الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 901
- بتاريخ: 09 - 10 - 1950
سياسة التعليم.
. . .
للأستاذ أحمد بك رمزي
(إن بث العمران والتقدم في هذا البلد المتخلف عن غيره يمثل رسالة الجيل الناشئ: وإيجاد جيل يؤمن بهذا ويعمل له ويكافح من أجله هو هدف كل سياسة تعليمية).
لست من رجال التعليم والتربية، ولكنني من أهل هذا الوطن، ومن حقي أن أبدي الرأي وأجهر به في كل ما يمس حياة بلادنا. وأهم مشاكل مصر وأبعدها أثراً مشكلة التعليم، وهي مشكلة تسير كل عام نحو التعقيد ولذا لا أجد حرجاً على نفسي أن أكتب فيها وأقول: إذا كان للتعليم سياسة فهي كما قال الأستاذ محمد محمود زيتون (أحق من أي سياسة أخرى بالثبات والاستقرار ولا سيما في جوهرها).
وفي نظري إذا قدر لسياسة تعليمية أن تستقر وتثبت على أسس صالحة واضحة فيجب أن تلائم بين أمرين مهمين:
الأول: حاجة البلاد الاقتصادية.
الثاني: مسايرة الثقافة العامة لروح العصر الحالي.
هذا مع التمسك بأن كل سياسة تعليمية لها هدف أساسي هو نشر الثقافة القومية وغرسها في نفوس النشء لكي تشعر بحيويتها وتعيش في فيضها الأجيال القادمة وتتولى حفظها والسير بها في المستقبل، مع عدم التفريط في توجيه القوى النفسية الدافعة الكامنة في الأمة حتى يخرج الجيل القادم قوياً: يعرف كيف يواجه ضربات الحياة ومشاكلها وبهذا نضمن أن تخرج الأمة من كل عراك سلمى أو تصادم حربي منتصرة رافعة الرأس صابة لا تلين أمام الهزائم ولا النكبات.
ولا شك في أن العمل للوصول إلى هذه الغاية يحتم الإلمام بطائفة من المبادئ التي تبنى عليها قواعد غرس هذه الروح القومية الوطيدة القوية الواعية، وكذلك معرفة العوامل الأساسية المكونة لشخصية الجماعات والدوافع الفكرية وهي مسائل في حاجة للبحث وللدرس ولاستخلاص الحقائق: فإذا وقفنا لدراسة علمية لها للتثبت منها تبين لنا بوضوح طريق الوصول إلى التكوين الروحي والعقلي للامة وسبل إبرار العبقرية الكامنة لدينا واستعدادنا للتطور والنضوج. وهذه في نظري عوامل منبثقة من شخصية الأمة وتاريخها
الإسلامي ولا يمكن أن تكون عارية تؤخذ من أنظمة موضوعة أو برامج تعليمية أخذ بها الغير في الغرب أو الشرق. وهذا البحث النظري التجريبي لم نأخذ به للأسف إلى الآن. ولقد قلت مرة: (لما ثقافةواحدة نريد أن تكون صورة حية لنا وهي الثقافة العربية وليدة كفاحنا وجهادنا، لا نسلم بان تطفئ عليها ثقافة أخرى لأنها الأساس الثابت المكون للشخصية المصرية فلا يمكن أن نتنازل عنها أو نقصر في حقها بل يجب أن تبرز الثقافة العربية في كل ركن من نواحي نشاطنا).
ولذلك لا أجد مبرراً للتردد أمام هذه الحقيقة ولا أجد سبباً للمجاهرة (بأننا أمة شرقية للفرعونية والإسلامية في دمائنا كرات حمراء وبيضاء، وللحضارة الحديثة في حياتنا أصداء. .) - كما قال الأستاذ زيتون في الرسالة - فهذا المخرج لا محتل له أمام الأيمان بعروبة مصر) فنحن معاشر المصريين نكون أمة عربية ثقافتنا عربية سامية: ولا يمكن أن نكون غير ذلك وإلا وقعنا في المتناقصات وواجهتنا خطوات التعثر والتفكك التي نعيش فيها الآن ولا نجد لنا منها مخرجاً. . . ولا نستطيع عنها حولا. وعليه فأني أقول بأن الإيمان بعروبة مصر هو الذي يمهد لنا طريق البحث والاستقراء في اكتشاف منابع الحياة الفكرية والعقلية بل والنفسية في الأمة وسبل توجيه اللغة والأدب والفنون الجميلة والصحافة والإذاعة وكل مظاهر الحس والوجدان نحو تقوية أنفسنا وإذكاء هذه الثقافة وغرسها وإنمائها ودفعها وانطلاقها أي جعل اللغة الفصحى الصحيحة حية في كل مكان - في لغة التعكير والكلام والعلم والكتابة والحقل والمصنع - وعليه أضع معلم اللغة العربية في المقام الأول من المسئولية وأعده الدعامة الأولى لمستقبل البلاد، وأرى أن يتفرغ لهذه الناحية بالذات وأن ينظر إلى رسالته نظرة يحوطها التقديس، ولا يتولى عملا غير لغة البلاد وحماية ثقافتها، التي أعتبرها أكبر عناصر الشخصية المصرية وأعلى مظهر لعبقريتها. فإذا اتفقنا على هذا الأساس، ولا بد أن نسلم به تسليما انتقلنا إلى أهداف السياسة التعليمية كما تبدو لي.
وهنا أعود إلى الكلام عن الأمرين الهامين أي حاجة البلاد الاقتصادية ومماشاة أو مسايرة السياسة التعليمية لروح العصر الحاضر. فنحن لا نشك لحظة واحدة في أن كل سياسة للتعليم تستمد قوتها وتوجيهاتها من الروح السائدة الآن في العالم وهي علمية اقتصادية '
ولا أعرف لها مظهراً آخر ولا أخلط بين الحضارة الحديثة والإسلامية والفرعونية.
فنحن نطالب بأن تتجه السياسة التعليمية نحو الملائمة بين مطالب العصر وهي علمية اقتصادية وحاجات هذه الأمة، لكي تعيش في القرن العشرين:
ولقد قرأت لكثيرين ممن تعرضوا لشئون التعليم وخرجت من أبحاثهم بفكرة ثابتة هي أن الديموقراطية تجعل الثقافة والتعليم حقاً للجميع بل هي ترمي إلى جعل تكافؤ الفرص حقيقة سهلة المنال لكل فرد. وعلى هذه الفكرة سار التعليم في مصر هذه الخطوات المباركة متجها إلى زيادة المدارس وفتح الجامعات والإكثار من دور العلم والمعاهد ولكنه انتهى إلى تسعير الشهادات وبدلا من دفع خريجي هذه المعاهد إلى البحث عن عمل لهم ورزق يعيشون منه تحت لواء الأقدام والمغامرة، انتهى إلى حشد صفوف من حملة الشهادات يطالبون باستحقاقات في أوقاف خيرية. ولذا بقى السؤال الدائم الذي يواجه رجال المعارف المصريين هل نجحت سياسية مصر التعليمية بعد أن كف رجال الاستعمار الإنجليزي أيديهم عن التدخل فيها؟ وهل وقفت في سد حاجات البلاد وأخرجت جيلا يقدر أن يقف وحده بإرادة وتصميم ليسير بمصر نحو التطور الصحيح؟
الجواب على هذا يقدمه رجال التعليم في أبحاثهم ومقالاتهم وما يشمل الرأي العام من تبلبل عند ابتداء السنة الدراسية وعند نهايتها في موسم الامتحانات وما يصيب التعليم من هزات كلما نادى المعلمون بتحسين حالهم وأنصافهم وكلما تقدم الطلاب بمطالب تعجز الوزارة عن تنفيذها. . .
أنني أضع أمام القارئ ما أعتقد أنه لا يصلح لإعطاء فكرة أولى لما يجول بخاطري: فأقول (إن الثبات والاستقرار) يحتمان من المبدأ وضع الأسس وهذا يتمثل في نظري: في تنسيق السياسة التعليمية بجعلها كما قلت من المبدأ: (خاضعة لحاجيات الأمة ومصالح البلاد) فإذا كانت النظم الديموقراطية ' ' تحتم رفع ما أمكن من المستوى الجسماني والعقلي والأدبي والمدني لشباب الأمة، وترمي إلى تمكين كل فرد من أفراد الشباب من دخول مدارس الدولة مهما كانت حالته الدينية أو الاجتماعية أو العائلية أو الجنسية للحصول على التثقيف بأهون سبيل، لا فرق بين الفتى والفتاة ولا بين الغني والفقير، بل نذهب إلى أكثر من ذلك فنفرض على وزارة المعارف أن تمهد لكل طالب حق استعمال حريته التامة في
اختيار الطريق للدراسة التي تلائم تطور شخصيته وتمكينه من استقلال استعداده الفطري للتقدم والبروز حتى تظهر كفايته لنا وحتى يستفيد المجموع من هذا الفرد الناشئ.
فإن هناك بجانب هذه الأهداف العامة اتجاهات تحتم أن تكون سياسة التعليم سياسة مبنية كما قلت على أسس اقتصادية علمية تستهدف تحقيق غايات معينة وسد النقص في نواحي النشاط التي تظهرها حاجات البلاد ويحتمها تطورها في القرن العشرين. وهذا يحتم أن يتسع نشاط الهيئات التعليمية حتى نخرج كل سنة آلاف العمال المتقنين لعملهم وآلاف ضباط الصف الذين يعرفون عن حق مهنة الزراعة، وآلاف الميكانيكيين وهلم جرا مما لا يمكن حصرهم في حياة أمة حديثة ناشئة:
فألا أستطيع أن أفهم سياسة للتضيع مثلا لا تشترك فيها وزارة المعارف، ولا أسلم بنجاح عمل يقصد به رفع الإنتاج الزراعي في مصر من غير أن تسنده سياسة تعليمية تساعد وتمهد لهذا التطور الإنتاجي في الحقلين الزراعي والصناعي. ولقد رأينا في بعض البلاد الشرقية - وهي في ظروفها تشبهنا تماماً - حينما أرادت أن تغزو الريف في مناطق بعيدة عن المدينة والعمران ولا يمكن أن تقاس بها مسافات مصر، رأينا جل اعتمادها على نشاط المدرسة في القرية، وكان هذا النشاط في المعلمة أولا، ثم في المعلم. ولا يمكن الإقلال من أثر المعلمة في دفع الحياة الريفية، لأن نقل المزارع وأهل بينه من حالة التأخر والفوضى إلى القرن العشرين ألقى على عاتق المعلمة، فهي التي فرضت التقدم في صميم عائلات الريف، وهي التي قادت حركة التثقيف وتحسين الصحة. وكان عمل المعلمة في الريف مستمداً من توجيه المراقبة التعليمية في كل إقليم والتي يتحتم أن تصبح مركزاً للتثقيف ونشر التعليم والتمدين في الدائرة التي تعمل فيها؛ فلا يقتصر عملها على إدارة المدارس الابتدائية والثانوية بل يجب أن يتعدى نشاطها هذه الدائرة فيشمل مجموع السكان: وأن يسند عملها إلى رجال يمثلون مختلف الهيئات سواء كانوا من رجال يمثلون مختلف الهيئات سواء كانوا من رجال المعارف أو المجالس المحلية أو من ممثلي الهيئات الصناعية والزراعية حتى لا يقتصر عملهم على نشر التعليم الشعبي بين الجماعات ومحاربة الأمية بل يشمل النظر في حاجيات كل إقليم لدفع التطور الزراعي والصناعي من هذا الإقليم بالذات إلى الأمام عاما بعد عام.
كل هذا يمكن أداؤه وتنظيمه. وإن غزو الريف يجعل اللامركزية عنصراً من عناصر التقدم بالتعليم والسير به نحو تثقيف أكبر عدد ممكن من الشعب. ولهذا أعد هذه اللامركزية خطوة أولى نستهدف رفع الأعباء وتخفيفها عن وزارة المعارف، ثم أطمع فيما يتعلق بدفع الحياة الاقتصادية للإمام إلى الأخذ بنوع من السياسة التعليمية يقصد به الملائمة بين التعليم وحاجات السكان المحلية. اطمع إلى زيادة المدارس الفنية المتوسطة بحيث تقوم الصناعة والزراعة المصرية على (كادر) وأقصد به (مجموعة) من العمال والرؤساء الذين أتقنوا عملهم. بل في حاجة إلى عشرات من هذه المدارس الصناعية والزراعية قبل أن نكون في حاجة إلى إنشاء جامعة جديدة. واليك بعض ما لاحظته أبان وجودي خارج مصر. لقد مهدت لي خدمتي الاتصال بفئات كثيرة من الشعب المصري. وقد رأيت من أهل شمال الدلتا وخصوصاً (دمياط) رجالا يعملون بالبحار ويواجهون الموت في الحرب الماضية: فقلت لنفسي هؤلاء ثروة لمصر. ألا ترى انهم في حاجة لسياسية تعليمية تتفق مع بيئتهم واستعدادهم؟ فإنشاء مدرسة متوسطة للبحار يفيد هذه المنطقة بدلا من تركهم على الفطرة التي ستنتهي بهم إلى الزوال كقوة بحرية قامت منذ زمن على تجارب ولكنها عتيقة. ثم هؤلاء أكثر ثباتا واستعدادا لصناعة البحر من عناصر تأتي بها. إلى صفوف البحرية من أقاصي البلاد الداخلية بينما نترك الذين خلقوا ليجولوا البحار وكانوا من سلالة شعب بحري لعب دوراً في التاريخ وله وقفات في معارك الحروب الصليبية.
وما يقال عن هؤلاء يمكن أن نقوله عن العمال الزراعيين. إن المدارس الزراعية الأولية والمتوسطة الريفية التي تخرج مختصين لتربية أشجار الفاكهة والعناية الفنية بالماشية أو بالفنون الميكانيكية أهم لدينا من عشرات المدارس الأولية التي لا تعلم شيئاً والتي انتهت إلى أن تكون بابا للرزق ولاستبقاء جزء كبير من الأمة في حال تعطل
إن حاجات البلاد ظاهرة واضحة والشباب المصري من قوة الملاحظة والاستعداد الشخصي ما يمكنه من إتقان الدراسة السهلة التي تلائم البيئة وتدفعه إلى العمل لترقية الصناعة الزراعة ومرافق بلاده والمساهمة في نقلها إلى القرن العشرين
إن السياسة التعليمية التي ترتكز على الاستقرار والثبات هي التي تدفع بالإنتاج المصري إلى أعلى ولا تقف مكتوفة الأيدي فتهبط به إلى أسفل، والتي تجعل من أول أهدافها عظمة
البلاد وتقدمها، والتي تخلق جيلا يعمل بيده ولا يخجل من ذلك، لأن العمران والتقدم في هذا البلد المتخلف عن غيره يمثل رسالة الجيل الناشئ.
إننا نواجه كل يوم مشاكل الطوائف وهي مشاكل ترجع إلى أن خريجي المدارس المتوسطة في الهندسة والزراعة ينظرون دائما إلى المسواة مع خريجي المدارس العالية، بدون أن تقدر مسئولية كل طائفة.
فالكونستابل الذي يخرج من المدرسة لا يعتقد أن مهنته شريفة ولا ينظر إلى أنه يؤدي رسالة للوطن إذا وقف وسط الشارع ليشرف بنفسه على تنظيم المرور، انه يلتمس الأعذار لكي تولى عملا إداريا، وأرد كل هذا إلى أسس التعليم في مدارسنا.
وما يقال عنه يصدق عن كل عمل يتولاه فريق منا خصوصا أبناء المدارس المتوسطة. أنهم ينظرون إلى الوظائف وإلى تسعير الشهادات قبل أن ينظروا إلى عظمة ورسالة المهنة التي يمثلونها.
إنني لا أستطيع أن اسلم بنجاح وتقدم أي سياسة إنتاجية سواء في التصنيع الريفي أو الآلي وسواء في تنسيق الزراعة المصرية على الأسس الحديثة وزيادة غلة الأراضي وهي قابلة للزيادة بشكل لا يمكن تحديده. إذا لم تدعم هذه الدفعة الإنشائية الانتقالية - سياسة للتعليم - تلائم الأوضاع القائمة في مصر، وتشمل على مد هذه الدفعة بعناصر البقاء والاستمرار التطور وهي ممثلة: في إيجاد مجموعة من العمال الصناعيين والزراعيين المحنكين - إذا استعرنا الاصطلاح الفاطمي - لا يقلون في تفكيرهم عن أي مجموع أوربي أو أمريكي.
وفي تهيئة مجموعة من الموظفين الإداريين والمهندسين المختصين لهذه الأعمال يعملون بإخلاص.
إن حركة الصناعة لا تزال في دورها التمهيدي والتحضيري، وكذلك الإنتاج الزراعي المصري لا يزال متخلفا عن غيره بل لا نبالغ إذا قلنا أنه لا يزال بدائيا.
