المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌منطق عجيب (قوبل نبأ اعتزام الحكومة المصرية تزويد القرى المصرية بمياه - مجلة الرسالة - جـ ٩٠٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌منطق عجيب

(قوبل نبأ اعتزام الحكومة المصرية تزويد القرى المصرية بمياه الشرب الصالحة بارتياح كبير في لندن. وقد صرح أحد المسئولين في وزارة الخارجية البريطانية اليوم لمراسل (الأهرام) بأن السير رالف ستيفنسون السفير البريطاني في القاهرة، قد سلم إلى الحكومة المصرية مبلغ 000ر400 جنيه كدفعة أولى من المبلغ الذي قررت بريطانيا المساهمة به في مشروع مياه الشرب.

والمفهوم أن هذا المبلغ هو جزء من نصيب الحكومة البريطانية في أرباح لجنة القطن المصرية البريطانية خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الأخيرة.

والمعروف أن الحكومة البريطانية كانت قد فكرت في تقديم هذه (الهبة) إلى مصر في عام 1946، ولكنها أرجأت تقديمها لأن الحكومة المصرية في ذلك الوقت لم تكن قد وضعت بعد أسس المشروع).

هذا هو النبأ الذي حملته (الأهرام) منذ ثلاثة أيام إلى المصريين. ولو كان المصريون جميعاً يقرئون لارتسمت على الشفاء عشرون مليوناً من البسمات الساخرة. اللهم أكثر من المصريين واكثر من الذين يقرئون وافتح عيون الإنجليز لتقع على المزيد من هذه البسمات!!

ولماذا لا يبتسم المصريون في سخرية وأمامهم هذا المنطق الساخر من هيبة العقل وصولة الحق وكلمة التاريخ؟ منطق ساخر، ومن حق العقلاء أن يتلقوه ساخرين إذا كانوا منطقيين. . . يعودون بأفكارهم إلى الوراء ليطووا الزمن سبعين عاما في ضيافة الاحتلال، وليذكروا أن موائد (الكرام) في خلال هذه الضيافة الطويلة قد قدمت إليهم المرض فيما قدمت من طعام! ومع ذلك فقد قوبل نبأ تزويد القرى المصرية بمياه الشرب الصالحة بارتياح كبير في لندن. أتدري لماذا؟ لأن الإنجليز يسعدهم أن يتمتع المصريون بسلامة الأبدان وياله من منطق ذلك الذي نسي المصريون متمتعون بسلامة العقول!!

منطق يفر من وجه التاريخ، وله من القدرة على المغالطة ما يبلغ حد الصفاقة في كثير من الأحيان. . وليس أمعن في الصفاقة من أن تتحدث عن ماضيك مع خصمك بمثل هذا الأسلوب، ثم نفترض أنه قد نسي ذلك الماضي فنحاول أن نغالطه في الحاضر المشهود. وأية مغالطة في الدنيا تفوق هذا الادعاء البريطاني بأن لندن قد (تصدقت) على المصريين

ص: 1

بأربعمائة ألف من الجنيهات؟!

ويسمونها هبة، أو منحة، أو صدقة، أو ما شئت من هذه الألفاظ التي يعج بها قاموس الصفاقة البريطانية. يسمونها كذلك ولنا في ذمتهم من الديون ما يربى على ثلاثمائة مليون من الجنيهات هل رأيت في حياتك مدينا يتصدق على دائنه؟ مدينا بحت حنجرة الدائن من طول مطالبته بحقه وهو يماطل، وتذكيره بوعوده وهو يخلف، وتعريضه بشرفه وهو لا يخشى على شرفه من الهوان؟! ولقد عشت حتى رأيت. . رأيت الخيال يتحول إلى واقع، والباطل ينقلب إلى حق، والظن يصبح في يد المغالطين وهو حقيقة!

أ. م

ص: 2

‌ما رأيت وما سمعت في سورية ولبنان

للأستاذ حبيب الزحلاوي

كتب التاريخ طافحة بأخبار المستعمرين الطغاة، وأزعم أن ليس بين الحكومات المستعمرة كالحكومة الفرنسية التي حاولت بكافة وسائلها الجائرة إماتة السوريين فأحيتهم، وإحياء اللبنانيين أضلتهم.

قل من الناس من يجهل كيف فرضت فرنسا انتدابها على سورية فرضا، وكيف انتفضت عليها بجحافلها فاجتاحتها اجتياحاً، وكم عانت في إخماد الثورات الدامية التي أشعلها أبناء سورية الأشاوس، وكم تحملت البلاد من ويلات ونكبات من جراء تلك الثورات التي لم تخمد نارها إلا بعد ما انكشح آخر جندي فرنسي عن البلاد. ولكن قل من يذكر أيضاً أن فرنسا لما أيقنت أنها مجبرة على ترك البلاد الشامية نهائياً، وأن صلابة الشعب السوري واستماتته في دفع بلاء الانتداب عنه قد أصابها في صميم كبريائها الاستعماري، وان الخيرات والأسلاب وما استنزفته من دماء السوريين، لا يساوي الجزء الواحد من ألف الجزء الذي أنفقته فرنسا المسيحية خلال عشرات السنين، أقول لما أيقنت حكومة فرنسا أنها مرغمة على الخروج من سورية وأنه لم يعد لها ثمة سبيل إلا سبيل الانتقام، عندها أوعزت إلى طائراتها أن تفرغ قنابلها المحرقة، وتصب حممها المشتعلة، على قلب دمشق، فسرعان ما قامت الحرائق، وشبت النار كأنها تزغرد فرحا بارتحال الفرنسيين وما عتمت تلك الحرائق أن انطفأت بد أن التهمت حيزا واسعا من دور قائمة في قلب المدينة

بهذه الحرائق شفت فرنسا غليلها من السوريين، وبهذه الحرائق أثلجت صدرها المحترق من أموية السوريين

لم يبك السوريون ديارهم المحترقة، ولم يندبوا تراث الآباء وآثار الأجداد، بل قاموا قومة رجل واحد، قومة دمشقية مبعثها العقل والجد والحب والإخلاص، فطهروا الأرض من الأنقاض، وأسسوا الأسس القويمة لمدينة جديدة، كأن مطران رحمة الله عناها بقوله:

بنوها فأعلوها فما هي غير أن

جرت أحرف مرسومة فوق قرطاس

بدت إرم ذات العماد كأنها

من القاع شدتها النجوم بأمراس

في قلب المدينة الجديدة ضللت الطريق، وأي دمشقي مغترب مثلي لا يضل السبيل في

ص: 3

دمشق الجديدة؟ هل أحرق الفرنسيون أحياء المدينة كلها فقام الدمشقيون قومة رجل جبار يبني ما انهدم ويشيد ما احترق؟ من حدود الميدان، مسقط رأسي إلى قمة جبل قيسون، ومن مدخل دمشق حتى الباب الشرقي فالفصاع، دارات تنشق أكمامها، ودور تناطح السحاب. كيف لا أضل الطريق وقد قامت قيامة الدماشقة على الهدم والبناء؟ طي القديم من كل شيء ونشر الجديد المعتدل من المدينة العصرية، سفور عن جمال بلا تبرج، وفتنة في دمشقيات، لا من باب البربرية ولا من باب الجابية، بل من كل حي من أحياء المدينة الحافلة بمدارس تضم الطالبات والطلاب، وبكل سوق للتجارة والحدائق والمتنزهات ودمشقة في الرجال قضت المدينة الحديثة على أكثر لحاهم وعمائمهم المطرزة

أبرز مظاهر الحياة في سورية المدارس، والعمران، والمصانع، في الجامعة السورية آلاف من الطلبة تخرج منهم في العام المنصرم (173) حقوقيا وخمسة وعشرون طبيباً واثنا عشر صيدليا وخمسة عشر مهندساً وطبيباً واحداً للأسنان وستة في العلوم واثنان وخمسون في الآداب وخمسة وعشرون من المعلمين في المعهد العالي عرفت أن سبب إقبال الطلاب على دراسة الحقوق مرده إلى أمرين اثنين، الأول أنفة الشباب من أولئك المتكالبين المتهالكين على مقاعد النيابة ومكاتب الحكومة، والثاني إقدامهم على اقتحام مضمار التجارة بسلاح من علم الاقتصاد

من برز مصانع دمشق لنسج القطن والحرير الصناعي والكتان والسكر والزيت والصابون والزجاج والأسمنت ومعامل التقطير وتوليد الكهرباء وسواها لا تبهره الأبنية الحديثة على النسق الأمريكي ولا الآلات الجديدة التي تدور بلا انقطاع ليل نهار يتناوبها ثلاثة أفواج من العمال والنظار والمهندسين، ولا العدد الوفير من الإنتاج الذي يذوب أيدي صغار التجار، بل تبهره إدارة حازمة نزيهة عادلة تتولاها شبيبة سورية تملأها العين والقلب والعقل

لازمني في طوافي مصانع الشركة الخماسية في (القابون) شاب توهمت أنه أحد المهندسين أو الكتاب الإداريين، وأخذ يحدثني حديث العارف المتمكن، قال، لم يعاوننا في تشييد هذا البناء وتركيب الآلات وإدارتها بانتظام كما ترى سوى مهندسين اثنين من الأمريكان، واحد للبناء والثاني للكهرباء، أما بقية الأيدي العاملة فكلها سورية فلسطينية، وللفلسطينيين عندنا العمل المضمون والمقام المشمول بالعطف، لأن شيطان الأطماع الاقتصادية أخرجه من

ص: 4

دياره. وإن الأقطان التي ننسجها إنما هي أقطان مزروعة في أرض سورية، وان ما ينقصنا من القطن نشتريه من تركيا لقربها منا

كان يسهب في الإيضاح والتبسيط، وكنت أنتبه إلى أقواله كانتباهي إلى درس قيم يلقيه أستاذ متمكن، ولم أقف منه سوى وقفة واحدة للسؤال عن كلمة واحدة لم أدرك معناها وهي شركة (مغفلة) وهل الغين ساكنة أم مشددة؟

استعان محدثي الظريف - وقد اصبغ وجهه بالحمرة - بالموظف المنتدب من وزارة التجارة والاقتصاد لمرافقة المغترين فقال هذا (إن الشركة الخماسية هي ذات أسهم لا تطرح في البورصة بل تبقى في أيدي أصحابها فقط، والإغفال لا يعني الترك أو الإهمال ولا الغفلة أيضا، وأن مجمعنا العلمي هو الذي أوجد هذه الكلمة للتمييز بين الشركة المساهمة الموزعة أسهمها بين أيدي الناس وبين الشركة المساهمة التي لا يجوز أن تنقل أسهمها إلى غير أيدي مؤسسي الشركة) قلت أي كلمة تقابلها بالافرنسية قال (أنونيم) قلت لا مساهمة) إذن

لم يكن محدثي الشاب اللبق المهذب وقد لازمني حوالي ساعتين، أقول لم يكن مهندسا ولا كاتبا من كتاب الشركة بل كان واحدا من الخمسة رحال المالكين لهذه الشركة ورأسمالها عشرة ملايين من الليرات

لم أستشهد بهذه الزيارة لهذه المؤسسة الوطنية بالذات، ولا بالحديث الممتع الذي سمعته من أحد أصحابها إلا للتدليل على روح النهضة الاقتصادية، وعلى الروح لمعنوية التي تسود شباب البلاد. يضاف إلى ذلك روح التحدي التي ستقنع الطامعين وتقنعهم بأن الأمة السورية قادرة على مجاراة الغرب في نهضته الاقتصادية والثقافية، وأنها ستجاريه أيضاً في نهضته العلمية، وأن السوري سيبز الفرنسوي ولا يستكين مثله إذا أنكبته النكبات. ولا يفوتني أن أقول أن المدارس الفرنسوية، والإرساليات الدينية والعلمانية تقوم بدعوتها الثقافية خير قيام، وان رجالها يعلمون جيداً أن في النشء السوري مناعة تقيهم سموم الغربيين وقد اكتووا بنارهم ووعوا الغاية من مدارسهم وإرساليتهم

أود الآن إلى الكلام الذي افتتحت به مقالي وهو كيف حاولت فرنسا إماتة السوريين فأحيتهم، وإحياء اللبنانيين فأضلتهم وموعدنا العدد المقبل

ص: 5

حبيب الزحلاوي

ص: 6

‌الأمثال العامية في الحياة السودانية

للأستاذ علي الماري

لست أعرف في الفنون الكلامية فناً أدل على حياة الأمة وأصدق تعبيراً عن خوالجها وميولها من الأمثال العامية، فقد يصدق الشعر عن حياة الأمة وقد يكذب، وقد تصطبغ الرسالة والمقالة بطابع الأمة، وقد تقعان بعيداً عن هذا الطابع، أما المثل فمن الأمة وإلى الأمة، لا يعبر إلا عن آلامها وأفرحها، ولا يصور إلا نوع حياتها التي تحياها، بل هو كثيراً ما يصور دقائق هذه الحياة، ويصل إلى أبعد أعماقها. وإذا كان الشعر يدور حوله في حدود ضيقة، ويقتصر على طبقة خاصة من الشعب، فإن المثل هو العملة الكلامية الوحيدة التي يتعامل بها جميع الأفراد، فالمثل الذي يستشهد به الأستاذ في درسه، أو القاضي في محكمته، أو الحاكم في إدارته، هو المثل نفسه، بلفظه ومعناه، الذي يلقيه الفلاح في غيطه، والصانع في مصنعه، والراعي خلف إبله أو غنمه، والمثل في كل ذلك لا يفقد شيئاً من قوته ودلالته. فهو يهدي إلى الطريق، ويحمس الجبان، ويدفع البخيل إلى الجود، ويبلغ في أثره ما لا تبلغه القصيدة من الشعر. والأمثال إنما تنشأ من التجارب، وربما عبرت عن الحقائق الإنسانية الكبرى، وهذه الحقائق من القدر المشترك بين كثير من الأمم، لذلك نجد أمثالا شائعة معروفة في أمم مختلفة، تتشابه في المعنى، وفي الغرض، وتختلف في طريقة الأداء، فيبدو في أدائها مزاج الأمة فالأمم وطبيعة حياتها، الزراعية مثلا يتكون كثير من أمثالها من كلمات زراعية. . وهكذا.

وقد تتقارب حياة أمتين أو اكثر تقاربا كبيراً وتشتبه في كثير من الأمور، فنجد أمثالاً غير قليلة متشابهة عندهما، وربما اختلفت هذه الأمثال أيضاً في طريق أدائها، ولكن اختلافها حينئذ يكون أقل، وبعض الأمثال خاص ببعض الأمم لا تجده في غيرها، نتيجة لظروف حياتها الخاصة.

والباحث في أمثال أمة من الأمم ليستدل منها على حياة الأمة، وفلسفتها الخاصة، يحتاج إلى جهد كبير حتى يكون بحثه وافياً شاملاً؛ فهو في حاجة إلى أن يستقصي الأمثال، ويجمعها كلها، ثم ينظر فيها على ضوء ما يعرفه من المظاهر المختلفة في حياة الأمة، من أخلاق وعادات وتقاليد، ويرجع كل مثل إلى جدوله الذي انفصل منه، وسوف يجد في النهاية -

ص: 7

إذا كان دقيق الموازنة والاستقصاء قوي الملاحظة - أن الأمثال صورة صحيحة لكل ما يجري في عروق الأمة من عواطف وميول، وما يحيط بحياتها من مد الأيام وجزرها ولكن ليس ذلك في استطاعة باحث عابر، يكتفي بالإشارة، ويقتصر على النموذج والمثل.

ولا شك أننا نستطيع أن نستخرج كل مظاهر الحياة السودانية من الأمثال العامية. ولنعط القارئ على ذلك أمثلة قليلة لهذا النهج من البحث، فالمثل السوداني الشائع (ود العرب دولته يوم عرسه ويوم طهوره) يعطينا فكرة صحيحة عن العادات السودانية في الأفراح من إقامة الاحتفالات أياماً عديدة، يكون فيها العريس موضع الجلة والاحترام من الجميع رجال ونساء، ويكون مخدوما مطاع الكلمة حتى أنه يتخذ لنفسه وزيراً يكون له عوناً في جميع أموره، ويستشيره في الصغيرة والكبيرة منها، ويكون للعريس دالة على أقربائه وأصدقائه لا يحلم بها بعد اليوم من حياته، وفي ذلك يقول الشيخ عبد الله عبد الرحمن مهنئاً أخاه أحمد وذاكرا هذه العادة:

هات اسقني حلب العصير

حمراء كالخد النضير

وادع الخلاعة والصبا

واهتف بحي على السرور

وأقم لأحمد من بي

وت الشعر أمثال القصور

كاد العريس يكون مل_كا في مواتاة الأمور

أو ما تراه ملقيا

بهمة نحو الوزير

فكأنه في وقته

رب الخورنق والسدير

ومع دلالة هذا المثل على هذه العادة فإنه يحمل كثيراً من الحسرة الكمينة في نفوس القوم، ويدل على ما يكابدونه من مضض تأسفا على المجد الضائع، والدولة الزائلة. وهل أدل على الحسرة والألم من أن (ود العرب) لا دولة له، ولا صولة إلا في هاتين المناسبتين، يوم عرسه، ويوم طهوره.

