الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 903
- بتاريخ: 23 - 10 - 1950
مثال يحتذي في الحكم
هنأ مجلس الوزراء في جلسة من جلساته الأخيرة صاحب المعالي الدكتور طه حسين بك على انتصاره المبين الحاسم في معركة صال فيها الجهل والتجهيل قرنا وبعض القرن فلم تعرف مصر فيها غير الهزيمة منذ أدارها القائد الأول مصطفى مختار الدويدار سنة 1836 حتى اليوم، فكانت هذه التهنئة الرسمية اصدق كلام عبرت به الحكومة عن رأي الشعب.
والواقع أن ما صنعه وزير المعارف لأمته في هذه المدة القصيرة يستحق رضا الله وارتياح المليك وشكر الحكومة وتقدير الوطن: يستحق رضا الله لأن مجاهدة الجهل كمجاهدة الكفر عمل من أعمال الرسل تبذل فيه قوى النفس، وتهجر في سبيله راحة القلب، ولا يصبر عليه إلا أولو العزم، ولا يقصد به غير وجه الله.
ويستحق ارتياح المليكلأنمجانية التعليم في كل مدرسة، وتيسير التعلم في كل جامعة، هما أول الوعود التي أنجزتها الحكومة من خطبة العرش على هذه الصورة الفريدة.
ويستحق شكر الحكومة لأنهذه الوثبة الجريئة التي وثبتها وزارة المعارف في فترة هذا الصيف قد حركت الأيدي، وشغلت الألسن، وأذهلت القلوب، فلم يقطن الناس لهذا العطل الذي أصاب أداة الحكم في الوزارات الأخرى. ويستحق تقدير الوطن لأنوزير المعارف قد حقق الاشتراكية في العلم فجعله كالماء والهواء لا يحول دونه قصور آلة ولا ضعف حيلة، ولا تصد عنه قلة مال ولا تقدم سن. ورخص الأمية والجهالة عن كرامة مصر أمر له ما بعده من يقظة الوعي واطراد التقدم واستكمال السيادة وشيوع الرخاء وضمان السعادة.
يا عجبا أشد العجب! وزارة المعارف هي وزارة المعارف، والموظفون هم الموظفون، و (المالية) هي المالية، و (الأشغال) هي الأشغال، والمطبعة هي المطبعة، فكيف كان هؤلاء جميعا يقفون من مشكلة التعليم وقفة الحائر أو الجائر أو السهوان، يقولون ولا يفعلون، ويضطربون ولا يسيرون، ويسألون ولا يجيبون! وكيف أصبح هؤلاء جميعا وقد وقفوا من هذه المشكلة نفسها موقف المؤمن المصمم اليقظان، يفعلون ولا يقولون، ويقدمون ولا يحجمون، ويجيبون ولا يسألون؛ ففي أربعة أشهر يدبر المال، وتبنى الفصول، ويحشد المعلمون، وتطبع الكتب، وتعد الأدوات، فلا يقبل اليوم الأول من العام الدراسي حتى يجد كل طالب مدرسته ومعلمه وكتبه وأداته، من غير أجر يعطى، ولا تعب يكابد ولا وجه
يبتذل! الفرق بين تلك الحال بالأمس وهذه الحال اليوم زيادة رجل واحد، ذلك الرجل لا يتبع الروتين لأنه حر الفكر، ولا يعرف المستحيل لأنه شجاع القلب، ولا يتملق الحكم لأنه طه حسين!
أحمد حسن الزيات
الأزهر الشريف
منارة العلم والعرفان في العالم الإسلامي
للدكتور حسين الهمداني
حفلت البلاد الإسلامية منذ انبثق فجر الإسلام بدور العلم ومعاهد العرفان في وقت كانت ظلمات الجهل تجثم فيه فوق ربوع العالم العربي، ومع أن هذه الدرر كانت تقسم بطابع خاص هو الطابع الإسلامي فإنها كانت تتوسم في نظامها واتجاهاتها الحرص على توفير أسباب الطمأنينة في نفوس طلاب العلم وتوثيق الصلة بينهم وبين أساتذتهم وإشاعة تلك الروح الجامعية التي يجب توافرها في معاهد العلم العليا مثل ما يشاهده المرءالآن في أعرق الجامعات العربية.
ويلوح أنه لم يكن ثمة مناص من أن تغدوا المساجد والجوامع مقر لنشر المعرفة كما كانت وما زالت مصدرا لبث الهداية والرشد في نفوس الناس في الوقت ذاته. ولم يكن هناك تعارض في اضطلاعها بالمهتمين؛ فإن الدين الإسلامي الذي يأمر بالتسامح والمساواة يحث على طلب المعرفة ولو اقتضى الأمر الاغتراب في مشارق الأرض ومغاربها ما كان ليجد خيرا من المساجد بجوها القدسي لغرس العلم والمعرفة في نفوس المسلمين، بل إن اختيار المساجد لهذا الغرض يحمل في طياته الإقرار بقداسة العلم ووجوب تطهيره من حمأة الأغراض الدنيوية والبعد به عن كل جو ينحرف به عن قدسيته.
وقد ظهر في الإسلام معاهد علمية عظيمة القدر رفيعة الاسم. وكان الحكام يتنافسون في إنشائها، فأنشئ الأزهر في عام 361هـ (971م) وأنشئت الكلية النظامية في عام 459هـ (1066م) وأنشئت الصالحية في القدس عام 583هـ (1187م) وكان الغرض من إنشاء هذه المعاهد هي وغيرها بادئ الأمر - وباستثناء المستنصرية - هو تدريس المذاهب الدينية والدعوة لها، فأنشئ الأزهر لتدعيم المذهب الشيعي في مصر بعد فتحها على يد الفاطميين.
وأنشئت النظامية هي والصالحية لدعم المذهب الشافعي بينما أنشئت المستنصرية لتدريس المذاهب الأربعة وكان بها كلية لتدريس الطب وأخرى لتدريس الرياضيات واللغات. وقد اختفت هذه المعاهد العظيمة واندثرت وعفا عليها الدهر فيما عدا الأزهر الذي ظل راسخا
كالطود بالرغم مما مر به من أحداث بل واضطهاد في بعض العصور. ولعمري أن المرء ليتساءل ماذا كان يصيب اللغة العربية وآدابها وما يتصل بهما من علوم ومعرفة لو أن الأزهر أصابه ما أصاب غيره من معاهد ولم يصمد للحوادث طيلة هذه الأجيال؟ لقد كان هذا الأزهر وما يزال - وأرجو أن يظل على ذلك أبد الدهر - دعاية العلوم والمعارف في العالم الإسلامي. وقد أراد الله بالأمم الإسلامية خيرا حين كلأ هذا الجامع بعنايته ورعايته وصانه من غوائل الدهر ومن الانهيار.
ولم يكن الأزهر بناء أو جدرانا لا حياة فيها. بل كان على الدوام فكرة نابضة وروحا متسامية وحياة فكرية ومبادئ حية. بدأ جامعا فأنقلب جامعة لها خصائصها وتقاليدها وسمعتها وطابعها؛ وقد ظلت هذه التقاليد والخصائص والطابع والسمة تلازمه على مر العصور. وكان من خير هذه التقاليد أن الطالب يظل يتلقى العلم حتى إذا آنس في نفسه القدرة على التصدر للعلم أذاع ذلك بين زملائه وشيوخه فتعقد في ديوان الأزهر حلقه من العلماء النابهين يجلس الطالب في صدرها ويناقش نقاشا حادا في المادة التي تدرسها وفي جميع المواد المتصلة بها، فإذا أثبت الطالب كفاءة ممتازة منح حق التدريس. وهذا التقليد يذكرنا بما هو متبع في الجامعات العريقة وفي مناقشة رسالات الدكتوراه فيها في عصرنا الحديث.
وإذا كان الأزهر قد صعد نيفا وأنف عام للأحداث وظل راسخا في أداء رسالته في دعم أركان الدين الإسلامي ونشر العلوم الإسلامية، واستطاع أن يحتفظ بمكانته المرموقة كدعامة قويا للإسلام ومنارة لنشر العلم والعرفان، فإن مثله يجب أن يحتذي في كافة الأمصار الإسلامية فليس في وسع سكان الباكستان أو غيرها من البلاد الإسلامية أن يفدوا بقضهم وقضيضهم ليتزودوا من منهل الأزهر الذي لا ينضب وينهلوا من مورده العذب، على أن الباكستان وغيرها من البلاد الإسلامية لا تستطيع أن تترسم الروح الأزهرية الفذة أن ننوه ببعض ما يجول في نفوس بعض العلماء من مخاوف بشأن اضمحلال هذه الروح بسبب تلك النظم الحديثة التي أدخلت في الأزهر مثل نظام الامتحانات وتحديد المقررات وكثرة المواد الدراسية التي لا تتصل بالدراسات الإسلامية - حتى أن بعض يعتقد أن مستوى التحصيل في الأزهر قد انخفض انخفاضا ملموسا بسبب انصراف الطلبة إلى
إحراز الإجازات التي تعتبر سلاحا للتوظيف دون الرغبة في التزود بالعلم لذاته والتعمق في المعرفة. وقد كان النظام الذي سلكه الأزهر خلال القرن الماضية نظاما جامعيا بحتا وكانت الروح العلمية تسيطر على جوه، فكانت صلة الطالب بمدرسته صلة وثيقة دعمتها العلم والرغبة في اعتراف مناهله. وحسبك أن تعلم أن الجامعات الغربية تهيأ الآن هذا التهيؤ لتأدية رسالتها. ولكن ما لبث النظام (المدرسي) الجديد الذي ادخل على الأزهر أن اضعف من هذه الرابطة مبين الطالب وأستاذه. ثم أن هذا النظام يعمل على شحن ذهن الطالب لا طائل تحتها ولا يدع له وقتا ولا ميلا للتعمق في نوع معين من المعرفة الإسلامية تعمقا من شأنه أن يخلق لنا علماء من طراز الشيخ محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرزاق والشيخ المراغي وإضرابهم من جهابذة العلماء الذين يفخر العالم الإسلامي بهم. والحق أن النواة لأمثال هؤلاء العلماء موجودة فإن الطلبة الأزهريين ما زالوا يتسمون بالروح العلمية العميقة. وقد علمت من أحد القائمين على إدارة المعهد البريطاني في القاهرة أنه وجد في الطلبة الأزهريين الذين يتلقون اللغة الإنجليزية في المعهد المذكور استعدادا وإدراكا وتعمقا وغيرة وإقبالا على العلم بما هو جدير بطلبة هذه الجامعة العريقة. ونعتقد أن خير ما يمكن أن يفعله الأزهر هو أن يعمل جاهدا للعودة لذلك الجو العلمي البحث الذي عرف به وأن يقضي على نظام الامتحانات أو يعد له بحيث ينصرف الطلاب للعلم وحده دون النظر للإجازات العلمية كهدف يتعين عليهم تحقيقه للحصول على الوظائف.
وبودنا لو عنى رجال الأزهر الأعلام الألمعيون بأمر جدير بعنايتهم وهو تعليم الفتيات، فالشاهد أن الأسر الإسلامية كثيرا ما تدخل فتياتها في المعاهد الأجنبية التبشيرية، ولسنا نجد مبررا لحرمان الفتيات المسلمات من الثقافة الدينية الإسلامية ولا من خطاه ما لم يمد يده لمعونتها. والواقع أن رسالة الأزهر لا تقتصر ولا يجب أن تقتصر على مصر وحدها بل رسالته أعم وأشمل. ومن حق البلاد الإسلامية أن تطالبه بأن يمد رسالته عبر البحار لا إلى البلاد الإسلامية فحسب بل وللبلاد غير الإسلامية أيضا. ومن حسن الطالعأنلا يكون هذا هو رأينا وحدنا بل هو رأي الحكومة المصرية نفسها بدليل ما وفق عليه مجلس الوزراء في إحدى جلساته الأخيرة من فتح الاعتمادات لإنشاء معهدين إسلاميين في مدريد وطنجة.
وفي وسع الأزهر أن يساهم مساهمة أدبية ومادية في إنشاء معاهد العلوم الإسلامية والدينية في البلاد الإسلامية فيبعث بعلمائه إلى هذه الأمصار التي ستلقاهم بصدر رحب وتحلهم منها مكانة الصدر والإعزاز ببثون فيها تلك الروح الفقهية والعلمية العميقة التي أنفرد الأزهر بها منذ حوالي عشرة قرون ويضعون برامج الدراسة في هذه المعاهد وفق النهج الذي مارسه الأزهر منذ إنشائه ويعملون على نشر اللغة العربية ودعمها في البلاد الإسلامية غير العربية. ولسعادة علوية باشا مشروع في هذا الشأن يستطيع علماء الأزهر دراسته وتنفيذه كله أو بعضه.
أما بالنسبة للبلاد غير الإسلامية فإن واجب الأزهر يقتضيه - بوصفه دعامة العلوم الإسلامية ومنارة الدين والهدى - أن ينشئ المعاهد الإسلامية في عواصمها ومدنها الكبرى وأن يزودها ببعض زملائه الذين يتقنون اللغات حتى يكون في مقدورهم نشر العلوم الإسلامية في هذه البلاد. وإذ كانت بعض الجمعيات الإسلامية قد أحرزت توفيقا في هذا المضمار فأحرى بالأزهر وهو المؤسسة التليدة العريقة أن يصيب نجاحا عظيما بما يتوافر لديه من اعتبارات وعوامل تكفل له التوفيق والنجاح في القيام برسالته. ويستطيع الأزهر مثلا أن ينشئ معاهد في لندن وبرلين وباريس وروما وواشنطن وغيرها من المدن الكبرى على غرار ما نره من المعاهد الأجنبية التي تنشئها الدول الغربية بين ظهرانينا. ونعتقد أن مثل هذا العمل يستدعي إنشاء معهد خاص للغات الأجنبية في الأزهر نفسه يدرس فيه العلماء والطلاب تلك اللغات بتوسيع وتعمق في وسط أزهري يكفل لهم تغلغل الروح الأزهرية العالية في نفوسهم. ونود ونحن بصدد الكلام على تلك تخصص بعضهن في العلوم الإسلامية. وأعتقد أن في مقدور الأزهر أن ينشئ معهدا للفتيات يتلقين فيه العلوم الإسلامية ويتخصصن فيها فيكون لدينا في القريب عالمات فضليات تزهو بهن البلاد الإسلامية.
إن الأزهر هو كعبة العلوم الإسلامية التي يحج إليها طلبات العلوم من كافة البلاد الإسلامية من الباكستان حتى نيجيريا، ومن الصين حتى الجزائر. ونحن نحب الأزهر ونحب أن تستطيل رسالته حتى تبلغ مشارقالأرضومغاربها. ولا شك في أنه يستطيع تحقيق آمالنا فيه. وفق الله رجاله إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين أنه السميع المجيب.