وأكبر ما يؤخر نهضة البلاد هو أننا لا نزال نسير على غير هدى في التعليم: والسياسة التعليمية الراسخة الثابتة هي التي تخرج طبقات الأمة العاملة المنتجة التي نعرف كيف نجعل من العلم قوة ثائرة منظمة لتقطع مراحل التخلف التي تركتنا فيها الأجيال التي تقدمتنا. ومن حقنا أن نقول إنها سارت على غير هدى وكانت مقصرة في نهضة البلاد
وخلفت تركة محملة بالأثقال.
أحمد رمزي
من الحوادث الأدبية
يهرب من الحج
للأستاذ محمد سيد كيلان
لما عزم الخديوي عباس على أداء فريضة الحج في شتاء سنة 1909 قرر أن يصطحب معه فيمن خاصته شاعره الكبير أحمد شوقي. ولكن الشاعر كان في سريرته لا يرغب في أداء هذه الفريضة المقدسة ولم يستطع أن يصرح للخديوي بذلك.
فتظاهر بالموافقة وركب القطار مع أفراد الحاشية حتى إذا وصل الركب العالي إلى بنها غادر شوقي القطار خفية وانسل من بين الحاضرين دون أن يشعر به أحد؛ وذهب إلى منزل أحد أصدقائه بينها وقضي فيه مدة من الزمن ثم رجع إلى القاهرة وأخذ الخديوي وأفراد حاشيته يتفقدون شوقيا ولكن على غير جدوى. فلما رجع الخديوي من الحجاز وسأله عن السر في ذلك أجاب: كل شئ إلا ركوب الجمال يا أفندينا. وهذا عذر ضعيف يدل على استهتار بأداء الفرائض الدينية التي من بينها الحج. ولم يكن شوقي أكثر ترفا من بقية الحاشية. فإذا كان الخديوي عباس تحمل مشاق السفر فكيف عجز عنها شوقي؟ بل إذا كانت أم المحسنين ومعها وصيفاتها تحملت مشاق السفر فكيف عجز عنها شوقي؟ الحق أن تعليل هربه من أداء فريضة يصبوا إليها كل مسلم ومسلمة لا يدل على شيء سوى استهانة بأمر الحج. وشوقي كان إذ ذاك في ريعان شبابه تلوح عليه نضرة النعيم. وكان يقيم في دار بالطرية الحفلات الساهرة الراقصة حيث الكأس والطاس وغير ذلك مما لا داعي لذكره. ولم يقعده عن هذه الحفلات ضعف فكيف قعد عن أداء تلك الصحة؟ قال للخديوي: كل شئ إلا ظهور الجمال يا افندينا. وهذا ليس بعذر مقبول لأننا نعلم أن الشاعر كان يركب ظهور الحمير في القاهرة ويقطع بها مسافات طوالا. ثم إن سكة حديد الحجاز كانت قد افتتحت في ذلك الوقت وكان الناس يستقلون قطاراتها إلى المدينة. فلم تكن المسافات التي كان من المقرر أن يقطعها الشاعر بالجمال سوى تلك التي بين جدة ومكة والمدينة. ثم إن الركب الخديوي كانت به وسائل الراحة التامة. فنرى من ذلك أن هذا العذر لا يصح أن يقوم دليلا على عجز الشاعر عن تأدية الفريضة.
وهو يتمنى أن تكون هناك سيارة أو طائرة لتقرب إليه البعيد وتسهل أمامه السبيل. قال:
ويا رب هل سيارة أو مطارة
…
فيدنو بعيد البيد والفلوات
ولكنه هو القائل قبل ذلك في الطائرة (أركب الليث ولا أركبها) أما السيارات فقد أدرك عصرها. ولكنه لم يستقلها لأداء الفريضة.
والآن بعد أن ناقشنا هذه الأعذار وبينا أنها متكلفة وأن الشاعر أتى بها ليبرر استهانته بالحج، ننتقل إلى أبيات من قصيدته التي مدح بها الخديوي عباسا عقب عودته من الحجاز والتي مطلعها
إلى عرفات الله يا ابن محمد
…
عليك سلام الله في عرفات
أما الأبيات التي نريد أن نقف عندها فهي
ويا رب هل تغني عن العبد حجة
…
وفي العمر ما فيه من الهفوات
وتشهد ما آذيت نفسا ولم أضر
…
ولم ابغ في جهري ولا خطراتي
ولا غلبتني شقوة أو سعادة
…
على حكمة أتيتني وأناة
ولا جال إلا الخير بين سرائري
…
لدى سدة خيرية الرغبات
ولا بت إلا كابن مريم مشفقا
…
على حسدي ستغفرا لعداتي
ولا حملت نفسي هوى لبلادها
…
كنفسي في فعلي وفي نفثاتي
وإني ولا من عليك بطاعة
…
أجل وأغلى في الفروض زكاتي
أبالغ فيها وهي عدل ورحمة
…
وبتركها النساك في الخلوات
هذه الأبيات وليدة هربه من الذهاب إلى الحجاز. وفيها يبرر عزوفه عن أداء فريضة الحج بمبررات واهية ضعيفة لا تستقيم مع أحكام الدين الحنيف ولا تنهض حجة أمام رجل حريص على أركان الإسلام، محترم لشعائره التي منها الحج. فلا طيبة النفس ولا حب الوطن، ولا الإشفاق على حساده ولا الزكاة ولا أي شئ مما ذكره يغني عن الحج ويقوم مقامه. فشوقي في هذه الأبيات يستوحي العقل ويحتكم إليه ضاربا بأحكام الشريعة الغراء عرض الحائط.
والشيء الذي لا مراء فيه أن شوقيا كان مهملا لفرائض الدين عدا الزكاة. فلم يعرف عنه أنه دخل مسجدا أو صام يوما يكفر عن سيئاته ويخفف به أوزاره. وكان في حياته ماجنا خليعا مفرطا في شرب الخمر مرسلا نفسه على سجيتها. ولو أن شوقيا نشأ في وسط حر
طليق كواحد من عامة الشعب لظهر أثر الخلاعة والمجون في شعره بشكل فاضح لا يقل عما وصل إليه شعراء الخلاعة والمجون في العصر العباسي. ولكنه نشأ في وسط رسمي أرستقراطي فكان شاعر الخديوي ومادح السلطان عبد الحميد أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين. لذلك اضطر أن يضع حدا فاصلا بين حياته كفرد وحياته كشاعر.
فقد كان ينظم القصيدة - وهو ثمل - فلا ترى فيها غير البكاء على ما أصب الإسلام والمسلمين والدعوة إلى النهوض والاتحاد تحت لواء الخلافة والحث على التمسك بالفضائل ومكارم الأخلاق حتى لتحس كأنك أمام واعظ يهدي إلى سبل الرشاد. كان يفعل هذا عقب انصرافه من مجلس خمر أو مجلس خلوة يرتكب فيها فاحشة
فعدول الشاعر عن الذهاب إلى الحجاز لم يكن سببه الضعف ولكنه كان حلقة من حلقات إهماله لفرائض الإسلام. أما الزكاة التي يتحدث عنها الشاعر ويقول إنه يبالغ في أدائها فهي أيسر الفرائض على أمثاله من الأغنياء، إذ لم يكن يتكلف فيها مجهوداً ومبالغته في الزكاة يرجع إلى سبب نفسي هو اعتقاده بأن هذا العمل يعفيه من تأدية الفرائض الأخرى، ويجعل كفة حسناته ترجح كفة سيئاته ويغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولا فائدة لنا من مناقشة هذا الرأي وإظهار فساده.
على أن هرب شوقي من أداء فريضة الحج قد دفعه إلى نظم قصيدتين أجاد فيهما إجادة تامة. أما القصيدة الأولى فهي الهمزية النبوية. وأما الثانية فهي نهج البردة. وقد عنى في هاتين القصيدتين بالرد على أعداء الإسلام من المبشرين والمستشرقين. ومثال ذلك قوله حاكيا بعض المستشرقين
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا
…
القتل نفس ولا جاء والسفك دم
ورد على هذا الرأي بأبيات منها
جهل وتضليل أحلام وسفسطه
…
فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
سل المسيحية الغراء كم شربت
…
بالصاب من شهوات الظالم الغلم
لولا حماة لها هبوا لنصرتها
…
بالسيف ما انتقمت بالرفق والرحم
ثم أخذ بعد ذلك ينفى موضوع الصلب ويرفع من شأن الإسلام والمسلمين ويتغنى بماضيهم المجيد. والقصيدتان بالرغم مما فيهما من المحاكاة والتقليد تمتازان بظهور الطابع الحديث
عليهما ظهورا تاما وبخاصة الهمزية.
محمد سيد كيلاني
أستاذ الدعاة وزعيم المصلحين
شيخ الإسلام ابن تيمية
- 2 -
للأستاذ عبد الجليل السيد حسن
جهاده:
عاش ابن تيمية في أواخر القرن السادس الهجري وأوائل السابع، وقدمني العالم الإسلامي بكارثتين عظيمتين، لولا متانة أركانه لأتت عليه: الكارثة الأولى هي الحروب الصليبية، والثانية: هي الغارة التترية البربرية، وفي هذه المدة كانت الحروب الصليبية قد انتهت، وبدأت غزوات التتر تكثر وتشتد وتتوزع حتى عمت العالم الإسلامي.
ورأى ابن تيمية كل ذلك، وشاهد هذه الاغارات، وما كان في طوق مثله أن تمر عليه هذه الأحداث ولا يلقى إليها بالا كغيره من علماء هذا العصر الذين شغلتهم مناقشات لفظية لا طائل تحتها؛ وهو العبقري الذي تتلخص روحه في أنه غيور إلى أقصى حدود الغيرة على الإسلام والمسلمين؛ فوحد إلى أقصى حدود التوحيد في العقيدة مع كل ما يتبع هاتين الخصلتين من توابع.
انغمس ابن تيمية في تيار السياسة الإسلامية لأنه رأى أن حال المسلمين لن تستقيم. ما دامت سياستهم مموجة والإسلام عنده دين ودولة؛ وأبرز جوانبه السياسية العلمية دائب الحركة، يذهب إلى الأمراء والسلاطين، يستحثهم على الجهاد في سبيل الله، فيوما في مصر ويوما في الشام، ويوما عند هذا الأمير ويوما عند ذاك يذكى بروحه روح الجهاديين القواد والجند؛ يقف في المعركة فتارة يصول بسيفه، وأخرى يشجع الهالع ويثبته ويبشره ويظهر للناس فضل الجهاد ويحثهم عليه. هو قائد ملهم، يحارب في فتح (عكة) حتى يقال إنه بمشورته وفعله؛ فتحتها المسلمون.
يفتح التتار بقيادة (غازان) ملك التتار حينذاك - دمشق - ويعلم ملك الكرج، وهو أعدى أعداء الإسلام بذلك فيبذل لغازان النصار كي يمكنه من المسلمين في (دمشق)؛ ويعلم الشسخ بذلك، فيثور ويهب يبث الحماس في نفوس المسلمين، ويشجعهم ويمنهم بالنصر
والظفر؛ ويروح بجمع الكبراء والوجهاء للذهاب إلى غازان، وهنا تتجلى قوة الشيخ وشجاعته التي قل نظيرها في التاريخ.
. . . تقدم الشيخ الجماعة؛ فلما حضروا مجلس غازان وقدم الطعام، رفض الشيخ أن يأكل دون الجماعة، فقيل له (لم لا تأكل؟ فقال الشيخ:(كيف آكل من طعامك وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس. .!!).
. . . جلس الشيخ. . فكان يقرب من غازان سلطان التتار، وخليفة جنكيز خان، حتى تكاد ركبته تلاصق ركبته. . ويتكلم الشيخ فيعلو صوته على صوته؛ ورغم كل ذلك كان غازان مصغيا إليه مقبلا عليه، وأخذ الشيخ محدثه في كيف يسلط ملك الكرج على المسلمين، وللمسلمين حرمة، ودمهم حرام، وأخذ في وعظه وتذكيره وكان غازان قد أسلم، وهو أول من أسلم ن سلاطين التتار وطفق الشيخ يخاطبه بعنف وثبات أدهش غازان وأرهبه. . يقول الشيخ له (أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون - على ما بلغنا - فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين، وما عملا ما عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت وجرت).
ريع غازان بهذا الشيخ الجريء المهيب فسأل: من هذا الشيخ فأنى لم أر بين العلماء مثله، ولا أثبت قلبا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، وما رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه فدل على مكانة الشيخ وعلمه، وقد أجاب غازان الشيخ إلى ما طلب، فحقنت دماء المسلمين.
ولما هم بالانصراف طلب غازان منه الدعاء. . فقال الشيخ في دعائه: (اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قائل لتكون كلمة الله هي العليا وجاهد في سبيلك، فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فأن تفعل به وتصنع). . فكان يدعو عليه وغازان يؤمن على دعائه (يلاحظ أن التخاطب بينها كان عن طريق المترجم) وخاف من كان معه، واضطربوا حتى أنهم كانوا يجمعون ثيابهم خوفا من أن يقتل فيطرطش بدمه.
وفي عام سبعمائة رجع غازان للاستيلاء على الشام؛ فطار الشيخ على البريد إلى مصر واجتمع بأركان الدولة وحثهم على الجهاد، وحض عليه، ودعا الناس إليه، وأخذ يخطب في مصر مذكرا الناس بالجهاد وفضله، وبما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث.
رجع الشيخ إلى دمشق. . ولكن معه جيش من الغزاة المجاهدين، لملاقاة الأعداء الذين
تجمعوا جماعات اتحدت على النيل من المسلمين. . ولكن الله حاربهم بالثلج والبرد والريح العاصف، فأعاق ذلك كله غازان وجنده فانصرفوا خائبين. . فأرسل الشيخ يقول: إن الله صرف العدو بثبات قلوب المسلمين وصدق نيتهم.
وفي سنة اثنتين وسبعين، كانت موقعة (شحقب) المشهورة بين التتار والمسلمين، وكانت موقعة فاصلة تعد من المواقع الحاسمة في التاريخ الإسلامي، وتعتبر كموقعة (عين جالوت) من حيث الأهمية، فأما نصر يزيل الغمة، وإما هزيمة تورث الذلة.
وحشدت القوات الإسلامية، وحضر الموقعة السلطان الناصر والخليفة، وكان ابن تيمية الداعية الأكبر للجهاد في العالم الإسلامي فكان يحض الناس ويحثهم ويستنفر الأمراء والعساكر، وما اكتفي بالدعوة للجهاد، حضر الموقعة، وجاهد بسيفه في الصفوف الأمامية، وطلب الاستشهاد ففر منه الموت، يسأل الشيخ الشجعان، ويجزع السلطان الناصر والخليفة إلا ابن تيمية، فهو ثابت واثق من نصر الله، يعدهما بنصره ويأمرهما بالتوكل عليه.
وتنكشف الغمة، وينصر الله المسلمين على عدوهم، ويذيع خبر شجاعة الشيخ بين المسلمين وجهاده، ويزداد الناس من الالتفاف حوله، والتبرك به، ويكثر أتباعه، ويطريه القوم، ويمدحون شجاعته، فيقول لهم متواضعا (أنا رجل ملة، لا رجل دولة).
وكان هناك. . خطر سري أعظم من خطر التتار والصليبيين، في قلب العالم الإسلامي ذاته: هو خطر هذه الطوائف السرية التي ظهرت من قبل ذلك، والتي كان من بين ثمارها (الدولة الفاطمية) وكم نال هؤلاء من الإسلام والمسلمين، فتارة يقتلون الحجاج، ويرمونهم في بئر زمزم، وأخرى يأخذون الحجر الأسود ويبقى عندهم مدة. وكانت هذه الحركات تبدو تحت أسماء مختلفة، كالإسماعيلية والقرامطة الباطنية والنصيرية.
وكان أهل جبل كسروان في الشام، من هذه الطوائف، وقد استفحل خطبهم، فتوجه الشيخ إلى هذا الجبل لقتالهم، وكتب إلى أطراف الشام في الحث على قتالهم، وأنهم غزاة في سبيل الله. . ثم ذهب، ومن معه من الرجال، ومعهم ولي الأمر نائب المملكة إلى الجبل لغزوهم واستمروا في حربهم وحصارهم، حتى فتح الله الجبل، وأجلوا أهله، وكتب أبن تيمية إلى السلطان يخبره بالفتح، وأنهم قوم أكفر من اليهود والنصارى، يعتقدون في عصمة علي، وكفر الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يقرون بصيام، ولا صلاة، ولا جنة، ولا نار ولا
يحرمون الدم والميتة ولحم الخنزير. . وغير ذلك.