والرقيق كان منتشراً في السودان، تعرف ذلك من أمثالهم الكثيرة فيه، وتجارته في بعض الأحايين كانت غير رابحة، والمثل يقول: تاجران لا يربحان، تاجر الهف، وتاجر الكف، والهف الحبوب، والكف يريدون بها الرقيق، وثمن الرقيق - في بعض الأوقات - كان زهيداً جداً، بدليل المثل:(فكة ريق، أخير رأس رقيق) وفكة الريق، الطعام القليل الذي

ص: 8

يتناوله الإنسان في الفطور.

وتأخذ أمثالهم في الصديق، فنؤلف منها قواعد وأصولا وأسساً تقوم عليها الصداقة الحقة، ولهم عناية بهذه الناحية لأن الصداقة من الأمور اللازمة لحياتهم، فأهل السودان أكثر الشعوب مجاملة - فيما أعرف - وقياماً بالواجب، وهم لا يفرطون في شيء من ذلك في الأفراح أو في غيرها. والكرم فيهم طبيعة غالية، والضيافة من الأمور العادية، ومن شأن كل هذه الأشياء أن تقرب بين القلوب، وأن تنشئ صداقات كثيرة، لذلك نجد لهم أمثالا كثيرة في هذه الناحية، وبالنظر فيها نجدها مصورة لكل ما يحيط بهذا المعنى الكريم (فالرفيق قبل الطريق). (وماية صاحب ولا عدو واحد). و (أيد على أيد تجدع بعيد) ومعنى تجدع تقذف، و (العود الواحد ما بيوقد نار) كل هذه الأمثال ترغب في اتخاذ الصديق، وتحبب في الإكثار منه، ولكن هل يصادق الرجل كل الناس؟ لا. (فالخلا ولا الرفيق الغسل) فليتحمل المرء وحشة الخلاء، وما فيه من متاعب، فإنه خير له من أن يزامل رجلاً بخيلاً لا مروءة له، ولا رجولة فيه، ولا معاونة ترجى منه (وخصام الرجل الدكر، ولا صحبة الرجل الأصنينة) والأصنينة: الجبان، وصحبته عار، ولكن خصومة الرجال الأحرار شرف وأي شرف. فإذا اختار الإنسان صديقه، ووفق في اختياره، فليحمله كنفسه، والمثل السوداني يقول:(ربك وصاحبك ما عليهم مدسة) وليحافظ على صداقته ما استطاع، ولا يطمع في شيء من ماله أو نفسه (فالطمع على االرفيق أخير منه القماح) وليهن إذا اشتد (فالحبل بين فاضلين ما ينقطع) وعلى الإنسان أن يعرف أن الصداقة تحتاج إلى كثير من المصابرة، وأن الأصدقاء ليسوا ملائكة، وأنه يجب ألا يحاسب أصدقاءه على الصغيرة والكبيرة، فإنه حينئذ لا يجد صديقا، وهذا معنى المثل السوداني (اللي ما يبلع ريق على ريق ما يلقى رفيق) وفي معنى هذا المثل طال كلام العرب شعرهم ونثرهم:

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى

ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه

ولعل من أبدع ذلك ما بعث به أحد الكتاب إلى صاحبه منذ ألف سنة يقول: (فأما الإنصاف في الصداقة فهو ضالتي عند الأصدقاء ولا أقول:

وإني لمشتاق إلى ظل صاحب

يرق وبصفو أن كدرت عليه

فإن قائل هذا البيت قاله والزمان زمان، والأخوان إخوان، وحسن العشرة سلطان، ولكني

ص: 9

أقول: وإني لمشتاق إلى ظل:

رجل يوازنك المودة جاهدا

يعطي ويأخذ منك بالميزان

فإذا رأى مثقال حبة خردل

مالت مودته مع الرجحان

وقد كنا نقترح الفضل، فأصبحنا نقترح العدل؛ وإلى الله المشتكى لا منه).

هذا، وإنا لنجد في الأمثال السودانية ظاهرة بيانية طيبة هي ميلها إلى التشبيه في بعض الأحايين، فمن أمثالهم (الإبرة ما بتشيل خيطين، والقلب ما يسع اثنين) فالمقصود من المثل هو الجزء الثاني، ولكن جاءوا بالأول ليدلوا به على صدق الثاني، وأنه من غير الممكن أن يسع القلب أثنين، وأنه من غير الممكن الذي يشاهده كل إنسان أن الإبرة لا تسع خيطين. ومن أمثالهم (رفيق اثنين كداب، وراكب سرجين وقاع، وماسك دربين ضهاب) فالمقصود تصوير حال المنافق الذي يجمع في الصداقة بين اثنين مختلفين، متماديين، ويزعم لكل منهما أنه صاحبه، والأثير عنده، فهذا كذاب، وهو شبيه بمن يركب سرجين، أو من يسير في دربين، فهذا كثير الضلال، وذاك كثير الوقوع، ومنها (صاحبك أن أباك قلل عليه الحوم، وباطنك أن وجع كثر عليه الصوم) لا شك أنهم يقصدون إلى أن ينصحوا في شأن الصاحب، حين تظهر منه الكراهية والتجنب، وأن خير علاج لهذه الحالة أن يقلل الإنسان من الاتصال به، فإن ذلك أدعى إلى أن تعود بينهما الألفة، وهم يذكرون تشبيهاً صحيحاً حسناً لهذه الحالة، فالمعدة إذا فسدت لا يصلحها إلا الإقلال من الطعام، وهو تشبيه متطبق غاية الانطباق، كما يلاحظ أن التشبيهات كلها إنما هي تشبيه المعاني المعقولة بالأمور المحسة، وذلك من أفضل ألوان التشبيه وأوفاها بالغرض. على أنهم في هذه الحالة قد يدقون ويبلغون غاية الأمد، حتى ليجعلون المعنى بارزاً واضحا، حين يقرنونه بالمشبه به، فقد نقول الفاجرة لا تتوب، ولكن كلامك يكون في موضع الشك والتردد، فإذا قلت كما قالوا (الماء ما بتروب، والفاجر ما بتوب) بلغت بالمعنى غاية الاستحالة، فلم ير إنسان الماء وقد راب، ولا يطمع أن يراه كذلك، وهذا شيء مستقر في العقول والقلوب، فليستقر فيها كذلك أن من المستحيل أن تتوب الفاجرة.

وفي الأمثال الوطنية فلسفة عميقة في بعض الأحايين، تحتاج إلى تأمل، وتستدعي الإعجاب، فمن أمثالهم (العترة تسمح المشي) يضرب للرجل يستفيد الصواب من خطئه،

ص: 10

لأن السائر حين يعثر يتنبه لنفسه، ويسير سيراً صحيحاً، و (الفاس ما بتقطع عودها) و (الحتة العفنة تعفن اللحم كله) و (اللي وراه المشي أخير له الجري) و (يا حافر حفرة السوء وسع مراقدها) و (الجمل ما بيشوف عوجة رقبته) وهي أمثال ظاهرة المعنى وفيها عمق كثير.

وبعد فهذه لمحة صغيرة في الأمثال العامية السودانية، على قدر ما يسمح به مقال في مجلة، وإني استحضر لهذه المناسبة المثل السوداني (على قدر غطاك مد كرعيك).

علي العماري

المعهد العلمي - أمدرمان

ص: 11

‌من الحوادث الأدبية

فطلقها فلست لها بكفء

للأستاذ محمد سيد كيلاني

كان الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد صديقاً حميماً للسيد عبد الخالق السادات. وكان للسيد عبد الخالق فتاة جميلة تسمى صفية، فاغرم بها الشيخ علي وأغرمت به وأحب كل منهما صاحبه حباً ملك عليه فؤاده. وقد أعربت صفية عن حبها للشيخ علي في كتاب بعثت به إلى القضاة الشرعيين ونشر في الصحف. ومما جاء فيه قولها (وأعلم يا مولاي أنني راضية بزوجي راغبة فيه لا أختار سواه بديلا مهما كان الأمر).

وقد طلب الشيخ على من والد الفتاة أن يزوجه منها فأخذ يسوف في الأمر حتى إذا ضاق العاشقان ذرعا بهذا التسويف قررا أن يعقد قرانهما دون انتظار لموافقة والد الفتاة. وتم لهما ذلك في مساء الخميس 14 يوليه سنة 1904 إذ هربت الفتاة من منزل والدها وذهبت إلى منزل السيد عبد الحميد البكري وتبعها هناك الشيخ علي يوسف وعقد القران وظهر نبأ ذلك في الصحف.

وما كاد السيد عبد الخالق يطلع على ما نشر خاصا بهذا الزواج حتى ثارت ثائرته وأسرع برفع دعوى أمام المحكمة الشرعية طالباً فسخ الزواج بحجة أن صاحب (المؤبد) غير كفء ليتزوج من بنته وهي هاشمية قرشية. وانتهز أعداء الشيخ علي ومنهم المويلحي هذه الفرصة الثمينة وانتقموا لأنفسهم منه انتقاماً شديداً فأخذوا يشنعون عليه في المجالس والأندية ويكتبون المقالات الطوال في تجريحه والطعن في نسبه وحسبه وأخلاقه واتهموه بخطف فتاة شريفة وخداعها والتغرير بها مما لا يتفق مع الأخلاق والدين والذمة والضمير. وذكروا أنه كان مسيحياً واسلم فهو بهذا غير كفء في نسبه. قال أحد شعراء ذلك العصر

لبعض المسيحيين جئت مسلماً

وقلت له قد أصبح الشيخ مجرما

وجر عليكم سبة وفضيحة

بفعلته الشنعا فأضحى مذمما

لأن لسان الدفع أثبت أنه

ليسى وعبد النور صح له أنتما

فقال المسيحي لم يشنا فإننا

بريئون منه منذ أن صار مسلما

فهلا رأيتم يا بني مصر حادثا

كهذا الذي قد أغضب الأرض والسما

ص: 12

ولا شك في أن تصوير نسب الشيخ علي يوسف في هذه الصورة أمر لا يتفق مع الحقيقة بل دعا إليه ما تمكن في قلوب أعدائه من غل وحقد. فالشاعر يقول أن التحقيق التاريخي أثبت أن نسب الشيخ علي يرجع إلى أسل مسيحي أجداده يسى وبطرس وعبد النور. ويدعي أنه ذهب إلى بعض المسيحيين وشكا إليه من سوء ما فعل الشيخ علي الذي صحت نسبته إليهم. فأجبت بأن المسيحيين منه براء مذ صار مسلما. ثم ينتهي من ذلك إلى نتيجة وهي أن الشيخ عليا بفعلته الشنعاء قد أغضب من في السماوات ومن في الأرض.

وقد شغل الرأي العام في مصر بهذا الموضوع مدة من الزمن وأصبح حديث الخاصة والعامة. ونظرت المحكمة الشرعية المنعقدة برياسة الشيخ أحمد أبي خطوة هذه القضية واكتضت قاعة الجلسة بالمشاهدين وبينهم جم غفير من علية القوم وأكابرهم.

المصريون أعاجم

ووقف محامي السادات يطعن في نسب الشيخ علي فقال إنه عجمي لا يعرف له أب. ثم قال أن عامة أهل القرى والأمصال في هذه الديار أعاجم إلا من له نسب كالسادة الوفائية. ثم قال أن الشيخ عليا من قرية صغيرة في الصعيد تسمى بلصفورة أهلها كلهم أعاجم فكيف انفرد الشيخ علي بينهم بالنسب. ثم التفت المحامي إلى جمهور الحاضرين وسألهم عن نسب موكله وعدم كفاءة الشيخ على الزواج ببنت السادات فصاحوا كلهم في الجلسة نعترف بشرف السادات وتنكر نسب الشيخ علي، ولم يشذ عن الجمهور سوى محمد أمام العبد الذي كان يحرر في المؤيد، فالتفت إليه أحد الحاضرين وقال: شهادة العبد تحتاج إلى إبراز ورقة العتق.

الصحافة حرفة دنيئة

ولما فرغ المحامي من الطعن في نسب الشيخ علي انتقل إلى الطعن في حرفته فكان مما قاله:

(. . . ولنتكلم عن الحرفة فنقول أن حرفة الجرائد المحترف بها حضرة الشيخ علي هي حرفة دنيئة في الأصل؛ والدليل على ذلك أننا رأينا عوام الناس ممن لا حرفة لهم يتخذونها حرفة للتعيش بخلاف بقية الحرف الدنيئة فإننا لم نر من مارسها بغير بضاعة لها. وكيف

ص: 13

لا تكون أدنى الحرف وهي ليست إلا عبارة عن الجاسوسية العامة وهي المعدة للإشاعة وكشف الأسرار والله تعالى قول (ولا تجسسوا)

جهل الشيخ علي

ثوم انتق إلى الكلام على جهل الشيخ علي يوسف فقال:

(. . . وماذا نقول في رجل يتعرض لتحرير الجرائد وهو لا يعرف مواقع القارات، فقد جاء في جريدته يوما قوله

(إن الله شرف القارة الأفريقية بالبيت الحرام مع أن البيت الحرام في آسيا كما يعلمه أطفال المكاتب ومنه قوله في عدد آخر القلعة المعزية بنسبها إلى المعز لدين الله، والحقيقة أنها القلعة الناصرية منسوبة لبانيها صلاح الدين بن يوسف بن أيوب. ومنها قوله في عدد آخر (هارون الرشيد وجعفر المنصوري) مع أن الصواب هارون الرشيد وجعفر المنصور. فإن قيل إنه أخطأ في الرشيد قبله في العوام كثير فقياسه المنصور عليه أشد خطأ وقبحاً لأنه اجتهاد في غير محله. ومنه قوله رأوا بيت أبي نؤاس:

وإذا المطي بنا بلغن محمدا

فظهورهن على الرجال حرام

انه في مدح النبي عليه السلام وإنما مدح به أبو نؤاس محمد الأمين في القرن الثاني من الهجرة، إلى غير ذلك مما يضيق به المقام.)

وكان محمد بك أبو شادي صاحب جريدة (الظاهر) خصما لدودا للشيخ علي يوسف ففتح للشعراء بابا على صفحات جريدته سماء (عام الكفء)، وفي ذلك يقول أحد الشعراء

قد كان عام الكف فصلا جامعا

من أفكه الأقوال للشعراء

واليوم عام الكفء يأخذ دوره ويكون ميدانا إلى الآباء

هل بعد هذا للمؤيد عبرة

إن كان معدودا من العقلاء

هذا قصاص في الحياة يناله

من كان معتديا على الشرفاء

ومن عجائب المصادفات أن لفظي (كف) و (كفء) لا يختلفان كثيراً في الرسم وقد عرض الشاعر في هذه الأبيات للنوادر والملح والفكاهات التي وقعت في هذين العاملين والتي جادت بها خواطر الشعراء والكتاب. ثم ذكر في كثير من الشماتة أن جريدة المؤيد قد عوقبت في هذه الحملات التي شنها عليه خصومه وذلك لما اقترفه من التشهير فيما سماه

ص: 14

(عام الكف)

وقد حكمت المحكمة الشرعية بعدم كفاءة الشيخ علي في هذا الزواج فأبطلته وقضت بفسخ العقد. وفي هذا الموضوع يقول حافظ إبراهيم:

وقالوا المؤيد في غمرة

رماه بها الطمع الأشعبي

دعاه الغرام بسن الكهول

فجن جنونا ببنت النبي

فضج لها العرش والحاملوه

وضج لها القبر في بئر

ونادى رجال بإسقاطه

وقالوا تلون في المشرب

وعدوا عليه من السيئا

ت ألوفا تدور مع الأحقب

وقالوا لصيق ببيت الرسو

ل أغار على النسب الأنجب

وزكى أبو حطوة قولهم

بحكم أحد من المضرب

وهذه الأبيات جاءت ضمن قصيدة مطلعها:

حطمت اليراع فلا تعجبي

وعفت البيان فلا تعتبي

وفيها يعبر حافظ عن شعور شديد بالألم والحزن على ما وصلت إليه أحوال البلاد. فحينما كان الأجانب يزدادون توغلا في مرافق الأمة الاقتصادية وكانت يد الاحتلال تقبض بشدة على رقاب المصريين كان الرأي العام مشغولا بهذه الصغائر، وذلك بفضل الصحف التي تركت معالجة الشؤون الحيوية وانهمكت في مسائل شخصية تافهة وحشت أعمدتها بألفاظ الشتائم والسباب.

