المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 902 - بتاريخ: 16 - 10 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٩٠٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 902

- بتاريخ: 16 - 10 - 1950

ص: -1

‌مجانية التعليم والضمان الاجتماعي

خطوتان في سبيل النهضة: هما مجانية التعليم ومشروع الضمان الاجتماعي. أما الأولى فقد أصبحت حقيقة ناصعة وأما الثانية فقد أوشكت أن تكون. . وليس من شك في أن الخطوتين تقيمان صرح نهضة علمية واجتماعية تتطلع إليهما البلاد منذ أمد بعيد!

ومن التوافق العجيب أن تجيء الخطوتان متقاربتان لتكمل إحداهما الأخرى إذا ما حالت الحوائل بينها وبين بلوغ الكمال فمن الأشياء التي لا تقبل الجدل أن الفقير قد أعفى من عبء مرهق كان يثقل كاهله في مراحل التعليم، ونعني به المصروفات المدرسية التي كان يطلب إليه أن يقدمها فيعجز عن تقديمها في كثير من الأحيان. هذه حقيقة. . وحقيقة أخرى لا تقبل الجدل في هذا المقام، وهي أن أبواب المدارس قد تخلصت من تلك الأقفال الحديدية البغيضة التي كانت تصد عن العلم فريقا من الناس دون فريق. ومع ذلك فإن هناك أصواتا معارضة تقول لك: إننا نعترف بهاتين الحقيقتين ولكن. . ولكن هذه المجانية المطلقة لا تهيئ العلم لكل جاهل ولا تيسر مناهله لكل فقير، لأن المصروفات المدرسية لم تكن هي العقبة الوحيدة التي تعترض طريق الراغبين في العلم والساعين إليه. ماذا يفعل هؤلاء المعدمون في ربوع الريف حين يريدون لأبنائهم أن يستضيئوا بنور المعرفة، وهم لا يملكون ما تطالبهم به المدن من نفقات المأكل والملبس والمسكن لهؤلاء الأبناء؟!

ناحية من نواحي النقص بلا جدال. . ولكن وزارة المعارف ليست مسئولة عنها لأنها قامت بكل ما عليها من واجبات، وإنما المسئول عنها في تقدير الواجب الوطني هي وزارة الشئون الاجتماعية. ماذا نريد من وزارة الشئون أن تقدم عليه لتعين وزارة المعارف على جعل التعليم منحة طبيعية بأكثر حي، مثله في ذلك مثل الماء والهواء؟ نريد منها أن تعيد النظر في مشروع الضمان الاجتماعي. . إن هذا المشروع كما عرض علينا عن طريق الصحف والاذاعة، قد وضع ليحقق للعاجزين عن الكسب حياة كريمة تقيهم شر الحاجة التي تدفع بهم حينا إلى ذل السؤال، وتدفع بهم أحيانا إلى طريق الجريمة لتخلق منهم لصوصا ومعتدين. نعني أنها ستخصص لهم لونا من المساعدات المادية التي يمكن أن ترد عنهم غائلة الجوع وتدفع مرارة الحرمان، نعني مرة أخرى أنهم سيجدون ما ينفقون. . كل هذا جميل، وإنه لمفخرة من مفاخر الوعي القومي والاجتماعي والإنساني في هذه البلاد. ولكن أين مشروع الضمان الاجتماعي من هؤلاء الذين يجيدون ما ينفقون، ثم لا يجدون في

ص: 1

هذا الذي ينفقونه ما يفيض عنهم ليتيح لأبنائهم أن يستعينوا به على التعليم؟ أين هذا المشروع من هؤلاء ليوفر لهم من العون المادي ما يستطيعون معه أن يضمنوا لأبنائهم نفقات الملبس والمأكل والمسكن، إذا ما انتقلوا من حياة القرية إلى حياة المدينة حيث يطلب العلم وتنشد المعرفة ويقام للثقافة كيان وبنيانه؟!

هذا هو الجانب الجوهري في المشكلة. وإننا لنرجو أن يعمل على استكماله وزير الشؤون الاجتماعية، حتى لا يحرم من جدوى هذا المشروع الاجتماعي العظيم مصريون لهم كل الحق في الانتفاع بجدواه. وأي حق أصدق وأكرم وأجمل من أن تعاون وزارة الشؤون وزارة المعارف على أن تجعل من التعليم منحة طبيعية، يصل إليها الفقير وهو مستند إلى أيدي القائمين على أمره في كل مرفق من مرافق الحياة؟

ترى هل يقتنع وزير الشؤون؟. . إن وزير المعارف كفيل بإقناعه لأن المشكلة قبل كل شيء تتعلق بمستقبل الثقافة في مصر!

أ. م

ص: 2

‌الإسلام في الجزائر البريطانية

للأستاذ بدوي عبد اللطيف عوض

من العسير معرفة تاريخ وصول الإسلام إلى الجزائر البريطانية على وجه التحديد، وأكبر الظن أنه يرجع إلى نحو عشرات من السنين خلت.

ويمكن تلخيص قصة مجيء الإسلام إلى تلك البلاد فيما يلي. منذ أكثر من ستين عاما رغبت شخصية غنية من كبار الإنجليز في بناء جامعة للطلاب الهنود، ومعبد للهندوس، ومسجد للمسلمين، ومنزل لهم جميعا في إحدى ضواحي لندن التي تسمى (ووكنج) ولكن المشروع لم يتم منه إلا بناء المسجد، والمعبد.

ثم ظلت تلك الأبنية غير مستعملة، وقد تحول المعبد أخيراً إلى مصنع. أما المسجد فظل أمره مهجوراً.

ومنذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما حضر إلى لندن محام هندي مسلم يدعى (خواجا كمال الدين) فسمع بقصة المسجد المهجور، فعزم على الاستقرار في لندن، وتعمير هذا المسجد، وتنظيم جالية إسلامية هناك، وزاده حرصا على ذلك ما كانت تتيحه له ظروفه المالية من رخاء وثراء، يسرا له أن ينجح في هذا المشروع العظيم.

لقد أثمر مجهودات (خواجا كمال الدين) وكان لها آثار شتى ظهرت في هذه الحياة الجديدة، فقد جاءت الإرساليات الإسلامية الأولى إلى إنجلترا وتوالت الوفود تثرى، فنشروا الإسلام، وكانوا النواة الأولى لتكوين وحدة دينية نظامية لم تكن معروفة من قبل في سائر أنحاء هذه البلاد.

حقيقة لقد صادف المسلمون بادئ الأمر عقبات كثيرة، وإمعان في المناوأة لا من الحكومات وولاة الأمر هناك، ولكن من رجال الكنيسة الذين كثيرا ما تناولوهم وتناولوا الدين الإسلامي بالتجريح والطعن فيه، لكنهم اعتصموا بالصبر الجميل، وتذرعوا بقوة الإيمان الصادق.

كانت الصورة المعروفة عن الدين الإسلامي لمعظم العامة من الإنجليز، هي أن الإسلام لا يعرف إلا الانتقام والسيف لاقناع الشعوب والأمم باعتناقه، حتى أن البسطاء، والسذج منهم ظنوا أن هذه الوفود والإرساليات الإسلامية الأولى التي نزحت إلى الجزائر البريطانية، قد

ص: 3

جاءت لخطف نساء الإنجليز وأولادهم وأن هذا بعض ما قصد إليه المسلمون.

كان من جراء ذلك أن رفض بعض المحال التجارية والمطاعم في تلك الضاحية (روكنج) أن يتعاملوا معهم مما اضطر المسلمين وقتا ما أن يستحضروا طعامهم وحاجاتهم من لندن.

ولكن سرعان ما تبددت هذه الخرافات بفضل جهود الإرساليات الإسلامية الأولى التي كشفت للإنجليز والشعوب المختلفة هناك حقيقة الدين الإسلامي، وذلك بالخطابة والقاء المحاضرات العامة، وإذاعة النشرات، والكتب الإسلامية. هيأت المقادير حينذاك شخصية عظيمة من كبار رجال الإنجليز البارزين اعتنقت الإسلام، وقدت جماعة المسلمين تلك هي شخصية (اللورد هادلي) الذي اعتنق الإسلام عن حق وصدق ويقين، حين ظهر له أن هذا الدين دين الأمانة والصدق، وعلو النفس، وحب البر، والرحمة، وأنه الدين الذي يرتفع بالقلوب والأرواح لتتصل بالله ليعبدوه مخلصين له الدين، ولينبذوا عبادة ما سوى ذلك، مما يجعل القلوب والنفوس أشد من الأصنام تحجرا وقسوة.

زاد هذا الحادث الفذ في مكانة المسلمين، وازدهرت الحركة الإسلامية بإسلام (اللورد هادلي) واكتسبت كثيراً من القوة والنفوذ؛ فتكونت الجمعية الإسلامية البريطانية برئاسته لنشر الإسلام وتعريف الإنجليز وسكان الجزائر الإنكليزية أحوال المسلمين وتاريخهم وعقائدهم، وأهاب الرجل ومن معه من المسلمين بمن اتصل به من الناس أن يدركوا ما في الإسلام من جلال وخطر وسمو عن كل وضيع، وتعال عن كل دون، وأنه الدين الذي تتجه سياسته إلى توفير الطمأنينة لمن يتبعونه، وكفالة حرية الرأي لهم في عقيدتهم، وأن المسلم والنصراني، واليهودي سواء في حرية العقيدة والرأي، والدعوة إليه، وأن الحرية وحدها هي الكفيلة بانتصار الحق على الباطل، وتقدم العالم نحو الكمال.

لفت هذا أنظار الإنجليز وغيرهم إلى الدين الإسلامي، وأعلمهم أن الخرافات التي تحيط به في أذهان الناس ورؤوسهم لا نصيب لها من الحق والصحة. وتبع ذلك أن أعتنق الإسلام كثير من الشخصيات البارزة الإنجليزية وغيرهم، وانتقلت الدعوة من دوائرها الضيقة المحدودة إلى أوسع منها، وفشا ذكرها، وذاع أمرها، في كل الجزائر الإنجليزية بعد أن كانت حبيسة بين نعض المدن والولايات.

استمر الإسلام والمسلمون يزدادون انتشارا وعددا، ولم يمر يوم إلا أسلم فيه بعضهم لله

ص: 4

وجهه، وكان الفقراء والعمال أشد الناس على الإسلام إقبالا، حين عرفوا أنه يدعو إلى الحب والمروءة والتسامح، والحرية العزيزة على النفس إعزاز المرء حياته.

حقيقة أن الهجرات الإسلامية المتوالية من مختلف الأقطار الإسلامية إلى تلك البلاد طلباً للعلم أو الرزق أو التبشير، وحقيقة أن الطريقة الموفقة التي أنتهجها الدعاة في الدعوة إلى الإسلام، وعدم ما عسى أن يوجد في مثل هذه الظروف والأحوال من أنواع الأذى وضروب المقاومة، كل أولئك كان ذا اثر كبير في إقبال الناس على دين محمد واتباعهم إياه، وتقدم المسلمين والدعوة الإسلامية خطوة جديدة واسعة، فقد كان الدعاة يعتمدون حقا على أسمى الطرق التي وصلت إليها الإنسانية في سبيل تحرير الفكرة، تلك الطريقة التي تلزمك أن تمحوا من نفسك كل رأي وعقيدة سابقة لك فيما تريده من بحث ودرس وتمحيص، ثم تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم الاستنباط الناتج من هذه المقدمات العلمية، حتى تصل إلى النتيجة العلمية الخاضعة بالطبع لهذا البحث والتمحيص.

إنفسح المجال أمام المسلمين، وأخذوا ينشرون تعاليم دينهم في جميع الجهات التي نزلوا فيها، فتركت هذه التعاليم في النفوس أعمق الأثر حتى لقد أقبل كثير من السكان في على الإسلام.

والمسلمون في هذه البلاد يتكونون من شعوب وجنسيات مختلفة، الهنود الأندنيسيون، الأتراك، البولنديون، العرب، المصريون، الإنجليز، الإيرانيون، الشاميون، الأفريقيون، مثل تنجانيقا، ونيجريا، وساحل الذهب وغير ذلك كأهل الملايو، والمغارية، والصينيون.

لكن معظم هؤلاء جميعا يتكون من الباكستانيين، إذ بلغ عددهم حوالي ثلاثين ألفا في إنجلترا، أما العرب فهم نحو أربعة آلاف مسلم، منهم نحو ألفين يقيمون في (كاردف) وهؤلاء الكاردفيون لهم مسجد لإقامة الصلوات والشعائر الدينية وجمعية إسلامية لتنظيم أحوالهم.

أما عدد الإنجليز الذين أسلموا إسلاما حقيقيا في الجزائر البريطانية فحوالي أربعة آلاف نسمة معظمهم من العسكريين والعمال الذين قضوا شطراً من حياتهم في الأقطار الشرقية.

أما المصريون المقيمون فيم قلة، إلا إذا حسبنا أولئك الذين نزحوا إلى تلك البلاد في عمل تجاري، أو طلبا للعلم وهؤلاء يبلغون ألفا أو يزيد.

ص: 5

كذلك توجد جاليات إسلامية في مانشتر وليفربول، وجلاسجو والمدن الأخرى الهامة مثل أكسفورد وكمبردج وهؤلاء يختلفون قلة وكثرة.

وأيا ما كان الأمر، فعدد المسلمين جميعاً غير معروف بالضبط ولذا كان تقديرهم غير دقيق، لأنه لم يحدث أن أجرى لهم تعداد أو إحصاء سابق، إلا أنه يمكن القول بأن عددهم اليوم حوالي ستين ألفا من الأنفس، وأن هذا العدد في ازدياد مطرد كل سنة، نتيجة للراغبين في الإسلام، ونتيجة لتزاوج المسلمين بغيرهم من الأجنبيات اللاتي يرحبن كثيراً بأن يكن على دين أزواجهن.

ويحمل بنا في هذه المقام أن نتحدث عن الجمعيات أو المراكز الإسلامية في الجزائر الإنجليزية بشيء من الإيجاز.

المركز الثقافي الإسلامي:

هو أهم المنشآت الإسلامية بإنجلترا، وهو يشغل قصرا من أفخم القصور وأكبرها في لندن وفي أحيائها العظيمة ويلاحظ فيه بذخ الرباش وفخامة الأثاث وبه حديقة واسعة الأرجاء، غنية بورودها وزهورها وأشجارها الفارعة وبهذه الحديقة ملعبان للتنس. .

وهو كذلك المكان الأول الذي يلقي فيه المسلمون المقيمون في إنجلترا ويستقبل الشخصيات الإسلامية الوافدة إلى لندن، فيهيئ لهم أسباب الراحة والاستقرار ويتيح لهم فرصة الاجتماع بالمسلمين المقيمين هناك.

والمركز الثقافي الإسلامي بلندن جزء من المشروع العظيم الذي شجعه، وما يزال يشجعه صاحب الجلالة مولانا الملك (فاروق الأول) أيده الله بروح من عنده، فقد افتتح جلالته اكتتابا عام 1940 بعشرة آلاف جنيه لإنشاء مركز إسلامي، ومسجد بلندن.

وتوالت التبرعات بعد ذلك من ملوك الدول الإسلامية وحكوماتها. ولما وضعت الحرب الأخيرة أوزارها أنشئ هذا المركز الإسلامي وزوده جلالة الفاروق أعزه الله بآلاف الكتب الإسلامية، ولا يزال في كل مناسبة يزوده بمختلف المؤلفات الدينية النفسية، ويوليه عنايته ورعايته.

ورئيس المركز الإسلامي هو فضيلة الأستاذ الدكتور علي حسن عبد القادر أحد علماء الأزهر الممتازين، وقد تخرج في جامعة برلين، ولندن، وهو واسع الثقافة والإطلاع.

ص: 6

وقد استطاع بما عرف عنه من جد ونشاط ومثابرة أن يعد هذا المركز إعداداً طيباً وأن يجعله مركزا ثقافيا ممتازا.

ولما اتسعت أعمال المركز الإسلامي وتشعبت النواحي، وأزداد النشاط فيه، وذاع أمر الدعوة بين الإنجليز وغيرهم، بما جعل أمر الإسلام ينتشر ذكره في تلك البلاد، وأصبح المسلمون في حاجة إلى مزيد من العناية والتوجيه؛ لما كان الأمر كذلك رغب الأستاذ الدكتور علي عبد القادر ورغب معه رئيس الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى وبعض كبار المسلمين هناك إلى المسؤولين في مصر أن يزودوا المركز الإسلامي ببعض الأساتذة من علماء الأزهر، لنشر الإسلام، وتنوير المسلمين في شؤون دينهم، فلبى الأزهر هذه الرغبة الطيبة، وسمع لها، وقرر مجلسه الأعلى في نوفمبر سنة 1948 إيفاد أثنين من مدرسي كلية أصول الدين في بعثة دراسية إلى لندن هما فضيلة الأستاذ سليمان دنيا، وكاتب هذا المقال.

وأسند إليهما حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر العمل في المركز الإسلامي على تأدية رسالة الأزهر وإعلان دين الله وإعلاء كلمة الحق معه في هذه البلاد.

