لمدام خير بساعات لذيذة قيمة قضيناها مع هذا الكتاب الممتع ولكن أملنا أكثر جدا من رضانا. فلنشكر لها جهدها الأول ولنهنئها به، ولننتظر من جهودها المقبلة خيراً كثيراً.
أما قصة (أهل الكهف) فحادث ذو خطر، لا أقول في الأدب العربي المصري وحده. بل أقول في الأدب العربي كله. وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط. وأقول هذا مغتبطا به مبتهجا له. وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول أن فناً جديدا قد نشأ فيه وأضيف إليه، وإن بابا جديدا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن.
نعم هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصراً جديداً. ولست أزعم أنها قد حققت كل ما أريد للقصة التمثيلية في أدبنا العربي، ولست أزعم أنها قد برئت من كل عيب، بل سيكون لي مع الأستاذ توفيق الحكيم حساب لعله لا يخلو من بعض العسر. ولكني على ذلك لا أتردد في أن أقول أنها أول قصة وضعت في الأدب العربي، ويمكن أن تسمى قصة تمثيلية حقاً، ويمكن أن يقال إنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له. ويمكن أن يقال إنها قد رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب
الأجنبية الحديثة والقديمة. ويمكن أن يقال إن الذين يعنون بالأدب العربي من الأجانب سيقرءونها في إعجاب خالص لا عطف فيه ولا إشفاق ولا رحمة لطفولتنا الناشئة. بل يمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد أجانب يستطيعون أن يقرءوها إن ترجمت لهم، فسيجدون فيها لذة قوية وسيجدون فيها متاعاً خصباً، وسيثنون عليها ثناء عذبا كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب الأوربيين.
أهذه القصة مصرية؟ أهذه القصة أوربية؟. . ليست مصرية خالصة ولا أوربية خالصة، ولكنها مزاج معتدل من الروح المصري العذب والروح الأوربي القوي. وقد يكون من العسير على غير الفنيين أن يفرقوا بين هذين الروحين اللذين تتألف منهما القصة.
ولكن الذين لهم مشاركة قوية في الأدب العربي والأجنبي يستطيعون أن يتميزوا هذين الروحين حين يجدون في القصة سهولة النفس وعذوبتها، وحين يشعرون بهذا العبث الخفيف الذي يضطرهم إلى الوقوف من حين إلى حين وهم يقرءون، وحين يجدون ألفاظاً وجملا تصور النفس المصرية الآن كما صورتها في أزمان مختلفة منذ كان للمصريين أدب عربي، ثم حين يجدون هذا التفكير العميق الخصب الدقيق الذي يلح في التعمق ويغلو في الدقة، ويأبى أن يترك حقيقة من الحقائق عرضة للشك أو هدفا للغموض، إلا أن يكون الكاتب قد تعمد ذلك وأراده وأبى أن يرسل نفسه فيه على سجيتها مراعاة لبعض الظروف.
كل هذا يمكن النقاد من أن يتبينوا في هذه القصة روحاً مصرياً ظريفاً وروحا أوربياً قوياً. ولنقف وقفة قصيرة عند موضوع القصة وشكلها.
فأما موضوع القصة فلم يخترعه الكاتب وإنما استكشفه، وفرق ظاهر بين الاختراع في الأدب والاستكشاف. ولعل الاستكشاف أن يكون أصعب في كثير من الأحيان من الاختراع، وهو في قصتنا هذه صعب عسير. موضوع القصة موجود في القرآن الكريم، وهو قبل أن يوجد في القرآن كان معروفاً في القصص المسيحية التي لها حظ من التقديس. ويكفي أن تعلم أنه حديث أهل الكهف الذين أشفقوا من اضطهاد ملك رومي للمسيحيين ففروا بدينهم من هذا الملك الظالم وأووا إلى الكهف فناموا فيه ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا. ثم بعثهم الله عز وجل فأنكروا الناس وأنكرهم الناس فعادوا إلى كهفهم وفيه قبضهم الله إليه.