وفي الأبيات المتقدمة يحكي لنا حافظ ما يقوله أعداء الشيخ علي يوسف في موضوع الزواج. فهو في نظرهم قد سقط سقطة شنيعة وأتى أمرا لا يتفق مع سنه وهو كهل ولامع عمله وهو صحفي مهمته الوعظ والإرشاد وتقويم المعوج وإصلاح الفاسد. وهذا العمل الشنيع في نظرهم قد ضج له العرش والملائكة والضريح النبوي. ومنهم من نادى بإسقاطه لأنه لم يكن وطنيا صادقا بل كان يلبس لكل حال لبوسها. فإن صفا الجو بين الخديو والإنجليز انضم إلى جانب المحتلين وطفق يمتدح سياستهم ويتغني بها؛ وإن حدث غير ذلك تغير تباعا للظروف. وهو في نظرهم يدعى لنفسه نسبا يلصقه ببيت النبوة. وقد اختلق هذا النسب اختلاقا وظل يخدع الناس ويوهمهم أنه من آل البيت حتى جاء أبو خطوة

ص: 15

ففصل في الموضوع وأظهر بطلان ما يدعيه الشيخ علي.

وهذا كله وليد الحقد والضغينة التي طفحت بها قلوب خصوم الشيخ علي، فصوروه في صورة رجل خارج على القانون الوضعي والسماوي، خارج العرف والتقاليد! خارج على أبسط قواعد المروءة، خارج على الأخلاق التي تواضع الناس عليها. كما صوروه في صورة مجرم خطف فتاة عذراء من بيتها وغرر بها وخدعها وهو بهذا العمل قد أنكر تعاليم الشريعة الإسلامية وأغضب الله وأغضب رسوله باعتدائه على فتاة من آل بيته على هذا الوجه القبيح قال محمد أبو شادي من قصيدة رفعها إلى الشيخ أبي خطوة قبل أن يفصل في القضية

الله ينظر والإسلام ينتظر

والحق يجأر والبهتان يأتمر

وفي ذمامك شرع الله فارع له

عهد الوفاء وأنت الحافظ الحذر

وفي يديك لآل المصطفى شرف

وعرض طهر فلا يلحقهما الكدر

ومنها.

جناية ثلمت عرض النبي وهل

جناية مثلها يا عدل تغتفر

جناية ضجت الأملاك ذاهلة

منها وأرجت الأفلاك والعصر

فأنت ترى كيف لجأ الشاعر إلى إثارة العواطف الدينية، فالله ينظر، والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها يترقب الحكم، والحق يستصرخ ويستنجد، والباطل يجد في الدس والكيد حتى ينتصر على الحق. وهذا الزواج جناية ليس بعدها جناية لأنها خدشت عرض الرسول وتحدث عنها من في السماوات ومن في الأرض وهكذا جد الشاعر في الضرب على وتر حساس وصور الشيخ عليا خارجا على الإسلام محطما لأحكام الكتاب والسنة؛ ثم دعا إلى نصرة الإسلام بإبطال هذا الزواج لأن في ذلك ما يرضي الله ورسوله بعد أن أغضبها الشيخ علي إغضابا شديدا. ولا شك في أن الضرب على هذا الوتر وإشعال العواطف الدينية على النحو المتقدم قد لعب دورا هاما في القضية فجاءت النتيجة كما يحب خصوم الشيخ علي وإبطال الزواج

ولم يترك خصومه بابا يصلح للهجوم عليه إلا ولجوه. فتناولوا ماضيه يوم أن كان فقيرا معدما لا يجد ما يمسك به رمقه ولا ما يستر به عورته. وشنعوا عليه في ذلك تشنيعا كبيرا.

ص: 16

انظر إلى أحدهم حين يقول:

قل المؤيد ما دهاك

يدك التي صفعت قفاك

فلم التغطرس والغرو

ر ألست تذكر مبتداك

أيام كنت ولست تم

لك كسرة لتسد فاك

تلج الثياب وكلها

فرج يضيق لها سواك

فمن اليمين إلى اليسا

ر إلى الأمام إلى وراك

تبلى الرياح خيوطها

ويزيد في البلوى حذاك

تمشي الصباح إلى المسا

ء عسى أخو بر يراك

تغشى المنازل طالبا

رزقا لشعر لا بلاك

فانظر إلى الصورة التي في هذه الأبيات. هي من غير شك صورة مؤلمة إلى حد بعيد. فأنت ترى رجلا بائسا في حاجة إلى قطعة من الخبز وقد لبس ثيابا بالية ممزقة من اليمين واليسار ومن الوراء والأمام يقطع الشوارع والطرقات وبيده قصيدة من الشعر في مدح وجيه من الوجهاء. ثم يذهب إلى دار هذا الوجيه ويمكث أمام بابه ساعات في انتظار ما يجود به عليه من دراهم. وهكذا كان الشيخ علي يوسف كما صوره هذا الشاعر ويغلب على ظني أنه المويلحي. ففي هذه الأبيات تلمس بوضوح روح التشفي والانتقام مما أتاه الشيخ علي في (عام الكف) فعبارة (يدك التي صفعت قفاك) تكشف عن الحالة النفسية لشاعر بلغت منه الشماتة مبلغا عظيما وتهيأت أمامه الفرصة فأنتهزها وأشبع رغبته في الطعن والتجريح وانهال على خصمه في غير شفقة ولا رحمة فأتى بهذه الصورة المزرية المؤثرة واظهر الملأ حقيقة هذا الدعي المغرور الذي يحاول أن يسدل الستار على ماضيه والذي توهم أن ماضيه قد أصبح مجهولا فراح يدعي لنفسه ما شاء وهو آمن مطمئن.

ولما صدر الحكم بإبطال الزواج تهللت وجوه أعدائه فرحا وسرورا وأكثروا من الضحك منه في المجالس والنوادي وأظهروا الشماتة واتخذوه سخرية وموضعا للدعايات والفكاهات. قال أحد الشعراء هاجيا ومؤرخا

قل المؤيد رزأ

ت من الزمان أشد رزء

منعوا صفية بعدما

كانت لدائك خير برء

ص: 17

وزعمت أنك في الكفا

ءة مثلها جزاءا بجزء

لكن شريعة أحمد=قد أرخت هو غير كفء (1322)

وقال آخر

عوضك الله وء

زى القوم في عاقبتك

بينا تسوق الشعر وال

بهتان من ناحيتك

تغرى لعام الكف لا

ترنو إلى داهيتك

إذ دار ذاك الكف مو

زونا على قافيتك

وقال آخر

حكم أذاقك مره

عدلا وعلقمه صفاك

فغدوت منبوذا تفو

ح بنتن فحش جانباك

أخجلت شارات الفضي

لة والوسام ومن كساك

بؤ حاملا غضب الذي

قدر السقوط لأخرياك

سبحان من قسم الخطو

ظفلا ابتداك ولا انتهاك

وهكذا صب الشعراء القول على رأس الشيخ علي في غير هوادة وقد بات في حالة يرثي لها أخذ يتوارى خجلا من الناس ووقف قلمه وانعقد لسانه واضطرب أمره وحاول أن يستغل نفوذه لدى الحكومة لتغيير مجرى الحوادث فلم يفلح، فسكنت على مضض وأسلم نفسه للحزن وهو كظيم بينما كان خصومه يروحون ويجيئون وكلهم فرح مسرور بما وقع للشيخ من الإهانة والتحقير وفي هذه المقطوعات المتقدمة ترى الشعراء يزيدون من ألم الشيخ وحزنه ففيها تعزية عل ما أصابه من التفريق بينه وبين صفية التي ادعى أنه كفء لها حتى جاء حكم الشريعة فأثبت ضد ما أدعى؛ وفيها توبيخ وتعنيف، وفيها سخرية وتهكم، وفيها سرور وشماتة، وفيها تذكير بما فرط منه في حق المويلحي، وان الكف الذي هلل له وطرب قد دار عليه ووقع على قفاه في غلظة وخشونة.

ولما استأنف الشيخ على الحكم شرع خصومة ينعون عليه عدم خضوعه وإذعانه لحكم الشرع الشريف ويصورونه في صورة السادر في الضلال المتمادي في الباطل الذي يريد أن ينهك حرمة بيت الرسول غير مكتف مما فرط منه من الإثم. وفي ذلك يقول أحد

ص: 18

الشعراء

كيف التبجح يا ابن يسى

حكم الشريعة ليس ينسى

أتريد باستئنافه

تبنى له بالنقض ما

وتكون منغمساً بآ

ثام الهوى وتطيب نفسا

كذبت ظنونك ليس يح

صل ذا ولو باريت قسا

فالحكم في إحكامه

كالراسيات ثبتن أسا

لا يستخف به سوى

من في دجى الغفلات أمسى

فدع الأماني الباطلا

ت ينقضه معنى وحسا

فالشرع يأبى أن يرى

في عالم الإسلام رجسا

وهكذا تساقطت اللطمات على وجه الشيخ على كل يوم من خصومه. فبر عليها صبر الضعيف الذي لا حول له ولا قوة ولم يترك أعداؤه فرصة تمر دون أن يتخذوا منها وسيلة لتشديد الحملة على عدوهم اللدود، فما فكر في استئناف الحكم حتى وجد خمسون بابا يدخلون عليه منه فرموه بالعصيان لأحكام الشرع ومحاولة تحطيم الشريعة واتهموه بالكفر والمروق والخروج على الدين الحنيف. وكان هذا يحز في نفس الشيخ علي حزا عنيفا ويؤلمه ألما شديدا. وكيف لا يتألم ولا يتضجر وهؤلاء خصومه يتهمونه في دينه ويشنعون عليه في معتقده ويخاطبونه بولهم يا ابن يسى وبطرس وعبد النور؟ وها هي المحكمة الشرعية قد أبطلت نسبه الذي ادعاه لنفسه وحكمت بعدم كفاءته لمصاهرة السادات.

لقد عجز الشيخ علي عن إقناع الدفاع عن نفسه عجزا تاما ولم يستطع أحد من أصدقائه أن يرد عنه ذلك الهجوم العنيف الذي قام به خصومه ضده وبقى على تلك الحالة المؤلمة حتى أنقذه السلطان عبد الحميد فأنعم عليه في أول سبتمبر 1904 بنوطي الامتياز الذهبي والفضي وكانا من أرفع أنواط الدولة العليا وإلى هذا يشير حافظ بقوله:

وما للخليفة أسدى إليه

وساما يليق بصدر الأدب

وحينئذ استطاع صاحب المؤيد أن يفرج عن نفسه قليلا وأن ينهض واقفا أمام أعدائه. وتوالت عليه برقيات التهنئة من الكبراء والعظماء في القاهرة والأقاليم وأخذ ينشر هذه البرقيات لعله بذلك يخرس خصومه ويقطع ألسنتهم، وطفقت الوفود تحج إلى داره مهنئة

ص: 19

بهذا الأنعام السامي الذي يعرب عن رضاء أمير المؤمنين عن الشيخ علي. وفي ذلك يقول حافظ:

فما للتهاني غلي داره

تساقط كالمطر الصيب

وما للوفود على بابه

تزف البشائر في موكب

وحافظ هنا ساخط متبرم مما يرى. فبينما الناس يتهمون الشيخ عليا في أخلاقه ودينه إذا بهم يسرعون إلى داره لتهنئته بما ظفر به من الإنعام السامي. ثم يوجه حافظ الخطاب للمصريين فيقول:

فيا أمة ضاق وصفها

جنان المفوه والأخطب

تضيع الحقيقة ما بيننا

ويصلي البريء مع المذنب

والذي لا شك فيه أن حافظ لم يوفق هنا إلى محجة الصواب فالذين هنئوا الشيخ عليا غير الذين شنوا عليه هذا الهجوم العنيف، والذين أسرعوا إلى داره غير الذين أجروا أقلامهم طعنا فيه وتجريحا. ولكن حافظا وكان ساخطا ناقما تجاهل هذه الحقيقة، ووجه نقده المر إلى الأمة المصرية بأجمعها كأن المصرين في نظره اشتركوا كلهم بغير استثناف في الحملة على الشيخ علي أو كأنهم ذهبوا كلهم بغير استئناف إلى دار الشيخ لتهنئته!

وقد اتخذ أصدقاء الشيخ علي هذا الإنعام وسيلة لمدحه وتقريظه والتعريض بخصومه والتنديد بهم. فهذا شاعر يقول:

لا والذي أعلى ذراك

وأحاط بالحسنى حماك

وأجل قدرك في الأنا

م وحل عقدة من شناك

ان يبلغ الحساد ما من

أجله نصبوا الشراك

وتحفروا وتوثبوا

وتأبطوا شر العراك

واستنفدوا جعب السبا

ب وبالغوا في الانهماك

إن المدى مهما غلوا

أو أغرقوا في الاحتكاك

إن يلحقوا في سعيهم

إلا غبارا من مداك

وهكذا حاول صاحب المؤيد أن يعالج حالته النفسية السيئة وأن ينفض عن نفسه ما سقط عليه من غبار كثيف بسبب هذا الحادث المشئوم، حادث الزوجية، وأخذ نجمه يعلو ومكانته

ص: 20

تسمو عند الخديوي عباس حتى أسندت إليه في سنة 1912 مشيخة السجادة الوفائية.

محمد سيد كيلاني

ص: 21

‌أستاذ الدعاة وزعيم المصلحين

شيخ الإسلام ابن تيمية

للأستاذ عبد الجليل السيد حسن

. . . قدره في السماك عند قوم، وفي الحضيض عند آخرين. كثر محبوه ومبغضوه!. . . ففي كل صقع معجب به، وحانق عليه؛ وفي كل بلدة رافع له إلى رتبة الصحابة الأخيار، ونازل به إلى أحط دركات الكفار

رمي في قاع السجن عسى أن يرجع عن رأيه، فما خضع ولا هان؛ وأوذي أشد الأذى فما ازداد إلا استمساكا بدعوته؛ وحورب بكل القوى فما ارتد عن عقيدته - خاف الله حتى ما عاد يرهب أحدا؛ فما بالي بجبار. . . وإن كان جبار المغول؛ وما ريع بظالم. . . وإن خضبت يده بالدماء

بلغ في العلم الذرى، حتى سبق شيوخه. . . وهم شيوخ فقه الكتاب والسنة حتى ما عاد يرى إماما يقلده في فقههما؛ فوضع نفسه - بحق - موضع الأئمة الأربعة؛ فكان له مذهب أخذ به فيما بعد. صفى العقيدة والشريعة من كل دخيل، ورجع بها إلى صفائها الأول. . ونقائها الأوحد.

جاهد الجهادين - وأبلى خير بلاء - جهاد العلماء الذين علوا بقومهم؛ وجهاد الفرسان الذين احتربوا بين طعن القنا وخفق البنود. وحارب كأصغر جندي، وقاد أكبر القواد.

. . . هذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذه صورته؛ وصورة الناس إزاءه.

ولد - تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد ابن تيمية الحراني - يوم الاثنين 10 ربيع الأول عام 661 هجرية (22 يناير عام 1263 ميلادية) في حران قرب دمشق.

وما عتم أن هجر أهله حران إلى دمشق (وهو في السابعة من عمره، هربا من جور التتار؛ وكانوا آنئذ بالشام يغيرون على المسلمين).

وقد كان أبوه عالما حنبلي المذهب؛ فبدأ بتلقين ابنه - في دمشق - ع لوم الدين فاستشعر الصغير لذة العلم، فاختلف إلى مجالس العلماء - وكانت عامرة بروادها - في دمشق بلقف من أفواه ربابنتها؛ وتعدد شيوخه حتى أربوا على المائتين في علوم الدين العربية وعلم

ص: 22

الكلام.