وقد حققت هذه البعثة بعض رجاء الإسلام والوطن والأزهر فيها، فنظمت بالتعاون مع فضيلة الأستاذ الدكتور علي عبد القادر النشاط الديني والثقافي في المركز الإسلامي، وبرز هذا النشاط في صورة كانت موضع الارتياح والاغتباط من الجميع في الحفلات التي يدعى إليها المسلمون وغيرهم من مختلف الأديان والأجناس.

كذلك فتحت المكتبة العامة للمركز الإسلامي أبوابها للزائرين في مواعيد مختلفة للاطلاع والانتفاع بكتبها القيمة وفنونها المختلفة.

والصلوات المفروضة أقبل عليها المسلمون كذلك في كثرة لم تعرف من قبل، ولا سيما في أيام الجمع التي يعتبرونها أعيادا لهم، يتبادلون فيها أنواع الأحاديث الشيقة وأسباب الأخوة الخالصة.

ونأمل أن يواصل الأزهر جهوده وبعوثه حتى يتمكن من تأدية رسالته على أكمل وجه وأفضله، بفضل رعاية حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك (فاروق الأول)

حقا لقد سر المسلمون كثيراً إذ وجدوا في قلب لندن مكانا إسلاميا، بل جامعة إسلامية

ص: 7

يتزودون بالعلوم الإسلامية ويبسطون فيه مشاكلهم الدينية، ويتشاورون فيما يطرأ عليهم من الأمور.

وسروا كذلك إذ وجدوا داراً تقام فيها المراسيم الإسلامية، ويعتنق الإسلام كل من يرغبه، وتعقد فيها الزيجات الإسلامية. وتحل المشاكل الزوجية.

مسجد لندن:

وأحسب أن المسلمين ستفيض نفوسهم بالغبطة وتمتلئ قلوبهم بالمسرة إذا رأوا مسجداً مشيداً بجانب المركز الثقافي الإسلامي، يكون مثابة للناس وإليه تكون وجهتهم في أمورهم وعبادتهم، وليؤدوا فريضة فرضها الله على الناس جميعاً.

إن الأرض الفضاء التي تبرعت بها الحكومة الإنجليزية بناء المسجد والتي هي بحق في أجمل مناطق لندن لا تزال فضاء.

إن المبالغ التي جمعت من الاكتتاب قد أنفق بعضها في تنظيم المركز الإسلامي وتأثيثه، والباقي قليل لا يكفي لبناء المسجد وتشييده.

إنه من الخير، والخير العظيم حقا أن تتضافر الجهود وتتعاون الحكومات الإسلامية، ومن أشرب قلبهم حب الخير والبر، على المشاركة في بناء مسجد لندن وأن يكون بناؤه عظيما وأن تكون عظمته لافتة أنظار الملايين من الناس الذين يمرون به ويزورونه، نريده مسجداً فخما، على طراز المساجد العظيمة التي شيدت في عصر المماليك، وعصر الأسرة العلوية الملكية (عصر النهضة العربية الحديثة) لأنه سيكون منارة الإسلام وقبلة المسلمين في العاصمة البريطانية بل في عاصمة الدنيا الحديثة.

إذا كانت مصر قد فكرت في إنشاء المركز الثقافي الإسلامي، ومسجد لندن، وساهمت بمعظم المبلغ الذي جمع من الاكتتاب، وإذا كانت مصر قد نجحت في تنفيذ فكرة المركز الإسلامي بفضل صاحب الجلالة مولانا الملك، وأن هذا النجاح قد أتاح لها مكانة رفيعة، ومقاما كريما في الأوساط الدينية والعلمية بإنجلترا؛ إذا كانت مصر قد فعلت ذلك، فأجمل بها أن تتم هذا المشروع العظيم، وأن يخصص القائمون بالأمر في ميزانية الدولة من المال ما يكفي لبناء هذا المسجد والإنفاق عليه حتى يستمر في أداء رسالته على أفضل وجه. وأكمل سبيل. وحتى تتناول الحياة فيه من صورة النشاط الديني والثقافي ما يوازي بينها

ص: 8

وبين سمو الفكرة وتحقيق المثل الأعلى للإسلام والمسلمين في تلك البلاد.

البقية في العدد القادم

بدوي عبد اللطيف عوض

أستاذ في كلية أحوال الدين وعضو بعثة فؤاد الأول الأزهرية

بإنجلترا والملحق بالمركز الثقافي الإسلامي بلندن

ص: 9

‌صورة من الحياة

هوى على الشاطئ

للأستاذ كامل محمود حبيب

- 1 -

ما أتعس الطائر السجين إن انفلت يوماً من بين قضبان قفصه الضيق يبتغي الحرية والانطلاق! أنه سيحاول عبثاً أن يضرب الهواء بجناحيه ليستوي مطمئنا بين ثنايا الفضاء، لأنه - ولا ريب - سيجد في جناحيه الذبول وفي قوته الوهن وفي جلده الخور، فهو قد عاش عمره في سجن من حديد. أو قفص من ذهب ، ولم يبل الفضاء ولا عرك الحياة.

أما صاحبي فلقد كان طائراً سجيناً أمسكته الحياة في أغلال من حنان أمه لا يحس إلا بنبضات قلبها الرقيق ، وكبلته في قيود من عطف أبيه لا يستشعر إلا خفقات فؤاده الرحيم، وحبسته القرية في ظلمات من التقاليد العاتية تسدل على عينيه غشاوة تعميه عن أن يهتدي في مسارب الحياة ومسالكها، ومن ورائه أبوه يلقنه - فيما يلقن - مبادئ الدين الجافة. . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام.

ودفعه أبوه الشيخ إلى المدرسة، ووقف ينظر إليه وهو يدلف في البذلة والطربوش يتعثر في مشيته لا يكاد يتماسك. وسرت النشوة في عروق الشيخ حين تراءى له هذا الصبي الضاوي من أعماق الخيال يوشك أن يصبح موظفاً في الحكومة. . موظفاً من ذوي المكانة والشأن، قد ذهب سمعه في الناس ودوى صيته في البلاد، له الأمر والنهي وعلى الناس الطاعة والخضوع؛ فأبتسم للأخيلة الجميلة.

وأحي الصبي - منذ أول يوم - بالعبء الثقيل يفدحه، فهو هنا في المدينة يفتقر إلى العائل الرفيق الذي يربت على كتفه ويغمره بالحنان ويهيأ له حاجاته في عناية ويدلّله في حب ، وهو قد نأى عن أترابه في الملعب ونزح عن رفاقه في الغيط، فافتقد اللهو والمرح، ليحس - أذى الوحدة وضيق النفس، وليجد مس عصا المدرس وهي غليظة قاسية. وشعر بالأسى في أضعاف قلبه الغض - لأول مرة - يوحي إليه بأنه أمسى يتيماً ضائعا؛ فانطوى على

ص: 10

نفسه ينشر أتراحه ويطويها، غير أنه لم يستسلم لخواطره السود إلا ريثما تنجاب عنه غمرات الوحشة التي اكتنفته منذ هبط المدينة.

ورأى الصبي - بعد لأي - أن لا معدى له عم أن يلقي السلم لما أراد أبوه. ولكنه كان يضطرب في ذعر وفرق كلما ذكر عصا المدرس وهي تفري جلده في قسوة وجفاء، وكلما ذكر كف الناظر الغليظة وهي تهوي على وجهه تصفعه في غير شفقة ولا رحمة. والمدرس في تربية الطفل طريقة تبذر في التلميذ غراس الكذب والمكر، وتنفث فيه روح الملق والخداع؛ وللناظر وسيلة في حفظ نظام المدرسة توحي إلى الصبي بأنه لا يستطيع أن يتقي قسوة المدرسة إلا أن يفزع عنها ليقضي صدر النهار في منأى عن العلم ليتعلم فنون الشارع وفنون السيما معاً.

وكان الصبي حديث عهد بالمدينة فما استطاع أن ينجرف في تيار الحضارة، وكان وحيداُ من الخلان فما استسلم لنزوات النفوس العابثة، وأراد أن يأمن كيد المدرس والناظر فعقد العزم على أمر، فراح يقضي وجه النهار في الفصل، يجلس في هدوء وصمت، لا تشغله نزعات الصبا ولا سفه الطيش ولا جهالة الحمق، وراح يقضي أول الليل في حجرته الصغيرة يستذكر درسه ويؤدي واجبه، عسى أن يرضى المدرس أو يستميل الناظر فما تلبث أن تصدر أترابه وبذ أقرانه وظفر - في غير جهد ولا عناء - بحب المدرس وتقدير الناظر واحترام الزملاء في وقت معا. غير أنه ظل يرسف في أغلال ثقلال من الدين. . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام.

ومضت السنون تنفح في الصبي من روح الشباب، ومن ورائه أبوه الشيخ يثقنه - فيما يثقن - مبادئ الدين الجافة. فبدت سمات الشباب الجياش على وجه الصبي وتألفت آثاره في عقله، ولكن قلبه ما زال يرهب الحياة ويفزع عن موكيها، فعاش في وحدته يضطرب بين الحياء والخجل فلا يجد ملجأ يعتصم به إلا الكتاب والدرس

لطالما سولت له نفسه الشابة أمراً، ولكن أغلال الدين الثقال التي كبلته منذ شب عن الطوق كانت دائماً تمسكه عن أن يندفع

وانطوت سنوات الدرس فإذا الشاب فتى يتأنق في زيه الإفرنجي وخواطره ما تزال هناك

ص: 11

في الريف تعيش بين الحقول والدين. وانكشفت أفكاره الفجة عن أمانيه من السذاجة والبله لم يهذبها الكتاب ولا شدبها الدرس. . أفانين من السذاجة والبله تغلغلت في نفسه لأنه عاش عمره في سجن من حديد. . . أو قفص من ذهب لم يبل الفضاء ولا عرك الحياة

وأراد الشاب أن يكون مدرساً فكان له ما أراد

ونسى الشاب أن المدرس رجل حبته الحياة بصنوف من البلاء أيسرها الإرهاق في العمل والإملاق من المال، وأقلها أنه رجل مغموط الحق موزع النفس يحاسب حساباً عسيراً على عمل من لا يحسن العمل ولا يستشعر المسئولية. أو لعله استمرأ الشظف واستعذب المتربة فأطمئن إليهما فأختار أن يعيش بينهما أبداً

واختار له أبوه، فتزوج الفتى من فتاة ريفية من ذوي قرابته فيها الجمال والرقة وفيها الثراء والقناعة وفيها الطاعة والوفاء. ووجدت الحكومة في الفتى اللين والانقياد فطوحت به في أنحاء البلاد تدفعه من قرية إلى قرية، وزوجته لا تحس العنت ولا الضيق، وهو صامت لا يجأر بالشكوى ولا يئن من ظلم. وأنى له أن يفعل وهو لا يجد الوسيلة ولا يحسن الزلفى ولا يعتمد على كبير من ذوي المكانة والجاه، فقضى عمراً طويلاً من عمره تتقاذفه النوى وتتجاذبه القرى

ورضيت نفس الفتى فأطمئن فأحس بالسعادة والنعيم

وابتسمت له الحياة فنقلته الحكومة إلى القاهرة ليعيش في المدينة الزاخرة على حيد الطريق بين زوجته وأولاده، مثلما يعيش القروي في قريته، لا يندفع في غمار المدينة ولا يغتمر في صخب الحضارة ولا عجب فنوازعه الريفية ما تزال هناك تضطرب بين الحقل والدين.

وفي القاهرة وجد الفتى رفاقاً في المدرسة ينزعونه من خلوته وهو يصبو إلى المتعة، وفي المقهى ألفى صحاباً يصرفونه عن الدار وهو يحن للحرية، وفي السيما أصاب أصدقاء يجذبونه عن الزوجة والولد وهو يهفو إلى اللذة. وأوشك الفتى أن يتردى في هاوية ما لها من قرار، ولكن روح الدين كانت تضطرم في نفسه - بين الحين والحين - فتردعه عن الغي وترده إلى الدار والزوجة والولد، غير أن شياطين المدينة كانوا ينفذون - دائماً - إلى نفسه بأساليب شيطانية لا يسفل إليها عقله الديني الساذج، فيخضع لنزواتهم حيناً بعد حين.

ص: 12

وتعاوره الدين ورفاق السوء فما يسكن إلى دينه وهو يجد فيه معاني السجن ولا يطمئن إلى رفاقه وهو يلمس في عبثهم معاني الزلة الكبرى. والشباب المتأجج في قلبه يدفعه إلى غاية

وهبت نسمات الصيف تلفح القاهرة بوقدة الهاجرة، وجلس الفتى إلى رفاقه يسمع الحديث وقد تفتق فنوناً يصف سفعات الحر ويضيق بأيامه وهي تتلهب كأن فيها لظى من الجحيم، والفتى لا يضرب في الحديث بسبب، فماله بحر القاهرة من عهد منذ زمان، فهو يقضي شهور الصيف - دائماً - في القرية. وأجمع رأي المجلس كله - سوى صاحبنا - على أن يقضوا بعض أيام الصيف هناك في الإسكندرية على الشاطئ، عند الربيع الأزرق، يطلبون الجمام والراحة وينفضون عنهم عناء العمل وعناء التقاليد. وضاق الجمع بالفتى الصامت فانبرى واحد منهم يحدثه ليرى رأيه، فقال الفتى (أما أنا فقد دأبت على أن أقضي شهور الصيف كلها في القرية) فقال واحد (وإذن فإنك لم تر الإسكندرية من قبل) فقال الفتى (لا، لم أفعل أبداً، ولم يدر بخلدي أن أفعل) فقال آخر (لا ضير، فهذه فرصة سانحة تستطيع أن تجد فيها متعة النفس وراحة الجسم وفرحة القلب)

وتشقق الحديث، وانحط الجماعة على الفتى يزينون له الحياة في مرح الشاطئ وافتنوا في الحديث فلم تعجزهم الحيلة أن ينفذوا إلى قلب الفتى في سهولة ويسر، فالقى السلم لرغباتهم وهو يحدث نفسه:(لا ضير، فسأجد هناك الصحة والنشاط والمتعة)

وبعد أيام أخذ الرفاق يتهيئون للسفر، وراح الفتى يعد نفسه للسفرة الحبيبة. وانطلق الركب إلى الإسكندرية. فماذا وجد صاحبي هناك. . . وماذا رأى؟

كامل محمود حبيب

ص: 13

‌بمناسبة ذكرى شوقي

شوقي وتاريخ مصر

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

كان لتاريخ مصر القديم، وما خلفه بنوها من آثار خالدة ما بقي الزمن، أثر بالغ في نفس شوقي، ملأها بالإكبار والإعجاب بمقدرة المصريين القدماء، وما بلغوه في ميادين الحضارة من رفعة ونهوض، وبدأ هذا الأثر واضحاً جلياً في شعر شوقي، فهو لا يكاد يذكر مصر القديمة إلا محاطة بهالة من الإجلال والتكريم، وها هو ذا يستقبل طياراً وافداً على مصر، فيوصيه بأن يؤدي لمصر ما هي جديرة به من تعظيم وإكبار فيقول:

يا راكب الريح، حي النيل والهرما

وعظم السفح من سناء والحرما

وقف على أثر مر الزمان به

فكاد أثبت من أطواره قمما

واخفض جناحك في الأرض التي جملت

موسى رضيعا، وعيسى الطهر منفطما

وأخرجت حكمت الأجيال خالدة

وبينت للعباد السيف والقلما

وشرفت بملوك طالما اتخذوا

مطيهم من ملوك الأرض والخدما

هذا فضاء تلم الريح خاشعة

به، ويمشي عليه الدهر محتشما

ونظم قصيدة كبرى ألم فيها بالحوادث الكبرى التي ألمت بهذا الوادي العزيز، فكان إذا مر بعصر من عصور المجد والازدهار، امتلأ فخراً وتيهاً، ومضى يسجل هذا المجد في أسلوب تملؤه الحرارة وقوة الحياة. وها هو ذا في تلك القصيدة، يتحدث عن عصر بناة الأهرام فيقول:

وبنينا، فلم نخل لبان

وعلونا، فلم يجزنا علاء

وملكنا، فالمالكون عبيد

والبرايا بأسرهم إسراء

قل لبان بني فشاد فغالى

لم يحز مصر في الزمان بناء

ليس في الممكنات أن تنقل الأج

يال شماً وأن تنال السماء

أجفل الجن عن عزائم فرعو

ن، ودلت لبأسها الآناء

شاد ما لم يَشد زمان ولا أنش

أعصر، ولا بني بناء

فإذا مر بعصر مظلم امتلأ شعره بالأسى على ما حل بالوادي من تدهور وانحلال، ومضى

ص: 14

يتلمس العظمة من حوادث العصر، فها هي ذي مصر وقد داس حماها الرعاة تضمر في نفسها الشر، ويتجمع بنوها حول لواء زعيمهم، ليخرجوا على ظلم العدو وقسوته، ويستخلص شوقي الحكمة من حوادث ذلك العصر في قوله:

إن ملكت النفوس فاتبع رضاها

فلها ثورة، وفيها مضاء

يسكن الوحش للوثوب من الأس

ر، فكيف الخلائق العقلاء

وهكذا يمضي شوقي في تلك القصيدة متنقلا من عصر إلى عصر، حتى انتهى به المطاف إلى العصر الحديث، يرسم الخطوط البارزة في تاريخ هذا الوطن، ويحدثنا في قوة عن شعوره إزاء هذه الحوادث العنيفة.