وبالطبع، كان لا بد أن يوجس أولو الأمر منه خيفة، ويراقبوه، لأن قلوب الناس كانت معه، فلو طلب الملك ما بعد عنه، وأتباعه في كل مكان كثيرون، ولعل هذهالأسباب السياسية تبرر ما زال الشيخ من اضطهاد لأسباب دينية تتعلق بالعقيدة، وتدخل أولى الأمر فيما اعتوره من حبس وإطلاق، واعتقال وفكاك. ويتضح ذلك مما جرى بينه وبين السلطان الناصر، رغم إكبار الناصر للشيخ.
وشي عند السلطان الأعظم الملك الناصر، في حق ابن تيمية فطلبه السلطان، ولما حضر بين يديه قال من جملة كلامه معه: إنني أخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك) فلم يكترث الشيخ وقال بجنان ثابت ونفس مطمئنة، رغم أنه لا يدري أيخرج من هذا الموقف، ورأسه فوق جسمه أم فوق النطع:(أنا أفعل ذلك!! والله إن ملكك وملك المغول، لا يساوي فلسا عندي) فتبسم السلطان وقال مجلاله: إنك والله لصادق)
دعوته وآثارها:
كان ابن تيمية نسيج وحده في دعوته، وكانت دعوته دعوة فريدة بين الدعوات الإسلامية أيضا: كان من الضروري وجود أبن تيمية على أرض هذه الدنيا الإسلامية، بعد أن تغيرت أشياء في جوهر العقيدة، وبعد أن وجدت فرق، وتعددت دعوات، وكلها لم تجعل كتاب الله وسنة نبيه إمامها، بل سلطت التأويل على الكتاب والسنة حتى تغيرت الآيات بتغير التفاسير والتأويلات، فكان من عناية الله أن أرسل هذا العبقري الذي رجع بدينه إلى حقيقته الأولى وبساطته، وأوضح ذلك بكتب خالدة، فكانت عقيدة ابن تيمية توحيدا خالصا غير مشوب بشرك على أي صورة كانت، واستعادة لبساطة الدين ويسره. . . كل ذلك في حدود الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، ولذا كان أبن تيمية في التفسير إليه المنتهى، وفي الحديث لا يلحق، ويشهد على ذلك كتبه في التفسير والحديث.
عاش ابن تيمية، في عصر شاعت فيه الخرافات عند العامة، واستحكم فيه الجمود عند العلماء، وذاع فيه التقليد بين الفقهاء.
وكم كان سد باب الاجتهاد نكبة على الإسلام والمسلمين، وكم كان سببا في عدم انطلاق المدينة الإسلامية، في طريقها الذي اختطنه، وكم وقف سدا حائلا بينها وبين التطور
والارتقاء -، فأتى ابن تيمية يدعو إلى أن الاجتهاد غير مقصور إلى الأئمة السابقين، بل إنه باب مفتوح المصراعين لمن حاز شروطه المعقولة. وكان هو نفسه مثالا للمجتهد المطلق، فليس شرطا لازما أن لا يحيد الإنسان عما قاله الأئمة الأربعة ما دام سنده الكتاب والسنة؛ ويؤيده العقل الراجح.
ولقد كان ابن تيمية لا يتقيد في فتاويه بمذهب من المذاهب الأربعة، ولا رأى إنسان أيا كان، إلا بكتاب الله وسنة نبيه. وعنده أن من خالف الإجماع فيما لم يرد فيه نص ليس بكافر، وباب الاجتهاد مفتوح لن حصل أدواته، وما كان ابن تيمية جامدا بل كان يستعين بالقياس فوق ذلك.
تنحصر دعوة ابن تيمية التي جاهد واضطهد من أجلها، في مبدأين اثنين، الأول: إفهام الناس حقيقة معنى (لا اله إلا الله) فلا يعبد ولا يدعى إلا الله، ولا ينفع ولا يضر إلا هو، ولا يملك أحد من الأمور العباد شيئا، فلا نبي ولا ولي ولا شيخ يملك من أمر العباد مثقال ذرة، ولا يقصد بحاجة إلا الله، ولا يغيث إلا الله والثاني: محاربة كل ما كان سببا في ضعف المسلمين، فجاهد في السياسة، وهاجم الأشياء التي كانت سببا في فرقة المسلمين، ودعا إلى نبذ ما جعلهم شيعا وأحزابا. ومن هذه الناحية كانت عداوته للفلسفة التي علمت الناس الجدل الذي ذهب بريح المسلمين، وكون منهم معتزلة، ومشبهة، ومجسمة، ومتصرفه وملحدة. . وغير ذلك من الفرق، ولهذا أيضا، كانت مهاجمته للفرق الإسلامية بلا استثناء.
وننحن لا نريد أن نعرض إلى آراء ابن تيمية تفصيلا، فإن ذلك يقتضينا جهدا كبيرا، وإنما نريد أن نعرض إلى النواحي التي امتاز بها ابن تيمية، والتي كانت سببا فيما نقمه الناس من أمره، والتي لولاها ما نال من اضطهاد ما نال، وخلود ذكر. وهي ثلاثة أشياء نعمتها عليه الناس، الأول: في زيارة القبور؛ والثاني: اتهامه بالتجسيم، والثالث: إفتاؤه في مسألة الطلاق.
أرسل الله الرسل لنعبده، لا نشرك به شيئا، فلا يدعو أحد أحدا غير الله (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا قي الأرض. . . وما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير)(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له) فعبادة الله وحده هي أصل الدين. . . وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب.
فالذهاب إلى قبور الأنبياء والتمسح بها، والتمرغ على أعتابها شرك صريح. . وزيارة المشاهد الدينية، والسفر إلى المقابر حرام، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا،. ولا تبنى المساجد على القبور - (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (يحذو ما صنعوا) - وإن بينت فلا يجوز فيها الصلاة. والخلاصة: أن زيارة القبور إذ كانت بمواعيد ومراسيم ورحلة فهي حرام، أما زيارة قبر المسلم بقصد العظة والاعتبار فلا شئ فيها، وأما ما يعمله العامة من تعظيم القبور، والتمسح بها، وإن كان ذلك بقبر الرسول فهو شرك يستتاب صاحبه وإلا قتل،. . وأولياء الله هم المتقون المؤمنون (فمن اعتقد في بشر: أنه إله أودعا ميتا، أو طلب منه الرزق والنصر والهداية، وتوكل عليه أو سجد له، فإنه يستتاب. . فإن تاب وإلا ضربت عنقه)، وما ابن تيمية يبدع في دعوته هذه، فقد تابع فيها النخعي والشعبي.
انهم أبن تيمية بالتجسيم، حتى أن (دائرة المعارف الإسلامية) تقول: إنه كان مسرفافيه، ولذا كان يفسر الآيات حرفيا. وما كان ابن تيمية مجسما، وهو الذي حارب المجسمة والمشبهة والمعطلة بل أراد أن يقطع هذا الجدل الذي سبب الفرق بين المسلمين. .
فمن قائل أن ما ورد في الكتاب من نحو: يد الله، ووجه الله وعرش الله لا يؤخذ على ظاهره بل يؤول، وتتبذ به الناس بين ناف لصفات الله، ومثبت لها؛. . كل ذلك جعل ابن تيمية يرجع بالعقيدة إلى نقائها الأول الذي لا تعقيد فيه؛ ويدعو إلى عقيدة السلف رضوان الله عليهم. . فكان يكره التأويل، مبالغاً في الإثبات بما ورد فالكتاب والسنة، مؤمنا بالتشابه من الآيات، يبرئ من التشبيه والتجسيم والتمثيل؛. . (فالله فوق عرشه. معنى حق، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة؛ والله فوق سماواته على عرشه على خلقه رقيب عليهم. فعقيدته (الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله. من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل به.
أما مسألة: الحلف بالطلاق التي خالف فيها الأئمة الأربعة فهي كأن يحلف رجل بإطلاق ثم يقع يمينه فيكفر عنه كأي يمين عادية، ولا يعد طلاقا؛ وذلك مثل: لو أن رجلا حلف على أخيه بالطلاق أنه لن يعطيه هذه الحاجة. . ثم أعطاها له، فإن طلاقه لا يقع، لأنه ربما امتنع عن إعطائه ذلك لسبب. . ثم زال؛ أو فعل ذلك ناسيا أو متأولا؛ أو حلف بذلك من
أجل صفة. . ثم تبين خلافها فعنده أن الطلاق الثلاث لا يقع. وقد دعا ابن تيمية إلى مهاجمة المسيحية واليهودية؛ لأن الإسلام إنما أتى ليحل محلهما، وقد أوقف على ذلك أربعة كتب وهي (1)(الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)(2)(تخجيل أهل الإنجيل)(3)(الرد على اليهود والنصارى) إبرلين رقم 2084) (4)(الرد على النصارى)(فهرس المتحف البريطاني رقم 865، 1).
ولقد خالف ابن تيمية الفقهاء في مسائل كثيرة وقال فيها برأيه. وقد ذكر صاحب (الكواكب الدرية) له خمسة عشر قولا مما خالف فيها ابن تيمية الإجماع، أو الأقوال المشهورة. وقد قالوا إنه طعن في رجال يعتبرون حجة في الإسلام كعمر وعلي، ولكنه في الحقيقة لم يطعن فيهم، بل طعن في الغلوقي تعظيمهم بحيث يضاف إليهم من الأفعال مالا يضاف إلا إلى الله. . كما فعلت الشيعة مع علي بن أبي طالب،. . وقد هاجم ابن تيمية الفلاسفة والمتصرفة عموما. . . وهو يكفر الاتحادية وابن العربي خاصة.
وابن تيمية: زعيم (الإصلاح الاجتماعي الديني في الإسلام غير مدافع؛ فهو شيخ المصلحين الإسلاميين على الطلاق وإمامهم.
فلقد أثر ابن تيمية في علماء عصره ومصلحيه، ومن جاء بعده منهم من الأتباع، وحسبنا أن تلميذه هو (ابن قيم الجوزية) ومنذ أوائل القرن التاسع عشر ظهرت الدعوات الإصلامية في الإسلام؛ فظهر (محمد بن عبد الوهاب) في الحجاز، زعيم المذهب الوهابي وما كان محمد بن عبد الوهاب إلا مبعوثا. لتأدية رسالة ابن تيمية واستمرار الدعوته. . وقد عرف ابن عبد الوهاب الشيخ عن طريق دراسته الحنبلية، لأنه كان حنبلي المذهب وكذلك كان ابن تيمية، وقد اتصل ابن عبد الوهاب بعلماء دمشق الحنابلة منهم، وشغف بابن تيمية، وشفل بدراساته وأعجب به. بخط (محمد عبد الوهاب،. . ولقد هاجم ابن عبد الوهاب فدعا بدعوته. وفي المتحف البريطاني بعض رسائل ابن تيمية الأولياء. والمشايخ والقبوريين، مثل أستاذه. ودعا إلى هدم الأضرحة، والى التوحيد الخالص، وإلى فتح باب الاجتهاد، كما فعل أستاذه تماما، ومن جراء ذلك رمى ابن عبد الوهاب كما رمى أستاذه بالكفر.
ولقد كانت دعوة ابن عبد الوهاب التيمية. . بدء الدعوات الإصلاح الديني في الشرق الإسلامي، فقد تأثر بها زعماء الإصلاح في الشرق الإسلامي. . ونادوا بالإصلاح الديني
وفقا لدعوة الرسول مع اختلاف الدعوات باختلاف الدعاة والأقطار، ولكن جوهر هذه الدعوات هو الإصلاح الذي وضع أساس مبادئه ابن تيمية.
فظهر في المغرب الشيخ أبو العباس التيجاني، والإمام السنوسي، وفي مصر الشيخ محمد عبده، وفي اليمن: الإمام الشوكاني. . العلامة الفاضل الذي دعا بدعوة ابن تيمية وشرح كتابه (نيل الأوطار)،. . . ولقد أوذى هؤلاء جميعا بما لا يغيب عن الأذهان. وفي الهند أخذ الدعوة الوهابية، الزعيم الهندي الوهابي (السيد أحمد (1782 - 1831) - وهو غير الزعيم الهندي (السيد أحمد خان (1817 - 1898) - أثناء حجه إلى البيت الحرام، وقد نشر الدعوة الوهابية في الهند، ولاقى الإنجليز منه الأمرين.
هذا. . . ولن تخلو دعوة إسلامية يريد دعاتها الإصلاح الديني حقيقة من الرجوع إلى دعوة ابن تيمية ومبادئها.
وقد وصلنا من كتب ابن تيمية 64 مؤلفا، بين رسالة وكتاب؛ وقد طبعت له تسع وعشرون رسالة في القاهرة سنة 1323 تحت عنوان (مجموعة الرسائل الكبرى). وجل كتبه مطبوع عدا بعض رسائل متفرقة في مكتبات أوروبا.
عبد الجليل السيد حسن
حول مقال
محمد رشيد رضا
لصاحب الفضيلة الأستاذ حامد محيسن
قرأت بإمعان مقالة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الجليل عيسى، في مجلة الرسالة الذائعة، في ذكرى عالم ومصلح، هو السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار رحمه الله؛ فعنت لي ملاحظات أحب أن أسجلها للقراء على صفحات الرسالة. وإن كانت هذه الملاحظات لا تبخس الكاتب قدره، بل إنما تدفعنا إلى أن نضاعف شكره.
وأهم هذهالملاحظات هي:
أولا: أخذ الكاتب الأفكار التي دونها في مقالته من كلمة الشيخ الزنكلوني في حفلة تأبين السيد رشيد رضا التي أقيمت بدار الشبان المسلمين عام 1939، وكنت حاضرها بصحبة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، وكانت الحفلة برئاسته. وقد نشرت كلمة الشيخ الزنكلوني في الصحف كلها حينذاك ومنها الجهاد (عدد 3 إبريل عام 1936 ميلادية) وهو تحت يدي الآن. وقد ألفاها بالنيابة عنه في الحفلة فضيلة الشيخ محمود شلتوت. وإن شئت فاستمع لهذا الاتفاق الظاهر!
قال المرحوم الشيخ الزنكلوني في أسلوب ساحر أخاذ: (طلاب الشيخ - محمد عبده - جميعا كانوا يغترفون من بحر واحد، وإن تفاوتت مراتب جهودهم واستعدادهم). فقال الكاتب: وبالرغم من كثرة المستمعين للشيخ محمد عبده، وتفاوت درجاتهم في الذكاء والتحصيل؛ فإن أحدا منهم لم تعمل فيه آثار الشيخ أقوى مما عملت في السيد رشيد، فكانوا على ضروب وأنواع - ثم أورد حديثا للبخاري وقال إثر ذلك - كذلك كان تلاميذ الشيخ محمد عبده: منهم من لم ينتفع في نفسه، لأنه مجدب الطبع، سبخ التربة؛ ومنهم من نفع غيره، فنقل مبادئ الشيخ لغيره، وإن كان هو لم ينتفع بها، أو قل انتفاعه؛ ومنهم من انتفع في نفسه وعم نفعه وغيره الخ). فالفكرة هي الفكرة ولكن الشيخ الزنكلوني عرضها عرضا سليما، من حيث أطنب الأستاذ، وذكر حديث البخاري دون مناسبة، وقاس أصحاب محمد عبده بأصحاب الرسول الأعظم، وأخطأ في عده من لم ينتفع بدروس محمد عبده ولم ينفع غيره نوعا من أنواع تلاميذ الأمام. ولا ندري معنى تعبيره في هذا المقام بقوله: (لأنه
مجدب الطبع سبخ التربة)؛ وبقوله: ضروب وأنواع)
وقال الزنكلوني: (كان لصاحب المنار منذ عرفته مصر وجود قوى، وشخصية بارزة، امتد صوتها إلى الأقطار العربية والأقطار الشرقية، بل كان لهذا الصوت أثر في بعض الأمم التي ليست شرقية ولا إسلامية الخ). فقال الكاتب: (اتخذ من المنار منبرا يدوي منه صوته في جميع بقاع الأرض في جاوة وسومطرة والهند والصين شرقا إلى أوروبا وأمريكا غربا)
وقال الزنكلوني: (ولما هوجم الأستاذ الإمام في آرائه الدينية والإصلاحية أخذ السيد رشيد يواجه خصوم الشيخ بقلمه ولسانه وينشر في محلة المنار آراء أستاذه واتجاهاته وكان يتلقاها من دروس شيخه، وما كان يعلق عليها بعبارات من عنده تدل على كمال الفهم واستقلال الفكر). فقال الكاتب: لم يكن هذا التلميذ - السيد رشيد - مسجلا لأفكار شيخه فحسب، بل كان مع ذلك مناقشا وممحصا وموجها). وقد أراد الشيخ أن يعبر عن كلمة الزنكلوني:(اتجاهاته)، فقال:(موجها)، فأخطأ فهم ما أراده الزنكلوني، كما أخطأ التعبير عنه. فهل كان السيد رشيد موجها لأستاذه؟ كلا، لأن العبارة الصحيحة عن ذلك أن يقال:(كان ينافس آراء أستاذه ويمحصها ويوجه الجمهور على هداها) مثلا
وقال الزنكلوني عن السيد رشيد: إنه كان من الأفذاذ الذين بخل التاريخ بالكثير من أمثالهم، ولعل أكبر شاهد على ذلك أن مهمة السيد رشيد لم يستطع إلى الآن أن يقوم بها فرد أو جماعة على كثرة العلماء والكاتبين. فقال الكاتب:(كل ذلك كان يقوم به وحده، فحقاً إن السيد محمد رشيد أمة، وغير ذلك من صنع رجل واحد، فإنه عندما جاور ربه حاولت هيئات كبيرة وجماعات محترمة أن تخرج للناس مجلة تسد فراغ المنار فلم يستطع أحد منهم على كثرتهم). وفي العبارة رغم ذلك قلق واضطراب كثير.