حسين الهمداني
الإسلام في الجزائر البريطانية
للأستاذ بدوي عبد اللطيف عوض
بقية ما نشر في العدد القادم
ولا ريب أن إنشاء مسجد في لندن يؤدي فيه المسلمون صلواتهم الجامعة بدلا من الصلاة في الفضاء، وفي حديقة سيعود على الإسلام والمسلمين بالخير العظيم، والفائدة الشاملة، ويستوجب الثناء الوفير والذكر الحسن الجميل من المسلمين المقيمين في إنجلترا، بل من المسلمين جميعا في أنحاء العالم، وسيجعل للإسلام مكانا بين الأديان التي قامت معابدها في عاصمة بريطانيا، مكانا تعلوه منارة شاهقة، يقف فيها المؤذن ويهتف من أعماق نفسه بالإسلام ونبي الإسلام، محمد الذي نطقت باسمه الكريم ملايين الشفاه، واهتزت له ملايين القلوب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا.
والذي ستنطق باسمه وتهتز له كذلك ملايين القلوب إلى يوم الدين.
إن ما يبذل من مجهودات، وتضحيات، وأموال في سبيل الدعوة لدين الله والدفاع عنه، سيفتح باب العزة لدين الله وكلمة الحق، وقد يكون كذلك باب العزة، والسمو لبلاد المسلمين، والعرب بالوحدة السياسية المتينة. (جمعية)(ووكنج)
كذلك يوجد في وهي ضاحية تبعد عن لندن نحو خمسة وعشرين ميلا، مركز أو جمعية إسلامية وبها مسجد ذكرنا من قبل أمر إنشائه وتعميره.
وفي عام 1936 تفضل حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك فاروق الأول حين كان وليا للعهد، وحين كان يتلقى علومه في إنجلترا بزيارة هذا المسجد، وأدى فيه فريضة الجمعة.
ولما كان الكثير من السكان المسلمين المقيمين في لندن يجدون بعض الصعوبات في الانتقال لتأدية الصلوات في المسجد لبعده، فقد نظمت صلوات الجمع في جناح بأحد المنازل القريبة من محطات فكتوريا.
وإمام هذا المسجد هو الدكتور عبد الله، الذي كان لسنوات كثيرة إماما لمسجد برلين بألمانيا.
والدكتور عبد الله إمام مسجد (ووكنج) باكستاني كريم النفس جم التواضع، دائم النشاط والحركة، والعمل، في الدعوة إلى الإسلام، يقضي هو ومساعدوه معظم أوقاتهم بالدعاية
والتبشرة، وليس هذا في لندن فقط، بل وفي الجهات المختلفة في إنجلترا، فهناك يخطبون ويلقون المحاضرات عن الإسلام وتعاليمه، وعن نبي الإسلام عليه السلام.
أما في لندن فيقومون بذلك مع إلقاء دروس منظمة في أيام السبت من كل أسبوع.
ولهم كذلك نشاط أوسع، وجاليات متعددة في أوربا كبرلين، وهولاندا، وفي العالم الإسلامي كمصر وسوريا والعراق، وفلسطين، وجدة. . . والصين والعجم.
ومنذ عهد قريب أستدعي الدكتور عبد الله إمام مسجد ووكنج لإلقاء محاضرات عن الإسلام وتعاليمه للتلاميذ في المدارس الإنجليزية الهامة. وهذا يعتبر حقا أول شيء من نوعه يستدعي الأهمية والالتفات.
والمسجد إمامه ومساعده يعتمدون جميعا في نفقاتهم على التبرعات والاشتراكات الخيرية التي يأتي معظمها من الباكستانيين، وبيع الكتب وتوزيعها على الراغبين في الإسلام والجزء الأكبر من هذا المال يأتي من الجالية الأحمدية في لاهور.
ومما ينبغي ملاحظته أن الجمعية الإسلامية في ووكنج أو الأحمدية اللاهورية تختلف تماما عن الأحمدية القاديانية. هذه حقيقة مقررة، لمستها بنفسي حين زرت مقرهما ووازنت بين الجمعيتين وتناقشت مع رئيسيهما. والمتتبع لتاريخ الطائفتين، والمدقق في علاقاتهما واتجاهاتهما الآن، لا يجد مجال للريب البتة في أنهما جد مختلفتين.
كنت أود أن أتحدث عن ذلك في إسهاب وأتحدث كذلك عن القاديانية وكيف نشأت ومتى تشعبت، واصبح لها نشاط ظاهر في جميع الأقطار الإسلامية وغيرها، كنا نود ذلك البحث الطريف، ولكن ليس هنا مجال لبسط القول فيه. على أنيأستطيع أن أقول أن القاديانية من النحل الهندية التي مضى على تأسيسها نحو ستين عاما. وهي تقول بنبوة رجل من مدينة قاديان يدعى غلام أحمد أدعى أن الله يوحي إليه كما كان يوحي إلى الأنبياء من قبل وأنه أتى برسالة إلى الناس عامة.
ولد غلام أحمد عام 1252هـ وتعلم العلوم الدينية والعربية والفلسفية ثم تقلد بعض المناصب الهامة لمدة غير طويلة، ثم تركها ورحل إلى جهات كثيرة ناشرا مذهبه، ودعوته، لكنه كان يجد في كل مكان ينزل فيه تحديا من العلماء وثورة عليه.
مات غلام أحمد عام 1326، فانتخبت أتباعه للرياسة نور الدين، ولما مات نور الدين عام
1914 اختير للرياسة بشير الدين محمود بن غلام أحمد نفسه وهو القائم بأمر هذه الطائفة اليوم.
كانت القاديانية أيام غلام أحمد، وأيام خليفته نور الدين جماعة واحدة ومذهبا واحدا، ولكن في أخر حياة نور الدين دب الخلاف بينهم، وانقسموا على أنفسهم، فتشعبوا إلى شعبتين أو طائفتين، شعبة لاهور، وزعيمهم محمد علي الذي ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية. وشعبة قاديان التي رئيسها بشير الدين محمود بن غلام أحمد.
وهؤلاء الجماعة أو الطائفة الأولى في إنجلترا غير الطائفة الأحمدية القاديانية؛ ذلك لأن الأحمدية يعتقدون أن المؤسس لطائفتهم أو جاليتهم هو غلام أحمد، وهو لا يعدو أن يكون رجلا مجددا أو مصلحا، ويعتقدون أن النبي محمدا علية الصلاة والسلام هو آخر الأنبياء ولا نبي بعده مطلقا.
لكن الأحمديه القاديانية تقول بنبوة غلام أحمد بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وأنه أتى برسالة إلى الناس كافة، وأنه مسيح الأمة الإسلامية.
ولقد اتصلت ببعض زعماء ورؤساء الطائفتين في لندن كالدكتور عبد الله والمستر باجوا وتحدثت معهم كثيرا في بعض المسائل الدينية، فوجدت أن الطائفتين جد مختلفتين، وهما عدوان لدودان يكره كل منهما الآخر، ولا يقول بتعاليمه ومذهبه بل أن الأحمدية القاديانية يكفرون الأحمدية اللاهورية، ويكفرون كل مسلم لا يقبل دعوتهم. وأن الذين يكذبون غلام أحمد أحط درجة من المنافقين.
ومما يؤسف له أن بعض الناس لا يعرفون ذلك يلتبس عليهم الأمر ويختلط، ويعتبرون أن الطائفتين على شاكلة وعقيدة واحدة.
ومركز الجمعية القديانية في سوتفيلد قرب بوتنى بلندن ولهم مسجد، ومدرسة ملحقة به لتعليم الأولاد بعض سور القرآن ومبادئهم.
وهم كالمسلمين في ظاهرهم يصلون الصلوات الخمس، ويصومون رمضان ويؤدون صلوات الجمع بانتظام لكنهم لا يصلون مطلقا خلف إمام آخر لا يكون على مذهبهم وشاكلتهم ولهذا لا يذهب أحدهم مطلقا إلى مسجد آخر لتأدية الصلاة فيه.
ولهم محاضرات منظمة يلقونها مرتين في كل شهر بدار مركز الجمعية كما يقومون بإلقاء
محاضرات، وخطب في الحدائق والمنتزهات العامة في لندن وقد انضم إليهم بعض الإنجليز وغيرهم، وأصبحوا مسلمين على طريقتهم وشاكلتهم. ولهم في جلاسجو جالية، ومسجد ولهم إمام إنجليزي يؤم الناس في الصلوات.
ولهم كذلك حركات نشيطة في الدعوة إلى مذهبهم في معظم الأقطار الإسلامية كالعراق، ومصر وسوريا، وفلسطين، وجدة ولهم دعاة في الصين والهند، والعجم، وغير ذلك من البلاد.
أمام هذه الطائفة يسمى باجوا وهو هندي يقيم في منزل خاص به وبأسرته، كما يوجد منزل آخر بدار الجمعية خاص بضيافة الطلبة الغرباء، ينزلون فيه مدة إقامتهم بلندن.
والإمام يظل في وظيفة الإمامة لنحو أربع سنوات، فإذا ما انتهت تلك المدة استبدلت الجالية القاديانية الرئيسية بالهند به إماماً آخر.
هم متدفقون، شديدو التحفظ في عاداتهم ومعتقداتهم، وهم أكثر تحفظا في وجهة نظرهم نحو المرأة. فهم لا يصافحونها، ولا تستطيع الخروج إلا بوضع نقاب كثيف على وجهها.
كذلك توجد جمعية إسلامية في شرق لندن؛ ولقرب هذه المنطقة من بناء لندن نجد أن معظم المسلمين فيها من البحارة ولها مسجد، ومدرسة لتعليم الأطفال بعض سور القرآن الكريم، ومبادئ الدين الحنيف، وتقوم الجمعية بتنظيم المحاضرات المختلفة عن الإسلام والدعوة إلية في لندن وخارجها. . .
إمام مسجد شرق لندن باكستاني، ويسمى كأني وقد كان رئيس وزارة لإحدى الولايات في الهند، وهو في موضوع التقدير والاحترام بدرجة كبيرة بين المسلمين جميعا في هذه المنطقة. معرفته بالعربية قليلة ويحفظ بعض سور القرآن الكريم للصلاة وإمامة الناس.
ومعظم المسلمين المواظبين على الصلوات في هذا الجامع من الباكستانيين وهم لا يعرفون من العربية إلا ما يمكنهم من قراءة الفاتحة والسورة في الصلاة.
الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى:
وإلى جانب هذا توجد الجمعية الإسلامية في بريطانيا، ورئيسها هو المستر إسماعيل ديورك. ولد في إنجلترا فأكتسب الجنسية الإنكليزية، وهو فوق هذا من الحسب والنسب في الذروة، فتربطه بمصر صلات القربى والمصاهرة. وهو شاب في الأربعين من عمره، من
كبار المحامين في لندن وأشهرهم، جم التواضع عذب الحديث.
كرس مستر ديورك معظم وقته لخدمة الإسلام والمسلمين وقد بذل في هذا الميدان جهودا طيبة متواصلة لا يستطيعها إلا أولو العزم من الرجال. وربما كان من أروع ما قام به في هذا الأفق الديني هو ذلك الأثر العظيم الذي أحدثه في أذهان من حوله من الإنجليز وغيرهم. فقد استطاع أن ينشر بينهم الأيمان بقيمة الدين الإسلامي، والتحمس البالغ له.
ولن نحاولالآنتقدير أعماله ومدى جهوده نحو الإسلام والمسلمين لأن هنا ليس مجال لذلك. ولكن الحقيقة البارزة التي لا يسعني إلا تسجيلها هي أن المستر إسماعيل ديورك يعتبر بحق من مؤسسي الحركة الإسلامية في بلاد الإنجليز ومن الذين يتعهدوها، وما زالوا يتعهدونها في جميع الموطن برعاية والعناية حتى تمكن من إنشاء طبقة إسلامية مثقفة قادت المسلمين إلى نهضة كلها خير وبركة.
مركز إدارة هذه الجمعية في لندن وهي تقوم بتنظيم إلقاء المحاضرات والدروس الأسبوعية لتعليم الدين ومبادئه والدعوة إلى الإسلام. وغالبا ما تكون هذه المحاضرات مرة أو مرتين في كل شهر.
وتقوم كذلك بتهيئة الأماكن المختارة للمقابلات والاحتفالات حيث يستطيع المسلمون أن يقابل بعضهم بعضا في المناسبات المختلفة، وتهتم بصفة خاصة بعيد ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام فتنظم له احتفالا مهيبا في إحدى القاعات الفخمة بلندن يدعى إليه آلاف المسلمين وغيرهم من العظماء ورؤساء التحرير والجمعية مفتوحة لجميع المسلمين وغيرهم الذين يهتمون بالإسلام وشؤونه، لكن هؤلاء لا يستطيعون أن يشتركوا في إدارتها أو سياستها أو تدبير أمورها.
والغاية الصحيحة لهذه الجمعيات دينية محضة وأنهم يطلبون أن يعرف الناس، والإنسانية كيف يسلكون سبيلهم إلى الكمال الذي دل عليه الإسلام. وأدرك هذه الغاية أظنه ميسورا إذا اهتدى الإنسان إلى سبيله بمنطق عقله، ونور قلبه راضي النفس منشرح الصدر.
وللمسلمين في إنجلترا نشرات وصحيفة إسلامية تصدر باللغة الإنجليزية لقد كانت من قبل قاصرة على الموضوعات الدينية. لكنها الآنأخذت مكانا ووضعا أليق، فزاد عدد صفحاتها وحليت بالصورة وحسن الطبع وتناولت علاوة على الموضوعات الدينية بسط
الأحوال السياسية والثقافية في العالم الإسلامي.
مقابر المسلمين
كذلك لهم بالقرب من لندن جبانتان واحدة في ووكنج وقد خصصتها الحكومة الإنجليزية لدفن عساكر المسلمين الذين يموتون في إنجلترا، ومدفون بها لآن كثير من الهنود والعرب والبولنديين وغيرهم، وهذه الجبانة متوسطة الحجم ومحاطة بسور مرتفع وأبوابها مقفلة، ومفاتيحها محفوظة مع الدكتور عبد الله إمام مسجد (ووكنج).
والجبانة الثانية أكبر من الولي وتوجد (بروكوود) وتبعد عن ووكنج خمسة أميال. وعن لندن بنحو خمسة وعشرين ميلا. وهذه الجبانة على نظام الجبانات الإسلامية، وقائمة على قطعةأرضضمن جبانة كبيرة عامة لجميع الأفراد من الديانات الأخرى. وقد دفن بها كثير من الجنود المسلمين الذين أصيبوا أو استشهدوا في بعض الحروب الماضية من الأتراك والبولنديين وغيرهم. كما دفنت بها تلك الشخصية الإنكليزية البارزة التي كان لها أثر محمود في نشر الإسلام في هذه البلاد والتي تكلمنا عنها سابقا وهي شخصية لورد هدلي.
كذلك توجد جبانات أخرى متفرقة بالبلاد حيث يقطن المسلمون من أشهرها جبانة كارديف التي تبعد عن لندن بنحو مائتين وخمسين ميلا.