وأنت تعلم أن هذه القصة قد قصها الله في القرآن في آيات كريمة هي أعذب وأسمى ما نعرف من آيات البيان العربي، وأنت تعلم إن من العسير أن تستغل مثل هذه القصة في أدبنا العربي الذي لم يتعود في العصر الحديث أن يستغل الكتب الدينية استغلالا فنيا كما تعود الأوربيون أن يلتمسوا في الكتب المقدسة موضوعات للقصص والشعر والتمثيل والنحت والنقش والتصوير الموسيقى. فإذا استطاع الأستاذ توفيق الحكيم أن يلتمس موضوع قصته في القرآن أو في قصة فصلها القرآن وأن ينشئ في هذا الموضوع أثراً فنياً بديعاً كان خليقاً أن يهنأ بشجاعته وبراعته معا.
فموضوع القصة إذن شرقي عرفته أحاديث المسيحيين وفصّله القرآن الكريم. ولم يعرفه الأوربيون إلا من هذه الطريق، ومؤلفنا إذن كغيره من المؤلفين الأوربيين الذين يلتمسون الموضوعات لقصصهم التمثيلية أحياناً في التوراة والإنجيل. ولكن مؤلفنا كغيره أيضاً من المؤلفين الأوربيين لم يحك حكاية ما عرفته أحاديث المسيحيين وما جاء في القرآن، وإنما بعث في أهل الكهف حياة أخرى فيها قوة وفيها خصب وفيها فلسفة تمكنها من الاتصال بالحياة الإنسانية العامة على اختلاف العصور والبيئات من أنحاء غير الناحية التي عنى بها القرآن وعنيت به الأحاديث المسيحية. وهو يدخل في هذه الحياة عناصر جديدة لم تدخلها القصة القديمة أهمها عنصران: عنصر الفلسفة، وعنصر الحب. فالفرق عظيم جداً بين هؤلاء الأشخاص كما يصورهم القرآن وكما تصورهم أحاديث المسيحية الشرقية في سذاجة لا حد لها ووداعة لا حد لها وإيمان لا حد له ولا غبار عليه، وبين هؤلاء الأشخاص كما يصورهم الأستاذ توفيق الحكيم وقد تعقدت حياتهم فتعقدت عقولهم أيضاً. ففقد اثنان منهم هذه السذاجة المطلقة والوداعة المطلقة والإيمان المطلق ولم يحتفظ بهذه الخصال منهم الا شخص واحد، هو يمليخا الراعي، وبهذا النحو من التصوير الجديد لهؤلاء الأشخاص استطاع الكاتب أن يجعلهم أبطال قصة تمثيلية حديثة. ولو قد احتفظ الكاتب لهم بخصالهم الأولى لما استطاع أن يتجاوز بهم أبطال قصص الأسرار التي كانت تمثل في القرون الوسطى أمام الكنائس. فالكاتب مستكشف لقصته في ظاهر الأمر ولكنه مخترع لها في الحقيقة قد خلق أشخاصها خلقا جديدا وأدار بينهم من الحوار الفلسفي ما لم يكن يخطر لأحد منا على بال. وقد يكون من العسير أن تحقق الفلسفة التي أراد الكاتب أن ينتهي اليها،
ولكن هذا العسر نفسه مزية من مزايا الكاتب وفضيلة من فضائله. فهو ليس متعصبا ولا متأثراً بالهوى، وهو لا يريد أن يفرض عليك رأيا بعينه من مذاهب الفلسفة وإنما يريد أن يثير في نفسك التفكير في طائفة من الآراء والمذاهب. وهو دقيق متواضع لا يحب أن يعلن رأيه في صراحة مخافة أن يتابعه ضعاف الناس في غير بحث ولا تفكير. فهو يكتفي إذاً بأن ينبهك إلى طائفة من المسائل يحسن أن تفكر فيها وان تلتمس لها الحل لعلك تظفر به أو تنتهي إليه. ما الزمن؟ ما البعث؟ ما الصلة بين الإنسان والزمن؟ ما الصلة بين الحي والأحياء؟ بأي الملكتين يستطيع الناس أن يحيوا وان ينتجوا في الحياة؟ بهذه الملكة التي نسميها القلب والتي بها نحب ونبغض، أم بهذه الملكة التي يسميها العقل والتي بها نفكر ونحلل ونلائم بين الأشياء؟
كل هذه المسائل خليقة أن تفكر فيها وان تقف عندها فتطيل الوقوف، والكاتب يثيرها في نفسك ويصطنع لذلك فناً بديعاً نادرا فيه قوة مؤثرة وفيه رفق شديد. ليس هو معلما ولا أستاذاً ولكنه صديق يتحدث معك ويسايرك ويلفتك إلى ما قد تمر به دون أن تقف عنده أو تنظر إليه. لا أعرف كاتبا عربياً كان حسن السيرة مع قرائه كالأستاذ توفيق الحكيم. فقد أكبرهم حقا وأرشدهم حقا. ونفعهم في غير إذلال ولا تيه ولا كبرياء.