وقال الزنكلوني: وكان آخر آية فسرها من سورة يوسف ومات على أثر تفسيره لها قوله تعالى: رب قد آتيتني من الملك الخ. فقال الشيخ عبد الجليل مخاطبا السيد رشيد: ألم يكن من علامات قبولك أن آخر آية من كتاب الله سطرت شرحها بخطك هي قوله تعالى: رب قد آتيتني من الملك الخ.
ثانيا: ومحور المقالة رمى كبار علماء الأزهر بمحاربة السيد رشيد ومعاداته، وإن شئت فاستمع قوله: كنت أعلم أن كثيرا من علماء الأزهر خصوصا الكبار منهم كانوا يحيطون
السيد رشيد بهالة من الشك في تدينه، رغم أنهم لم يجالسوه أو يختبروا علمه أو حتى يكلفوا أنفسهم قراءة كتبه؛ ثم يذكر قصة ثلاثة من كبار علماء الأزهر تحايل كما يقول عليهم حتى ذهب بهم للمنار وحدثوا صاحبه وحدثهم، فأنكره البعض وعرفه الآخرون. ويقول الكاتب أيضاً؛ وكان السيد رشيد يحارب في ميادين أخرى علماء جاهلين مقلدين الخ.
أليس في ذلك ظلم للتاريخ، وجور على العلماء الذين عرفوا السيد رشيدا وأحبوه وشجعوه وأحاطوه بالإكبار؟ وإن مجالس السيد رشيد لم تخل يوماً من العلماء، كبارهم وصغارهم على السواء. ولا ينسى الكاتب التنويه بنفسه وأنه كان وحده من بين العلماء على صلة معروفة بالسيد رشيد؛ على ممر الأيام، فلم تقف في حفلة تأبيته راثيا مع الواقفين من أمثال الزنكلوني والعدوى والهراوي وعبد الله عفيفي وشهبندر ومحمد لطفي جمعة وغيرهم، بل ولم تكتب عنه إلا الآن؟
ثالثا: وفي المقالة تعبيرات طريفة مثل: ذهب مع الريح، صار شبيها بشريط تسجيل، وهي قذائف لا تكلف صفير النفس إلا أن يرسلها من فمه، كأن الأحاديث كانت في طبق أمامه يلتقط منها ما يريد، يحيطونه بهالة من الشك في تدينه، هذا العملالذي سجله السيد رشيد ألخ.
رابعاً: وفي المقالة أساليب وكلمات غير مستساغة ولا مقبولة لغة أو ذوقا،:
مثل قوله: العالم المصلح الذي يمكن الاستفادة منه، وصحتها الإفادة.
وقوله: أزكى فيه روح الثورة، وكررها بالزاي أيضا فقال: بجرأة وشجاعة أزكاها النفي والتشريد. والكاتب يقلم أنه يقال (أذكي النار: أشعلها، وأذكى الله المال: أصلحه وطهره، والمعنى الأول هو المناسب هنا فكان الأولى كتابيهما بالذل لا بالزاى.
ومثل قوله: ينفخ فيهم من روح اليقظة ما فتح عيونا عميا، وما هنا مفعول، ونفخ لا تتعدى بعد الجار والمجرور إلى مفعول، يقال: نفخ في النار ونفخها، ولا يقال: نفخ في النار ما جعلها تضئ في البيت مثلا، وإن كان يقال: مما جعلها تضئ.
ويقول في كبار علماء الأزهر الذين احتال عليهم حتى يلتقي الجمعان؛ والقارئ يعرف إذا كانت تصح هنا كلمة هذه الكلمة أولا تصح، وليرشدنا الشيخ الجليل إلى معنى كلمة الجمعين هنا.
ويقول: أكتفي بذكر حادثة وقعت لي أنا شخصيا، وهو تعبير عامي مرذول.
ويقول في الأفغاني: فصار ينفخ فيهم من روح اليقظة ما فتح عيونا وآذانا صما، مما اعتبره الباحثون عود ثقاب أشعل به نارا على المستعمرين. والأسلوب يقتضي أن يقال: أشعلت به النار، ببناء الفعل للمفعول.
خامسا: وفي المقالة أخطاء تاريخية مثل قوله: (وهذا - أي الرمي بالزندقة - سلاح قديم حورب به الأنبياء والمصلحون ألم يقل ورقة بن نوفل للنبي (ص): ما جاء أحد يمثل ما جئت به إلا أوذى؛ وكذلك ذاق البخاري والغزالي) فهل رمى بها الأنبياء قبله، وهل رمى بها البخاري والغزالي؟ أليس ذلك افتراء على التاريخ؟
ويقول كان السيد رشيد يحارب سلاطين جائرين، وحاكمين ظالمين. والتاريخ ينبئنا أن السيد رشيد وقف حياته على نشر آراء محمد عبده وأفكاره في الإصلاح.
ويقول: لم يعتمد - السيد رشيد - على ملك ولا حكومة أو جمعية أو حزب. فهل نسى الكاتب اعتزازا السيد رشيد بعطف المغفور له الملك فؤاد عليه وأثر ذلك في نفسه؟
سادسا: ولا أنسى إن أقول أن نصف المقالة أحاديث شتى عن ما عدا ذكرى السيد رشيد رضا، وكان من الواجب ترك ما لا صلة بالموضوع.
وأخيرا فأنا نشكر لفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد الجليل عيسى جهوده المباركة. وفقنا الله وألهنا الصواب.
حامد محيسن
عضو جماعة كبار العلماء ورئيس التفتيش بالأزهر
الأدب المهني أو أدب أرباب المهن
للأديب خليل رشيد
- 1 -
إلى أولئك النفر القليل ممن جادت بهم الحياة ووهبتهم النبوغ والعبقرية الذين أبوا العيش إلا من قوة أيديهم وعرق جباهم نقدم هذا الحديث.
قبل الشروع في الحديث أود أن أبين السبب الذي دعاني إلى جمع ما تناثر من أخبار هؤلاء الأدباء ولم شعثهم في مدرج هذا الحديث. هي أمنية طالما اعتلجت بها النفس، واختلج بها القلب، أن أهدى ما ضل من تلك العقول الآسنة التي تجعل الأدب وقفا على الطبقة الممتازة وعلى البطالين من ممتهني الأدب الأفاقين الذين يأبون النزول إلى ميدان العمل بدعوى أن العمل لا يتفق وكرامة الأديب، وأن الأدب والعمل على طرفي نقيض. وهذا القرآن بصريح بيانه يقول (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم). وأن ليس للانسان إلا ما سعى). وفضلنا المجاهدين على القاعدين درجات). وفضلنا المجاهدين على القاعدين درجات). والقرآن ملئ بفضل العمل وشرف العامل وذم البطالة والبطالين. ومتى كان أديب التسول والاستجداء أرفع من الأديب المهني. ومتى كانت المهنة ضعة وحطة لممتهنها؟ وقد جاء في الحديث الشريف (إن الله يعطي العبد على قدر همته وفهمته)(اعملوا فكل مسير لما خلق له)(اعقل وتوكل)(أشد الناس عذابا يوم القيامة المكفي الفارغ)(أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)(إذا قصر العبد في العمل ابتلاه الله بالهم)(أخشى ما خشيت على أمتي كبر البطن ومداومة النوم والكسل) مضافا إلى هذا وذاك وزيادة في الإيضاح نورد بعض ما ورد من حكم في هذا الباب.
قالت الحكماء.
(كلب طواف خير من أسد رابض)(البطالة تقسي القلب)(أطلب تظفر)(من عجز عن زاده اتكل على زاد غيره)(من العجز نتجت الفاقة)(الدعة ذل)(لا يفترس الليث الظبي وهو رابض).
وجاء في الشعر العربي قديما في تأييد ما ذهبنا إليه!
وما غلظت رقاب الأسد حتى
…
بأنفسها تولت ما عناها
وهذا أبو دلف يقول. -
ما للرجال وللنعيم وإنما=خلقوا ليوم كريهة وكفاح
وهذا السراح الوراق ينشدنا. -
دع الهوينا وانتصب واكتسب
…
واكدح فنفس المرء كداحه
وكن عن الراحة في معزل
…
فالصفع موجود مع الراحه
وهذا خليفة من خلفاء الإمبراطورية الإسلامية يزيد بن عبد الملك يقول (ما يسرني أنى كفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز).
ومن هذا القبيل كثير لا يحصيه عد ولا يحصره حد. ولا يدع إذا ما امتهن الأشراف بعض المهن من الصنائع ونبذوا التجارة وراءهم ظهريا إذ في التجارة فقدان مروءتهم ومنافات الشرف الذي إليه يسعون. ونكتفي بالتدليل على ذلك يقول ابن خلدون في مقدمته صفحة (395) ما هذا نصه وتحت عنوان (خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك). ثم يشرح ذلك قائلا (إن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء، ولا بد فيه من المكايسة ضرورة، فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها وهي أعنى خلق المكايسة بعيدة عن المروءة التي تتخلق بها الأشراف، وأما أن استزل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم من المماحكة والغش والخلابة وتعاهد الإيمان الكاذبة على الأثمان رسما وقبولا فاجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف، ولذلك نجد أهل الرياسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما تكسب من هذا الخلق.). ولم يكتف ابن خلدون بهذا القدر بل ذهب في تأييد ذلك بمقدمته أيضا صفحة (399) قائلا (قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح ولا بد من ذلك في المكايسة والمماحكة والتحاذق وممارسة الخصومات واللجاج وهي عوارض هذه الحرفة وهذه الأوصاف نقص من الذكاء والمروءة.
فلا يدع إذن من أن ينبذ الأشراف التجارة وراءهم ظهريا لما فيها كما قدمنا من فقدان المروءة وخلق غير خلق الأشراف وهم بنبذ البطالة أحرى وأجدر لما فيها من ذلة وحطة. فما عليهم إلا أن يتخذوا صناعة من الصناعات كي تدر عليهم الرزق وتكفيهم مؤونة العيش.
وما المهنة إلا شرف يتحلى له المرء. وقد امتهنها الأشراف من العرب وسادات قريش. واليك ما جاء في كتاب المعارف لابن قتيبة صفحة (249 و 250) تحت عنوان صناعات الأشراف فقال. . -
كان أبو طالب يبيع العطر وربما باع البر. وكان أبو بكر الصديق بزازا. وكان عثمان بزازا. وكان عبد الرحمن بن عوف بزازا. وكان سعد بن أبي وقاص بيري النبل. وكان العوام أبو الزبير خياطاً، وكان الزبير جزاراً، وكان عمرو بن العاص جزاراً، وكان العاص بن هشام أخو أبي جهل حداداً، وكان عامر بن كريز جزاراً. وكان الوليد بن المغيرة حداداً، وكان الوليد بن المغيرة حداداً، وكان عقبة بن أبي معيط خماراً، وكان عثمان بن طلحة الذي دفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح البيت خياطاً، وكان قيس بن مخرمة خياطاً، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم، وكان عقبة بن أبي وقاص نجاراً، وكان أمية بن خلف يبيع البرم، وكان محمد بن سيرين بزازاً، وكان مجمع الزاهد حائكا، وكان أيوب يبيع جلود السختيان فنسب اليها. وكان المسيب أبو سعيد زياتا، وكان مالك بن دينار وراقا، وكان أبو حنيفة صاحب الرأي خزازا. وقد جاء في مقدمة ابن خلدون ما يعزز المهن والصنائع في صفحة (383) بقوله (قالوا المعاش إمارة وفلاحة وصناعة وتجارة، أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات؛ وأما الصنايع فهي ثانيتها. وجاء أيضا بالمصدر نفسه (ص) 401 (إن رسوخ الصنايع في الأمطار هو برسوخ الحضارة وطول أمده). وورد أيضا بنفس المصدر (ص) 403 (إن الأمطار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع
وقد يذهب البعض من أدعياء الأدب على أن الأدب وقف على ذوي المراكز الممتازة والطبقة العليا ولا يحق لغير هذه الطبقة أن يدعيه. وإن ادعاه أحد غير هذه الطبقة فادعاؤه باطل وإن جاء بالمعجز المبدع. وإذا ما جاءهم أديب مهني من ذوي النبوغ والعبقرية بأدب رفيع ممتاز فلا يقابل أدبه بغير الاستهجان والازدراء ومط الشفاه، أقول، - متى كانت العبقرية بنت القصور والضياع ووليدة الغنى والثراء؟ ومتى كان الذكاء أليف الترف والنعيم؟ وكثيرا ما نرى التبلد الذهني والخمول العقلي حليف القصور وتوأم الترف والنعيم وقولهم يناقض العرف وما قيل قديما من أن العبقرية بنت الجوع. ولنعرف الأدب والأديب
قبل الدخول في صلب الموضوع.
الأدب:
مرآة صافية تنطبع عليها انعكاسات المجتمع وصوره بما فيها من آلام وآمال. والأديب - هو العدسة اللاقطة لتلك الصور والانعكاسات فإذا ما تأثر الأديب بصورة من صور المجتمع أخرجها لوحة فنية ذات منظر أخاذ، وليس عليه ما تبعثه الصورة في النفس من ألم وانقباض أو بسطة وانشراح وإنما عليه أن ينقل الصورة بكل أمانة وصدق، يستطيع والحالة هذه التقاط صور المجتمع بما فيها من آلام وآمال إلا من الدس بين طبقات المجتمع وعانى ما يعانيه من بؤس وشقاء فمتى يستطيع ذو البرج العاجي حليف الخمرة والدن واليف الغيد من أبناء الترف والنعيم تصوير البؤس والشقاء وهي صور الأغلبية الساحقة للشعب؟ وكيف يستطيع أن يعطينا الصورة صادقة صحيحة من برجه العاجي من لم يتذوق البؤس والشقاء؟ فليس أديبا ولا فنانا من يصف لنا الحياة من دائرة ضيقة ولا يراها إلا من جهة واحدة. وليس الأديب إلا من يعطينا صور الحياة من جميع جهاتها بما فيها من آلام وآمال وسعادة وشقاء. ولا يستطيع هذا إلا الأديب الذي خبر الحياة وتذوق منها طعم اللذة والألم. وذاك أديب الواقع الذي يعيش بين طبقات المجتمع ويندس بين صفوفه، وهذا ينقسم إلى قسمين. قسم يفضل الراحة والهناءة فيتخذ من الأدب مهنة للكسب والعيش فيبذل ماء وجهه باستنداء الأكف وطلب الصدقات يتسكع على باب هذا وذاك في سبيل الحصول على العيش الرذيل. وهذا النوع من الأدباء يكون مهدر الكرامة مهان النفس فتأتي صورة مشوهة عن الحقيقة لابسة غير لبوسها حسب ما يقتضيه ظرفه وحسب ما تطلبه مصلحته. والأدب أرفع من أن ينزل إلى هذا المستوى إذ هو في رفيع سامي منزة عن الدنايا والهنات وإلا فهو الحقيقي سواء.
لنترك هذا النوع من الأدب والأدباء إذ لا خير يرجى من أدب وأديب ينزل إلى هذا المستوى الوضيع ولنتحدث عن القسم الثاني من الأدباء الواقعيين الذين نريد الحديث عنهم بعد هذه المقدمة. الأدباء الذين أبوا العيش إلا من قوة أيديهم وما يبذلونه من جهد وذلك باختيارهم مهنة تدر عليهم الرزق وتصون أديم وجوههم من الابتذال وتكفيهم ذل الحاجة والسؤال وتحفظ كرامتهم من الأمتهان وهذا القسم من الأدباء أولى بالذكر والخلود. - وها
نحن نقدم لك طائفة من هؤلاء الأدباء المهنيين ممن انقادت لهم المعاني وأعطتهم قيادها مع شئ يسير من تراجمهم والشيء المختار من أشعارهم ونتاجهم الأدبي ومن الله نستمد المعونة والتوفيق.
