الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 90
- بتاريخ: 25 - 03 - 1935
ورد الربيع!
للدكتور عبد الوهاب عزام
دار الفلك دورته، وعاد سيرته، فسرت في أعصاب الأرض هزة الحياة، وتفجرت عروقها بالمياه، وسالت قمم الجبال جداول وأنهاراً، واشتعلت الأرض أزهاراً وأشجاراً
تبرجت بعد حياء وخفر
…
تثنى على الله بآلاء المطر
صرحت الأرض بمكنونها، وأبانت الحياة عن ضميرها، فنبتت معاني الحياة والجمال، في ألفاظ من الأوراق والنوار
باح الربيع البساتين
…
وعطر النفس أنفاس الرياحين
ونفخت أنفاس الربيع الحرى الحياة في كل ذرة، فأخرجت قواها أعشاباً وأزهاراً، فرقتها ألوان، وألفَّتها معان
لم يبق للأرض من سر تكاتمه
…
إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف شتى من زواهرها
…
حمراً وصفراً وكل نبت غبراء
أيُّ مسرح للفكر! وأي مجال للخيال! وأي مراد للطرف!
دنيا معاش للورى حتى إذا
…
جاء الربيع فإنما هي منظر!
وفي أرجواني من النور أحمر
…
يشاب يا فرند من الروض أخضر
إذا ما الندى وافاه صبحاً تمايلت
…
أعليه من در نثير وجوهر
إذا قابلته الشمس رد ضياءها
…
عليها صقال الأقحوان المنور
والطير مغردات كأن أصواتها ذوب هذه الألوان، وكأن ألوان الروض جمد هذه الألحان. يهتز الطائر الغريد على الغصن الأملود فيقرأ ما تحته من صفحات الجمال، كأنما الطير إبر الحاكيات تنطق بما تضمنت الصفحات من نغمات - والعصفور مرح تتداوله الأغصان، وتتهاداه الأفنان، تارة في انتزاء، بين الأرض والسماء، وتارة تغيبه الحديقة، كأنه في هذا الجمال فكرة دقيقة. صغير تملأ الهواء نغماته، وضئيل تشغل الجو خفقاته
والفراش قلق بين النوار، هائم بين الأزهار، لا يقر له قرار، كأن كل فراشة زهرة طائرة، أو قبلة بين الأزهار حائرة، أو نغمة في جمال الروض سائرة!
والشعراء ينافسون الطير على الأيك طرباً وتغريداً، وفي المرح تسبيحاً وتحميدا. تنبجس
في جوانحهم ينابيع البيان، وتتفتح سرائرهم عن أزهار الشعر. ففي كل قلب ربيع، ومن كل قصيدة روض، وفي كل معنى وردة، وعلى كل قافية نغمة
هكذا تفيض الحياة على الجماد والنبات والحيوان، وينتظم الجمال الخليقة والإنسان، كأنما العالم كله فكرة واحدة، أو قصيدة خالدة!
ذلكم الربيع الذي فتن الناس فافتنوا في وصفه، والإبانة عن محاسنه، والإشادة بذكره، والاحتفال بمقدمه. فاتخذته الأمم على اختلاف المذاهب عيداً، ومجدته بشتى الوسائل تمجيداً، وأولع به الشعراء في كل قبيل، ولم يخل من المفتونين به جيل
والناس في مصر ربيع دائم، من أرضهم وسمائهم، وزرعهم ونيلهم. فهم لا يحسون مقدم الربيع إلا قليلاً. ولو أنهم عرفوا كلب الشتاء، وانجماد الهواء، وقشعريرة الأرض، وقسوة السماء، ورأوا كيف تموت الطبيعة في زمن، وتلتف من الثلج في كفن
وقد غاب في الثلج الربيع وحسنه
…
كما اكتن في بيض فراخ الطواوس
ثم شهدوا كيف يأتي الربيع فيكهرب كل ذرة، ويفيض كل عين ثرة، ويخلق كل نضرة، لاحتفوا بالربيع احتفاء غيرهم، وعرفوا فيه النشور بعد الموت.
على أن للربيع في مصر دقائق يسر لها الإنسان، وشيات أبصرها الشعراء في كل زمان
جاء الربيع فليت في كل قلب من صفائه قطرة، وفي كل نفس من جماله زهرة، وفي كل خلق من عبيره نفخة، لتعمر النفوس بمعاني الحياة، وتستنير بأشعة الجمال، ويسكن الناس إلى السعادة حيناً، وينسوا أساليب العداوة والبغضاء زمناً. وليت الناس جروا مع الحياة طلقها، ولم يفسدوا على الطبيعة خلقها، فأنبت الربيع في كل قسوة رحمة، وفي كل يأس أملاً، وفي كل حزن سروراً، وفي كل ظلام نوراً، ليتهم اجتمعوا على ورد الحياة متصافين، كما ترف على جداول الربيع الرياحين
(ولكن الإنسان قد حاول بادعائه وكبريائه أن يكون عالماً بذاته، فكان نشوزاً في نغم الكون ونفوراً في نظام العالم! فلو أنه اقتصد في تصنعه وائتلف كما كان بالطبيعة، لا تحد الآن مع الربيع فشعر بتدفق الحياة في جسمه، وإشراق الصفاء في نفسه، وانبثاق الحب في قلبه، وأحسن أنه هو في وقت واحد زهرة تفوح، وخضرة تروق، وطائر يشدو، وطلاقة تفيض على ما حولها البشر والبهجة!)
(وبعد فان لكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة رسالة بليغة تؤديها إلى النفوس الشاعرة والفطر السليمة، فليت شعري أية رسالة يحملها الربيع إلى ذوي القلوب الواعية منا؟
قابل أيها القارئ بين الشتاء والربيع، بين رقدة الطبيعة ونهضتها، وإن شئت فبين موتها ونشورها، فستجد هذه الدورة على قصر أمرها قد تضمنت حكمة الحياة كلها. والى هذه الحقيقة يشير الربيع في رسالته إلى الناس!
عبد الوهاب عزام
بين خروفين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
اجتمع ليلة الأضحى خروفان من أضاحي العيد، فتكلما؛ فماذا يقولان؟
هذا هو الموضوع الذي استخرجه لي أصغر أولادي (الأستاذ) عبد الرحمن، وسألني أن أكتب فيه للرسالة، وهو أصغر قرائها سنا ترف عليه النسمة الثالثة عشرة من ربيع حياته - بارك الله لها فيها حاضرة ومقبلة
ولأستاذنا هذا كلمة هي شعاره الخاص به في الحياة، يحفظها لتحفظه، فلا يميل عن مدرجتها، ولا يخرج من معناها؛ وهي هذه الكلمة العربية:(كالفرس الكريم في ميعة حضره، كلما ذهب منه شوط جاء شوط).
فهو يعلم من هذا أن كرم الأصل في كرم الفعل، ولا يغني شيء منهما عن شيء؛ وأن الدم الحر الكريم يكون مضاعف القوة بطبيعته، عظيم الأمل بهذه القوة المضاعفة، نزاعاً إلى السبق بمقدار أمله العظيم، مترفعاً عن الضعف والهوينا بهذا النزوع، متميزاً في نبوغ عمله وإبداعه باجتماع هذه الخصال فيه على أتمها وأحسنها. فمن ثم لا يرمي الحر الكريم إلا أن يبلغ الأمد الأبعد في كل ما يحاوله، فلا يألو أن يبذل جهده إلى غاية الطاقة ومبلغ القدرة، مستمداً قوة بعد قوة، محققاً السحر القادر الذي في نفسه، متلقياً منه وسائل الإعجاز في أعماله، مرسلا في نبوغه من توهج دمه أضواء كأضواء النجم، تثبت لكل ذي عينين أنه النجم لا شيء آخر
ولما قدم إلى (الأستاذ) موضوعه في هذا الوزن المدرسي
- وأظنه قد نزعته حاجته مدرسية إليه - قلت: حباً وكرامة. وهاأنذا أكتبه منبعثاً فيه (كالفرس الكريم في ميعة حضره). . . ولعل الأستاذ حين يقرؤه لا يثور فيه علامات كثيرة بقلمه الأحمر. . .!
اجتمع ليلة الأضحى خروفان من الأضاحي في دارنا: أما أحدهما فكبش أقرن، يحمل على رأسه من قرنيه العظيمين شجرة السنين، وقد انتهى سمنه حتى ضاق جلده بلحمه، وسح بدنه بالشحم سحاً، فإذا تحرك خلته سحابة يضطرب بعضها في بعض، ويهتز شيء منها في شيء؛ وله وافرة يجرها خلفه جراً، فإذا رأيتها من بعيد حسبتها حملا يتبع أباه؛ وهو
أصوف، قد سبغ صوفه واستكثف وترا كم عليه؛ فإذا مشى تبختر فيه تبختر الغانية في حلتها، كأنما يشعر مثل شعورها أنه يلبس مسرات جسمه لا ثوب جسمه؛ وهو من اجتماع قوته وجبروته أشبه بالقلعة يعلوها من هامته كالبرج الحربي فيه مدفعان بارزان. وتراه أبدا مصعراً خده كأنه أمير من الأبطال، إذا جلس حيث كان شعر أنه جالس في أمره ونهيه، لا يخرج أحد من نهيه ولا أمره
وأما الآخر فهو جذع في رأس الحول الأول من مولده، لم يدرك بعد أن يضحى، ولكن جيء به للقرم إلى لحمه الغض؛ فالأول أضحية وهذا أكولة؛ وذاك يتصدق بلحمه كله على الفقراء، وهذا يتصدق بثلثيه ويبقى الثلث طعاماً لأهل الدار
وكان في لينه وترجرجه وظرف تكوينه ومرح طبعه، كأنما يصور المرأة آنسة رقيقة متوددة. أما ذاك الضخم العاتي المتجبر الشامخ، فهو صورة الرجل الوحشي أخرجته الغابة التي تخرج الأسد والحية وجذوع الدوحة الضخمة، وجعلت فيه من كل شيء منها شيئاً يخاف يتقي
وكان الجذع يثغو لا ينقطع ثغاؤه، فقد أخذ من قطيعه انتزاعاً فأحس الوحشة وتنبهت فيه غريزة الخوف من الذئب، فزادته إلى الوحشة قلقاً واضطراباً؛ وكان لا يستطيع أن ينفلت، فهو كأنما يهرب في الصوت ويعدو فيه عدوا
أما الكبش فيرى مثل هذا مسبة لقرنيه العظيمين، وهو إذا كان في القطيع كان كبشه وحاميه والمقدم فيه، فيكون القطيع معه وفي كنفه ولا يكون هو عند نفسه مع القطيع؛ فإذا فقد جماعته لم يكن في منزلة المنتظر أن يلحق بغيره ليحتمي به فيقلق ويضطرب، ولكنه في منزلة المرتقب أن يلحق به غيره طلباً لحمايته وذماره، فهو ساكن رابط الجأش مغتبط النفس، كأنما يتصدق بالانتظار. . .
فلما أدبر النهار وأقبل الليل، جيء للخروفين بالكلأ من هذا البرسيم يعتلفانه، فأحس الكبش أن في الكلأ شيئاً لم يدر ما هو، وانقبضت نفسه لما كانت تنبسط إليه من قبل، وعرته كآبة من روحه، كأنما أدركت هذه الروح أنه آخر رزقه على الأرض، فانكسر وظهر على وجهه معنى الذبح قبل أن يذبح، وعاف أن يطعم، ورجع كأول فطامه عن أمه لا يعرف كيف يأكل، ولا يتناول من أكله إلا أدنى تناول
وكأنما جثم الظلام على شحمه ولحمه؛ فانه متى ثقل الهم على نفس من الأنفس ثقل على ساعتها التي تكون فيها، فتطول كآبتها ويطول وقتها جميعاً.
فأراد الكبش أن يتفرج مما به؛ وينفس عن صدره شيئاً، وكان الصغير قد أنس إلى المكان والظلمة، وأقبل يعتلف ويخضم الكلأ، فقال له الكبش: أراك فارهاً يا ابن أخي، كأنك لا تجد ما أجد؛ إني والله أعلم علماً لا تعلمه، وإني لأحس أن القدر طريقة علينا في هذه الليلة، فهو مصبحنا ما من ذلك بد
قال الصغير: أتعني الذئب؟
قال: ليته هو، فأنا لك به لو أنه الذئب؛ إن صوفي هذا درع من أظافره، وهو كالشبكة ينشب فيها الظفر ولا يتخلص، ومن قرني هذين ترس ورمح، فأنا واثق من إحراز نفسي في قتاله، ومن أحرز نفسه من عدوه فذاك قتل عدوه، فان لم يقتله فقد غاظه بالهزيمة، وذاك عند الأبطال فن من القتل.
وهذا القرن الملتف الأعقد المذرب كالسنان، لا يكاد يراه الذئب حتى يعلم أنه حاطمة عظامه، فيحدث له من الفزع ما تنحل به قوته، فما يواثبني إلا متخاذلاً، ولا يقدم على إلا توهم الذئبية للخروفية، فان أساس القوة والضعف كليهما في السوس والطبيعة، غبر أنه لا يعلم أني خرجت من الخروفية إلى الجاموسية. . .!
فما يعلمه ذلك إلا بقر بطنه أو التطويح به من فوق هذا القرن، أقذفه قذفه عالية تلقيه من حالق، فتدق عظامه وتحطم قوائمه!
قال الصغير: فماذا تخشى بعد الذئب؟ إن كانت العصا فهي إنما تضرب منك الصوف لا الظهر
قال الكبش: ويحك! وأي خروف يخشى العصا؟ وهي إنما تكون عصا من يعلفه ويرعاه، فهي تنزل عليه كما تنزل على ابن آدم أقدار ربه، لا حطماً ولكن تأديباً أو إرشاداً أو تهويلاً؛ ومن قبلها النعمة وتكون معها النعمة وتجيء بعدها النعمة؛ أفبلغ الكفر منا ما يبلغ كفر الإنسان بنعمة ربه؛ إذا أنعم عليه أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسه الشر انطلق ذا صراخ عريض؟
وكيف تراني (ويحك) أخشى الذئب أو العصا، وأنا من سلالة الكبش الأسدي؟
قال الصغير: وما الكبش الأسدي، وكيف علمت أنك من نجله، ولا علم لي أنا إلا هذا الكلأ والعلف والماء، والمراح والمغدى؟
قال الكبش: لقد أدركت أمي وهي نعجة قحمة كبيرة، وأدركت معها جدتي وقد أفرط عليها الكبر حتى ذهب فمها، وأدركت معهما جدي وهو كبش هرم متقدد أعجف كأنه عظام مغطاة، فعن هؤلاء أخذت ورويت وحفظت
حدثتني أمي، عن أبيها، عن أبيه، قالت: إن فخر جنسنا من الغنم يرجع إلى كبش الفداء الذي فدى الله به إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكان كبشاً أبيض أقرن أعين، اسمه حرير
(قال). واعلم يا ابن أخي أن مما انفردت أنا به من العلم فلم يدركه غيري، أن جدنا هذا كان مكسواً بالحرير لا بالصوف، فلذلك سمي حريراً. . . (قالت أمي): والمحفوظ عند علمائنا أن ذاك هو الكبش الذي قربه هابيل حين قتل أخاه لتم البلية على هذه الأرض بدم الإنسان والحيوان معاً (قالوا): فتقبل منه وأرسل الكبش إلى الجنة فبقي يرعى فيها حتى كان اليوم الذي هم فيه إبراهيم أن يذبح ابنه تحقيقاً لرؤيا النبوة، وطاعة لما ابتلى به من ذلك الامتحان، وليثبت أن المؤمن بالله إذا قوى إيمانه لم يجزع من أمر الله ولو جر السكين على عنق ابنه، وهو إنما يجرها على ابنه وعلى قلبه!
(قالت) فهذا هو فخر جنسنا كله
أما فخر سلالتي أنا، فذاك ما حدثتني به جدتي، ترويه عن أبيها عن جدها، وذاك حين توسمت في مخايل البطولة، ورجت أن أحفظ التاريخ. قالت: إن أصلنا من دمشق، وإنه كان في هذه المدينة رجل سباع، قد اتخذ شبل أسد فرباه وراضه حتى كبر، وصار يطلب الخيل، وتأذي به الناس، فقيل للأمير: هذا السبع قد آذى الناس، والخيل تنفر منه وتجد من ريحه ريح الموت، وهو ما يزال رابضاً ليله ونهاره على سدة بالقرب من دارك. فأمر فجاء به السباع وأدخله إلى القصر، ثم أمر بخروف مما اتخذ في مطبخه للذبح، وأدخلوه إلى قاعة، وجاء السباع فأطلق الأسد عليه، واجتمعوا يرون كيف يسطو به ويفترسه
قالت جدتي: فحدثني أبي، قال: حدثني جدك: أن السباع أطلق الأسد من ساجوره وأرسله، فكانت المعجزة التي لم يفز بها خروف ولم تؤثر قط إلا عن جدنا، فانه حسب الأسد خروفاً
أجم لا قرون له، ورأى دقة خصره، وضمور جنبيه، ورأى له ذيلاً كالألية المفرغة الميتة، فظنه من مهازيل الغنم التي قتلها الجدب، وكان هو شبعان ريان، فما كذب أن حمل على الأسد ونطحه، فانهزم السبع مما أذهله من هذه المفاجأة، وحسب جدنا سبعاً قد زاده الله أسلحة من قرنيه، فاعتراه الخوف وأدبر لا يلوى. وطمع جدنا فيه فاتبعه، وما زال يطارده وينطحه، والأسد يفر من وجهه ويدور حول البركة، والقوم قد غلبهم الضحك، والأمير ما يملك نفسه إعجاباً وفخراً بجدنا فقال: هذا سبع لئيم، خذوه فأخرجوه، ثم اذبحوه، ثم اسلخوه. فأخذ الأسد وذبح، وأعتق جدنا من الذبح، وكان لنا في تاريخ الدنيا إنسانها وحيوانها أثران عظيمان، فجدنا الأول كان فداء لابن نبي، وجدنا الثاني كان الأسد فداءه!
قال الصغير للكبش: قلت: الذبح، والفداء من الذبح؛ فما الذبح؟
قال الكبش: هذه السنة الجارية بعد جدنا الأعظم، وهي الباقية آخر الدهر؛ فينبغي لكل منا أن يكون فداء لابن آدم! قال الصغير: أبن آدم هذا الذي يخدمنا ويحتز لنا الكلأ، ويقدم لنا العلف، ويمشي وراءنا فنسحبه إلى هنا وههنا. . .؟
تالله ما أظن الدنيا إلا قد انقلبت، أو لا، فأنت يا أخا جدي. . .
قد كبرت وخرفت!
قال الكبش: ويحك يا أبله! متى تتحلل هذه العقدة التي في عقلك؟ انك لو علمت ما أعلم لما اطمأنت بك الأرض، ولرجعت من القلق والاضطراب كحجة القمح في غربال يهتز وينتفض!
قال الصغير: أتعني ذلك الغربال وذلك القمح وما كان في القرية، إذ تناولت ربة الدار غربالها تنفض به قمحها، فغافلتها ونطحت الغربال فانقلب عن يدها وانتثر الحب، فأسرعت فيه التقاطاً حتى ملأت فمي قبل أن تزيحني المرأة عنه؟
فهز الكبش رأسه فعل من يريد الابتسام ولا يستطيعه، وقال: أرأيت حانوت القصاب ونحن نمر اليوم في السوق؟
قال: وما حانوت القصاب؟
قال: أرأيت ذلك السليخ من الغنم البيض المعلقة في تلك المعالق لا جلد عليها ولا صوف وليس لها أرؤس ولا قوائم؟
قال الصغير وما ذاك السليخ؟ إنه إن صح ما حدثتني به عن أمك، فهذه غنم الجنة، تبيت ترعى هناك ثم تجيء إلى الأرض مع الصبح، وإني لمترقب شمس الغد، لأذهب فأراها وأملأ عيني منها
قال: اسمع أيها الأبله! إن شمس الغد ستشعر بها من تحتك لا من فوقك. . .! لقد رأيت أخي مذ كنت جذعاً مثلك؛ ورأيت صاحبنا الذي كان يعلفه ويسمنه، قد أخذه، فاضطجعه، فجثم على صدره شراً من الذئب، وجاء بشفرة بيضاء لامعة، فجرها على حلقه، فإذا دمه يشخب ويتفجر، وجعل المسكين ينتفض ويدحص برجله، ثم سكن وبرد؛
فقام الرجل ففصل عنقه، ثم نخس في جلده ونفخه حتى تطبل وذرجع كالقربة التي رأيتها في القرية مملوءة ماء فحبستها أمك؛ ثم شق فيه شقاً طويلاً. ثم أدخل يده بين الجلد والصفاق، ثم كشطه وسحف الشحم عن جنبيه، فعاد المسكين أبيض لا جلد له ولا صوف عليه، ثم بقر بطنه وأخرج ما فيها، ثم حطم قوائمه، ثم شده فعلقه فصار سليخاً كغنم الجنة التي زعمت! وهذا - أيها الأبله - هو الذبح والسلخ!
قال الصغير: وما الذي أحدث هذا كله؟
قال: الشفرة البيضاء التي يسمونها السكين!
قال الصغير: فقد كانت الشفرة عن حلقه حيال فمه؛ فلماذا لم ينتزعها فيأكلها؟
قال الكبش: أيها الأبله الذي لا يعلم شيئاً ولا يحفظ شيئاً، لو كانت خضراء لأكلها!
قال: وما خطب أن تجيء الشفرة على العنق، أفلم يكن الحبل في عنقك أنت فجعلت تجاذب فيه الرجل حتى أعييته، ولولا أني مشيت أمامك لما انقدت له؟
قال الكبش: ما أدري كيف أفهمك إن هذا كله سيجري عليك، فسترى أموراً تنكرها، فتعرف ما الذبح والسلخ، ثم تصير أشلاء في القدور تضرم عليها النار، فيأكلك ابن آدم كما تأكل أنت هذا الكلأ. . .!