وعندما وقف شوقي أمام النيل، فأنشأ هذه القصيدة الخالدة التي بدأها بقوله:

من أي عهد في القرى تتدفق

وبأي كف في المدائن تغدق

أخذ يستعيد بخياله ما قام على ضفتيه من حضارة، وما شيد على جانبيه من آثار المجد، وهنا يستوقفه ما يروى من أن قدماء المصريين عبدوا النيل، فيرى هذه العبادة تنم على ما عرفوا به من وفاء ومروءة، وعلى ما للنيل جدير به من الحب والتقدير ويحدثنا عن ذلك شوقي في قوله:

دين الأوائل فيك دين مروءة

لم لا يؤله من يقوت ويرزق

لو أن مخلوقا يؤله لم تكن

لسواك مرتبة الألوهية تخلق

جعلوا الهوى لك والوقار عبادة

إن العبادة خشية وتعلق

دانوا ببحر بالمكارم زاخر

عذب المشارع مده لا يلحق

متقيد بعهوده ووعوده

يجري على سنن الوفاء ويصدق

يتقبل الوادي الحياة كريمة

من راحتيك عميق تتدفق

وإليك بعد الله يرجع تحته

ما جف أو ما مات أو ما ينفق

ويأخذ شوقي في الحديث عن حكمة الفراعنة وأسرار عقائدهم، وعن هذه الهياكل المنثورة على ضفتي النيل، وهنا يتجلى إعجاب شوقي بتلك الهياكل الشامخة ويصفها أروع وصف وأخلده، ويصور الفناء عاجزاً أمام جلالها، لا يستطيع أن يهتدي إلى مكان ينفذ إليها منه، واستمع إلى شوقي حين يقول في تلك القصيدة:

ص: 15

ولمن هياكل قد علا الباني بها

بين الثريا والثرى تتنسق

منها المشيد كالبروج، وبعضها

كالطود وتضطجع أشم منطق

جدد كأول عهدها، وحيالها

تتقاوم الأرض الفضاء وتعتق

من كل ثقل كاهل الدنيا به

تعب، ووجه الأرض عنه ضيق

علا على باع البلى لا يهتدي

ما يعتلي منه وما يتسلق

ويصور الخيال لشوقي تلك المواكب الفخمة المهيبة، يزيد من جلالها مقدم فرعون في جنده وحاشيته، فهذا موكب من مواكب النصر، أب فيه فرعون بجنده منتصراً سعيداً بنصره، وهذا موكب تحتفل فيه البلاد بوفاء النيل، وتلك مواكب الحج يقدم فيها الحجيج إلى طيبة من كل فج عميق، ولندع إلى شوقي يصف لنا أحد هذه المواكب في قوله:

كم موكب تتخايل الدنيا به

يجلي كما تجلي النجوم، وينسق

فرعون فيه من الكتائب مقبل

كالسحب قرن الشمس منها مفتق

تعنو لعزته الوجوه، ووجهه

للشمس في الآفاق عان مطرق

آبت من السفر البعيد جنوده

وأتته بالفتح السعيد الفيلق

ومشى الملوك مصفدين، خدودهم

نعل لفرعون العظيم ونمرق

مملوكة أعناقهم ليمينه

يأبى فيضرب، أو يمته فيعتق

وفي تلك القصيدة يتحدث شوقي عن الأديان التي عرفتها مصر، التي نبت فيها أصل الحضارة، وأنبثق نور المدينة، فكانت المهد الذي ولدت فيه الحكمة، وترعرع فيه العلم، وتأصل في نفوس بنيه الدين.

ويبدع شوقي أيما إبداع عندما يقف أمام صفحة من صفحات تاريخ المجد المصري القديم، ويصل في وصفها إلى أبعد الغايات وأسماها، والحق أن تلك الصحائف الخالدة من تاريخ مصر، والناطقة بمجدها القديم وهي تلك الآثار المنثورة هنا وهناك قد وجدت صداها في شعر شوقي، فأبدع وأجاد في وصفها وها هو ذا يقف أمام الأهرام فيقول:

قل للأعاجيب الثلاث مقالة

من هاتف بمكانهن وشاد

لله أنت، فما رأيت على الصفا

هذا الجلال ولا على الأوتاد

لك معابد روعة قدسية=وعليك روحانية العباد

ص: 16

أسست من أحلامهم بقواعد

ورفعت من أخلاقهم بعماد

أما أبو الهول فقد أفرد لمناجاته قصيدة طويلة أفرغ فيها ما مر به من خواطر وهو يقف أمام هذا التمثال الخالد الغامض، فسأله عن هذا البقاء المتطاول وإلى أية غاية ينتهي:

إلام ركوبك متن الرما - ل لطي الأصيل وجوب السحر

تسافر متنقلا في القرو - ن، فأيان تلقى غبار السفر

أبينك عهد وبين الجبا - ل، تزولان في الموعد المنتظر

ويسأله عن سره الذي يخفيه بين جنبيه، وقد تحير فيه وضل من بدا من حضر، ثم يمضي في سؤال أبي الهول عما رآه من أحداث وما شاهده من العبر:

فحدث فقد يهتدي بالحدي

ث، وخبر، فقد يؤنسني بالخبر

ألم تبل فرعون في عزه

إلى الشمس معتزيا والقمر

ظليل الحضارة في الأولي

ن، رفيع البناء جليل الأثر

يؤسس في الأرض للغابر

ين ويغرس للآخرين الثمر

وراعك ما راع من خيل قمب

يز ترمي سنابكها بالشرر

جوارف بالنار تغزو البلا

د، وآونة بالقنا المشتجر

ويظل يسأله عن كبار هذه الأحداث حتى ينتهي إلى العصر الحديث فيطمئن على مصير مصر التي تيقظ أبناؤها ومضوا يطالبون كبار الأمور وجلائل المعالي.

ومن أجمل الآثار التي وقف عندها شوقي، واستوحى لديها عظمة تاريخ هذا الوطن قصر (أنس الوجود) بأسوان، وقد أجاد في وصفها ووصف ما أوحت به إليه من خواطر شتى في تاريخ مصر القديم، ولا زلنا نحفظ لشوقي قوله في وصفها:

رب نقش كأنما نفض الصا

نع منه اليدين بالأمس نفضا

ودهان كلامع الزيت مرت

أعصر بالسراج والزيت وضا

وخطوط كأنها هدب ريم

حسنت صنعه وطولاً وعرضا

وضحايا تكاد تمشي وترعى

لو أصابت من قدرة الله نبضا

ومحاريب كالبروج بنتها

عزمات عن عزمة الجن أمضى

ومقاصير أبدلت بفتات ال - مسك تربا، وباليواقيت قضا

ص: 17

وقد أثارت فيه رؤية هذا القصر ذكريات من تاريخ مصر، فأخذ يتساءل عن هذا الملك العتيد، وما كان له من مجد، وعن فرعون ومواكبه، وإنريس وهوروس:

أين (إيزيس) تحتها النبيل يجري

حكمت فيه شاطئين وعرضا

أسدل الطرف كاهن ومليك

في ثراها، وأرسل الرأس خفضا

يعرض المالكون أسرى عليها

في قيود الهوان عانين جرضا

وكان للكشف فن قبر توت عنخ آمون وما ينبئ عنه من حضارة رفيعة عميق الأثر في نفس شوقي، فمضى يسجل في شعره صفحة ناصعة من تاريخ هذا الوطن، ويصف تلك الحضارة التي أبان عنها كشف ذلك القبر. ومن أهم ما أثر فيه تلك الموازنة المؤلمة بين هذا الماضي المشرق بالمجد والعامر بالفخار، ويبين هذا الحاضر المليء بالضعف والتأخر، واستمع إليه يخاطب فرعون قائلا:

قل لي أحين بدا الشرى

لك، هل جزعت على العرين؟

آنست ملكا ليس بالش

اكي السلاح ولا الحصين

البر مغلوب القنا

والبحر مسلوب السفين

لما نظرت إلى الديا - ر صدفت بالقلب الحزين

أقبلت من حجب الجلا - ل على قبيل معرضين

تاج الحضارة حين أش

رق لم يجدهم حافلين

والله يعلم لم يرو

هـ من قرون أربعين

وكان شوقي يتمنى نهضة شاملة تناسب تاريخها المشرق القديم.

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول

ص: 18

‌على هامش الحرب العالمية الأولى

1914 -

1918

كيف تستفيد مصر من دروس حملة فلسطين

للأستاذ أحمد بك رمزي

بين يدي كتاب عنوانه (دروس من تجارب الحرب العظمى)، وضعه الجنرال الألماني البارون فون فريتاج لودنجهوفن، وكان صاحبه من خيرة كتاب ألمانيا العسكريين وأطولهم باعاً، وأقدرهم في الكتابة عن الحرب من الوجهة النظرية. وهو بروسي الأصل ولكنه ينحدر من عائلة تسكن شواطئ بحر البلطيق، في تلك المناطق التي ضمت إلى روسيا، وهاجرت عائلته إلى ألمانيا، فأنضم في الحادية والعشرين من عمره إلى إحدى فرق الحرس البروسية وشغل قبل سنة 1914 وظيفة هامة في هيئة أركان الحرب العامة في برلين، وما لبث أن ذاع صيته في السنين التي سبقت الحرب الأولى، لاشتهاره بكتبه ومؤلفاته العسكرية، التي نشرها عن فن الحرب وتاريخ المعارك، ولما نشبت الحرب العالمية الأولى رشحته خبرته وثقافته ليعين مندوبا عن الجيش الألماني وممثلا له، في المجلس الأعلى لهيئة أركان الحرب العامة لجيوش الإمبراطورية النمساوية المجرية.

وقد لمس عن كثب عند بدء الحرب ضعف الإمبراطورية، وأسباب تفكك جيوشها، ولكنه يلتمس الأعذار للعسكريين النمساويين، ويقول إن جموع الجيوش التي حشدتها دولة العرشين - عرش النمسا وعرش المجر - قد استبسلت في القتال وحاربت بشجاعة، وجاءت هزيمتها نتيجة للأخطاء التي سببتها الهيئات النيابية في البلدين وإهمالها لطلبات هذه الجيوش وقت السلم.

والمعروف أن فشل الخطط الهجومية الألمانية في الميدان الغربي أدى إلى اعتزال الكونت مولتكه من رئاسة هيئة أركان الحرب العامة، فتسلمها فون فالكنهين الذي دعا مؤلف الكتاب وعينه ضمن مساعديه.

واقتصر عمل مولتكه على رئاسة بعض الأقسام الفنية التي بقيت في برلين، أما الأعمال الأساسية التي من صميم عمل هيئة أركان الحرب العامة، فاستمرت في الميدان تحت

ص: 19

إشراف القيادة العامة.

ولما أخفق الهجوم الألماني أمام حصون (فردان) طلب إلى المريشال فون هندنبرج في أوائل أغسطس 1916، أن يخلف فالكنهاين في منصبه وألحق مؤلف الكتاب كمساعد للجنرال لودندورف، يد هندنبرج، اليمنى، وقد بقي يشغل هذه الوظيفة حتى مات مولتكه في يونية من السنة التالية، فخلفه الجنرال لونجهوفن في وظيفته، أي شغل منصب الرئيس المنتدب برئاسة أركان الحرب بأقسامها التي بقيت في برلين، وكان عملها قاصراً على المسائل الفنية الصرفة ولا تتدخل في تنسيق العمليات الحربية وسير القتال في الجبهات.

وقد أنعمت عليه حكومته عقب توليه هذا المنصب بوسام الاستحقاق من طبقة السلم. فكان هذا الإنعام دليل تفوقه وأهليته وخير اعتراف رسمي له بأنه أقدر الكتاب العسكريين في الجيش البروسي.

والمعروف أن الذي أنشأ وسام الاستحقاق في طبقاته العسكرية هو فردريك الأكبر عاهل بروسيا، وقد جرت التقاليد بالإنعام به على القواد والضباط الذين يظهرون مهارتهم في الحروب، أما وسام الاستحقاق للسلم، فقد أنشأ فردريك وليم الرابع عام 1842 وأوقفه على من يظهر قدرته على الكتابة في الفنون العسكرية من الوجهات النظرية والعلمية البحتة، وعليه فإن حصوله على هذا الوسام دليل تقدير لمؤلفاته وأنها بلغت درجة كافية من النضوج تجعله أول ضابط حصل على وسام الاستحقاق من طبقة السلم في زمن الحرب.

لقد كتب المؤلف كتابه (دروس من تجارب الحرب العظمى) والحرب القائمة، ثم طبع بعد انهزام ألمانيا ولم يكد يظهر في عالم المطبوعات حتى تلقفته الصحافة بتعليقاتها المستفيضة، وقد لفت الأنظار إليه ما جاء في بعض فصوله عن مستقبل الجيش الألماني وخاتمته التي تقول (لا نزال مستعدين للحرب)

وأدى نشر فصوله على هذا الملأ أن أخذت الجرائد تناقشها بحرارة وحماس وتشرح بإسهاب الطرق التي لا بد أن تتبعها ألمانيا بعد انكسارها في الحرب لتستعد إلى دخول حرب أخرى، فاضطرت الحكومة الديمقراطية أن تضيق على الصحافة وأن تحول دون نشر تعليقاتها على الأفكار التي تضمنها الكتاب، ولكنها شجعت نشره في داخل بلادها ومنعت إرساله للخارج فلم يتعد ما تسرب منها إلى البلاد الأجنبية عدداً محدوداً.

ص: 20

ونظرة لهذا الكتاب تجعلنا نحكم بأنه خطوة تمهيدية لتاريخ الحرب العالمية الأولى، فهو مؤلف موجه للشعب الألماني لا لرجال الجندية، ولذلك عده البعض شبيها بكتاب المارشال مولتكه الكبير الذي قاد الحرب الفرنسية الألمانية 1870 وخطه بقلمه وهو في ميدان القتال بفرنسا، وقدمه للشعب وللأجيال القادمة التي لم تكن وجدت في ذلك الوقت، فنشأ على قراءته وتربى على أفكاره ومبادئه جيل من الناس بأكمله، هو الذي عاش بين سنة 1870 وسنة 1914 ومن هذا الجيل نشأ الجيش الذي خاض معارك الحرب العالمية الأولى.

وكذلك كتاب الجنرال كتاب الجنرال لودنجهوفن أثر في الأجيال التي جاءت بين سنة 1918 وسنة 1931 أي بين هزيمة ألمانيا الأولى ثم قيامها تحت نظام النازية ودخولها الحرب العالمية الثانية: لأن الدعوة التي تبناها مؤلف الكتاب يقول بطرح المبادئ العالمية والإقلاع عن أفكار السلام الدائم، والأخذ بفكرة إنشاء نظام عسكري جديد لألمانيا موطد على دروس الحرب العالمية الأولى ومدعم بتجارب القاسية ومعتمد على تقديم العلوم الحديثة وتطور فنون الحرب، ويدعو إلى أن تخلق ألمانيا لنفسها من هزيمتها نصراً، وهذا ما وفق الشعب الألماني إليه بين حربين، إذ جعل من تعاليم صاحب الكتاب دوافع نفسية مكنته من تنظيم أكبر قوة عسكرية في العالم وأضخم آلة قتال رآها الناس في الفترة التي وقعت بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وهو من القائلين بأن الحرب غريزة متمكنة من طبيعة البشر، فكما أن طبيعة الناس لا تتغير فالحرب ستبقى ملازمة للإنسان في مستقبل أيامه كما لازمته آلاف السنين وعشرات القرون.

وهذه عقيدة تملكت الشعب الألماني الذي ألف الحروب ونشأ مندربا تحت السلاح، ولذلك تقبلت هذه العقيدة عقيلة الجماعات، فأصبحت حقيقة منطقية ثابتة وإيمانا لا يحتمل الشك ولا يتطرق إليه التردد والضعف. وهو يقول أن الروح العسكرية ليست اختراعاً أوجدته بروسيا لنفسها أو عارية أخذتها عن الأمم الأخرى، وإنما الروح العسكرية هي بروسيا نفسها. ولما كانت بروسيا أقوى دول ألمانيا، فليس لدى الألمان أحزاب سلم وأحزاب حرب، وإنما هناك أمة واحدة تقدس الواجب، وتؤمن بعظمة الجيش، وكل اتجاه يخالف هذا القول يعد هراء من قبيل إضاعة الوقت، أو المناداة بفكرة لا يأبه لها ألماني واحد وهو

ص: 21

يجهر في مقدمة كتابه بقوله (أن الواجب يفرض علينا أن نكون على بينة وتثبت من الدروس والتجارب والحوادث التي كانت نتيجتها وخيمة علينا، أنه فرض علينا أن نبحثها وندرسها ونحللها في أقسام الجيش وهيئات الحكومة، إننا دفعنا الثمن غالياً للحصول عليها في ميادين القتال، وفي داخل البلاد وخارجها، فعلينا أن نوجه كل نشاطنا القومي، وما تضعه بين أيدينا أنظمتنا العسكرية من وسائل، لكي نطيل الدرس ونقلب أوجه البحث من غير إمهال أو تردد، ولكن بعزيمة وبصيرة وبدون إضاعة وقت: إذ هنا يبرز الوقت كما يبرز في الحروب كعامل فعال له وزنه وقيمته).