المجلس الإسلامي في المملكة المتحدة:
وللجمعيات الإسلامية في هذه البلاد مجلس إسلامي مكون من ثمانية أعضاء اثنان يمثلان المركز الثقافي بلندن هما فضيلة الأستاذ الدكتور علي حسن عبد القادر، وكاتب هذه الكلمة.
واثنان يمثلان الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى هما الوجيه المستر إسماعيل ديورك والمستر سليمان جته.
واثنان يمثلان الجمعية الإسلامية في ووكنج هما الدكتور عبد الله والمسيو عبد المجيد رئيس تحرير المجلة الإسلامية.
واثنان يمثلان الجمعية الإسلامية في شرق لندن هما المستر اليدام والمستر شاه.
أما الجمعية القاديانية فليس لها ممثلون في هذا المجلس وليس يرجع ذلك إلى خلاف الرأي وكفى، ولكنه يرجع قبل ذلك وأكثر إلى أنهم يعتبرون أن الجمعيات الإسلامية الأخرى لا
تمثل تعاليم الإسلام الصحيحة.
ورئاسة المجلس، وسكرتاريته، وأمانة صندوقه تكون بالانتخابات لمدة عام، ويتحتم أن يتجمع المجلس مرة على الأقل كل ثلاثة شهور وقد يجتمع أكثر إذا كان هنالك حاجة ملحة تدعو إلى ذلك. وغاية المجلس بصفة عامة، هي النظر في الأحوال والمسائل التي تتعلق بالمسلمين والإسلام في المملكة المتحدة. . .
لكن يجمل بنا أن نسجل هنا أن هذا المجلس الإسلامي ليست له القوة التي يمكن الاعتماد عليها في تنظيم الأمور وتنفيذها ولأجل أن يكون المجلس قويا يؤدي مهمته على خير وجه وأن يقي المسلمين ما يصيبهم من تفرق الكلمة ومرارة الخلاف، ينبغي أن يكون له صفة رسمية يؤمن بها المسلمون جميعا ويؤمن بها قبل ذلك أولو الأمر في هذه البلاد. وذلك كما هو الشأن في بعض الجاليات الدينية الأخرى التي اعترفت بها الحكومة الإنجليزية والتي تسمع إلى مطالبهم ذات الصيغة الدينية.
الهيأة الإسلامية:
الواقع أن الجمعيات الإسلامية في الجزائر الإنكليزية لا يزالون حتى اليوم لا يعرفون لهم رابطة أو هيئة موحدة عليا كالذي نعرفه، يخضعون لنظامها وتوجيهاتها وإشرافها. ومن ثم نجم وينجم في كثير من الأحيان خلاف بين وجهات النظر، الأمر الذي أثر ويؤثر بطبيعة الحال إلى حد كبير في حدتهم وجلب بعض المتاعب والمضايقات لهم، ويبقي الدعوة الإسلامية سائرة في طريق بطيء.
والأمر الذي لا ريب فيه أن تنظيم صفوة المسلمين وتوكيد وحدتهم في هذه البلاد للقضاء على ما عسى أن يثور بينهم من الشبه والخلافات أمر ضروري ومنهم غاية الأهمية إذ أن ذلك يخلق لهم حياة فيها من السكينة ما يجنبهم الخلاف والحزازات، وما يهيئ لهم في المستقبل طمأنينة يطمعون معها أن يكونوا أوفر قوة وأعظم اقتدار.
وهذا ما أرجو أن تتجه إليه سياسة ولاة الأمر والمسلمين معهم حتى تزدهر الدعوة الإسلامية، وحتى يعلو دين الله وتعلو كلمة الحق معه في هذه البلاد.
هذه دراسة خاطفة للإسلام، والمسلمين في بلاد الإنجليز، اعتزمت القيام بها منذ سفري إلى هذه البلاد وأرجو أن يكون ذلك تمهيدا لدراسات إسلامية أكثر استفاضة وعمقا.
(ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا)
بدوي عبد اللطيف عوض
أستاذ في كلية أصول الدين وعضو بعثة فؤاد الأول الأزهرية
بإنجلترا والملحق في المركز الثقافي الإسلامي بلندن
صور من الحياة
هوى على الشاطئ
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
. . . وبعد أيام أخذ الرفاق يتهيئون للسفر، وراح الفتى يعد نفسه للسفرة الجبلية. وانطلق الركب إلى الإسكندرية يحدوه الأمل ويدفعه الرجاء، وفي النفوس النشوة والمتاع، وفي القلب المرح والشباب.
لقد طاروا جميعا إلى الإسكندرية ليتخففوا من عبء اليأس الذي يواري السوءة ولينفضوا أغلال التقاليد التي تسمو بالكرامة، وليضعوا عن أنفسهم أصر الأخلاق التي هي سمة الإنسان، وليندفعوا في خضم من الحيوانية الجامحة لا تغسلها إلا عبرات الشتاء حين تنهمر مدرارا لتمسح على دعارة الصيف وفجوره.
أما صاحبي. . . الفتى الساذج الذي عاش عمره في سجن من حديد. . . أو سجن من ذهب لم يبل الفضاء ولا عرك الحياة، وطوى زهرة الشباب يرسف في أغلال ثقال من الدين. . . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفوس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام. . . أما صاحبي هذا فقد أذهلته الحياة وهي تضطرب حواليه موارة تزخر بصنوف من العيش الوضيع فتقززت لها نفسه ونفرت منه روحه، وبدت له دنيا الشاطئ سوقا تعرض فيها المباذل في غير خجل ولا استحياء. وشعر بأنه هنا غريب يحس الضيق والملل لأنه لا يستطيع أن ينسى تأريخه فينغمر في هذا الخضم وقد دنسته الخطيئة ولوثته الرذيلة، ولا يستطيع أن يطوي أيامه وحيدا على هامش الحياة. وحدثته نفسه - غير مرة - بأن يطير عن هذا الجو الذي يخنق الفضيلة ويقتل الشهامة، غير أن رفاقه كانوا يمسكونه أن يفعل فيستخذى لهم في ضعف ويستسلم في فتور.
يا عجبا! لقد فزع الناس إلى الشاطئ يطلبون - كرأيهم - الصحة والعافية والجمام، أما هو فقد جاء ليقاسي ألم الضيق ويعاني أذى الوحدة.
وخشي الرفاق أن تسري فيهم روح هذا الفتى فتنسرب إلى نفوسهم خواطره فيحسون
كراهية الشاطئ الحبيب، وهم يرونه منكفئا - أبدا - على نفسه يسبح في تيه من الظلومات لا يطرب للذة ولا يهتز لمتعة ولا يستبشر لفرحة، فانطلقوا إليه يوسوسون بأمر:
وظفر شيطان من الناس - بعد لآي - بالفتى فجذبه إلى الشاطئ في برنسه وتبانه. لقد خلع الفتى ثوبه ولكنه لم يستطع أن يخلع الحياء، فوقف بازاء الماء يهم أن يخلع البرنس فيمسكه الخجل وقد أكتنفه الندم على أن طاوع رأي صديقه الشيطان. وتردد حينا غير أن صاحبه لم يدعه يفكر طويلا فجذبه - على حين غفلة - من برنسه، فإذا هو في تبانه يضطرب، ونظر حواليه فرأى عيونا رمقة، فأندفع في الماء يشق الموج بذراعين فيهما القوة والفتوة والشباب. وانطلق الرفاق على آثاره يمجدون الطفرة المباركة واهتزت نفسه لكلمات الإطراء فأنطلق يصارع الموت.
وأحس الفتى أن رفاقه يتساقطون من حوله واحدا بعد واحد من أثر ألاين والفرق، وراعه أن يجد نفسه وحيدا وهو في منأى عن الشاطئ، فهم يريد أن يرتدي فما أمسكه إلا أن رأى فتاة في ميعه الصبا وفورة الشباب تشق الموج شقا. ونظر الفتى ونظرت الفتاة ثم ابتسمت. واستولى الحياء على الفتى فأراد أن ينطوي عنها ولكنها حذرته أن يذرها وحيدة بين طيات الموج فاتأد واقتربت الفتاة وهي تقول (أنك سباح ماهر!) فهمهم الفتى يقول (شكرا لك). وصحب الفتى الفتاة على كره منه. واطمأنت الفتاة إلى الفتى حين أحست فيه شيئا ساميا ليس في شباب الشاطئ، أحست فيه الشهامة والهدوء والتأبي، فما بلغا الشاطئ حتى قد أخذت عليه موثقا أن يقطعا هذا الشوط معا كل صباح.
وصحا قلب الفتى حين وخزته النظرات الآسرة وحين غمره الحديث الرقيق، فما تعوق ولا تمنع.
ومرت الأيام تمسح بيد رقيقة على آثار الضيق في نفس الفتى لأن ابتسامة الفتاة الجميلة كانت تشرق في جنبات قلبه، وتمحو سمات الخجل من تاريخهلأن روح الفتاة كانت ترف رفيفا جميلا في ثنايا فؤاده، وتنزع عنه ظلمات الخواطر السود التي رانت عليه زمانا لأن جبين الفتاة لواضح كان ينير له السبيل وتحبب إليه الحياة على سيف البحر لأنه كان يستمتع هناك بالمتعة الخالدة. . . باستجلاء الطلعة المضاءة. ونسى صاحبي الدين. . . الدين الذي غل قلبه ولسانه حينا من الزمان ففقد اللذة والسعادة والمرح.
وغدا الفتى رجلا آخر غير من عرف في نفسه، فهو يتشوق لساعة الصباح في شوق ولهفة لينطلق إلى الشاطئ لا يمسكه الخجل ولا يدفعه الحياء، وهو يذرع الشاطئ في تبانه لا يبالي الأعين ولا يخشى الألسن؛ وهو يخلو إلى صاحبته ساعة من صدر النهار يكشف لها دوافع قلبه في حديث يفيض بالعاطفة ويفهق بالهوى لا يشوبه إلا ما كان يخشاه من أن تستشف من خلاله أنه زوج وأب ورب أسرة - وهو سره هو - فتنفر منه على حين أنه ضنين بها حريص على حبها؛ وهو يتأهب للقيا الحبيبة أصيل كل يوم فيقف طويلا أمام المرآة يستشيرها خيفة أن تقع الفتاة منه على ما يؤذي عينها أو يمجه ذوقها. وعرف الفتى - لأول مرة - معاني النظام والزينة الأناقة. . . عرفها لأنه عرف النشوة في الهوى والشباب.
وأحس الفتى - لأول مرة - أن في المرأة فنونا من الإغراء لا عهد له بها، فنونا من الدلال والأناقة والتطرية والعطر، فنونا صاغتها يد الحضارة الصناع في دقة وإتقان فوجدها جميعا في فتاته الشابة وافتقدها جميعا في زوجته الريفية التي حبستها التقاليد القاسية بين أسوار من العمى والجهل. ولمس في المرأة معاني أخرى حبيبة إلى نفسه، معاني غير الخضوع والاستسلام والضعف، معاني غير الجهل والسفه والحمق، معاني غير اللذة الرخيصة والشهوة الوضيعة. فهو يجلس إلى فتاته فتحدثه حديثا فيه الرقة والجاذبية، وتناقش الرأي في هدوء وتجادل الفكرة في هوادة، ثم هي تهديه إلى الصواب في لباقة إن غرب عنه، وتبصره بالحق في رفق إن عمى عليه. فوجد - بعد حين - فرق ما بينها وبين المرأة التي تزوج لتكون بعض متاع الدار، لا رأي لها في الأمر ولا قيمة لها في الأسرة ولا نصيب لها في الحياة.
ولصقت الفتاة بالفتى حين لمست فيه خصالا عزت على أترابه، فهو عف اليد واللسان، وهو رفيع النفس لا يستنزل إلى الدني من القول ولا ينحط إلى الوضيع من العمل، ثم هو رجل فيه الرجولة والإنسانية والشهامة. وراقها أن تراه طيب القلب هادئ النفس سهل الطبع، ولذ لها أن تجده يندفع إليها في غير صبر ويهفو نحوها في غير أناة، فصبت إليه ورضيته صاحبا ورفيقا، وقلبها يتفتح له رويدا رويدا.
وأنطلق الفتى على سننه والفتاة إلى جانبه تجذبه إليها في رفق وتسيطر عليه في هوادة
وتلقاه في بشر، ثم فتحت أمامه باب السينما ومهدت له السبيل إلى المسرح، وهو ينقاد لها في سهولة ويسر. واطمأن واطمأنت فما يفترقان إلا ليتلاقيا على ميعاد.
وانطوت أيام وحانت ساعة الوداع. . . حانت ليتلاقيا - بعد أيام - في القاهرة فماذا كان منك - يا صاحبي - وماذا كان من الفتاة؟
كامل محمود حبيب
ما رأيت وما سمعت
في سوريا ولبنان
للأستاذ حبيب الزحلاوي
- 2 -
لا خوف من الكلام الذي يقال جهرا، إنما الخوف من الأقوال التي تهمس همسا، ومن الإيماءات والأشارات والغمزات التي بتبادلها الناس في سوريا، ومن أحاديث المجالس الخاصة، ومن صمت العامل والمزارع والتاجر، ومن همهمة الطلبة ودوي الشبيبة المتعلمة.
لقد رأيت كثيرا، وسمعت كثيرا جدا، وفتحت لي أبواب وصدور، ووقفت على أمور عزيز على سواي الوقوف عليها، لا لأني من البقية الباقية ممن عملوا في كل ميدان من ميادين الجهاد، ولا لأني تباعدت عن موائد الغنيمة، بل لأني اغتسلت من دم الثورة بدمائها، ولأني، بعد أن ضمدت جراحي، نذرت الانطواء على نفسي كما انطوى الكثيرون أمثالي على أنفسهم عزة وكبرياء، أقول.
من الأمور التي سمعتها في سورية ما يخلق بي أن أتناولها بالكلام الصريح البعيد عن اللبس، ومنها ما يحسن أن ألمه لمسا رقيقا بغية أن (يفهم) من يهمهم أمر البلاد إن الشعب ينزع من حاكميه وزعمائه منزع التأفف والضجر، ومنزعا آخر لا أدري كيف اسميه ومعناه (دعهم في جهالتهم يعمهون وعلى الغنائم يتكالبون، وعلى مقاعد الحكم يقتتلون).
الأوضاع السياسية في سورية لم تستقر بعد، وقد لا تستقر إلا إذا أزيلت موانع لا محيد البتة من زوالها، وذللت عقبات لا مناص، من تذليلها مثال ذلك.