وكان ابن تيمية عجيب الحفظ لا ينسى. . . وقد ذكروا الكثير من قوة حفظه، ومما روى في ذلك عنه وهو ما يزال بعد صبياً؛ أن شيخا من (حلب) علم به، فأراد أن يراه، وكتب له من متون الحديث أحد عشر متنا فلم يزد الصبي على أن نظر فيها مرة ثم اسمعه إياها. . . وقبل أن يبلغ العشرين كان قد نال حظا كبيرا من العلم، وذاعت شهرته حتى قيل أنه ناظر واستدل وهو دون البلوغ. . . وعد من أكابر العلماء في حياة شيوخه.

وليس من العجيب أن يكون الرجل كذلك؛ ولكن العجيب ألا يكون كذلك - فإن الوراثة أن كانت لا تصدق على كل العباقرة فهي هنا أصدق ما يكون، قرب عبقري أبواه عاديان ولكننا هنا أمام عبقري ينحدر من أصلاب عرفت بالعلم؛ وإن لم تعرف بالعبقرية فيه. فجده كان عالما معروفا، وقد ترجم له صاحب (فوات الوفيات)، وأبوه كان عالما كذلك. . . فنحن أمام إنسان خالط العلم دمه ونشأ يقرع سمعه أول ما يقرع. . نقاش في العلم والدين؛ ويرى أول ما يرى. . استمساكا بالدين وتمسكا به وقد قدر له أن يربى تربية فيها صلابة لا تضر، وأخذ في تنشأته في كل أطوار تربيته بآداب التصوف.

توفي والده وما يزال في سن الحادية والعشرين من عمره. فخلف والده وهو في إبان شبابه في تدريس الفقه الحنبلي؛ وفي كل يوم جمعة كان يفسر القرآن للناس من حفظه فينقضي مجلسه في شرح آية وتزيد!! بلا تحليل في لفظ أو جري وراء تأويل، وكان رجلنا واسع الاطلاع دائم القراءة، قل أن يدخل في علم ما - في باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء على حذاق أهل. وكان في التفسير إليه المنتهى، وفي الحديث لا يلحق، وفي الفقه لا نظير له، وفي الملل لا يدانى، وفي التاريخ عجب عجاب.

قال ابن دقيق العيد بعد اجتماعه به (كنت أظن أن الله تعالى ما بقي يخلق مثلك) - وكان حر التفكير، كثير الجدل والمناظرة في حدود الكتاب والسنة، وقد كان مناظرا لا يبارى حتى أنه كان يناظر صغيرا، فيفحم الكبار، وقد جرت عليه جريته في القول وصلابته في الحق وبالا كثيرا.

تنقلاته واضطهاده

في ربيع الأول سنة ثمانية وتسعين وستمائة ورد سؤال من (حماة) على الشيخ بدمشق

ص: 23

يسأل فيه عن صفات الله، فرد الشيخ بكتاب وكان هذا الكتاب بدء المحن التي سيلاقيها الشيخ. وكانت سائحة انتهزها الشائعون، فلغطوا بأن الشيخ يقول بالتجسيم، ورموه بالكفر، وحرفوا كلمة وحملوه ما لا يحتمل، وسعوا إلى القضاة والفقهاء يستحثونهم لدرء الشر المزعوم، وأغروا قاضي الحنفية جلال الدين الحنفي باستحضاره، فأبى الشيخ ورد عليه بأنه ولى الحكم بين الناس، لا لحكم في العقائد، فغضب القاضي، وأمر بالنداء على بطلان عقيدته، ولكن والي دمشق حينذاك، منع المنادي، وعقد مجلسا للشيخ بحضور الفقهاء والوالي، فنوقش في عقيدته وبين مراده، وانفض المجلس ولم ينكر عليه الحضور شيئا.

انقضت المحنة الأولى إذن بسلام. ولكن الشيخ بات ثقيل الوطأة على أصحاب البدع والمتصوفة القائلين بالاتحاد والحلول، وبالغ في الرد على فقراء الأحمدية والرفاعية، وفضح حيلهم وكشف عن خدعهم التي يدعونها خوارق، كالدخول في النار ومسك الحياة وغير ذلك

وقيل لشيخنا (إن الشيخ نصر المنجي، في مصر، اتحادي، فكتب إليه الشيخ ينكر عليه ذلك؛ وكان المنبجي ذا أنصار ومعجبين، يداخل الأمراء وأصحاب الرأي، فشنع عليه ودس له الدسائس، وخوف القضاة والمراء وأثمر سعيه. فقد ورد من القاهرة إلى دمشق مرسوم سلطاني يأمر بسؤال الشيخ عن عقيدته فعقد في الثامن من رجب سنة خمس وسبعمائة مجلسا حضره القضاة والفقهاء وأعيد المجلس في الثاني عشر من رجب وحضره المخالفون وتناظروا مع الشيخ، ونصر الله الشيخ على خصومه، ولكن خصومه شنعوا عليه بعد ذلك وآذوه في صحبه، وعزر القاضي من يلوذ بالشيخ، وكانت فتنة تداركها الوالي بحزمه، ولم يكتف خصومه بذلك بل راحوا يدسون عليه من كل طريق: يقنعون أرباب الدولة بأنه خطر على السلطة، ويثيرون عليه الفقهاء لأنه خطر على الدين! فاستدعي إلى القاهرة في 5 رمضان سنة 705 هـ.

وللشيخ في مصر أي شأن، وستثار الضجة حوله وستناله الأحداث بأيد غلاظ وسيحتويه السجن في القاهرة والإسكندرية.

غادر دمشق في الثاني عشر من رمضان، ودخل القاهرة في الثاني والعشرين منه، ثم انعقد المجلس في القلعة الحصينة وانتظم في سمطه من القضاة جمع، ومن الأكابر قوم، وجلهم

ص: 24

متنمر، للشيخ، إذا تكلم قوطع، وإذا باحث غولط، لم ينل حريته في القول. وكان (الشمس بن عدلان) أحد خصومه، كان دوره (تمثيل الاتهام) كدور النيابة الآن. وكان رئيس المجلس القاضي المالكي (ابن مخلوف). فقام ابن عدلان وقال:(إن الشيخ ابن تيمية يقول: أن الله فوق العرش حقيقة وان الله يتكلم بحرف وصوت، وأنه سبحانه يشار إليه بالإشارة الحسية؛ وإني أطلب عقوبته على ذلك.) ثم جلس. فتوجه القاضي ابن مخلوف إلى الشيخ ابن تيمية وقال: (ما تقول يا فقيه)؟ فنظر ابن تيمية إلى من في المجلس، ثم أخذ في حمد الله والثناء عليه، فقاطعه القاضي بقوله:(صه. . أجب عما قال الشيخ، ما جئنا بك هنا لتخطب، وأدرك ابن تيمية أن القاضي المالكي هو الحكم والخصم معا، فغضب الشيخ وانتفخت أوداجه وتهدج صوته وصاح فيهم: (كيف يحكم في وهو خصمي؟)

وانزعج القوم. . . فأقيم من ساعته وحبس في برج من أبراج القلعة ثم نقل إلى الجب وزج معه أخواه؛ وقد توسط الأمير سيف الدين سالار في إخراجه ولكن اشترط عليه شروط، منها الرجوع عن عقيدته فأبى. واستمر في سجنه حتى سنة سبع وسبعمائة حين أتى الأمير حسام الدين مهني بن عيسى ملك العرب إلى مصر وأخرجه. واعتذر له بعض الفقهاء، وأبرد إلى دمشق بخروجه، واستبقاء الأمير سيف الدين لينتفع الناس بعلمه وفرح قوم لخروجه وكمد آخرون.

مكث الشيخ يعلم الناس، ومكث أعداؤه يكيدون له، وخاصة الصوفية؛ وفي يوم فاض كلام الشيخ في الصوفية وقرص بكلامه الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، ونال في كلامه من ابن سبعين وابن العربي؛ فثارت ثائرة المتصوفة، وانضم إليهم أهل الخوانق والزوايا والربط وأقاموها ثورة على الشيخ؛ فذهبوا بجمعهم هذا إلى السلطان، ليشكوا إليه ابن تيمية، وتجمهروا حول القلعة، فقفز منهم على القلعة من قفز. . . وتسوروا أسوارها، ومكث تحتها من مكث

اضطرب السلطان؛ وعلم أنهم يريدون كف ابن تيمية عن شيوخهم، أن لم يكن يطلبون رأسه؛ وقد انضم إلى هؤلاء في الشكوى منه شيوخ الصوفية كابن عطاء الله السكندري المشهور - الذي كان عدواً للشيخ -. فعقد له مجلس وخير بين مغادرة القاهرة إلى الإسكندرية. أو السفر إلى دمشق بشروط، أو الحبس. فاختار الشيخ الحبس. . لكن قوما

ص: 25

أغروه بالسفر إلى دمشق، وبعد أن ركب خيل البريد أرسل خلفه رسول يعتقله، وينبئه بأن الدولة لا ترضى إلا بالحبس؛ وقد امتنع القضاة عن الحكم بحبسه؛ لأنه لم يفعل ما يقتضي ذلك، فذهب هو بنفسه قائلا:(أنا أذهب إلى الحبس تبعاً لما تقتضيه المصلحة). فأرسل إلى الحبس القضاة.

أخذ الشيخ يعلم (المحابيس)، ويفقههم حتى صلح أمرهم، وصاروا أحسن من كثير من أهل الزوايا والربط والخوانق - كما يقول صاحب الكواكب الدرية (ص 181).

وكان الشيخ يزار ويستفتى ويتردد عليه، فضاق من ذلك أعداؤه وسألوا نقله إلى الإسكندرية، فنقل. وحبس هناك.

وفي سنة تسع وسبعمائة دخل السلطان الناصر مصر بعد خروجه من الكرك وقدومه إلى دمشق، وتوجهه منها إلى مصر؛ فبادر الناصر بإخراج الشيخ وذهب به إلى القاهرة (وأصلح بينه وبين الفقهاء) وقد أكرمه الناصر وراعى مكانته وبجل علمه؛ وقد مكن الله للشيخ من أعدائه، ولكنه عفا عنهم ولما لم يكن كثير المداخلة والتردد للأمراء، ولم يكن من رجال الدول، ولا يتبع معهم تلك النواميس والرسوم، قل اجتماعه بالسلطان ثم انعدم.

سكن الشيخ القاهرة بالقرب من مشهد الحسين؛ وفرغ للعلم يجيب سائليه، ويفتي مستفتيه، ويعظ ويعلم ويدرس في مدرسة أسسها الناصر. . وقد وجد بعض أعدائه أنهم لن ينالوا بشكايته لدى السلطان شيئا؛ فتفردوا به. . وضربوه ضرباً موجعاً، وذاع النبأ، نبأ إهانته؛ فسعى إليه الكثير: يبغون له الانتقام، لكنه هدأهم ومنعهم من ذلك.

وفي سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، توجه الجيش المصري، يردي الغزاة فخرج معه الشيخ، ثم عرج على بيت المقدس ثم إلى دمشق فكان لمجيئه سرور عظيم.

ولم يذهب الحيف والاضطهاد عن الرجل في دمشق أيضا؛ ففي سنة 718 هـ أشير عليه بترك الإفتاء في مسالة الحلف بالطلاق، ومنعه السلطان من ذلك؛ ولكن الشيخ عاد فأفتى فعوقب ثم سجن بالقلعة سنة 720 هـ خمسة أشهر. . ثم أخرجه السلطان.

وفي سنة 726هـ استأنفت الأيام محاربتها إياه، وضربته ضربات أخرى هو ومن بقى من أصحابه: فقد سجن هو وصحبه؛ ثم أخلي سراحهم إلا تابعه ابن قيم الجوزية؛ وكان موقفاً جديداً من أثر المواقف وأشدها بلاء. امتحن فيها الشيخ فثبت، وتلك المحنة هي: أن سائلا

ص: 26

كان قد سأله عم حكم (شد الرحال. . .) فأجابه الشيخ برأيه (وسنعرض له بعد). فكانت الفتنة، وحرفت الفتوى، وطير العلماء أمر كفره ونبأ فسقه في الأقطار العربية كلها، فتردد صدى ذلك في العالم الإسلامي كله. . فاضطرب في بغداد، وضج في مصر، وغلى في الشام، وأفتى جماعة من علماء مصر بقتله، وحمل آخرون السلطان على فعله. ولكن السلطان رضى بسجنه، فأصدر إلى دمشق أمره بحبسه، فذهب الشيخ إلى القلعة راضيا غير ساخط هازئا غير ناقم.

ثار علماء بغداد وأرسلوا الرسائل إلى الأقطار يوافقون الشيخ في رأيه، ويستنكرون فعل السلطان الناصر، ولكن لم تؤت هذه الرسائل ثمراً لأنها منعت عن السلطان. فمكث الشيخ في سجنه سنتين وثلاثة أشهر يعبد الله ويصنف التصانيف ويوفي المسائل التي حبس بسببها بحثا حتى أربى كتب فيها على المجلدات ولكن لم تترك للشيخ هذه اللذة، لذة العبادة والتأليف فقد ضاق أعداؤه بما يؤلف، وجروا هنا وهناك. . ساعين راشين، فورد مرسوم قبل وفاته بشهر بتجريده من كتبه وورقه.

. . . حرم الشيخ إذن لذته الكبرى فلم يحتمل ذلك، ومرض وفاضت روحه الطاهرة يوم الاثنين لعشرين من ذي القعدة سنة 728 هـ. وقد كان لموته حزن عميق وحضر جنازته نحو خمسمائة ألف رجل ومن النساء خمسة عشر ألفا وقد قيل في جنازته الشيء الكثير.

وقد رثي الشيخ ابن تيمية بشعر كثير. . لو يسر الله له أديبا مخلصا وجمعه في ديوان لكان ذلك عملا فريدا في بابه. ومن حق ابن تيمية على الأزهر - أن أراد خيراً - أن ينشئ لجنة لأحياء آثار ابن تيمية على نسق لجنة إحياء آثار أبي العلاء. أراد الله له وللإسلام الخير وجعله عند حسن ظننا.

للكلام بقية

عبد الجليل السيد حسن

ص: 27

‌صفحة من تاريخ الأزهر العلمي

الدراسات العليا في الأزهر الجامعي

للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي

كان محمد عبده رحمه الله أبرز قائد لحركة البحث والإصلاح الديني في مصر والشرق الإسلامي بعد أستاذه جمال الدين الأفغاني. وكان من البدهي أن يتجه هذا المصلح الديني الخالد الذكر إلى إصلاح الأزهر نفسه لأنه نواة الفكرة الإسلامية، ومغذي الروح الديني. ولم تظهر آثار جهاد الشيخ محمد عبده وجهوده في إصلاح الأزهر إلا بعد وفاته، وعلى أيدي تلاميذه الذين تحمسوا لآراء أستاذهم في الإصلاح، وتعهدوا بالعناية والتنفيذ.

كانت الدراسة في الأزهر في عهد محمد عبده تسير على النظام القديم البدائي: حلقات للتعليم، وطلبة يختارون أستاذهم الذي يتتلمذون عليه ويناقشونه في ما صعب من مشكلات العلم والثقافة، وكتب ألفت في العصور الوسطى وغلبت عليها آثار الثقافة العقلية التي كانت سائدة في هذه العصور.

وفي 1872م وضع قانون لإصلاح الأزهر، نظم طريق نيل العالمية، وحدود مواد الامتحان فيها. بتعضيد الشيخ محمد عبده وعلى يد صديقه المرحوم الشيخ حسونه النواوي شيخ الأزهر حينذاك صدر قانون عام 1896، الذي نظم الدراسة في الأزهر، وأدخل العلوم الحديثة في مناهجه.

أما النظام الإداري للأزهر ومعاهده فقد صدر به قانون عام 1911، بعد وفاة الإمام محمد عبده بسنوات.

وأخذ الأزهر يسير على هذا النمط من الدراسة، دون أن يوجد فيه أثر للدراسات العليا، حتى صدر قانون 1923، الذي أوجد نوعا من هذه الدراسات قامت على أسسه أقسام التخصص القديم، التي كانت تمنح درجات علمية تعادل درجة الماجستير في جامعتي فؤاد وفاروق.