للكلام بقية
خليل رشدي
العمارة - العراق
-
رسالة الشعر
غناء
(مهداة إلى الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا)
للآنسة هجران شوقي
أتطمع أن تشدو بشعرك قينة
…
تررده في آهة الدنف الصب
وأنت الغناء الصفو والحب والمنى
…
وأنت صداح الطير في الفتن الرطب
وأنت سماوي القصيد قبسته
…
من اللاعج المشبوب والمدمع السكب
تناجي به السمار في غسق الدجى
…
وغنى به المشاق في البعد والقرب
ولما يزل سؤل النفوس وقصدها
…
وشغل الليالي الزهر والأنجم الشهب
فيالك من شعر رقيق منغم
…
يرف رفيف الطل في ناضر الشعب
ترقرق بالشكوى وضمخ بالأسى
…
فجاد بما يغرى وجاش بما يصبى
أأنت من الوجدان والطبع صغته
…
وأفزعته من حرقة الوجد والحب
وأشربته نجوى تذوب رهافة
…
وتخضل بالتذكار والأمل النهب
يرى الواجد المكروب فيه عزاءه
…
ويبصر فيه الترب يحنو على الترب
عزيزا! أيا وشي القريض وسحره
…
ويا دمعة الذكرى ويا رثة العتب
دع الشعر للأيام تغلى فريده
…
وتحفظه في مهجة الفلك الرحب
وترسله لحنا جديدا على المدى - يظل غناء الروح والفكر والقلب
تخلده الأحقاب في الطير شاديا
…
فإما شدا بات المحب بلا لب
وفي الأمل المغضوب والحزن والجوى
…
وفي الشوق والآهات والسهد والكرب
وفي الغائب النائي الذي لفه الردى
…
ففاض حنانا وهو في زفرة النحب
غريب حريب لا يفر قراره
…
إلى أن نرى في الخلد جنبا إلى جنب
فما الشعر إلا ابن المدامع والأسى
…
تجود يه الأجفان غربا إلى غرب
إذا خاطب الأرواح رفت بشاشة
…
ولو أنها في وحشة المهمة الجدب
يظل حداء الركب ترمى به النوى
…
فينسيه ما يلقاه من مسلك صعب
إذا طرب الحادي وهاجت شجونه
…
فيا ليت شعري ما الذي حل بالركب
وهل سكر الدرب الذي ضم شملهم
…
فثار الهوى وانساب من شفة الدرب
فما يبصر الغادون إلا صبابة
…
تطوف إلى الكثبان والرمل والشعب
على القمر اللماح منها وضاءة
…
مسلسلة بين الغمائم والسحب
نشاوى وما ملوا غناء ولا سرى
…
ولا تعبوا أو قال قائلهم حسبي
دع الشعر يا ابن الشعر للدهر وحده
…
فدهرك ماز الصدق من وضر الكذب
وما كل من صاغ الكلام بخالد
…
ولا يملك الخلد الممنع بالغضب
إذا قلت هذا الشعر سؤلي فما ذنبي
…
ويا قلب لا تحفل إذا لامني صحبي
فإن علاج الحب أن تعلن الهوى
…
وتسفحه بين الرسائل والكتب
وأتعب خلق الله في الأرض عاشق
…
تدثر بالكتمان والحذر والرعب
وللحسن إشراق، وللشعر فتنة
…
وما كل شعر عزيز الهوى يسبي
هو أندى من الشعر الذي طاب نشره
…
خلائق أصفى من معتقة الشرب
وقلب عن الكبر الذميم منزه
…
تبرأ من داء المخيلة والعجب
شهدت لقد أنشدتنا الشعر خالدا
…
كأن به حبا تغلغل في حب
فيالك صداحا ويا لك شاعراً
…
تفرد بالتحنان والنغم العذب
- أنظر إلى القصيدتين المحلقتين (كيف أدعوك) و (عتاب) المنشورتين في عددي الرسالة (798، 898) اللتين أهداهما الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا إلى الآنسة (أم كلثوم) وسألها في تواضع العظيم أن تصنع فيهما لحناً بكلمة الإهداء الرائعة: (لقد خلدت الخالدين فتنزلي إلى المغمورين)
(دمشق)
هجران شوقي
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
على هامش الأدب والنقد:
تحية رائعة كأدبك، طيبة كإنسانيتك، وبعد
فلن تبكي وحدك الشاعرة المصرية (ن. ط. ع) التي ولدت مع الربيع وماتت مع الورد كما يقول (لامارتين)، ولكنني سأشاركك في الحزن عليها، وأقاسم (الرسالة) فجيعتها بها، فإن من حق الشعر أن يبكي الشعر، وما تعرف أسى الشاعرة إلا شاعرة، وها هي ذي (قمرية تموت) تهدي إلى روح الشاعرة المصرية (ن. ط. ع) التي تفتحت كما يتفتح الزهر وعاشت كما تعيش الفراشة ولكنها بركت عبقا وعطرا، وألوانا وأحلاما، فلئن استطاع الموت أن يمحو آثارها من الوجود، فلن يستطيع أن يمحو تذكارها من النفوس.
وأعود إلى نفسي فأقول: لقد وددت أن نتلاقى في كتاب مشترك نطلع به على الناس، وما تدري لعل هذه الرسائل التي نتبادلها على صفحات (الرسالة) ستؤلف فاتحة الكتاب، فهي غنية بهذا التجاوب الذي يجعل الرأي يسكن إلى الرأي، والفكرة تخلد إلى الفكرة، فدع الكتاب يؤلف نفسه، ويضم صفحاته، ولكن حذار أن تتهمني بالعصبية الإقليمية، فلئن شغلت هذه العصبية (بعض الخواطر واستقرت في بعض النفوس) فلن تشغل خاطري ولن تستقر في نفسي، فأنا أرى الفن وطنا وأحب أن يتلاقى الناس في هواه، وأمقت (من ينتصف لبيئة بعينها دون غيرها من البيئات ووطن بعينه دون غيره من الأوطان). ولعل الزمن وحده كفيل أن يكشف عن الطوية ويحسر عن الدخيلة، ويجعل الأعين تتطلع إلى قرارات النفوس، وحسب الأدب أن يعرب عما تكنه الأرواح وتخبئه القلوب.
ولقد قرأت تعليقك على رسالتي المنشورة في العدد (898) من الرسالة فسرني أن نتلاقى في وجهات النظر، فإن دل هذا التوافق على شئ فإنما يدل على ائتلاف في الأدب وامتزاج في الطبع واشتراك في التفكير. ولعل من سعادة النفس الإنسانية أن تظفر في هذه الحياة بمن يرى رأيها ويفكر تفكيرها ويشاركها في كثير من شعورها وعاطفتها، حتى تحس أن بينهما تجاوبا تاما يربطهما ربطا ويؤلفهما تأليفا واحدا.
ويسرني أن أعلمك أنى حين فرغت من قراءة القصيدة المحلقة (كيف أدعوك) المنشورة في
العدد (897) من الرسالة والتي أهداها الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا إلى الآنسة أمن كلثوم، وسألها في تواضع العظيم وحياء الكبير أن تصنع فيها لحنا بهذا الإهداء الرائع (لقد خلدت الخالدين فتنزلي إلى المغمورين) صحت من أعماق قلبي قائلة: (لا يا أيها الشاعر! ما نرتضي لك أن تتنزل إلى وهدة المغمورين وأنت في سماء الخالدين. . إن الشعر الخالد لا يفتقر إلى من يصنع فيه لحناً بعد أن رددته القلوب وغنته الأرواح وأصبح إرث العصور للعصور.
وأنشأت قصيدتي (غناء) وأهدينها إلى الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا لأدله على هذا الأفق الرحيب الذي يحلق فينا شعره، والمدى البعيد الذي يسري فيه أدبه، وما كدت أفرغ من قصيدتي (غناء) حتى طلعت على الرسالة الأخيرة وفيها قصيدة (عتاب) وقد أهداها ثانية إلى أمن كلثوم، فقلت في نفسي: هذا كثير يا سيدي الشاعر! فإن من حق اللحن الخالد أو يتقرب إلى الشعر الخالد في كثير من التواضع والحياءيخطب وده ويطلب يده
ولقد قرأت كلمتك (بين عزيز أباظة وأم كلثوم) وأنت تعقب على قصيدة الشاعر الكبير (كيف أدعوك) وعلى عبارة الإهداء (المضخة بعطر التواضع وإنكار الذات) فسرني أن نتلافى في وجهات النظر وأن ننتهي إلى رأي مشترك هو أن الشعر الخالد يرفع من يغنيه، ولا يستطيع اللحن الخالد أن يرفع شعر الوهاد والسفوح إلى القمم والذروات!
بعد هذا أحب ألا يرجأ نشر قصيدتي (قمرية تموت) وأختها (غناء)، لأن من الشعر ما لو نشر في غير حينه لأضاع كثيرا من رونقه وجماله. . . ولك التحية والمودة.
دمشق - سورية
هجران شوقي
لقد ولدت مع الربيع حقا وماتت مع الورد. . . ولكن حياتها كما قلت، كانت أقباسا من وهج اللوعة، وفنونا من عبقرية الألم، وخريفا لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس!
إن روح ناهد تطل عليك من عالمها الآخر يا هجران، وتحفظ لك الوفاء، وتشكر لك هذه العاطفة النبيلة التي أملت عليك أن تذكري أختا لك في الأدب والإنسانية. . . ترى هل أدركت عن طريق الإلهام سر هذا الأسى الذي أطفأ نور الشباب في أبانه وأذبل زهر
الربيع في ريعانه؟ أنه سر عميق. . . كمن بين الجوانح وطويت عليه الضلوع، وقدر له أن يستقر في تلك الحفرة الضيقة التي ينتهي إليها كل حي، ويستريح كل شقي، وتسكن كل حركة ويحدد في زحمة الوجود كل مصير!
يا رحمة الله لتلك الروح التي لقيت من دنياها ما لم يلقه الأحياء حسبها في ظلام القبر أن هناك من يذكرها بالقلب والقلم، يذكرها إنسانة وفنانة، وحلما قصيرا داعب أجفان الحيارى ثم صحوا من بعده على وخزات الجراح! ماذا أقول لك يا هجران وقد أثرت بشعرك ونثرك كوامن الشجن؟ أقول لك تلك الكلمة التي قلتها بالأمس: إن الوفاء يا آنستي هو أجمل ما في الحياة. . وحسب الشاعرة الراحلة هذه النفحات المعطرة تهب على ذكراها من (قمرية تموت)!
أنا معك في أن من الشعر ما لو نشر في غير حينه لأضاع كثيرا من رونقه وجماله. . ولهذا يسعدني أن أقدم شعرك إلى الناي، أنت يا أيتها الشاعرة (المجهولة) التي ظلمت فنها حين قضت أن يظل رهين المحبسين: القلب والدار! إلى هذا العدد من الرسالة بقصيدتك الأولى (غناء) وأرجئ قصيدتك الأخرى إلى العدد الذي يليه.
أما عن هذا الكتاب المشترك الذي تقولين إن هذه الرسائل تؤلف بدايته فلست أدري أي حظ ينتظر نهايته. . إن لدي ثلاثة كتب مهيأة للطبع، ولكن أزمة القراء تصرفني عن التفكير في إخراجها إلى حين؛ إلى أن يقدر الله لهذه الأزمة أن تنجلي ولهذه الغمة أن تزول، ويجد القراء من وقتهم ومالهم وجهدهم ما يعينهم على قراءة الكتب التي تستحق بذل الوقت والجهد والمال! ماذا نفعل إذا كان القارئ العربي قد أصبح قارئ مقالة، يريد أن ينتهي منها وهو يحتسي قدحا من الشاي أو يترقب وصول الترام أو ينتظر قدوم صديق؟ هذا موضوع بحثته في عدد مضى من الرسالة وأحب أن تعودي إليه يا هجران. . وأن تحملي التحية الخالصة والشكر العميق إلى الأدبية السورية المطبوعة السيدة وداد سكاكيني، التي تفضلت بزيارتي في وزارة المعارف لتسألني عنك ولتقول لي فيما قالت ونحن نتحدث عن أزمة القراء: لو كنت تعرف منزلتك في الأقطار العربية عامة وفي سورية على الأخص، لما تأخرت في أن تقدم إلى قرائك ما لديك من كتب. . لست أدرى إذا كانت كلمات الأدبية السورية من قبيل المجاملة التي يفرضها الخلق الكريم أم من قبيل الحقيقة التي يؤيدها
الواقع الذي لا أعلمه! مهما يكن من شئ فحسبنا اليوم أن نلتقي على صفحات الرسالة، لننظر ماذا يكون من أمر الغد القريب.
أما عن هذا الباب الذي فتحته من قبل وهبت منه رياح العصبية الإقليمية، فإنه ليسرني أن تطرقيه بهذه الكلمات:(إنني أمقت من ينتصف لبيئة بعينها دون غيرها من البيئات ووطن بعينه دون غيره من الأوطان، لأنني أرى الفن وطنا وأحب أن يتلاقى الناس في هواه). . صدقيني إنني أحب أن أسمع هذه الصيحة من كل قارئ وأديب في مصر ولبنان وسورية والعراق، وكل وطن تربطه بالعروبة أواصر وأسباب. أحب للكتاب والشعراء أن ينظروا إلى أسمائهم وهي مجردة من أثواب الوطن الصغير ليلفها علم واحد هو علم الوطن الكبير. . عندئذ تختفي من الأذهان هذه العصبية البغيضة التي تنتصف لعلي محمود طه في مصر لأنه مصري، وتقف إلى جانب أبي ماضي في لبنان! إن كليهما في رأيي ورأي الحق شاعر (عربي). وهذا هو العنوان الصحيح الذي يجب أن تدرج تحته أسماء أهل الفن هنا وهناك.
ولقد لمحت من وراء السطور في رسالتك سر إعجابك بشعر عزيز أباظة، كما لمحت من وراء الأبيات في قصائدك سر عطفك على شعر أنور العطار. . ودلتني هاتان اللمحتان على أن شعر يوسف حداد لم يظفر منك بشيء من هذا العطف وذلك الإعجاب لأنه نغمات تنبعت من وتر غير الوتر ورفات تنطلق من جناح غير الجناح! أريد أن أقول إن سر ميلك إلى الشاعرين مصدره أن شعرك يغترف ألفاظه وأخيلته وقوالبه من نفس المنبع الذي يغترفان منه. . وهنا مفرق الطريق بين نظرتين تفضل إحداهما شعر يوسف حداد وتفضل الأخرى شعر أباظة والعطار. ولست أريد من وراء هذه اللفتة العابرة أن أخرج شعر الشاعرين من دائرة الأداء النفسي، كلا! وإنما أريد أن أقول أن الوثبات الشعرية التي تحلق باللفظ والخيال فوق المستوى المألوف في أفق الشعراء، هي التي تدفعني إلى أن أزن قصيدة (الشاعر) ليوسف حداد بنفس الميزان الذي أزن به القصيدة (راقصة الحانة) لعلي محمود طه وقصيدة (الطلاسم) لإيليا أبي ماضي. . وهو مستوى من التحليق لم يبلغه بعد شعر عزيز أباظة ولا شعر أنور العطار! إن هناك يا آنستي لونا من الشعر يعجبني ولونا آخر يهزني. . . وكلا اللونين يرضى عنهما (الأداء النفسي) ولكنه الرضا الذي تختلف
درجاته ومعانيه. وأرجو ألا يفهم القراء أن حكمي على يوسف حداد هو حكم عام على شاعريته، كلا! أنه حكمي على هذه الشاعرية في حدود هذه القصيدة الوحيدة التي لم أقرأ له غيرها من قبل. . وقد تكون (فلتة) من الفلتات التي يصعب أن تتكرر من حين إلى حين.
ليس من شك في أن الآنسة هجران ستشم من هذه الكلام رائحة اختلاف في الرأي. . لا بأس من أن نختلف في أمر ونأتلف في أمور، وحسبها هذه الأبيات التي قالها شوقي على لسان ابن ذريح.
ما الذي أغضب مني الظبيات العامرية
ألأني أنا شيعي وليلى أموية؟
اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية!
ومعذرة لهذا التحريف اليسير في البيت الأول. إنه تحريف يقتضيه المقام!
مجلة (الأديب) في قفص الاتهام:
لقد كان موقفك نبيلا تجاه رسالتي السابقة، لكنك في التعقيب على الدفاع عن مجلة الأديب المنشور في العدد (895) من الرسالة الغراء، غيرت موقفك قليلا. وأحسب أن الصداقة التي تربطك بصاحب الدفاع هي التي جعلتك تنشر رسالته أو دفاعه الذي يحوي أوضع لاتهامات من غير أن تذكر اسم الكاتب! فهل أرضى ضميرك هذا العمل؟ إن النقد يا سيدي - وبالأخص مثل هذا النقد - لا ينشر من غير الاسم الكامل للكاتب، فكيف تجاهلت هذا؟ إنني ألومك، فأنت يجب أن تتمسك بالحق، دون النظر إلى الأمور الشخصية ودون الاعتبار بظروف الصداقة.