1) يوجد حتى اليوم طائفة من الرجال الذين عملوا في جميع أو في بعض ميادين الجهاد للاستقلال، منهم من جاهد بعقله ومعارفه، ومنهم من قاتل ومنهم من أدار القتال، ومنهم أيضاًمن كان ذيلا لهؤلاء، وأكثرهم، بل أكاد أقول جميعهم قد بلغ من العمر أرذله، إلا من خصهم الله بمواهب عالية لا يحوزها إلا أفذاذ الرجال، هل من منطق السياسة وسنة التطور أن يستأثر جميع هؤلاء بمقاعد الرئاسة ودسوه المجالس، لا لشيء إلا أنهم من
المجاهدين؟
2) في البلاد طائفة أخرى انتهازية ماشت جميع الحكومات التي تقلبت على البلاد من ترك وعرب وفرنسيين وسوريين، وتلونت كالحرباء بكل لون، وما برحت تدخر مئونتها من الأصباغ للتلون، فتكون مثلا جمهورية مع الجمهوريين، وهاشمية مع الهاشميين، وديكتاتورية مع الديكتاتوريين، وشيوعية مع الشيوعيين. ولا عجب إذا رأيتها تتدثر مرقعة تجمع أعلام هؤلاء جميعا، هذه الفئة الضعيفة التي لو أعوز الشيطان وجها رقيعا جديدا لم يخطر نمطه أو وضعه وشكله بباله، لابتدعوه له ابتداعا واختلقوه بطرفة عين!! هذه الطائفة الخبيثة مازال أفرادها تعج بهم دوائر الحكومة، وتحفل بهم مجالس النيابة والبلديات والمحافظات.
عرفت (تيمور لنكا) منهم أعرج يتخطر في الجمعية التأسيسية، رأيته بنساب ويتلوى بين (الحوراني والحلي) فنفرت، لا من عرجه وعواره، بل من شره القديم، وأصالته في الخدمة الأمنية لأسياده الأتراك ومن بعدهم الفرنسيين، وقيل لي، أنه اليوم العبد اللين المطواع لأسياده الإنجليز والأميركان، وهو ينادي بأنه هاشمي نوري، ويقول أنه الخادم الأمين للشعب في المجلس التأسيسي الذي سيحوله إلى مجلس نيابي.
هذا نمط عجيب (ونمرة) نموذجية لعشرة أمثاله رأيتهم يتباهون في المجلس التأسيسي ويختالون عجبا.
3) لم أسمع كلمة رددها كل لسان في سورية مئات المرات غير كلمة (الوعي القومي) لقد سمعت هذه الكلمة الحلوة من السيدات والآنسات المثقفات فوفقت منهن على تفسير طريف لمعنى (الوعي القومي).
سمعت الوزراء ورجال الجمعية التأسيسية يجتهد كل ذات من ذواتهم الكريمة في تعريف (الوعي القومي).
سمعت هراء كثيرا من الشعب فيه فيض دفاق، ووصف حار مبعثه العاطفة الملتعجة بحب (الوعي القومي).
تذكرت الصديق الكريم الدكتور قسطنطين زريق مدير الجامعة السورية واضع كتاب (الوعي القومي). فقلت ما أكثر ما يقرأ الناس المؤلفات فتهتز مشاعرهم دون عقولهم!!
تلفت حولي على أجد أثرا أو ملامح أو قسمات أو مظهرا واحدا من مظاهر (الوعي القومي) فلقيت - يا للحزن والخجل مما لقيت - لقيت أهالي حلب وحماه وحمص، رأيت دوائر الحكومة تغص بالحلبيين الشماليين، ولم أسمع أني جلست مجالس الرجال العاملين، إلا لهجة حلبية وأضراسا صلبة تقضم لحوم الدمشقيين، سمعت أقوالا في (الشاميين) تكفيني الإشارة إليها كفاية المغصوص بجرعة من الماء.
لقد عاب الشعب على حكومة الثورة فعالها فأسقطها بعد أن رجمها بالحجارة لا بحجر واحد، لقد أسقطها (المجنون) لقلة خبرتها ومرانها بالحكم. لقد أسقطها (الضباط) ليسلموا مقاليد البلاد إلى (الارتجاليين)، لقد ذبح الارتجاليون الحرية في سورية بأسياف الجيش، وكسروا الأقلام التي تخط حروفا تؤلف (الوعي القومي).
4) لست بآسف على تسميتي (ديكتاتور) سوريا بالمجنونلأن حسني الزعيم، يرحمه الله، لم يكن ينقصه من صفات الزعامة وخصائص الدكتاتور، سوى العقل والمعرفة ولا شيء سواهما، وبرغم هذا النقص البسيط كان وما زال معبود الشعب، وأن كثيرا من الناس في سوريا يبكونه ويذكرون عهده الرخي وأيامه الرغدة.
أي والله، لقد رأيت في سورية أناسا يبكون الزعيم وهم لا يدرون أنهم يبكون كرامتهم وحريتهم وإنسانيتهم وقيمتهم الاجتماعية، وعجبت لهذه المتناقضات والأوضاع المقلوبة، أنه لمن المؤسف حقا أن يجول في الخاطر السوري ما يسيء الظن بالتفكير السوري الموسوم بالسليم.
قاتل الزعيم الرشوة وسوء الإدارة بقلب الأوضاع الثابتة انقلابا، أصيب الطاغية برعن الحكم فمات بيد حساده من ضباط الجيش، انقلب حساده جبابرة وهم أقزام، طاب لقزم من الضباط أن يقلد زعيم الأتراك مصطفى كمال فأخذ يسكر ويسكر، يحكي ويحكي، وطاب له مرة ثانية أن يمتحن مبلغ سلطانه ليؤمن بنفسه وهو سكران، تناول الضابط العظيم سماعة التلفون وخاطب كبير الوزراء داعيا إياه إلى الاستقالة فاستقال، صحا السكير فقرأ في صحف الصباح خبر استقالة الوزارة فدهش، وأراد عندما استفاق، استدرك عبثه ولكن بعد فوات الوقت، ولم تجد وساطة رئيس الجمهورية بين العازل والمعزول!!
في سورية اليوم إدارتان للحكم، مستترة وظاهرة. لست أريد الكلام في الإدارة المستترة
لأنجل رجالها العظام هم من أصحاب السيرة المعروفة في طول البلاد وعرضها، وهم من العصاميين الأفذاذ الذين أوصلتهم شجاعتهم وبطولتهم في ظلمات الليل ومنعرجات الخطط والتواليف وتواريخ عظماء الرجال الفاتحين، وهم بكلمة واحدة أولئك الذين اشترى الفرنسيون شغبهم ببدل عليها أشرطة ونجوم وتعاويذ.
5) قال لي زعيم من زعماء المجلس التأسيسي أنه عزم هو وأقرانه على تحويل المجلس التأسيسي إلى مجلس نيابي، قال لي ذلك يعيد فشل الاجتماع الذي عقده أقطاب أبناء الشمال والجنوب.
أريد بأبناء الجنوب، رجال تلك الأحزاب المعارضة التي أضربت من الاشتراك في الانتخابات للمجلس التأسيسي تفاديا، في الظاهر، عن الاعتراف بالأمر الواقع، ومن تزكية الانقلاب الذي طوح برئيس الجمهورية السيد القوتلي، وهربا، في الباطن، من فشل كان محققا آنذاك. أما أبناء الشمال فهم أكثرية رجال الوزارة القائمة ومن يؤازرها ويساعدها من الأنصار والمحاسيب والطفيليات والمرتزقة.
طلب الدمشقيون إعادة السيد القوتلي إلى رئاسة الجمهورية، وبإعادته نزول الأوضاع الشاذة التي نجمت عن الانقلاب العسكري.
رفد الحلبيون هذا الطلب، وارتأوا لتعود الحياة الطبيعية للرجال العاملين وللبلاد أيضاً أن تبقى رئاسة الجمهورية للسيد الأتاسي مدة ستة أشهر، واشترطوا تحويل المجلس التأسيسي إلى مجلس نيابي. وبعد انقضاه المدة تستفتى البلاد مرة أخرى.
لما شام الحلبيون تمسك الشاميين بمطلبهم ضربوا بهم عرض الحائط. وقد استأسدوا وتنمروا للشاميين، لا بحولهم وقوتهم هم، بل بقوة وسطوة (الإدارة المستترة) وأعلنوا رسميا صيرورة التأسيسيين نوابا، وهؤلاء النواب هم الذين انتخبوا الشيخ الجليل السيد هاشم الأتاسي رئيسا للجمهورية السورية.
للكلام بقية
حبيب الزحلاوي
شجاعة مردية!.
للأستاذ كامل السيد شاهين
مظلومون أولئك الشعراء الذين كانوا يلوذون بقصور الخلفاء ويغشون مجالسهم، ويعمرون نواديهم بالمؤانسة والمطارحة، والمهارشة والاستثارة، ثم هم لا يستطيعون أن يحبسوا ألسنتهم عن قول الحق إذا عرضت قول الحق، ولا يستطيعون أن ينكروا ذواتهم، ويفنوا في الخليفة فناء مطلقا ليرضوا غروره، وبشعوره بأنه هو ولا شيء معه، مما يمشي على ظهر الأرض، أو يسبح في جو السماء.
مظلومون أولئك الشعراء لأنهم كانوا يقدمون على الخلفاء دون أن يدرسوا نفوسهم، ويتعرفوا على ما أصابهم من الغرور الذي لا يسمح لشيء أن يقول: هاأنذا!
ولقد يحدثنا التاريخ عن كثير من الشعراء كانوا فريسة سهلة لبعض الخلفاء، وما كان لهم من جناية إلا أنهم عرفوا أنفسهم ولم ينكروها، وتحدثوا عنها دون تحرج أو مخشاة، فأصابهم من ذلك ما أصابهم من إهانة وحرمان، أو ضرب وإعنات، أو هلاك وإتلاف.
وفي الحق، إن الخلفاء كانوا بذلك ينشرون النفاق على أشنع صورة وأبشع وجه، وكانوا يحبذون الملق في أوسع مدى، وبأقوى أنواع الاستحثاث؛ حتى صارت صحيفة الشعر العربي ربداء دكناء بشعة، وصار قوامه الملق المزري، والتزلف المقيت وحتى كاد يخرج عن حدود الشعر، بعدم انبعاثه من الشعور وبانبثاقه عن نبع الطمع والملق، لا عن إعجاب بالممدوح، أو حب صحيح له.
لقد فهم الشعراء أنهم حين يسعون إلى الخلفاء، ينبغي أن تتوجه عيونهم وعقولهم، وأن تتوجه ألسنتهم وقلوبهم، وان تتوجه شهادتهم وأحكامهم، ينبغي أن يتوجه ذلك كله إلى مرضاة الخليفة، وإشاعة السرور في نفسه، وإدخال المرح على قلبة، وإلا فليس هناك إلا السطوة المردبة والبطشة الكبرى.
هذا الفرزدق بن غالب، وقومه من تميم من هم، حيث العدة والعديد، والبذل والجود، والشهامة والأنفة، دخل على سليمان بن عبد الملك فرغب إلية سليمان أن ينشده، فظن الفرزدق أنه يريد شعرا صادقا، فأنشده:
وركب كأن الريح تطلب عندهم
…
لها ترة، من جذبها بالعصائب
إذا استوضحوا نارا يقولون ليتها
…
وقد خصرت أيديهم نار غالب
ماذا دهاك - يا فرزدق - فتذكر غالبا أباك، وتثني على كرمه هذا الثناء الحر، لقد غاظ ذلك سليمان بن عبد الملك فبرم بالفرزدق، وتغير لونه، وأشار إلى نصيب أن ينشده فأنشده حتى أرضاه، مدحا كذوبا مزورا، وخرج نصيب يحمل سني الجوائز، وخرج الفرزدق صفر اليدين، ليقبض جوائزه من أبيه الجواد، كما سخر منه بذلك سليمان.
وربما كان الخذلان والحرمان أهن ما يلاقي شاعر تحدثه نفسه أن يظهرها أمام خليفة جائع إلى كذاب التمداح، وربما كان الفرزدق من عشيرته الباذخة المجد ما يحميه من صولة سليمان إذا ما فكر سليمان أن يصول عليه، وربما كان لسياسة أميه في الرفق ولتحلم مندوحة عن السطو والتهور.
ولكن يحدثنا التاريخ كذلك أن هشام بن عبد الملك، دخل عليه - إسمعيل بن يسار فاستنشده فقال:
إني وجدك ما عودي بذي خور
…
عند الحفاظ، ولا حوضي بمهدوم
أصلي كريم ومجدي لا يقاس به
…
ولي لسان كحد السيف مسموم
أحمي به مجد أقوام ذوي حسب
…
من كل قوم بتاج الملك معموم
جشاجح، سادة، بلج، مرازية
…
جرد، عتاق، مساميح، مطاعيم
ويستمر إسماعيل يغالي بنفسه، ويعرف لقومه حقهم. وهشام يتقدم قومه غيظا منه، ويغلي صدره حفيظة عليه، ويفكر ويطول تفكيره في البطش به. ثم يجبه بهذه القولة المائنة الشائنة، الظالمة الغاشمة (أعلى تفخر؟ وإياي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك وأعلاح قومك؟!) ثم لا يطفئ غضبته، ويهدئ ثائرته، إلا أن يأمر بغطسه في الماء، حتى لتكاد روحه أن تخرج ثم تخرجه الزبانية - وهو يشر - لينفي من وقته إلى الحجاز.
وربما زعم بعض المؤرخين أن هذا إنما هو أخذ على يد الشعوبية، وكسر لهذه العصا الأعجمية التي ترتفع في وجه العرب، وظني أن هذا يصح كعذر يتخذه الذين يجنحون لتبرئه هشام وحمل عمله هذا على بعد النظر السياسي، ولكن ماذا ترون في قولة هشام: أعلى تفخر، وتتمدح بأعلاج قومك: ماذا نرى إلا هشاما كبر عليه أن يرى الشاعر نفسه شيئا وأن يثبتها في حضرة الخليفة الجليل، وقد كان الخليفة ينتظر من الشاعر أن يصرف
كل مديح إليه، وينسى للناس كل فضيلة بين يديه.
وإذا وقف الأمر بإسمعيل بن يسار عند الغط في الماء والنفي إلى الحجاز، فلقد أتى الفخر في حضرة الخلفاء على نفس بشار، وأورده مورد الهلكة. ولقد يقول القائلون: إن بشار قضت عليه الزندقة، ويذهبون في ذلك مذهبا ينطلي على عامة الناس وربما أيدوا مذهبهم ذاك بما روى عن واصل بن عطاء، من استعداء على بشار حيث يقول (أما لهذا الأعمى المشنف، المكنى بأبي معاذ من يقتله، والله لولا أن الفيلة سجية من سجايا الغالية لدست إليه من يبعج بطنه في جوف بيته. . .) فما كان يحمل وصلا أن يقول هذه القولة الهائجة المهيجة في حق بشار لولا ما لمسه من زندقته وتحريضه على الفسوق، وإغرائه بالمناكر.
ولقد يسلم مثل هذا القول من النقد لو كان بشار وحده من بين شعراء عصره هو الخارج عن حدود الله، البائح في الغزل المتهالك، المغري للشباب بالفسوق والفجور. إذن لسلمنا واسترحنا وأرحنا. ولكنه كان يضطرب في بغداد مع بشار من هم أشد من بشار مجونا، وأكثر منه غلوا في إفساد الشباب، وذكر السوءات وأبعد مدى في العكوف على اللذات، وكانوا يغدون ويروجون ويعمرون المجالس ويغشون الخلفاء فلا يعرض لهم أحد بشر، ولا يحرص عليهم أحد بقتل أو بمج، فهذا حماد عجرد. وهذا أبودلامة. . يشربان ويطربان، ويقولان في الشراب وفي الدين وفي اللذة ما يقولان، مجاهرة ومعالنة، ثم يغدوان في أمان من الخليفة، وأمان من الخلفاء جميعا وربما انقلبا بكريم الهدايا، وسني الجوائز وقشيب الثياب.