ثم أخذ الأزهر يعمل على مسايرة النظم الجامعية التي تسير عليها شتى الجامعات في الشرق والغرب، ففكر المراغي في عهد مشيخته الأولى في إنشاء أقسام للدراسات العليا في الأزهر، والمراغي أنبه تلاميذ محمد عبده؛ وأكثرهم دعابة لآراء أستاذه، وتحقيقا للكثير

ص: 28

منها وقد ظهرت آثار هذا الاتجاه في قانون إصلاح الأزهر الذي صدر عام 1930 في عهد المرحوم الشيخ الأحمدي الظواهري؛ وقد نظم هذا القانون الأزهر الجامعي، فقسمه إلى كليات ومعاهد، وأنشأ أقسام الدراسات العليا بشتى فروعها وعدل عام 1936 وما والاه تعديلات لأملته الضرورة والتجربة والرغبة في خلق الروح في الأزهر.

سمى هذا القانون أقسام الدراسات العليا؛ أقسام تخصص المادة، ومنها ينال المتخرج شهادة العالمية من درجة أستاذ، وهي أرفع شهادات الأزهر العلمية، وتعادل الدكتوراه الممتازة، وتدرس بها علوم الشريعة وأصول الدين والقرآن والحديث والبلاغة والأدب واللغة والفلسفة والتاريخ، ومدة الدراسة بها لا تقل عن ست سنوات بعد انتهاء دراسة الكلية، وكان طلبتها يختارون من بين أوائل المتخرجين.

واختير للتدريس بهذه الأقسام أئمة العلماء والمفكرين في الأزهر ومصر، وقد حققوا نهضة فكرية وعلمية جديرة بالإشارة في تاريخ الأزهر الحديث. كما كانت امتحانات أقسام هذه الدراسات، ومناقشات رسائل الخريجين مواسم خالدة للعلم والأدب في الأزهر؛ وكان يشرف عليها أفذاذ العلماء والأدباء والمفكرين، ومن بينهم المراغي ولطفي السيد ومأمون الشناوي واللبان وحمروش وعبد المجيد سليم وعرفة وشلتوت والجارم وسواهم. ورسائل الخريجين من أقسام العالمية درجة أستاذ فيها جهد كبير وألوان جديدة من البحث والتحليل، وهي أوضح اثر لنهضة الأزهر العلمية الحديثة وقد طبع بعض قليل منها. كما حمل خريجوه بجدارة مناصب التدريس في كلياته ومعاهده؛ ولكثير منهم نشاط علمي خصب، وإنتاج حافل في الأدب والشريعة والفلسفة والتاريخ والعقائد.

ومن سوء الحظ ألا يهضم الأزهر الجامعي نظام الدراسات العليا، وأن يحاربها من وراء أستار وأن يعطل الدراسة بأقسامها من عام 1941 حتى الآن

وكان اعتزاز الأزهر بهذه الدراسات ضئيلا محدودا، تجلى في طبع رسالتين أو ثلاث من رسائل خريجيها، وفي عرض بعضها في المعرض الزراعي الأخير ولا يزال جل هذه الرسائل مخلوطا في مكتبات الكليات الأزهرية، وعددها يقارب المائتين. فمن مبلغ الأزهر بأن نظامه الجامعي وازدهاره العلمي أن يكون لهما كيان إلا إذا عادت من جديد هذه الدراسات العليا فيه، تؤدى رسالتها العظيمة في خدمة الدين والثقافة، وتجديد مناهج البحث

ص: 29

العلمي الحر، والكشف عن آثار التراث الإسلامي المجيد، والنهضة بالثقافة الأزهرية، حتى تبلغ المنزلة الرفيعة، التي بلغتها الثقافات الحديثة، في جامعات الشرق والغرب.

أيقظوا الأزهر من هذا الرقود؛ وادفعوه لأداء رسالته العظيمة في خدمة الدين والحياة

محمد عبد المنعم خفاجي

أستاذ بكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف

ص: 30

‌رسالة الفن

المسرح المصري كما نريده

للأستاذ أنور فتح الله

المسرح المصري الآن في مفترق الطرق. . فاليوم تبدأ صفحة جديدة في تاريخ المسرح المصري. . فقد تقرر أخيراً إنشاء الفرقة النموذجية من خريجي المعهد العالي لفن التمثيل. لتقديم مسرحيات من الفن الرفيع. . وتقرر أيضاً الإبقاء على الفرقة المصرية، لتستمر في أداء رسالتها الفنية.

ونحن ولا شك، نرحب بطلائع المسرح الجديد من شباب المعهد الذين جمعوا بين الموهبة والثقافة المسرحية. . ونرحب أيضاً بقدامى الممثلين الذين كانوا أول من حمل المشاعل، وشق الحجب عن هذا الفن الوليد.

. . وليس من شك في أن وجود هاتين الفرقتين، سيبعث النشاط في الحقل المسرحي، في جو من التنافس البريء الذي نرجو أن يستهدف صالح الفن وحده.

ولعله من الخير، والمسرح الآن على أبواب عهد جديد، أن نحاول أن نبرز نواحي النقص في الماضي، لنتحاشاها في المستقبل المرتقب.

فالثابت من تجاربنا المسرحية السابقة أن المسرح المصري لا يفتقر إلى الممثل، ولا إلى المخرج، فقد أدى كل منهما رسالته، وقام بدوره خير قيام. ولم يبق سوى المسرحية، وما من شك في أنها الأساس الأول الذي يقوم عليه المسرح ذلك لأن الممثل، مهما أوتي من قدرة وموهبة، لن يستطيع أن يجتذب المشاهد إليه، ويشركه معه في الأحداث، ويؤثر فيه، إذا لم يكن دوره يصور بصدق الكائن البشري الذي يمثل الإنسان في الحياة.

والمخرج لن يستطيع القيام بدوره، إذا لم ترسم له المسرحية الخطوط الرئيسية التي تصور جو الحياة الحقيقي الذي تجرى فيه الأحداث.

فعلى المسرحية إذن، يتوقف نجاح الممثل والمخرج، بل يتوقف نجاح فن المسرح فإذا أردنا أن ننهض بالمسرح المصري وجب علينا، وقد توفر لدينا المخرج والممثل، أن نعمل على خلق المسرحية بالنسبة للمسرح. علينا أن نرجع إلى اليوم الذي بدأت فيه في الظهور، فقد نشأت المسرحية عند اليونان في وقت كان الدين فيه مسيطراً على العقل اليوناني، وقد

ص: 31

سخرت الفنون في عبادة الآلهة وتمجيدها، فظهرت المسرحية اليونانية وغرضها الأول تصوير حياة الآلهة، وما قاسوه من آلام. وكانت المسرحية تستمد مادتها من الأساطير التي تقص سير هذه الآلهة، وكان اليونانيون يحفظونها لأنها كانت تمثل كتابهم المقدس. وكان المسرح يعد هيكلا يقصد إليه الشعب لا لمشاهدة التمثيل فحسب بل لعبادة الآلهة وذلك بمشاركتهم وجدانياً فيما يقاسون من عذاب وألم.

فالمسرحية إذن، لم تخلق إلا لتشارك الشعب اليوناني في آلامه وأحزانه، وهي بهذه المشاركة، قد حققت للمسرح وجوده واجتذبت الشعب إليه، ودفعت الدولة إلى الاهتمام بالتمثيل، وتنظيم حفلاته.

وإذا استعرضنا المسرحية في كل العصور، وجدناها متصلة دائماً بالحياة، تصاحب الإنسان في تطوره وتقدمه، وتصور آلامه وآماله، وتشترك معه في معالجة مشاكله، وهي في كل هذا تعكس صورة صادقة للحياة، متأثرة بها أو مؤثرة فيها.

وإذا استعرضنا المسرحيات الخالدة في كل عصر، رأينا أن السبب في خلودها هو صدقها في تصوير واقع ذلك العصر، وتناولها المشاكل الإنسانية العامة، وعمقها في تصوير الغرائز والعواطف البشرية.

ومن هذا يتضح أن نجاح المسرحية، مرتبط بمدى انشغال العقل البشري بموضوعها، ومدى اشتراك البشر في الآلام التي تصورها، والآمال التي تنشدها، فإذا اتسع نطاقها متجاوز حدود المجتمع والعصر الذي ظهرت فيه، فهي تصبح إنسانية خالدة.

ولما كانت المسرحية وصورة مصغرة للحياة والإنسان هو الكائن الذي يمثل الحياة فيها، وجب أن تمنى المسرحية بتصوير الصراع الذي يدور في نفسه بين رغبته وقدرته، وبينه وبين مجتمعه الصغير وهو الأسرة، ثم بينه وبين المجتمع الكبير وهو الوطن، وبتصوير هذا الصراع الذي يدور في كل نفس بشرية عندما تحتك بالحياة، تصبح القضية التي تعالجها المسرحية إنسانية تهم كل إنسان، ويجب أن يراعى في اختيار النموذج البشري الذي يمثل الإنسان في الحياة، أن يكون إنساناً عاما يمثل جيله أصدق تمثيل، على أن يجمع الخصائص المميزة لهذا الجيل على اختلاف طبقاته، وبهذا تستطيع المسرحية أن تبرز الشخصية المصرية العامة، التي تمتاز بطابعها القوي، القريبة من قلب كل مصري. هذه

ص: 32

الشخصية إذا ظهرت في المسرحية المصرية، وسيكون لها التأثير الأول في اجتذاب الشعب، لأنها ستحدثه بلغته، وتشاركه في حزنه، وتدفعه إلى اقتحام الحياة، والتغلب على ما فيها من مصاعب.

والمشكلة التي تعالجها المسرحية، يجب أن تمثل أزمة عامة من الأزمات التي تصادف الإنسان في الحياة، وتشغل أكبر مجموعة من الناس، وتمس حياتهم. وبهذا يرى المشاهد نفسه على المسرح، وهو يصارع الحياة، ويرى طريق النجاة من هذه الأزمة مرسوما أمامه، رسمها له عقل مفكر خبير بالحياة، فإذا خرج إلى الحياة، استطاع أن يسلك هذا السبيل.

والدقة والصدق في تصوير هذه المشكلة يعينان على تجسيمها حية أمام نظر المشاهد، فلا يشعر بفارق بين ما يجري في الحياة وما يجري على خشبة المسرح.

أما غرض المشكلة وعلاجها، فيتصلان بحساسية المؤلف وقدرته على الملاحظة، وذلك لأن المسرحية أن هي إلا صورة من صور الحياة التقطها المؤلف، وامتزجت بروحه، وخرجت منها حاملة الأثر الذي أحدثته هذه الصورة في نفسه.

والجو العام إما أن يكون باسماً أو قائماً، وفي الأولى لا يخلو الابتسام من الألم البشري، ذلك لأن حياة الإنسان موجات من الألم والفرح، وقد يقيم الإنسان أفرحه على آلام الغير، أو يقيم أحزانه على أفراح الغير، ولكن الألم خفيف في الكوميديا، والمرح غالب، وهو عنيف في الدراما والمرح خفيف. والمقياس هنا هو درجة خطورة المشكلة التي تعالجها المسرحية فإن كانت بسيطة وجب أن تأخذ المسرحية مظهراً باسماً، وإن كانت خطيرة وجب أن تأخذ المسرحية مظهراً عابساً. وبين هذين الطرفين يتدرج المظهر بين الإشراق والعبوس. فالضحك إذن ليس غرض المسرح، والبكاء ليس غايته، وإنما يهدف المسرح إلى نقل تجارب الحياة إلى المشاهد، وبزيادة محصول الإنسان من هذه التجارب، يزداد خبرة بالحياة، وقدرة على حل مشاكلها. هذه هي الخطوط الواجب توفرها في موضوع المسرحية التي تنشدها لتمثل الواقع الذي نعيش فيه، وتساهم في نقد حياتنا والعمل على إصلاحها، ورسم الطريق إلى حياة مثالية تستهدف الحق والخير والجمال.

هذا، وإذا استعرضنا إنتاج المؤلفين المصريين في الأعوام الماضية فإننا نلاحظ أن غلبهم

ص: 33

يقصر نشاطه على المسرحية التاريخية. والعيب العام في هذه المسرحيات هو عدم تناولها مشاكل شبيهة بمشاكل الحاضر، وميل بعضها إلى تصوير الشخصيات الغربية، والنزعات الشاذة، والبعض الآخر طغى عليه جانب العرض التاريخي ومن حيث تصوير الأشخاص وتحليل طباعهم، فإنها لم تعن بتصوير الجوانب الإنسانية في حياة الشخصيات التاريخية. . . وفي رأيي، أن، المسرحية التاريخية يحب ألا يطغى عليها جانب العرض التاريخي حتى لا تصاب بجمود التاريخ. وأن تتناول مشكلة شبيهة بمشاكل الحاضر الذي نعيش فيه، ليستجيب لها النظار. وما من شك في أن التصوير الطبيعي الصادق للإنسان في مواقف الحياة المختلفة لا يتغير بتغير الزمان أو المكان. فإذا روعي هذا في المسرحية التاريخية فإنها تصبح كالمرآة يرى فيها النظار أنفسهم ومشاكلهم من خلال الإطار التاريخي. ولعل هذا هو السبب في خلود مسرحيات شكسبير التاريخية كهملت وعطيل وغيرهما.

وقد يستخدم المؤلف الإطار التاريخي لينقد المجتمع في عصره ويخاطب الشعب عن طريق التورية. كما فعل بومارشيه قبيل الثورة الفرنسية حين كتب مسرحياته (حلاق أشبيلية) و (زواج فيجارو) و (الأم الآثمة) فقد صور من خلال الثوب التاريخي، الصراع بين السلطة الطاغية، والشعب الذي يطالب بحقه في الحياة.

إلى جانب عنايتنا بخلق المسرحية المصرية، يجب أن نعنى أيضاً بترجمة المسرحية الأجنبية التي تعنى بمشاكل الأسرة والمجتمع وكذلك المسرحيات التي تساير الاتجاهات المسرحية الحديثة، ليطلع الجيل الجديد على أحدث تطورات المسرح ليقتبس منها ما يعيننا على أحدث تطورات المسرح ليقتبس منها ما يعيننا على اللحاق بالأمم المتقدمة علينا في هذا الفن.

وبعد فإن رسالة المسرح لا تقف عند حد إنشاء فرقتين مسرحيتين. بل يجب أن يعمل من بيدهم الأمر على خلق المسرحية المصرية أولاً، وبث الوعي المسرحي بين طلبة المدارس والجامعات وأفراد الشعب.

يجب أن تكون هيئة من المتخصصين في فنون المسرح والنقد وعلماء التربية والاجتماع يكون من صميم اختصاصها التوجيه الفني وتنشيط حركة التأليف والترجمة، وتشجيع المؤلفين؛ ونشر المؤلفات والمترجمات المسرحية. على أن تخص هذه الهيئة باختيار

ص: 34

المسرحيات لهاتين الفرقتين، وذلك حتى لا يتحكم المزاج الفردي في هذا الفن كما حدث بالأمر.

وإلى جانب هذا يجب أن تعنى وزارة المعارف بالفن المسرحي وذلك بأن تدرس آداب المسرح بالمدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد العالية؛ وذلك حتى يتسنى بث الوعي بهذا الفن الإنساني الذي يرمي إلى إصلاح البشر، وخلق الإنسان الخير، الذي تغلب على الشر الكامن في نفسه، وارتفع إلى مستوى مثالي، ليعمل على خير المجتمع الإنساني.

أنور فتح الله

ناقد مسرحي

ص: 35

‌رسالة الشعر

من باريس

(مهداه إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب)

لصاحب السعادة عزيز أباظه باشا

يا جارةَ النيل في أعطافِ أيكته

أغفتْ مملئة بالنوم عيناك

في جانبِ السينِ ذو سهدٍ إذا جمحَتْ

به الشجون تصلاها وناداكِ

ناداكِ أَسوانَ عينُ الليلِ ما وقعت

منهُ - وإنْ رادفتْ - إلا على باكِ

باكِ تَسرَّبُ في منهلَّ ادمعه

نفسي تبثك بجواها وتهواكِ

يا رشفةَ الرياح يُسقاها على ظمأ

صديانُ والقيظُ مشبوبُ اللظى ذاكِ

يا نشوةَ الروحِ تسري في شفائِها

كالبرءِ يمسحَ الموجعِ الشاكي

يا نورَ عيني وما عيني بناظرةٍ

ولا محققةٍ في الناس إلاك

هل من سبيلٍ إلى رطبٍ أراحَ بهِ

حانيِ الخمائل من أفياء مغناكِ

نعمتُ فيه بما في الخلدِ من مَتعٍ

والخلدُ محلاةٌ في لألاءِ محلاكِ

إِني لأهفُو إليه والنوَى قذف

يا رب بعدٍ ترامَي بِي فأدناكِ

عندي وساوسُ عتبٍ لن أبوحَ بها

إلا بدامعِ همسٍ حينَ ألقاكِ

(باريس)

عزيز أباظة

ص: 36

‌مثال وتمثال

للأستاذ حسن كامل الصيرفي

أطيليَ التأمُّلَ يا فاتنهْ

إلى هذه الدُّمْيَةِ الساكنهْ

لعلَّ بريق العيون العمي

قِ ينبِّه فيها القُوَى الكامنهْ

ويكشفُ فيها لعشَّاقها

غوامضَ أسرارها الباطنةْ

لقد دفنَ السرَّ فيها الذي

جلاها، وغالَ الردى دافِنَهْ

كانت على الدهر أُسطورةً

تحيُّر أفهامَنا الواهنهْ. .