قال الصغير: وماذا علي أن يأكلني ابن آدم، ألا تراني آكل العشب، فهل سمعت عوداً منه يقول: الرجل والسكين، والذبح والسلخ. . .؟
قال الكبش في نفسه: لعمري إن قوة الشباب في الشباب أقوى من حكمة الشيوخ في الشيوخ، وما نفع الحكمة إذا لم تكن إلا رأياً ليس له ما يمضيه، كرأي الشيخ الفاني؛ يرى
بعقله الصواب حين يكون جسمه هو الخطأ مركباً في ضعفه غلطة على غلطة لا عضواً على عضو. .؟ وهل الرأي الصحيح للعالم الذي نعيش فيه إلا بالجسم الذي نعيش به؛ وما جدوى أن يعرف الكبير حكمة الموت، وهو من الضعف بحيث تنكسر نفسه للمرض الهين، فضلاً عن المرض المعضل، فضلاً عن المرض المزمن، فضلاً عن الموت نفسه؛ وما خطر أن يجهل الشباب تلك الحكمة، وهو من قوة النفس بحيث لا يبالي الموت، فضلاً عن المرض؟
لو أذن الشباب من الفتيان بيوم انقطاع أجله، وعلم أنه مصبحه أو ممسيه، لأمدته نفسه بأرواح السنين الطويلة حتى ليرى أن صبح الغد كأنما يأتي من وراء ثلاثين أو أربعين سنة، فما يتبينه إلا كالفكر المنسي مضى عليه ثلاثون سنة أو أربعون. ولو أذن الشيخ بيوم مصرعه، وأيقن أن له مهلة إلى تمام الحول، لطار به الذعر واستفرغهالوجل من ساعته ورأى يومه البعيد أقرب إليه من الصبح. وابتلته طبيعة جسمه المختل بالوساوس الكثيرة، تجتلبها له كما تجتلب الرياح صدوع المنزل الخرب. فذاك بالشباب يقبض على الزمن، فيعيش في اليوم القصير مثل العام رخياً ممدوداً، فهو رابط جلد؛ وهذا بالكبر يقبض الزمن عليه، فيعيش في العام الطويل مثل اليوم متلاحقاً آخره بأوله، فهو قلق طائر. ولا طبيعة للزمن إلا طبيعة الشعور به، ولا حقيقة للأيام إلا ما تضعه النفس في الأيام
ثم إن الكبش نظر فرأى الصغير قد أخذته عينه واستثقل نوماً، فقال هنيئاً لمن كان فيه سر الأيام الممدودة. إن هذا السر هو كسر النبات الأخضر، لا يقطع من ناحية إلا ظهر من غيرها ساخراً هازئاً، قائلاً على المصائب: هاأنذا. .
فهذا الصغير ينام ملء عينيه والشفرة محدودة له، والذبح بعد ساعات قليلة؛ كأنما هو في زمنين أحدهما من نفسه، فبه ينام، وبه يلهو، وبه يسخر من الزمن الآخر وما فيه وما يجلبه
إن الألم هو فهم الألم لا غير. فما أقبح علم العقل إذا لم يكن معه جهل النفس به وإنكارها إياه. حسب العلم والعلماء في السخرية بهم وبه هذه الحقيقة من النفس. أنا لو ناطحت كبشاً من قروم الكباش، ووقفت أفكر وأدبر وأتأمل، وأعتبر شيئاً بشيء - ذهب فكري بقوتي واسترخى عصبي وتحلل غضبي كله وكان العلم وبالاً علي؛ فإن حاجتي حينئذ إلى الروح وقواها وأسبابها أضعاف حاجتي إلى العلم. والروح لا تعرف شيئاً اسمه الموت، ولا شيئاً
اسمه الوجع؛ وإنما تعرف حظها من اليقين، وهدوءها بهذا الحظ، واستقرارها مؤمنة ما دامت هادئة مستيقنة
وقد والله صدق هذا الجذع الصغير؛ فما على أحدنا أن يأكله الإنسان. وهل أكلناه نحن هذا العشب، وأكل الإنسان إيانا، وأكل الموت للإنسان - هل كل ذلك إلا وضع للخاتمة في شكل من أشكالها؟
يشبه والله إن أنا احتججت على الذبح واغتممت له أن أكون كخروف أحمق لا عقل له، فظن إطعام الإنسان إياه من باب إطعامه ابنه وابنته وامرأته ومن تجب عليه نفقته! وهل أوجب نفقتي على الإنسان إلا لحمي؟ فإذا استحق له فلعمري ما ينبغي لي أن أزعم أن ظلمني اللحم إلا إذا أقررت على نفسي بدياً أني أنا ظلمته العلف وسرقته منه
كل حي فإنما هو شيء للحياة أعطيها على شرطها، وشرطها أن تنتهي؛ فسعادته في أن يعرف هذا ويقرر نفسه عليه حتى يستيقنه كما يستيقن أن المطر أول فصل الكلأ الأخضر. فإذا فعل وأيقن واطمأن، جاءت النهاية متممة له لا ناقصة إياه، وجرت مع العمر مجرى واحداً وكان قد عرفها وأعد لها. أما إذا حسب الحي أنه شيء في الحياة، وقد أعطيها على شرطه هو، من توهم الطمع في البقاء والنعيم، فكل شقاء الحي في وهمه ذاك وفي عمله على هذا الوهم؛ إذ لا تكون النهاية حينئذ في مجيئها إلا كالعقوبة أنزلت بالعمر كله، وتجيء هادمة منغصة، ويبلغ من تنكيدها أن تسبقها آلامها؛ فتؤلم قبل أن تجيء، شراً مما تؤلم حين تجيء!
لقد كان جدي والله حكيماً يوم قال لي: إن الذي يعيش مترقباً النهاية يعيش معداً لها؛ فإن كان معداً لها عاش راضياً بها، فإن عاش راضياً بها كان عمره في حاضر مستمر، كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها، فلا يستطيع الزمن أن ينغص عليه مادام ينقاد معه وينسجم فيه، غير محاول في الليل أن يبعد الصبح، ولا في الصبح أن يبعد الليل. قال لي جدي: والإنسان وحده هو التعس الذي يحاول طرد نهايته، فيشقى شقاء الكبش الأخرق الذي يريد أن يطرد الليل، فيبيت ينطح الظلمة المتدجية على الأرض، وهو لحمقه يظن أنه ينطح الليل بقرنيه ويزحزحه. . .!
وكم قال لي ذلك الجد الحكيم وهو يعظني: إن الحيوان منا إذا جمع على نفسه هماً واحداً
صار بهذا الهم إنساناً تعساً شقياً، يعطي الحياة فيقلبها بنفسه على نفسه شيئاً كالموت، أو موتاً بلا شيء. . .!
وتحرك الصغير من نومه، فقال له الكبش: إنه ليقع في قلبي أن الساعة كنت في شأن عظيم، فما بالك منتفخاً وأنت ههنا في المنحر لا في المرعى!
قال الصغير: يا أخا جدي. . . لقد تحققت أنك هرمت وخرفت، وأصبحت تمج اللعاب والرأي. . .!
قال الكبش: فما ذاك ويلك؟
قال: إنك قلت: إن هذا الإنسان غاد علينا بالشفرة البيضاء، ووصفت الذبح والسلخ والأكل؛ وأنا الساعة قد نمت فرأيت فيما أرى، أنني نطحت ذلك الرجل الذي جاء بنا إلى هنا، وهجت به حتى صرعته، ثم إني أخذت الشفرة بأسناني، فثلمته في نحره حتى ذبحته، ثم افتلذت منه مضغة فلكتها في فمي؛ فما عرفت والله فيما عرفت لحناً ولا عفناً في الكلأ هو أقبح مذاقاً منها
إن الإنسان يستطيب لحمنا ويتغذى بنا ويعيش علينا؛ فما أسعدنا أن نكون لغيرنا فائدة وحياة، وإذا كان الفناء سعادة نعطيها من أنفسنا، فهذا الفناء هو سعادة نأخذها لأنفسنا. وما هلاك الحي لقاء منفعة له أو منفعة منه إلا انطلاق الحقيقة التي جعلته حياً، صارت حرة فانطلقت تعمل أفضل أعمالها
قال الكبير: لقد صدقت والله، ونحن بهذا أعقل وأشرف من الإنسان؛ فإنه يقضي العمر آخذاً لنفسه، متكالباً على حظها ولا يعطي منها إلا بالقهر والغلبة والخوف. تعال أيها الذابح، تعال خذ هذا اللحم وهذا الشحم؛ تعال أيها الإنسان لنعطيك، تعال أيها الشحاذ. . . . .
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
مصر بين ثقافتين
الصراع القديم بين الإنكليزية والفرنسية وموقف مصر من
ذلك الصراع
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يعرف المتصلون بدوائر التعليم والثقافة في مصر أن صراعاً قوياً يجري بين الثقافتين الفرنسية والإنكليزية، تارة في الجهر وتارة في الخفاء. وقد كان تيار الثقافة الفرنسية هو الظافر حتى أواخر القرن الماضي، وكان يغمر المجتمع المصري المثقف، فلما رسمت سياسة الاحتلال الإنكليزية خطط الغزو المعنوي، اهتمت بنظم التعليم والتربية، وأخذت تعمل لتوجيهما بما يوطد نفوذ الثقافة الإنكليزية ويطبع الجيل الجديد بحبها والتعلق بها، فقلبت نظم التعليم، وحلت الإنكليزية مكان الفرنسية في معظم المواد، وتولى الأساتذة الإنكليز مقاليد الإدارة والتعليم في معظم المعاهد، وتحول سيل البعثات الحكومية من فرنسا إلى إنكلترا؛ ولم يمض ربع قرن حتى تم الانقلاب المنشود، وأسبغت على سياسة التربية والتعليم في مصر صبغتها الإنكليزية المحضة، وخرج الجيل الجديد من الشباب المتعلم يحمل تيار الثقافة الإنكليزية، وتضاءل نفوذ الثقافة الفرنسية وانحصر في بعض الجهات والمعاهد الأجنبية التي تعمل على نشرها
كان هذا الصراع بين الثقافتين الأجنبيتين على حساب لغتنا العربية وثقافتنا القومية، فلم تصب العربية خلاله حظاً يذكر من التقدم، وأغفلت كل المثل والاعتبارات القومية من برامج التعليم والتربية، وأوشك هذا الغزو الاستعماري المعنوي أن يقضي على أرواحنا وعقولنا، لولا أن وثبت البلاد وثبتها الوطنية في سنة 1919، وتذرعت للمقاومة بما بقى لها من العناصر الحيوية الكامنة، واستطاعت أن تحول السياسة الاستعمارية عما كانت تعتزمه من خطط الاستئثار الشنيع والقضاء على الحقوق والأماني الوطنية نهائياً، وأن تحرز بعض الغنم في ميادين السيادة القومية. وكان التعليم أحد هذه الميادين، فحررت نظمه وبرامجه من أغلالها القديمة نوعاً، وأنصفت اللغة العربية وأخذت تتبوأ مكانها اللائق كلفة أساسية لتدريس المواد في معظم المعاهد ومراحل التعليم، وكان ذلك ظفراً حقيقياً للغة البلاد
ولكن هذا التطور في ميدان التعليم والثقافة لم يحل دون استمرار المعركة القديمة بين الثقافتين الإنكليزية والفرنسية؛ فقد بقيت الفرنسية لغة إضافية في التعليم الثانوي، وضعف تيار الإنكليزية بما أتيح للعربية من مجال قوى للعمل والمنافسة؛ وظهر الضعف في الإنكليزية بين الطلبة قوياً، وأخذ نفوذ الثقافة الإنكليزية الذي كان متمكناً منذ عشرة أعوام فقط، يتضاءل بسرعة؛ واهتم الإنكليز لهذه الظاهرة؛ وبحث ولاة الأمر في أسباب ضعف الطلبة في اللغة الأجنبية الأساسية أعني الإنكليزية، وتضاربت فيه الآراء الفنية والعملية؛ أما نحن فلنا فيه رأى لا نرى بأساً من إبدائه. وهو أن هذا الضعف لا يرجع فقط إلى قصور الجيل الجديد من الأساتذة الإنكليز، ولكنه يرجع بالأخص إلى عوامل قومية، خلاصتها أن الخصومة القائمة بين مصر وإنكلترا تحمل الطالب المصري الذي أشربت نفسه بمبادئ الوطنية على نوع من الأسف والغضاضة لتلقي لغة الأمة الخصيمة على يد بعض أبنائها، وأن الأساتذة الإنكليز لا يؤدون مهمتهم في المعاهد المصرية كأساتذة فقط، ولكنهم رسل استعمار وسيادة أجنبية، ينظرون إلى الطلبة نظرة السادة إلى الرعايا والمحكومين، وفي أقوالهم وإشاراتهم دائماً مل يجرح شعور العزة القومية في هذه النفوس الغضة ويزهدها في بضاعة هؤلاء الأساتذة المتكبرين، ولو قام بتدريس الإنكليزية أساتذة مصريون ممن تخصصوا في دراستها، لكان ذلك أجدى وأنفع، ولزال كثير من أسباب هذه الشكوى
ولسنا نقف طويلاً بهذه النقطة، وهي ثانوية في نظرنا؛ ولكنا نريد أن أن نعرض إلى ما هو أهم من أطوار هذه المعركة المستمرة بين الثقافتين الإنكليزية والفرنسية؛ فقد طلب ولاة الأمر في وزارة المعارف أخيراً إلى بعض الأساتذة الإنكليز أن يبدوا رأيهم في سبب ضعف الطلبة في اللغة الإنكليزية، فصرحوا في تقريرهم الذي رفعوه إلى وزير المعارف بأن من أهم أسباب هذا الضعف في نظرهم هو اشتغال الطلبة بدراسة لغة أجنبية إضافية هي الفرنسية إلى جانب اللغة الأجنبية الأصلية وهي الإنكليزية، وإنه يجب إلغاء تدريس اللغة الفرنسية من التعليم الثانوي إذا أريد أن يتفرع الطلبة لدراسة الإنكليزية وأن تقوي مادتهم فيها. وقد كان إبداء هذا الرأي مثاراً لكثير من الجدل، ولاسيما من جانب الأساتذة الفرنسيين ومحبي الثقافة الفرنسية وأنصارها، فأخذوا يفندون رأي أساتذة الإنكليز ويدللون
على أهمية الثقافة الفرنسية بالنسبة لمصر ووجوب تفضيلها على أية ثقافة أجنبية أخرى
وموقف الأساتذة الإنكليز من اللغة الفرنسية طبيعي معقول، وسواء أكان رأيهم فنياً مجرداً عن كل اعتبار أدبي آخر، أم كان مغرضاً موحى به، فلا ريب أنه يمثل ناحية من نواحي هذه المعركة الخالدة بين الثقافتين الأجنبيتين اللتين تتنازعان النفوذ في مصر منذ نصف قرن. ويلوح لنا أنه من جهة أخرى رأي عملي سليم من الوجهة الفنية إذا جرد عما قد يكون وراءه من الاعتبارات والعوامل؛ فالطالب إذا تفرغ لدرس لغة أجنبية واحدة دون أن تزعجه لغة أجنبية إضافية أخرى، يستطيع أن يحرز في هذه اللغة شيئاً من التقدم. ومادام أن ظروفاً سياسية خاصة تقضي بأن تكون الإنكليزية هي اللغة الأجنبية الأساسية في مصر إلى جانب اللغة العربية، ومادام أن مصر لا تستطيع في الوقت الحاضر أن تقرر اختيارها حراً مطلقاً، فلا مناص من أن نصدع بالأمر الواقع، وأن نبحث المسألة على ضوء هذه الحقيقة
الإنكليزية هي اللغة الأجنبية الأساسية التي تقررت في نظام تعليمنا. ومن المسلم به أن تعليم اللغات الأجنبية الحية عنصر جوهري من عناصر الثقافة الناضجة، وفي جميع الأمم العظيمة التي تتمتع بحضارة رفيعة، تعلم لغة أجنبية أو أكثر إلى جانب اللغة القومية؛ وهذا ما تفعله مصر بتعليم الإنكليزية. ومن المحقق أن الإنكليزية في مقدمة لغات الأرض انتشاراً وأهمية، وأن الثقافة والآداب الإنكليزية في طليعة الثقافات والآداب العالية الرفيعة. ولكن من سوء الطالع، أن تكون الإنكليزية في مصر إلى جانب هذه الاعتبارات العلمية، أداة للنفوذ الاستعماري؛ ومن مصائب مصر أنها مازالت مسرحاً للمنافسات الأجنبية؛ الثقافة الفرنسية أو بعبارة أخرى الثقافة اللاتينية، والثقافة الأنجلوسكسونية، واللغة الألمانية، واللغة الإيطالية، كل تحتل مقامها في هذه البلاد، وكل تحاول أن تدعم نفوذها وأن تزيده بطريق المدارس والبعثات الدينية والمؤسسات الخيرية المقنعة، وكل تدعي لأبنائها بعض الإدارات والمناصب الفنية في الحكومة المصرية قياساً على الماضي كأن الزمن لم يتغير، ولم تحرز مصر تقدماً، ولم تجش بأمنية التحرر من هذه الوصايات الخطرة
ففي هذا المعترك تتخبط مصر؛ وإزاء هذه الجبهة المشتركة من الثقافات واللغات الأجنبية المتنافسة في غزو عقولنا وأرواحنا تقف اللغة العربية وحيدة في الميدان. وقد أنصفت اللغة
العربية في العهد الأخير نوعاً كما قدمنا، ولكنها مازالت في حاجة إلى إنصاف أتم وأوفى؛ وهي اليوم بلا ريب أقوى وأشد كفاحاً ومقاومة، وقد أتيح لها أخيراً أن تدلل على حيويتها المدهشة باستعمالها في تدريس كثير من مواد الدراسات العالية التي كانت تغلق قبلاً دونها بحجة قدمها وقصورها. غير أن العربية مازالت في مهادها الرسمية عرضة لمنافسة قوية من اللغتين الإنكليزية والفرنسية، الأولى كلفة أجنبية أساسية، والثانية كلغة أجنبية إضافية. والواقع أن هذه الفرنسية الإضافية لم تبق لها أية قيمة عملية في الدراسة، وقلما ينتفع الطلبة بتعليمها، وإنما هي أثر من آثار الصراع القديم والعهد الماضي، ففيم بقاؤها اليوم عنصراً من عناصر الإرهاق والتعطيل؟ قد يكون في اقتراح الأساتذة الإنكليز ما يبعث على الشك في نزاهته وأنه يرمي قبل كل شيء إلى تخلص اللغة الإنكليزية من منافسة قديمة. فليكن؛ ولكنا نستطيع أيضاً أن نحول هذا الإلغاء لمصلحة اللغة العربية والثقافية القومية، ذلك أن اللغة العربية تتخلص أيضاً بإلغاء هذه الفرنسية الإضافية من منافسة لا مبرر لها وليست لها قيمة علمية تذكر؛ ويكفي أن تضطلع العربية بالدفاع عن نفسها أمام غزو لغة أجنبية رسمية واحدة، وأن تقف مع الإنكليزية وجهاً لوجه، وأن تكسب بذلك قوة جديدة وأن تغزو ميداناً جديداً للعمل والكفاح
في وسع مصر أن تلغي الفرنسية من معاهدها، ولكنها لا تستطيع لظروفها السياسية الخاصة أن تلغي الإنكليزية. وإذن فلا ضير أن تلغى الفرنسية؛ وفي الإنكليزية كلفة ثقافية عالمية ما يكفي لتزويد المتعلم بكل ما يطمح إليه من صنوف العلوم والمعارف الحديثة، وكفى ما تلقاه البلاد من غزو معنوي منظم على يد المعاهد الأجنبية فرنسية وغيرها، وكلها تقوم برسالة غير رسالة العلم الخالص
لسنا نجد موضعاً للمفاضلة بين الفرنسية والإنكليزية فكلتاهما من أعظم اللغات الحية سواء في العلوم أو الآداب أو الفنون، وكلتاهما من أهم اللغات الدولية في المعاملات التجارية. ولسنا من أنصار ثقافة أجنبية بعينها، وإنما نؤيد الأخذ والاقتباس من كل ثقافة رفيعة. ولكن الأساتذة الفرنسيين في وزارة المعارف وأنصار الثقافة الفرنسية في مصر يضجون لفكرة إلغاء اللغة الفرنسية من مواد الدراسة الرسمية، ويشفقون على مستقبل الثقافة الفرنسية في هذه البلاد، فلم هذه الضجة ولم هذا الإشفاق؟ يقولون إن الثقافة الفرنسية هي أصلح الثقافات
الغربية لمصر. وإن النهضة المصرية الأخيرة بدأت على أساس الثقافة الفرنسية واستمرت كذلك طوال القرن الماضي، وإن قادة الحركة الفكرية الحديثة في مصر تلقوا العلم جميعاً في فرنسا، وإن الصلات التاريخية والاجتماعية القديمة بين مصر وفرنسا، وكون مصر اقتبست قوانينها الحديثة من القانون المدني الفرنسي، وكون اللغة الفرنسية ما تزال لغة المعاملات المختلفة في مصر، وأخيراً كون مصر أمة من أمم البحر الأبيض التي تغمرها الثقافات اللاتينية: كل هذه العوامل تحتم الإبقاء على اللغة الفرنسية في مصر، والمضي في الاقتباس من الثقافة الفرنسية وتوثيق هذه الروابط المعنوية بين البلدين
ونحن لا نود أن نجادل في هذه الوقائع من الناحية المادية، ولكنا نلاحظ فقط أن مصر الحديثة لم تتجه إلى اختيار الثقافة الفرنسية قصداً بمحض اختيارها؛ وإنما هو مجرى الحوادث القاهر الذي ساقها إلى هذا السبيل، فقد نظم الفرنسيون حينما غزوا مصر في خاتمة القرن الثامن عشر، غزوهم المعنوي إلى جانب الغزو السياسي، وعنوا ببث ثقافتهم في مصر عناية خاصة؛ ولما استخلص محمد على حكم البلاد لنفسه، ألفى أمامه بقية قائمة من هذه الثقافة، وألفى الفرنسيين على أهبة لمعاونته، وقضت ظروف سياسية معينة أن يقبل هذه المعاونة وأن ينتفع بها في تنظيم إدارته وإصلاح جيشه وماليته، وفي ظل هذه الظروف أرسلت البعثات المصرية الأولى إلى فرنسا، وقد كانت يومئذ أوثق الدول الغربية صلة بمصر، واستطاعت فرنسا أن تقوى نفوذها المعنوي والثقافي بمصر، وغدا هذا النفوذ بمرور الزمن ظاهرة قائمة في الحياة المصرية، واستمر ينتج أثره في طبع المجتمع المصري المثقف بالطابع الفرنسي حتى أواخر القرن الماضي. هذه هي قصة الثقافة الفرنسية بمصر، فلم تكن مصر عامدة أو حرة في اختيارها ولم تخترها وتؤثرها لأنها أصلح الثقافات لها، أو لأن ظروفها الجغرافية والاجتماعية كإحدى أمم البحر الأبيض تحتم عليها أن تسير وراء الثقافة اللاتينية، أو لغير ذلك مما ينتحله أنصار الثقافة الفرنسية في مصر؛ ولم يكن الأمر أكثر من حادث تاريخي عرضي زالت البواعث والظروف التي أدت إليه منذ بعيد
لسنا ننتقص من الثقافة الفرنسية أو غيرها من الثقافات الغربية الرفيعة، ولكنا سئمنا هذا التنافس على غزونا من طريق اللغات والثقافات، ولا نريد بعد أن نعتبر منطقة نفوذ لهذه
الثقافة أو تلك، ونريد قبل كل شيء أن نوحد جهودنا المعنوية في مقاومة الغزو الذي لا مناص من قيامه في معاهدنا ومدارسنا؛ ذلك هو الغزو الإنكليزي؛ ولن يكون ذلك إلا بالعمل على تعزيز اللغة العربية وتقدمها، وتعزيز عناصر الثقافة القومية في صدور الشباب. ومن حسن الطالع أن هذا الغزو الإنكليزي المنظم لعقولنا لم يصادف كثيراً من النجاح رغم استئثاره في عصر ما بجميع المواد والدراسات؛ ذلك لأننا نشعر دائماً بما وراءه من الظروف والاعتبارات التي لا يرتاح إليها ضميرنا القومي، ولأننا نشعر دائماً أنه غزو مفروض علينا في معنى من المعاني. وليس معنى ذلك أننا لم نجن غنما علمياً من دراسة الإنكليزية، ومن التثقف بثقافتها، فقد جنينا بالعكس منها فوائد جليلة، ولكنا نعتقد أن هذا الغنم يكون مضاعفاً لو أن مصر استطاعت أن تتحرر من كل نفوذ معنوي، وأن تختار لنفسها ما شاءت من ألوان الثقافات المختلفة التي تحقق أمانيها الوثابة دون أن تجني على بنائها وتقاليدها القومية؛ ونحن على يقين من أنه يوم يتاح لنا مثل هذا الاختيار الحر، لا نستطيع أن نرى في الإنكليزية إلا أنها في مقدمة اللغات والثقافات، ولا نجد غضاضة في أن تكون هي اللغة الأجنبية الأساسية، وأن تكون أداة لسد كل نقص نشعر به في دراستنا
والخلاصة لا نجد غضاضة ولا ضرراً في إلغاء الفرنسية من برامجنا الدراسية والقضاء على هذا التنازع في النفوذ العقلي في معاهدنا، وتحرير اللغة العربية بذلك من أحد عناصر المنافسة التي لا مبرر لها، والتي ما زالت تشعر بوطأتها. بل نرى من الخير ومن الواجب معاً أن تقاوم البلاد كل ألوان هذا الغزو الثقافي الأجنبي ما استطاعت خصوصاً ما كان منه ستاراً لبث نفوذ معين يتخذ من آن لآخر وسيلة لتحقيق مختلف الغايات والمصالح؛ ولسنا نفرق في ذلك بين غزو وغزو ونفوذ ونفوذ؛ فالفرنسي والإيطالي والألماني كالإنجليزي يتخذون من بلادنا مسرحاً لهذه المنافسات الخطرة؛ وإنه لمن خير مصر وسلامها أن تقاوم هذا الغزو المعنوي دائماً وأن تعمل على تحطيم عناصره وأسلحته ما استطاعت
محمد عبد الله عنان
المحامي
كيف نبعث الأدبوكيف نترواه؟
للأستاذ عبد العزيز البشري
عرض وجلاء تاريخ:
لاشك في أن من أهم نهضاتنا التي نتواثب فيها الآن ومن أبرزها نهضة الآداب: فلقد زاد عدد المقبلين على الأدب العربي والذين يعالجونه في هذا العصر بقدر عظيم، كما أعليت مكانته، وأبعدت أغراضه، وتلونت فنونه. وبعد أن كان يضطرب في أضيق مضطرب، ويتقلب في أفسل المعاني، ولا يستشرق إلا للضئيل التافه من الغايات من المديح الوضيع الذليل، ومن الغزل المصنوع المتكلف، ومن فخر مكذوب لا يمت إلى مفاخر العصر بسبب، ومن وصف مفترى على الطبيعة، فلا هو مما ينتظم الواقع، ولا هو مما يخلع عليه الخيال الصناع صورة الواقع، ومن هجو تتلقط فيه المعايب والمقاذير من هنا ومن هنا لتعفر بها وجوه الناس عفراً. ونحو ذلك مما كان يجول فيه الأدب في الجيل الماضي، على وجه عام، وتتجرد في طلبه والتشمير له جمرة المتأدبين. على أنه لم يكن له أي حظ من وجدان ولا من جيشان عاطفة، وكيف له بهذا وهو لم يذك له حس، ولم يخفق به قلب، وإنما أمره إلى حركة آلية لا تكاد تعدو في مذهبها تلك الحركة التي تنبعث بها الصناعات اليدوية. إلى أن تلك المعاني، إذا صدق أن مثل ذلك مما تطلق عليه كلمة المعاني، لقد كانت، في الكثير الغالب، تجلى في صور مترهلة متزايلة، لا يقوى بناءها أو يشد متنها شيء من جزالة اللفظ ومتانة الرصف، وتلاحم النسج، ولا يجتمع لتزيينها وتبهيجها شيء من حسن الصياغة وإشراف الديباجة وجمال النظام!