والحب هذا الحب الذي أدخله الكاتب في هذه القصة في غير تكلف ولا عناء وفي غير مصادمة للشعور الديني، والذي استطاع الكاتب أن يصوره صورتين قويتين تبلغ إحداهما من القوة حدا لا نكاد نجده إلا عند أشد الكتاب والشعراء الأوربيين عناية بالعشق وآماله ولذاته على اختلافها وتنوعها. وتبلغ إحداهما الأخرى بالحب قوة صوفية طاهرة بريئة من كل شائبة لا نكاد نجدها إلا عند كبار المتصوفة والقديسين.
أعترف أني معجب ببراعة الكاتب في غير تحفظ والى غير حد. والحياة الواقعة التي يحياها هؤلاء الناس العاديون الذين لا يتفكرون في أكثر من أعمالهم اليومية والذين لا يذوقون الفلسفة ولا يحسنون تصورها والحديث فيها كيف صورها الكاتب فأتقن تصويرها في شخص الملك ومن يحيط به من أهل القصر والمدينة. وهذا الإيمان المختلط الذي يمتاز به قوم يصطنعون العلم ولكنهم في حقيقة الأمر أنصاف متعلمين، فيهم سذاجة ولكنهم يريدون أن يكونوا أذكياء. وفيهم حب للحياة وحرص عليها ولكنهم يريدون أن يظهروا
وكأنهم يؤثرون الإيمان على الحياة. ما أبرع الأستاذ توفيق الحكيم حين صوره في شخص المؤدب غالياس!
أظنك لا تريدني على أن ألخص لك القصة فهي مطبوعة تستطيع أن تقرأها بل يجب أن تقرأها فما ينبغي لمثقف في الأدب العربي أن يجهل هذا الأثر الأدبي البديع.
ولكن وكم أنا آسف للكن هذه. وكم كنت أحب ألا احتاج إلى إملائها. ولكن في القصة عيبان. أحدهما يسوؤني حقا ومهما ألم فيه الكاتب فلن أؤدي إليه حقه من اللوم، وهو هذا الخطأ المنكر في اللغة. هذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يتورط فيه كاتب ما فضلا عن كاتب كالأستاذ توفيق الحكيم قد فتح في الأدب العربي فتحا جديداً لا سبيل إلى الشك فيه. أنا أكبر الأستاذ، وأكبر قصته، وأكبر (الرسالة) عن أن أقف عند هذه الأغلاط القبيحة التي يمس بعضها جوهر اللغة ويمس بعضها النحو والصرف ويمس بعضها الأسلوب وتركيب الجمل. ولا أتودد في أن أكون قاسيا عنيفا وفي أن أطلب إلى الأستاذ في شدة أن يلغي طبعته هذه الجميلة وان يعيد طبع القصة مرة أخرى بعد أن يصلح ما فيها من الأغلاط. وأنا سعيد بأن أتولى عنه هذا الإصلاح إن أراد. ولعل ما سيتكلفه من الطبعة الثانية خليق أن يعضه وأن يضطره إلى أن يستوثق من صوابه اللغوي فيما يكتب قبل أن يذيعه بين الناس.
أما العيب الثاني فله خطره ولكنه على ذلك يسير لأن القصة هي الأولى من نوعها كما يقولون. هذا العيب يتصل بالتمثيل نفسه فقد غلبت الفلسفة وغلب الشعر على الكاتب حتى نسي أن للنظارة حقوقا يجب أن تراعى فأطال في بعض المواضع، وكان يجب أن يوجز. وفصّل في بعض المواضع وكان يجب أن يجمل، وتعمق في بعض المواضيع وكان يجب أن يكتفي بالإشارة. ولعله يوافقني على أن من الكثير على النظارة أن يستمعوا في الملعب لهذه القصة الجميلة جدا، الطويلة جدا التي تقصها برسكا على غالياس وهي تودعه وقد اعتزمت أن تموت في الكهف مع عشيقها القديس.