أَنيريِ بهذا البريق العجي

ب جوانبَ آفاقنا الداكنهْ

ففي معبد الفنِّ بات الضلا

لُ يَغُرُّ بأوهامه سادِنَهْ

وأطلق في جَوِّه القُدُسِيِّ

بخورَ مجامرِهِ العاطنه

وعَرْبَدَ في نفسه طائرٌ

جناحاه قَصَّتْهما ماجنهْ

فرُدِّي إليه هدى نفسهُ

لِيَعْصِمَهُ فتنةُ شائنةْ

ورُدِّي مصابيحَهُ الذاويا

ت إلى شُعلة الأمل الفاتنهْ

فقد ييطقىُّ النورَ بَرْدَ الجمو

دِ، ويخمدُ أنفاسَهُ الساخنه!

دعي الحبَّ يملأُ سكونَ الحيا

ةِ بأنغامه العذبة الآمنهْ

ويُضْفيِ على حيرة الحائري

ن أشعَّتَهُ للهوى صائنهْ

إذا الأنفُسُ إفتَقَدَتْ هَديَها

مَشَتْ في طريق الهوي ضاغِنَهْ!

ضَعي يَدكِ الغضَّةَ الفاتنةْ

على هذه الدُّمْيَةِ الساكِنهْ

فأنتِ لها صورةٌ حيَّةٌ

تلمَّسْتُها ها هُنا كائنهْ

رَسَمْتُكِ قبل اللقاء الجميلِ

خيالاً تَجَسَّمَ في آوِنَهْ. . .!

حسن كامل الصيرفي

ص: 37

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

مشكلة الفن والقيود

قلنا ونحن نتحدث عن مشكلة القيود في الفن أن هناك قيوداً مرفوضة وقيودا مفروضة. . أما المرفوضة فقد تعرضنا لها بالبحث والمناقشة في العدد (885) من الرسالة ونحب أن يرجع إليها القراء. وبقيت القيود المفروضة التي نعود إليها مرة أخرى لأنها محل خلاف بيننا وبين الأستاذ الفاضل علي محمد سرطاوي. وهذا هو بعض ما قلناه:

(في القصيدة الشعرية، وفي اللوحة التصويرية، وفي القطعة الموسيقية، وفي كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب، يحسن بالفنان، بل يجب عليه، أن يكون له هدف. هذا الهدف لا بد له من تصميم، ولا بد له من خط سير، ولا بد له من خطوات تتبع خط السير وتعمل في حدود التصميم. ذلك لأن الفن في كل صورة من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسميها (ملكة التنظيم) وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فنا، بل هو فوضى فكرية أساسها وجدان مضطرب، وذهن مشوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. وأبلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلما إلى الفن، هو تلك الحركة السريالية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى ميدان النحت والتصوير والقصة، فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع الفن بطابع التسلسل والدقة والوحدة والنظام. مثل هذه الحركة في الفن ليس لها هدف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأحاسيس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود. وشبيه بتلك الحركة في جنايتها على معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضي بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تفتقر بعض الأذهان إلى تلك (الملكة التنظيمية) التي تلائم بين الجزئيات وتوائم بين الكليات، وتفصل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد. .

نريد من الفنان سواء أكان شاعراً أم مصوراً أم موسيقياً أم كاتب قصة ومسرحية أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم يرسم أصوله وقواعده، قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضي فيه وقبل أن ينتهي منه. . نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم الفني الذي يأمره بالوقوف

ص: 38

عند هذا المشهد، وبالتقاط الصورة من هذه الزاوية، وبتركيز الانفعال في هذا الموطن من مواطن الإثارة. عندئذ نوجد نظاما، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد أقمنا بناء الفن. هذا التصميم الذي ندعو إليه تنظم هيكله أصول (الأداء النفسي) في الشعر والتصوير والموسيقى هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزيع الظلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجيه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. . ولا بد للأداء النفسي في الشعر وسائر الفنون من هذا (التصميم الداخلي) - وهو تصميم معنوي لا مادي -، لا بد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق، مستودع المنفس، قبل أن ندفع بها إلى حيز الوجود كائناً حياً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء. . إننا ننكر ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تنطمس فيه معالم الطرق وتنمحي الجهات، أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات) أهـ.

قلنا هذا وكنا حريصين كل الحرص على تسليط شتى الأضواء الكاشفة على كل زاوية مظلمة، في سبيل الدقة اللفظية والتركيز المعنوي حتى تتضح المشكلة للقارئ كل الوضوح. ونعتقد بعد هذا الشرح والتحليل أن مشكلة القيود المفروضة في الفن كما عرضنا لها من وجهة نظرنا الذاتية، لم يبق منها جانب من الجوانب يحتاج معه القارئ إلى أن يسأل عما وراء الألفاظ من معان أو عما يعقب وراء اللمحات من غايات. ولكن صديقنا الأستاذ سرطاوي يعقب على هذه الوجهة من وجهات النظر فيقول: (والذي ينعم النظر فيما اقتبسناه من رأى الأستاذ المعداوي يخيل إليه أن عمل الفنان لا يفترق عن عمل المهندس، ذلك أن المهندس يجلس إلى منضدته وأدواته الهندسية في زحمة الأرقام والأبعاد والحجوم، وتحت سيطرة العقل الواعي وحدة الذهن، وهدوء الطبع، يرسم على أوراقه التصاميم التي يطلب منه عملها من عمارات، وجسور، وطرق، وأنفاق، إلى آخر ما هنالك من أعمال هندسية، حتى إذا ما فرغ من عمله المعقد الدقيق، وحساباته التي تحطم الرأس، نقل ما على الأوراق من أشكال إلى مسرح العمل، وراحت تلك التصاميم تأخذ طريقها إلى الوجود. .

الواقع أن الفنان، من شاعر ومصور وموسيقي، لا علاقة له بكل ما ذكرناه. إنه يعمل في الجو الذي يندمج فيه الفنان بروحه مع السر الغامض في الطبيعة حيث يسقط العقل الواعي

ص: 39

صريعا تحت ضربات النفس الإنسانية، إنه يعمل في منطقة التخدر الحسي، تلك المنطقة التي لا يسيطر عليها غير العواطف) أهـ.

إلى هنا ونقف قليلا مع الأستاذ سرطاوي. . . نقف قليلا لنقول له: ما أكثر وجوه الشبه بين عمل المهندس وعمل الشاعر والمصور وكاتب القصة والموسيقار؛ كل واحد من هؤلاء فنان. . ومبلغ الصدق في نسبتهم إلى الفن أنهم جميعاً ينشدون النظام والجمال فيما يعملون. هذا المهندس الذي يضع تصميم بيت جميل يراعي النسب والأبعاد ليخلق هندسة معمارية فنية، وهذا الشاعر الذي يضع تصميم قصيدة محلقة يراعي النسب والأبعاد ليوجد هندسة شعرية فنية، وقل مثل ذلك عن بقية الفنون عند سائر الفنانين. . ما هي تلك النسب والأبعاد؟ هي مراعاة التوافق والانسجام بين خط وزاوية في عمل المهندس، وبين لفظ ومعنى في عمل الشاعر، وبين ضوء وظل في عمل الرسام، وبين مشهد وحياة في عمل القصاص، وبين نغمة وشعور في عمل الموسيقار. . و (ملكة التنظيم) وحدها هي التي تشرف على هذه (الهندسة الفنية) سواء أكانت معمارية أم شعرية أم تصويرية أم قصصية أم موسيقية. . ولا فرق أبداً بين (خريطة) المهندس و (نوتة) الموسيقار، لأن كليهما يا صديقي تمثل هذا (التصميم الفني) الذي رسم كلاهما أصوله وقواعده! وإذا كان المهندس يجلس إلى منضدته وأدواته بين يديه، فإن كلا من الشاعر والقصاص وكاتب المسرحية يجلس إلى نفسه وأدواته في ذلك المستودع العميق الذي أشرنا إليه. . نريد أن نقول أن التصميم الفني هنا معنوي هنا ومادي هناك.

وما دام الأستاذ سرطاوي قد دفع بنا إلى أفق المقارنة بين عمل المهندس وعمل الفنان، فإننا نود أن يرجع إلى العدد الصادر من مجلة (العالم العربي) فبراير سنة 1948، لو رجع الأستاذ الفاضل إلى هذا العدد لوجد في صفحة النقد الأدبي مقالاً وضعنا فيه تحت المجهر كتابا من كتب المهجر، هو (حفنة ريح) للكاتب اللبناني سعيد تقي الدين. . حيث وردت هذه الفقرة في ثنايا المقال: (وتعال نستمع مرة أخرى، إنه يتحدث عن تصميم القصة فيقول: ضع لقصتك تصميما كما يفعل المهندس بخريطة البناية قبل أن يباشر البناء، بالطبع حين تجلس لتكتب، سترشد عن الخريطة قليلا ولكن التصميم ضروري. . أن سعيد تقي الدين يذكرنا بقول مارك سوان: يجب أن يكون للقصة تصميم فني كذلك الذي يضعه

ص: 40

المهندس المعماري للبناء، أو كتلك المذكرات التي يعدها المحامي قبل مباشرة إحدى قضاياه).

هذا هو ما عقبنا به على إحدى اللفتات المشرقة للكاتب اللبناني، حيث أشرنا إلى مدى التشابه بين رأيه ورأي (مارك سوان)، وهو تشابه يعبر عن النقاء نظرتين في طريق من هذه الطرق التي تتوارد فيها الخواطر تبعا لوحدة الفهم العامة لمشكلة من مشاكل الفنون.

وإذا كان الأستاذ سرطاوي يركز مظاهر الاختلاف بين عمل المهندس وعمل الفنان في أن الأول يضع تصميمه الفني وهو تحت سيطرة (العقل الواعي وحدة الذهن وهدوء الطبع)، وأن الثاني يعمل في جو آخر (يندمج فيه بروحه مع السر الغامض في الطبيعة حيث يسقط العقل الواعي صريعاً تحت ضربات النفس الإنسانية). . إذا كان الأستاذ يركز مظاهر الاختلاف في هذه النقطة فإننا نقف معه مرة أخرى: ترى هل يريد أن يجرد الشاعر والقصاص والمصور والموسيقار من سيطرة (الوعي) في مرحلة الإبداع الفني، لأن كلا منهم لا يعمل إلا في منطقة التخدر الحسي، تلك المنطقة التي لا تسيطر عليها غير العواطف كما يقول؟ لا يا سيدي! ونقولها لك لملء الفم وبكل ومضة من ومضات الإيمان. . أن مرحلة التخدر الحسي والوعي المسلوب لا تتمثل إلا في حالة واحدة، وهي حالة التلقية الأولى، والإلهام الوليد، فالفنان قد يتلقى الفكرة أول ما يتلقاها عن طريق الإلهام العابر في لحظة من لحظات الذهول، يتلقاها جنينا غير منظم الخلقة ولا منسق التكوين، جنينا تدب فيه الحياة بقدر من النبض والخفوق يتناسب وهيكله الناقص وكيانه الهزيل، إنها الحياة وليست كل الحياة. . أما بعد هذا فليس للعقل الذاهل مجال!

ترى هل يتابعنا الأستاذ سرطاوي ونحن معه خطوة بعد خطوة ونمهد للنتائج في ضوء المقدمات؟ نريد أن تقول له أن المرحلة الأولى من مراحل الإبداع الفني هي مرحلة الوعي الذاهل أن صح التعبير، أما بقية المراحل الأخرى فهي ميدان العمل الحقيقي للوعي العاقل على أصح تقدير. . هذه الفكرة الضئيلة التي يوحي بها إلى الفنان على غير ترقب وانتظار، تسلمها الإلهام العابر إلى العقل جنينا ليكفله بعد ذلك ويرعاه. فالإلهام العابر هنا في لحظة التخدر الحسي هو (المؤلف) الأول لهذه الفكرة الوليدة، أما العقل فهو (المخرج) الفنان الذي يتولى إخراجها على مسرح الفكر بكل ما في الإخراج الفني من قواعد

ص: 41

وأصول. . خذ مثلا فكرة القصيدة أو اللوحة أو المسرحية أو السمفونية عندما تنبت في رأس الفنان، إنها في تكوينها الأول لا تفترق في شيء عن تكوين الجنين عندما يكون مضغة لا سمات فيها ولا قسمات، ولكن من يشرف على هذا الجنين يتم له النضج ويكتمل له التكوين وتبعث فيه الحياة؟ إنه العقل الواعي بلا جدال. . العقل الواعي الذي يقول للشاعر: أن (الجو الشعري) لهذه القصيدة يصلح له هذا الوزن دون ذاك، وتتلاءم معه (هذه الموسيقى الداخلية) دون تلك، وإن البناء الفني ينبغي أن يخضع للوحدة الموضوعية على هدى (العلاقة النفسية) بين الفظ والإيقاع. . العقل الواعي الذي يقول للرسام: أحرص على أن تكون النسب الفنية بين الزوايا متعادلة، ضع هذا اللون المناسب لحقيقة المشهد كما رأيته في لوحة الطبيعة، ألق هذا الضوء الباهر من هذا الجانب ركز هذا الظل القائم ليزيد من قوة الإيحاء. . العقل الواعي الذي يقول لكاتب المسرحية: ضع نفسك موضع الشخصية التي تخيرتها لتلغدورها على المسرح، ثم أنطقها بما يمكن أن تنطلق أنت به قبل أن تسجل الحوار، ثم نتبع سير الحوادث كما تتبعه في واقع الحياة، ثم فتش عن الموقف الذي يجب أن يزخر بالانفعال لتلهبه بحرارة الصراع، وهكذا كان يفعل الكاتب المسرحي (بومارشيه). . العقل الواعي الذي فرض على الموسيقار الخالد (بيتهوفن) أن يكثر من (الشطب) في نوته الموسيقية،. . لماذا؟ لأن منطقة (التخدر الحسي) كانت تتعرض لهبوب التيارات العقلية (المنبهة) فيحدث الشطب الذي يعقبه التغيير والتعديل!

إن العقل الواعي لا يسقط صريعاً إلا عندما يستخدمه أصحاب المذهب السريالي أو أصحاب الشعوذة العقلية، أولئك الذين يدافع عنهم الأستاذ سرطاوي بهذه الكلمات:(إن الحركة السريالية ليست في واقع الأمر فوضى فكرية تنسب ظلما إلى الفن) كما يقول الأستاذ المعداوي، بل لعل فيها بعض الشيء الذي لم نستطع تذوقه أو إبصاره، وأبصره وتذوقه بعض من سوانا أن الذين يعرفون أسرار الذرة يعدون على الأصابع، ولكن هل يعني جهل الكثرة من البشر هذه الأسرار أن قوانين تحطيم الذرة مضطربة مشوشة لا يطمئن إليها الفكرة)؟

مرة أخرى نقول للأستاذ الفاضل: لا يا سيدي! أن القياس هنا مع الفارق. . أن (الأبحاث الذرية) تقوم على نظريات علمية ثابتة ليس إلى إنكارها من سبيل، والعلم هو أكثر

ص: 42

الظواهر الفكرية دقة ونظاما حتى أنه لا يبلغ الهدف إلا إذا سار في طريق مرسوم. صحيح أننا لا نعرف سر القنبلة الذرية ولكننا نعرف نتائجها الواضحة. . أما (الأبحاث السريالية) فلا نعرف لها هدفا تسعى إليه، ولا تدرك لها العقول مرمى ولا نتيجة، ولا تهتدي الأذواق فيها إلى شيء من الدقة والنظام! قلنا فوضى فكرية أساسها وجدان مضطرب، وذهن مشوش ومقاييس معقدة أو مزلزلة. . والفوضى الفكرية لا يمكن أن تنتج فنا بمعنى الفن أو علما بمعنى العلم، لأن كليهما يضيق بكل مظهر من مظاهر الزلزلة والارتجال.