على أي حال أرجو أن يتسع صدرك وصدر (تعقيباتك) لردي هذا الذي آمل أن لا يحذف منه شئ. . والآن دعني أحدثك بهذه الأسطورة:
يحكي أن جماعة من الذئاب عصف بها الجوع فعقدت اجتماعا فيما بينها، وقررت أن تتغذى بكل ذئب أصابه الجرب كي لا ينتشر هذا المرض بين الذئاب. وكان في تلك الجماعة التي تضم خمسمائة من الذئاب ذئب واحد أصيب بالجرب، ما إن سمع هذا القرار حتى رفع صوته صارخاً (أنا لست أجرب) وما كان من الذئاب الأخرى إلا أن انقضت عليه وافترسته!
أنت ترى يا سيدي أن ذلك الذئب لو لم يكن أجرب لما رفع صوته، ولما التفتت الذئاب اليه، ولما افترسته. . ومجلة الأديب تشبه في دفاعها عن نفسها دفاع الذئب الأجرب عن نفسه! فالكلمة التي سبق أن بعثت بها إليك قد نشرتها دون أن تذكر اسم المجلة، وجاء فيها أن المجلة تبيع النشر بالمال يجب أن تحارب. . فما كان من (الأديب) إلا أن رفعت صوتها - على لسان أحد أصدقائها - تقول إنها لا تبيع النشر بالمال! وغاب عنها أن دفاعها هذا ما هو إلا اعتراف لا يقبل الشك في أنها تبيع النشر بالمال!!
وإذا وجدتني أبالغ فيما أقول فدونك أعداد (الأديب)، تصفحها جيدا فستراها إلى جانب قائمة الأنصار تخاطب القارئ في افتتاحياتها بين حين وحين بكلمات مستجدية لا يمكن أن تستعملها مجلة لها كرامتها ولها مركزها الأدبي. وإذا صح ما يقوله المدافع عن (الأديب) من أن صاحبها (معذور) في الاستجداء السافر، فلماذا إذن الكد والتعب والإرهاق وما فائدة مجلة فاشلة لا تستطيع الاستمرار في الصدور إلا على يد الأنصار؟ أجل، ما نفع مجلة تفرض نفسها فرضا على القارئ في مطلع كل شهر بوجهها الأسود؟!
يقول صاحب الدفاع عن (الأديب) المختفى خلف نقاط ثلاث: (فليس صحيحا أن جميع أنصار المجلة تنشر لهم المقالات) عفوا يا أستاذ؛ نسيت أن أستثنى من جميع الأنصار نصيرا واحدا أو نصيرين! أهملت مقالاتهم لأسباب أخرى خاصة، بعيدة جدا عن النزاهة والحق! ويقول عن لسان ألبير أديب:(إن ما ذكره كارنيك عن ذلك القارئ العراقي الذي شكره صاحب الأديب على إرسال الاشتراك الخ. . . كذب وافتراء) وأنا أعجب أشد العجب كيف تهور الأستاذ ألبير فنفى ذلك هذا النفي القاطع. لاشك أنه لا يدري أن بإمكاني نشر تلك الرسالة التي أرسلها بخط يده، كي يطلع عليها القراء ويقفوا على نفسية هذا الرجل الغريب. والآن ليطمئن الأستاذ إلى أني لا أفعل ذلك، وسأكتفي بهذا التلميح كي لا يتهور ثانية ويتهمني بالكذب والافتراء!
وأحب أن تعلم يا سيدي المدافع أنه لو بدت قلة الذوق في كلمتي بأبشع صورها فإن قلة التبصر تبدو بأشنع صفاتها في رسالة ألبير أديب إلى أحد الزملاء حين يقول له: إنه يعاني أزمة في النشر، تجعله يفكر في هجر (الأديب) وهجر لبنان!
. . . أنت ترى يا سيدي المعداوي أن هذا الكاتب بعد أن يتهمني بقلة الذوق لأني كشفت
الستار عن مؤامرة ألبير لا ينكر قولي ولا يكذبه. . . ومع ذلك يتهمني بقلة الذوق فهو يقول. (إن صاحب الأديب قرر مراراً أن يغلق مجلته، وإنه لم يطلب اشتراك الأنصار إلا بناء على اقتراح هؤلاء الأصدقاء). ومن كلام هذا المختفي خلف النقاط تستطيع أن تلمح آثار الحقيقة التي كشفت عنها الستار، فبأي وجه يلقاني حضرة المدافع المجهول؟ كأنما (الأديب) لم تفعل شيئا غريبا، وكأنها إذ تتوسل وتستعطف وتستجدي لا تخرج عن مقتضيات الصحافة في العصر الحديث. . ما هذا الهراء؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ متى كانت الصحافة تجارة؟ وفي أي جيل وأي عصر نقد الكاتب أو الشاعر، مبلغا من المال كي ينشر فكرة من الفكر في صحيفة من الصحف!؟ في الوقت الذي كان يجب أن تدفع (الأديب) من عندها للكتاب نراها تأخذ هي من الكتاب، لقاء نشر كتاباتهم. فهي تريد أن تجعل الأدب ملهاة يستطيع أن يمارسها كل من هب ودب من أصحاب الجيوب المنتفخة! أيها التاريخ سجل منزلة الفكر في هذا الزمن، واذكر مجلة الأديب بحروف من ذهب!!
ويعود حضرة المختفي خلف النقاط - بعد أن عجز عن الدفاع عن مجلته - فيخاطبك زاعما أنسبب (افتراءاتي) هو أني أرسلت إلى (الأديب) بعض القصص فأهملت، ثم عدت فأرسلت له من أحد كتبي مائتي نسخة كي (أرشوه). . ولا شك أنك صدقت قوله هذا كما صدقه سائر القراء، كما يجب أن يصدقه كل من لا يعرف الحقيقة على وجهها الصحيح، وهي غير ما ذكره حضرة المدافع المجهول. . . لا أنكر أنني أرسلت إلى (الأديب) قصة فأهملت نشرها، لا لأنها سخيفة كما وزعم الأستاذ، بل لأنني كنت متفائلا جداً بالأديب فلم أرفق مع قصتي (المعونة) المطلوبة!! ثم جاءني ناشر كتابي ذاك يخبرني أنه أرسل عشرين نسخة من (دموع عذراء) هدية لصاحب الأديب، على سبيل الإعلان، وأنه سوف يرسل إليه مائتي نسخة من ذلك الكتاب. . . ولما سألته عن سر ذلك أجابني بأنه قد عزم على أن يقدمها هدية لصديقه ألبير، فلم أتدخل فيما ينوي إذ لا شأن لي في الأمر! دعني أسألك هنا سؤالا واحدا: لو أن قصصي سخيفة وضيعة كما يقول حضرة المدافع المجهول، فهل يعقل أن يتهافت الناس عليها وهل؟ وتسألني: وهل تهافت عليها الناس فأقول لك: بمائتي نسخة من كتاب لم يربح منه؟!
وما رأيك في أن قصصي لم ترفض ولم توصف بالسخف إلا بعد ما رأيك في أن قصصي
لم رفض ولم توصف بالسخف إلابعد أن اطلع ألبير أديب على كلمتي في (تعقيباتك)؟ أما قبل ذلك فتحت يدي رسالة كتبها ألبير إلى الناشر يطلب إليه الإسراع في إرسال النسخ الباقية التي وعده بها. . وحين اطلع على كلمتي بعد ذلك في (التعقيبات) كتب إلى ناشري يقول (أرجو عدم إرسال شيء من كتب كارنيك جورج إذ لا يليق توزيعها بأسم (الأديب) نظر لركاكتها وسخفها، ثم أن صاحبك هذا حقير النفس لا يستحق التشجيع كما طلبت مني، ألم تقرأ ما نشرته له مجلة الرسالة؟ تجد طياً كلمته المذكورة وتعليق الرسالة عليها)!
أرأيتيا سيدي كيف شوهت الوقائع وكيف لجأ صاحب الأديب إلى أمثال هذه العبارات الهابطة، لأنه قد عجز عن الدفاع عن نفسه وعن مجلته؟. . ألا ما أحقرها من طريقة تلك التي تذكرنا بقصة الذئب الأجرب فيما سبق من حديث!!
(البصرة - العراق)
كارنيك جورج
عملا بحرية النشر وتحقيقاً لرغبة الأديب الفاضل فقد نشرت هذه الرسالة كاملة، ولم أبح لنفسي أن احذف منها غير فقرة واحدة زج فيها بأسمي وكان يمكن أن تدخلني طرفا ثالثا في هذه الخصومة. . ويضيق الناطق عن هذا التعقيب في هذا العددان فإلى العدد القادم إن شاء الله.
هجوم في جريدة الزمان:
أشهد أنني على رأس المعجبين بالأستاذ محمد علي غريب محرر الصفحة الأدبيةفي جريدة الزمان. . ومن العجيب حقاً أن يهاجمني الأستاذ الفاضل ثم لا يخفف هذا الهجوم من حدة إعجابي به وتقديري له، في كل مكان يرد فيه ذكره إذا ما تطرق الحديث إلى قيم الأدب والأدباء!
وتسألني عن سر هذا الإعجاب فأقول لك: إنه إعجاب بهذه الموهبة الفذة التي أتاحت للأستاذ الفاضل أن يكون أديباً من الأدباء الممتازين! ولئن دلت هذه الموهبة على شيء فإنها تدل أن الذكاء الخارق يستطيع أن يصل بصاحبه إلى المجد الأدبي من اقصر طريق. . وهذا هو المثل الأعلى الذي سيشير إليه تاريخ الأدب في يوم من الأيام.
صحفي لقي من الفشل في حياته ما يرفض معه الصبر وتتبخر قطرات العزاء، ومع ذلك فقد خلق من الفشل نجاحاً ليس له فيما نعلم نظير. . لقد سدت في وجهه أبواب الرزق في عالم الصحافة فتطلع بعين الطموح وعزيمة المقتحم إلى ميدان الأدب. وحين أدرك بفطنته أن الصحف الأدبية في مصر هي الرسالة والثقافة والمقتطف والكتاب والهلال، لم يفكر في أن يطرق أبوابها لأنه ذكي لماح. . ومبلغ العظمة في هذا الذكاء أن صاحبه لا يريد أن يفتضح، لأن المشرفين على هذه الصحف يعرفون اللغة العربية!
إلى أي مكان يذهب بقلمه ليصبح أديباً في عداد الأدباء؟ لقد فكر الأستاذ طويلا، ومرة أخرى لم يخنه الذكاء اللماح، إن هذا الذكاء اللماح وحده الذي قاده إلى جريدة الزمان. . وهناك أصبح أديبا ممتازا لسبب واحد، هو أن المشرف على هذه الجريدة لا يعرف اللغة العربية. . لأنه (الخواجة) إدجار جلاد!!
أقسم بالله العظيم إنه ذكي ومحظوظ. . ذكي لأنه وجد الخواجة الذي استطاع أن يقنعه بأنه أديب، ومحظوظ لأن هذا (الخواجة) قد اقتنع فأفرد له مكانا يكتب فيه. . قد تقول لي إن المسألة لا حظ فيها ولا ذكاء، لأن (الخواجات) بقيم الأدباء أمر يسير. لا يا سيدي! قد يحدث هذا بالنسبة إلى أدباء آخرين. . أما بالنسبة إلى الأستاذ محمد علي غريب فهو مستحيل حتى على الزنوج الأفريقيين!!
ومن هنا ينبع إعجابي به. ولن يقلل من تقديري له أنه أديب لا يعترف به غير الخواجة إدجار جلاد. . حسبه أنه يستطيع أن يقنع صاحب الزمان بإخراج كتاب يؤرخ فيه لأدب العربي الحديث. . وعندما يكتب (الخواجات) تاريخ الأدب المعاصر، فسيكون للأستاذ محمد علي غريب مكان أي مكان!!
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الأحاديث الإذاعية:
من الأحاديث الرسمية التي تقدمها الإذاعةالمصرية، أحاديث يلقها حضرة الأستاذ مدير دار الكتب المصرية كلما أخرج القسم الأدبيبالدار كتابا أو ديوانا أو جزءاً من كتاب أو ديوان. وقد سمعت بعض هذه الأحاديث، واسترعى انتباهي خاصة الحديث الذي أذيع عن ديوان كعب ابن زهير من حيث إنه كان كله عبارة ترجمة الشاعر، وكان يجدر أن يشمل أصل الديوان المخطوط وأين كان وكيف حقق وهل سبق طبع أو تحقيق له وما قيمته وما إلى ذلك.
ثم عرفت من تحركاتي - كما يقول زملاؤنا الصحفيون - أن تلك الأحاديث تحضر من مقدمات الكتب التي يضعها لها مصححو القسم الأدبي الذين يقومون بتصحيحها وتحقيق نصوصها وأن مطبعة الدار تطبع هذه الأحاديث ليلقيها المدير في الإذاعة من الأوراق المطبوعة، وحضرة المدير من كبار الموظفين الذين تحسب مكافآتهم في الإذاعة وفق درجاتهم العالية في الوظائف، لا كغيرهم ممن لم يحظوا بهذه الدرجات وتقدر لهم الإذاعة الأجر القليل مهما كانت بضاعتهم، وهم بطبيعة حالهم يتعبون في إعدادها، بخلاف الكبار من أشياء مديري العموم الذين يذيعون ما تعده إداراتهم ومصالحهم من منشورات ومطبوعات. . أي أن الأجر يعطي على قدر العمل والقيمة عكساً: من جد وحبر فجزاؤه ثلاثة أو أربعة جنيهات، ومن أذاع منشورا مطبوعا واكثر من اللحن والخطأ كان له خمسة عشر جنيهات جزاء غير وفاق!
نعود بعد هذا الاستطراد إلى دار الكتب، فنقول إن مديرها رجل فاضل وهو أستاذ من رجال التربية والتعليم، ولم نعلم عنه أنه اشتغل بالدراسات المتصلة بالمؤلفات والدواوين التي يخرجها القسم الأدبي بالدار، فالذي يليق به أن يكتب للإذاعة - إذا رأت الإذاعة أن تستفيد من فنه - في التربية والتعليم أو علم النفس مثلا، فيكون ما يقدمه من إنتاجه الأصيل الذي يستحق المكافأة المادية التي تدخل جيبه الخاص. وفي الوقت نفسه يفسح لموظفي الدار المختصين بموضوعات تلك الأحاديث ليقدموا ما سال عرقهم فيه ويأخذوا ما
يستحقون عليه، ويتجوا للإذاعة شيئا من الاقتصاد الجائر! إذ تكسب فرق ما بين أجر الموظف الكبير والصغير. .
ثم نخلص من ذلك إلى وجهة عامة، فليس الأمر قاصرا على دار الكتب ومديرها، وإنما هي خطة إذاعية محكمة. . تسير عليها الإذاعة المصرية في استجلاب ما تسميه أحاديث رسمية، وهي أحاديث لا يهم أكثرها الجمهور، وكأنهم يعرفون ذلك ويعلمون أن الأجهزة تقفل وقت أحاديثهم فلا يهتمون بإجادتها وأن كانت الإذاعة تهتم بإجازتها. . نخلص إلى هذه الوجهة العامة لنتمنى أن تخلص الإذاعة من هذا الركود وتتجه إلى الاستقامة، فلا يكون همها موادة كبار الموظفين، بل تتجه إلى من تؤنس فيهم الكفاية والاهتمام بتقديم ما يفيد، من الأفراد، غير مراعية فيهم منصبا ولا درجة.
ومما يتصل بهذا الموضوع، هذا العدد الوفير من الأساتذة الجامعيين وبعض الصحفيين الذين يعلقون على الأخبار السياسية ويقولون أهم حوادث الأسبوع. . أساتذة إجلاء والسماء لامعة يحدثون الناس عما قرأه هؤلاء في الصحف أو وقعت أعينهم على عناوينه واختاروا الحسنى فلم يقرؤوه. . وأعجب العجب برنامج (أهم حوادث الأسبوع) لأن صاحبه المجدود يقول للمستمعين ما عرفوه منذ أسبوع. . وكل منهم يستطيع أن يقوله كما يقوله.
وكأني بأولئك الأساتذة لا يبذلون في أحاديثهم جهداً، لأنهم واقفون على طريقة الإذاعة في الإثابة العكسية على المجهود! وهم - لا شك - معذورون في عدم تقديم بضاعة مفيدة، لأن الإذاعة تطلب منهم ذاك النوع من الأحاديث، والإذاعة غالية وطلبها رخيص!