هذا العيب عظيم الخطر لأنه يجعل القصة خليقة أن تقرأ لا أن تمثل. وأنا حريص أشد الحرص على أن تمثل هذه القصة، واثقا كل الثقة بأن تمثيلها سيضع يد الأستاذ على ما فيها من عيب فني وسيمكنه من اتقاء هذا العيب في قصصه الأخرى ومن إصلاحه في هذه
القصة.
أما بعد فأني أرجو مخلصا أن تترجم قصة مدام خير إلى اللغة العربية وان تترجم قصة الأستاذ توفيق الحكيم إلى اللغة الفرنسية لتؤدي القصتان ما ينبغي أن تؤدياه من تحقيق الصلة الصحيحة المنتجة بين الشرق والغرب.
القصَص
في الأدب الإيطالي الحديث
الرواية في بونتاسياف!
للكاتب الإيطالي لوسيو دامبرا
وفعلا، لم تمض ثمانية أيام حتى كانت الغرفة قد أعدت! وهذا الحادث العظيم، هذا الحادث الغريب، حادث إصرار (مارك سيريني) على أن تمثل روايته الحديثة ولأول مرة، في قرية حقيرة لا يتجاوز عدد سكانها الخمسة آلاف نسمة، هذا الحادث الذي لا يصدق، أثارت الصحافة حوله ضجة كبرى، اقتحمت حدود إيطاليا وأقلقت صحافة أوربا بأسرها. ولقد كانت هذه القضية رنانة كسائر قضايا (مارك سيريني) ورنانة أيضا كانت عودة رئيس الشركة الأمريكية من (بونتاسياف) إلى (الستيديو)، حيث كان المؤلف، وسيجارته في فمه، ممتداً على أريكة وثيرة، يفكر بسيدة النافذة الشهية!!!
- كل شيء الا هذا!. . . لقد ذهبت أتعابنا أدراج الرياح: أني أعود من (بونتاسياف) إذ ليس فيها مسرح!!!
- ليس فيها مسرح؟ هذا أمر عديم الأهمية: إن بناء مسرح لا يستغرق أكثر من شهر، وهو الوقت اللازم للحفظ والمراجعات.
- ماذا؟؟. . . بناء مسرح جديد؟. . . وفي ظروف شهر واحد؟؟ لم يتحرك (سيريني)،. . نظر إلى طاولة عليها رزنامة من المعدن اللماع. وقال:
- أجل، في شهر واحد!. . . نحن الآن في سبتمبر، ولن يزال البرد شديداً حتى في أكتوبر في هذه البلاد،. . . وبعد، فان بناء مسرح خشبي يتسع لألفين شخص، لا يمكن أن يستغرق أكثر من ثلاثة أسابيع.
- وتزيينه؟. . . وتنميقه؟. . . في ثلاثة أسابيع؟ لن يكون هذا المسرح سوى براكة. . . .
هنا انتفض (سيريني) وأجاب بلهجة قاسية:
- لن يتسابق الناس لمشاهدة المسرح، بل لمشاهدة روايتي!!!
- 4 -
لنختصر: لم ينتجع وسيلة لحمله على تغيير رأيه، ولو كان رئيس الشركة التي تعاقد معه إيطالياً، لترك الأرباح التي قد تنجم عن هذا الاتفاق، ولترك المؤلف يسدر في عناده وجنونه، ولكنه كان أمريكياً، وللأمريكيين عقل خاص، وتفكير خاص يميزانهم عن غيرهم. ولم يمض شهر، حتى كان كل شيء قد تم: حفظت الرواية وروجعت وأقيم المسرح في بقعة جميلة. أما ما جرى في (بونتاسياف) في ذلك الوقت، فأمر لا يستطاع تصويره أو وصفه، ولا شك أن بينكم أناساً وجدوا فيها، في ذلك الحين، وهؤلاء وحدهم يستطيعون أن يذكروا كيف احتلت الغرف المعدة للإيجار احتلالا لا يفرق عن الاحتلال العسكري بشيء، وكيف أن الجموع الغفيرة تسابقت إلى فلورانسا وإلى (اريزو) لتبحث لها عن مبيت، وكيف أنها عادت إلى (بونتاسياف) لتحضر تمثيل الرواية، وتعود بعد منتصف الليل إلى إحدى المدينتين المذكورتين. . ولا شك انهم يذكرون أيضاً أنه كان بين المتفرجين أناس تقاطروا من أقصى البلاد، بينهم كثير من النقاد المسرحيين، ورؤساء شركات التمثيل الأجنبية. . . . وقد كان بينهم صحفيون اضطروا خدمة للفن أن يبيتوا ليلة كاملة في القطار، وان يضيعوا يوما كاملا في ساحة (بونتاسياف) وأن يمضوا ليلة ثانية متعبة، في دائرة البرق، حيث ظن عامل التلغراف المسكين، إن الساعة اقتربت، وإن القيامة قامت!!!