أي فن هذا الذي لا نستطيع أن نتذوقه ويظل تذوقه مقصورا على منتجيه؟ أهذه هي رسالة الفن؟ أهذه هي مقوماته ومراميه؟ بالطبع ليس الأستاذ سرطاوي في حاجة إلى أن نشرح له رسالة الفن وما يشترط لهذه الرسالة من مقومات. . ولكن حسبنا أن نقوله له أن هذا العصر الذي نعيش فيه أصبح يثور على كل فنان يستخدم فنه للتعبير عن مشاعر فردية أو ذاتية، مهما بلغ من كمال الوعي ووضوح التعبير وجمال الأداء فإذا كانت هذه هي طبيعة العصر وهذا هو ذوقه، فكيف يكون موقفه من الفنان السريالي الذي يعبر عن مشاعره الخاصة وهو في غيبوبة عقلية متصلة يتنجز معها كل وعي وكل وضوح وكل جمال؟!

ومالنا نذهب بعيدا وبين يدينا هذا المعول الهام الذي بهوى به أحد أقطاب المدرسة السريالية على زملائه القدامى في غير رفق ولا هوادة؟ لقد كان واحدا منهم في يوم من الأيام، أما الآن فقد عاد إلى رشده وثاب إلى عقله واهتدى إلى الطريق القويم، وعاد إليه عشاقه ومريدوه بعد أن انفضوا من حوله في أعقاب الحرب العالمية الأولى يوم أن بشر في هذا التاريخ بمولد فن جديد أو بثورة جديدة على هذا الفن العتيق الذي لم يعد يصلح لأبناء هذا الجيل ويعني به فن دافنشي ومايكل أنجلو ورفائيل ورميرانت. . كان هذا الثائر على فن أولئك العباقرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى هو الرسام الإيطالي العظيم (دي شريكو)، يقاسمه في حمل لواء الثورة والزعامة زميله الرسام الفرنسي (بيكاسو) وكلاهما كان يحمل اللواء في وطنه: هذا يدعو إلى المذهب السريالي بين مريديه من الفرنسيين وذاك بين مرديه من الإيطاليين. . ولنستمع إلى دي شريكو وهو يصوب سهام نقده إلى المدرسة التي كان بالأمس واحداً من زعمائها المبرزين: (إن مدرسة السيالزم قد أنتجت لوحاتها في مستشفى الأمراض العقلية. . وإن محاولتها في خلق فن جديد قد بلغت أوج

ص: 43

الفشل والإخفاق، لأنها محاولة للسمو بالقبح والحط من قيم الجمال. . . إنه عجز المرضى وشذوذ الفاشلين، حين يتحللون من كل قيد ويمسكون بالفرشاة ليرسموا ما لأعين رأت ولا خطر على عقل بشر. . إنها مدرسة التحلل والانحلال، مدرسة الرذيلة المعبرة عن النزوات المعقدة والغرائز المكبوتة)! وهذه الكلمات تنطق على المذهب السريالي في كل فن من الفنون.

وأخيراً بعقب الأستاذ سرطاوي على ما درنا حوله من صلة بين الجمال والنظام فيقول: (ترى حل حقيقة أن الجمال مرتبط بالنظام؟ وأننا إذا أوجدنا النظام خلقنا الجمال؟ لست أدري، وإنما يخيل إلي أن إيجاد النظام كثيرا ما يعجز عن خلق الجمال، فالطبيعة جميلة لسبب واحد، ذلك لأنها فوضى شاملة، وإسراف في عدم النظام)!

مرة ثالثة نقول للأستاذ سرطاوي: لا يا سيدي! لقد فهمت (الحرية) على أنها (الفوضى) وشتان ما بين المعنيين من فروق. . أن مشهدا من مشاهد الطبيعة يتمثل في غابة من الغابات يلتف فيها الشجر وتتشابك الغصون مشهد جميل، جميل لأن الأشجار تلتف في حرية وتنمو في حرية فلا تقف في وجهها الحوائل والمعوقات، جميل لأنه (متحرر) من ذلك القيد) الذي تلحظه العيون في مقص البستاني حين يرسله في أشجار الحدائق بقصد (التقليم) والتشذيب، جميل لأنه يد الله هي التي (نظمته) وليست يد الإنسان. . هي حرية وليست فوضى، لأن الفوضى لا يمكن أن تقترن بالجمال، ولأن الحرية لا تناقص النظام!

أما تلك الفروق بين الحرية والفوضى وموقعها من الجمال في الفن فقد سبقنا إلى تسجيلها الأستاذ العقاد في عدد سبتمبر من مجلة (الهلال)، في مقال قيم عنوانه (الفن والحرية). . ومن العجيب أننا قبل أن نطلع على مقال الأستاذ العقاد كنا سنشير إلى نفس الفروق التي أشار إليها دون اختلاف كبير في المعاني والأهداف. ولكن ما دام هناك أناس لا نأمن اتهامهم لنا فيما لو عرضنا لهذه الفروق وقد سبقنا إليها كاتب آخر، فلا بأس من أن نستشهد برأي الأستاذ العقاد ونغفل رأينا الخاص، لأنهما يلتقيان في مجال واحد هو مجال العرض والتمثيل. وهذا هو رأي الأستاذ العقاد وإنه لجدير بكل احترام وتقدير:

(والفن الجميل مدرسة النظام كما هو مدرسة الحرية. فهل في ذلك عجب؟ قد يبدو فيه العجب لمن يحسب أن الحرية تناقص النظام، أو يعتقد أن الحرية تبيح لصاحبها أن يخرج

ص: 44

على كل نظام. ولكن الخروج على النظام هو الفوضى وليس هو بالحرية، ولا مشابهة بين الفوضى والحرية في صورة من الصور، بل هما شيئان متناقضان، وقد يكون الفارق بينهما أبعد من الفارق بين الحرية والرق في أثقل قيود الاستبعاد.

فالحرية كما قدمنا هي أن تختار، والفوضى هي أن تفقد بكل اختيار وأن تختلط عليك الأشياء فلا ترى فيها محلا للتمييز والإيثار!

نقول: هذه فوضى، ونفهم من ذلك أننا فقدنا النظام وفقدنا الحرية، فلا نحن مستقرون ولا نحن أحرار. . ونقول: هذا جميل فنفهم من ذلك أنه تنسيق سليم من شوائب الخلط والاضطراب فهو نظام، ونفهم منه أيضاً أننا نستحسنه ونختاره فهو حرية، وما من شيء غير الفن الجميل يمنحنا هاتين النعمتين النفيستين نعمة الحرية ونعمة النظام مجتمعتين)!

أنور المعداوي

ص: 45

‌الأدب والفن في اسبوع

للأستاذ عباس خضر

مهزلة الجمل

جرت مناقشة طريفة بين فضيلتي المفتي السابق والمفتي الحالي فيما يتبع في الاحتفال بالجمل الذي يحمل كسوة الطعبة، من طوافه سبع مرات بمكان الاحتفال وتقبيل مقوده عند تسليمه لأمير الحج وتجمع الناس وتسابقهم إلى التبرك بالجمل وما يحمل. . . كتب المفتي السابق في جريدة (الأساس) جوابا عن سؤال، قال إنها بدعة سيئة لا يقرها الدين. فكتب المفتي الحالي في (المصري) كلاما عجيباً دافع به عن المحمل) وما يلابسه من الأعمال التي أنكرها المفتي السابق.

ووجه العجب في كلام المفتي الحالي أن فضيلته - وهو مفتي الديار المصرية - لم يستند إلى أصل من أصول الدين، بل أخذ فضيلته (الجلالة) فراح يصف مشاعر الناس واهتزاز نفوسهم عندما يرون الجمل وتقبيل مقوده ذاهبا إلى أن ذلك يذكرهم برب الكعبة التي يحمل الجمل كسوتها. . . وزاد على ذلك فقال أن هذا تجديد في الدين!

وما أخال فضيلته إلا مسلما بأن الله خالق كل شيء ورب كل شيء، وكل شيء يذكر به تعالى. وإذا كان يصح التبرك بالجمل ومقوده لأنه يحمل كسوة الكعبة، أفلا ينبغي أن يكون للتبن الذي يأكله الجمل نصيب من ذلك التبرك والتقديس. . .؟ وهذا البرسيم الأخضر، ما قول فضيلته فيه وهو الذي يكسب الجمل القوة التي يقتدر بها على حمل محمله. . .؟

إن مشاعر الناس يا سيدي أن تتعلق بكل شيء، وكل ما يعبد ويقدس - حقا أو باطلا - تهتز له نفوس عابديه ومقدسيه. وأنتم - مصابيح الدجى وأعلام الهدى - ملكون الإرشاد والتنوير وتوجيه العقول والمشاعر إلى ما يجدر أن تتوجه إليه. ولا أحسب من ذلك هذه المهازلة (المحملية) ومواكبها المزرية التي تصفونها بأنها تجديد في الدين. وهي أدنى إلى العبادات البدائية الخرافية.

أي تجديد هذا يا فضيلة الأستاذ؟ ومن هو المجدد المصلح الذي جدد في الإسلام بتقبيل مقود الجمل؟ هل رأى ذلك المجدد أبقاء أركان الإسلام خمسا فقط جمود ديني لا يتفق وروح العصر الحديث فأضاف (جمل المحمل) إلى الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد؟!

ص: 46

إذا كان ذلك أفلا ترون فضيلتكم أن هذا الاحتفال (المودرن) بالجمل والتبرك به وتقبيل مقوده، جدير بأن تعمل له أفلام تعرض بدور السينما في مصر والخارج لجذب الأنظار إلى ما جد في الإسلام؟! وإذا وقفت في سبيل ذلك رقابة الأفلام في وزارة الداخلية بحجة أنه يسيء إلى سمعة المصريين في الخارج لما فيه من مناظر غير لائقة، فالبركة في فضيلتكم، وهمتكم كفيلة بإقناعها بأن التجديد في الدين لا ينبغي أن تقف في سبيله تلك الاعتبارات!! أليست نفوس الناس تهتز ومشاعرهم ترق؟ مقال أو بيان آخر مثل الذي نشر في (المصري) يذلل هذه العقبات التي تقف في طريق أحدث وأعجب (تقدمية) رأيناها في العصر الحديث. . .

الروحانيات

حضرة المحترم الأستاذ عباس خضر

لعلك لم تنسى يا سيدي بع أمر ذلك الكتاب الروحي الذي قدمت إليك نسخة نته عن طريق (الرسالة) وأحسبك لم تطلع عليه بتمامه وإلا لعلمت من نبأه ما يبدو لي أنك لم تعلمه.

والواقع أم هذا الكتاب ليس مما يتسنى لفرد، أو أفراد، القيام به، وهو لم يقصد بنشره تحقيق رغبة مادية أو الوصول إلى غاية دنيوية، بل هو كتاب روحي وضعت فكرته وصاغت عباراته وأعانت على إخراجه جماعة الأرواح القائمة بتوجيه الناس روحياً. وكان صدوره في هذه الظرف تنفيذاً لمشيئة الخالق، إذ قضى تعالى استصلاحاً لهذا العالم الذي تزايد فساده أن تزول المادية التي تحكمت في النفوس واستبدت بالعقول وساقت الناس إلى هذا المصير الذي أوله شقاء وآخره فناء. فجاءت (الوساطة الروحية) تدعو كل مخلص للإنسانية أن يعمل ما مكنته شجاعته وأعانته همته على إخراج الناس من ضلال المادية وتخليصهم من إسارها. وذلك ليصبحوا جميعاً إخوانا يساند قويهم ضعيفهم ويعطف غنيهم على فقيرهم، وبذلك يستقيم أمرهم وينصلح بالهم ويستقر عالمهم.

وقد كان المفروض أن يكون أولئك الذين زعموا أنهم هم الجديرون بأن يكونوا أصحاب الرأي وقادة الفكر أكثر الناس اهتماما بهذا الأمر غير أن أحداً من أولئك المفكرين والعلماء والقادة والزعماء الذين توجه إليهم الكاتب بهذه الدعوة في الكتاب لم يهتم بها، إذ كان هم الأكثرية الجري وراء المال ثم العودة به لإنفاقه في سبيل الاستمتاع الدنيوي. وهكذا مضت

ص: 47

خمسة عشر شهراً و (الوساطة الروحية) لا تجد من يلتفت إلى دعوتها أو يستمع إلى كلمتها وهنا شاء القادر أن يحقق ما قضى تحقيقه، فبعث تعالى على الماديين واتباعهم وأنصارهم وأشياعهم عباداً له أولي بأس شديد ليجوسوا ديارهم ويحاسبوهم على سوء فعلهم.

وها هي يا سيدي تلك الأحداث التي جاء ذكرها في (الوساطة الروحية) التي لم يصدق بها أولئك الذين شغلتهم دنياهم قد أخذت تحدث، وهي ماضية في حدوثها لتصل في اتساعها وامتدادها وتزايدها واشتدادها إلى نواحي العالم، قريبها منا وبعيدها. وسنحصد نحن منها فيما سنلاقيه من ويلاتها وتقاسيه من عذابها ما فرضه علينا قادتنا وسادتنا العاكفون على عبادة المادة ومفكرونا وعلماؤنا الذين أبت عليهم كبرياؤهم أن يستجيبوا لدعوة الحق.

اللهم إنا نشهدك أننا قد بلغنا رب أهدني وقومي فإنهم لا يعلمون

عبد اللطيف محمد الدمياطي

تلقيت هذا الكتاب من صاحبه الأستاذ عبد اللطيف محمد الدمياطي، وكان قد تفضل فأهدى إلي نسخة من كتابه (الوساطة الروحية) الذي يتحدث عنه، فتصفحته عاجلا وقدمته إلى قراء الرسالة بنبذة قصيرة في (كشكول الأسبوع) أشرت فيها إلى أهمية الكتاب من حيث إنه يضيف إلى المكتبة العربية لونا من الدراسات الروحانية ليس كثيرا فيها. وأنا أحيانا لا أجد بأسا أن أقدم (طبقاً لا أشتهيه - وقد لا أسيغه - عساه يجد من يقبل عليه، أقدمه إجمالا، لا أتعرض لتفصيلاته، ولا أتصدى لنقده، وقد فعلت ذلك إزاء هذا الكتاب لأني لست من المختصين بموضوعاته ولا أجد في نفسي ميلا إليها، ولا في (روحي) استجابة لها. ولعل ذلك لأنها ليست شفافة كأرواح (الروحانيين) أو كما يقولون مادية كثيفة.

على أنني لا أدري: هل أنا روحي أو مادي: وأريد أولا أن أعرف معنى (الروحية) وأين توجد. هل هي في التواكل والأوهام والخرافات، فمن مقتضياتها أن يقعد الإنسان معتقدا أن ماله سوف يأتيه، وأن يرضي عن عجزه بل يفلسفه بأن الرزق من نصيب الجهلاء والحمقى وأن العقلاء قضى عليهم بالشفاء والحرمان، وأن يعتقد أن الله ناصر لأن الحق في جانبه فيظل ينتظر الظفر من غير أن يعمل له ويتخذ له العدة، وقد تنتهز حلول ليلة القدر فيصعد إلى السطح ليبعث بأمانيه أو (أوامره) إلى السماء. . أو هل الروحية في التنجيم والفنجان والكعب واستحضار الأرواح لقراءة السؤال المكتوب في الورقة المطوية والإجابة

ص: 48

عنه أو للدلالة على الفاعل في حوادث السرقة وغيرها؟ أو إحضار روح شاعر ليملي شعر لو نسب إليه في حياته لما رأى شيئا أبلغ في إيذائه من نسبته إليه؟

إن كانت الروحية كذلك فلست منها في شيء. ولست في حاجة إلى أقول إني لا أؤمن بخوارقها لأني لا أستطيع أن أستغني عن عقلي أبدا، فلست أفهم إلا النتائج المستخلصة من المقدمات المنطقية، ولست أرى حقا إلا ما أدت إليه الأسباب المحسوسة، وجماعة الأرواح لا أحس بوجودها ولا أقتنع بدليل يدل على إرادتها في أمور حياتنا، ولا أوافقها - على فرض وجودها - في العمل على تخليص الناس من المادية أن كان يراد بها ما يستحدثه العلم الطبيعي من وسائل خدمة الإنسان وتوفير الراحة والمنفعة له في حياته المادية، ولا أريد للضعفاء والفقراء إلا أن يعوا أسباب ضعفهم وفقرهم ليتخلصوا منها، وأعتقد أن قانون الحياة الذي لا يدافع هو أن لا يستطيع الإنسان أن يأخذ حقه من الإنسان، لا أن ينتظر حتى يشعر بالعطف عليه. والإنسان الطاغي لا يقفه عند حد العدالة والإنصاف إلا أن يرى قوة من يريد أن يطغى عليه. والحكام والزعماء يعلمون بروح الدساتير والديمقراطيات وما إليها إلا لأنهم يشعرون بقوة الشعوب وما نسميه الرأي العام الذي يخشون غضبته.