ولقد يسلم هذا القول في بشار. لولا أن العلماء كثيرا ما يكونون (مخالب القطط) التي يتخذها الخلفاء والملوك، يهيئون لهم، ويسايرون أغراضهم، كما يشاء الملق وحب الدنيا، تغريرا بالعامة، وإيقاعا بالبسطاء، فإذا ما أثاروا وصل الحفائظ على بشار، فلما يرى من أحتضائهم، ودالتهم على الخلفاء. وقد حق علينا أن نبدي ما أبرم الخليفة ببشار، فحمله على أن يسطو به هذه السطوة النكراء، حتى يلفظ روحه تحت بطون السياط.
لقد كان بشار عجب مفرط، واعتزاز بالنفس، وإقدام على القول، فإذا بدت له صفحة الكلام نطق، لا يجمجم ولا يتوقف ولا يراجع نفسه، ولقد عرف لنفسه حقها بين يدي الخليفة، كما عرف لها حقها بعيدا عن قصر الخليفة. ولم يعتد الذلة والبذل ماء الوجه حتى في السؤال
والاستماحة. فهو دائما العزيز الكريم، وهو أبدا الأبي الأشم.
وأنه لعند المهدي ذات يوم إذ سأله: فيمن تعتد يا بشار؟، فقال: أما اللسان والزي فغريمان، وأما الأصل فعجمي، كما قلت في شعري: -
ونبئت قوما بهم جنة
…
يقولون من ذا وكنت العلم
ألا أيها السائلي جاهدا
…
ليعرفني، أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر
…
فرومي، وأصلى قريش العجم
حتى قال:
فأني لأغني غناء الفتى
…
وأصبى الفتاة فما نعتصم
وكان أبو دلامة حاضرا، وكان الملق كذلك حاضرا، فقال كلا!، لوجهك أقبح من ذاك، ووجهي مع وجهك!. قال بشار: ما رأيت رجلا كاليوم أصدق على نفسه، وأكذب على جليسه منك. والله أني لطويل القامة، عظيم الهامة، تام الألواح، للعين فيه مراد. ثم يسأله المهدي: من أي العجم أصلك؟ فيقول: من أكثرها في الفرسان، وأشدها على الأقران. أهل طخارستان!
ليت شعري ما يكون شعور الخليفة على هذا الذي يتزيد ويتعالى، ويحدث عن نفسه وقومه هذا الحديث الغالي أمام خليفة لا يرى فيالأرضيدا فوق يده ولا أحدا مع ذاته.
ولكنها نحيزة بشار في ذهابه بنفسه ومعرفة حقها.
ولم يكن طنزه بخال الخليفة وسخريته منه إلا ضربا من احترام النفس. فقد حدثوا أن يزيد بن منصور الحميري، دخل على المهدي وبين يديه بشار ينشده شعرا، فلما فرغ بشار أقبل عليه يزيد، وقال له: يا شيخ! ما صناعتك؟ فقال بشار ساخرا: أثقب اللؤلؤ!، فضحك المهدي ثم قال لبشار: أغرب ويلك أتتنادر على خالي! فقال: وما أصنع به، يرى شيخا أعمى ينشد شعرا، ويسأله ما صناعته؟.
إذن لم يهتم بشار لاستنكار الخليفة، ولكنه مضى في تبرير سخريته وهزئه من خال الخليفة، ولعمري ما يكون هذا إلا من نفسه مرة لا تلتوي ولا تتعوج، ولكن ذلك ولا شك تارك من السخيمة عليه في نفس الخليفة ما هو تارك!
هذا الحفاظ المر والخلق الوعر، ولا يصلح قط للاتصال بالخلفاء والاحتكاك بهم. لأنه
يورث الذل والعتب، بل يورث الانتقام من الخليفة إذا ما عرض كرامة الشاعر للجرح والثلم. وإن الخليفة لتنفلق نفسه دون بشار يوما، وأن بشار ينشده فيحرمه الخليفة، فينطلق الشاعر إلى بيته فيتفتق ذهنه عن هذه القصيدة الحلوة المرة، الغافرة اللامزة النازلة من الشعر الحر بأرفع منزل:
خليلي إن العسر سوف يفيق
…
وإن يسارا في غد لخليق
وما كنت إلا كالزمان: إذا صحا
…
صحوت، وإن ماق الزمن أموق
خليلي إن المال ليس بنافع
…
إذا لم ينل منه أخ وصديق
وكنت إذا ضاقت على محلة
…
تيمعت أخرى ما على تضيق
ثم يختمها بهذين البيتين الرفيعي الشأو الآخذين بذؤابة الإحسان:
وما خاب بين الله والناس عامل
…
له في التقى أو في المحامد سوق
ولا ضاق فضل الله عن متعفف
…
ولكن أخلاق الرجال تضيق!
وتمتلئ نفس الخليفة سخيمة على بشار، فما يكاد يشي به يعقوب بن داود إلى المهدي، حتى يتذرع هذا باسم الزندقة، ويأمر به فيضرب بالسياط حتى تنقطع أنفاسه.
فيالك من شجاعة تورد صاحبها المتالف، وتحمله على أوعر المراكب ولو قد أبصر بشار لقد نجا!
كامل السيد شاهين
مبعوث الأزهر إلى السودان
الغزالي وعلم النفس
اللاشعور والعقل الباطن
للأستاذ حمدي الحسيني
- 6 -
أما وقد انتهينا من التحدث عن الشعور ومظاهره الثلاثة: الإدراك والوجدان والنزوع في نظر الأمام الجليلأبيحامد الغزالي، فقد وجب علينا أن نتحدث عن اللاشعور في نظره أيضا. وسترى في معرفة هذا الرجل العظيم باللاشعور أو العقل الباطن ما يستثير إعجاب ذوي الألباب من العاكفين على الدراسات النفسية الحديثة، العارفين بأن اللاشعور أو العقل الباطن لم يكن معروفا عند علماء النفس إلى أواخر القرن الماضي حتى نشر العالم النمساوي العظيم سيجمند فرويد نظريته في اللاشعور والتحليل النفسي.
أجل، كان علماء النفس يعتقدون أن ليس في حياة الإنسان النفسية غير الشعور ولكن علماء اليوم لا سيما مدرسة (فرويد) يعتقدون أن الشعور ليس سوى جزء صغير من حياة الإنسان النفسية، وأن سلوك الإنسان في حياته ليس نتيجة هذه الخواطر والأفكار التي يكون الإنسان شاعرا بها بل هو نتيجة تفاعل عوامل نفسية كثيرة. ولذلك لا يكون الإنسان عالما بها الجليد في البحر. فإن الجزء الظاهر منه فوق سطح الماء صغير جدا بالنسبة إلى الجزء المغمور فيه؛ فالتيارات السفلية هي التي تؤثر في حركة جبل الجيد وتوجه تسييره. ولهذا قد يرى سائرا ضد التيارات البحرية السطحية رغم إنها قد تبدوا قوية أحيانا. فالتيارات السفلية والجزء المغمور في الماء تستبه اللاشعور وأثره في شعور الإنسان وتوجيه سلوكه.
ولنر الآن هذا اللاشعور أو العقل الباطن في نظر الغزالي. ونحن لا نستطيع أن نعرف رأي الغزالي في هذا الموضوع الجليل قبل أن نعرف أن الغزالي تصدى لتفسير معاني القلب والروح والنفس والعقل فأعطي هذه الأسماء الأربعة معنى واحدا مشتركا بينها جميعا وهو ما نسميه نحن بااللاشعور أو العقل الباطن ويسميه هو باللطيفة الربانية التي لها بالقلب الجسماني تعلق. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهي المدرك العالم العارف من الإنسان والمخاطب والمعاقب والمطالب. ولها علاقة مع القلب الجسماني.
وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه هذه العلاقة. وأن تعلق القلب بها يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات والمستعمل للآلة بالآلة والمتمكن بالمكان ثم يتعمق الغزالي في هذا المعنى فيقول (أنه يراد بالنفس المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان وهي الصفات المذمومة التي تحتاج من أجلها إلى مجاهدة وكسر. ويراد بالنفسأيضاًتلك اللطيفة التي هي نفس الإنسان وذاته ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها فإذا سكنت تحت الأمر وكايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة، وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للشهوات معترضة عليها سميت النفس اللوامة. وأن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات سميت النفس المارة بالسوء. وعلى هذا فتكون النفس بالمعنى الأول مذمومة غاية الذم وبالمعنى الثاني محمودة غاية الحمد. ثم يقول أن العقل قد يراد به العلم بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله العقل والثاني قد يكون تلك اللطيفة التي ذكرت من قبل. ولا شاعرا بأثرها. فإن الإنسان يعمل في هذه الحياة ويتحرك مدفوعا بعوامل نفسية كثيرة مختلفة خفية عنه مستقرة في قرارة نفسه. ولا سبيل إلى تسلطه عليها. لأنها ليست خاضعة لإرادته وليس له علم بها.
فااللاشعور إذن هو قرارة النفس وقاعها. تتجمع فيه ذكريات قديمة منسية وغرائز حيوانية ضارة لا يرتضيها المجتمع كالقوة والشره ومحبة الناس. ومخاوف كثيرة متعددة متضاربة. وعواطف وأمان وعادات تتفاعل بعضها مع بعض. توجه سلوك المرء على غير علم منه. ولهذا يمثل العلماء هذه الحالة النفسية بجبل.
ونحن نرى في هذه اللطيفة التي يفسر بها الغزالي معاني القلب والروح والنفس والعقل اللاشعور واضحا جليا ونرى العقل الباطن (في تفسيره للنفس بأنها المعنى الجامع لقوة الغرائز ونيارات الميول الإنسانية) ظاهرا نقيا. وكأن الأمام الغزالي أراد أن يعطينا صورة واضحة لعلاقة العقل الباطن بالسلوك الإنساني فلجأ إلى التشبيه بالجميل وضرب المثل الحكيم فافترض أن للقلب أو العقل الباطن جنودا كثيرة منها ما يرى بالأبصار ومنها ما لا يرى إلا بالبصائر، فوضع العقل في حكم الملك، والجنود في حكم الخدم والأعوان، أما الجند المشاهدة بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة
والباطنة جميعا خادمة للعقل الباطن مسخرة له فهو المتصرف فيها وقد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافا ولا عليه تمردا، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزمه الحكم به تكلم. فجملة جنود العقل تحصرها ثلاثة أصناف صنف باعت ومستحث إما إلى جلب المنافع وأما إلى منع الضار، وقد يعبر هذا الباعث بالإرادة. والثاني هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد ويعبر عن هذا بالقدرة. وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيما العضلات منها والأوتار. والثالث هو المدرك المتعرف للأشياء وهي قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس، وهي مبثوثة في أعضاء معينة ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك ومع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة وهي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أعت آلات لهذه الجنود، فإن قوة البطش إنما هي بالأصابع وقوة البصر إنما هي بالعين وكذا سائر القوى. والجند المدرك بعضه قد أسكن منازل ظاهرة
كالحواس الخمس وبعضه أسكن منازل باطنة كتجاويف، الدماغ فإن الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينيه فيدرك صورته في نعسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الحافظ ثم يتفكر فيما حفظه فيركب الجند بعض ذلك إلى بعضه الآخر ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات ففي الباطن حسن مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ. ثم يذكر الغزالي العقل الواعي وهو عقل المعرفة وعلاقته بالعقل الباطن في تدبير سلوك الإنسان فيعطي العقل الواعي حق الرقابة على رغبات العقل الباطن وتصرفاته وسلوكه فيعمل كل هذا بدقة متناهية تدل على فهم عميق لنفسية الإنسان العجيبة يقول (أن جند الغضب والشهوات قد ينقادان لعقل انقيادا تاما فيعينه ذلك على طريقه الذي يسلكه. وقد يستعصيان عليه استعصاء بني وتمرد حتى يملكاه ويستعبداه وفي هذا هلاكه) وللعقل جند آخر وهو (العلم والحكمة والتفكر) وحقه أن يستعين بهذا الجزء على الجند الآخرين؛ فإن ترك الاستعانة وسلط على نفسه جند الغضب وبقية الشهوات هلك يقينا. ثم يضرب الغزالي الأمثال على هذا فيقول: مثل نفس الإنسان في بدنه اعني النفس اللطيفة كمثل في مدينته ومملكته ملك، فإن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها وقواها، ومدينتها وجوارحها،
بمنزلة الصناع والعملة، والقوة المفكرة له كالمستشير الناصح والوزير العاقل، والشهوة كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة؛ والغضب والحمية له كصاحب الشرطة، والعبد الجالب للميزة كذاب مكار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، ودينه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى أنه لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة. كما أن الوالي في مملكته إذا كان مستعينا في تدبيراته بوزيره ومستشيرا له ومعرضا عن إشارة هذا العبد الخبيث مستدلا بإشارته في أن الصواب في نقيض رأيه وأدبه وجعله مؤتمرا له ومسلطا من جهة هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنضاره حتى يكون العبد مسوسا لا سائسا ومأمورا لا آمرا استقام أمر بلده وانتظم العدل في مملكته، فكذا النفس متى استقامت بالعقل وأدبت بحمية الغضب وسلطتها على الشهوات واستعانت بإحداهما على الأخرى، تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مغتصباتها اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها).
نرى فيما تقدم من القول أن الغزالي قد أدرك ببصيرته النفاذة وتأمله العميق هذا الشيء الذي سماه فرويد فيما بعد بالعقل الباطن إدراكا تاما، وعرف حقيقته معرفة صحيحة، واطلع على وقائعه وخفاياه إطلاعا واسعا حتى يخيل لنا ونحن نقرأ ما كتب الغزالي عن العقل الباطن وأسراره ومكوناته أننا نقرأ لفرويد أو أحد تلاميذه في القرن العشرين لا للغزالي في منتصف القرن الخامس للهجرة. ويبدو لنا جليا فيما سقناهالآنمن أقوال الغزالي أن الغزالي عرف جيدا أن العقل الباطن في الإنسان هو الإنسان نفسه بما فيه من غرائز قديمة وميول فطرية وعواطف كامنة ورغبات مكبوتة وذكريات مستقرة. وأنه المدرك العالم العارف، وأنه المخاطب والمعاقب والمطالب. وعرف جيداأيضاًالعقل الواعي وحقيقته وأنه ليس إلا العلم والحكمة والتفكر، وأن العلم والحكمة والتفكر بمنزلة المشير الناصح والوزير العاقل من العقل الباطن، وعرف الصراع العنيف الذي يكون بين رغبات العقل الباطن ورغبات العقل الواعي.