وموظفو الإذاعة المختصون بالأحاديث لهم نظر ثاقب. . وهو بأعينهم في كل عهد من عهود الحكم، إذ ينظرون إلى أنصار العهد الذي يكون حاضراً فيتقربون إليهم بطلب الأحاديث منهم وخاصة الصحفيين الموالين وفي هؤلاء الأنصار الموالين أساتذة يستفاد منهم، ولكن ليس هذا هو مقياس النظر الثاقب الذي لا يستطيع أن يمتد إلى هؤلاء الأساتذة في غير أوانهم. .
وبعد فأني اعلم إن معالي الدكتور حامد زكي وزير الدولة المختص بالإذاعة وسعادة كامل مرسي باشا مديرها بالنيابة، يهتمان بإصلاحها، ولكنني أراهما يجدان في تسيير الدفة والجرذان تقرض ألواح السفينة فتثقبها، والقصور الذاتي لا يزال يتحكم في اتجاهها.
مشكلة القراءة:
كتب الأستاذ محمد علي غريب في جريدة (الزمان) عن مشكلة القراءة أو ظاهرة الأعراض عن القراءة المتفشية في مصر بين (المتعلمين) الذين وصفهم بأنهم (الذين يصبحون بعد تخرجهم في المدارس اشد أمية من الجهلاء).
وقد تناول الأستاذ الموضوع من جانب عرض تلك الظاهرة بين الموظفين ومن إليهم ممن يقضون أوقاتهم في الجلوس على المقاهي ولعب النرد ويستهلكون تفكيرهم في تفهم منشورات العلاوات وحسبان الاقدميات، ولا يفكر أحدهم في أن يقضي وقته في رفقةعبقري موهوب يقدم على صفحات كتابه أشهى ما يملك، فيفسح من آفاق فكره ويزيد معارفه وينمي ثقافته ويعرف أن في الحياة ما هو أجل من الترقيات والعلاوات وقد احسن في تصوير هذه الناحية بقلمه الحي الرشيق - ومقالات الأستاذغريب هي (ركن الأدب) الحقيقي في (الزمان) ولكنه لم يتعرض لأسباب هذه الأزمة، بل اقترح تأليف لجنة لبحثها، قائلا:(ومع أنني لا أومن بفائدة اللجان الحكومية وجدواها؛ فما لي حيلة في قبول أن تؤلف لجنة لبحث هذا الموضوع - لماذا نكره القراءة؟)
وأنا اشد من الأستاذ غريب يأسا من مثل هذه اللجنة التي يقترحها، إذ أخشى أن تؤلف - إن الفت - ممن لا يقرؤون. . فالمشكلة كلها آتية من طريقة التعلم وملابساته، فالمناهج المزدحمة والامتحانات التي تتجه إلى الذاكرة ولا تكاد تهتم بالإدراك، وإرهاق التلاميذ والمدرسين - كل ذلك يبغض في الكتاب، إذ لا يكاد التلميذ ينتهي من (سخرة) الامتحانات حتى يلقي بالكتب وهو يشعر بالسعادة لتخلصه منها. وبغضه للكتاب المدرسي يجره إلى بغض جنس الكتاب. فلا مكان إذا لحب القراءة من نفسه.
ومن أكبر الخطر أن المشكلة واقعة أيضا بين المدرسين أنفسهم. . أولئك الذين يرجى منهم أن يبثوا حب القراءة والاطلاع في نفوس الطلاب لأنهم أيضا ضحية هذا النظام المدرسي، ومن تميل نفسه إلى القراءة منهم لا يجد لها فضلة من نشاط بعد أن يكد يومه في التحضير والتدريس والتصحيح. وكثير ممن يلون مناصب التعليم الكبيرة مروا بتلك الأطوار، وقد اصبحوا في شيء من الفراغ يمكنهم القراءة، ولكنهم لا يزالون على ما تعودوه. ومن هنا خشيتي أن تؤلف اللجنة ممن لا يقرؤون. وما احسبني في حاجة لأن أقول أن هذا الكلام لا
ينطبق على الجميع، فبين رجال التعليم كثير من المثقفين الممتازين الذين كان لهم من أنفسهم وظروفهم الخاصة ما عصمهم من الداء الفاشي.
في كل مدرسة مكتبة، ولكن هذه المكتبة لعلها المكان الوحيد في المدرسة الذي يشكو الفراغ، فقل أن تجد طالبا يقصد إليها لاستعارة كتاب أو قراءة مجلة من المجلات الأدبية التي تشترك فيها الوزارة للمدرسة، وقل أن يدلف مدرس إلى المكتبة ليرى ما تحتويه من نفائس الكتب ولو كانت في المادة التي يدرسها وكثيراً ما تجد المجلات لا تزال في أغلفتها الملصقة، أما الكتب فهي في غاية النظافة وأن كان يعلوها بعض الغبار. أليست مكتبة المدرسة إذن جديرة بان يكتب عليها (هنا ترقد بنات الأفكار في مثواها الأخير؟) وإن كنا لا نطمع أن يمر بها أحد من التلاميذ والمدرسين ليقرأ الفاتحة. .
ويبدو أن حركة تعميم التعليم وتيسيره لجميع المواطنين غير ملائمة لعلاج تلك المشكلة، لما تستلزمه من الإكثار من التلاميذ في المدرسة، ولكني أرى أن اصل الداء في المناهج المزدحمة وفي الكتب المدرسية وكيفية الامتحان فيها، مما يضيق المجال أمام الكتاب العام الذي يجب أن يتخذه الناشئ بجانب الكتاب المدرسي، ذلك أيضا يغرس في نفوس الطلاب أن الكتاب ضرورة مدرسية امتحانية يحسن التخلص منها بعد الامتحان. وإرهاق المدرسين ليس بكبر الجدول فحسب، بل يأتي أكثره من طريقة الشرح والتلقين، والتدقيق غير المجدي في تصحيح الكراسات، أي من إلقاء العبء كله على المدرس وعدم إشراك الطالب وتعويده على التفكير والتحصيل بنفسه، والمدرس لا يفعل ذلك مختارا، بل يزاوله بدافع طريقة الامتحان ودافع (المفتش) الذي يحتاج وحده إلى مقال. .
عباس خضر
القصص
المعطف
مسرحية من كليفورد باكس
للأستاذ علي محمد سرطاوى
(إلى روح الشاعرة المصرية المأسوف على شبابها ناهد طه عبد البر التي خلع عليها الأستاذ أنور المعداوي برثائه البليغ في عدد الرسالة 896 حياة خالدة في الأدب العربي، ستقرأه الأجيال المقبلة على أنه الحان من السماء وألفاظ من اللؤلؤ المنثور، ومعان هي السحر يلين من كل كلمة تنبض بالحياة، وكل حرف يسكب الدموع). .
كاتب المسرحية
كليفورد باكس كاتب إنجليزي معاصر لم تسعفني المصادر التي بين يدي على تعريفه لقراء الرسالة بأكثر من أنه يعتز بهذه المسرحية ويقول أنها جعلت ملحدا يسير على قدميه عشرة أميال ليشاهد تمثيلها في بلدة مجاورة للمرة الثانية وأنها جعلته مؤمنا. .
أشخاص المسرحية: ملك، روح، فتاة ماتت حديثاً.
المكان: عالم الأرواح غير المنظور.
المنظر: ربوة مخضرة عالية، تحدق بها صخور هائلة، يوصل إليها طريقان: طريق إلى اليمين يوصل إلى السماء، وطريق إلى اليسار يؤدي إلى الأرض، وقد جلس الملك بين الطريقين على مقعد من صنع الطبيعة.
يقف الملك ويتلفت يمنة ويسرة، يدخل من اليمين روح في طريقه إلى الدنيا، يتحسس طريقه كالأعمى وكأنه في غرفة مظلمة يشعر الملك بحركته فينظر إليه.
الروح: لقد ضللت طريقي - ما في ذلك شك! إلى أين أمضي؟ أين الطريق؟ أأبقى متخبطاً في هذا الظلام؟ أم أعود أدراجي إلى السماء؟ إلى أين يقودني المسير! لست أرى شيئاً مما حولي. لست أدري هل يبدو الظلام دامسا لعيني على هذا الشكل لقرب عهدي بالسماء؟ ينبغي أن أنتظر قليلا لعل نظري يعتاد تدريجيا هذا النور الشاحب، نعم، لقد صدق ظني، ها أنا ذا أخذت أشعر بكل ما حولي، يخيل إلى إنني في مضيق بين جبال
شاهقة، تتراءى من فوقها قمم السماء الزرقاء، ومن تحتي هوة رهيبة يبدو عليها عشب أطلت من أوراقه عيون الازاهير. أقطعت مثل هذه المسافة الهائلة في مثل هذا الوقت القصير؟ يخيل إلي إنني لست بعيدا عن الأرض التي سأعود إليها اليوم والتي كنت فيها مرة واحدة في الماضي. وإذا لم تخني الذاكرة، وإذا لم تكن العيون لتنظر إلى الأشياء هناك نظرة تجسم الجمال، فأنني ما زلت أتذكر أو كما يخيل إلي على الأقل، إحراجا كثيفة، وسماء صافية، وفجراً ساحرا، وغروبا بديعاً، والنور ينبعث من الشمس وكأنه شعاع ذائب من الماس؛ وما زلت أتذكر رجالا ونساء ترفرف السعادة عليهم؛ يحملون قلوبا رحيمة وعقولا متزنة. ما أجمل الرجوع مرة أخرى إلى الأرض في صورة فتاة أو شاب! ليتني أستطيع الاهتداء إلى الطريق.
الملك: إن الأرض بعيدة عنك مسيرة يوم واحد.
الروح: من ذا الذي يتحدث؟ أملك؟
الملك: نعم
الروح: تحية السماء إليك! لقد أرسلت إلى الأرض فهل أن تدلني على طريقها؟
الملك: أتريد الحياة في الأرض؟ أو لم تكن سعيدا في السماء؟
الروح: إنني جرة قد ملأتها السماء بالمحبة وفاضت على جوانبها، ولما لم يعد في استطاعتي الاتساع لشيء أكثر من ذلك السيل المتدفق من النعيم الإلهي، فهل يداخلك العجب، والحالة هذه إذا رأيتني أفتش عمن اقاسمهم ما لدي من هذا الكنز النفيس؟ هنالك أشياء لا شك إنني نسيتها عن الأرض التي ما تزال لها آثار حلوة في ذاكرتي، ولكنني كنت استمع من وقت إلى آخر، والدهشة تتملكني، من أولئك الذين رجعوا منها، أن الناس لم يستطيعوا إشاعة والسعادة في جوانبها كما هي في السماء، وهذا ما يدفعني إلى الاعتقاد بان هنالك مجالا متسعاُ للحب ليصنع المعجزة. إذا كنت تسير في اتجاه غير صحيح، أرجوك أن تدلني على الطريق.
إنني أعرف الكثير من الأرواح قد ارتعدت خوفاً وهي تدنو من الأرض، رهبة من شبح اليقظة والنوم هناك: لكنني لا أذكر أن مخاوفاً من هذا النوع دارت بخلدي وأنا العبث إلى الأرض للمرة الأولى.
الملك. في استطاعتك من هذه الفتحة رؤية الكواكب الذي تفتش عته.
الروح: أين؟ أنني أرى نجوماً لا يحصيها العد - وكأنها فقاقيع على بحر من الظلام. لست قادراً على تمييز الأرض من بينها: أهي ذلك النبع الهائل المتدفق من اللهيب؟
الملك: كلا. إنها أقل لمعاناً. إنها دائرة صغيرة، ومكان متواضع لا يكاد يرى من الشموس في الفضاء.
إلا ترى الكثرة الهائلة في الناحية البعيدة من الدب الكبر، والتي ينبعث منها شعاع متعدد الألوان كالبجاد المرجل القشيب؟ من تلك النقطة اتجه ببصرك إلى المشرق واجعل نظرك ينفذ في استمهال إلى ما وراء المجرة.
الروح: ليس في استطاعتي أن أرى شيئا من ذلك الاتجاه الذي تشير إليه؛ إنما أرى ظلاما دامسا وفراغا هائلا.
الملك: أرجع البصر إلى تلك الجهة مرة أخرى
الروح: يخيل إلي إنني أرى نقطة شديدة اللمعان، أهي تلك الأرض؟
الملك: لقد ابتدأت ترى الاتجاه الذي تتحرك فيه الأرض. إن الذي رأيته ليس إلا الشمس التي يبهر نورها نظر الإنسان.
الروح: لكنني الآن أرى أقراصا شاحبة الضوء تدور على نفسها في شكل دائري، أنراها ذرات سابحة في الفضاء فتتحرك أمام عيني المتعبتين؟
الملك: أترى تلك الدائرة الثالثة؟
الروح: نعم. .؟
الملك: تلك هي الأرض ولكم تبدو للعين صغيرة، دامسة الظلام، ولكنها على الرغم من ذلك، مفعمة بكل شيء جميل، وكل شيء لا تقوى الأنفس على احتمال ما فيه من أحزان تطير لها الألباب شعاعاً.
الروح: ألا بربك خبرني كيف تكون الولادة التي يبعث فيها روح من السماء إلى الأرض؟
الملك: إنها أشبه ما تكون بنوم بطئ، وانحلال تدريجي، وجزر تنكمش فيه القوة على نفسها، وغرق في تيار الحياة، ثم يقظة مفاجئة على صراع عنيف في النفس بين الرغبة والحرمان وبين الدموع والابتسامات.
الروح: اقسم بالذي خلق أن سوف لا يقف ما ذكرت عقبة بيني وبين الحب الذي سأتفق منه حتى نهاية الحياة نفسها.
الملك: لقد سبقتك إلى الأرض ملايين وملايين من الأرواح التي كانت تحمل في نفوسها هذا النور. من يدري فلعلك واجد لديك من القوة ما يكفي للثبات على هذه العزيمة، لكنني لا أرى بدا من أن أحذرك حين أقول لك إن الولادة أو البعث إلى الأرض تحمل في طياتها معاني تضائل روحانية السماء.
الروح: أرجوك أن تقودني إلى النقطة التالية لأمضي إلى الأرض؟
الملك: إنك تستعجل الذهاب في الوقت اللحظة التي انتظر فيها مواجهة عمل شاق جداً.
الروح: ماذا تعني!
الملك: إنني في انتظار فتاة ماتت منذ لحظات لأدلها على الطريق إلى السماء. إن الأرواح حينما تخلع اجسادها، أو كما يقول أهل الأرض حين تموت، تمر جميعها من هذا الطريق. إن الأرواح وهي تهبط من السماء إلى الأرض لا ترتدي غير هذا الزي البسيط الذي تبدو فيه أمامي الآن، ولكن مر السنين على الأرض لا يمكن العقل المكدود المرهق من أن يحيك للروح بردا من المثل العليا وإنما ينسج لها معطفا من الكبرياء والغرور والطموح، لا تستطيع عين الإنسان الفانية رؤيته فترتديه النفس، ويصبح ذلك المعطف الموشى بالذهب والدر والجوهر من سخافات الأرض حاجزا قوياً بين الإنسان وجوهره الإلهي الصحيح، كما يختفي لهيب النار والدخان عن العيون، وحين تموت تلك الأنفس لا تخلع هذا الرداء الذي ارتدته على الأرض، ويبقى عليها في طريقها إلى السماء وأنا في هذا المكان الذي يفصل السماء عن الأرض، أقوم بوجوب تعليم الأرواح وإرشادها إلى خلع هذا المعطف قبل دخول السماء لتعود إليه في بساطتها النورانية كما أنت الآن.
الروح: هل لك في جميل تطوق به عنقي؟
الملك: ماذا تريد؟
الروح: أن تتيح لي فرصة إقامة البرهان على إنني لم أتكلم عن الحب إلا كلام المؤمن بما يقول، وذلك عن طريق إنابتي عنك في تخليصها من ذلك المعطف.
الملك: إن الأمر ليس بالسهولة كما يخيل إليك. إنه أمر شاق عسير.
الروح: كيف! أعسير علي أن أقنعها بخلع ذلك الرداء، وإن تعود إلى سابق عهدها؟
الملك: سأتيح لك الفرصة التي تريدها. تلفت إلى تلك الناحية - إنها قادمة، ولما تتخلص من المتاعب الأرضية. ها هي تمشي وهي في حالة متوسطة بين اليقظة والنوم، أشبه ما تكون بإنسان يحلم حلماً لا يستطيع الإنفكاك منه. (تدخل الفتاة من اليسار وقد ارتدت معطفاً طرزت على حواشيه رسوم معقدة زاهية الألوان، رائعة المنظر. يدل صوتها وخطوات سيرها على إنها نائمة).
الفتاة: كلا. . . لا تذهبي! ينبغي أن لا تتركني!. . . يخيل إلى إنني في غير فراشي، وعلى الرغم من أن الألم قد تاء بكلكله على رأسي، وإن الحمى قد استراح منها جسدي، فأنني أحس بأنني أصعد في عالم خيالي من قمة إلى قمة، غير مستطيعة الكف عن ذلك: اشعر بميل شديد للراحة فعلي أن استريح.