ولقد قيدت هذا (بالكثير الغالب) لأن ذلك الجيل الماضي لم يخل من كتاب ومن شعراء أغلوا حظ الأدب، ففسحوا في أغراضه، وأبعدوا في مطالبه، وحلقوا بمعانيه، وأبدعوا في البيان، فاتسق لجلالة المعاني شرف اللفظ، وبراعة النظم، وإحكام النسج، وكذلك استوى من المنظوم والمنثور كليهما كلام يترقرق ماؤه، ويتألق سناؤه. ورحم الله إبراهيم المويلحي وإبراهيم اللقاني وأضرابهما في الكتاب، ومحمود سامي البارودي وإسماعيل صبري في الشعراء، فقد هدوا إلى حسن البيان السبيل
وإذا كان الأدب يتمثل لأدباء هذا الجيل في صورة أبدع وأروع من الصورة التي كان
يتمثل فيها لسلفهم القريب، كما أدركوا هم أن له مهمات أوسع أفقاً وأبعد مدى من تلك التي كان يدور فيها في ذلك العهد، حتى لقد أصبح يتقلب في جلى أسباب الحياة، بل لقد تجاوز أو كاد يتجاوز أفق الكماليات البحث إلى موطن الضرورات في الحياة - إذا كان المتأدبون قيد أصبحوا يحلون الأدب هذا الموضع، ويتمثلونه على هذه الصورة، فذلك لأنهم طالعوا أدب الغرب ورأوا ما يتصرف فيه من مختلف الفنون، وما يتجرد له من جسام المطالب
لقد أصبح الأدب وسيلة من وسائل تنعيم النفس وتلذيذها بما يجلو عليها من صور الجمال، وبما يرهف من الحس حتى يتفطن ألوان المعاني إلى كل دقيق وإلى كل بديع، كذلك لقد تبسط الأدب واسترسلت آثاره وإلى كثير من الأسباب العامة، على ما تقدمت الإشارة إليه، فعظم بذلك أمره، وجل في عيش الحضارة خطبه، وكذلك أضحى للبارعين من أهله في الغرب من الشأن ما لا يكاد يوصل شان
ولقد زعمت لك أن الذي بعث تقدير أبناء العربية للأدب هذا المبعث ما جلى عليهم من أدب الغرب وما طالعوا من بعيد آثاره في شتى الأسباب، فراح كثيرون منهم يتأثرونه، ويتصرفون بالبيان في مثل ما يتصرف فيه من مختلف الفنون. على أن كثيرين من هؤلاء الكثيرين قد انقطع جهدهم دون هذه الغاية فلم يظفروا من الأمر بجليل. ولاشك أن ذلك يرجع إلى أنهم، في غالب الأحيان، إنما ينقلون إلى العربية ما يتهيأ لهم نقله من آداب الغرب على الصورة التي يستوي فيها لأهله، لا يحاولون، أو لعلهم يعجزون إذا هم حاولوا، أن يطبعوه على ما يألفه الخيال الشرقي، ويستريح إليه الذوق العربي، وتسلس له بلاغات العرب!
ولقد يكون هذا من أثر الافتتان بأدب الغرب، والتجرد في محاكاته وتقليده من جهة، وقلة المحصول من فقه العربية ورقة الزاد من ألوان بلاغاتها من جهة أخرى
وبعد، فما نحسب أن هناك من ينكر على الأدب العربي جليل خطره في عهد الجاهلية وفي قيام الدولة العربية في الشرق والغرب، وأنه كان، في الجملة، يؤدي من مطالب الحياة ما يؤديه الأدب الغربي اليوم، وأقول (في الجملة) لأن الأدب قد تشعبت في هذا العصر فنونه، وتطاولت آثاره إلى كثير لم يلتفت إليه في الزمان القديم، ولعله لو ظلت دولة العرب قائمة، وظلت حضاراتهم في اطرادها، ما تقاصر اليوم عن شأو الأدب الغربي، بل لعله كان يسبقه
إلى كثير!. ولو قد عنى النشء من متأدبينا بدراسة هذا الأدب، وخاضوا في أمهات كتبه، وأطالوا تسريح النظر فيما أثر من روائعه، لرجعوا إلى نفوسهم بأنه أدب عظيم كل عظيم، أدب يمتع حقاً وينعم الروح حقاً بما ينفض من عاطفة متعجلة، ويصور من دقيق حس، ويتدسس إلى ما استكن في مطاوي الضمير، إلى ما أصاب من المعاني البارعة، وما تعلق به من الأخيلة الرائعة، وما تصرف فيه من كل دقيق وجليل في جميع الأسباب الدائرة بين الناس. ما ترك جليلالاً من الأمر ولا دقيقاً إلا مسه وعرض له وعالجه بالتصوير والتلوين، وكل أولئك يصيبه في مصطفى لفظ، ومحكم نسج، وبارع نظم، ودقة أداء، وحلاوة تعبير!
على أن الأدب العربي، مع هذا لقد طالما جال في بعض الأسباب العامة وساهم في الأحداث السياسية والقومية والمذهبية بقدر غير يسير، ومهما يكن من شيء فهو أدب واسع الغنى، رفيع الدرجة؛ بل إنه لمن أغنى الآداب التي قامت في العالم ومن أعلاها مكاناً
والواقع أنه قد انقبض بانقباض الدول العربية وضعف بضعفها، فجعلت تضيق أغراضه، وتتواضع معانيه، ويجف ماؤه، ويتجلجل بناؤه، حتى صار ما صار إليه وظل عاكفاً عليه، إلى ما قبيل نصف قرن من الزمان
ولا يذهب عنك أنه في فترة انقباضه الطويلة قد انبعثت في الغرب حضارة جديدة جعلت، على الزمن، تنبسط وتتناول وسائل الحياة دراكاً حتى بلغت شأواً بعيداً. ومما ينبغي أن يلتفت إليه أشد الالتفات في هذا المقام، أن هذه الحضارة قد أولت أجل عنايتها للشئون المادية، فكان حظ العلوم الطبيعية والكيميائية منها عظيماً، فاستكشفت أشياء كثيرة، واخترعت أشياء كثيرة، حتى كاد الإنسان لا يتناول شأناً من شئون الحياة إلا بسبب طريف. وبذلك كثرت الآلات المادية كثرة تفوق حدود الوصف، وهي تطرد في الزيادة كل يوم، إذ اللغة العربية جاثمة في أفحوصها لا تمتد بالتعريف عن هذا، إذا هي امتدت، إلا إلى قليل، بل إلى أقل من القليل
ولقد كان من آثار فقر العربية في هذا الباب أنها حتى بعد نهضتها الأخيرة لزمت في بيانها دائرة الأدبيات لا تصيب من المحسسات المادية، إن هي أصابت، إلا في حرج وفي عسر شديد! وكيف لها بهذا وليس لها به عهد قريب ولا بعيد؟!
وإذا كانت الحاجة تفتق الحيلة كما يقولون، فقد بعثت النهضة العلمية في عهد محمد علي
الكبير رفاعة وأصحابه إلى أن ينفضوا قديم العربية لعلهم يجدون بين مفرداتها وما أثر في كتبها من المصطلحات العلمية والفنية ما يدلون به على ما استوى لهم من جديد في العلوم والفنون، فإذا أصابوا هذا وإلا عمدوا إلى الوسائل الأخرى من النحت والاشتقاق والتعريب. وإذا كان قد اجتمع لهم فيما نقلوا إلى العربية من علوم الغرب وفنونه صدر محمود، فإن ذلك أصبح لا غناء فيه ولا سداد له؛ بعد إذ فترت تلك النهضة وخبت جذوتها بعد ذهاب مذكيها المرحوم محمد علي الكبير، بينا تطرد العلوم والفنون في تبسطها حتى لتخرج على العالم كل يوم بجديد. وهذه الحاجة الملحة، والتي يشتد إلحاحها ويتضاعف كلما تراخت الأيام، لقد كانت تبعث جماعات الفضلاء الفينة بعد الفينة إلى تأليف الجمعيات للبحث والنظر في تحريك لغة العرب حتى تستطيع أن تتوافى لمطالب الحضارة الحديثة. على أنه لم يقدر لها النجاح لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام. فلم يبق بد من أن تضطلع وزارة المعارف بالأمر، وبعد لأي قام (المجمع الملكي للغة العربية)، نسأل الله تعالى أن يمده بروحه، ويعينه على مهمة جليلة المشقة جليل الآثار، وأن يهديه إلى أقوم سبيل!
لقد استطرد القلم من حديث الأدب إلى حديث اللغة، وماله لا يفعل واللغة مادته وملاكه. وإذا كان أجل همه إلى المعنويات فليس له عن هذه المادة غناء، بل لقد تكون وسيلته وأداته حتى في التعبير عن أخفى العواطف وأدق خلجات النفوس. على أن أهم ما يعنينا من هذا البحث إنما هو حيرة الأدباء، أو على تعبير أضبط، خيرة بعض من يعانون الأدب في هذا العصر، وذلك أن في مأثور العربية أدباً غنياً سرياً واتى سلفنا العظيم بمطالب الشعور ومطالب الحضارة جميعاً. على أننا نعيش الآن في حضارة غير حضارتهم، ونعالج من وسائل الحياة غير ما عالجوا. ثم إنه مهما تطبعنا الوراثة على طبعهم، وتنضح علينا من أذواقهم وشعورهم وغير ذلك من خلالهم، فإن مما لاشك فيه أن لتطاول الزمن، وتغير البيئات، وتلون الحضارات، وما يجوز بالأقوام من عظيمات الأحداث أثراً لقد يكون بعيداً في كل أولئك. وأنت خبير بأن الأدب الحق إنما يتكيف بما هو كائن، ويترجم عما هو واقع. ومن هذا تجد كل أدب حي متحرك في تطور مستمر طوعاً لتطور العوامل والأسباب.
ولست تلتمس دليلاً على أن الأدب العربي إنما كان كذلك في حياته القوية بخير من أن
تستعرض شأنه في الجاهلية، وتقلبه في جميع الدول العربية في العصور الإسلامية. فلن تخرج من هذا إلا بأنه قد تأثر في كل عصر وفي كل بيئة بقدر ما تغير على القوم من مظاهر الحياة
ومعنى هذا الكلام أن الأدب العربي، في أي عصر من عصوره الخالية، مهما يجل قدره وتعظم ثروته لا يمكن أم يغنينا الآن في كثير من مطالب الحياة إذا نحن اتخذناه على حاله، ولم نعد ما كان من صوره وأشكاله. وإلا فقد سألنا الطبيعة شططاً. فهيهات للساكن الجاثم أن يلحق المتحرك السائر
وهناك أدب غربي دارج الحضارة الحديثة وسايرها خطوة خطوة، واتسع لكل مطالبها، وواتاها بجميع حاجاتها في غير مشقة ولا عناء. ولا يذهب عنك أننا إنما نتأثر الغرب في ثقافته وعلومه وفنونه وسائر وسائله، وهذه سبيلنا إلى ما نستشرف له من التقدم ومشاكلة الأقوياء، ولكن هذا الأدب الغربي الذي نقبل على محاكاته فيما نقبل عليه من آثار القوم، لا يتسق في بعض صوره لشأننا، ولا تستريح إليه أذواقنا، بل أنه قد لا يستوي في تصوراتنا، ولا يجدي علينا في كثير، أضف إلى هذا عجز بعض نقلته سواء في شعره أو في نثره، وقلة محصولهم من العربية، واضطرارهم، بحكم ذلك، إلى إخراجه، مترجمين كانوا أم محاكين ومقلدين، في صور بيانية شائهة الخلق، ناشزة على الطبع، لا يحس إلا مليخة باردة في مذاق الكلام!
وبعد، فإن مما لا يتقبل النزاع أنه لابد لنا من أدب قوي سري يواتي جميع حاجاتنا، ويساير ثقافتنا القائمة، ويتوافى لهذه الحضارة التي نعيش فيها، بحيث تطمئن به طباعنا، وتستريح إليه أذواقنا، شأن كل أدب حي في هذا العالم، ولعل من أشد الفضول أن نقول إن هذا الأدب لا يمكن إلا أن يكون عربياً. ولكن كيف الحياة في ذلك؟
ذلك ما نعالجه في مقال آخر إن شاء الله تعالى، فلقد طال هذا الحديث.
عبد العزيز البشري
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
أسبلنزاني
صلة حديثة
(القس الماكر الذي مالق الكنسية والسلطات وهو يحتقرها جميعاً لكي يعيش ولكي يعمل في سكون؛ الذي ناضل نضال الجند بغير أهبة الجند وعدة الجند؛ الذي أثبت من مرق اللحم أن المكروبات ككل الأحياء لابد لها من آباء؛ الذي أهدى للعلم مثانته الوبيئة، ذلك الأثر الوحيد الذي بقى للناس إلى اليوم من هذا الرجل الكبير الخالد)
ولم يكن (نيدم) في هذه الأثناء غافلاً نائما، بل كان يقظاً بكل ما جرى، محساً بخطره أيما إحساس؛ وكان حاذقاً في الدعاية ماهراً في النشر والإذاعة. فذهب إلى باريس وأخذ يحاضر فيها عن مرق لحمه؛ وفي باريس التقى بالكونت الشهير (بيفون) وكان الكونت ثرياً، وكان جميلاً، وكان يحب أن يكتب في العلم، ويعتقد أنه يستطيع تخريج الحقائق من رأسه أحسن تخريج، إلا أنه والحق يقال كان أنيق الثياب أناقة منعته من دخول المعامل وممارسة التجارب. وكان بحق يعرف شيئاً من الرياضيات، فترجم عن نيوتن إلى الفرنسية. فإذا أنت علمت فضلاً عن هذا أنه كان يستطيع أن يلعب على الورق بالأرقام الكبيرة المعقدة في سهولة لعب السحرة المهرة، وإذا أنت أضفت إلى أنه رجل أرستقراطي نبيل، وأنه فوق كل هذا رجل ذو مال كثير، استطعت أن تدرك في غير عناء كبير أنه رجل من الأفذاذ القلائل الذين يحق لهم أن يقضوا لنا في أمر تلك الأحياء الصغيرة قضاء صادقاً دون الرجوع إلى التجربة، وأن يقولوا لنا أتخرج تلك الأحياء عن آباء وأمهات، أم هي تخرج من ذات نفسها - أو على الأقل هكذا كان يتحدث عنه سخره باريس الكفرة الفجرة
وعمل (بيفون) و (نيدم) سوياً بتوافق تام، وفي صفاء لا يشوبه كدر، واقتسما العمل: أما (بيفون) فكان يلبس الثياب البنفسجية البديعة، والأكمام ذات الدانتلة النادرة العزيزة، فلم يكن ينتظر منه أن يوسخها على نضد المعامل القذرة بما عليها من تراب وزجاج منثور، ومرق مراق من وعاء مكسور، لذلك اختص بالتفكير وبالكتابة، وقام (نيدم) بالتجريب. واعتزم الاثنان أن يخترعا نظرية ضخمة يفسران بها كيف تنشأ الحياة، وفلسفة رفيعة عميقة يفهمها مع ذلك كل إنسان، فلسفة يجتمع عليها المؤمنون البررة والملاحدة السخرة على السواء. وأخرجا نظرية أهملت الحقائق التي استخرجها (اسبلنزاني) كل الإهمال، وتعامت عنها كل التعامي! ولكن ما ضرر هذا؟ ألم تخرج هذه النظرية من رأس (بيفون) العظيم؟ أليس في عظم هذا الرأس ما يبرر نقض كل حقيقة مهما كان مكانها من اليقين؟
يقول نيدم للكونت النبيل: (سيدي اللورد الجليل! ما الأسباب التي تنشأ عنها تلك الحيوانات الصغيرة في مرق الضأن برغم غليانها؟)
فيحتدم عقل بيفون، ويدور في الطبقات العليا من الخيال الرفيع دوراناً رشيقاً بديعاً، ثم يهبط إلى الأرض ويجيب:(عزيزي الأب نيدم، لقد كشفت كشفاً خطيراً، لقد وضعت اصبعك على أصل الوجود، لقد رفعت الغطاء في مرق لحمك عن تلك القوة التي تخلق الحياة). نعم لابد أن تكون قوة، كل شيء قوة!
فيقول الأب نيدم: إذن فلنسمها: القوة النباتية، أي لوردي العظيم).