(إننا لا نستطيع أن نستخلص الآراء الصائبة التي تنفعنا أو تحدد النتائج العلمية التي تصلح لنا، إذا قصرنا عملنا على النواحي العسكرية وحدها، فهي مع أهميتها القصوى لا نستطيع فصلها عن تطور السياسة العالمية إزاءنا، ولا نتمكن من الاستفادة من هذه الدراسة إذا أهملنا التدقيق في الأحوال الاقتصادية العامة وما أصاب بلادنا منها، فنحن أمام ما علينا ولا لنا، أي أمام انتصارات ونكبات، والتجارب التي هي في الحالتين مفيدة لنا نعم لكي نعمل في المستقبل على قواعدها ونسير بهديها

(إن الغاية من تأليف هذا الكتاب هو إعلام الجيش والشعب بالآراء الصائبة التي أثبتت الحروب مقدار صلاحيتها ووضع الحقائق والنتائج التي أقنعتنا دروس القتال بصحتها: فنحن أمام حوادث عسكرية منها ما هو من صميم فن الحرب وما هو من عمل السياسة؛ وما هو اقتصادي بحت ولكنها دروس تعلمناها، بدماء أبنائنا وتضحيتهم الكبرى وموتهم في سبيل المثال الأعلى للبلاد: فما أقنعنا الدليل بصحته تمكنا به، وما أظهرت الحرب بطلانه تجنبناه، ودعونا إلى الإقلاع عنه. وما ثبت نجاح شيء منه وبطلان بعضه عملنا على تحويره وإصلاحه ليغلب النجاح عليه.)

وعلى هذا النمط يسير المؤلف في شرح نظرياته وآرائه وتوجيهاته بوضوح وصراحة، فيعرض الحالة السياسية والاقتصادية مدة الحرب لدولتي الوسط - ألمانيا والنمسا - ويعطينا صورة للحالة النفسية للأمة معتمداً سيكولوجية الجماعات وأثرها في رجال الجيش ثم يتكلم عن القيادة وعملها.

وبعد هذه الفصول بأكملها كمقدمة للنتائج التي استخلصها وهي في القسمين الأخيرين من

ص: 22

كتابه: (الجيش في المستقبل) ثم كلمته (لنبقى مستعدين للحرب) وهما عصارة تجاربه.

والذي دفعني إلى إعادة النظر والتأمل في هذا الكتاب وفي غيره من مؤلفات القائد الألماني. بعد أن بقيت على رف مكتبي أكثر من عشرين عاماً - هو ما يعاود الرأي العام المصري - من وقت لآخر - من الرغبة من تعرف نتائج الحرب في فلسطين، وأثرها في يقظة الوعي القومي بمصر، والعمل على استعادة القيم الخلقية التي يبدو لكثيرين منا أنها (انهارت بعد الصدمة الأولى

ولما كنت من المؤمنين بأن قيمة أي نظام ويقظة أي شعب يرتكزان على ما يبذله كل شعب من الشعوب من العمل الصامت المستند على إرادة وفكر للخروج من آثار الهزيمة الني عاناها حتى لا تهد من كيسانه - رأيت من أولى المسائل التي يجب أن يهتم بها الشعب المصري وأهل الرأي فيه هي مشكلة الحرب الفلسطينية وأثرها وما ألفته علينا من دروس.

فهل لدينا هيئة قائمة أخذت على عاتقها جمع المعلومات والوثائق وتبويبها ودراستها حتى نستخلص بعض الحقائق ونسجل على أنفسنا ما بدا من تقصير في صفوفنا وأنظمتنا؟

أظن أننا لم نفكر بعد في شيء من ذلك.

إذن أصبح واجباً على المفكرين وأهل الرأي أن يسدوا هذا النقص وأن يكتبوا وينشروا على الملأ ما يعلمون، حتى يشعر الشعب المصري بأن هزيمة فلسطين ليس معناها أن يستمر تحت كنفها وفي ظلها إلى الأبد.

إنما هي نتيجة سلسلة من الأخطاء السياسية والعسكرية تمت على أيدي أناس لا يمتون بصلة إلى الفن الحربي ولا يعرفون شيئاً عن أساليب السياسة الدولية.

أن المركز الخاص الذي وجدت فيه مصر والبلاد العربية يجب أن يشرح لها بإسهاب، وكذلك أماكن التجمع والحشد؛ ويستلزم الأمر بيان الأسباب التي جعلت زحف الجيوش العربية - ذات التفوق العددي - متلكئاً وغير مرتبط بالزمن. والإجابة على السؤال المعروف الذي طالما وجهه أحد قواد ألمانيا في مؤلفاته!

(هل يأتي الآخرون لشد أزرنا وهل ينضم حلفاؤنا إلى صفوفنا حتى يكون تدخلهم في المعركة الناشبة نافعا وكيف يأتي في الوقت الناسب).

إننا في حاجة إلى مثل هذا الكتاب الذي أشرت إليه، نعم في حاجة إليه، لكي نحتفظ نحن

ص: 23

في مصر، بالروح العسكرية التي ورثناها عن أجدادنا: عن عمرو العاص وصلاح الدين والظاهر بيبرس. إن المحافظة على كياننا واستقلالنا تحتم أن نكون موضع ثقة واحترام في الأمم الكبرى، ولكي نصل إلى شيء من ذلك يجب أن نكون أقوياء، ولن نصل إلى القوة والنصر إلا إذا عرفنا أسباب هزائمنا وعلة تفككنا وعوامل نكبتنا.

أحمد رمزي

ص: 24

‌الدب المهني

أو أدب أرباب المهن

للأديب خليل رشيد

- 2 -

إلى أولئك النفر القليل ممن جادت بهم الحياة ووهبتهم النبوغ

والعبقرية الذين أبوا العيش إلا من قوة أيديهم وعرق جباههم

نقدم هذا الحديث.

- السرى الرفاء -

السرى الرفاء - قيثارة الشعر وعبقري الأدب فلتة من وفلتات الزمن ونفحة فواحة من نفحات الطبيعة. جادت به الدنيا وقلما جادت بأمثاله، وان جادت فبالنزر القليل، لنتعرف عليه ونرى منزلته ومكانته الأدبية من المصادر التاريخية. ومن أقوال مؤرخي الأدب والثقات من رواته قبل الخوض في الموضوع لنضعه في مكانته اللائقة به على ضوء العلم والتاريخ لئلا نغمط الرجل حقه أو نعطيه فوق ما يستحق: قال الجلبي في كشف الظنو. كان السرى الرفاء مغرى ينسخ ديوان أبي الفتح كشاجم وهو إذ ذاك ريحان الأدب. وقال ابن النديم في الفهرست ص 241: السرى الرفاء بن أحمد الكندي من أهل الموصل شاعر مطبوع عذب الألفاظ مليح المأخذ كثير الافتنان في التشبهات والأوصاف. وجاء في اليتيمة للثعالبي من الجلد الثاني ص 103 ما هذا نصه. بلغني أنه أسلم صبياً في الرقائين فكان يرفو ويطرز إلى أن قضى باكورة شبابه. وجاء في دائرة معارف فريد وجدي ص 118 من الجلد الخامس تحت عنوان السرى الرفاء. هو أبو الحسن السرى بن أحمد بن السرى الكندي الرفاء الموصلي الشاعر المشهور. كان السرى الرفاء في صباه يرفو ويطرز في دكان بالموصل وهو مع ذلك مولع بالأدب وبنظم الشعر؛ ولم يزل دائباً على ذلك حتى بلغ شعره غاية بعيدة من الجودة وحسن السبك، فقصد سيف الدولة ابن حمدان بحلب ومدحه وأقام عنده مدة ثم انتقل بعد وفاته إلى بغداد. وكان السرى الرفاء مطبوعا على الشعر رقيق

ص: 25

الألفاظ متين المباني كثير الافتنان في التشبيهات والأوصاف ولم يكن له رواء ولا منظر حسن. وكان لا يحسن غير قرض الشعر وقد وقع ديوانه في ثلاثمائة ورقة ثم زاد عليه وقد رتبه بعضهم على حروف المعجم. وقد قال صاحب معجم الأدباء ياقوت في الصفحة 184 من جلد الـ11 قلما جاد شعره انتقل من حرفة الرفؤ إلى حرفة الأدب وأشتغل بالوراقة. وجاء في المعجم لأبي هلال العسكري في الصفحة 15. كان السرى الرفاء يطرز الخلق، ويرفو الخرق، وهو في ذلك يسترزق الإبرة، بنفس ملأتها الحسرة. فلولا مجهر مؤرخي الأدب ومدوني التاريخ لأحطنا بشيء كثير من الإبهام والغموض، ولظلت شخصية السرى مجهولة وهي شخصية شخصيتين شخصية العامل المجد الذي يكافح من أجل العيش. يطرز الخلق، ويرفو الخرق، يسترزق الإبرة، بنفس ملأتها الحسرة، فلا يكاد يجد الكفاف الخشن.

وشخصيته الأخرى تناقض هذه الشخصية كما ظهر لنا من تحت المجهر وبينها من النسب المنطقية التباين إذ نجده قائما ينشد سيف الدولة وهو مختال فخور فيقول - ألبستني نعما بها الدجى=صبحا وكنت أرى الصباح بهيما

فغدوت يحسدني الصديق وقبلها

قد كان يلقاني العدو رحيما

فملأت آفاق البلاد بمنطق

لولا الثناء عليك عاد وجوما

فسلمت من نوب الزمان ولا غدا

شانيك من معنى السليم سليما

طلب الملوك شأوك فإنثنوا

صفر اليدين وخادما وذميما

أن يمسحوا في الحين أن يتكلفوا

كرم النفوس فقد خلقت كريما

وكأني به وهو ينشد قصيدة هذا ينثر الفضار عليه ويكافأ عن كل قصيدة بألف من الدنانير أو تزيد. وتحترق كلماته صماخ أذن سيف الدولة وهو مصغ لما يقول رغم من قال.

ودع كل صوت غير صوتي فإنني

أنا الطائر المحكي والآخر الصدى

ولسنا ندري بالضبط متى اتصل شاعرنا بسيف الدولة؛ ولكن الذي ندريه من ضوء المصادر التاريخية أنه لما حسن شعره وبلغ غاية بعيدة من الجودة وحسن السبك قصد سيف الدولة بن حمدان يحلب وأقام عنده إلى أن مات وانتقل بعد وفاته إلى بغداد. ولقد شق هذا الشاعر طريقه حتى تبوأ الصدر من دولة الشعر في زمن سيف الدولة بن حمدان ذلك

ص: 26

الزمن الزاخر بالشعر والأدب المليء بالعباقرة والمغثيين أمثال الأمير الحمدان أبي فراس وعبقري الشعر ونابغة الأدب أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي وغيرهم كثير. وقد استطاع الرفاء أن يأخذ طريقه دون أن يرتطم بتلك الصخرة الجبارة التي كثيرا ما حطمت من فحول الشعر ونوابغ الأدب صخرة أبي الطيب المتنبي. فتأتي مكانته بعد مكانة أبي الطيب مباشرة ثم نراه يمعن في إكرامه والإنعام عليه كما نراه يمعن في مديح سيف الدولة فيقول -

أما الخيال فما يغب طروقا

يدنو يوصلك شائقا ومشوقا

وفي فحقق لي الوفاء ولم يزل

خدن الصبابة بالوفاء حقيقا

ثم يقول منها

أهوى أنيق الحسن مقتبل الصبا

وأزور مخضر الجناب أنيقا

راح الغمام به خفيفا ثوبه

وغذا به ثوب النسيم رقيقا

هي غذرة للدهر غادرت الهوى

بعد الوفاء مكدرا مطروقا

لا ألحظ الأيام لحظة وامق

حتى يعيد زماننا المرموقا

وركائب يخرجن من غلس الدجى

مثل السهام مرقن منه مروقا

والفجر مصقول الرداء كأنه

جلباب خود أشبعته خلوقا

أغمامة بالشام شمن بروقها

أم شمن من بشر الأمير بروقا

ملك تسهل بالسماح يمينه

حزنا وتوسع بالصوارم ضيفا

رحب المنازل ما أقام فإن سرى

في جحفل ترك الفضاء مضيقا

ما انفك يطلع بالحتوف على العدا

صبحا ويطرق بالحمام طروقا

فإذا جرى للجد نال صبوحه

سيفا ونال الناس منه غبوقا

وإذا طمى بحر الكريهة خاضه

فأمات من عاداه فيه غريقا

مهلا عداة الدين إن لخصمكم

خلقا بإرغام العدو خليقا

وهكذا تراه وقد انقادت إليه المعاني وشوارد الكلم فيصيره عقد نظيما من الشعر يلبسه جيد الدهر والخلود كأنه المعنى ببيت أبي الطيب.

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

ص: 27

ثم نراه قبل أن أطغته نعمة سيف الدولة وأبطرته وقد تفرغ من مشاكل خبزه إلى ما نزع إليه المترفون من لين الحياة وبلهية العيش فيتصرف للعبث والمجون وتحن نفسه إلى وسوسة الكؤوس وعزة القيان والغلمان فيقول في غلام يهواه. -

بنفسي من أجود له بنفسي

ويبخل بالتحية والسلام

ويلقاني بعزة مستطيل

والقاه بذلة مستهام

وحتفي كامن في مقلتيه

كمون الموت في حد الحسام

ثم يقول من خمرية له: -

ألا فاسقني الصهباء صرفا فإنني

لمن لام فيها ما حييت مخالف

ألست ترى وشى الرياض كأنما تنشر في إرجائهن المطارف

ومشمولة شج السقاة كؤوسها

فأشرق وجه الصبح والليل عاكف

ولاح على الكاسات فاضلها كما

تلوح على خمر الخدود السوالف

ثن يتناسى أيامه الأولى. - أيام ضيقه وشقاه أيام قال فيها.

هي الأيام أن جمحت عندا

أذلت كل جبار عنيد

تنام وتترك الإحداق يقظى

ولوع للطيف بالركب الهجود

ويوم قال فيه. -

الدهر كالنشوان في إصلاحه

ما راح يصلحه وفي إفساده

راع لنا يجتاح دثر سوامه

= وأب لنا يسطو على أولاده

ويوم قال. -

سفرت رجوت به النهاية في الغنى

فبلغت منه نهاية الإملاق

مثل الهلال أغذ شهرا كاملا

فرماه آخر شهره بمحاق

ويوم قال. -

قوض خيامك من دار ظلمت بها

وجانب الذل أن الذل يجتنب

وأرحل إذا كانت الأوطان مضيعة

فالمندل الرطب في أوطانه حطب

كل هذا يتناساه شاعرنا الرفاء ويغمس نفسه باللذة انغماس المترف البطر الذي بسمت له الحياة فأنسته متاعب العيش وأوصاب الحياة لا يعنيه شيء من دنياه غير الغادة والغلام

ص: 28

والخمرة وادن فيذهب منغمسا في لذته غير عابئ بالذل ممن جبلت نفوسهم على العذل واللوم وتكدر صفو من صفا له الجو وبسمت له الحياة فيقول: -

إن عن لهو أو سنح

فأغد إلى اللهو ورح

رضيت أن أحظى بعز

اليأس والعز منح

وصاحب يقدح لي

نار السرور بالقدح

فرحت مطوي المنى

لا أزجر الطير الروح

ولا أقول لامرئ

ضن بمال أو سمح

ولا أرى من صبوة

نهج التقى وأن وضع

تصافح الكأس يدي

ما أرتد خطب أو صفح

في روضة قد لبست

من لؤلؤ الطل سبح

يألفني حمامها

مغتبقا ومصطبح

أوقظه بالعزف أو

يوقظني إذا صدح

والجو في مسك

طرازه قوس قزح

يبكي بلا حزن كما

يضحك من غير فرح

كم جامع ممتنع

خليته لما جمع

وكم عذول ناصح

قلت له وقد نصح

أقصر فمن رام صلاح

العيش بالكأس صلح

وكثيرا ما نراه يستلب المثل في شعره ومن شعره يستلب المثل، وهذه إن دلت على شيء فإنما تدل على نضج العقلية والقدرة المسيطرة على غرر المعاني ونوادر الكلم. ولم تتأت مثل هذه الناحية إلا لشاعر مطبوع قال من قصيدة في علة نالته وعاده فيها بعض أعدائه وقد انقاد المثل إليه

أصبر على مترادف الضراء

فلعل ذلك مؤذن بشفاء

ما حال من لعب السقام بجسمه

ظلما فعض نفسيه الأعضاء

حظر الطبيب عليه طيب غذائه

وأباحه مكروه كل غذاء

ويعوده أعداؤه واشد من

(مرض المريض عيادة الأعداء)

ص: 29

إلى غير ذلك من الأمثال الرفيعة التي تتلاءم والنفوس وتنسجم وطبيعة الإنسان مما لا نستطيع ذكره بمثل هذه العجالة التي قد تستوعب من وقتك أكثر مما نعطيك من فائدة ولم نرد بهذه الكلمة غير إعطائك لمحة قصيرة عن حياة هذا الشاعر العبقري. ولم يقف شاعرنا وقد ملأ ذكره فم الدهر ومسمعه وصار أنشودة الزمن والخلود فكان لزاما عليه تحلية ديوان شعره بمديح آل الرسول (ص) فقال من قصيدة. -

الوارثون كتاب الله ينجدهم

أرث النبي على رغم المعادينا

والسابقون إلى الخيرات ينجدهم

عنف النجار إذا كل المجارونا

قوم نصلي عليهم حين نذكرهم

حيا ونلعن أقواما ملاعينا

إذا عددنا قريشا في اباطحها

كانوا الذوائب منها والعرانينا

أغنتهم عن صفات المادحين لهم

مدائح الله في طه وياسينا

فلست أمدحهم إلا لأرغم في

مديحهم أنف شانيهم وشانينا

أقام روح وريحان على جدت

شلو الحسين به ظمآن آمينا

كأن أحشاءنا من ذكره أبدا

تطوي على الجمر أو تحشي السكاكينا

مهلا فما نقضوا أوتار والده

وإنما نقضوا في قتله الدنيا

آل النبي وجدنا حبكم سببا

يرضي الإله به عنا ويرضينا

فما نخاطبكم إلا بسادتنا

ولا نناديكم إلا موالينا

زكم لنا من فخار في مودتكم

يزيدها في سواد القلب تمكينا

ومن عدو لكم مخف عداوته

والله يرميه عنا وهو يرمينا

أن أجر في حبكم جرى الجواد فقد

أضحت رحاب عساعيكم ميادينا

وكيف بعدكم شعري وذكركم

يزيد مستحسن الأشعار تحسينا

ونثبت لنا قصيدته هذه أنه علوي النزعة والمذهب يدين بما يدين به آل الرسول ويذهب مذهبهم: ونراه يخالف معتقده ويمجن في أغلب الأحايين مجون النواسي الخليع أو هو أشد منه مجونا حين يقول. -

ليالي كان لي في كل يوم

إلى الحانات حج واعتمار

فعن ذكر القيامة بي صدود

وعن ساح المماجد بي نفار

ص: 30

وهذا يناقض قوله سابقا. -

آل النبي وجدنا حبكم سببا

يرضي الإله عنا ويرضينا

لا يهم من به صدود عن ذكر القيامة ونفار عن ساح المماجد رضي الله عنه أم غضب ولكنها هفوات شاعر لا يؤاخذ عليها في ساعة عبث ومجنون ولهو ولم يقلها عن عقيدة وإيمان كما قال قصيدته تلك المنبعثة عن إيمان راسخ ومعتقد قوي رصين حين يقول

فلست أمدحهم إلا لأرغم في

مديحهم أنف شانيهم وشانينا

لسنا الآن بصدد هذا كله ولم نرد بحديثنا البحث عن معتقد السرى الرفاء وما يدين به، ولم نصل ببحثنا حتى الآن إلى الغاية التي من أجلها كتبت هذه الكلمة وجرى هذا البحث.