وليست هذه بالمعركة الأولى التي استبسل فيها (مارك سيريني) بطبعه الهادئ الرزين، ولكنها كانت أشد المعارك كلها وأحماها وطيساً، لأن تلك الرغبة الشاذة، التي شاءت أن تضطر محبي الفن للمجيء إلى (بونتاسياف) تركت أسوأ الأثر في النفوس، حتى أن القادمين كانوا على أتم استعداد لأن يثأروا لأنفسهم!
وهكذا فانه قبل أن يرفع الستار بساعتين، أسرع أصدقاء (سيريني) إليه، وأخبروه أن الجو مكهرب، وأن عواصف السخط والغضب لن تلبث أن تصدم الرواية صدمة عنيفة، ربما كانت لا تقوى على احتمالها، ولكن المؤلف أجابهم بلهجة حازمة:
- إذا كانت لديهم سهام فليسددوها!. . وإذا كان لديهم قنابل فليقذفوها!. . أما أنا ففي غنى عن آرائهم: لا يهمني هذا المساء، غير رأي شخص واحد!
- امرأة؟
- طبعاً!. . ومن تريدون أن يكون إذن؟. . وزير؟
ولم يزد على ذلك كلمة لأنه كان يحرص كل الحرص على أن يخلص بسره لنفسه. . . أما الناس فقد ذهبوا في الظن كل مذهب. .
- 5 -
ومع ذلك، ورغم هذا الحرص فانه لم يضن على به. . من عادة (سيريني) أن يتخلف عن حضور رواياته، عند تمثيلها لأول مرة، ومن عادته أيضاً أن يدور حول المسرح كما تدور الفراشة حول الضوء، حتى إذا أخذ اللهيب بأحد أجنحتها لجأت إلى الهرب فإذا نسيت اللهيب وأثره في جسمها عادت تحوم حول الضوء وحول الخطر، و (سيريني) يحاول ان يتظاهر بالهدوء. وأن يتحدث عن أشياء لا مساس لها بالرواية حتى إذا أصابها الإخفاق فقد رزانته وشرع يصب جام غضبه طيلة الليلة بكاملها على تلك الجموع المأفونة التي لا تقدر الفن، ولا تفهمه، ولا تستحق أن تفهمه، ورماها بأقبح الوصمات وأشنعها.
أخذنا نتنزه سوية، ذلك المساء في أزقة القرية التي استحالت في ساعة من الزمن إلى ميدان تتزاحم فيه السيارات، ويتكدس بعضها فوق البعض الآخر. . وكان الشاعر يبتسم، ويطلعني بهدوء على الأسباب التي حدت به لأن يثير عليه سخط تلك الجموع الغفيرة، وكان يقول لي وهو يضغط على يدي:
- أفهمت؟. . أفهمت؟. . أني إذا كنت أصررت ألا تمثل روايتي لأول مرة إلا في (بونتاسياف) فلأني أريد أن استثير إعجابها!!. . تلك هي الغاية الوحيدة التي أرغب في إدراكها من غرامي الغريب!
- آه!. . . لو انك رأيتها في ذلك اليوم، لصهرك حبها رغم ما أنت عليه من (برود)، وبعد، فأنا لست أعتقد إن بين الذكور، رجالا ينطبق عليهم هذا الوصف، وإنما هم جميعاً في نظري، براكين هادئة. تثيرها مشاهدة امرأة، وتجعلها أشد هياجاً من البراكين الدائمة الإستعار! آه. . لو رأيتها وهي تطل من فتحة النافذة!. . . ها. . . . ها هي. . . . نافذتها!