وقد وصف هذا الصراع وصفا دقيقا جميلا. وفوق هذا كله فقد أعطى قاعدة جليلة الخطر في التربية وتوجيه السلوك الإنساني وهي قاعدة الكف والتوفيق: كف الرغبات الضارة عن
إشباع نفسها وكبتها عن تحقيق ذاتها وتسهيل الطرق للرغبات النافعة للفرد نفسه أو لجنسه فتتبع نفسها وتحقق ذاتها يقول (أن النفس متى استقامت بالعقل أي العقل الواعي عقل العلم والحكمة والتفكير) وأديت بحمية الغضب، ويعني بحمية الغضب غريزة التغلب والسيطرة وسلطتها على الشهوات، واستعانت بإحداها على الأخرى أي بغريزة على أخرى تارة بأن تقلل وثبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمعها وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها اعتدلت قواها (أي مجموعة النفس الإنسانية) وحسنت أخلاقها (أي سلوكها).
حمدي الحسيني
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
قارئ صديق يدافع عن القراء:
أنا واحد من أولئك الذين يعيشون معك - في عالم الأدب والفن - تحت سقف واحد من المشاركة الفكرية والمشابهة الوجدانية. فكم عرضت لقضايا الأدب وعالجت من شئون الفن بما يوائم خلجات مشاعري كل المواءمة، وبما تتجاوب معه هزات أفكاري ورفات خواطري اشد التجاوب. سوى فارق واحد هو أنني لو أردت أن أتمخض عن هذه الارهاصات الفكرية المشتركة وأشعل - في الأفق ثقاب تلك الومضات الشعورية المتشابهة، لما وآتاني ذلك الوهج الساحر والفن القادر والجمال الشاعر الذي يتدفق من نبع براعتك الآسرة، وينبجس من غدير مدادك المسحور؛ ولأعياني - كما يقول شاعر الفن الخالد علي طه - ولأعياني دبيب الحياة في مخلوقي. ولكم ضمني مجلس من مجالس السمر واحتوتني ندوة من ندوات الفكر، في هذا الجانب البعيد من ذلك (الجانب من الثري) كما يسميه شاعر البيان الخالد شوقي، فرحنا ندير كئوس الحديث حول الأدب والفن والحياة. وقليلا ما كنت ألمح لخمري في نفوس الندامى أطيافا من رضا وأصداء من هوى، وإذ يرغبون إلي في أن أريق ما أعتصر من قطرات الرأي على مائدة الورق وخوان الصحف، أفتدري ماذا يكون جوابي؟ نعم إنك تدري. فصاحب هذه القيثارة النفسية المرنان والحنجرة الفكرية المدوية بأروع الأصداء وأعذب الألحان، لا ينقصه الإلهام الشفاف والحساسية اللاقطة والحدس المرهف. يكون جوابي: أيها الندامى! أيها العشاق! لا يسقى وباخوس في المدينة! يطالعكم بأشهى أسلاف وأعذب خمر في أبهى كأس وأبدع قدح. . ويفهمون للحال من اعني، فليس فيهم يا أخا الروح من يجهلك!
من هؤلاء الندامى وأمثالهم في بقاع الضاد. . من أجل هؤلاء القراء - وأنا واحد منهم قبل كل شيء - سأختلف معك، هذه المرة، في أمرهم، وسأحمل لواء المعارضة عنهم، وسأستعين، في كسب قضيتهم وإثبات براعتهم، بك عليك!
أجل يا سيدي! فلقد رميت القراء - وعممت - بهذا الاتهام الجائر الذي لا افرك عليه ولا اتفق معك فيه. وذلك حين تقول: (إن لدي ثلاثة كتب مهيأة للطبع، ولكن أزمة القواء
تصرفني عن التفكير في إخراجها إلى حين؛ إلى أن يقدر الله لهذه الأزمة أن تنجلي ولهذه الغمة إن تزول، ويجد القراء من وقتهم ومالهم وجهدهم ما يعينهم على قراءة الكتب التي تستحق بذل الوقت والجهد والمال! ماذا نفعل إذا كان القارئ العربي قد أصبح قارئ مقالة، يريد أن ينتهي منها وهو يحتسي قدحا من الشاي أو يترقب وصول الترام أو ينتظر قدوم صديق)؟
أجل يا سيدي! إنني لا أرى رأيك هذا ولا أفرك أنت ولا غيرك عليه، إذ لو فتشت في مطاويه ونفذت إلى خبايه فطالعك مستقبل الثقافة العربية أشد ما يكون علهلة وركاكة، ولا وجب أن تهيأ للغتنا الحية الأكفان وتشق لها الملاحد. . (لقد أصبح القارئ العربي قارئ مقالة يريد أن ينتهي منها وهو يحتسي قدحا من الشاي أو يترقب وصول الترام أو ينتظر صديق). . أجل، هذا حق. . وهذه ظاهرة صادقة. . اتخذتها أنت مقدمة صائبة إلى نتيجة خاطئة. إذ لم لا تكون هذه الظاهرة الصادقة نتيجة لا مقدمة؟ لم لا تكون نتيجة لنمو الوعي الثقافي وأثرا من آثار الإقبال على القراءة عامة وارتياد روافدها جميعا؟ أي أن القارئ لا يريد أن يترك حتى أضيق أوقاته وأسرعها خطى. . أوقات احتساء الشاي وترقب الترام وانتظار الصديق. . دون أن يشغلها بما يستدعيه المقام ويتطلبه مقتضى الحال؟ إنني لأسألك أنت بذات: ماذا تقرى في ساعة. . بل في دقائق احتساء الشاي وترقب الترام وانتظار الصديق؟ أتقطع هذا الوقت العابر بغير المقالة العابرة؟ أم تجد في مثل تلك اللحظات الخواطف ما يتسع لمعالجة مشكلة الأداء النفسي ودراسة علي طه وسارتر وتشريح جان جاك روسو؟
لا. . لا. . يا سيدي. فلتعد النظر في اتهامك مرة ثانية، ولتحسن ظنك بنا معشر القراء، فما زال في السويداء قراء، وما زالت سوق الأدب الثمين والفن المحلق تجد من الرواج والإقبال ما يهون معه بذل الوقت والجهد والمال، ومازالت لك - ودعني أخجل تواضعك - في نفوس القراء في جميع الأقطار العربية، مازالت لك تلك المنزلة الممتازة التي كشفت لك عنها الأديبة السورية المطبوعة وداد سكاكيني. ولا تحسبن حدثها ذاك من قبيل المجاملة. . بل هو الحقيقة التي يؤيدها الواقع. . الواقع الذي يعلمه الناس حق العلم ويعرفونه حق المعرفة. . فلا تظلم الواقع إذا ولا تظلم القراء، ولا تتأخر في أن تقدم لهم ما
لديك من كتب. ثم ماذا؟ ثم إنني لا أريد أن أبرح هذه المنصة، قبل أن ألقي إليك بالدليل الحاسم القاطع من أدلة النفي، نفي اتهامك للقراء، مستعينا - كما قات لك من قبل - مستعينا بك عليك، فأنت الخصم والحكم. وفي يدك وحدك، وأيدي القراء أيضا، إثبات هذا الدليل. . هذا الدليل هو أن القراء على استعداد تام، وبرهانهم فوق أيديهم، أن يشتروا منك كل كتبك منذ الآن. قبل طبعها! فهل أعنتهم على تحقيق بغيتهم واستجابة طلبتهم؟
وحين يتم طبع كتبك. ويعييك أن تستبقي لنفسك خاصة ولو نسخة واحدة من كل كتاب، ستعرف أي ظن آثم رميت به القراء وأي اتهام ظالم هم منه براء. . والسلام عليك والتحية إليك:
من القارئ
(طهطا) ع. ع. ص
لست أدري لماذا آثر هذا القارئ الصديق أن يخفي أسمه؟ لو علم مباغ إعجابي بأدبه وتقديري لوفائه لما آثر أن يتحدث إلي من وراء قناع. . أنه ليسرني يا صديقي أن أعرف إسمك، ليس ذلك لأنك أسرفت في الثناء على هذا القلم، ولكن لأنك أديب يستحق أن يعرفه الناس، وأنا لا أحب لأمثالك أن يظلوا أدباء مع إيقاف التنفيذ!
لقد دافعة دفاع حارا عن القراء، لأنك قارئ مثالي ينظر إلى غيره على أنه نسخة صادقة منه. . ألا ليت القراء كانوا في مثل شغفك بالقراءة وولعك بالإطلاع ووفائك للأدب. لو كانوا كذلك لما يئس من مستقبل الثقافة في مصر كل صاحب قلم، ولما جفت في حائق الفكر الرفيع ثمرات العقول! أنه كما قلت لك قراء مقالة، يريدون أن ينتهوا منها وهم يحتسون أقداح الشاي أو يترقبون وصول الترام أو ينتظرون مقدم صديق. أعني - وهذا هو الذي لم يتضح لك - أنهم أبناء عصر السرعة والعجلة وعدم التريث والاحتشاد. أعني مرة أخرى أنهم يستمدون ثقافتهم من مقال عابر أو رأي طائر، بقدر ما يسمح لهم الصبر الذي أنهكت قواه أسباب المادة والوقت الذي عصفت بقيمته توافه الأمور!
إنني حين أتحدث عن أزمة القراء لا أقصد قراء المقالة، فهم بخير والحمد لله. . لأن المقالة لن تجور على الوقت (الثمين) الذي يقضونه في أماكن الله والجلوس في القهوات، ولن
تجني على (الميزانية) المخصصة للأقمشة الحريرية عند بعض المتشبهين بأبناء الذوات. . من اليسير جدا أن ينفق القارئ المصري عشر دقائق من وقته في قراءة مقال، وقرشين من جيبه ثمنا لمجلة تحمل إليه هذا المقال، ولكنه يضيق كل الضيق وينفر كل النفور من صحبة كتاب نفيس، لأنه يضن عليه بالوقت الذي لن يتعدى الساعتين وبالقروش التي لن تزيد على عشرين! أنا إذا لا أشكو من قراء المقالة يا صديقي العزيز، لأنني ألقاهم كل أسبوع في هذا المكان، ولكنني أشكو من قراء الكتب وأشفق من لقائهم في ومقبل الأيام. . إن عيبي - وقد يكون هذا العيب مزية - وهو أنني أعيش حياتي كلها في عالم الواقع، وعالم الواقع هو الذي يدفعني إلى أن أزن الأمور بميزانها الصحيح، وأن أقول لنفسي اليوم كما قلت لها بالأمس: تريث قليلا حتى يقدر الله لهذه الأزمة أن تنجلي ولهذه الغمة أن تزول، ويجد القراء من وقتهم ومالهم وجهدهم ما يعينهم على شراء الكتب التي تستحق بذل الوقت والجهد والمال!
لا تظن أنني وحدي الذي أشفق على مستقبل الكتاب المصري وأنظر إليه هذه النظرة القاتمة، حسبك أن ترجع إلى تلك القصة التي تحدث عنها توفيق الحكيم يوما في (أخبار اليوم) ثم عرضت لها بالتعقيب على صفحات (الرسالة): ترى هل تذكر تلك القصة التي رواها الأستاذ الحكيم عن تلك المكتبة العامرة بالكتب في أشهر ميادين القاهرة، كيف تحولت أخيرا إلى حانوت للمرطبات؟! إن صاحبها كما يقول هو صاحبها لم يتغير، ولكنه قلب نفسه بكل بساطة من (كتبي) إلى (شربتلي). وعندما سئل في ذلك قال: الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن، ولكنهم يريدون عصير الليمون!!
ماذا أقول لك بعد هذه القصة! حسبك أن العقاد يشكو، وأن توفيق الحكيم يسخط، وأن أصحاب دور النشر يضجون من كساد الكتب وإعراض القراء. . وحتى الأسواق الخارجية التي كنا نعتمد عليها في الترويج للكتاب المصري - وأعني بها أسواق سورية ولبنان والعراق وشرق الأردن وفلسطين والحجاز - قد أغلقتها في وجوهنا وزارة المالية المصرية، حين قررت أن يدفع أصحاب المكاتب هناك أثمان الكتب قبل أن تتصفحها الأيدي وتتملاها العيون. . أرأيت قرار أعجب من هذا القرار؟ لقد ترتب عليه أن أمتنع أصحاب تلك المكاتب عن التنفيذ، لأنهم ليسوا مغفلين حتى يدفعوا أثمان كتب لم يعرضوها
ليعلموا مدى حظها من إقبال القراء!
ألست توافقني على أنه من الخير أن أرجئ طبع ما لدي من كتب، حتى يكون للأدباء نقابة كنقابة المحامين والصحفيين تدافع عن حقوقهم المهضومة؟. . إن الأمل الوحيد أمام الأدباء المصريين هو أن يعملوا على تحقيق هذه الأمنية، ما تحققت وفتحت الأسواق العربية أمام الكتاب المصري من جديد، فإن هذا القلم سيجد من أصدقائه العديدين في مختلف أقطار العروبة ما يدفعه إلى أن يقدم للمطبعة ما لديه من ومضات الفكر وهمسات الشعور!
صرخة الفن الشهيد في العراق:
هي صرخة الشاعر العراقي المطبوع الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري. . أطلقها منذ أيام على صفحات (الرسالة) فهزت قلوب المشاعر!
ماذا أقول للعراق؟ العراق الذي يريد لشعلة الفن أن تنطفئ ولرسالة الشعر أن تضيع؟ العراق الذي يعيش فيه بعض أبنائه وهم غرباء. غرباء الفكر والقلوب والروح؟ إن عبد القادر وتر من الأوتار الصادحة بأنغام الحق والخير والجمال، فلماذا يريد العراق لهذا الوتر أن تخمد أنغامه وهو يغني له ويتغنى به؟ أهو يضيق بصوت الحق فلا يسمع، وبمعنى الخير فلا ينظر، ويسر الجمال فلا يطرب، وبصرخة الفن الشهيد فلا يستجيب؟!
ماذا أقول للعراق؟ العراق الذي أرسل عبد القادر ليعب من مناهل العلم في (السربون) ثم عاد فأبعده عن المنهل العذب ليشكو حرقة الظمأ ومرارة الحرمان؟ إنها مأساة. . مأساة أن أرى العراق يحول بين أحد شعرائه وبين نور العلم، وهو بهذا النور سيضيء لوطنه أقباس الأمل ومشاعل الرجاء!
أن مصر المثقفة التي تنادي اليوم بجعل التعليم حقا مشروعا لكل حي مثله في ذلك مثل الماء والهواء، مصر هذه تعلن من فوق هذا المنبر - منبر الرسالة - أنها غاضبة وعاتبة. . غاضبة لأن هذا الشاعر المظلوم قد حيل بينه وبين حق هو أقل ما يجود به وطن على فنان. وعاتبةلأنهذا الحق المشروع قد سلب في عهد رجل يقف في الطليعة من رجال العراق خلقا وثقافة، وهو معالي الأستاذ (خليل كنه) وزير المعارف في القطر الشقيق.!!