فيجيب بيفون: (اسم مناسب جميل، أيها الأب الجليل)
ثم يلبس الكونت أحسن ثيابه ويذهب إلى مكتبه، وقد تنضح جوه بأطيب العطور، ويبدأ يكتب عن عجائب القدرة النباتية التي تستطيع أن تخلق في مرق اللحم ونقيع الحب حيوانات صغيرة - يكتب هذا لا من ملاحظات دونها عن تجارب في المعمل شهد بها الزجاج والعدس واللهب، بل يكتبها من عقله الخصيب
وما هي إلا أيام معدودات حتى كنت تسمع (بالقوة النباتية) على كل لسان، يتحدث بها كل إنسان، وتتفسر بها كل الأمور، فالزنادقة أحلوها محل الله، ورجال الكنيسة قالوا إنها أمضى أسلحة الله. وشاعت في الناس كما تشيع الأغاني، وانتقلت بينهم انتقال الحكاية المليحة التي لا تتصل بالآداب اتصالاً وثيقاً، أو كما نتحدث اليوم عن النظرية النسبية
وأسوأ من هذا وأنكى أن الجمعية الملكية جارت رجل الشارع، بل سارعته حتى كادت تتعثر في خطاها، فانتخبت (نيدم) عضواً بها، ونادت به أكاديمية العلوم بباريس زميلاً. وفي هذه الأثناء كان اسبلنزاني يسير في معمله رائحاً غادياً يتمتم ويدمدم: ذاك خطر على العلم كبير، ذاك تعام عن الحقائق المتجسدة المتجردة الصامتة التي بدونها لا يكون العلم علماً، هذان رجلان يتغاضيان عن تجاربه البديعة وما تتضمنه من حقائق جميلة!
وظل اسبلنزاني لا يدري كيف يصنع. وأنى له ما يصنع، وقد أغرق نيدم وبيفون العالم العلمي بطوفان من الكلم، ولم يجيبا بشيء عن حقائقه، ولم يريا الناس مواضع الخطأ من تجاربه؟ وكان الطلياني مقاتلاً شديد المراس، ولكنه كان يحب القتال بالحقيقة وبالتجربة، وقام خصماه فأثارا حوله غباراً كثيفاً من اللفظ الفارغ، ولفاه من فرعه إلى قدمه بقتام الكلم البائر، فلما امتشق سيفه أن يضرب لم يجد ما يضرب. صاح اسبلنزاني ما صاح، وغضب ما غضب، وسخر سخراً مريراً بتلك الدعابة الهائلة، تلك القوة التي أسموها القوة النباتية، ولكن من دون جدوى. قال نيدم إنها القوة التي أخرجت حواء من ضلع آدم، إنها القوة التي كونت شجرة الصين العجيبة التي تكون في الشتاء دودة، فإذا جاءها الصيف استحالت ويا للعحب إلى شجرة باسقة جميلة - إلى غير هذا من الخرف والكذب، حتى خال اسبلنزاني أن علم الحيوان كاد يضيع، كادت تضيعه القوة النباتية التي ابتدعها نيدم وأخذ يفسر بها كل شيء، فلم يبق له إلا أن يخرج بوساطتها من البقر رجالاً، ومن البراغيث أفيالاً!
ثم جاءت على حين غفلة تلك الفرصة التي أمكنته من القتال.
ذلك أن نيدم كتب إليه ينقد تجربة من تجاربه. كتب إليه يقول: (إن تجربتك يا هذا لا تصمد للنقد طويلاً. إنك سخنت قباباتك ساعة كاملة، فهذه الحرارة الشديدة أضعفت تلك القوة النباتية فأصبحت لا تستطيع خلق تلك الأحياء الصغيرة)
وكان هذا كل الذي طلبه اسبلنزاني واصطبر من أجله طويلاً فنسى لاهوته، ونسى تلاميذه العديدين الذين كانوا يتشوقون إلى دروسه، ونسى العقائل الحسان الائي كن يتراحمن حوله ليطوف بهن في متحفه، وطوى أردانه الواسعة فكشف عن سواعده. وأخذ يعمل، لا بقلمه في مكتبه، ولكن بزجاجه وبذوره ومجهره على نضد معمله
- 4 -
(نيدم يقول إن الحرارة تفسد في البذور تلك القوة التي أسماه النباتية. شيء جميل! هل كان جرب قبل أن ينطق؟ وكيف عرف تلك القوة؟ هل أحسها؟ هل رآها؟ هل وزنها؟ هل قاسها؟ لم يفعل شيئاً من هذا، ومع هذا يقول إنها موجودة في البذور! فليكن، وإذن فلنسخن هذه البذور ثم نر)
وأخرج اسبلنزاني قباباته مرة أخرى وأخذ في تنظيفها. ونقعفي الماء النقي أنواعاً عدة من البذور والحمص والفول وغير هذه حتى امتلأت الحجرة بالقبابات، فكنت تراها تشرف عليك من فوق الأرفف العالية، وكنت تراها جالسة على النضد والكراسي الواطئة، وكنت تراها أوطأ من ذلك - قد تربعت على أرض الغرفة حتى يتعذر عليك السير فيها
قال اسبلنزاني: (والآن فلأغل طائفة كبيرة من هذه القبابات أزماناً مختلفة ثم انظر أيها يخرج أكثر عدد من تلك الأحياء الصغيرة). وأخذ يغطس هذه القبابات في الماء الغالي خمس دقائق، ثم يغطس هذه فيه نصف ساعة، ثم هذه ساعة تامة، ثم أخرى ساعتين. وبدل أن يلحمها ويختمها في النار سدها بالفلين. ولم لا؟ ألم يقل نيدم إن هذا يكفي؟ ثم رتبها جميعاً ونحاها؟ وأخذ ينتظر. وذهب يصطاد وينسى أن يشد الخيط عندما تأكل السمكة الطعم، وذهب يجمع المعادن والأحجار لمتحفه وينسى بعد جمعها أن يحملها عند الرواح إلى بيته. وأعمل الحيلة لزيادة مرتبه، وأقام القداسات، ودرس كيف يتناسل الضفدع - ثم اختفى مرة أخرى إلى غرفته المعتمة بما فيها من زجاجات مصفوفة وأدوات غريبة
لو صح قول نيدم، إذن لوجدنا القبابات التي أغليت عشر دقائق تعج بالأحياء، ولم نجد شيئاً في الأخريات التي أغليت ساعة أو ساعتين. ونزع السدادات سدادة سدادة، ونظر في القطرات قطرة قطرة، وأخيراً أخذ يقصف بالضحك، فالزجاجات التي أغليت ساعتين كان بها من تلك الخلائق الحية المرحة أكثر من التي أغليت دقائق
(زعموها قوة نباتية! حديث خرافة وأضغاث أحلام. إنك مادمت تكتفي بسد القبابات فسوف تدخل إليها الأحياء غصباً عنك من الهواء. ولن يغني الغليان عن ذلك شيئاً ولو ظللت تغليها حتى يسود وجهك من سخام النار، فإن تلك الأحياء تدخل إلى المرق من السداد بعد أن يبرد)
انتصر اسبلنزاني بهذا، ثم إذا به يحاول أمراً لا يحاوله إلا العالم القح، العالم الذي أشرب
الروح العلمية الحق، ذلك أنه قام يخاصم نظريته، ليرى أيستطيع أن يقهر فكرته، أن يقهر تلك النظرية العزيزة عليه، أن يقهر تلك الفكرة الحبيبة إليه. فرسم خطة الهجوم. وابتدع في أمانة وذكاء تجارب هي محك ما يقول، فأما له وإما عليه. هذا هو العلم، هذه هي روح العلماء التي وهبها الله قليلاً من الرجال أحبوا الحق حباً غلب على شهوات الأنفس وأماني القلوب. وأخذ اسبلنزاني يتمشى في غرفة عمله المظلمة وروحة وجيئة وكفاه خلف ظهره وهو يتفكر:((. . . . ولكن مهلاً! أليس من الجائز أن نيدم خمن تخمينه وقعت في الصميم من الحقيقة وهو لا يدري؟! أليس من الجائز أن في هذه البذور قوة نباتية حقاً أعدمتها النار الشديدة؟!)
ثم قام فأتى بشيء من البذور، ثم قلاها في مقلاة كما يحمص اللبن، أعني حبه، حتى أرمدت واسودت، ثم وضعها في القوارير وصب عليها الماء، ثم هدر كالبعير يقول:(لو صح أن في هذه البذور قوة نباتية كما يزعمون إذن فقد أعدمها التحميص إعداماً)
وبعد أيام رجع إلى قارورته وما بها من الأحسية المطبوخة من البذور المحروقة، وأخذ ينظر إليها بعدسته فوجدها جميعاً مليئة بتلك الحيوانات الصغيرة يزحم بعضها بعضاً في مراحها ومغداها، تنعم بالحياة وتبتهج بالعيش في مرق الحب المحروق نفس الحياة الناعمة والعيش البهيج الذي كانت تجده في حساء الحب غير المحروق. وعلت وجهه ابتسامة ساخرة، كأنما كان ينظر في هذه الساعة إلى نيدم وإلى بيفون ويتصور ما قد نالهما من جراء ذلك من الحرج والضيق
حاول أن يقهر نفسه ويقهر نظريته، فإذا النتيجة تطلع بقهر نيدم رب التقوى، وبانحدار بيفون رب الظرافة. قالا إن النار تقتل القوة التي ابتدعاها فلا تتكون تلك الخلائق، وها هي ذي البذور تحرق حتى تتفحم وهي لا تزال ترفد تلك الأحياء بالغذاء الطيب المريء - (إذن فتلك القوة خرافة). وبهذا النداء صاح اسبلنزاني في أوربا يسمع دانيها وقاصيها فأخذت تنصت إليه
وأراد أن يستجم من عناء المخلوقات الضئيلة وما يتصل بها من أبحاث مجهدة، فحول إلى المعدة الإنسانية وأخذ يدرس الهضم كيف يحصل فيها، وأجرى في ذلك تجارب على نفسه كانت مؤذية قاسية. ولم يكفه فطلع إلى ذروة بيته، إلى تلك الحجرة الحارة المظلمة التي
تلي سقيفة داره، وأخذ يدرس كيف أن الوطواط على عماه يستطيع أن يطير فيها ولا يصطدم بشيء مما بها. وفي ثنايا كل هذا استطاع أن يقتصد من وقته فيعين أولاد أخيه على التعلم، وأن يتكفل بحاجات أخته وأخيه، وما كانوا من ذكائه وعبقريته في شيء، ولكنهم كانوا من لحمه ومن دمه
ولم يلبث أن رجع القسيس يسأل نفسه ذلك السؤال القديم: كيف تنشأ الحياة؟ ذلك السؤال الذي منعه دينه من أن يجد له جواباً، وتلك الحياة العجيبة التي أوصاه دينه بأن يتقبلها بعين مغمضة وإيمان أعمى، وأن يتخذ من غرابتها آية من آيات الله العظيم، وأن يرى في غموضها لسراً من أسرار الحي القيوم. رجع يبحث في الحياة كيف تكون، وأخذ يجرب في الحيوانات الكبيرة بدل تلك الحيوانات المجهرية الصغيرة. وبدأ سلسلة من الأبحاث طويلة في سفاد الضفدع المسمى بأبي ذنيبة ساقته إلى فظائع كبيرة وتمثيل بالحيوان تقشعر منه الأبدان. . .
ولم يكن يأتي الفظاعة حباً لها، ولم يتعد حدود اللياقة ضيقاً بها، بل كان يتشمم حيثما قاده أنفه طلباً للمعرفة وتعشقاً لها. وقسا على نفسه كما قسا على الحيوان. ذلك أنه أراد أن يدرس كيف تهضم المعدة الطعام، فإذا يأتي بقطع صغيرة من الخشب يجعلها جوفاء ثم يملؤها باللحم ثم يبلعها، وبعد ذلك يضع إصبعه في حلقه فيقيئها، ثم يأخذ ينظر ما جرى للحم داخل الخشبات. وثابر كالمخبول على هذا العذاب حتى اعتراه غثيان دائم لم يجد معه إلا الإقرار بالضرر الحاصل فوقف التجارب
يتبع
أحمد زكي
من الشعر المنثور
أيها الطفل الغرير!
للآنسة (فتاة الفرات)
- 1 -
رأيتك طفلاً كما يثب العصفور، فوق الأغصان،
وسمعتك تغرد كما يغرد البلبل، على الأفنان،
فاغتبطت بك اغتباطاً، طار بي من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال،
وملأت بمنظرك الجميل عيني،
وشنفت بصوتك العذب سامعتي،
- 2 -
ورأيتك يافعاً عائداً من المدرسة، تحمل أدواتك،
وجالساً إلى منضدتك تؤدي واجباتك،
على ثغرك ابتسامة الظفر، وعلى وجهك طمأنينة الأمل
فقلت: هلال سيكون بدراً تماماً،
وشبل سيكون أسداً ضرغاماً
- 3 -
ثم رأيتك بعد أيام وقد برح بك الداء،
وأقر الطبيب بالعجز عن الدواء!
تنتزع نفسك من صدرك، وتقتلعه من بين أضلاعك،
ففر قلبي جزعاً عليك وطار،
وانهل الدمع في إثرك وسار!
- 4 -
كنت جميلاً فزادك الموت جلالاً،
وكنت جليلاً فزادتك المنية جلالا ً،
فأنت على سرير الموت ملء القلب وملء البصر،
نعم إن لك فوقه جمال العريس،
وجلال السيد الرئيس
- 5 -
أيها الطفل الغرير!
أيها الغصن الغض النضير!
هذه قصيدة أنظمها فيك، بكاء لك وحزنا عليك،
كما تنظم يد الربيع لآلئ الأزهار
في أسلاك الأشجار،
- 6 -
ما هي في الحقيقة عبارات،
إنما هي هي عبرات وحسرات،
نثرتها يد الحزن نثراً، فجاءت غير موزونة ولا مقفاة
إنها أنفس ما يملكه القلب الكسير
وأثمن ما يحرزه الطرف الحسير
- 7 -
أنت للنفس سرورها!
وأنت للعين نورها!
لقد ذهب السرور وذهب النور، فلا نفس ولا عين،
كل شيء بعدك يسير،
وكل رزء غير رزئك حقير،
- 8 -
الشمس مشرقة ولكن ليس لها ضياء!
والقمر طالع ولكن فارقه البهاء!
والعنادل تغرد على الأغصان فلا تحرك ساكناً، ولا تثير كامناً،
فأنت مصدر كل نور
وأنت مبعث كل سرور
- 9 -
لو استطعنا لغسلنكا بالدموع
ودفناك بين الحشا والضلوع
ضناً بك عن سكن الأجداث، ونزول الأرماس
فالرمائم للقبور
أما اللآلئ فإنها للصدور والنحور
- 10 -
رجعنا عنك وقد شققنا القلوب والأجفان،
لا الجيوب والأردان
ونفضنا أيدينا من أنفسنا، بعد أن نفضناها منك،
فلا كدر بعدك ولا صفاء
ولا سعادة ولا شقاء
- 11 -
كل يوم للزمان فينا جولة
وله على صرح حياتنا صولة
ونحن إليه ساكنون مطمئنون، نرتع ونلعب،
فيا لله للإنسان ما أنساه!
وتباً للزمان ما أقساه!
- 12 -
نسر كاسر فوق حمام
وذئب ضار بين أغنام
تسمع النبأة فتجزع وتطير، وتنقطع عنها فتسكن وتلهو،
فهل يلين الزمان بعد قسوته؟
وهل يصحو الإنسان من سكرته؟
- 13 -
سيبقى على قسوته الزمان
وسيظل على غفلته الإنسان
لتتم كلمة القضاء القاهر، في سكان الدور والقبور،
وليبتهج اللاعب بلعبته
وينعم بصولجانه وكرته
- 14 -
نبكي فتتزايل منا الأضالع،
ونضحك فتهل المدامع،
فبريق الابتسامة ينذر بالويل، كما ينذر وميض البرق بالصاعقة،
فمتى نكون إذن مسرورين؟
ومتى نكون هانئين وادعين؟
- 15 -
أيها الملك القاهر!
أيها الصانع الماهر!
صنعت الأقداح وملأتها، ثم عدت إليها فحطمتها وأرقتها!