- كانت نافذتها مغلقة، وهي ذات درفات خضر، وواجهة وردية. . . . كانت محكمة الغلق، لا يتسرب من خصاصها أقل بصيص نور، فسر (مارك) لذلك، وقال بلهجة المنتصر:
- لم يبق أحد في داره!. . . لقد ذهبت (المدينة) بأسرها لمشاهدة روايتي!. . . وهي، هي. . . هي في هذه الساعة، هناك، مأخوذة بجمال روايتي وقوتها، تكتسحها موجة الإعجاب
التي أردت أن أتغلب عليها بها. . . . أني اقدم لها فخراً لا يعدله في العالم فخر. . . أقدم لها عيداً، بل مهرجاناً لا يحلم به أحد!. . . أي سحر؟. . . وأي عيون؟؟؟ آه!. . أني لا أتمنى إلا أن تبادلني الحب هذه الريفية الحسناء، أنا الشاعر المتعب. . أنا الشاعر الفتان، الذي تضايقه النساء، وتطارده. . تلك النساء اللواتي تجملهن المساحيق، وتزينهن (الكريمات) المختلفة. . . تلك النساء الكئيبات، اللواتي يلبسن جوارب بمائتين فرنك فقط. . . تلك النساء الفارغات القلوب، كبطونهن التي لا يملأنها خشية السمنة!!!
إن سيدة النافذة، على نقيض هذا كله: هي بسيطة رشيقة حقيقية الجمال، لها نفس، ولها قلب، ولها مواهب، ولها نباهة ولقد قرأت في عينيها ذلك الإعجاب اللامتناهي الذي تخصني به وتسبغه عليّ!
وأنا موقن أن هذه الحسناء قرأت رواياتي كلها، وأنها أصبحت تعرفها ولكن معرفتها بها لا يجوز أن تقارن بمعرفة صديقاتي المعجبات (باركهن الله) بما وضعت من روايات. . تلك الصديقات اللواتي يتسارعن لمشاهدة رواياتي عندما تعرض للتمثيل لأول مرة، وكأنهن يتسابقن (ليجبرن خاطري). . حتى إذا بدأ التمثيل أخذن في الثرثرة والمغازلة مع عشاقهن في زوايا المقصورات: إنهن لا يتقاطرن على المسرح من أجلي، أو من أجل رواياتي. . كلا!. . بل ليعرضن على الأنظار أثوابهن الحديثة!.
وألقى نظرة أخيرة على درفات النافذة، ثم أخذ يتجه نحو المسرح، كما يتجه الفراش نحو الضوء.
- أني أحبها. . أحبها حتى العبادة!. . ولأجلها وضعت هذه الرواية، وقد وضعتها بعاطفة لم اشعر بمثلها من قبل!. . أقسم لك على ذلك!. . . تصور. . . تصور انك ذات مساء، تبصر بين الحضور المرأة الوحيدة التي تحبك وتعجب بك إعجابا لا يحد بحدود، ولا يقاس بمقياس، تصور ذلك، وقل، ألا تدير (السانفوني) التاسعة إدارة لا تحسن مثلها في كل وقت؟ ألا تخرج منها ما لم يحلم (بتهوفن) نفسه أن يخرجه منها؟؟ إذن. . أنا اليوم أحارب هذه الجماهير كلها. من اجلها هي. أنا أحارب باسمها وبجمالها!
إن رواياتي إنما هي معارك، وحروب، وسباقات، إذن فهي لا تبعث على التثاؤب والملل، وإذن فهي لا تدع المتفرجين هادئين ساكنين، بل تحرك ما في نفوسهم من عواطف وميول
وتحملهم على التفكير.
ماذا؟. انتصار؟. لم نكد ندرك المسرح، حتى هرع إلينا بعض الأصدقاء.
- انتهى الفصل الثاني منذ قليل: نجاح لا مثيل له!. . انتصار لا يعد له انتصار!. . ولكن أي جمهور في بدء التمثيل؟ جمهور عبوس حذر، إلا أنه لم يلبث أن خفف من حدته بالرغم منه حتى إذا كان التمثيل، لم يتمالك أيديه عن التصفيق وألسنته عن الهتاف: وهكذا، لم ينتهي الفصل الأول حتى ثارت عواطف التقدير، وانفجرت قنابل الإعجاب. أما الفصل الثاني، فهو الذي أتم الانتصار وجعل الستار ينزل بين رعود من التصفيق الحاد المتواصل، والهتاف العالي القاصف!!!. . . وقد اضطرت الممثلة (تيريز اندرياني) أكثر من عشر مرات متوالية أن تعود إلى المسرح، لتحية الجماهير المعجبة.
أيزاك شموش. حلب