ويضيق النطاق اليوم عن عرض هذه المأساة، فإلى العدد القادم من (الرسالة) حيث أوجه الخطاب إلى معالي الأستاذ (خليل كنه) باسم الشعراء والأدباء في مصر والأقطار العربية.
أنور المعداوي
قمرية تموت.
. .
(إلى روح الشاعرة المصرية (ن. ط. ع) التي عاشت كما
تعيش الفراشة: (ولدت مع الربيع وماتت مع الورد)
للآنسة هجران شوقي
أنوح على قمرية المورد العذب
…
وأبكيك يا دنياي بالمدمع السكب
وأرثيك بالأشعار تقطر رقة
…
كأنك مني لوعة الوجد والحب
وأسأل عنك النجم، والنجم حائر
…
تمهل لا يسري وجمجم لاينى
وأستحلف الليل الكتوم لعله
…
تسمع منك السر في زفرة النحب
فألقاك في الآهات فاض بها فمي
…
وبالدمعة الحمراء جاد بها قلبي
وبالسهد يدنيني من السقم والبلى
…
وبالكرب يا ويلي من السهد والكرب
كأنك آمالي اللواتي افتقدتها
…
فيا مهجتي ذوبي على الأمل النهب
شهدت لقد أذوى الردى روضة المنى
…
ونفر عنها طائرا شدوه يصبي
تغنى بمعسول الرجاء حياته
…
وعاش كعمر الزهر في الفنن الرطب
وطافت على أنغامه صورة الأسى
…
وسالت على أنفاسه رنة العتب
فبات يناجي الشهب، والشهب لمع
…
كأن به شوقا إلى لامع الشهب
فيا أيها اللحن الحبيب الذي انطوى
…
ورنم في سمعي وأشرق في لبي
ستحيا إلى جنبي ولو كنت رمة
…
تهاوت بها الأيام في وحشة الترب
وأصفيك ودي - والحياة ودادة -
…
وأسقيك دمع العين غرباً إلى غرب
وأنشدك الأشعُار تندى عذوبة
…
وتنشدني من رائق الشعر ما يسبي
وألقاك في وادي الكرى، ويزورني
…
خيالك في بحبوحة الحلم الرحب
كأنك روح قد تأبى على الردى
…
فطرف إلى طرفي وجنب إلى جنبي
نقمنا على دنيا الصدور وضمنا
…
لقاء يحيل البعد منا إلى قرب
دمشق:
هجران شوقي
تحية الشعر
للأستاذ أحمد الحسيني أبو الردس
إلى الدكتور طه حسين بك بمناسبة تعميم مجانية التعليم
أرسل الله للمعارف (طه)
…
فزها غرسها وطلب جناها
ظفرت بالمنى فلقد جاء كالغيث زعيم البيان يحيي ربها
جاء بالمعجزات فلينظر الشعب قريبا إلى بعيد مداها
حي (مستقبل الثقافة في مصر) وحي الوزير شمس ضحاها
جعل العلم كالهواء مشاعا
…
كل نفس تنال منه مناها
غاية قد خطا إليها حثيثا
…
قبل هذا واليوم تمت خطاها
فاطو ذكرى مريرة لعهود
…
طال بالناس ليلها ودجاها
كمأبضاق بالمصاريف ذرعا
…
حار في قسطها الثقيل وتاها
ويتيم كم تشتكي أمه الضيق دهاها من خطبها ما دهاها
أتبيع الأثاثأمترهن الثو
…
ب فتدمى القلوب من شكواها
وإذا هاتف يزف إلى الأسماع بشرى كالعيد رن صداها
ابشروا ابشروا بعهد جديد
…
فلقد قلد المعارف (طه)
لن تئنوا من المصاريف بعد اليوم،
…
إن الوزير قد ألغاها
تلك آيات عهده قد تحلت
…
عطرات يفوح طيب شذاها
عاش للعلم ناصرا ورعى الله مليك البلاد رمز علاها
أحمد الحسيني أبوالردس
مدرس بمعلمات الورديان
رسالة النقد
ثقافة النقد الأدبي
تأليف محمد النوهيهي
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
من الكتب ما يستهويك بطرافة الفكرة وجمال الأسلوب وحسن الاختيار فتقبل عليه راغبا، وإن خالفك مؤلفه أحيانا في الرأي والاتجاه. ذلك لأنالجديد الطريف يبعث فيك الشوق إلى المتابعة، ولذة الأسلوب تمتع نفسك المخلصة للفن، وحسن الاختيار يوقظ إحساسك وينبه عواطفك.
ومن الكتب ما يستل منك الصبر، ويفسد عليك حاسة التذوق للجمال؛ لأنك تجد نفسك في كل لحظة أمام رأي مسبوق أو تطويل مخل، أو فساد في التعبير، أو لغة غير مهذبة في النقد والتعليق.
وقد اجتمع في (ثقافة الناقد الأديب) للدكتور محمد النويهي من ألوان الفساد ما لو شئت أن أعدده وأفصله لطال بي الكلام وأدركني الملال، ولهذا آثرت الإشارة العابرة إلى موطن الضعف ورجوت أن أعين القارئ على الاستقصاء إن أراد ذلك، وقدر له أن يقرأ الكتاب.
ادعاء:
إلا دعاء المريض الذي لا ينهض على أساس صفة ظاهرة في المؤلف؛ فهو يحاول أن يرغمك في كثير من المواضع على الإصغاء إليه حين يثنى على نفسه ثناء لم نعهده من أكبر الكتاب، فهو مثلا يقول مخاطبا النقاد جميعا:(فليس غرضي أن أهول عليكم الأمر ولا أن أفخر عليكم فخرا مستورا بمبلغ علمي أنا وسعة إطلاعي، إنما غرضي الوحيد أن أنصحكم مخلصا بما أعتقد أنه الحد الأدنى الذي يلزمكم معرفته).
ولم لا يفخر عليهم فخرا مستورا أو مكشوفا؟! وهو واحد من عشرة في الشرق العربي، أو واحد من خمسة، أستغفر الله بل واحد من ثلاثة. أليس هو القائل: (فما أظن أن في الشرق العربي كله - من غير المتخصصين في علم الفلك - عشرة يفهمون معنى البيت المشهور لامرئ القيس:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
…
تعرض أثناء الوشاح المفصل
أو هذا البيت لأبي ذؤيب:
فوردن والعيوق مقعد رابئ
…
الضرباء فوق النظم لا يتتلع.
ألم يقل في مكان آخر: (وما أظن في الشرق العربي كله من رجال الأدب والنقد خمسة يفهمون وصف علقمة للظليم الذي يبدأ بقوله:
كأنها خاضب زعر قوادمه
…
أجني له باللوى شرى وتنوم
ألم يزعم أنه واحد من ثلاثة حين دعا النقاد جميعا - ما عدا الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد - أن يمسكوا عن الكتابة والتأليف خمس سنين، حتى يتثقفوا ويعدوا أنفسهم إعدادا صالحا (فخير ما تفعلون وأجمل خدمة تستطيعون أن تقدموها للأدب، هي أن تنقطعوا عن التأليف في هذا الأدب بل عن قراءته للسنوات الخمس القادمات. وتلتفتوا فيهن إلى دراسة الأدب الغربي). أما هو فلا ضير عليه أن يؤلف (ثقافة الناقد الأدبي) لأنه ثالث ثلاثة، وقد شاء الله أن يهبه من الثقافة والبيان ما لم يؤت عيره من بني الإنسان.
وليس عجبي من هذا الادعاء بأقل من عجبي من هذه الأحكام التي يلقيها جزافا دون تحقيق ولا تمحيص، فكيف عرف أن الذين يعرفون ذلك خمسة؟ وكيف نطمئن إلى ما أصدر في كتابه من أحكام؟! بل كيف نعتده مؤلفا يرشد النقاد إلى ما يعملون؟!
تطاول ومغالطات:
إنك لتجد تناقضا عجيبا بين مسلك صاحب الكتاب وبين ما يدعو إليه؛ فبينا يثني على أحد الكتاب فيقول: (فهو يقدس كل جزء من ثقافته التي حصلها ودليل هذا التقديس واحد لا يخطأ: نظافته التامة أعني ترفعه عن المغالطة والمهاثرة، إذا بك تراه يتطاول على أعلام الأدب بكلمات لا تليق من ناقد مثقف. فاستمع إليه معلقا على كلام للأستاذين الزيات والإسكندري: (ما أشبه هذا الكلام بهذيان المحمومين وهراء المخمورين. إن كان زهير قد تميز حقا بقلة السخف والهذر، فإن هؤلاء السادة قد امتازوا بكثرتهما. . .). ويقول عن الأستاذ العقاد:
(العقاد هنا ليس العقاد الذي نعرفه، بل أشبه بصبي المدارس الذي يندفع في حرارة وجهل معا إلى إلقاء التقريرات العلمية. . .).
وأنا أسيء إلى الأدب والذوق معا، إذا ما استرسلت في تصيد المهاترات التي حفل بها الكتاب، ويكفيني هذا القدر للتدليل على الجرأة البغيضة التي لا تحدها رزانة ولا يكبحها تواضع. وظني أنه فعل ليثير أعلام الأدب فيكتبوا عن كتابه ويطيلوا الكلام ولكنهم - على ما يظهر - اخلفوا ظنه وأفسدوا تدبيره.
والكتاب بعد ذلك مليء بالمغالطات التي لا تليق بباحث ناقد قد يكون من ألزم صفاته الأمانة العلمية وتحري الحق والصدق. ومن الأمور التي تكشف عن هذه الصفة كشفا واضحا ذلك التعليق المتلوي على كلام للأستاذ السباعي:
قال السباعي شارحا لنشأة الشعر والنثر: (وهنا نسأل نواميس الطبيعة والكون وعوامل النشوء والارتقاء أيهما لذلك يجب أن يكون أسبق كونا وأقدم وجودا فيكون الجواب لا محالة ما أجبنا به آنفا من أن النثر أسبق من الشعر).
فقال المؤلف من كلام له: (لكن الذي يحيرني جدا هو أن الأستاذ سألأيضاًعوامل النشوء والارتقاء. أيؤمن هذا الأستاذ الفاضل إذن بعوامل النشوء والارتقاء؟ أولا يؤمن بالخالق؟ أولا يؤمن بأن الله خلق النبات والسمك والضفدع والثعبان والفأر والنمر والجمل والحصان والقرد والإنسان خلقا منفصلا لكل جنس منها على حدة؟ أيؤمن إذن بأن أجناس الحياة (نشأت) و (ارتقت) وتسلسل بعضها عن بعض؟ أيؤمن بأن عوامل الطبيعة المتعددة هي التي أبرزتها إلى الوجود في ألوف الملايين من السنين دون تدخل قوة إلهيه؟ وكيف يوفق الأستاذ إذن بين هذا الاعتقاد وبينما تنطق به الآيات القرآنية وما تقرره عقائد السلف؟ أما لعله من القلائل في الدنيا الذين استطاعوا أن يوفقوا بين دينهم وبين حقائق العلم؟).
إنني أعتقد أن القارئ سيقف حائرا أمام هذا الكلام لا يدري ماذا يريد المؤلف؟! أهو جاد فيما يقول مقتنع بصواب تعليقه؟ أمهو مضلل أراد الخداع والمغالطة؟ إن كان جاد فقد وهم حيث لا يجمل الوهم بمؤلف، وإن كان مضللا كانت البلية أشد وأعظم. فهل رأى أن كلمتي النشوء والارتقاء محرومتان لا تذكران في أي كلام؟ وهل رأى في ذكرهما مروقا عن الدين وإمعانا في الإلحاد؟ وهل جهل أن كل علم ينشأ ضئيلا محدودا ثم يرتقي على مر الزمان؟ أي جريمة اجترها السباعي حينما قال إن فنا من الفنون قد خضع لعوامل النشوء والارتقاء؟
وإذا كان ذلك كذلك فلم أباح المؤلف لنفسه المروق والإلحاد حيث قال (أما علوم الأحياء فتدرس نشوء الحياة وتعددها وتطورها) ثم هو يدعو الأدباء إلى تعلم هذه العلوم.
وفي مكان آخر من الكتاب يشرح أبياتا لابن الرومي ويحس بعد الشرح أنه سطا على كلام الأستاذ سيد قطب فيعتذر في ذيل الصفحة قائلا:
(كتبت تحليلي لهذين البيتين في الأسبوع الأخير من مارس سنة 1949 ثم بدأت الليلة (13 أبريل 1949 أتصفح كتاب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) للأستاذ سيد قطب لقراءته فستوقفتني صفحة 73 إذ رأيت فيها البيتين. . .
إلى أن يقول: (يرى القارئ من هذا أن الأستاذ سيد قطب قد رأى في الفكرتين الأساسيتين اللتين عرضتهما. . . بل يرى القارئ تشابه تعبيرينا عن نفس الفكرتين).
وربما كان التعليق على هذا الكلام مما يفسد صورته في ذهن القارئ فلنتركه هكذا واضح التلفيق بين الادعاء.
ثم هو يضع من خياله حوارا طريفا زعم أنه دار بينه وبين طالب في دار العلوم ولكنه لم يحبك القصة حبكا محكما فدلت على وضعه وتلفيفه.
قال: (قلت (أي الطالب) جميل جدا ولكن ألم تدرسوا الشعر الأموي خارج هذا الكتاب؟
قال: درسناه في كتب هاشم عطية والزيات وغيرها)
وأنا بعد أن قرأت هذا الحوار أرجوه مخلصا أن يدلني على كتاب هاشم عطية في الشعر الأموي لأنني لم أهتد إليه حتى الآن.
ولا شك في أن المؤلف قد هدف من هذا الحوار إلى غاية بعيدة؛ فقد أراد الإشارة إلى سعة إطلاعه في الأدب العربي وإحاءته بما تضمنته المراجع وألمت به الموسوعات. وأنا أشك في هذا الادعاء أو على الأقل. . أشك في استفادته من هذه المراجع: فركاكة أسلوبه وكثرة أغلاطه تؤكد في نفسي هذا الشك تأكيدا.
مصادر الكتب:
لا ننكر أن للمؤلف بعض الجهد في كتابه، ولكنه جهد يتراوح بين التفصيل والتعليق والشرح والترجمة، أما الخطوط الرئيسية في الكتاب ففي وسعك أن تردها إلى أراء الكتاب. طه حسين والعقاد والمازني. فبحوثه في الباب الأول تلتقي مع بحوث الدكتور طه
حسين في كتب الأدب العربي وتدريسه بل أنها لتستمد منها الأمثال أحيانا فما مثل النويهي بأستاذه في التعليم الثانوي اعتباطا ولكنه رأى مثل ذلك في كلام الدكتور طه حسين مع خلاف يدل على اتجاهيهما فقد نزع إلى التشفي من أستاذه على حين أشفق الدكتور على أستاذيه رعاية لحقهما.