فقطرات من دموع الفرح
إلى بحار من دموع الحزن والترح
- 16 -
ليتك ما أخذت ولا أعطيت
وليتك ما أمت ولا أحييت
وليتنا بقينا بين طيات العدم وتحت أذيال الخفاء
فلم ننعم بنور الحياة
حتى لا نشقى بظلمة الممات
حلب
فتاة الفرات
18 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
وما إن انتهى سقراط من هذا الحديث حتى ساد الصمت فترة طويلة، فبدأ هو نفسه، كما بدأ معظمنا، كأنما نفكر فيما قيل، إلا أن سيبيس وسمياس تهامسا بكلمات قليلة، فلما لحظ ذلك سقراط، استنبأهما عما ارتأيا فيما أقيم من دليل، وهل لم يزل يعوزه التدعيم، وقال: إن كثيراً منه لا يزال عرضة للشك والطعن، إذا ما صحت من أحد عزيمته أن يقلب النظر في جوانب الموضوع كلها، وإن كنتما تتحدثان عن شيء آخر، فخير ألا اعترضكما، أما إن كنتما لا تزالان تشكان في الدليل، فلا تترددا في أن تصرحا بكل ما تريانه، ولنأخذ بما قد تقترحانه، إن كان خيراً مما قلنا، واسمحا لي أن أعينكما إن كان يرجى لكما من نفع
قال سمياس: لابد من أن أعترف يا سقراط بأن الشكوك قد ثارت في عقولنا، وكان كل منا يحفز الآخر ويدفعه ليلقي السؤال الذي أراد أن يستجيب عنه والذي لم يرد أحد منا أن يلقيه، خشاة أن يكون إلحاحنا مضنياً لك في حالك الراهنة
فابتسم سقراط وقال: ألا ما أعجب ذلك يا سمياس! ما أحسبني في أرجح الظن مستطيعاً إقناع سائر الناس بأنني لا أجد رزءاً في موقفي هذا، ما دمت عاجزاً عن إقناعكم أنتم، وما دمتم على ظنكم أنني الآن أكثر مشغلة مني في أي وقت آخر. ألا تريان عندي من روح النبوة ما عند طيور التم؟ التي إذا أدركت أن الموت آت لا ريب فيه ازدادت تغريداً عنها في أي وقت آخر، مع أنها قد أنفقت في التغريد حياتها بأكملها، وذلك اغتباطاً منها بفكرة أنها وشيكة الانتقال إلى الله، الذي هي كهنته، ولما كان الناس يشفقون هم أنفسهم من الموت، تراهم يؤكدون افتراء أن طيور التم، إنما تنشد مرثية في ختام حياتها، ناسين أن ليس من الطيور ما يغرد من برد أو جوع أو ألم، حتى البلبل والسنونو، بل حتى الهدهد، الذي يقال عنه بحق إنه يغرد تغريدة الأسى، وأن كنت لا أومن أن ذلك يصدق عليه أكثر مما يصدق على طيور التم، فهي إنما أوتيت موهبة التنبؤ لقداستها عن أبولو، فاستطلعت ما
في العالم الآخر من طيبات، فطفقت تغني لذلك وتمرح في ذاك اليوم أكثر مما فعلت في أي يوم سابق. كذلك أنا، فإني أعتقد في نفسي بأنني خادم قد اصطفاه الله نفسه، وإني رفيق لطيور التم فيما تعمل، فأنا أظن أن قد آتاني سيدي من التنبؤ موهبة ليست دون مواهبها مرتبة، فلن أغادر الحياة أقل مرحاً من التم. فلا تحفلا بعد هذا، وتكلما فيما تشاءان، وسلا عما تشاءان، في هذه الفترة التي يسمح فيها حكام أثينا الأحد عشر بالكلام
قال سمياس: حسناً يا سقراط، إذن فسأنفض إليك مسألتي، وسينبئك سيبس بمشكلته، فإني لأقول مجترئاً إنك تحس يا سقراط، كما أحس أنا، كم هو عسير أو يكاد يستحيل أن تبلغ في مثل هذه المسائل يقيناً، مادمت في هذه الحياة الحاضرة، ومع هذا، فإني لأتهم بالجبن كل من لا يدلل عليها ما وسعه الدليل، أو كل من خار به قلبه قبل أن يخبرها من كل جوانبها. فينبغي للمرء أن يثاير حتى ينتهي إلى أحد أمرين: إما أن يستكشف حقيقتها أو يعلمها، فإن استحال ذلك فإني أحب له أن يأخذ بأقوم الآراء البشرية وأبعدها عن التنفيذ، وليكن ذلك طوفه الذي يسبح به في الحياة - وأني مسلم بأنه لن يفعل ذلك دون أن يتعرض للخطر، إذا هو لم يستطع أن يجد من الله كلمة تسير به على هدى وطمأنينة
والآن فسأجسر، كما تريدني، على أن أستجيبك، لأني لا أحب أن آخذ على نفسي فيما بعد أنني لم أدل برأيي في حينه الملائم، فغني إذا ما قلبت النظر في الموضوع يا سقراط، سواء أكنت وحدي أم كنت مع سيبس، بدا لي أن التدليل لم يكن حاسماً
أجاب سقراط - إنني لأعترف يا صديقي أنك قد تكون مصيباً، ولكني أحب أن أعلم في أي ناحية لم يكن التدليل حاسماً
فأجاب سمياس - في هذه الناحية: ألا يجوز أن يستخدم أحد هذا الدليل بذاته في القيثارة والانسجام - ألا يحق له القول إن الانسجام شيء خفي، غير جثماني، لطيف إلهي، موجود في القيثارة المنسجمة، ولكن القيثارة والأوتار، مادة، وهي مادية متألفة من أجزاء أرضية، وتربطها القربى بالفناء؟ وأنه إذا تحطمت القيثارة أو تقطعت أوتارها وتمزقت، فإن من يأخذ بهذا الرأي يدلل كما تدلل أنت، وبالتشابه نفسه، على أن الانسجام يبقى حياً ولا يفنى، لأنك لا تستطيع أن تتصور، كما يجوز القول، أن تبقى القيثارة بغير أوتارها، بل وتبقى الأوتار الممزقة نفسها، على حين أن الانسجام الذي يمت بأسباب القربى إلى الطبيعة
السماوية الخالدة يفنى - بل ويفنى قبل الذي هو فان. سيقول إن الانسجام لاشك موجود في مكان ما، وإن الفناء سيصيب الخشب والأوتار قبل أن يصيب ذلك الانسجام، وإني لأشك يا سقراط أنك ستأخذ، أنت أيضاً، في الروح بهذا الرأي الذي نميل جميعاً إلى الأخذ به، وستذهب كذلك إلى أن الجسد إنما أقيم وارتبطت أجزاؤه بفعل عناصر الحر والبرد والرطوبة والجفاف وما إليها، وأن الروح هي ما بين هاتيك العناصر من إنسجام، أو هي مزاجها المتزن المتناسب، فإن صح هذا نتج بداهة أن أوتار الجسد إذا ارتخت أو أجهدت بغير مبرر بسبب الفوضى أو أي فساد آخر فنيت لذلك الروح جملة واحدة، برغم ما بها من ألوهية غالبة، مثل سائر الانسجامات التي تكون في الموسيقى أو آيات الفن، ولو أن بقايا الجسد المادية ربما لبثت طويلاً حتى يدركها الفناء أو الاحتراق. والآن، إن زعم زاعم بأن الروح تفنى أولاً فيما يسمى بالموت، باعتبار أنها ما بين عناصر الجسد من انسجام، فبم نجيبه؟
(يتبع)
زكي نجيب محمود
من أدب الهند
2 -
الأمير خسرو
الشاعر الهندي الكبير
بقلم السيد أبو النصر أحمد الحسيني
الهندي
قبل أن نلقي نظرة في شعر خسرو يجدر بنا أن نبين معنى الشعر والغرض منه في صوره المختلفة عند كبار المفكرين حتى يتمكن القارئ من الحكم على شعره بما هو خليق به
قال جانسون: إن الشعر هو توحيد اللذة مع الحق، يدعى فيه الخيال لمساعدة العقل. وعند استيوارت مل: الشعر هو ما يتوقف على الفكر والكلمات التي تجتمع العاطفة فيها من تلقاء نفسها. وقال ميكاليه: إننا نعني بالشعر استعمال الكلمات بطريق أن يوجد الوهم على التخيل، وهو فن يعمل فيه الشاعر بالكلمات ما يعمله الرسام بالألوان. وقال الأستاذ كورتهوب: إنه فن إيجاد اللذة بالتعبير الصحيح عن الفكر الخيالي والعاطفة في كلام موزون. وقال الشاعر نظامي العروضي السمرقندي من المسلمين: إنه فن يرتب به الشاعر القضايا الخيالية ويخلطها بالتشبيهات المثمرة، ليستطيع أن يظهر الصغير كبيراً، والكبير صغيراً، أو يظهر الخير في لباس الشر والشر في لباس الخير
نستنبط من التعاريف المذكورة المختلفة للشعر، أن الشعر هو تعبير عاطفي خيالي عن الحياة كما تصوغ نفسها في فكر المعبر - هو معالجة الحقائق والتجارب والمسائل بطريق يسود فيه العنصر الخيالي. والشعر ينقسم إلى قسمين: داخلي أو شخصي، وخارجي أو غير شخصي. ففي الأول يوجه الشاعر جل عنايته إلى نفسه يستوحي ويستلهم عواطفه الخاصة وتجاربه الذاتية. وفي الثاني يتوجه إلى غيره يعامل العالم الخارج عن نفسه بغير الاستناد إلى ذاته وشخصه. والأول يشمل جميع أقسام الأناشيد والشعر الغنائي مثل الغزل والنسيب وأناشيد الوطنية والروحانية الخ، كما يشمل الشعر الفلسفي والفكري. وأما الثاني فينقسم إلى قسمين: قصصي وتمثيلي. فالشعر المختص بالملاحم والفروسية والأساطير من أهم أصناف الشعر القصصي. والتمثيلي هو ما يقدم لك صوراً واضحة لسجايا الأشخاص المختلفة،
وأخلاقهم في حكاية تمثل
في ضوء هذه التعاريف للشعر وأصنافه ونواحيه المترامية الأطراف حين نلقي نظرة على شعر خسرو نجد أن عبقريته الشاملة لم تترك نوعاً من أنواعه ولا ناحية من نواحيه إلا باشرتها بالإجادة والإبداع. فهو قد أتقن جميع أنواع الشعر اتقاناً حقيقياً. وأنتجت قريحته في جميع نواحي الشعر إنتاجاً نال استحسان كبار الشعراء والنوابغ في زمنه وفيما بعد. وهذه مزية لم توجد في غيره. فإن غيره من شعراء اللغة الفارسية لم يقدر أحد منهم لا قبله ولا بعده، ولا في الهند ولا في بلاد فارس، أن يقول الشعر ويحاكي إلهامه الشعري في أكثر من صورة واحدة أو صورتين من أنواع الشعر
فملوك الشعر الفارسي يعدون ستة: فردوسي، وسعدي، وأنوري، وحافظ، وعرفي، ونظيري. ولكن مملكة كل منهم لم تتعد حدود نوع واحد من أنواع الشعر. فالفردوسي لم يقدر أن يتجاوز حدود المثنوي، وتصنيفه فيه هو الملحمة الكبيرة المسماة شاهنامه، وقد نشر ترجمتها بالعربية صديقنا الأستاذ عبد الوهاب عزام. وسعدي كان ملك الغزل، ولكنه لم يقدر أن يجيد القصيدة ولا المثنوي، كما أن براعة أنوري كانت محدودة في القصيدة، ولم تكن قادرة على الغزل المثنوي. كذلك حافظ ونظيري وعرفي كانوا نوابغ في الغزل، وغير قادرين على أنواع الشعر الأخرى. ولكن ذكاء خسروا الجامع المتسع لم يقتصر على واحد منها بل تناول (غزلاً) كما تناول (مثنوياً) وعالج (قصيدة) كما عالج (رباعياً) بغاية الإجادة والإتقان في جميع نواحيها، حتى لم يترك الأصناف الصغيرة الأخرى من الشعر الفارسي مثل (مستزاد) و (صنايع) و (بدايع)
هذا من حيث أنواع الشعر، وأما من حيث كمية الإنتاج، فنجد أنه لا يوجد له ند في ذلك أيضاً. فإن عدد الأبيات للفردوسي لم يزد على ثمانين ألفاً، كما أن عدد الأبيات للشاعر الفارسي صائب لم يزد على ألف، ولكن ما جادت به قريحة خسرو يبلغ بضع مائة ألف بيت. فقد ذكر غير واحد من المؤرخين في كتبهم أن عدد الأبيات الفارسية له يتراوح بين ثلاثمائة وأربعمائة ألف. وفي بعض الروايات ستمائة ألف
كان خسرو يجيد بضع لغات إجادة تامة. فكان يتقن التركية لأنه كان من أصل تركي. والفارسية لأنها كانت لغة دينه، والاردية لأنها كانت اللغة الشائعة بين الناس. ولم يكن
خسرو جاهلاً السنسكريتية لغة جيرانه الوثنيين المقدسة. فقد اعترف في كتابه (نه سبهر) بكل تواضع حيث قال: (عندي إلمام بتلك اللغة أيضاً). وعلى ذلك لم يكن خسرو شاعراً بالفارسية فقط، بل باللغات الأخرى أيضاً. بيد أن أكثر آثاره قد ضاع ولم يبق إلا القليل الذي بالفارسية والاردية
يعد خسرو من مؤتنف شعراء اللغة الاردية، لأنها كانت حينئذ في دور التكوين. فقد غذاها بالأناشيد والنكت والطرائف والكتب الدراسية للأطفال شعراً، ولا تزال شائعة بين الهنود وإن مر عليها أكثر من ستة قرون. وقد ذكر المؤرخ أوحدي في كتابه (تذكره معرفت) أن إنتاج خسرو في اللغة الاردية يساوي إنتاجه في الفارسية. فإن صح ذلك فمن الأسف أن لم يبق من ذلك الأثر العظيم إلا نزر يسير
لم يكن خسرو شاعراً فقط، بل كان ناثراً كذلك وإن قل إنتاجه في النثر بالنظر إلى إنتاجه في الشعر، فله غير واحد من الكتب الضخمة نثراً. اعترف أهل الفن بطول باعه فيه أيضا. وجميع منظوماته باللغة الفارسية التي توجد في الهند هي كما يلي: -
1 -
من نوع المثنوي
(1)
مطلع الأنوار: نظمه في مدة أسبوعين في سنة 698 هجرية وهو في التصوف، وقد نهج فيه منهج نظامي (الشاعر الفارسي الشهير) في كتابه (مخزن الأسرار) ويحتوي على 3310 أبيات
(2)
شيرين وخسرو: نظمه في نفس سنة 698 هجرية وهو يحتوي على حكاية عشق خسرو لشيرين وكلاهما من أبطال الحب في الأدب الفارسي مثل مجنون ليلى في الأدب العربي. وعدد الأبيات فيه 4124 بيتاً
(3)
ليلى ومجنون: صنفه في نفس السنة المذكورة وهو يشتمل على 2660 بيتاً
(4)
آيثن اسكندري: صنفه في سنة 699 هجرية ونهج فيه منهج (سكندرنامه) للنظامي وعدد أبياته 4450 بيتاً
(5)
هشت بهشت: أتمه في أوائل سنة 701 هجرية وقد نهج فيه منهج (هفت بيكر) للنظامي، وعدد الأبيات فيه 3382 بيتاً
وهذه الكتب الخمسة المذكورة يقال لها (بنج كنج) أو (خمسة خسرو) تدل على سرعة إنتاج
المؤلف إذ هي تحتوي على 17926 بيتاً وقد صنفها في سنتين ونصف سنة. وللنظامي أيضاً خمسة كتب في نفس الموضوع، ولكن أكثر الشعراء رجحوا (خمسة خسرو) على (خمسة نظامي). ومنهم عبد الرحمن جامي فإنه قد رجحه في كتابه (بهارستان)
(6)
قران السعدين: صنفه في سنة 688 هجرية حينما كانت سنه 36 سنة عن طلب السلطان معز الدين كيقباد، وهو يحتوي على حكاية مقابلة كيقباد لأبيه بغراخان مسالماً مع خروجه له محارباً
(7)
تاج الفتوح: ملحمة تحتوي على حكاية فتوحات السلطان جلال الدين خلجي صنفها في سنة 90 - 689 هجرية
(8)
نه سبهر (أي الأفلاك التسعة) صنفه في سنة 718 للسلطان قطب الدين خلجي، فسر به كثيراً وأنعم عليه بفضة تساوي وزن الفيل كما قيل
(9)
دول راني خضرخاني: وهو يحتوي على بيان حب خضر خان بن السلطان علاء الدين لدول راني بنت راجا كجرات وانتهائه بالزواج
2 -
من نوع الغزل
(10)
تحفة الصغر: يحتوي على شعره الذي قاله بين 16 و19 من سنه، ويشمل الغزل والنسيب
(11)
وسط الحياة: يحتوي على شعره الذي قاله بين 20 و33 من سنه
(12)
غرة الكمال: يحتوي على شعره الذي قاله بين 34 و44 من سنه، وقد كتب في مقدمته ترجمة حياته بالإيجاز
3 -
من نوع القصائد
(13)
بقية نقية: يحتوي على شعره إلى سنة 715 هجرية وفيه رثاء السلطان علاء الدين خلجي أيضاً
(14)
نهاية الكمال: يحتوي على شعره في آخر سنة، وفيه رثاء السلطان قطب الدين خلجي وقصيدة في مدح ولي عهده
(15)
جواهر البحر: لم أره
(16)
خزائن الفتوح: صنفه للسلطان علاء الدين خلجي
(17)
تغلق نامه: صنفه للسلطان محمد تغلق في 725 هجرية، وهو آخر تصانيفه
4 -
من أنواع الشعر الأخرى
(19)
رسالة نصر: لم أره
(20)
مقالة: احتوت على أحوال الخلفاء الراشدين مع رسالة في التصوف
(21)
خالق باري: كتاب للتدريس يحتوي على مفردات اللغات المختلفة المنظومة
5 -
مصنفاته بالنثر
(22)
إعجاز خسرو: في علوم البلاغة في خمسة مجلدات
(23)
إنشائي أمير خسرو: في علم الإنشاء
عظة البدر
للأستاذ (أبي أحمد)
البدر يرعاني وأرعاه
…
قد يمكر الجلاس إلاه
أبثه من زفراتي فما
…
لغيره يأمن أواه
يسري علي الليل رفيقَ الخُطا
…
يضيء أقصاه وأدناه
تلوح فيه الأرض موشية
…
من أقصر النبت وأسماه
لمثل ما أبصر من منظر تغفر للدهر خطاياه
وساحر الأجفان حلو اللمى
…
ضعيف كر الطرف تياه
حديثه مثل دبيب المنى
…
يبسم والدر ثناياه
حسبي من اللذة أنفاسه
…
ومن رضِىَّ العيش لقياه
قد تمت الغبطة في ليلة
…
قل لها في الدهر أشباه
ما العيش إلا ما يلد الفتى
…
قل لها في الدهر أشباه
سألت هذا البدر كم منظرا
…
رأى على الدهر بمسراه
قال ولم تَطْرِف له مقلة
…
ولم تحرك منه ذكراه:
(هاتيك مَنْفيس بها ما بها
…
من أرحب القصر وأعلاه
يلوح عن بعد بها موكب
…
أخراه لا تبدو لأولاه
حتى إذا أبصرت أعلامه
…
وخَرَّت الناس لمرآه
عرفت رب الملك في عرشه
…
حسبك منه خُبْر سيماه
وذاك في بغداد قصر سما
…
يضيء فيه العز والجاه
وربه في مجلس باهر
…
مؤتلق تبهر رؤياه
وحوله من كل حورية
…
هاروت في الأجفان مثواه
يأخذ عنها الطير ألحانه
…
ويأخذ النرجس رياه
واليوم لا ملك ولا موكب
…
إلا طلولاً من بقاياه
وهاهو العالم في سيره
…
كأنما لم يعف مغناه!)
حياة قرجي ونترز
[عن الشاشة البيضاء]
للأستاذ فخري أبو السعود
بآمالها عاشت وفي ذِّكرياتها
…
تَخَيَّلُ أحباباً لها خَطَرَاتِها
تُؤانِس أَشتاَ الطُّيُوف وإنَّها
…
لآنَسُ ما تُبْفَى لَدَى خَلَوَاتها
تمُوج بجُلَّى الحادثات حياتُها
…
على ضيق مثواها ونَزرِ لِدَاتها
على حُبَّ من يَرْعى هواها مقيمة
…
وإن لَجَّتِ الأقدارُ في جَهَلاتها
تُصاحبُهُ في حِلَّهِ ورَحيلِهِ
…
وما جاوَزِتْ يوماً مَدَى حُجُرَاتها
وتَبْلُغُ وَهْماً ما اشْتَهَتْ مِنْ وصالهِ
…
إذا ضنتِ الدُّنيا بِمُشْتهَياتها
وتصبر عاماً كي تفوزَ بوصْلَةٍ
…
فيا شَدَّ ماَ تَلقْى وطُولَ أناتِها
وتمْشي خَيَالاً في مَوَاكب نَصْرِهِ
…
إذا أقْبَلَتْ تختالُ في خافِقاتِها
وَتَحْسَبُ مَجْداً نالَهُ مِن فَخَارها
…
تقاسِمه إياه في نَشَواتها
وما ساَءها وَهْوَ الوَفِيُّ أَنِ أُغْتَدَى
…
جميعُ الورى في حبًّه من عُدَاتها
وقالوا فلم تحفلْ بِقَوْلَةِ لائِم
…
وَبِنَّ فَلَمْ تطلُب رِضَى هاجراتها
وكان لها الدنيا وكان لها الوَرى
…
وكانت له في ليلها وَغَدَاتها
وزاد هواها رِقَةً ذِكْرُ طِفْلَةٍ
…
لها منه يزهو الحُسْن في قَسَماتِها
تُسامُ ابتعاداً عن فتاها وَبنْتِها
…
وإنها أدْنى لها من لَهاَتِها
وَتَرْصُدُ أَحيْاناً لِفِلْذَةِ قَلْبِها
…
لِتَرْوِىَِ منها الطَّرف في غدواتها
فيا طِيبَ ريَّاها وعذب ابتسامها
…
ولطف محياها وسحرَ الْتِفاتها
وطُوبى لها لو تستطيع احتضانها
…
وإطفاَء حَرَّ القلبِ من قبلاتها
وتقبيلَ كفَّيْها ولثم ثُغَيرها
…
ورشْف نَدِىَّ الحُسْنِ في وجناتها
وإذ كان ذاك الشملُ يَلتامُ بعد ما
…
تراَءى بياضُ الشَّيب في شَعَرَاتها
وبَشَّرها بالوصلِ صاحبُ وُدَّها
…
بِوَصْلٍ به لا تَتقَّي عاذلاتها
أبى الحَيْنُ ما راما وخَرَّ مُضَرَّجاً
…
عَلَى قَدَمَيْهاَ لا يَعي دَعَوَاتها
ودَانُوا بِهِ مِن شَيَّعتْ فيه رُوحها
…
ومَن لو أَطاقَتْ لافتدَتهُ بذاتها
ومرَّ بها في السجن ماضي رُفاَتِهِ
…
إلى قبره يُذْكى شَبَا حَسَراتها
تَحِنُّ له في وَحْشَةِ السَّجْنِ لَهْفَةً
…
وتُذري عليهوحدها عَبَراتها
وَزَفُّوا إليها العفوَ منْ بَعدِ حِجَّةٍ
…
فلم يَلْقَ منها العفوُ غَيْرَ صُماتها
وما هَزَّ قلباً للحياة مُطامِناً
…
بأرْزَائِها تَعْتَامُ أو حسناتها
تَسَاوتْ لديها نضرةُ الروض في الضحى
…
وأحناءُ ذاك السجن في ظُلُماتها
وهيهات ما مِن صادعٍ لاسارها
…
سوى الموت أو من كاشفٍ غمراتها
وراحت تُقَضَّي العمر في فَيْءِ بنتها
…
- ولم يَبْقَ منها غيرُ طَيْفِ حياتها
حُطامُ أَمانٍ أَو بقيَّةُ مهجةٍ
…
قضت ليس يحيا ثَمَّ غيرُ رفاتها.