(تجلس على الأرض)
الملك مخاطباً الروح: إنها لما تستطع التخلص من أفكارها كما رأيت، ولا تزال مربوطة بتلك الحياة التي كانت فيها.
الفتاة: اقتربي مني، أريد أن أحدثك عن أمور لها خطرها عندي. أتسمعينني؟ أنني مدينة لأختي بمبلغ من المال، والخوف يساورها، وتحدث نفسها عن إمكان عجزي عن دفعه إذا استمر المرض طويلا. أكدي لها إنني سأدفع كل مالها، وأنني لن أموت، وأن هذا المرض سيزول كغمامة الصيف. . ويح نفسي!. . ما الذي حدث! لا أسمع مجيباً. . أتراني في نوم عميق!
الملك للروح: إن هذا الذهول الشديد الذي يعصر كل قوة فيها، اللحظة بعد الاخرى، سيصبح اقل شدة وعمقا.
الفتاة: ما هذه الصور التي تتراءى لي. . .! أتراني في حلم عميق!. . . الصور. . . والشمس المرتفعة. . . وقد دفنت أشعتها في الغيوم، فبدأ نصف السماء وكأنه اللؤلؤ المنشور. . . وتلك السفوح الخضر وقد غطتها الازاهير التي لا تتحرك. . . اقتربي قليلا مني. . . وإذا حدثتك اليوم عن النقود فعديها عني بالدفع حالما تذهب وطأة الحمى. . . أين ذهبت؟. . . يخيل ألي انك بعيدة عني آلاف الأميال. . . إن صخور الأحلام ترتفع أمام
عيني مرة ثانية. . . ينبغي أن استمر في المسير. أشعر بضعف شديد وإعياء مفرط. . . حتى هذا المعطف الذي ارتديته قد اصبح يثقل رويدا رويدا فلا أكاد أقوى على حمله.
(تقف بصعوبة شديدة)
الملك للروح: لقد استيقظت الآن. اقترب منها. حل ذلك الطلسم الذي يربطها بالحياة حتى تخلع معطفها. . أسرع في عملك.
(يسير إلى اليمين)
الروح: لقد أتيت لمساعدتك. . . و. . .
الفتاة: وهل أنا في حاجة إلى ذلك! لقد كان كبريائي على الدوام يجعلني احتقر الاعتماد على الآخرين - ولكن - قل لي من أنت؟
الروح: لماذا؟ إنني روح في طريقي إلى الأرض من السماء.
الفتاة: لا يوجد شيء كالذي تتحدث عنه. . .
الروح: لكن. . . كيف؟ ألا تستطيعين تصديق ذلك الآن؟. . . أنظري. . . إنني أمامك!
الفتاة: أرواح بلا أجساد، أشياء غير معقولة. . . أنها أشبه ما تكون بآلة موسيقية لا أوتاد لها. . . ومع ذلك فأنني أرى لك شكر. . .
الروح: إن الشكل الذي تبصرينه إنما هو صورة جسدي هناك.
الفتاة: هنالك؟ أين؟ أتقصد الأرض!
الروح: إنني ذاهب إليها اليوم.
الفتاة: أتعني ما تقول؟ إذا كان ما قلته عن نفسك صحيحاً ففي أية حالة أكون إذن؟
الروح: إن جسدك قد مات، وأنت في طريقك إلى السماء.
الفتاة: أنا ميتة؟ ماذا أسمع؟ إذا كان قولك صحيحا فما أجهل الناس على الأرض بأسرار السماء. . إن البشر قد انصرفوا في السنين الأخيرة عن التفكير في هذه الاجور، واعتقدوا إنها خرافة، وأنها لا حياة أخرى بعد الموت.
الروح: أصحيح ما تقولين؟ ما أغرب ذلك! إن مرد استغرابي إلى عجزي عن تخيل الدنيا التي يعيشون فيها على حقيقتها.
الفتاة: أحسب أن هذه الصخور هي السماء؟ أليست كذلك؟
الروح: وأسفاه! إن السماء بعيدة جدا عن هذا المكان الذي وقف فيه ذلك الملك ليفصل عالم المادة عن عالم الروح.
الفتاة: ما دام الأمر كذلك، فإن أحد الطريقين يوصل إلى السماء وحتما، إن طريقي هذا. .
الروح: أتحسين إن في استطاعتك الانطلاق إلى السماء وأنت على هذه الصورة التي كنت فيها على الأرض؟
الفتاة: لماذا لا يكون ذلك في استطاعتي؟
الروح: إن الأعمال التي كنت تقومين بها على الارض، ليست إلا عتاقيد من التعب قد جف منها الرحيق.
الفتاة: لو كنت ميتة كما يخيل إليك، لفقدت ثروتي وشهرتي - والآن - وأنا في السماء - على زعمك - تقول لي أنني سأجد تلك الإدارة الحديدية التي جعلت اسمي مصدر هلع الناس، وتلك الثقافة العميقة التي صقلت عقلي وجعلته نسيج واحد، تقول لي، أنني سأجد هذين مكنزين النفيسين الذين هما كل ذخيرتي، لا شيء أبدا. ومعنى ذلك أنني أصبحت كسائر الناس. إن رغبة عنيفة لا قدرة لي على الغلبة عليها تدفعني إلى دخول السماء، فماذا يجب أن افعل!
الروح: أول ما يجب عليك عمله أن تخلعي هذا المعطف؟
الفتاة: لكن لا تنس أنني بذلت حياتي وأنا أصنع هذا المعطف، لقدنسجته من آلاف الخيوط، وزينته بالرسوم المعقدة ولونته بألوان قوس السحاب. . إنه صورة صحيحة عن جهادي في الحياة، وقليل من البشر من يستطيع الحصول على مثله، ولا شبيه له عند الناس.
الروح: أقسم لك مؤكدا، بأن ليس في استطاعتك دخول السماء ما لم تخلعي هذا المعطف عنك:
الفتاة: لا أستطيع تصديقك. . . لماذا؟ أنني إذا تجردت عن ذلك لم اصبح شيئا.
الروح: إن هذا الذي يعز عليك خلعه ليس برداء.
الفتاة:. . . كلا. . . إنه أكثر من ذلك. . . إنه الشخصية التي أبدو فيها. . . إنه حياتي الماضية. . . وذكرياتي. . . وما وراء كل ذلك من أحلام وآمان وشعور. . . وإذا قضي علي بنزع هذا المعطف، فما الذي يبقى مني؟ ليت شعري ماذا أصبح إذا فقدت شخصيتي؟
ومن أنا إذا غدوت واحدة من الملايين. . . أو مثل اللهيب المنبعث من الشمس؟ لن أكون في تلك الحالة، ما أنا عليه الآن. . . أبدا. . . إذا كنت ذاهبا إلى الحياة على هذه الصورة فاجعل أمانيك قليلة فيها. .
الروح: ماذا تعنين؟
الفتاة: أعني انك إذا لم تدبر حيلة تؤثر بها على أبناء جنسك فسوف يكون نصيبك البؤس والعذاب في الحياة حتى نهايتها. . . إنك ستكون موضع الازدراء. . . تطرد عن الأبواب وتنبذ كشيء حقير تافه.
الروح: ألا يساعد الناس بعضهم بعضا في الأرض؟
الفتاة: أتبدو علي هذه الصورة من الجهل والغباوة، وتتصدى لبيع النصائح!! إن الأرض بالنسبة إلي حب من طرازك مفروشة بالأشواك، ومفعمة بالآلام والدموع. . . إن الناس سينظرون إليك نظرهم إلى مستواه أو مأقون. . .
الروح: ما أغرب عالم يبدو فيه الخلق الكريم سخافة! أليس من الأنصاف للنور الذي يشع في ضمائرنا في السماء أن يكون الخلق الكريم كالهواء مشاعا للناس جميعاً. . لا يستغني عنه أحد كائنا من كان. . . لكن يريك خبرتي عن الحب. .؟ أليس له مكان في الأرض بين الناس؟
الفتاة: إنه كالنجم البعيد. . يرى وسرعان ما يغيب عن العيون. . .
الروح: أبتحارب الناس في الأرض، في ذلك المكان الذي أكل الدهر عليه وشرب؟
الفتاة: إنهم يقتتلون على ياردات قليلة من التراب، وعلى قليل من مادة براقة يسمونها الذهب. . .
الروح: أولا يزالون على ضلالهم القديم. . . لكن ماذا يفعلون في وقت السلم؟
الفتاة: عندئذ يجاهد كل إنسان في زيادة ما عنده من رزق كثير وأخذ اللقمة من فم الجائع. . .
الروح: أيقاتل الصديق صديقه، والأخ أخاه، على هذه الصورة؟ إذن كيف تتقدم الحياة خطوة واحدة على الأرض؟
الفتاة: كيف؟ إن ما فيها على التقدم، مرده إلى الصدف، لا إلى إرادة الإنسان.
الروح: كنت أظن أن الناس يحملون قلوبا رحيمة، وأن العدالة طريقهم السوي في الحياة. . .
الفتاة: ولماذا تحسبهم كذلك؟ ألا يرون أنفسهم مجرد عابر سابح في فضاء الكون الفسيح. . .
الروح: ولكن كيف غاب عنهم انهم أرواح!
الفتاة: ومع ذلك فأن معظم الناس يبذرون الحياة في الحماقات وفي إثارة المنازعات. . .
الروح: وما أسقاه! إذا كان صحيحا ما أسمه منك، فإن الحياة جحيم. . . لقد ابتدأت أخشى الرجوع إليها.
الفتاة: إذا بقيت سليم الطوية هناك كما أنت هنا، وبقيت تعتقد أن الحب هو السلطان الذي تخضع له نواميس الكون، فإنك ستجد الناس في حقيقتهم. . . جنسا من المخلوقات ممعنا في الخبث واللؤم والقسوة والهمجية لا يحترم غير الأقوياء ولا يبجل غير الظالمين. . . يعذبون الضعفاء ويجيرونهم على تحمل الأذى والعنت والإرهاق. . . أنني أسدي إليك هذه النصيحة. . . فكن عاقلا. . . فكر في نفسك. . . وأنسج لك من الآن معطفا تتقي به الأذى، وتخفي ما فيك من طيبة وراء مظاهر القسوة فيه. . . إنك في الأرض أحد رجلين، رجل يفرض أرادته على الأخريين ويسوقهم كالإنعام أمامه، ورجل لا شأن له بين الناس ولا يقول (لا) يملء فيه، إذا سيم خطة الضيم. . . ولكن إذا اقتلعت جذور الإنسانية والرحمة من قلبك، وتركتها هنا في السماء وأنت في أول طريقك إلى الارض، فانك ستأخذ هناك كل ما تريد، وتدفع الآخرين عن طريق نجاحك وتخطف اللقمة من الجائع، لا لتأكلها ولكن لتحتفظ بها لترفك. . . عندئذ لا أرى مانعا يحول بينك وبين السعادة. . . وليست لديك وسيلة أخرى للنجاح في الحياة.
الروح: كنت أحسب أن في استطاعتي جلب الحب للإنسان على الأرض قبل حديثك هذا.
الفتاة: ليس للحب وطبيعة القلب مكان هناك.
الروح: أهذا هو السبب الذي حملك على عمل هذا المعطف لنفسك؟
الفتاة: الآن والآن فقط. . . أخذت تدرك قيمته بالنسبة لإنسان يعيش في الحياة. . . لكن بربك أخبرني عن الطريق الذي ينبغي أن أسلكه؟ يالها من مسالك مخيفة. . . هائلة
الانحدار. . .
الروح: إنك لا تستطيعين التحرك من هذا المكان قبل أن تخلعي عنك هذا المعطف. . .
الفتاة: لقد أضجت مكاراً. . . داهية أيها الروح. . . إنك تسعى الآن. بطريقة خبيثة لتحصل على معطفي هذا لنفسك. . . إنها خطة ظريفة. . . لكن ما دمت لا تريد أن ترشدني إلى الطريق فسوف أسير كيفما تقودني قدماي. . .
(تتحرك سائرة إلى اليمين. . . لكن الملك يسد عليها الطريق)
الملك: إلى أين تريدين الذهاب؟
الفتاة: إلى السماء. . . إلى السماء. . .
الملك يجب أن تخلعي عنك أولاً هذه الكبرياء المتمثلة في نفسك الأمارة بالسوء. . .
الفتاة: وأنت أيضاً تقول لي هذا. . . يبدو بي أن شخصياتنا في السماء. . .
الملك: ليست إلا أحلاماً أرضية
الفتاة: والذكاء الذي كان يحملنا وراء أعقد المشاكل!
الملك: ستجدين في الآفاق العلوية ما لا يخطر لك على بال. . . سوف تتعلمين أصعب الأشياء بأسهل الطرق وأسرعها. .
الفتاة: كيف أيها الملاك!
الملك: إذا أحببنا شيئاً عرفنا كل ما تريد عنه سهولة عجيبة ويسر غريب. . .
الفتاة: لكن ليس معطفي الأنفسي. . . وأنت على الرغم من هذه الحقيقة تقول. . . ولكن لا أجدني قادرة على خلعه أبداً
الملك: تشجعي. . . وألقي بهذه النفس الأرضية بعيداً عنك
الفتاة: لن أفعل ذلك أبداً.
الملك: إذن لا مفر لك من البقاء في هذا المكان وعلى هذه الحالة المتوسطة بين الأرض والسماء، حتى يحين الوقت الذي يهديك الله فيه إلى الصواب فتكرهين هذه النفس وتودين التخلص منها. . .
الفتاة: وا أسفاه! ليست لي القدرة على البقاء لحظة واحدة في هذا المكان. . .
الملك: إذن. . . اخلعي هذا المعطف. . .
الفتاة: أحس أن مخاوفي ورغباتي قد تساوتا. . . كلا. . . لكن يجب أن أخلع هذا المعطف مهما كان العمل مخيفاً. . .
(تخلع معطفها وترميه على المقعد. . . وتبدو في زي بسيط ساذج مثل الروح تماماً)
لقد أصبحت الآن حرة طليقة من القيود. . . ورجعت إلى عالم السعادة المطلقة بعد طول الرحيل في عالم الشقاء. . . وأصبحت جزءاً من الوجود. . . محمولة على أمواج النورانية كما تحمل أمواج البحر الزبد إلى الشاطئ القريب. . .
الملك: (يتلفت نحو الروح) وأنت. . .؟ وداعاً! إلى اللقاء بعد رحلة الحياة. . . إلى اللقاء.!. .
(يسير الملك والفتاة في الطريق المؤدي إلى اليمين. . ويبغي الروح في مكانه ينظر إليهما وهما ينوا ربان عنه. . . يدير وجهه إلى الجهة الأخرى فتقع عيناه على المعطف. .)
الروح: إن طريقي شاق مرهق طويل. . . لقد هزأت الفتاة من بساطتي. . . وأكدت لي بأن سأكون في دنيا البشر موضع التهكم والازدراء. . . ولكن ليت شعري ما الذي يحدث لو أنني أخذت معطفها! أحسب أنني سأكون قوياً، نافذ البصيرة موضع رهبة الناس واحترامهم جميعاً. . ينبغي أن ألبس هذا المعطف. .
(يلبس المعطف)
لن أكون بعد اليوم أحد أولئك الذين يكتفون بالفتات المتساقط من أيدي الآكلين في وليمة الحياة على مائدة الدنيا.
سأضحك من دموع المعذبين، وأغني على أنين المتألمين. . .
سأحكم الناس ولن يحكمني إنسان. . وسأضع الأثقال عن ظهور الآخرين وأسوقهم بسوط الظلم محملين في طريق طويل مفروش بالأشواك والعذاب. . .
سأثير الرعب والهلع في رحاب الأرض
ستعرفني الحياة حين أضع العمامة على رأسي
(يسير في الطريق الأيسر هابطاً إلى الدنيا. .)
الملك: بعد أن أخذ مكانه على المقعد بعد إيصال الفتاة إلى السماء لقد لبس المعطف. . ما في ذلك شك. . . وا أسفاه. . . لقد تبخرت أحلامه برسالة الحب إلى الأرض. . . مضى
في الطريق التي رسمها القدر له. . . إلى دنيا البشر. . . إلى المكان الذي تختبر فيه الطبيعة في الطبائع. . .
(ينظر إلى اليمين)
أي روح سيهبط الآن من السماء إلى الأرض؟ ماذا سيكون مصير أحلامه؟ إن بعض الأرواح حين تصل إلى هذا المكان تنحل عزائمها، ويتبخر ما فيها من خير قبل وصول الأرض. . . ولكن بعض الأرواح يشرق فيها الحب إشراقاً قوياً لا تقوى ظلمات الأرض على طمسه فيها
علي محمد سرطاوي
دار المعلمين الريفية