أقول هل يفضل السرى الرفاء عيشه الرضي الناعم هذا على عيشه المهني؟. . وهل عاوده الحنين إلى أيامه الأولى بعد أن قال

رفق الزمان بنا وكان عنيفا

وغدا لنا بعد القراع حليفا

وهل عاودته ذكريات الماضي السحيق ذكريات أيامه الأول أيام كان يسترزق الإبرة بنفس ملأتها الحسرة؟. . وهل أنساه هذا النعيم الذي يرفل فيه أيام بؤسه وشقاه؟. . ألا يزال يحن إلى تلك الذكريات ذكريات أيامه الأول.؟ هذه أسئلة نطرحها على صفحات ديوانه. فيجيبنا الديوان بهذه القصيدة المملوءة شوقا وحنينا إلى بلد صبوته الموصل فيقول.

شباب المرء ثوب مستعار

وأيام الصبا أبدا قصار

طوى الدهر الجديد من التصابي

وليس لما طوى الدهر انتشار

ولم نعط المنى في القرب منها

فكيف بها وقد شط المزار

صدود في التقارب واجتناب

وشوق في التباعد وادكار

لحى الله العراق وساكنيه

فما للحر بينهم قرار

وجاد الموصل الغراء غيث

يجود وللبرق به اسفرار

ففي أيامها حسن التصابي

وفي أقبائها خلع العذار

ويقول في قصيدة أخرى. -

أمحل صبوتنا دعاء مشوق

يرتاح منك إلى الهوى المرموق

هل اقضين العمر بين عصابة

سلكوا إلى اللذات كل طريق

ص: 31

أم هل أرى القصر المينف معمما

برداء غيم كالرداء رقيق

وتلألؤ الدير التي لولا النوى

لم أرمها بقلى ولا بعقوق

إلى أن يقول. -

كلف تذكر قبل ناهية النهي

ظلين ظل هوى وظل حديق

فتفرقت عيدانه في خذه

إذا لا مجبر له من التفريق

ولم يكتف شاعرنا بهذا القدر من الذكريات. ذكريات الماضي من صباه، بل راح ينشد من صان ماء وجهه من الابتذال وحفظ شوا رد كلمه من سوق الرقيق ومن موقف لا يريده ولا يرتضيه موقف المستجدي الذي يطلب رشح الأكف بما يقول فقال وفي نفسه يحز الألم. -

وكانت الإبرة فيما مضى

صائنة وجهي وأشعاري

حتى غدا الرزق بها ضيقا

كأنه من ثقبها جاري

ونختم حديثنا هذا عن السرى الرفاء ببيت قصيده هذا؛ وإلى أبي الحسين الجزار في المقالة القادمة إن اتسع لنا صدر الرسالة الغراء. -

العمارة - العراق

خليل رشيد

ص: 32

‌رسالة الشعر

(الشباب الدامي)

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

(إلى أستاذنا الجليل الزيات أولا وإلى صديقي الناقد الكبير الأستاذ أنور المعداوي وشاعر شباب دمشق أنور العطار ثانيا وإلى جميع شعراء الأقطار العربية ثالثا ليعلموا موقف وزارة المعارف العراقية من عودتي إلى فرنسا لإكمال دراستي في جامعاتها ولعلهم بشعورهم ذاك عزاء لهذا الشاعر الميت الحي. .)

سرت وحدي في موكب الأتراح

أزرع الحب في القلوب الشحاح

في زحام الحياة أقطع عمراً

لف من سقمه بألف وشاح

أسفح الدمع في محاريب ليلي

وأبث الآهات صدر صباحي

وأجر الأوهام خلف ركابي

وأسوق المنى أمام رياحي

ناثراً مهجتي على كل درب

جزته في الغدو أو في الرواح

وورائي الأيام تضحك م

ن جيفة قبر مبرقع بالأقاح

وهي حتى نهار أمس بقايا

من شباب مخضب بالجراح

فعلى كل صخرة قطرات

من دمائي وحفنة من جراحي

هكذا سرت متعباً أقطع البيد

بشوق معذب ملحاح

أتحدى الأقدار لا أرهب المو

ت بعزم من الشباب الضاحي

حالما أتبع السراب وفي الص

در أمان كالعرس جد ملاح

ثم لما أفقت من سكرة الو

هم وجدت الهشيم من أرباحي

هكذا ضاعت الثلاثون مني

وهي عطر من الصبا الفواح

كنت كالنسر موطني القمة

الشماء والسفح ملعب لمراحي

عالقاً بالخيال أحتضن الأفق

وأهفو كالكوكب اللماح

فإذا صائدا من الأرض يرميني

وينسل تاركا لي نواحي

فتهاويت الثرى ألثم الجرح وأحنو على

يد السفاح

ويسمع النجوم همس بكائي

وبقلب النسيم شجو صياحي

ص: 33

وتبعت القطيع أسحب أقدام

اً ثقالاً مشلولة الأندياح

والسياط الغلاظ تأكل لحمي

وتعب الدماء من أقداحي

أينما دار بنظري لا أرى غ

ير أسارى تحت القيود رزاح

فقد تهرت جلودنا فهي أنص

اف مخاليق ذي سمات قباح

شوه الجوع حسنها فتراءت

كسوخ قبيحة الأوضاح

تخذت عريها هياكل قدس

وخناها مدارجا للنجاح

هكذا سرت مثلها أحمل الرفش

وأحثو التراب فوق الأضاحي

تصرخ اللعنة المدماة واللي

ل كقلب الخطاة يا للصباح:

أين مني فجر الخلاص ليودي

بقيودي مع السنا اللماح

كفني يا حياة جثة أعوامي

البواقي فقد مللت طماحي

وأحمل للتراب نعش أماني

فيأسي أذل حتى جماحي

فالثلاثون جزتها عاثر الج

د أقاسي مرارة الأتراح

حاملاً في حقيبة الأمل الباسم

زادي وفي يدي مصباحي

لا أهاب الظلام إن طال إدلاجي

ولا الوحش كامن في النواحي

أتوكأ على الصبا أن تلكأ

ت فأنساق والشباب جناحي

مرسلا لحني الطروب على ال - كون طليقا كالبلبل الصداح

كان هذا من قبل واليوم قد

مات شبابي فمات سر كفاحي

زمجر الموت في العباب وثارت م

ن وراء السفين هوج الرياح

وانكفا الزورق الحبيب إلى

القاع وأودى الخضم بالملاح

وتوارت حتى معالم دنياه،

محتها يد العفاء الماحي

وانتهى كل مأمل كان يه

واه وحلم عن الجفون مزاح

واستراح الوجود من ثورة رع

ناء. هاجت والليل سكران صاح

ما بقائي من بعد ما ذبل ال

عمر وماتت طلائع الانشراح

وأنطفت شعلة الرغائب في صد

ري، وفرت مطامعي من راحي

دب في الملال وانتشر

الرعب بقلبي وهشمت ألواحي

ص: 34

فلماذا أعد درعي وحصني

قوضته يد الأسى المجتاح

أنا سلمت للكآبة أيامي

وألقيت للشقاء سلاحي

مرحباً بالمنون بالراحة الكب

رى رسول السلام والأفراح

هو ذا صوته يرن بأ

ذني كلحن مهدهد ممراح

فلأردد صداه قد ختم الع

مر سراه وأومأت أشباحي

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 35

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

(الأداء النفسي) وتطبيقه على الشعراء:

منذ أن تفضلت بالتعقيب على رسالتي الأولى وأنا أرجو الكتابة إليك والثناء عليكن ولكني أعتذر من هذه الفترة الطويلة التي انقضت دون أن أكاتبك فيها بسبب المشاغل والظروف: أما وقد جمع بيننا الإعجاب وربطت بيننا المودة، فلا داعي لأن أقول لك إن هذه المودة وذلك الإعجاب يسوغان هذا الاعتذار ويرجوان لديك القبول.

وأشكرك أولا بصدد ما كتبته عني وآمل أن أكون عند حسن ظنك. . أما ردك على مسألة أدب النفس أو أدب التراجم الذاتية فقد أعجبت كل الإعجاب بما عرضته من حقائق، وبالطبع أرجأت الكتابة عن النقد والنقاد لأن من رأيك كما هو من رأيي (إلا مناص من المصاحبة والمعاشرة بين الناقد والمنقود، لنتكشف الشخصية الإنسانية للدارسين من خلال ثوبها الطبيعي الذي يثف بما تحته بلا تعمل ولا تكلف ولا رياء؛ ذلك لأن البيئة التي نعيش فيها والمجتمع الذي نضطرب فيه، لا يهيئان لنا أن نتحدث عن أنفسنا حديث الصراحة السافرة التي تعنى بإبراز المحاسن والمآثر عنايتها بإبراز المساوئ والعيوب)!

أريد بعد هذا أن أسجل هنا أن المذهب الجديد الذي أخرجته إلى عالمنا الأدبي في النقد الحديث، مذهب من الوجاهة والقوة بمكان نستحق عليه الثناء والتقدير والتخليد، ويسرني كثيراً أن ألقاك قويا في الدفاع عن مذهبك كل القوة مبدعاً في الذود عنه كل الإبداع. ولئن دل هذا على شيء فإنما يدل على قوة الذهن التي أنتجت مثل هذا المذهب، وبراعة القلم الذي فسر أصوله وقواعده وحلل مضمونه ومراميه. وإني لأستنتج من ذلك أن حركتنا الأدبية الحديثة بخير ما دامت قد أوجدت لنا مثل هذه الاتجاهات الفكرية والمذاهب النقدية، ونحن أحوج ما نكون إلى (المذهبية) السليمة في النقد الأدبي، لأنها تعصم هذا النقد من (اللخبطة) و (الرخاوة) و (المحسوبية) و (التفكك) ولأنها خير ضمان لإيجاد مدارس أدبية في النقد واتجاهاته ومبادئه. إن الميزان في النقد الأدبي يخلقه الناقد لنفسه ولا يحيد عنه، ومن النقاد من يتخذ هذا الميزان (كيلاً) ومنهم من يتخذه (ثقلاً) والكيل والثقل أصناف وأنواع ولكنهما لا يخرجان عن مبدأ (الميزان). . ولا أريد أن أتوسع في ميزان (الأداء

ص: 36

النفسي) الذي اتخذته معياراً لنقدك وأساساً لحكمك، ولكن لست أدري أهو القلم الذي يدفعني إلى هذا القول أم هو الإعجاب الذي دعاني إلى التسطير!

ولقد طبقت مذهبك فتبين لنا نجاحه ومقدرته على الصمود والخلود، بيد أنك وفيت هذا التطبيق على شاعر كبير وفنان معروف هو الأستاذ علي محمود طه رحمه الله. . ولكن بقى فريق من الشعراء يستحق أن يظفر منك بمثل هذا التطبيق، حتى تظهر القيم الفنية على حقيقتها ويحتل كل شاعر من هؤلاء مكانه المنتظر! وإذا كنت قد قلت في كلمة سابقة إن المناسبة وحدها هي التي تدعوك إلى إبداء رأيك في بعض الناس، فإننا نؤمن بأن هذه المناسبات كثيرة وبأنها آتية ما في ذلك شك، إلا أن ذلك لا يشغلنا عن الهدف الرئيسي وهو مطالبتك بالالتفات إلى هذا الفريق من الشعراء. . وعسى أن يكون هناك برنامج لتلك التوفية في التطبيق، كما أحدثت في شعر الشاعر الكبير وفن ذلك الأديب الفنان.

هذا ما عن لي أن أثبته هنا من هذه الرسالة. . مع خالص التحية لك وخالص التهنئة للأداء النفسي، وإلى اللقاء.

أحمد طه السنوسي

الأستاذ الفاضل أحمد طه السنوسي هو صاحب هذه (الافتتاحيات) القيمة التي يكتبها كل أسبوع في الشئون السياسية والاقتصادية بمجلة الثقافة. ومن العجيب حقا أن يشغل الأستاذ السنوسي بأمثال هذه البحوث، ثم لا يشغل في الوقت نفسه عن تلك البحوث الأخرى التي تنبت في حقول الأدب والنقد هنا وهناك. وأعجب من هذا أنه صديق من هؤلاء الأصدقاء الروحيين الذين لا ألتقي بهم إلا بين السطور والكلمات. . على أي شيء تدل هذه الظاهرة؟ إنها تدل على أن الحياة الفكرية في مصر لا تخلو من النماذج النادرة في الوفاء للخلق والعقل.

ماذا أقول لهذا الصديق الذي أخجل تواضعي بثنائه دون معرفة بيننا ولا سابق لقاء؟ بودي أن أقول له إنني لست عاتبا عليه هذا الذي يعتذر منه. . حسبنا يا أخي هذا اللقاء الفكري الذي يؤلف بين العقول والقلوب، ويقيم على دعائم الإخلاص للمثل العليا صداقة الأقلام!

أما ما جاء برسالة الأستاذ السنوسي من أنه قد أرجأ الكتابة عن النقد والنقاد بسبب هذا الرأي الذي أبديته من قبل واقتنع هو به، فلعل القراء يذكرون رسالته الأولى إلى حول

ص: 37

أدب النفس أو أدب التراجم الذاتية، يوم أن أعرب عن رغبته في أن يقدم عن كاتب هذه السطور حديثه الثالث من محطة هلفرسم للإذاعة العربية، في سلسلة أحاديثه التي بدأها بكلمة نقدية عن الأستاذ توفيق الحكيم أعقبها بكلمة أخرى عن الدكتور طه حسين. . لقد قلت للأستاذ الفاضل يومئذ وهو يطلب إلى أن أتحدث عن نفسي حديث التأمل الباطني والصراحة المحببة، لأعينه على أن يطيل الوقوف ويخرج ببعض الزوايا ويحدد بعض الخطوط؛ قلت له يومئذ في مجال الرد على رغبته الكريمة: (ودراسة الحياة النفسية لأديب من الأدباء تقضي من الدارسين أن يتصلوا اتصالا مباشرا بهذه الحياة بغية المراقبة والملاحظة والتسجيل. . وإذن فلا مناص من المصاحبة والمباشرة بين الناقد والمنقود لتتكشف الشخصية الإنسانية للدارسين من خلال ثوبها الطبيعي الذي يشف عما تحته بلا تعمل ولا تكلف ولا رياء. ذلك لأن البيئة التي نعيش فيها والمجتمع الذي نضطرب فيه، لا يهيئان لنا أن نتحدث عن أنفسنا حديث الصراحة السافرة التي تعنى بإبراز المحاسن والمآثر عنايتها بإبراز المساوئ والعيوب. وليس من شك في أن الأستاذ السنوسي يلتمس لنا بعض العذر إذ قلنا له أن الحديث عن النفس شيء عسير، ولا نقول شيء بغيض كما يحلو لبعض المتجرين بالتواضع أن يصفوه! عسير لأن المجتمع الذي نتنفس في رحابه سيهمنا مرة أخرى إذا ما عرضناها في صورتها الحقيقية وهي في كنف الظلام. .