فخري أبو السعود
الهر المرائي
هِرَّي أراك تَوَدُّني بتملق
…
لولا القِرى ما كان مثلك وَدّنى
مالي أراك تخصي بحفاوة
…
ويميل ذيلك في الهواء وينثني
إن الرياء لظاهر يا صاحبي
…
لولا اشتياقك للطعام هجرتني
فلعلة الطمع الوضيع ألفتني
…
ولغاية الشره الحسيس صحبتني
فاخلع رداء الذل والملق الذي
…
يقذي العيون بشكله القذر الدَّني
واقنع برزقك فالقناعة نعمة
…
إن القنوع مدى الحياة هو الغني
محمد عشماوي صقر
ذكوان
للأستاذ زكي المحاسني
(مهداة إلى الصديق النابغة علي الطنطاوي)
ذَكْوَانُ أنشدني أرقَّ النشيدْ
…
أنتَ أغانيَّ وأنتَ القصيدَ
ناغِ ولا تَبْكِ فإنَّ البُكا
…
منكَ مُذيبٌ لفؤادي الوَدُودْ
عُمُركَ عشرونَ صباحاً وَليِ
…
عشرونَ عاماً في هَواكَ العميد
جئتَ إلى الدُّنيا برغْمٍ كما
…
جئْتُ أَنَا، لكننا لَا نُرِيد
غداً ستنمُو وتُحِبُّ الهوَى
…
مِثْلي ويُغريك العُلَى والجدُودْ
نَظَرْتُ في شِعْرِ المَعرَّى فما
…
أمالني نحوَ الرَّدَى واللُّحُود
يَوَدُّ أَنْ يَهدِمَ هَذي الدُنى
…
وأكرَهُ الخَلْقِِ إليهِ الوَلُودْ
سألتُهُ: لو كنتَ ذَا رؤيَةٍ
…
وَذُقْتَ تقبيلاً وَلمَسَ النهُّودْ
لطَوَّحَتْ عقلَكَ بَرَّاقَةُ الخم
…
رِ وأسقتك الهوَى كلُّ رُودْ
إرْضَعْ أيا طِفْلِيَ منْ دِرَّةٍ
…
واهْتَزَّ في مَهدِكَ حُلْوَ الرُّقُود
ماذا ترَى في طولِ هذا الفضاَ
…
تَعْي به إن شئت دَرْكَ الحدود
أَملِئ بكفَّيك مدى إصبعي
…
وانظُرْ إلى وَجهِي وَخَلَّ الكُمودْ
أُمكَ تفْديكَ بِوَقدِا الحشَا
…
فديتُها عَصمَاَء تَرعَى العُهُودْ
أدعو لِذَكوانَ مَديدَ البَقاَ
…
وَأرتجِي في قومهِ أنْ يسود
أتى وللعِيد تَباشيرُه
…
فكان لي في عُمُري خيْرَ عِيدْ
(دمشق)
زكي المحاسني
في الأدب الإنجليزي الحديث
بيرون وشلي وكيتس
للأستاذ بشير الشريقي
بيرون وشلي هؤلاء الأقانيم الثلاثة أعظم شعراء الإنجليز وأشهرهم. عاشوا في القرن التاسع عشر الميلادي وامتازوا بشعرهم الوجداني وطريقتهم الخيالية الابتداعية، لم يتكلموا إلا عن مشاهدة وتصور واعتقاد، ولم يتقيدوا تقيد المدرسين بالصناعة اللفظية ولا بالحقائق العلمية
لقد خصت الآلهة الشعراء الثلاثة بأقل نصيب من العمر، فقد كان سن بيرون يوم ثكلته عرائس الشعر ستة وثلاثين عاماً فقط، وشلي ثلاثين، وكيتس ستة وعشرين؛ ولكنهم وإن لم ينسأ لهم في آجالهم استطاعوا أن يملأوا أرجاء هذا العمر بأوفر نصيب من الشعر القوي والاعتراف الشجي والنسيب الفتي، لقد هتكت عن أنظارهم مسدلات الحجب، فجرى عنهم غير ما في الكتب
اللورد بيرن
1788 -
1824
إذا كان رأي أدباء اليوم، أدباء القرن العشرين، في اللورد بيرون كرأي معاصريه فيه، وجب أن يعد هذا النبيل الجميل أنبغ شعراء الإنجليز من غير نزاع؛ لقد ظفر بشهرة لم يظفر بها أحد سواه، وعلى يديه انتظم الشعر الإنجليزي لأول مرة ساحة الشعر الأوربي
في عام 1820 نظم لامرتين قصيدة غراء كلها إعجاب ببيرون؛ وكذلك تنبأ ماثيو أرنولد أن الأمة البريطانية يوم تحتفل في ختام عام 1900 بذكرى شعرائها الأعلام، شعراء القرن التاسع عشر، سوف تضع اسم بيرون في طليعة عباقرة الشعر
لم يكن بيرون فناناً عظيماً ولا ثاقب النظر، ولم يجد فيه العالم إلا أنموذجاً في صناعة الشعر، ولكنه كان في ذاته صورة مغرية في الربع الأول من القرن التاسع عشر؛ اتحدت شخصيته بشعره لدرجة صعب معها التفريق بينها، وحتى قالوا: حياة بيرون هي أحسن شعر بيرون؛ وقد تحدر من عائلة توورث بين أفرادها على ما يظهر ضعف الأعصاب؛
كان والده رجلاً شريراً فظاً، وكانت أمه متقلبة شديدة، وتوفي عمه وهو في سن العاشرة، فانتقل إليه لقب اللوردية، وهكذا لم يكن في ثقافة بيرون ما يعلمه ضبط النفس أو إنكار الذات في سبيل الصالح العام، فثار حين ألقى إلى تيار الزمن على مضايقات المجتمع ومضايقات القانون التي صدمته في رغباته الخاصة
لقد وجد - لا نقول ثقف - في مدرسة (هارو) ومن ثم في (كمبردج)، ثم قام بسياحة استغرقت عامين، واليونان هي التي صيرته شاعراً؛ وحين عاد وطنه، وكان قد نشر وقائع رحلته في الفصلين الأولين من كتابة (تشايلد هارولد) وجد نفسه شاعراً محبوباً مشهوراً
وأصبح بيرون الشاعر الجميل محور الحياة الماجنة في لندن، منغمساً في المعابثة واضعاً نفسه بين يدي هواه من النساء، ثم يتزوج في سنة 1815 بالآنسة ملبانك ولكن تهجره زوجه بعد أن تضع له طفلة وقبل أن يمضي على زواجهما عام واحد، والى الآن لم يقف أحد على السبب الحقيقي لهذا الهجران، غير أن الناس انتصروا يومذاك لللادي بيرون، وفي سنة 1816 ترك زوجها انجلترا إلى غير رجعة، فعاش في سوتيز رلاند (سويسرا) وإيطاليا 1816 - 1824 ينظم أحسن شعره ويتسلى بصداقة شلي، وينعم منذ ذ1819 بأكثر من صداقة الكونتيس كويسيولي
وهنا لا يغرب عن البال أن هذا الشاعر بينما كان يطلب لنفسه لذاتها ولهوها ويرى في الأنانية دستور الحياة، نجده قد تأثر إلى أقصى حد بالروح الوطني العام الذي انبعث في أيامه في بلاد اليونان، إنها الرغبة في مساعدة الغير على نيل الحرية هي التي رمت به سنة 1823 في القضية اليونانية وجعلته يطالب لليونانيين بالاستقلال عن الأتراك
ذهب اللورد بيرون إلى اليونان وساعد على إيقاظ شعور القوم الوطني وفي توحيد كلمتهم حتى جعلهم كرجل واحد في معركة الحرية والاستقلال، وفي (ميسولونيا) أصابته الحمى فهدت جسمه الذي أضنته حياة الفوضى التي غرق فيها هذا اللورد الشاب إن في موته وحيداً في بلاد الغربة ما يحز في القلب، لقد كان أشبه ما يكون يقبس لطيف من نور الشمس الذهبي ألقي وسط العالم في يوم مظلم عاصف
لشعر بيرون تأثير في القلب، وعلوق بالنفس، لأنه استطاع أن يصور به حياته وهي كما رأيت شائقة غاوية، حياة شباب جميل موسر انغمس في اللذات وانكب على الملاهي حتى
مل وسئم، حياة لهو ومخاطرة، يتخللها شك مقلق وتبرم من الأقدار التي قضت على كل طيب وجميل بالانحلال البطيء والموت السريع وفي الحق كان كل ما أخرجه الشاعر للناس قوياً عجيباً فاتناً من باكورة شعر (ساعات البطالة إلى (عروس أبيدوس من الفصلين الأولين من (تشايلد هارولد) إلى الفصلين الأخيرين منه، من القصص الشرقية، إلى الأغاني العبرية، من (سجين تشيلون (بونيفار الذي صد هجوم دوق سافوي عن جنوه) إلى القصيدة الروائية (مانفرد إلى نظمها في إيطاليا على نسق رواية (فوست) وذكر فيها السحر والأرواح وخوارق الطبيعة، من (يوم الحساب) وهي من أقوى الهجاء الحديث إلى (الدون جوان) من رثاء تاسو (الذي اعتقل بتهمة الجنون لأنه أحب ليونورا ابنة الدوق) إلى (مارنيو فاليرو المأساة التاريخية - كان يرافق عبقرية بيرون سهولة تامة وقدرة عجيبة في التعبير عما يجيش به صدره
وهنا علينا أن نذكر أن في اللورد بيرون الفنان، عللاً كثيرة، فهو لا يكاد يحسن صناعة الشعر ولا ربط الفكر ولا اختيار العناوين، ذو أسلوب بسيط مضطرب، ولكن على الرغم من كل ذلك فان وليام فورس يقول عنه إنه أعظم ذخيرة أدبية في هذا القرن التاسع عشر
إنه شاعر الحرب، لهذا سوف لا نقدر على وفاء حقه في هذه الأيام التي يسود فيها السلام
برسي شلى
1792 -
1822
ولد شلي عبقرياً مفرداً فلم يكن له مثيل في بارونية من البارونيات الإنجليزية الفنية، لقد قاوم وهو يافع، ما كان يسود في طبقته من آراء وعقائد وتقاليد، وفي مدرسة (إيتون) وفي جامعة (أكسفورد) كان في تصادم دائم مع (المحافظين)
نشر عام 1811 مقالاً بعنوان (حاجتنا إلى الجحود) طلب فيه من جميع مديري الكليات أن ينزلوا إلى مناقشة آرائه وتفنيد هرطقته مما أدى إلى طرده من الجامعة. وفي ذلك العام تزوج بهاريت ويستبرون، وهي فتاة في سن السادسة عشرة؛ ولدت له طفلين ثم هجرها عام 1814 من أجل ماري كودوين ابنة وليام كودوين الكاتب الروائي والسياسي؛ وبعد عامين، حين أغرقت هاريت نفسها في التيار، أصبحت ماري كودوين السيدة شلي ولكن محكمة تشانسري حرمت الشاعر حضانة ولديه
وفي عام 1818 ترك شلي إنجلترا إلى إيطاليا حيث قضى بقية عمره وكان دائم الاتصال باللورد بيرون
أحسن شعر شيلي ظهر في السنوات الأربع الأخيرة من عمره، وبعبارة أخرى أن شعره لم ينضح حتى سنة 1818، ومن أقوى وأمتن قصائده الطويلة، الروايتان الغنائيتان (ميتوس الغير محدود) و (هيلاس). وتمثل هيلاس يقظة اليونان وتأييد العالم لهم في ثورتهم على الأتراك
ولكن إذا كانت إجادة شلي تامة في هذه القصائد الطويلة فان إبداعه كان عظيماً كذلك في مقطعاته الغنائية التي نذكر منها قصيدة (القبرة) و (الضباب) و (أدونيس) و (غناء كونستانيا) و (الريح الغربية) و (إلى الحرية) و (إلى المساء)
كان شلي من بين الشعراء أجمعين شاعر المثل الأعلى، استطاع أن يتصور في أخلاق الإنسان وحياته كمالاً هو أسمي بكثير مما عرف حتى الآن
لقد ثار على كل ما يحط من قدر الإنسان ويحول دون تطوره السامي مدفوعاً بحبه العظيم للإنسان وإيمانه بزمن آت هو خير من زمانه
وقد أدرك بواسع علمه وثاقب رأيه أن فكرة الإنسان عن الله تتناقض كثيراً وفكرة الحق والعدل والحقيقة، وهكذا يشوه التلوين الإنسان الصورة الإلهية كما يشوه زجاج نافذة مصبوغ جسماً تراه من خلاله، أو كما يوضح شلي ذلك في قوله: الحياة أشبه ما تكون بقبة من زجاج كثير الألوان
تلطخ أضواء الأبدية البيضاء
إلى أن يحطمها الموت
فان كنت تود أن تلتقي بهذا الذي تفتش عنه فمت إذن! تطلع شلي تطلع مشتاق إلى يوم قريب يتحقق فيه المثل الأعلى، وعلق آمالا كباراً على الثورة الفرنسية، ولكنه حين شاهد ما منيت به النظريات السياسية من فشل أحس بيأس مؤلم
لو طال عمر شلي عتنق مبادئ (وردزوس) الإصلاحية ولقال معه إن تقدم الجنس البشري يتوقف على رقى الفرد وتطوره، ولكنه عاش حياة قصيرة. ولد عام 1792 وغرق عام 1822 بانقلاب قاربه أثناء اجتيازه خليج اسبيزا، ولما أخرجت جثته من البحر أحرقت
على الشاطئ بمحضر من اللورد بيرون وبعض الأصدقاء ودفن رمادها في مقبرة البروتستنت في روما وقد كتب على قبره هذه الكلمة (قلب القلوب)
جون كيتس
1795 -
1821
يرقد كيتس حيث يرقد رماد شلي في مقبرة البروتستانت في روما، وقد نقش على قبره تنفيذاً لرغبته هذه الجملة (هنا يرقد من أشبهت ذكراه سفراً ألقى في الماء)
ولد من أبوين غير شاعرين، فكان والده يعمل في إسطبلات الخيل المعدة للإيجار في لندن، ولكن سرعان ما أصبح هذا الشاعر (اللندني) شاعر اليونان الحديث، سرعان ما أصبح هذا الطبيب (تحت التمرين) رسول الجمال، وموجد المدرسة المنسوبة خطا إلى تنسون
اهتم كيتس بدراساته الطبية، ولكنه لم يجد لها طعماً، فهجرها عام 1817 وهو العام الذي ظهرت فيه مجموعته الشعرية الأولى، وفي عام 1818 ظهرت له قصيدة (أنديميون فانتقدتها المجلة (الفصلية) ومجلة (الغابة السوداء) انتقاداً لاذعاً سفيها آلم الشاعر كثيراً، ولكن هذا الظلم الأدبي ليس هو الذي عجل بموت كيتس كما ظن شلي، وإنما داء السل هو الذي كان علة موته الباكر
ظهرت أجود شعره عام 1820، وفي ختام هذا العام رحل إلى (نايلز يرافقه صديقه (سيفرن) الذي وقف على العناية به امرأة طيبة، ظلت مخلصة في خدمته إلى أن توفاه الله في روما في شهر شباط سنة 1821
لقد نضجت عبقرية كيتس بسرعة مدهشة كما نضجت عبقرية شلي، وعلى الأخص ذوقه الفني إذ سرعان ما صلح، وسرعان ما كمل
قد تكون قصيدة (أنديميون غنية في الكلمات وفي الصور، أما فيما عدا ذلك فلم تكن بذات خطر. إنها تظهر رغبة الشاعر في جمال الأسلوب فحسب. ولكن إن نحن انتقلنا إلى مقطوعاته اليونانية الأخيرة التي وصفها بيرون بأنها (سامية سمو ايشيلوس) أدركنا الفارق العظيم بين شعره الأول وشعره الآخر الذي منه (لميا وهي قصة شاب اقترن بأفعى متخذة صورة امرأة جميلة، و (ايزابيلا) التي تكشف لنا عن مقدرة كيتس التامة في تأليف القصص الشعرية، (والأناشيد الستة) الباقية على الزمن
وما الذي كان ليعجز عبقرية كيتس لو قدر لها أن تعيش؟ إن موته المبكر كان أعظم نكبة حلت بالشعر الأنجليزي، لقد استطاع أن يتعلم من فنه ومرانه وجده خلال البرهة التي مرت بين نظمة (لأنديميون) ونظمه (الأشيد الستة) ما لم يتعلمه شاعر إنجليزي آخر في مثل هذه الفسحة من الزمن
لكي نتفهم نفسية هذا الشاعر ننقل هنا بعضاً من أقواله: (أنا رجل إحساس أكبر مني رجل تفكير)
(ليس في حس يمكن أن يخضع للجمهور أو لأي شيء في الوجود، إنما يأسرني الكائن الخالد، والجمال الخارق، وذكرى الرجال العظام)
(لم أستطع أن أعيش من غير حب أصدقائي، وإني لأقفز إلى أسفل جهنم من أجل الصالح العام، ولكني أكره الشهرة التي تقزز النفس)
(قد سبب لي نقدي لنفسي من الألم ما لم يسببه نقد المجلة (الفصلية) أو نقد مجلة (الغابة السوداء)
(حين أشعر بأني على حق أحس بنشوة طرب لا أحس بها حين يثنى على الناس)
(أرى أنه لا يوجد مطلب يستأهل الطلب، اللهم فكرة عمل الصالحات)(ليس أمامي سوى طريق واحدة)
(أحسن أنواع الشعر، هو ما أهتم له وما أعيش له)(سوف لا أخلف ورائي حين أموت عملاً خالداً، سوف لا أخلف ما يثير إعجاب الأصحاب عند ذكراى؛ ولكني همت بالجمال كما ينبغي)
الجمال الحقيقة، والحقيقة الجمال، هذا كل ما يجب أن تعرفه في الدنيا وكل ما تحتاج إلى معرفته
(شرق الأردن)
بشير الشريفي
القصص
من أساطير الإغريق
بجماليون المثال
أسطورة الفنان الذي عشق أحد تماثيله
للأستاذ دريني خشبة
في مدينة أماذيس، الراقدة كالحمل بين مهاوي الجبال على شاطئ قبرص الجنوبي، كان يعيش المثال بجماليون عيشة كلها عزوف عن العالم، وانزواء عن مشاغل الحياة، وهرب من الناس. كان يأوى إلى ممثله إذا تنفس الصباح، ويكب على عمله حتى تواري الشمس بالحجاب، فيأوي إلى فراشه، سادر النفس، معمود القلب، مكتئباً حزيناً
ولم يكن حزنه من نوع هذه الأحزان التي تتعارفها قلوب أبناء آدم، بل كان حزناً فريداً في نوعه، غريباً في أسبابه، شاذاً في دواعيه، حتى لنحسب أن أحداً من الناس لم يشق بمثله من قبل. . . . ولا من بعد
كان في بجماليون صدود عن الناس شديد، لا يراهم جديرين بتودد، ولا حفيين بمؤاخاة. ومع أنه كان يضفي من عبقرية على تماثيل الآلهة التي طالما تفننت فيها يده الصناع، فكان يخرجها على نسق الفاتنات الحسان، وفي سمات الغيد القيان، فانه لم يصب مرة إلى امرأة، ولم ترتبط أسبابه بفتاة. فكأنه كان يسمو بحبه على النساء، وإن كن في الحقيقة صاحبات وحيه، وفيض نبوغه، والمع الخاطفة التي يتجه شطرها مثله الأعلى
ولم تكن هذه الحياة الصحراوية التي يحياها لترضيه، ولا تلك المعيشة الآلية التي أغطشت أيامه لتقنع خياله الخصب، وقلبه الرحب. لقد كان يقف منقبض الصدر، مغلول الروح، أمام هذه الدمى الصامتة، والتماثيل الخرساء، التي صنعها لأبوللو، ومينرفا، وديانا، وكيوبيد، وفلكان!
ولقد كانت المناحت والأزاميل، والمثاقب والمناشير، والمبارد والمناعم، وكل عدده تثير في نفسه السخط على الحياة، والبرم بالأيام، كلما فكر في حاله فعلم أنه يحيا بلا حب، ويعيش بلا أمل، ويعمل بلا غرض، ويسعى إلى غير مطمح!
وبينما هو في يقظته النائمة هذه، إذا بحجارين يحملون رخامة كبيرة، على جرارة ضخمة من هذه الجرارات الثقال، التي ترى كثيراً في محاجر اليونان، يقفون أمام الممثل، ويطرقون باب بجماليون، فينقدهم ثمن الرخامة، وينصرفون كل إلى طيته
وكأنما كانت هذه الرخامة، على ثقلها الهائل، وحياً خفيفاً من السماء، أو آية من آيات الأولب، هبطت على هذا المثال المهموم، فبدلت يأسه أملاً، وقنوطه المظلم رجاء نير الآفاق!
فانه لينظر إليها نظرات تشف عن التمثال الرائع الذي سيولده منها، وإنه لينزع ملابسه، ويضفي عليه ملابس العمل، ثم يتناول إزمليه ومنحته، ويهوى على الرخامة مستلهماً الحول والقوة من:(فينوس!!)
(يا فينوس الجميلة، يا ربة الحسن والحب، يا من تسبح لك القلوب العاشقة، وتلهج باسمك النفوس الوامقة، يا سر الورد الجميل، وبسمة الفنن الضاحك! يا أم كيوبيد الحالم، وبنت ديون الباسمة، يا فينوس الجميلة، العون العونيا فينوس!)
وهكذا لبث هنيهة يصلي، ثم أخذ في عمله، وكأن فكرة علوية تنزلت على فؤاده، وامتزجت بشغاف قلبه، فراح يصورها ويمثلها، في هذه الرخامة النقية كالندف، البيضاء كالثلج. بل كأنما استجابت فينوس ربة الحب لصلاته، فأودعت في يده نفحاتها المباركة. فما دق دقة، أو نقر نقرة، إلا وتمثل فينوس الجميلة أمامه، ناذراً لها هذا التمثال، برغم التماثيل البارعة التي نحتها لها، والتي تملأ معابد اليونان وأقداسهم
وأقبل على عمله بروح جديدة، ويد لا تكل، فلم يكن يحول بينه وبينه إلا الليليرخي سدوله، وإلا سنة من النوم ترقص في جفنيه، فإذا نام تتابعت الرؤى، وتلاحقت الأحلام، كل منها بيدي له ناحية كان يجلهها من جمال فينوس!
ولقد بدا له، كفنان، أن يروح عن نفسه بيوم يقضيه في الأدغال، وبين مسارب المياه، لكي يجدد نشاطه، ويبتعث ما خمل من ذهنه، وخبا من خياله، لطول ما أكب على العمل؛ فانطلق ذات صباح إلى سيف البحر يناجي أبوللو، وهو يوقظ الشمس من خدرها، فتعلو به في مركبتها الذهبية فوق الأثباج! وظل يعلو ويهبط، ويروح من هنا غادياً إلى هناك، حتى شارف اليوم أن ينتهي، وعاوده هواه الملح، فندم على ما قتل من ساعات في هذه الراحة
الخاملة، والفسحة الباطلة، فعاد أدراجه إلى الممثل، مستغفراً في طريقه الطويل فينوس!
ووصل ما انقطع من صنعته، فكان يستذكر أحلامه ليضفيها على التمثال، ويستوحي السماء فتلهمه من أديمها الصافي، وتشيع في يديه وقلبه بطهرها ونقائها، لتنتقل من ثمة سحراً وفتنة فوق تلك العضلة، وتحت ذياك الأبط، وبين انفراج هذين الثديين، وبالقرب من العكن، وحول الفخذين، وعند هذا الأنف الإغريقي الأشم، وملء ذاك الذقن الدقيق، والعنق الرقيق، ولفتة الحدقتين، وانفراجة الشفتين، وتبسيم الثغر، وتكويم الشعر، وتمليس الردف، وتدوير الكعبين. . . .
وتباركت يا فينوس!
لكأن بجماليون يحس الحياة تسيل من إزميله الحنون، فوق هذا الجوهر المكنون! وكان يتقدم فينظر، ويتأخر فيرى، ويميل من هنا، وينثني هناك، ثم يهطع إلى عل، وينحني إلى أسفل؛ ليتفقد التمثال من جميع نواحيه؛ فماذا رأى؟ لقد استطير من الفرح، ومادت أعطافه من الخيلاء! ولكنه سكن قليلاً، وانطلق يتحدث إلى نفسه:(ويحي! لم صنعتك أيها التمثال، مادمت قد بلغت هذا الجمال ولا تتكلم؟ أنا بجماليون التعس، الذي يعيش في هذا العالم القفر، وعلى هامش تلك الدنيا المجدبة، لا أنيس لي، ولا قلب ينبض بحبي، فينبض قلبي بحبه؛ ولا نفس تصلي لي، فاصلي من أجلها! تكلم أبها الرخام الصامت، وانفرجا بكلمة واحدة أيتها الشفتان الساحرتان! أنا بجماليون! أنا صانعك أيها الأنثى المتحجرة. . . تكلمي، ردي علي، فوحق فينوس المعبودة لقد أودعتك سر روحي، ولغز حياتي! أوه! ألا تردين على بجماليون المسكين؟ آه فينوس! النجدة يا فينوس! أنا لا أصلي إلا لك يا فينوس. . الغوث الغوث!. . .)
وظل المسكين مكباً على هذه الدمية التي صورها بقلبه كله، وروحه جميعها، يشكو إليها كأنها تسمعه، ويبثها كأنها تصغي إليه؛ ثم انتهى حاله إلى هيام شديد، وحب ودنف، ولوعة وصبابة؛ وانقلب عشقه المبرح إلى لون كاسف من الوجد، وضرب شديد من أمر ضروب الحزن؛ مصدره العقل الحائر والوجدان المضطرب. إذ كيف يعشق هذه الكتلة المجسمة من الرخام، وهي مما صنعت يداه؟ وأي أمل له في هذا العشق الشاذ؟ لا ريب أنه ضرب من الجنون، ما له من ضريب!