ذلك هو منطق الواقع المادي الذي أدين به، فأنا إذن (مادي) رويدك لا تظن أني قد نبذت الروحية، فلا يزال بنفسي معناها الحقيقي، وهو شعور الإنسان بجمال المعاني النفسية والسلوك الإنساني الكريم، ذلك الشعور الذي يخلق في المرء روح التعاون والتكافل الاجتماعي. على أن يكون ذلك ممتزجا بالواقعية في مواجهة مسائل الحياة وبالمنطق المعقول في فهم الأشياء.

ولا شك أن من الخوارق التي لا أومن بها أن (جماعة الأرواح) وضعت فكرة كتاب (الوساطة الروحية) وصاغت عبارته وأعانت على إخراجه. ولا استكثر تأليفه على أحد ممن يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وأنا أعرف مؤلفه شخصيا وهو على درجة من الثقافة لا يستبعد معها تأليف الكتاب، وهو يقول - لإثبات أن الأرواح هي مؤلفة الكتاب - إنه لم يتلق تعليما مدرسيا كافيا. وهل يعوق حرمان التعليم المدرسي عن التثقيف الذاتي؟

ذلك ما أراه، ولست أفرضه على أحد، وليعذرني الأستاذ الدمياطي في التصريح به، أو فليسلط علي روحا من أرواحه تقنعني بخلافه. . .

ص: 49

لم التعجل؟

كتب مندوب الأهرام في الإسكندرية عن أنباء حلقات الدراسات الاجتماعية التي ستعقد بالقاهرة ابتداء من 22 نوفمبر المقبل، وقال أن معالي وزير الشؤون الاجتماعية اجتمع بمعالي وزير الخارجية بالنيابة، ثم صرح له بأن الحديث خلال هذا الاجتماع (تناول ضرورة الاتصال بحكومات الدول العربية المدعوة إلى حضور الحلقة الدراسية القادمة، لإيفاد مندوبين ممتازين ليؤلفوا مع مندوبي مصر جبهة قوية للدراسة والتمحيص وعرض المشروعات والمقترحات المثمرة الكفيلة بالقضاء التام على الزعم بأن الشرق الأوسط مرتع خصيب للشيوعية)

وكنت أود أن أقرأ الفقرة الأخيرة هكذا: (. . والمقترحات المثمرة الكفيلة بالقضاء على العوامل المهيأة للدعوة الشيوعية في الشرق الأوسط) فهذا أدنى إلى ما أجمع الناس عليه من ضرورة العمل على تهيئة أسباب الحياة الكريمة في مجتمعاتنا الشرقية حتى تتحصن ضد الشيوعية. أما أن نفرض - قبل الدراسة والتمحيص أن الشرق الأوسط منيع أمام الشيوعية، إلى أنه من تعجل النتيجة قبل البحث - ليس غرضا يقصد لأنه لا يؤدي إلى غاية علمية.

واست أدري لماذا نريد أن نثبت أن القول بأن الشرق الأوسط مرتع خصيب للشيوعية زعم باطل؟ ولمن نثبت هذا؟ الأهل الشرق حتى ينام القائمون على أموره عن إصلاح حاله، وحتى يطمئن منهم الاطمئنان.؟ أم نريد أن نثبت ذلك لأهل الغرب حتى لا يحلو على الشرق في ضرورة الإصلاح المانع من التمهيد للنفوذ الروسي؟

وحلقات الدراسات الاجتماعية ستتألف من علماء وباحثين ومفكرين، ولا يليق بها إلا أن تسلك الطرق العلمية في دراستها وأبحاثها، ولم يعلم أحد بعد ما ستتمخض عنه هذه الدراسات، فمن الجائز أن تؤيد الزعم بأن الشرق الأوسط مرتع خصيب للشيوعية، وتضع المنهج الكفيل لا بالقضاء على (الزعم) بل بالقضاء على الخصب الشيوعي نفسه. فلم التعجيل؟

عباس خضر

ص: 50

‌البريد الأدبي

قيود الثقافة في مصر

منذ أيام قريبة قرأت في بعض الصحف، سؤالا لشاب أزهري كتب يقول:(أنا طالب أزهري حاصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية من معهد القاهرة وأجيد الفرنسية والإنجليزية إجادة تامة؛ فهل يجوز لي الالتحاق بكلية الآداب؟) ونشر مع السؤال رأي سعادة عميد كلية الآداب ونصه: (لا يمكن قبول الطالب بكلية الآداب، وفقا للوائح التي لا تزال متبعة إلى الآن

وأمر هذه اللوائح عجيب حقا، فهي التي تسيطر على التفكير الحر في مصر، وكيف يمكن إقناع الطالب المسكين الذي يريد إكمال دراسته بقسم اللغة بكلية الآداب بأن رد العميد عادل ومعقود ولم فات معالي الدكتور طه حسين بك أمر هذه اللوائح حين كان عميدا لكلية الآداب. فأمر بقبول عدد كبير من طلاب الأزهر بكليته، ونظم لمن لا يعرف منهم لغة أجنبية دراسات خاصة، فكانوا أكثر خريجيها نشاطا وإنتاجا؟.

ولا تزال هذه اللوائح أيضاً تحول بين أساتذة الأزهر وحرية التقديم لشهادات كلية الآداب، والانتظام في دراستها، وقد حدث أن تقدم أستاذ يحمل أرقى شهادات الأزهر العلمية إلى كلية الآداب، بجامعة فؤاد يرجو أن تسمح له يا بالتحضير لدرجة الدكتوراه التي تعادلها شهادته الحاصل عليها من الأزهر في حكم النظام المالي الذي تعرفه الدولة، وفي حكم طبيعة الثقافة ومدة الدراسة ونوع الشهادة، فردت عليه الكلية بأن اللوائح المتبعة لا تسوغ إجابة طلبه!!

أتظل يا سيدي هذه اللوائح والقيود والأفكار القديمة تتحكم في مصير الثقافة في مصر في القرن العشرين؟

محمد عبد المنعم

أستاذ بكلية اللغة العربية

معبودة الجماهير

بهذا الوصف وصفت إحدى الفرق التمثيلية راقصة قامت بدور شيطاني في الأفلام

ص: 52

السينمائية. والأفلام السينمائية عندنا لا يقبل الجمهور على مشاهدتها إلا إذا كانت حافلة بمشاهد الرقص المثير،. .

وكيف تنشر الإعلانات في الصحف على هذا النحو. . وبتلك الصيغة؟!. . .

معبودة الجماهير؟!. .

أي جمهور هذا الذي (يعبد) راقصة. . تتلوى على الشاشة. بماذا نحكم على هؤلاء (العبيد) ولا أقول العباد. لأنهم عبيد شهواتهم، استعبدهم الشيطان واستدلهم، وزين لهم أعمالهم، فصدهم عن السبيل؟!. .

وأية جرأة بلغت هؤلاء المهرجين إلى إطلاق كلمة (معبود) على راقصة كل همها إثارة الشهوات الكامنة في النفوس، وإشباع نهم قوم لا يشبعون؟!.:

إنها وربي لأضحوكة من هذه المضحكات التي يزخر بها المجتمع في مصر. . وكم ذا بمصر من مضحكات؟!. .

اللهم أن هذا منكر لا يرضيك. نعوذ بك منه، ونسألك الهداية والتوفيق!. .

عيسى توفيق

سويا لا تؤدي معنى (معا) بل معنى كاملا تاما

طالعت بمجلة الرسالة الزاهرة بالعدد رقم 897 كلمة حول سويا للأديب المحترم كمال رستم يصوب فيها سويا بمعنى معا، ولغة الضاد لا تؤدي هذا المعنى الذي أرتاه، ولم يرد في كلام العرب شاهد يؤيد صحة ما ذهب إليه وابن منظور المصري حجة في هذا المضمار وأين بحوثها فقد جاء في لسان العرب الطبعة الأولى. ص 143 ج 19 في تفسير (ثلاث ليلي سويا) ما نصه: قال الزجاج لكان قال زكريا لربه اجعل لي آية. أي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به كما آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالي سويا أي تمنع الكلام وأنت سوي لا أخرس فتعلم بذلك أن الله وهب لك الولد وسويا منصوب على الحال.

وقال أبو الهيثم: السوي فعيل في معنى مفتعل أي مستو قال والمستوي في كلام العرب (التام)

وقد ورد تفسير (ثلاث ليالي سويا) في البحر المحيط ج 6 الطبعة الأولى ص 171 -

ص: 53

سويا حال من ضمير ألا تكلم أي في حال صحتك ليس بك خرس ولا علة - وعن ابن عباس: سويا عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث وذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر ثلاث أيام بلياليهن: فسويا لا تؤدي إلا معنى كاملا أو تاما ليس غير والصواب كل الصواب ما قاله صاحب لسان العرب والبحر المحيط، وماعداه. فالغبار عليه واقع، ماله من دافع، وفقنا الله إلى السداد وجعلنا من (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب)

حسين سلامة دياب

المدرس بمدرسة طعمة - البداري

ص: 54

‌القصص

ذلك الساحر!. .

للأستاذ يوسف يعقوب حداد

نفض ياغنيني عن جسده ذلك الوشاح الشاحب، الذي حاكه المرض، وترك فندقه ليتنفس الهواء الرطب، وليرقب الحياة في شوارع باريس!

وما كاد يقطع في بهو الفندق خطوات، حتى لفت نظره على الباب امرأة بدا على لباسها البذخ، وعلى مظهرها الرفعة. . . كانت تتحدث إلى البواب، وتشير نحوه باهتمام!

وياغنيني ذلك الأحمق الذي يضيع الفرصة إذا واتته، لم يكن ذلك الذي زهد في النساء وابتعد عن الحب. . . لقد جاء باريس وهو يشكو المرض الذي أورثه إياه الحب، ويعاني الضعف الذي أخذه في الانهماك في طلب اللذات!

وأسرع ياغنيني وراء المرأة، ولكنها كانت قد اختفت عن ناظريه في منعطفات الطريق!

وراحت خطواته تذرع - الشانزليه - وتضرب رصيفه ضربات هادئة، متثاقلة. . . وبينما كان الموسيقار الشهير، ساحر النساء وفاتن عقول الفانيات، يسير على الرصيف مطرق الرأس، مشغول البال في المرأة التي أضاعها، وأفلتها من بين يديه، إذا به يلمح عربة فخمة، تترجل منها سيدة، وتدخل واحدة من هذه المقاهي المزروعة على الرصيف!. . . يا للمصادفة!. . . إنها هي بنفسها!. . . تلك المرأة التي رآها على باب الفندق منذ لحظات! وأسرع يدخل المقهى، ويتخذ مجلسه أمامها. . .

وحاول أن يلفت إليه نظرها، ولكن المرأة الجميلة، ذات الرأس الصغير، والشعر المرصع، الأبقع، والأنوثة الناضجة ما، كانت لتترك جريدة في يدها، وتلتفت إليه! ولم يطق صبراً. . .

كان إذا أراد امرأة حاول المستحيل ليظفر بها. . . هكذا خلقه الله، يشتهي النساء، ويلقى عندهن الخطوة!. . . ما ذنبه هو؟

وأرسل إليها على بطانته، كلمة صغيرة يسألها فيها أن يتحدث إليها. . . ودفع بها إليها مع النادل!

لم يصدق ياغنيني عينه، حين قرأ ردها. . أنها لترحب به وترجو بحرارة ألا يتردد في

ص: 55

التعرف عليها. . . إنها فرصة كانت تسعى للحصول عليها منذ سمعته يعزف ألحانه الساحرة على قيثارته! وتحدثا عن كل شيء. . . وراح ياغنيني يتأمل هذه الحمامة في كثير من الحب والشغف!

وعرفته بنفسها. . .

(أنا يا صديقي زوجة رجل صناعي كبير. . رجل مشغول دائماً بمشاريعه وأعماله!)

ودعته المرأة لمشاهدة حفلة راقصة تقام تلك الليلة. . وطبعاً، لم يرفض ياغنيني هذه الدعوة، ولكن على شرط. . أن يعود بها إلى منزلها بعد ذلك!!

كان الليل أبدع إطار يضم صورة عاشقين. . . وكانت العربة كثيرة الرفق بهذين المغرمين، سارت بهما إلى مخدع المرأة سيراً رفيقاً رهيناً، النجوم تضيء لها الطريق، والقمر ينشد أغاني الغرام وكانت ليلة!. . .

ليلة، جددت شباب الموسيقار. وأعادت إليه فتوته. . . وما ادخرت المرأة وسعاً لإشباع الرجل من الحب، واللذة! ونام ياغنيني على أنعم ذراع، وكانت زوجة الصناعي الكبير خبيرة في شؤون الحب

وفي البكور - نهض الموسيقار ليودع مخدع غرامه، على أن يعود إذا ما أكتشف الرجل الصناعي الكبير مشروعا جديداً!. ولكنه ما كاد يجتاز عتبة الباب، حتى التقى برجل قدم إليه رسالة مختومة في صينية من خالص الذهب. . وكم كانت دهشة الموسيقار عظيمة، حين فض الرسالة فوجدها قائمة الحساب!!

واحتقن وجهه بالدم. . . أتكون هذه المرأة قد خدعته؟! أيحسب نفسه قد فاز بسيدة عريقة، نبيلة ولم يكن إلا ضحية بغي من بائعات الهوى الرخيص.

وسدد نحو فك الرجل لكمة عنيفة. . . وخرج!

لم يكن ياغنيني قد نسي حوادث الليلة الماضية، فهو لا يزال شديد الحنق على تلك المرأة التي خدعته. ما وقع مرة في الشباك، ولا اقتنصته امرأة. . . كان دائما هو الصياد والنساء صيده الثمين!. . . أفيكون اليوم ضحية بغي من بنات السبيل؟! وجاءه من يدعوه لحفلة يقيمها وزير الداخلية.

(إن الحفلة يا صديقي ستكون على أروع ما يمكن أن تكون حفلات باريس، ولى أن أحدثك

ص: 56

عن الحسان اللواتي ستضمهن القاعة الفخمة. . . أريدك أن ترى كل شيء بعينيك.

ووقف ياغنيني مأخوذاً أمام روعة الصالون وفخامة، وجمال النساء، وسحر منظرهن، ولكن. . . رويداً. . . من عساها تكون هذه الجميلة التي تستقبل المدعوين بهذه العظمة وتلك الابتسامة الساحرة؟!. . من تكون؟. . من تكون؟. . رباه، أممكن هذا؟. أتكون هي بنفسها. تلك المرأة التي خدعتني بالأمس؟

وتقدم من الوزير، وسأله في حيرة بالغة، ودهشة كبيرة: سيدي. . . هل تعرف تلك المرأة التي هناك؟.

فابتسم الوزير، وقال لضيفه الكبير:

نعم. . . ألم أقدمك بعد إلى زوجتي؟

وأخذه في يده. .

هنريتا. يا عزيزتي. . . هل لك في أن ترحبي بضيفنا الموسيقار الشهير، نيقولا ياغنيني؟

ولبست المرأة ثوب الثعلب، وقالت، وهي تنحني للضيف العزيز: لي الشرف بالتعرف على الموسيقار الشهير الذي سحر الدنيا بأنغامه. وترك الوزير زوجته لترحب بالضيف (العزيز)!. . . فمدت نحو أذنه فمها العنابي وشفتيها الساحرتين وهمست: - أتدري كدت تقتل أخي بتلك اللكمة القاتلة.

وكادت امرأة باريسية تذهب بصواب الموسيقار الذي لم يخنه سحره في النساء:

يوسف يعقوب حداد

البصرة

ص: 57