نحن إذن معشر الأدباء متهمون في كلا الحالين، ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف إذا ما كتب عنا الآخرون لأنهم في نظر المجتمع قضاة محايدون. . هذا إذا قدر لهم أن يطلعوا على ما خفي وما ظهر في حياة المنقودين من شتى الميول والنزعات! لو كنا في بيئة غير البيئة ومجتمع غير المجتمع لتحدثنا عن أنفسنا حديث الذين لا يخشون لومة لائم ولا اتهام متهم، ولا جناية حان على حقيقة الطبائع النفسية كما فطرها الله وكما قدر لها أن تكون. . ولكننا بهذه الأوضاع الاجتماعية في الشرق لا نستطيع. وإذا أتيح لنا أن نتحدث إلى الغير من حياتنا الذاتية بجوانبها المشرقة والمظلمة، فهي الإتاحة التي تدفعنا إلى ذكر بعض الحق والتستر على البعض الآخر، وحياة كهذه يحال بيننا وبين التحدث عنها بكل الحق هي في رأينا حياة لا يطمئن إليها الدارسون! إننا نبغي من وراء الدراسة النفسية لحياة أديب من الأدباء أن نضع أيدينا على مفتاح شخصيته الإنسانية، ورب حادث تافه يتحرج الكاتب من

ص: 38

ذكره فيدفع إلى حذفه من تاريخ حياته؛ رب حادث كهذا يقدم إلينا المفتاح الحقيقي لشخصيته حين يكتب في بضعة أسطر فلا تغني عنه مئات الحوادث في ألوف من الصفحات)

هذا هو بعض ما قلته للأستاذ السنوسي في مجال الرد على رغبته. والحق أننا إذا نظرنا إلى حياة بعض الأدباء والمعاصرين، ثم خطر لنا أن نتخير بعض كتاب التراجم الذين يصلحون للتحدث عن هذه الحياة على هدى هذا المنهج الذي أوضحناه، لوجب أن يقع اختيارنا على العقاد ليكتب عن المازني، وعن الزيات ليكتب عن طه، وعلي الخولي ليكتب عن أحمد أمين، لأن هؤلاء جميعا قد أتيح لهم من الاطلاع على حياة أولئك ما لم يتح لغيرهم أن يطلع عليه. . ولعل تلك الدراسة النفسية التي كتبتها عن الشاعر علي محمود طه وما سيضاف إليها من فصول لم تنشر، تقدم الدليل على أن المصاحبة والمعاشرة بين الناقد والمنقود أمر لا غنى عنه لكاتب التراجم ودارس الأدب وناقد الفنون!

بعد هذا أعود إلى المحور الرئيسي الذي تدور حوله رسالة الأستاذ السنوسي لأقول له: لقد طالبتني بتطبيق مذهب (الأداء النفسي) على شعراء آخرين غير علي محمود طه لتظهر قيمهم الفنية على ضوء هذا التطبيق. فمن هم هؤلاء الشعراء؟ إنك يا أخي لم تحدد العصور ولا المواطن ولا الأسماء، حتى أستطيع أن أتبين الهدف الذي تقصد إليه. . ترى هل تطالبني بتطبيق هذا المذهب على شعراء عصر بأكمله في كل موطن من مواطن الشعر العربي، أم أن هناك بعض الأسماء المختارة التي ترى أن شعر أصحابها تشع فيه ومضات من هذا الأداء؟

مهما يكن من شيء فقد أخرجت مذهب (الأداء النفسي) لأقدم عن طريقه وجهة نظر ذاتية في فهم الشعر وتذوقه ودراسته على أسس جديدة غير تلك التي ألفها الناس، وإذا كنت قد طبقته على شاعر واحد فلأنني أؤمن بأن هذا الشاعر هو من خير النماذج الفنية التي تمثل هذا المذهب في أفق الشعر العربي الحديث وما عنيت بقصر التطبيق عليه، وإنما عنيت بأن أقدم دراسة نقدية للشعر كما أفهمه وأتذوقه على أن يكون هذا النقد مقترنا بالمثال!

عتاب في غير موضعه:

طالع القراء في العدد الماضي من الرسالة كلمة للقصاص العراقي الفاضل كارنيك جورج،

ص: 39

في الرد على ما كتبه أديب لبناني صديق دفاعا عن مجلة الأديب. أما هذه الكلمة فقد أستهلها الأستاذ كارنيك بشيء من العتاب لأنني لم أذكر أسم الكاتب اللبناني في ختام دفاعه، متخيلا أنني فعلت ذلك بدافع الصداقة. . أود أن أقول له إن هذا العتاب في غير موضعه، لأن الصداقة لا دخل لها فيما حدث من قريب ولا من بعيد! لقد طلب إلى الأديب اللبناني الصديق ألا أذكر أسمه وقد فعلت، لأنني لا أحب أن أعترض طريق رغبة من الرغبات سواء أكانت لصديق أم غير صديق. ولو أنني كنت متأثراً بدوافع الصداقة لما سمحت للقصاص العراقي بأن يقول عن صديقي إن دفاعه كان يحوي (أوضع) الاتهامات!!

إن منهجي الذي أسير عليه هو أن أتيح لكل طرف من أطراف هذه الخصومة أن يقول ما يشاء، ولهذا فسحت المجال لكثير من العبارات القاسية التي أغرق فيها الدفاع وأسرف فيها الاتهام بوجه أخص. ولا يهمني من وراء هذه الحرية المتاحة للجانبين إلا أن يقارن الناس بين حجة وحجة ويوازنوا بين دليل ودليل، وهذا هو الطريق الوحيد الذي يسلكه السالكون ليصلوا إلى الحقيقة في وضح النهار! وإذا كان الأستاذ كارنيك يأخذ على أنني ملت إلى تصديق الأديب اللبناني فيما رمى به إنتاجه القصصي من الضعف والركاكة، فإنني أقول له أنه لم يقرأ كلمتي بعناية، لأن التصديق في تلك الكلمة لم يكن منصبا إلا على جانب واحد، هو جانب الإشارة إلى ما يلقاه صاحب (الأديب) من ضيق مادي في سبيل مجلته. وما عدا ذلك من أمور فقد تركته إلى القراء، لأنه ليس من عادتي أن أوافق إنسانا على رأيه الخاص في كتاب من الكتب دون أن أقرأ هذا الكتاب، ولو كان صاحب الرأي يحتل مكانة (سانت بيف) في المنقد الأدبي!

ترى هل يوافقني الأديب العراقي الفاضل بعد هذا على أن عتابه كان في غير موضعه؟ لقد أحتكم إلي في هذه الخصومة وكذلك احتكمت إلى (الأديب) على لسان أحد الأصدقاء. . ولقد قلت رأيي هنا وهناك وبقي حكم القراء.

دفاع عن السيريالزم:

بين يدي رسالة ثائرة من الأديب المصري مختار العطار (دبلوم الفنون الجميلة العليا ومحرر بمجلة القصة) يهاجمني فيها هجوما (عنيفاً) لأنني قلت عن المذهب السريالي في الرسم ما يحب أن يقال، ولأنه من أنصار هذا المذهب ومن دعاته في مصر. . لا بأس من

ص: 40

أن يدافع الأديب العطار عن مذهب يؤمن به، ولكنه يجترئ كثيرا على الحق حين يقول لي:(مالك أنت والسيريالزم؟ أنه مذهب خاص بالرسم والرسامين لا يفهمه غيرهم وليس لكل إنسان أن يهاجمه إذا كان قد استعصى عليه فهمه، حتى ولو كان أديبا كبيراً مثلك)

أؤكد للأديب الثائر أنني أستطيع أن أتحدث عن المذاهب الفنية في الرسم خيراً مما أتحدث عن المذاهب النقدية في الأدب، وأنني أستطيع أن أحاضر عن السيريالزم ويكون هو في صفوف المستمعين. . هذه حقيقة لا يعلمها لأنه لا يعرف شيئا عن كاتب هذه السطور في ثقافته الفنية!

ويجترئ مرة أخرى على الحق حين يقول لي: (وأحب أن أصحح لك معلوماتك عن الرسام السريالي (بيكاسو). . لقد زعمت في مقالك عن الفن والقيود أنه رسام فرنسي والواقع أنه أسباني، وتلك حقيقة لا يجهلها غير المبتدئين في الفن). . أنا مع الأديب العطار في أن المبتدئين في الفن يعلمون هذه الحقيقة ولو لم يكن هو واحد من هؤلاء المبتدئين لما رقفت ثقافته (الواسعة) عند هذه الحقيقة الصغيرة. إن (بيكاسو) يا بني أسباني المولد ولكنه فرنسي النشأة، أعني أنه تجنس بالجنسية الفرنسية منذ أمد بعيد، وأن مذهبه السريالي في الرسم قد ولد في مهد فرنسي ودرج فوق أرض فرنسية وانتسب إلى فرنسا حين ينتسب كل فن من الفنون إلى وطن من الأوطان. . أعني مرة أخرى أن أسبانيا اليوم لا تعتبره واحد من أبنائها ولا من فنانيها، وإذا لم تصدق فاسأل المفوضية الأسبانية في القاهرة أو المفوضية المصرية في مدريد!

وإذا اقتنعت. . فأرجو أن تتعلم قبل أن تتهجم!!.

أنور المعداوي

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

السجل الثقافي لسنة 1949

هذا هو السجل الثاني لمظاهر النشاط الثقافي في البلاد المصرية في جميع نواحيه، ما عدا الناحية التي تنهض بها معاهد التعليم وفق برامجها الرسمية، وقد صدر السجل الأول في العام الماضي عن سنة 1948. وتقوم بإعداده إدارة التسجيل الثقافي بوزارة المعارف، وهي إحدى الإدارات المتفرعة من الإدارة العامة للثقافة، وقد أنشأت إدارة التسجيل سنة 1947 وكان مديرها الأستاذ محمد سعيد العريان وهو صاحب فكرة التسجيل الثقافي وواضع مشروع السجل، ومما يؤسف له أن ظهر السجل الأول ثم الثاني ولم يشر إليه في أحدهما بكلمة، على حين أشيد - في مقدمة السجل الأول التي كتبها الدكتور محمد عوض محمد بك - بفضل الأستاذين محمد عبد الواحد خلاف بك ومحمد فريد أبو حديد بك على أن السجل ثمرة جهودهما، لأنهما كانا - على التعاقب - مديرين عامين للإدارة العامة للثقافة قبل الدكتور عوض بك. والحقيقة التي يجب أن تذكر أن إشراف هؤلاء الأساتذة الكبار على أعمال التسجيل كان من بعيد جدا. . والعمل كله قام به موظفو إدارة التسجيل ومديرها الحالي الأستاذ أمين دويدار. ومن تمام الحقيقة أن يذكر فضل خلاف بك خلاصة في إنشاء السجل والعمل على تحقيق فكرته وقد اقتنع وتشبع بها، ولكنه نقل قبل أن يبدأ العمل المباشر في إعداد المواد.

ونعود إلى هذا السجل الثاني الذي صدر أخيرا، فأقول أنه يدل على جهود موقفه بذلت فيه، والموازنة بينه وبين الأول تظهر الفرق واضحا بينهما، ولا عجب في ذلك فقد كان السجل الأول باكورة العمل، ومما يذكر أن هذا التسجيل الثقافي اجتهد فيه القائمون به على غير مثال سابق، ودون قواعد موضوعة أو توجيه يذكر من رؤساء، بل كانوا يتهمون بأنهم يلعبون وهم يعملون في صمت، حتى أخرجوا السجل الأول، وترقبوا صداه، فانتفعوا بما وجه إليهم من نقد صادق وما نقدوا رأيه أنفسهم، وأشرف على ذلك وشارك فيه مشاركة نافعة الأستاذ محمد عبد الله عنان الذي عين مراقبا في الإدارة العامة للثقافة بعد إعداد السجل الأول. فجاء السجل الثاني خطوة كبيرة نحو الكمال في هذا الفن الناشئ في مصر،

ص: 42

الذي هو جدير بالرعاية والعناية باستكمال أدواته وتوفير أسبابه، ليبلغ ما يرجى له في تحقيق أهدافه من التعريف بإنتاجنا الثقافي وبيان اتجاهاته ومراميه، وليدل على ما بلغته البلاد في مجال التثقيف العام.

كان السجل الأول يميل في أكثر الأبواب إلى مجرد الإحصاء، فمليء بالجداول التي لا تفيد غير السرد والعدد، ومما اتبع فيه ذلك الباب الكتب، أما في هذا السجل فقد عدل عن ذلك في المواضع التي تحتاج إلى بسط وتبيين، ومن أحسن ما تم فيه ذلك باب الكتب، إذ عنى فيه، إلى جانب أسم الكتاب والمؤلف أو المترجم والمحقق والناشر، ببيان موضوع الكتاب بيانا موجزاً أو مسهباً بعض الشيء على حسب الحال والأهمية، ورتب ذلك ترتيباً حسنا.

وكان السجل الأول جامعا مملوءا بما لا يستحق الالتفات إليه من التوافه وما ينشر عنه في الصحف لمجرد التظاهر، فقد حشد في باب المحاضرات كل من هب ودب ومليء بالعظات والخطب التي تلقى في الكنائس والمساجد يوم الأحد والجمعة. وكذلك الروايات السينمائية فقد ذكرت جميعها بما فيها من سخف وهذر، ومن فيها من شكوكو والكحلاوي وكميليا. الخ. أما السجل الثاني فقد مال إلى التمحيص والاختيار.

ويعتبر هذا السجل مرجعا هاما للوقف على مظاهر الإنتاج الثقافي المصري في الأبواب المختلفة من تأليف وترجمة وصحافة وهيئات ثقافية ودور كتب عامة معارض ومتاحف إلى آخر ما احتواه. وتستطيع مصر الآن أن تجيب على ما يراد معرفته من هذه الشؤون، فقد كانت الأسئلة ترد إلى الجهات المصرية من جهات أجنبية فيما يتعلق بتلك النواحي الثقافية، فلا نستطيع إلا أن نمسك عن الإجابة.

ولا بد من الإشارة إلى بعض الهنات التي نرجو أن يلتفت إليها، ففي باب المسرح والسينما عدل عن الشمول إلى اختيار روايات، وكان لا بد وفق خطة التعريف التي اتبعت في الكتب، من تقديم هذه الروايات بنبذ موجزة، وهذا حسن، ولكن الذي نلاحظه أن الروايات (المختارة) عرف أكثرها بملخص حوادثها لا بموضوعها، وليس العيب في ذلك راجعا إلى محرر السجل لأنه لم يجد موضوعا لهذه الروايات يتحدث به. وكان ينبغي إزاء ذلك أن تهمل هذه الروايات التي لا موضوع لها، ويقتضي ذلك أن يهمل 99 % منها، وليكن. في باب الكتب فنون مختلفة كالأدب والتاريخ عد منها (الفنون والصناعات) بابا واحدا، على

ص: 43

بعد ما بين الصناعات والفنون الجميلة، فوضع مثلا إصلاح السيارات وأشغال (التريكو) مع مبادئ الموسيقى وتاريخ الطرز الزخرفية والفنون الجميلة. .

ولم تستوف كل الكتب بينها من حيث التعريف بموضوعها، ونفهم من المقدمة التي كتبها للسجل الدكتور عوض بك باعتباره المطبر العام للثقافة - أن التعريف الكامل بجميع الكتب لم يتيسر لأن (الميزانية) لا تسمح لإدارة التسجيل الثقافي بشراء كل ما يصدر من الكتب لاستيفاء الكتابة عنها، ورجا أن يعاون في ذلك أصحاب الكتب والناشرون بالإمداد بالمعلومات الكافية لتكوين الصورة الواضحة عن الكتب التي يخرجونها.

أما معاونة أصحاب الكتب والناشرين فلا شك أنها ليست محققة من الجميع، ولعل كثيرا منهم يرى أن الإدارة يجب أن نشتري نسخة بدلا من تبادل المكاتبة بينه وبينها، على أنه قد تكون المعلومات التي ترسل إلى الإدارة غير دقيقة أو غير وافية وخاصة من الناشرين.

ولست أدري كيف تضيق بشراء نسخة من كل كتاب بصدر في خلال العام؟ وخاصة أن ذلك ضروري للعمل، كما أنه ضروري لكرامة الإدارة والاحتفاظ بإسمها فلا يقلب إلى (إدارة التسول الثقافي!)

إنصاف المرأة

هو أسم كتاب جديد للكاتبة الأدبية العربية - ولا أقول السورية - وداد سكاكيني والكتاب يتضمن موضوعات مختلفة ينتظمها السلك النسوي فهو كما تقول المؤلفة في المقدمة (ينبثق من الموضوع الواحد الذي يمس المرأة في حياتها وحاجتها مسا قريباً، ويتحدث عن نفسها وجنسها، في البيت والمجتمع، في الثقافة والشمائل، في الانطواء والتحرر) وهي وإن كانت تتحدث عن المرأة عامة إلا أنها تتجه إلى العربية في ماضيها وحاضرها، وتخص السورية في أحوالها وأهدافها الحاضرة.