ولج به هواه، فأحضر عصبة من الحمالين الأقوياء، نقلوا له تمثاله إلى ردهة الآلهة - كما كان يسميها - وهي صالة واسعة في الطابق الثاني من البناء الذي فيه ممثله؛ وقصد إلى أمهر الصاغة وتجار اللآلئ، فاشتري ما وسعه من الحلي البالغة والجواهر النفيسة؛ وعاد فقرط الأذن، وقلد الجيد، وتوج الرأس؛ ثم هام في المروج الخضر، والحدائق الغناء، يجمع الورود والرياحين، كيما ينثرها تحت قدمي التمثال!
وتحولت الردهة إلى معبد من معابد البوذية المقدسة، بما عكف يحرقه من مقتني الند، وفواح الرند، في مباخر المرمر الجميل المصففة حول قاعدة التمثال
وتلف تلفاً شديداً من هذا الغرام العجيب، فلم يكن يكتفي بالعبادة في الحب والخبوت بين يدي ذلك الصنم المنتصب للفتنة، بل كان يشركه في كل أمره، ويعرض عليه جميع شأنه، حتى القراءة! فطالما كان ينشده من دواوين الشعراء ما جادت به القرائح وشدت به الألسن، وتغنت بألحانه قلوب العاشقين!
معذور بجماليون! لقد تعب وراء الحب، ولكنه لم يلق هذه الغيداء الفاتنة، التي تستطيع التسلط على مشاعره، والهيمنة على فؤاده، وكان يتخيل روعة الجمال فلا يجدها مجتمعة إلا في هذا التمثال الذي نحته لهذه الأنثى، فعبده، وراح يتمنى على الآلهة الأماني، أن تنفخ فيه روحها، وأن تهبه الحياة ونعمة العيش
وبينما هو نائم في هدأة فجر اليوم التالي، إذا به يصحو فجأة على لغط شديد، وهرج عال في الشارع الذي يقع فيه بيته. فينهض إلى النافذة، ويرفع الستر، ويفتح أحد المصاريع قليلاً، ثم يحني رأسه ليرى. وإذا موكب زاخر من غوغاء المدينة يحمل تمثالاً كبيراً من تماثيل فينوس التي صنعها بجماليون؛ وإذا الدهماء ينشدون الأناشيد الشعبية، ويرسلون في غبشة الصبح أغانيهم (البرجوازية) الجميلة. . وكان من عادة سكان أماذيس أن يحتفلوا بالربة فينوس ثلاثة احتفالات يفاجئون بها النائمين ثلاث مرات كل سنة؛ فلما عرف بجماليون أن الحفل حفل فينوس، أسرع فارتدى أبهى ملابسه، وجمع بعض باقات الزهور المبعثرة تحت قدمي تمثاله، وهرول على الدرج، ثم انفتل في الشارع، واندمج في صميم الشعب الذي يلهج بالصلوات والأدعية باسم فينوس. ثم ما هي إلا هنيهة، حتى كان بجماليون يهتف كما يهتف الأطفال والسذج، ويرد من الصلوات ما يرددون
ولم لا؟ هل لحظة من الزمان هي خير من هداة الفجر ترسل فيها الصلوات على أول آراد الصباح، إلى آلهة السماء، وأرباب الأولمب، فتسمع وتلبى؟
وكان كل همه أن ينتهي هذا الحشد الهائل إلى المعبد، حيث يستطيع أن يرتل دعاءه، ويتمتم بصلاته
وقد تنظر حتى فرغ الكهنة من جميع الطقوس التي اعتادوا أن يقوموا بها في مثل ذلك اليوم؛ وأخذت الجماهير تنصرف هاشة مستبشرة، كأنما غمرتهم نفحات خالدة من فينوس. ولما لم يبق في المعبد إلا كهنته، وأفراد من الأتقياء الصالحين، يصلون صلاتهم، ويغمغمون بأدعيتهم، تقدم بجماليون في روعة التقى وخشوع الورع، ووقف خافتاً أمام المذبح، حيث تصاعدت ألسنة البخور المعطر، حاملة الأرج الشذى من لهب المحرقة إلى سقف. . . والسجف، فتكسب الهيكل جوه القدسي البديع.
ثم ألقى في اللهب بحفنة من فتيت الكافور والمسك، وطفق يرتل هذا الدعاء الطويل: (فينوس الكريمة البارة، يا ربة الحب الطاهر، والهوى البريء، أيتها القديرة على كل شيء، المتصرفة في جدود العاشقين، وحظوظ المدنفين: أصغي إلي، ولا ترفضي دعائي: منذ اهتديت إليك، وأنا عبدك القانت لك، الهاتف باسمك في الغدو، المصلي لك في الأصال؛ لا أني عن ذكرك، ولا يفتر لساني عن التسبيح لك، والنسك من أجلك؛ باسمك أقبل على فني، ومنك استلهم وحي العبقرية فأنت لي كل شيء
ولقد أيقظتني صلوات الشعب لك من أحلامي الجميلة بك، فلم أطغ ولم أستكبر، بل هرعت إليك، أتوسل بك، وألتمس البركات منك، فحنانيك يا فينوس!
حنانيك يا ربة الحب، وجابرة القلوب الكسيرة، والنفوس الحائرة!
أنت، من غير ريب، تعلمين ما ألم بي من برح هذا الهوى الطارئ، وما تام قلبي من حب هذه الدمية التي صنعتها باسمك، ونذرتها لك، فدلهتني وشدهت روحي المبلبلة، وصارت لي أعذب الأماني وأعز الآمال. وهي بعد رخامة لا روح فيها ولا نأمة، أكلمها فما ترد، وأناجيها فما تجيب، وأغني لها فما تبتسم، أنت قديرة يا فينوس! فانفخي فيها من روحك، وانشري الحياة في أركانها، وامنحيها النبضات والأنفاس
حنانيك يا فينوس! وسلام لك من قلوب العاشقين)
وما كادت صلاته تنتهي حتى انهمر الدمع من عينيه يروي قدمي التمثال المنتصب في المحراب فانبعث الشرر عالياً من المحرقة حتى أضاء قبة الهيكل، والتمع في جميع أرجائه وأقبل الكهنة والمصلون يباركون بجماليون ويهنئونه. لأن انبعاث الشرر هكذا، عقب الصلاة، وهو في اعتقادهم دليل رضى الربة، وأية تلبيتها واستجابتها.!!
ولكن مثالنا لم يشعر بقلبه يثلج، ولا بنفسه تهدأ، بل بالعكس، أحس كأنما الحياة تتدجى أكثر من قبل، ويحلو لك كل شيء في عينيه، وشعر كذلك بقنوط قاتل ينفذ إلى صميمه، فيطفئ فيه ما رجى من الآمال البيض، والأماني العذاب! فتعثر إلى الباب غير آبه لما حوله من الآس المنضود في أنحاء المعبد، والزهر المبثوث في صحنه الرحيب. وما برح بين وني وبطء، حتى بلغ باب منزله، فولج متساقطاً على نفسه، وانبطح على أول سلاليم الدرج لا يحس ولا يعي!
وغفا إغفاءة مريضة، فبدا له أن يحمل أرزبة هائلة، يهوي بها على رؤوس الدمى، ويحطم بها التماثيل المنتشرة في ردهة الآلهة. . . إلا تمثال فينوس الجديد، المرصع باللآلئ واليواقيت! ففزع فزعة مروعة، ونهض يعدو إلى الصالة، يتفقد التمثايل. . . فما راعه إلا أن يسمع صوتاً رقياقاً يناديه:(بجماليون. . . بجماليون. . . إرق إلى هنا. . . هلم إلى!!)
من؟ صوت من هذا؟ إنه صوت مرمري لا عهد لبجماليون به!!)
وقفز قفزات كان بها في الطابق الثاني؛ ونظر فلم يجد تمثاله الحبيب في المكان الذي غادره فيه. . . (. . . أين؟ ويحي! لصوص!)
ولكن الصوت الرقيق الرنان عاد يطن. . . ويرن (لا. . ولكنها فينوس!) والتفت بجماليون فرأى غادة هيفاء في طبق تمثاله ونسجه، متكئة على الأريكة التي طالما وضعها أمام التمثال وأنشد الأشعار؟!
(من أنت أيتها المعبودة؟)
(لست معبودة، ولكنني هبة فينوس لك! أنا جالاتيا. . تمثالك المكنون!)
(وكيف؟ أنا لا أصدق. هذه خديعة لاشك!)
(وكيف تخدعك السماء يا بجماليون؟ أتريد أن تكفر بآلاء فينوس؟)
(لا. . لا. . لا أريد أن أكفر: وحاشا. . كيف حرت أنسية، ومن وهبك الحياة)
(هذا سر فينوس. وهذه قبلاتك وما تزال مطبوعة على قدمي!)
(يا للسعادة!)
(انظر إلى هاتين الشفتين القرمزيتين، وهذين الخدين الموردين، وتينك العينين الزرقاوين. هل استطعت أن تموه تماثيلك بهذه الصباغ الفينوسية؟)
(وانظر إلى الأنفاس الحارة التي تتردد في صدري، هل وسعك مرة أن تبعثها في إحدى دماك؟)
(حاشا. حاشا.)
(إذن فهلم إلي أحدثك حديثي)
(فدنا منها بجماليون المشدوه)
- (بجماليون! لقد استجابت فينوس دعائك، وقبلت صلاتك، وحضرت إلى هنا إذ كنت أنت في الهيكل تبكي وتنتحب، فمنحتني الحياة، وعلمتني من العلم ما لم أكن أعلم
- (ولكن كيف بحق فينوس عليك يا جالاتيا)
- (كنت منتصبة كما وضعتني على تلك القاعدة الناصعة، فاحسست حدقتي تتحركان وإذا بي أرى فينوس الجميلة أمامي، تأمرني أن أدلف نحوها، ففعلت، وكنت أحس كأن ثلجاً ينفذ من كياني، وأن حرارة تشيع في أركاني، وكانت فينوس تقول لي. . . (تعالي. . . تعالي، وكوني ربة هذا البيت، أحميه وأحرسيه، وانشري السعادة فيه!! هلمي إلي ألقنك دروس المحبة والحياة. . .) ثم إنها نفثت في أذني نفثات تعلمت بها هذه الكلمات، وأسبغت علي هذا الثوب الحريري الذي لابد قد رأيته على تمثالها في الهيكل. . . ليشهد لك أنها هي التي منحتني الحياة. . . ومنحتك الحب!)
- (وماذا؟ وماذا يا حبيبتي جالاتيا؟)
- (ثم تقدمت إلى فنولتني قبلة مشتهاة لن أنسى ما حييت أسرها. ودعت لي ولك بالوفاق الأبدي، والإخلاص السرمدي، لنكون أية السماء في هذه الأرجاء وابتسمت ابتسامة أرق من أطباقه أوراق الورد، ولم أعد أراها. . .)
وأتمت جالاتيا حديثها، فاستقر بجماليون في أحضانها!
دريني خشبة
على ذكر الربيع
شجرة المشمش
بقلم الأديب حسين شوقي
عندما فتحت صباح اليوم نافذتي التي تطل على الحديقة، تولاني العجب حينما شاهدت شجرة المشمش في ثوب زاه قشيب، وكانت بالأمس عارية يابسة. . . . حقاً! ما أبهى شجرة المشمش في ثوبها الأبيض المزدهر، كأنها فتاة تتأهب لحفلة زفافها! من ذا الذي أتى بهذه المعجزة؟ من؟ هو أنت أيها الربيع، يا ألطف السحرة وأمهرهم؟
ولكن ظهور الربيع فجأة أعاد إلى قلبي ذكريات عزيزة، وإن تكن حزينة مؤلمة. .
إن قدوم هذا الربيع ذكرني بربيع آخر قضيته في باريس، حينما كنت طالباً بها. .
أذكر أنني ذهبت يوماً إلى حديقة (اللكسمبور) الغناء للمذاكرة في الهدوء والسكينة، قبل الامتحان بأسابيع، وبيدي كتاب (القانون المدني) للأستاذ (بلانيول) ولكن لم تكن عندي رغبة في المذاكرة هذا اليوم، لأن الطقس كان بديعاً؛ فالشمس أخذت تلمع في الأفق بعد احتجابها عنا طويلاً، والجو أخذ يعبق برائحة الربيع الزكية. . لشد ما كان جميلاً منظر جند الربيع، وهي تتسلق الأشجار في أثوابها الخضراء، وقد أخذت الطير تهتف وتصفق من فوق أغصانها لذلك الجيش الحليف الصديق، الذي أراجها من الشتاء البغيض. .
كنت أفتح كتابي لأقرأ فيه صفحة ثم أعود فأهمله لأتفرغ للنظر إلى التغييرات العجيبة التي تحدث في الطبيعة حولي. . . وكنت أغمض عيني، ثم استنشق - ملء الرئتين - عبق الربيع في نشوة عظيمة. . حقاً! لقد كانت بغيضة إلى نفسي تلك المذاكرة في هذا اليوم! مالي و (لبلانيول)؟ مالي وللعقود وتسجيلها؟ مالي وللحجز والاسترداد؟ والطبيعة تنجلي أمامي؟ وبينا أنا على هذه الحال، أفتح الكتاب لحظة لأهمله لحظات، إذ يرن من الخلف ضحك فتاة لم أنتبه إلى وجودها من قبل، وإذا هي تقبل فاسمعها تقول: إنك على حق! إنه لعذاب للنفس المذاكرة في مثل هذا الطقس البديع! أنا أيضاً لم أطق الذاكرة. . ثم أشارت إلى كتاب ألقته على الأرض. . وفي دقائق معدودة أصبحنا صديقين حميمين، وكأننا تعارفنا من زمان طويل، وكأن حديثنا هذا تتمة حديث قديم. . حقا! ما أمهرك أيها الحب في إحداث أمثال هذه المعجزات!
تركنا مقاعدنا وأخذنا نطوف جوانب الحديقة لنعرف ما إذا كانت جنود الربيع قد احتلت أنحاءها الأخرى
ثم دعوتها إلى تناول العشاء معي، فقبلت الدعوة دون تردد. . والعجيب أني وجدت من الطبيعي أن أدعوها إلى تناول العشاء، كما كان عجيباً أن تجد هي أيضاً من الطبيعي أن تتقبل هذه الدعوة. . ما أعجب تصرفاتك أيها الحب! وفي أثناء العشاء التهمت صديقتي بالنظرات، معجباً كل الإعجاب بعيونها الكستنائية الصافية التي قامت على حراستها أهداب براقة فتية، وأعجبت بقوامها الرشيق، وثوبها البسيط الأنيق. . ثم صرنا تتلافى في كل يوم. . ولم يشأ أن يسأل أحدنا الآخر عن ماضيه. . ما شأن الماضي بنا؟ ما شأن الأشياء التي ماتت وانقرضت؟ لم نعذب أنفسنا بأوهام وأشباح؟ كذلك لم نشأ أن نفكر في المستقبل، لأن المستقبل لن يكون خالياً من الخطر والغموض. . أليس الفراق يراقبنا عن كثب؟ ألست طالباً أجنبياً تنتهي دراسته بعد أسابيع ثم يعود إلى وطنه؟ ما لنا وللمستقبل إذا كنا ننعم بالسعادة والحب في الحاضر؟
قضينا أياماً لذيذة سعيدة مرت كعادتها سراعاً. . . أي صديقتي العزيزة! إني لن أنسى وفاءك ما حييت! كم كنت تحثيني على المذاكرة عند اقتراب الامتحان، ونجاحي معناه الافتراق، معناه عودتي إلى الوطن. . ولو رسبت لطالت إقامتي معك. . ولكنك آثرت نفسي على نفسك، وقدمت مصلحتي على مصلحتك!
أي صديقتي المحبوبة! إن قلبي يتفطر حزناً كلما تذكرت يوم نجاحي، وقد جئت إلى الكلية أعرف النتيجة، فلما عرفت نجاحي طوقتني بذراعيك وقبلتني أمام الجميع بلا مبالاة من شدة الفرح، بينما لمحت دمعة تتحدر من عينك المحبوبة للفراق المرتقب!. .
أي صديقتي العزيزة! إني ما زلت أراك وأنت ترافقينني في مسيري لقضاء بعض حاجاتي قبل الرحيل، وقد تظاهرت بالغبطة والسرور كي لا تدخلي على الغم في الأيام القليلة التي سأقضيها معك في باريس! كنت فرحة وأنت تنتقين لي الهدايا التي سوف أقدمها لدى عودتي إلى أفراد أسرتي في مصر! أي صديقتيالعزيزة! إني ما زلت أراك تكفكفين دموعك خلسة حينما حجزنا تذكرة عودتي لدى إحدى شركات الملاحة! إني ما زلت أذكر عشاءنا منفردين في الفندق عشية الرحيل. . . لقد بدا عليك الحزن في أجلي مظاهره، لأنه لم يعد
بعد في طاقة قلبك الرقيق الصغير أن يتحمل تلك (الكوميديا). . (كوميديا الفرح) والسرور التي كان يحياها في أيامنا الأخيرة. . أي صديقتي المحبوبة! كم كان مؤلماً يوم الفراق! لقد رجوتك ألا تذهبي إلى المحطة لأن الوداع في المحطات مؤثر من نفسه، ولكنك أصررت على الحضور زاعمة أنه في طاقتك أن تتجملي. . ثم حضرت. . وكنت فعلاً شجاعة في أول الأمر فقد أخذت تضحكين، كما جعلت توصيني بأن أبعث إليك رسالة من كل مكان أحله في طريقي. . ولكن عندما علا صفير القطر المزعج المؤذن بالرحيل، ضاعت شجاعتك فأخذت تبكين بكاء مراً، ولم يكن في طاقتي أن أخفف عنك لأني كنت في مثل حالك من التأثر. . . ما أطيب قلب تلك السيدة العجوز التي جلست أمامي في العربة، وقد أخذت تبكي لبكائنا وهي تتمتم: يا لله! ما أقسى الحياة!
أي صديقتي المحبوبة! إذا كان حبنا لم يعيش طويلاً فإن عزاءنا فيه أنه انقضى في أوج شبابه وريعانه!
وأنت يا شجرة المشمش! ذكريني في مثل هذا اليوم من كل عام بهذه الذكريات العزيزة، لأن القلب البشري ضعيف قد ينسى أحباءه يوما ما!
كرامة بن هانئ
حسين شوقي
البريد الأدبي
هل لامرتين من اصل عربي؟
سيدي الأستاذ. . . . الزيات
كنت قد قرأت في العدد التاسع والسبعين من (الرسالة) الغراء كلمة عن اتصال نسب شاعر الحب والجمال (لامرتين) بالعرب، وحثكم الباحثين على التنقيب عن هذه الصلة، لعلهم يوفقون إلى إضافة هذه العبقرية الخالدة إلى عبقريات العرب.
وإذ كنت أقرأ في (حياة لامرتين الغرامية للكاتب المعروف (لوكادوبريتين - صفحة 128، عثرت على نبذة لها علاقة متينة بذلك الأصل الذي يعترف به (لامرتين) نفسه بصراحة وثقة. وهأنذا أرسلها إلى (الرسالة) لعل فيها شعاعاً يضيء طريق البحث عن ذلك النسب.
قال لوكا:
(لما نفض لامرتين يده من السياسة تسنى له سنة 1832 أن يحقق أمنية طالما فكر فيها: وهي السفر إلى الشرق، لا حاملاً حقيبته وعصاه كما قد سبق له أن تخيل، بل على سفينة شراعية جميلة. . . هنالك نساء الشرق أرينه في عيونهن كما يقول: (أشعة من المخمل الرطب لم يكن قد رآها في عيني امرأة.) ففعلت بلبه تلك العيون ما تفعل الخمر. لذلك كان في قصصه التي عاد بها من سفره تلك اللجة الحادة، وذلك الخيال الذي تجده في قصائد (أريوست من هذا النوع قصيدته التي بارى بها شاعراً من الصحراء في الاشادة بمحاسن الآنسة الرائعة الجمال (مالاجمبا وأصدق هذه القصص على ما يظهر قصة زيارته (لادي استيراستهوب تلك الإنجليزية المحاطة بالأسرار التي كانت تعيش كسلطانة في قصرها القائم على أحد منحدرات لبنان، وقد تنبأت له بمكانة رفيعة وحظ عظيم؛ فسر بنبوءتها وارتاح إلى تصديقها. وأهم ما لفت نظر السلطانة في الشاعر تفاخره الساذج. وإليك حديثها عنه إلى زائر آخر هو الأمير (دي بويكليرموسكو -
قالت:
(بينما كان لامرتين يمد قدمه ليلفت نظري إلى جمال تقوسها، بينت له أن ذلك الشكل ينم عن أصل عربي، يدل عليه أيضاً بريق عينيه ورسم حاجبيه:
' ' ، ، '
فاعجب بفراستي واستنتاجي؛ ثم روى لي كيف أن مائة وخمسين عربياً أسروا في غزة أيام الحرب الصليبية، فقيدوا إلى فرنسا واستوطنوا (ما كونيه) حيث أسسوا قريتين، وشادوا القصر الذي يسكنه لامرتين نفسه:
' ' -
ثم تابع قائلاً: - كان عليك أيضاً أن تلاحظي في خاصة وراثية شوهدت في الاسكندر، وهي ميل الرأس قليلا نحو الكتف. . أليس هذا طابع البلاد الجنوبية؟. . . . فأجبته بالتأكيد:
- ' ' ?. . .
وكأن هذا الانتساب لم يرق للكاتب الفرنسي (لوكا) فقال فيه:
(إن هذا الحديث ينم عن حقد (لادي استير) على الشاعر الذي أدرك ببصيرته الثاقبة (ما وراء تلك المظاهر الخلابة التي كانت لادي تحيط نفسها بها، من دسائس سياسية).