تتحدث الأستاذة وداد حديث الأدب والفن الهادئ أحيانا، فتتملى التاريخ أو تطالع الواقع الراهن وأحينا يثيرها ما يحيق بالمرأة من ظلم وجحود فتحمل على خصومها والزارين عليها والمنكرين حقوقها، سالكة في ذلك سبيل التفنيد والإقناع بالحجة. وهي في كل ذلك تمتع القارئ بسحر حديثها الذي يشبه ما تحدثت عنه في فصل (كيف نتحدث) الذي بدأته بما رواه أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، من أن جماعة من الكبراء سألوا معاوية

ص: 44

عما هو أبقى في سرور الحياة وأجمل في النفس وأحلى، فقال: أنه الحديث. . . فقد ذقت الطيبات ونعمت باللذات وبلغت جهد ما يبتغي المرء من دنياه، فلم أجد أبقى في النفس ولا أمتع للفكر من حلاوة الحديث وسحر الكلام. ومن لطائف المؤلفة في هذا الفصل، ردها على من يتندرون على المرأة بأنها لا تجيد من الحديث إلا الكلام على الطعام وألوانه، والثياب وأزيائها، والخدم ومشاكلهم، والملاهي وسلواها_إذ قالت:(إن صبح هذا في أكثر نسائنا فإن الرجال مع سبقهم إلى الثقافة وكثرة تمازجهم وأتساع آفاق الحياة أمامهم، ما تزال أحاديثهم إذا جدوا لا تعدو اللغو في السياسية والأحزاب) وإني - على رغم هذا - أشكو إلى الله إنا لا نلاقي كثيراً أمثال السيدة وداد اللائي يخرج حديثهن عن الثياب وتفصيلاتها ومن تزوجت ومن طلقت. . . إلى آخر تلك الثرثرة الفارغة.

ثم لنعرج على هذا الفصل (أدب النسوة) فقد وجدت به ما يدعو إلى بعض المناقشة. ترى المؤلفة أن أدب النساء (هو في تصوير الحياة النسائية المبهمة والعادات المحجوبة عن الرجال فأي كاتب مهما بلغ وعيه واستفاض وحيه يستطيع أن يحيط بأسرار النساء وهي عندهن في آبار عميقة وتحت حجب ضيقة؟ فكثير من أحاديثهن لا يفضين به إلى الرجال ولا يقدر أن يستله منهن إلا الكاتب، فسر السحر والتعاويذ وضروب الكيد بينهن والحسد وستر المنكر وتزوير الجمال وتصوير الأمومة، كل هذا في عالم النساء لا يقيض للكاتب أن يجول فيه، أما للكاتبة فلها فيها جولات مجليات.

وأنا أولا لا أوافقها على تخصيص بعض مجالات الأدب للنساء وبعضها للرجال، فلا نعد موضوعا ما من اختصاص الأديبة لأنه من خصائص النساء لا ينبغي أن يتعرض له الأديب، وقل مثل ذلك في العكس، لأن مدار الأمر على انفعال الأديب أو الأديبة بالموضع ومقدار إطلاعه فيه ومعرفته لدقائقه، وإذا سلمنا بأن كلاً من الرجل والمرأة أدرى بحسنه وشؤونه فلا ينبغي أن ننكر على من يتعلق خاطره بموضوعات الجنس الآخر أن يتناولها. وأذهب - أكثر من هذا - إلى أن هناك ما تعرفه المرأة عن الرجل أكثر مما يعرفه الرجل عن الرجل، وقل أيضاً مثل ذلك في العكس.

ثم أقول: هل أسرار المرأة النساء وحياتهن المبهمة اللائي يحجبنها عن الرجال مما تكشفه المرأة في أدبها وتفضي به الكاتبة في كتابتها؟ أليس الذي يدفعها إلى حجبه عن الرجال

ص: 45

يمنعها من البوح به فيما تكتب للجميع وفيهم الرجال؟ حقا هناك حياة خاصة بالنساء لا يعرف الرجل دقائقها كما تدركها المرأة. ولكن الحق كذلك أن الرجل أقدر وأجرأ على إذاعة ما يقف عليه من أطرافها

وبعد فلم أر في تحية هذا الكتاب القيم خيراً من أن أناقش بعض ما جاء فيه، ومن قيمة الكتاب أن تقدح الأذهان وتثير الخواطر وتدعو إلى المناقشة.

عباس خضر

ص: 46

‌رسالة النقد

معجم ما استعجم من أسماء البلاد

لأبي عبيد البكري الأندلسي المتوفى سنة 487هـ

للأستاذ حمد الجاسر

صدر الجزء الثالث من هذا الكتاب القيم، مطبوعا بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ومصححاً ومحققاً ومشروحاً بقلم الأستاذ مصطفى المساعد بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول. والكتاب غني عن التعريف، ومحققه الأستاذ السقا من المشتغلين بإحياء تراثنا العلمي القديم، وعمله في تحقيق هذا الكتاب لا يدرك مشقته إلا من عرف ما منيت به معاجم الأمكنة وقواميسها من التحريف والتصحيف، والغموض والقصور. حتى قل أن نجد بين تلك المعاجم - مخطوطها ومطبوعها - معجماً سلم من هذه السيئات. وإذا كانت الإشارة إلى نقص تلك المعاجم تعتبر مشاركة في إصلاحها فإن من واجب القائمين على نشرها وتحقيقها أن يتصفوا برحابة الصدر، وأن يقبلوا الحق وأن يحملوا ما يوجه إليهم من نقد نزيه أحسن محمل

وكلمتي هذه ليست من هذا القبيل، ولكنها إشارة موجزة إلى هفوات هينات وقعت في هذا الجزء لكي يتدارك الأستاذ السقا إصلاحها في الجزء الرابع - إن شاء الله -

1 -

في صفحة 862 (صخر بن جعد الحضرمي). وعلق الأستاذ السقا في حاشيته قائلا: في (ج) الخضري، تحريف، وأقول: صخر بن الجعد الشاعر هذا من قبيل الخضر وهم أبناء مالك بن طريف بن خلف بن محارب، وسمو الحضر لأدمة ألوانهم. وقد ورد ذكرهم في ص 1016 من هذا الجزء نفسه، ولجعد الخضري قصة طريفة أوردها الزمخشري في أمثاله في مادة (من مال جعد وجعد محمود) وإذن فالصواب. الخضري - لا الحضرمي. (وانظر مادة خ ض ر) من تاج العروس وراجع كتب الأنساب.

2 -

في ص 878 (يحيى بن أبي طال). وقال الأستاذ في الحاشية كل كلمة أبي ساقطة من (ج) وأقول. الصواب: إسقاطها فهو يحيى بن طالب أنظر ترجمته في الأغاني وسمط اللآلئ للبكري وراجع مادة (البرة) من معجم البلدان حيث تجد:

ص: 47

وقولاً إذا ما توه القوم للقرى

إلا في سبيل الله يحيى بن طالب

3 -

في ص 722 (وبأزاء عن جبلان، أحدهما يقال له القفا والآخر يقال له بيش، وهو لبني هلال. وفي أصل بيش مادة يقال لها نقعاء، وبإزائها أخرى يقال لها الجرو، وعكاظ من هذه على دعوة أو أكثر قليلا. قال الشاعر:

وقالوا: خرجنا في القفا وجنوبه

وعن فهم القلب أن يتصدعا)

هذا الكلام نقله البكري من كتاب عرام بن الأصبغ السلمي حرفاً حرفاً، ولم يصرح بذلك، وقد وقع في بعض كلماته تصحيف، وهذا تصحيح ما جاء فيه نقلا عن كتاب عرام (جبال تهامة ومياهها).

1 -

بيش: صوابه: بس - أنظر هذه المادة في معجم البلدان والتاج وغيرهما - قال الشاعر.

بنون وهجمة كإشاء بس

صفايا كثة الأوبار كوم

وهو جبل معروف بأسمه في هذا العهد، مطل على منهل (عشيرة) المحطة الثانية لقاصد نجد من مكة أما (بيش) فهو واد من أودية تهامة فيه قرى ومزارع، وهو بعيد عن هذه الأمكنة التي حددها البكري في سياق كلامه وقد أورد البكري أسم الجبل في المادتين (بس وبيش).

2 -

نقعاء هي - في كتاب عرام وغيره - بقعاء بالباء (ووردت في هذا الجزء مرة أخرى ص 959 بالنون) ووردت أيضاً في حرف النون (نقعاء).

3 -

الجرو هي الخدد - بخاء معجمة بعدها دال مهملة مكررة راجع معجم البلدان، وتجد في تاج العروس كلاما نقله المؤلف عن البكري في هذه المادة، غير موجودة في النسخ المطبوعة من البكري هذا.

4 -

خرجنا في القفا. خرجنا م القفا

وفي ص 867 تكررت كلمة (هضب الأشق) وهو - كما في المعاجم وكما هو معروف الآن - بزيادة ياءيين الشين وبين القفا.

5 -

ص 871 (عمود الكور) والصواب: الكود بالدال بدال الراء. وفي أصله ماءة تسمى الكودة، ويشاهد العمود من محطة (القاعية) وهي المحطة السادسة في طريق نجد من مكة.

ص: 48

6 -

في ص 876 - 877 وغيرهما - تكررت كلمة (الداءات) كأنها جمع داءة، وصحة هذه الكلمة (الداءات) بالدال المهملة المفتوحة بعدها همزة مشددة مفتوحة ممدودة فثاء مثلثة، وهو واد معروف في هذا العهد، وينطق إسمه مخففاً (الداث) بتسهيل الهمزة، كغيره من الكلمات المهموزة.

7 -

وفي ص 959 (قال أبو عبيدة: عكاظ فيما بين نخلة والطائف إلى موضع يقال له العتق)؛ صواب (العتق). الفتق بالفاء بدل العين - (وانظر هذه المادة من معجم البلدان، وتجد في صفة الجزيرة للهمداني ص 187 تحديداً دقيقا لهذا الموضع. وأنظر الأغاني ج 1 ص 149 طبعة المساسي وقد ورد كلام أبو عبيدة في تاريخ مكة للفاكهي، وللفاسي ووردت الكلمة فيهما صحيحة.

8 -

في ص 873 (ثم ينحدر إلى التسرير حتى يخرج من أرض غني، حتى يصير في ديار بني غير، ثم يخرج في حقوق بني ضبة شرقي جبلة، ثم يغضي التسرير، فيخرج في أرض بني ضبة فيصير في ناحية دار عكل) كذا، وصحة هذه الجمل.

1 -

(ثم ينحدر التسرير) بحذف كلمة (إلى)

2 -

(ثم يفضي التسرير فيخرج من أرض بني ضنة). - (من) بدل (في) -

3 -

(ضبة) صوابها ضنة - بالنون مكان الباء والضاد مكسورة - وهم بنو ضنة بن نمير بن عامر بن صعصعة، أما ضبة - بالباء - فبنو أدبن طابخة بنه إلياس، وبلادهم بعيدة عن التسرير، واقعة في شرقي نجد، والتسرير في عالية نجد، وقول البكري عن التسرير أنه (وقع موقعاً صار الحد بين قيس وبين تميم يدل على أن المراد هنا (ضنة) لا ضمة وفضنة من قيس، بخلاف ضبة. وقد وردت كلمة (ضنة) مصحفة بضبة في مواضع أخرى من كتاب البكري كصفحة 874 وغيرها

هذا ما أردت الإشارة إليه من الهفوات التي وقعت في هذا الجزء، وأكثرها مما وهم فيه المؤلف رحمه الله وله واسع العذر في ذلك، فهو يكتب عن بلاد بعيدة عنه، وينقل من كتبها.

القاهرة

حمد الجاسر

ص: 49

‌البريد الأدبي

أنقد هذا أم حقد؟

رجعت إلى قراءة ما كتبه صاحب الرسالة في النقد ومنه قوله (كاد الأدباء الناشئون في مصر ينصرفون عن الإنشاء إلى النقد. وأريد بالنقد هنا معناه العامي أو مدلوله الأعم، فإن النقد المنطقي بمعناه الأخص إنما هو ملكة فنية أصلية، وتربية أدبية طويلة، وثقافة علمية شاملة) إلى أن قال (وهذا الذي تقرأه في الصحف العربية من حين إلى حين لا يدخل في هذا الباب إلا كما يدخل المجنون في نطاق الجد، أو العبث في سياق المنطق، كالرجل يقعد به العجز عن اللحاق بالقادرين فيقف نفسه موقف القائد الحصيف يلمز هذا ويتندر على ذاك. . . . . .)

لهذا عجبت عندما رأيت الرسالة تجيز نشر الكلمة التي وقعها المعداوي

والتي شاء له فيها أدبه الرفيع أن يقول (إن أم كلثوم غنت لشوقي

العظيم المشهور فلم نضف إليه مجداً فوق مجده؛ وغنت لمصطفى عبد

الرحمن الشاعر المغمور فلم تستطع أن تنتشله من مهاوي الخمول أو

زوايا العدم، ولو غنت له ألف مرة لبقي كما كان) إلى أن قال لا فض

فوه (ولكنها تنسى شعر علي محمود طه مثلا لتصدح بشعر مصطفى

عبد الرحمن! ماذا أقول في هذا الذوق الهابط. . . سواء أكان منسوبا

إليها أم كان منسوبا إلى مستشارها الفني أحمد رامي. . .؟

وأحب أن يعرف الناس أن أم كلثوم أديبة صاحبة ذوق سليم تختار لنفسها ما تتغنى به دون الرجوع إلى أحد.

وقصة قصيدتي التي غنتها هي أنني تقدمت بها إلى محطة الإذاعة فلما استمع إليها صديقي الأستاذ محمد عبد الوهاب طلب في إلحاح أن أتصل بالأستاذ محمد بك فتحي مدير الإذاعة وقتئذ ليغنيها هو، فلما اتصلت بفتحي بك قال إنها لدى الآنسة أم كلثوم إذ أن الأستاذ علي بك خليل المراقب العام للإذاعة أعجب بها فقدمها إليها فطلبت من فتحي بك أن تتعرف إلي

ص: 51

فأعتذر بلباقة لأن الإذاعة أرسلت مع قصيدتي قصيدة أخرى في نفس الموضوع لشاعر كبير لتختار هي ما يحلو لها وكان أن اختارت قصيدتي:

أيقظي يا طير نعسان الورود

تنهل قداح من خمر الندى

وترى في بسمة الفجر الجديد

مولداً باليمن والسعد بدا

أشرقت آمال مصر في سناه

ومشت للمجد في نور اليقين

حقق الفاروق للنيل مناه

في ظلال اليمن والعز المكين

وبنى للشعب أسباب الحياة

ورعى الآمال فياض اليمين

فهل قرأ المعداوي هذه القصيدة ليرى فيها هذا الرأي أم سمع أن أم كلثوم غنت لمصطفى عبد الرحمن فغص حلقه. ثم هل عرف أن الرسالة عرفتني قبل أن تعرفه ونشرت لي قبل أن تنشر له.

أما رامي فهو الذي نقل شعر الغناء المصري من (أرخى الناموسية وأحبكها وشبكها بمتين دبوس وأعض وابوس) إلى

كيف مرت على هواك القلوب

فتحيرت من يكون الحبيب

وأخيراً أحب أن أهمس في أذن المعداوي ببيت لشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي.

ملئوا صدور الصحف حقدا

والحقد قد سموه نقدا

رحم الله الزهاوي

وهدى المعداوي

مصطفى علي عبد الرحمن

على هامش الدراسات العليا في مصر:

كثر الكلام في هذه الأيام حول الحركات الإصلاحية في الأزهر مما بعث الأمل إلى نفوس المشفقين على هذه الجامعة الإسلامية الكبرى وخاصة بعد أن طالعتنا الصحف بتأليف لجان مختلفة من رجال الأزهر لدراسة شتى المقترحات للنهوض به. ويهمنا كثيراً أن نقدم هذه

ص: 52

اللجان تقريراتها وتوصياتها قبل ابتداء العام الدراسي لكي يتبين الرأي العام أن الأزهر يستجيب دائما لحركات الإصلاح والنهوض والرقي، ونرجو أن يهتم المسؤولون في الأزهر بآراء المفكرين وأعلام الثقافة في مصر. فليس من الخير أن تهمل آراؤهم، بل من الواجب أن ينظر إليها بعناية ودقة. ثم هناك من الأزهريين من درس في أوربا، ومنهم من له نظريات في إصلاح الأزهر، فجدير بهؤلاء - الدكاترة - أن يكونوا أعضاء عاملين في هذه اللجان. لقد سبق أم أوضحت كيف يكون إصلاح الأزهر وكيف السبيل إلى رفع المستوى التعليمي والنهوض به. ولقد تكلم غيري في هذه الناحية. فما مبعث هذا الكلام؟ وما الدافع إليه؟ ليس من المعقول أننا نتجنى على الأزهر حتى يفهم كلامنا على غير وجهه؛ إذاً فما هو السبب المباشر؟ يعلم الله أنه الحرص الشديد على رقي الأزهر والأمل القوي في النهوض به إلى المنزلة السامية التي هو لها أهل وبها جدير. هذه همسات عابرة ننتقل منها إلى الدراسات العليا في الأزهر. لقد كتب الأستاذ (محمد عبد المنعم خفاجي) كلمة حول هذا الموضوع في (الرسالة الغراء) استعرض فيها تاريخ هذه الدراسات إلى أن تلاشت من الأفق الأزهري في عام 1941 وختم كلمته داعياً إلى إعادة هذه الدراسات من جديد تؤدي رسالتها العظيمة في خدمة الدين والثقافة وتجديد مناهج البحث العلمي الحر. ثم ناشد ولاة الأمر أن يوقظوا الأزهر من هذا الوقود، ويدفعوه لأداء رسالته.

نحن لا يسعنا إلا أن نشكر الأستاذ (خفاجي) على كلمته، وإلا أن نحبي فيه هذه الروح الجامعية الوثابة. إذ لا شك أن الدراسات العليا لها خطرها ولها أثرها الجبار في رفع مستوى هيئات التدريس في كليات الأزهر. ولو كانت هذه الدراسات قائمة لما كان هناك مجال لهذه الصيحات التي كان لها صداها هنا وهناك والتي كان من نتائجها نقل بعض مدرسي المعاهد إلى التدريس في الكليات. كنا ننتظر من الأستاذ (خفاجي) أن يبين على أي أساس تعاد هذه الدراسات العليا؟ فقد قال إن مدة الدراسة في هذا القسم لا تقل عن ست سنوات بعد انتهاء مدة الدراسة في الكلية. ونحن نقول إن هذه السنوات قد تصل إلى سبع سنوات أو ثمان فهل هذا نظام صالح لاستئناف هذه الدراسات؟ لسنا نأخذ على الأستاذ تقصيراً في كلمته لأنه بصدد عرض سريع لتاريخ هذه الدراسات، ولكنا نعضده ونؤيده وندعو معه إلى إعادة الدراسات العليا، ولكن على أسس جديدة ودعائم حديثة ونهج يتفق

ص: 53

ونهج الجامعات المصرية. نريد أن نقول لولاة الأمور: أعيدوا هذه الدراسات على نمط مثيلاتها في جامعتي فؤاد وفاروق حتى تؤتي ثمارها المرجوة، وتغذي كليات الأزهر بخريجيها. لقد أشرت في عدد مضى من الرسالة إلى الأسس القويمة التي يجب أن تقام عليها الدراسات العليا في الأزهر. وتقدمت باقتراح مفصل في هذه الناحية. وأهدف من رواء ذلك إلى أن يحمل رجال الأزهر مختلف، لجامعات على الاعتراف بالدرجة العلمية التي يحصل عليها المتخرج في هذه الدراسات، والتي تعادل في الوقت نفسه درجة الدكتوراه.

فإن لنا أملاً قوياً في إعادة الدراسات العليا وتنظيمها على نحو ما هو متبع في الجامعات المصرية وإنا لمنتظرون.

(أزهري عجوز)

مقال مزور

حضرة الأستاذ الجليل صاحب الرسالة الغراء

السلام عليكم ورحمة الله وبعد:

فإن أحب مجلة إلي في نشر مقالاتي هي مجلة الرسالة. فإن لصاحبها في نفسي تقديراً يسره. غير أن هذا لا يمنعني من أن أواجه بأمر لم ترتح إليه نفسي. فقد نشرت بأسمى في المجلة كلمة بعنوان محمد رشيد رضا تحتوي انتقادات لمقال كتبه صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الجليل عيسى. والحقيقة أني لم أقرأ ما كتبه فضيلة الأستاذ حتى أوجه إليه هذه النقدات التي لا تتفق وما اعتدته فيما أكتب؛ فأني لا أكتب إلا متحرياً جهدي شأن من لا يبغي من وراء ما يكتب إلا تجلية حقيقية أو دفعا عن حق.

وإني لمنتظر أن تنشروا ذلك في مجلتكم. ولكم الشكر والسلام عليكم ورحمة الله.

حامد محيسن

(الرسالة) نعتذر للأستاذ الجليل من ذنب لم نرتكبه، وإنما أرتكبه رجل صغير دفعه اللؤم إلى التجريح، ومنعه الجبن عن التصريح، فأظهر لؤمه وأخفى أسمه.

ص: 54

‌القصص

(دموع)

للقصصي الشاب أبو المعاطي أبو النجا

لا شيء، لا شيء، غير أن الأقدار أرادت أن تسخر فلم تجد غيري لتسخر منه، أو أنها أرادت أن تمثل مأساة ساخرة فلم تجد غير قلبي مسرحا يصلح للتمثيل!!

لا شيء غير ذلك؛ وإذا لم تصدقني فأستمع قصتي. . .

كانت أواصر القرابة الوثيقة هي التي تجعلني أتردد على منزل (فتحية)، وكانت نفحات جمالها الساحر هي التي تجعلني أكثر من هذا التردد. . ولم يكن جمالها وحده هو سر تلك الجاذبية التي تنفرد بها عن سائر الفتيات، والتي تجعلها أملاً حلواً يخطر في قلوب الشباب. . . ولكن شيئا آخر هو الذي جعلها كذلك. . . شيئا آخر يتمثل في عذوبة الروح وخفة الظل ورشاقة التكوين لم أكن ألقاها حتى أشعر بأن في عينيها بحيرة هادئة ضل فيها زورق السعادة، فهو لا يفتأ يروح ويجيء ى يعثر على الشاطئ المنشود. . . أما ثغرها الحلو الفاتن فكأنما عشقته البسمات فهي لا تزال تعانقه في شغف ملح دائم. . .

وكان يكفي إن تتكلم حتى تود أن تستحيل كل جوارحك إلى آذان مرهفة كي تسمع كل ما تقول من كلمات!! كلما ما كان أبرعها في ابتعاث الضحكات من الشفاء، وما كان أروعها حين تتناول بالتعليق شخصية من الشخصيات أو حادثة من الحوادث. . .

لا أظنك تدهش إذن حين تعرف أنني كنت دائما أحرص على أن ألقاها مفتعلاً لذلك أوهن الأسباب. . . وأنني كنت أتعمد أن أطيل معها الحديث وأن أظهر لها من ضروب الاهتمام وألوان الود ما جعلها تأنس بي وترتاح لرؤيتي وتغرقني معها في فيض ذاخر من المسرة والإمتاع.

ولكنك سوف تدهش من غير شك حين أؤكد لك أنني لم أكن أحبها. . . أجل يا صديقي لم أكن أحمل لها ذلك الشعور النبيل الجميل الذي يسمونه الحب. . . هذا الحب الذي كان يجب أن يبعثر كلماتي حين أتحدث إليها، وأن يشرد نظراتي حين أتحدث عنها، وأن يحيل حياتي إلى إطار جميل لا يبرر إلا صورتها الفاتنة هذا الحب يا صديقي لم أكن أكنه لها. هذه هي الحقيقة التي يسهل عليك وحدك أن تتصورها. تعرف يا صديقي أن قلبي لا يهتز

ص: 55

لشيء في الوجود مثلما يهتز لرأي الدموع. . . إنها الدليل الفذ على أن القلب يملك رصيدا موفورا في دنيا المشاعر والأحاسيس، وأنه يمت إلى الإنسانية بأوثق الصلات. . . وتعرف أيضاً أن دموع المرأة هي المحراب الوحيد الذي يمنحه قلبي أخلص صلواته وأحر دعواته، ويقدم إليه من أحلامه أثمن القرابين

ولعلك تذكر أنني حين كنت أحدثك عن فتاة أحلامي كنت أطيل الحديث عن نظراتها المبللة بالدموع وعن قسماتها المغلفة بالأسى والشجن. . . كنت لا أخفى هيامي بالبسمات السائحة حين تفر في دروب الخجل، والكلمات الهامسة حين تختبئ في زوايا الصمت، والجمال الفاتن حين يبدو إلى العين في إطار حزين!! أظن أنه من السهل عليك الآن أن تتصور لماذا لم أكن أحبها. . لأنها في نظري فتاة فارغة؛ وهل تستطيع ضحكاتها المرحة اللاهية أن تحدد مكانتها في دنيا الشعور إلا كما تحدد رنات الطبلة الضخمة مكانها في دنيا الموسيقى؛ ومع ذلك فإنني كنت دائما أتعمد أن أطيل معها الحديث وأن أظهر لها من ضروب الود وألوان الاهتمام ما جعلها تأنس بي وترتاح لرؤيتي وتغرقني معها في فيض ذاخر من المسرة والإمتاع!!

ولا تعجب يا صديقي فأنا كما تعلم أطرق بعصا الشباب أبواب العشرين. . . والشاب في تلك السن يجد نوعا من الزهو وأنواعاً من اللذة حين تؤثره عذراء بالحديث وتخصه بالود وتعطر حياته بأنفاس سبابها الغض النضير

ومن هنا يا صديقي تدخل القدر ليجعل من تلك التسلية الساذجة غراما تحترق فيه القلوب ولا تجد ما يطفئها غير الدموع!

كان ذلك حين أراش (كيوييد) اللعين سهمه الطائش إلى قلب (فتحية) الفتاة التي عمر الزهور. . وفتحت المسكينة عينيها لتراني فتاها المحبوب وهواها المأمول ورجاءها الباسم!!

وفتحت أنا عيني لأرى وجهها الجميل تلك الخميرة الخفيفة التي هي أشهى ما تقدم المرأة على مائدة الشباب. وأرهفت أذني لأسمع في صوتها المرح تلك الربكة الظاهرة التي هي أصدق ما تقول المرأة في قصة الحب.

وفتحت عيني مرة أخرى على قلبي فإذا به هادئ ليس كهذه القلوب التي يهزها الحب

ص: 56

ويذبلها الغرام

وهنا يا صديقي أغمضت عيني حتى لا أرى المصير المظلم الذي ينتظر المسكينة هناك في نهاية الطريق!

ماذا تريدني أن أقول بعد ذلك؟

اقسم لك أنني ما أحسست بالألم الممض العميق مثلما أحسست به وأنا أراها تحت خطى الأحلام في صحراء الوهم وتنثر حبات الأمل في حقول الخيال!!

كنت أعرف أنني الدليل الخادع الذي يقود تلك القافلة من الأحلام نحو المصير المجهول. . .

كنت أحس لنظراتها التي يرتع فيها الأمل ولكلماتها التي يخفق فيها الحنان ولبسماتها التي تنبض فيها السعادة. . . كنت أحس لكل أولئك وخز الإبر ووقع السياط

وما اعنف الآلام يا صديقي حين يقدمه إلى القلب ثغر يبتسم، أو عين تختلج، أو أمل يخطر في قلب عذراء.

كان يجب أن أضع حداً لهذه المهزلة وأن أجد حلا لهذه القصة يخرج بها عن دائرة المأساة. . . كنت أعلم أن كل يوم يمضي جناية لا تغتفر في حق هذه الأحلام العذراء. . . هذه الأحلام التي تنسج خيوطها على نول الأوهام!

حاولت أن أخرج من حياتها برفق ولكن قلبها كان ساحراً فلم يترك باباً واحداً أخرج منه، وحاولت أن أحبها وأن أفتح لها أبواب قلبي وروحي، ولكن قلبي كان عنيدا فلم يترك لها باباً واحد منه تدخل!!

لم يكن هناك غير باب واحد كنت أعلم أن الضوء الذي سينفذ منه سوف يوقظ من غير شك تلك النائمة في فراش الأوهام. كان ذلك حين قابلتها ذات صباح وأنا أضغط على أعصابي حتى لا أرتعش، ورحت أقول لها في صوت تعثرت حروفه وهي تنطلق بين شفتي. . . يا لك من صديقة مهملة لا تعرف حقوق الأصدقاء! فأجابت في لهفة كيف ذلك؟ فقلت وأنا أنظر إلى الأرض حتى لا أرى أثر الصدمة على قسماتها البريئة. . . لماذا لم تأت ليلة أمس لتهنئتي؟! ألم تعلمني أني خطبت (. . .) بنت عمي. وحين رفعت وجهي رحت أحملق فيها بذهول غريب. . . كانت شيئا آخر لا يمت إلى الفتاة الأولى بصلة. . .

ص: 57

العيون التي كنت أرى فيها بحيرة هادئة ضل بها زورق السعادة ماذا بها؟ لكأن الزورق عثر على الشاطئ المنشود وخلف البحيرة الهادئة تصخب بأمواج الدموع!

الثغر النشوان الذي عشقته البسمات ما له ينتقض كأنه جناح طائر خضبه دم السكين!!

أين يا رب ذهبت فتحية الأولى؟ ومن أين جاءت تلك الأخرى؟ أجل تلك الأخرى لم أرها من قبل! أوه لم أرها من قبل؟ ذاك محض افتراء. أنني رأيتها، أجل رأيتها ولكن أين كان ذلك؟ أفي الحلم؟ أم في اليقظة؟ أم في الخيال؟. . . آه يا رب أنها هي. . . فتاة أحلامي التي كنت أصفها في الخيال تلك التي كانت تقف دائما وراء قلبي لا تترك الفتاة الأولى تدخل فيه. . .

العيون المبللة بالدموع، القسمات المغلفة بالأسى والشجن، الجمال الفاتن حين يبدو إلى العين في إطار حزين. . . كل ذلك أصبح الآن أمامي يهز قلبي في عنف. . . ولكنني لا أستطيع أن لأمد يدي إليه. . . يدي التي كانت منذ لحظات توصد أمامه أبواب الأمل. . لم أفق من تأملاتي الثائرة إلا حين أرادت هي أن تنفلت في هدوء وهي تتمتم بصوت جريح مبروك. . . مبروك. . . حاولت عبثا أن أستبقيها بين ذراعي وأنا أهتف بها كالمجنون أقسم لك أنني أحبك. . . أحبك: ولكن أعظم قوة في الوجود لا تستطيع أن تقنعها بأنني أحبها، ولست أعطف عليها فقط وإلا؛ فما الذي دفعني إلى هذا المسلك؟!

وهكذا ترى أنني حين حاولت أن أستبقيها بين ذراعي كنت أشبه بمجرم يحاول أن ينكر اعترافه أمام حبل المشنقة. . . لقد ذهبت يا صديقي وخلفتني وحدي لأقول نفس القافلة إلى المصير المجهول، ولأهمس في أذنيك هذا الهمس الحزين: لاشيء، لا شيء غير أن الأقدار أرادت أن تسخر فلم تجد غيري لتسخر منه، أو أنها أرادت أن تمثل مأساة ساخرة فلم تجد غير قلبي مسرحا يصلح للتمثيل. . .

محمود أبو المعاطي أبو النجا

مجمع فؤاد الأول للغة العربية

لجنة الأدب

مسابقات مجمع فؤاد الأول للغة العربية الإنتاج الأدبي سنة 1951 - 1952

ص: 58

قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية توزيع جوائزه لتشجيع الإنتاج الأدبي على النحو الآتي:

أولا: تخصص مائتا جنيه لكل فرع من الفروع الآتية على أن يكون المتسابق من أدباء وادي النيل وحدهم.

(ا) أحسن ديوان شعري لا يقل عن ألف بيت في الشعر الوصفي أو القصصي أو فيهما معاً.

(ب) أحسن بحث مستوفي مبتكر يسير على المنهج العلمي الحديث في (أحمد فارس الشدياق) وأثره في اللغة والأدب وفي وضع المصطلحات الحديثة. أو في (الشيخ حسين الوصفي) من حيث حياته وتأليفه وأثره في النهضة الأدبية الحديثة، على ألا يقل عدد صفحات كل من هذين البحثين عن مائتي صفحة من القطع المتوسط الذي لا تنقص كلمات الصفحة فيه عن مائة وثمانين كلمة.

(ج) أحسن تحقيق علمي على النمط الحديث لكتاب عربي قديم قيم في اللغة أو الأدب لم ينشر من قبل - على أن تقدم له مقدمة علمية في قيمة الكتاب والتعريف بمؤلفه ونسخه التي روجعت الخ ويقدم هذا التحقيق للجنة مطبوعا أو معداً للنشر.

ثانياً: تخصص لأدباء وادي النيل وغيره جائزة قدرها مائتا جنيه لمن يقدم أحسن قصة تعالج مشكلة اجتماعية شرقية باللغة العربية الفصحى بحيث لا يقل عدد صفحاتها عن مائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط الذي لا تنقص كلمات الصفحة منه عن مائة وثمانين كلمة.

وعلى الراغبين في الحصول على هذه الجوائز أن يرسلوا إلى المجمع أربع نسخ مطبوعة أو مكتوبة على الآلة الكاتبة كتابة واضحة في الموضوع المقدم للحصول على الجائزة قبل أول أكتوبر سنة 1951.

وللمتبارين أن يذكروا أسماءهم أو يختاروا أسماء مستعارة، وعليهم أن يكتبوا عنواناتهم واضحة وأن يوقعوا على كل نسخة يقدمونها ولا يجوز أن يدخل مسابقات المجتمع الأدبية من سبق أن أجازه المجمع على إنتاج له في فرع المسابقة المتقدم إليه، ولا أن يعاد تقديم أي إنتاج أدبي سبق أن قدم للمجتمع أو لأية مباراة عامة أخرى أو لمناقشة عامة للحصول على لقب أو درجة عملية.

ص: 59

ويشترط في مسابقة تحقيق كتاب قديم ألا يكون قد نشر قبل أكتوبر سنة 1950 ويشترط في غيره من الموضوعات ألا يكون قد طبع قبل سنة 1946، وسيحتفظ المجمع بنسخة من كل ما يقدم إليه من الإنتاج الفائز وغيره. وترسل الموضوعات بعنوان لجنة الأدب بمجمع فؤاد للغة العربية شارع قصر العيني 110 - القاهرة.

ص: 60