وليس في فراسة (لادي) ما ينم عن حقد أو تشف؛ وإنما هو استنتاج استنتجته من ملامح الشاعر وتكوين بعض أعضائه، وكانت فيه جد موفقة، لأنه صادف ارتياحاً من لامرتين، فقص عليها من نبأ الأسرى ما يؤيد فراستها ويدعم هذا الانتساب الذي يفتخر به، وبرهن لها أن القرية التي يسكنها والقصر القديم الذي توارثته أسرة لامرتين هما من بناء أولئك الأسرى العرب
ويروي أن لامرتين حاول مرة أن يبيع هذا القصر الأثري ليوفي ديونه، فأبت عليه ذلك ابنه أخته (فالنتين: وآثرت بيع معظم أملاكها حتى لا يفرط في هذا التراث الثمين، تراث أجداده العرب
بيروت (دار العلمين)
حسن باشو
ذكرى هاندل عميد الموسيقى الألمانية
احتفلت دوائر الفن والثقافة في ألمانية بمرور مائتين وخمسين عاماً على مولد الموسيقي
الألماني الكبير جورج فريد ريش هاندل، عميد الموسيقى والأوبرا الكلاسيكية. وأقيم احتفال رسمي في (هاله) مسقط رأس الموسيقى، شهده مندوبون رسميون من انكلترا التي عاش فيها هاندل أربعين عاماً وأخرج معظم قطعه وأوبراته الخالدة. وقد ولد هاندل سنة 1635، ودرس القانون أولاً، ولكن مواهبه اتجهت إلى الموسيقى فبرع في العزف على القيثارة والأرغن والهارب؛ وتلقى دراسته الموسيقية على العازف الشهير زوخاو؛ وعين عازفاً لكنيسة هاله. ولما ذاعت شهرته سافر إلى همبورج حيث تولي العزف في أشهر فرقها الموسيقية، وأخرج في ذلك الحين أولى أوبراته (الميرا) و (نيرون)؛ ثم سافر إلى إيطاليا وطاف بمدنها الكبيرة ونالت (أوبراته) هنالك نجاحاً عظيماً. وفي سنة 1710 سافر إلى إنكلترا وأخرج (رينالدو)، وذاعت شهرته هنالك؛ وبقي في إنكلترا زهاء أربعين عاماً حتى وفاته؛ وتعرف يومئذ بأقطاب العصر مثل بوب وفيدلنج وهو جارث؛ ولقى رعاية كبيرة من الملكة (آن) ملكة انكلترا؛ ورتبت له معاشاً حسنا. وفي تلك الفترة وضع هاندل سلسلة جديدة من الأوبرات الرائعة مثل (آسى وجلاتيا) و (استر) وهي بالنكليزية و (اتوني) و (تيمورلنك) و (سبيون) وغيرها؛ وأنشأ هاندل يومئذ فرقة أوبرا كبيرة؛ ولكنها فشلت من الوجهة المالية؛ فعاد إلى التأليف ووضع (آريان) و (أثاليا) و (السينا) وغيرها. وأصيب على أثر فشله في مشروعه بضربة من الشلل؛ فسافر إلى إكس لاشابيل يستشفى مدى حين؛ ثم عاد إلى إنكلترا، وترك التصنيف الأوبرا وأخذ يصنف القطع الكنيسة فوضع منها خمس عشرة؛ وأسبغ بمجهوده على الموسيقى الكنيسة بهاء وروعة لم تعرفهما من قبل، وأشهر هذه القطع الدينية (صالح) و (إسرائيل في مصر) وهما من أبدع قطعة. وفي سنة 1742 أخرج أعظم قطعة وهي:(المسيح) ومثلت لأول مرة في دبلن، ويجمع النقدة على أنها أعظم قطعة دينية موسيقية، ثم أخرج بعد ذلك (شمشون) و (يهوذا) و (تيودورا). وتأثر هاندل أعظم تأثر بالمدرسة الإنكليزية وتقاليدها. ورز في فنه على جميع معاصريه ما عدا (باخ) وتطبع مؤلفاته كلها روعة وفصاحة بالغة؛ وموسيقاه عميقة مؤثرة خصبة في الإلهام. وقد أصيب الموسيقى الكبير قبل وفاته بأعوام بفقد بصره؛ فكان ذلك نذيراً بتحطيم حياته؛ وتوفي بإنكلترا سنة 1759
وقد ألقى ممثل الحكومة الألمانية الدكتور روزنبرج في احتفال (هاله) الرسمي بهذه المناسبة
خطاباً جامعاً عن هاندل وآثاره؛ ونوه في خطابه بوحدة الثقافتين الجرمانية والأنجلوسكسونية، وقال إن ألمانيا كانت تعتبر شكسبير دائماً واحداً من أبنائها، بينما تعتبر عظماء المؤلفين الإيطاليين والفرنسيين أجانب عنها وعن ثقافتها وإن كانت تقدرهم وتعجب بهم، وكذلك هاندل فانه طبع الموسيقى الإنكليزية بأثره وطابعه مدى قرنين، ثم قال إن (المسيح) وهي أعظم قطع هاندل لا علاقة لها بالمسيح ليهودي؛ وقد نعت المعاصرون هاندل بأنه وثني كبير، ولكن روعة هذه القطعة ونبراتها القوية إنما هي في الواقع نفحة انتصار تفهمها الروح الأوربية دائماً سواء في إنكلترا أو ألمانيا
اثر لشوبين
وضعت بلدية درسدن لوحة تذكارية على منزل في المدينة كان الموسيقي البولوني الأشهر شوبين يقيم فيه منذ قرن، وأقيمت بتلك المناسبة حفلة رسمية حضرتها السلطات السكسونية وسفير بولونيا في برلين. وألقيت بهذه المناسبة خطب من مندوب الحكومة الألمانية الدكتور فونك، والسفير البولوني حول حياة شوبين وذكرياته وأثره في تطور الموسيقى
من هنا ومن هناك
خواطر عن الدستور الإنكليزي
ملخص محاضرة للسيد جون سيمون
قرأنا في (الطان) نص المحاضرة الممتعة التي ألقاها السير جون سيمون وزير الخارجية البريطانية، في باريس، وافتتحت بها سلسلة المحاضرات السياسية الكبرى التي نظمتها (الطان) وشهدها رئيس الوزارة الفرنسية وأعضاؤها وأكابر رجال الحكم والسياسة والأدب والفن المال
وكان موضوع محاضرة السيد سيمون طريفاً شائقاً وهو: (بعض خواطر عن النظام الدستوري في بريطانيا العظمى) وقدم السير سيمون إلى الحضور رئيس الوزارة الفرنسية مسيو فلاندان، في كلمة بليغة نوه فيها بالمركز الرفيع الذي يتبوأه المحاضر في عالم السياسة والقانون؛ فهو اليوم عميد السياسة البريطانية، يتناول أقدارها ومصايرها بين يديه، وهو مشترع كبير ومحام بارع يترك وراءه ماضياً حافلاً بأعظم الذكريات
وألقى السير سيمون محاضرته بفرنسية بديعة؛ ولم يلجأ إلى الشروح الفنية أو الفقهية في بسط آرائه، ولكنه عرضها بطريقة واضحة سهلة، محكمة في نفس الوقت؛ واستهلها ببيان حقيقة يجهلها الكثيرون، وهي أنه لا يوجد في الواقع دستور إنكليزي، أو بالحرى لا يوجد دستور إنكليزي مكتوب ومبوب في نصوص ومواد يرجع إليها في تطبيقه؛ ولكن الدستور الإنكليزي عبارة عن مجموعة من القواعد والتقاليد القومية، تكونت مدى القرون وأصبحت مراجع محترمة تتبع بأمانة وإخلاص. ولهذه الخاصة الغريبة مزية قيمة هي المرونة التي تمكن ولاة الأمر من التمشي مع ظروف العصر ومقتضياته بتعديل بعض القواعد والتقاليد بطريقة عملية؛ وضرب السير سيمون مثلا عملياً لتطبيق هذه الخاصة، هو أنك لا تجد مطلقاً في القوانين البريطانية ذكراً للوزارة أو مسئولياتها أو رئيس الوزارة واختصاصه؛ فالوزارة التي تمسك بيدها مصاير الحرب والسلام هي نتيجة تطور دستوري لا يعرف أصله، ومع ذلك فهي تقوم على أصول دستورية معروفة؛ فهي مسئولة أمام البرلمان، ويجب أن يكون أعضاؤها جميعاً من أعضاء البرلمان؛ وأما رئيس الوزارة فليس له ذكر أو مرجع في القوانين الإنكليزية؛ وإقامته لا تستند إلى غير العادة والتقاليد، والمعروف أن
والبول هو أول وزير إنكليزي أطلق عليه هذا اللقب واعتبر رئيساً للحكومة؛ أما قبل ذلك فكان الملك يصطفي من بين وزرائه وزيراً أو أكثر يعهد إليهم بمهام الأمور
وللوزارة البريطانية خاصة أخرى هي أن يفرق دائمً بين ديوان الوزارة (كابنت) وبين مجلس الوزارة. فأما ديوان الوزارة فلا يشمل كل الوزراء، ويعقد فقط من الوزراء الذين يمثلون الوزارات الهامة وفي مقدمتهم الرئيس؛ وهؤلاء هم الوزراء اللذين يحملون لقب (سكرتير الدولة) وعددهم سبعة، ومستشار المالية، واللورد تشانسلور، ورئيس البحرية، ورئيس مجلس التجارة وغيرهم؛ وهؤلاء يحضرون دائماً جلسات (الديوان) أما غيرهم من الوزراء الثانويين مثل وزير البريد، فلا يحضرون هذه الجلسات إلا في أحوال معينة
وقد كان العرش فيما مضى يشرف على اجتماعات الوزارة، ويرأس الملك جلساتها عادة؛ وكانت الملكة (آن) هي آخر من رأس مجلس الوزراء؛ ولكن حدث في عهد جورج الأول (أوائل القرن الثامن عشر) أن غيرت هذه العادة، فعدل الملك عن رئاسة المجلس لا لسبب سوى أنه كان ألمانياً لا يعرف الإنكليزية ولكنها غدت من ذلك الحين سنة في الدستور الإنكليزي، فملك إنكلترا لا يرأس مجلس الوزراء منذ قرنين
ولم يكن لمجلس الوزراء سكرتارية، ولا يوضع لجلساته مجلس أعمال حتى الحرب الكبرى، فاستحدث مستر لويد جورج هذه القاعدة، وعين سكرتيراً للمجلس بداعي الحاجة وما تقتضيه الأمور من سرعة الفعل؛ فغدت سنة دستورية؛ وأضحى هذا السكرتير من أهم أعضاء (الديوان) وعليه مسئولية كبيرة، فهو الذي يضع جدول الأعمال بمصادقة الرئيس ويوزعه على الأعضاء مشفوعاً بجميع الوثائق اللازمة، وفي وسع الوزراء البريطانيين متى تركوا خدمة الحكومة أن يكتبوا مذكراتهم كما شاءوا، ولكن قاعدة حكيمة مرعية تحملهم دائماً على احترام أسرار الدولة الخطيرة، فلا يبوحون بها مطلقاً
وهناك خاصة أخرى للوزارات البريطانية هي استقرارها وطول بقائها في الحكم؛ وهذه الخاصة ترجع إلى عوامل ثلاثة: الأول أن الأحزاب السياسية في إنكلترا قليلة العدد، وليست موزعة القوى والفرق كما هو الشأن في بلاد أخرى. والثاني هو أن صدور تصويت ضد الوزارة لا ينتهي بإسقاطها حتما؛ والوزارة الإنكليزية لا تطرح مسألة الثقة؛ ولا تسقط الوزارة إلا إذا هزمت في مسألة خطيرة أو وجه أليها قرار لوم على أثر المناقشة
في مسألة هامة. والثالث هو أن أعضاء الأغلبية يترددون غالباً في التصويت ضد الحكومة، لأنه يحتمل جداً أن رئيس الوزارة إذا هزمت الوزارة، يشير على الملك بحل البرلمان، وهو اعتبار له قيمته في اتزان النواب. والمفهوم دائماً أن الرئيس إذا أشار بحل المجلس، فإنما يرجع ذلك إلى أسباب جوهرية تقتضيه؛ ولم يحدث أن رئيساً أشار مرة بالحل ورفض طلبه
ولمجلس النواب البريطاني رئيس له تقاليد خاصة واحترام عميق في نفوس الأعضاء، وهو الذي يطلق عليه (مستر سبيكر) وهو يحمل مسئولية النظام في المجلس، ويؤديها بمقدرة عجيبة؛ وليس له جرس يقرعه، ولكنه إذا احتدم الجدل إلى حد كبير، يقوم من مجلسة فقط، فيضطر الأعضاء احتراماً لعادة قديمة أن يجلسوا جميعاً وبذلك تسود السكينة. ولم يحدث منذ ثلاثين عاماً أن أخرج عضو من المجلس أو اتخذت أي إجراءات غير عادية لتأييد النظام
الموسوعة الإيطالية
كان من مظاهر الأحياء الفاشستي في إيطاليا، أن عنيت إيطاليا الجديدة بالناحية الثقافية والعمل على ترقية العلوم والآداب؛ ومنذ سنة 1925 تعنى جهات الثقافة الرسمية بإصدار موسوعة إيطالية كبرى (دائرة المعارف) لا تقل في حجمها وموادها عن الموسوعة الإنكليزية أو الأمريكية أو الروسية؛ ولم تكن إيطاليا قد عملت بعد لإخراجموسوعة من هذا النوع، وكان أول من فكر في تنفيذ المشروع السناتو تريكاني وهو من أقطاب الصناعة والمال، ورأى أن يستعين على تنفيذه بأقطاب العلم والأدب والفن في إيطاليا وفي خارجها؛ ولما رأت الحكومة خطر المشروع وأهميته تناولته بيدها، وأصدرت به قراراً رسمياً في يناير سنة 1933؛ وتحولت الهيئة التي كانت قائمة به إلى هيئة رسمية، واشتركت معظم البنوك الإيطالية الكبرى في إنشاء الاعتماد اللازم؛ وتولى الإشراف على الناحية العلمية السنيور جنتيلي وزير المعارف السابق وهو علامة وفيلسوف كبير؛ فجمع حوله أقطاب العلم والأدب والفن؛ وقسمت أبواب الموسوعة إلى خمسين باباً وزعت على مختلف العلماء والاخصائيين؛ وروعي فيها أن تكون تامة التماسك والتناسق؛ فالمواد تفحص حين ورودها ويستبعد منها ما كان جدلياً أو مذهبياً أو متناقضاً مع غيره، وتصحح التجارب مراراً
عديدة، وقد بدأ ظهور هذه الموسوعة منذ سنة 1929 في ثوب أنيق رائع هو أبدع ما أخرجت المطابع الإيطالية وربما كان أبدع ما أخرجت مطابع العالم؛ ومن ذلك الحين يصدر مجلد واحد كل ثلاثة أشهر بانتظام تام؛ وسوف تظهر الأجزاء الأخيرة في سنة 1937، وتكون الموسوعة في ستة وثلاثين مجلداً. وقد ظهر إلى اليوم المجلد الرابع والعشرون ووصلت المواد إلى حرف ويحتوي كل مجلد على نحو مائتي صورة؛ وهي تطبع في مطبعة أنشئت خصيصاً لها في ميلانو عاصمة الطباعة الإيطالية، وقد اشترك في موادها جميع العلماء على اختلاف نحلهم ومذاهبهم العلمية والسياسية، وبلغ عدد الذين يشتركون في كتابتها 2500 عالم منهم نحو العشرة فقط من الأجانب، وكتب السنيور موسوليني مادة (الفاشزم)، وكتب كثير من أقطاب الحركة الفاشستية عن مناحي الحركة وتطوراتها؛ وسوف تكون هذه الموسوعة بلا ريب من أحدث المجموعات العلمية والأدبية والفنية التي ظهرت حتى اليوم
الكتب
ترجمة نفسية تحليلية
2 -
هو ذا تاريخ إنسان. . .!
للأستاذ خليل هنداوي
جبران (دمعة وابتسامة) كان رؤوفاً بالناس محباً للناس، راحماً ضعفهم، مشفقاً على بؤسهم، وهو - وإن يكن في نزعاته هذه مقلداً - فقد عبر عن عاطفة صحيحة صادقة لم تدنسها الأرض. فهو مؤمن بالعدل السماوي والرحمة المتغلغلة في كل جزء من أجزاء الكون، ولكن جبران الإنسان أفسد على جبران الهادئ هدوءه، وقلقه الحسي عمل قلقه الروحي. . . فالفقر والهجرة وموت الأعزاء والخيبة، كلها عوامل تألبت على جبران فخنقت فيه جبران الهادئ، ووترت أعصاب جبران القاسي، ومن يطفئ مثل هذه الثورة إلا خمرة (نيتشه) يتناولها بيد (زرادشت)؟
خلقت خمرة (نيتشه) عواصف جبران، وقد أثبت الناقد تأثير نيتشه في (العواصف) وهو تأثير لمن يرى؛ وعندي أن هذا التأثير مهما أحاطت به عوامل هذا الفيلسوف فهو لا يخلو من تأثير روح جبران الباطنية التي تمثلت أن الناس كانوا سبب خيبتها، فكرهتهم، لأن في كراهيتها انتقاماً لها منهم.
قد كان - في طوايا جبران - زرادشت راقداً، فأيقضه زرادشت نيتشه. . . وألهبه بروحه، وهتف به ليكون هداماً مثله، دافناً للأموات الأحياء!
لا يرضى النعيمي عن كل هذا التمرد ولا بعضه، لأنه لا يعرف للتمرد غاية. . . وإنما أظهر رضاه عنه في (غرباله) لأنه كان نفثة صادقة من فتى التفت إلى لباب الحياة، أو طفل صاح صيحة الحياة، برغم القابلة الواقفة على كل طفل يولد لتحول بينه وبين صيحته بالخنق أو بالسحق: هتف جبران برغم ذلك هتاف المرارة والحرقة، فوجد الناقد في هتافه تحرقاً للمجهول، فرضى عن هذا التحرق وإن لم يرض عن هذا التمرد. . . فنظر - كما قال جبران - إلى مستقبله لا إلى ماضيه، وأدرك الناقد أن هذه الثورة النفسية هي ثورة لم يخل منها فنان أو شاعر، وأي حجر ينزل في القاع بدون دوائر وأمواج. وهذه الثورة هي علامة الحياة. . .
صدق النعيمي في نبوءته؛ فإن جبران لم يطل تمرده، ولو طال تمرده لما كان شريفاً كالذي قلده في تمرده؛ فإن تمرد نيتشه ناشئ عن المثل الأعلى الذي وجده واتبعه، لا يثنيه ثان عنه إلا رده، ولا يحول بينه وبين مثله حائل إلا صده. أما تمرد جبران فهو تمرد تقليدي - كمن يمد لمصافحة يداً شائكة إذا أنكره أو يداً ملساء إذا عرفه. تمرد نيتشه لا يقبل رحمة من يشتمهم، ولا يرضى بهبة من يدعوهم أمواتاً لأنه هو الحي العظيم! أما جبران فهو يعمل لهم ويقبل صداقتهم ويبني فنه على عطفهم ومعونتهم. ولو أن نيتشه حل محل جبران وعرضت عليه - ماري هاسكل - هذه الخمسة والسبعين دولاراً هبة، فماذا كان فاعلاً؟ لكن جبران علل نفسه بأنه اليوم مستسلماً وغداً يتمرد ثائراً. . وجاءت ساعة التمرد فأعلن العصيان، ثم فاء إلى منطقة السكينة الصامتة، والحياة كلها متوزعة في منطقة الصمت
ما هي العوامل التي دفعت جبران إلى السكينة بعد تلك العاصفة الهوجاء؟
ذلك ما حاول النعيمي أن يسدل عليه ستاراً فيأتي بالعوامل الخارجية التي لا يسكن إليها العقل. فجبران المتمرد قد يكون سبب سكونه أنه لم يكن داعياً بتمرده إلى مثل أعلى تؤمن به روحه كما يذيعهيراعه. ولكن (زرادشت) الثائر في قلب جبران هو ذات (زرادشت) الذي هدأ، والذي أسماه (المصطفى) وفيه لا يزال نتيشه عرقاً حياً ينبض في قلب جبران!
يرى (النعيمي) في المصطفى جبران الاسمي الذي بلغ بخياله ما لم يبلغه بإرادته. . . جبران الذي هو في القاع وهدأ في مكانه. جبران الساكن الذي دفن جبران المتمرد! جبران الذي رضى عن الحياة بكل ما انطوت عليه الحياة؛ وقبل الحياة المتصلة اتصال كل ذرة بذرة وكل قطرة بقطرة؛ الحياة التي لا ينفصل ألمها عن فرحها وجميلها عن قبيحها! هذه هي القمة التي بلغها جبران وأراد النعيمي من جبران أن يبلغها!
يقف النعيمي عند هذه النقطة ولا يتقدم، ويبقى القارئ مشوشاً لأنه لا يستطيع أن يصل بين حلقة التمرد وحلقة الكون؛ وقد تركهما الناقد مقطوعتين. عرف مولد التمرد ولم يعرف مولد السكينة، ولكن المحلل اليقظ يسهل عليه أن يدرك أن في (جبران المصطفى) أثراً من روح (نعيمة الهادئ)
أما جبران الثائر فقد علمنا أنه وليد نتيشه، أما جبران الهادئ فأي (نتيشه آخر) ذهب بروحه إلى هذا الأفق.، وهداه إلى هذه الغاية؟ إن الناقد الحقيقي قد يساعد الشاعر على
خلق نفسه وتتميم رسالته، والتغلب على الصدمات التي تعترض سبيله إذا كان فناناً. . . والناقد لا يحيط بمعاني العبقري إلا إذا كان ممن أوتوا من هذه العبقرية شيئاً. . والنعيمي هو صاحب فلسفة ومذهب في الحياة شامل، تراه في كل آثاره. ألم يحمل إلى جبران الثائر من هذا الطعام شيئاً؟ ألم يكيفه بشيء؟
أنا أعتقد بأنه أثر فيه وإن أخفى النعيمي هذه الصفحة تواضعاً منه، فجبران يوم كان يبعث بعواصفه المدمرة كان النعيمي يبشر بهذه الحياة الهادئة الساكنة. .
هذا هو كتاب (المصطفى) الذي يمثل الروح الشاملة المطلقة التي يبشر بها النعيمي؛ هذه الروح التي تضم إلى صدرها كل شيء، وتجعل صاحبها في أمن من الألم، لأن الألم عندها مفقود، وكيف يتألم من يؤمن بأن الحياة في كل حركة من حركاتها وفي كل سكنة من سكناتها ساعية دائبة وراء غايتها التي لا تحد!
(يتبع)
خليل هنداوي