وكنت أود أن أرجع كل أصل من أصول هذا الباب إلى مكانه من كتابة الدكتور طه حسين لولا ضيق المجال؛ غير أني أشير إلى ناحية أرى من الخير الإشارة إليها لأنها تلقي بعض الضوء على مسلك المؤلف واتجاهه. فبينما يرى الدكتور طه حسين في كتابه (في الأدب الجاهلي) أن التمرس بالعلوم اللسانية كالنحو والصرف والبيان وفقه اللغة أمر لا بد منه لدارسي الأدب وناقدي نرى المؤلف لا يشير من قريب أو بعيد، بل أنه ليرى دراسة (المخ والمخيخ) من الثقافة المهمة لدارس الأدب العربي فيفصلها تفصيلا ويرى البلاغة والنحو:(من طلاسم السحر وتمتمات الشعوذة) وقد لا يبعد بنا الفهم إذا قلنا أن هذا الاختلاف بين الاتجاهين راجع إلى اختلاف الثقافتين: فالدكتور طه حسين قد درس هذه العلوم دراسة استيعاب، فهو يدرك فائدتها لنقد الكلام، أما المؤلف فلم يصب منها إلا القليل والناس أعداء لما جهلوا.
أما الباب الثاني فترجمة لا ينكر حرفتها المؤلف فقد قال: (بقلب وجل أقدمالآن على موضوعات لم أتقنها إتقان المتخصصين ولا أعرف عنها إلا ما يصل إلى المنقب المطلع متضرعا إلى الله أن يقيني مواطن الزلل. . .) ولست أدري لما عنى نفسه هذا العناء؟ أتراه ظن أن غيره من الناس لا يعلمون من أمرهم شيئا أمتراه ترجم ما ترجم ليطبقه على أبن الرومي؟
أن كانت الأولى فقدوهم أشدالوهملأنكل مدرس قد ثقف هذا العلم على جماعة من المتخصصين فلم تعد به الحاجة إلى مثل هذه الترجمة؛ وأن كانت الثانية فإننا ندرك جهده ومحاولته في إثبات ضعف الجهاز الغدي عند ابن الرومية، ولكنا ندرك مع هذا عجزه البين في هذه المحاولة فقد قال:(ولست أحب مرة أخرى أن أقحم نفسي في مجال لم أدرسه دراسة المتخصصين فأقرر أن العلة الحقيقية هي اختلال جهازه الغدي واضطراب إفرازاته فقد يكون السبب سببا جسمانيا آخر، وقد يكون سببا مركبا من علل جسمانية شتى). ونعود
بعد هذا الكلام نبحث عن النتيجة فلا نرى لها أثرا فنقنع بما سبق أن عرفناه من العقاد وغيره من أن به اضطرابا عصبيا.
والمؤلف - ولا شك - معذور في هذا العجز ولكنه غير معذور في التورط والإطالة والإملال، وكان بودنا أن يدرك أن هذا الجهد لطائل تحته: فلو أن ابن الرومية عاد إلى الحياة جماعة من المتخصصين في الأمراض العصبية لما اتفقوا على رأي واحد: فما باله يحاول ما يحاول وهو مترجم (يخشى الزلل).
أما ما بقى من أبواب فتعليق على ما كتب العقاد والمازني مرة بالموافقة والأخرى بالمخالفة، وكنا نود مخلصين أن ينزع إلى الابتكار فلا يترسم خطأ أن العقاد في التشخيص و (العطف على الأقارب) و (أنواع الهجاء) وهكذا وكم كنا نود أن يدرس شاعرا أخر لندرك مكانته في السبق والاستقلال.
أخطاء:
ذكرت الكاتبة القديرة (بنت الشاطئ) في الأهرام من أخطاء المؤلف كلمات قليلة وقالت أنها في الصفحات الأولى من الكتاب؛ ثم أبدت عجبها من أن يحدث هذا الخطأ من رئيس الشعبة العربية بكلية غردون وأنا لا أريد إعادة ما ذكرته، ولا أود الاستقصاء ففيه إطالة غير محمودة؛ ولكني أذكر ألوانا من الخطأ: أذكر الخطأ الصحيح الذي لا يقبل جدلا، والشاذ الذي لا يقاس عليه، وأذكر ما لا يجوز إلا في الشعر، ثم أترك الكشف عن أسرار ذلك كله للمؤلف أن استطاع:
يقول: (فتخيلوا وأنتم تدرسون هذا العصر أنكم لستم باحثين أدبيين بل رسامون.)
وقال: (والحق أن تفسير هذه الملكة ليست ما يقوله العقاد نفسه) وقال أيضا: (إياهم إياهم أن ينسوا)
وهو القائل: (فلا تظنوا أنكم تفهمون هذه الطريقة ولا تتفنونها طالما حصرتم اهتمامكم في كتب قواعد النقد الغربي)
ومن قوله: (فلو ظلت الزرافة تمط عنقها طوال حياتها وظل أحفادها يمطون عنقهم آلاف السنين لما طالت أعناقهم ملليمترا واحدا، لن طول العنق الذي يكتسبه أحدهم من مده عنقه في حياته لا يمكن أن يرثه عنه ابنه)
ومن قوله (ثم العقد الجنسية البدائية التي يقررها علماء النفس الحديثون وخصوصا الفرويديون)
ومنه أيضا: (فمعظم الكتب التي يعثر عليها هي أيضاً كتب رديئة وليست منها إلا قلة ذات قيمة)
أسلوب الكتاب:
ليس للمؤلف أسلوب محدد المعالم بين الصوى: فهو يقتبس تارة من أسلوب الدكتور طه حسين فيعلو، ويعتمد على نفسه تارة فيهبط؛ ويحاول تقليد الدكتور ثالثة فيقعد به العجز ويدركه البهر فلا يبقى في قلمه إلا كلمة (حقا) يكررها ونظائرها فتبدو شائهه قبيحة.
ولست متجنيا على المؤلف فما أعتقد أن من عشاق الأدب من يقول: (أما الدراسات الإنسانية أو ما يسمونه أنثروبولوجيا فتستلم هذا الإنسان من حيث تتركه علوم الأحياء).
ولا يعد من الكاتبين من يعلق على كاتب قال: (أنظر في حركة الرومانتيك ومنابعها وثورة أصحابها. .) بقوله: (ليس أنظر في شعر الرومانتيك. لا!). ولا أشك في أن القارئ يحتاج إلى بيان المراد من عبارة المؤلف. فلقد أراد أن يكون النظر إلى الشعر نفسه لا إلى حركته والله أعلم.
ومن الأمثلة التي توضح ضعفه في الأداء قوله: (فالحشرات والأسماك والبرمائية ومعظم الزواحف تستقل أطفالها ما أن تخرج من البيضة وتركته يفقس وحده، فلما خرج الطفل من البيضة خرج كاملا).
ومن أمثلة الضعفأيضاًقوله: (قلت في نفسي: إن قالوا هذا لفتهم إلى أن بعض هذه المقالات تدرس ليس الأدب الغربي الحديث بل الأدب القديم. .)
وقد لا تعجب بعد هذا إذا علمت أن صاحب هذا الأسلوب السقيم يفرق من الأسلوب الجميل وينعته بالضعف والرداءة فهو يسوق مثلا كلاما لأحد الأدباء جاء فيه: (في بلاد نجد وفي رباها المعشبة وأوديتها الفريضة كان ذلك الشاعر صبيا عربيا يله مع لدانه ويمرح في أعطاف الصبابين رعية أبيه، وما كان يدري أنه بعد قليل سيفضي إلى الدنيا بسر من أسرار العظمة ولا أنه سيضع على جبين الزمن ذلك الإكليل الفاخر من الخلود والشهرة. . الخ).
يسوق هذا الأسلوب ثم يقول معلقا عليه: (هذا ما يسمونه تاريخا أدبيا! بهذا الأسلوب الإنشائي الرديء الذي يذكرك بموضوعات الإنشاء يكتبها صبيان المدارس يسترون جهلهم بفن تاريخ الأدب. . .).
نعم. هذا الأسلوب يذكرنا بإنشاء صبيان المدارس ولكن قول المؤلف: (ليس أنظر إلى شعر الرومانتيك! لا) فيذكرنا بكتابة الفحول من البلغاء.
تذوق الشعر وشرحه:
المؤلف مبتدع لطريقة جديدة في شرح الآبيات تعتمد على الاستطراد وسرد الحكايات عن نفسه وأهله وضرب الأمثال الكثيرة من واقع الحياة؛ وطريقة هذا شأنها يختلط فيها الصالح والفاسد والغث والسمين وتصل أحيانا إلى الابتذال المرذول.
ولا نستطيع أن نسوق مثالا لهذه الطريقة، فالبيت الواحد يحتاج إلى صفحات، غير أنا نشير إلى أنها أشبه ما تكون بالموضوعات الإنشائية التي يطلب فيها الحديث عن بيت من الأبيات فإذا قال ابن الرومي:
طواه الردى عني فأضحى مزاره
…
بعيدا على قرب قريبا على بعد
كتب المؤلف ثلاث صفحات فيها دعوة القارئ إلى تذكر الأعزاء الذين فقدهم، وفيها انتقال إلى ارتباط الأدب بالحياة وعيب على الشراح الذين يلمعون من قريب أو بعيد إلى (الطباق أو المقابلة). وفيها غير ذلك وصف لأجزاء الطفل الميت (. . . وهذه عينه وهذا أنفه الصغير الظريف وهذا فمه الدقيق الحلو وهذه رقبته البضة الرشيقة. . . الخ. . .
ثم ماذا؟ ثم كلام عن الأم عقب وفاة ابنها وذكر لكلماتها التي تقولها: (. . . مات! كلام فارغ!. . . من ذا الذي يزعم أنه مات؟ ولدنا مات! مستحيل!. . .) ويتبع هذا كلام عن خالته التي فقدت ولدها في سن العشرين استغرق صفحة ونصف الصفحة. ونعتقد أن الكثير من هذا الشرح لغو لا طائل تحته ولا يزيد إحساسنا بالحياة ولا ينبه فينا الشعور بالجمال - فالأمور التي تضمنها بدهيات لا تغيب عن عامة الناس. وكنت أود من المؤلف قبل أن يقدم على هذه الطريقة أن يكلف الطلاب كتابة موضوع إنشائي: (عن تصوير حالأمفقدت ولدها) ثم ينظر بعد ذلك إلى الآفاق التي امتدت إليها أقلامهم، وأعتقد أنه سيقنع بعد هذا بتجاربهم فيقلع عن هذا التطويل.
وإذا شك المؤلف في هذه الحقيقة فليجرب، وليطلب إليهم أن يسوقوا أمثلة يوضحون بها سوء الحظ أو معاكسة القدر وليحكم بعد ذلك على هذه الأمثلة وعلى مثاله الذي قال فيه:(وها هي زوجتي تقبل علي شاكية باكية فأضطر للتوقف عن الكتابة وأسألها ما الخطب؟ فتقول: إنها اليوم نسيت للمرة الأولى من أسابيع أن تضع على سرير طفلتنا ملاءة المطاط التي تضعها عليه وقاية للمرتبة من البلل. فتأبى طفلتنا في هذه المرة الوحيدة إلا أن تغرق السرير كله أعراقا، وهي يندر جدا أن تفعل هذا).
خاتمة:
لا أريد أن أشق على القارئ فأسرف في الإحصاء ويكفيني أن أنبه المؤلف إلى أمور مجملة أرى من الحكمة تنبيهه إليها:
أقول للمؤلف إنك أهملت كثيرا من عناصر الثقافة العربية إهمالا فلم تدع إليها ولم تتحمس لها، ثم أردت أن تخدع الناس وتشككهم في قيمة هذه الثقافة فزعمت أن الشراح من المدرسين يقفون عند الإعراب والبديع والبيان وكأنهم لا يفهمون من الشعر إلا أنه نماذج للتطبيق، ولونت هذا الزعم بالمغالطة فبدا مسلك المدرسين منفرا. ويقيني أن القراء لن تخدعهم مغالطتك ولن يخفي عليهم اتجاهك إذا وقعوا على أخطائك ولمسوا ضعف أسلوبك بل إنهم سيدركون حتما أنك واحد من الذين عناهم الأستاذ الزيات بقوله:(ولكن الغرض الذي ترمي إليه الثقافة الضحلة والدراسة السهلة هو أن يكتب الكاتب كما يشاء لا يتقيد بقاعدة من نحو ولا قياس من صرف ولا نظام من بلاغة. ولم يعرف قبل اليوم في تاريخ الآداب القديمة والحديثة من يعد في لغته كاتبا أو شاعرا وهو لا يعرف من قواعدها الأساسية ما يقيم لسانه وقلمه. . .)
ثم زعمت أنك درست عصرا وشاعرين في أدب أجنبي فكان من حقك أن تنقد وتؤلف بل تعلم الأدباء ضروب النقد وأصول الأدب، وكان على غيرك أن يمسك عن التأليف حتى يعلم ما علمت.
ونحن قد نقبل هذا الادعاء، ونزعم معك أنك أديب في هذه اللغة الأجنبية، ولكنا لن نؤمن بك كاتبا في الأدب العربي، وأنت في هذا المستوى من الثقافة العربية وهذا الضعف البادي في الأسلوب.
وأخيرا نرجو أن تطامن من الغرور، وأن تتريث حتى يكشف الواقع وأحكام الناس عن مكانتك. فلا تسرف في الفخر ولا تمد بصرك إلى آفاق لم تتزود لها بأسبابها. واعلم أن الغرور في كل عمل سر العجز وعلامة التقصير.
حنتوب - وادمدني
أحمد أبو بكر إبراهيم
البريد الأدبي
(ساهم والأقلام الحمر)
قرأت في الرسالة الغراء) 879 (تحريا في اللغة للأستاذ عبد الجواد سليمان قال فيه أنه (يرى أن كلمة (ساهم) تؤدي معنى الاشتراك، ولا غبار علينا إذا استعملناها في هذا المعنى) وذكر الأستاذ دليله على ذلك بيتا لشاعر أموي هو الحكم بن معمر الخضري وبيته: -
تساهم ثوباها ففي الدرع غادة
…
وفي المر طلغاوان ردفهما عبل
وأضاف الأستاذ إلى ما سبق قوله (ولا يمكن أن يكون معنى (تساهم) هنا إلا الاشتراك في الاقتسام. فلعل الأفلام الحمر ترحم هذه الكلمة وتهبها حريتها لتعيش) وأقول أن ما أستنتجه الأستاذ من معنى (تساهم) صواب وقد ذكرته المعاجم جاء في المنجد (الطبعة التاسعة 1927) في مادة (سهم) تساهموا الشيء: تقاسموه) والأفلام الحمر لا خصومة لها مع (تساهم) لأنها شرعية التكوين، ولكنها ستستمر في مطاردتها (ساهم) فلم تثبت لها المعاجم أصلا ولم يجد الباحثون في ما يحتج به من الشعر ما يبرر قبولها، أما قول الشاعر الخضري فقد ورد في حماسة أأبيتمام (1) على هذه الرواية:
تساهم ثوباها ففي الددرع رأدة
…
وفي المرط لغاوان ردمنهما عبل
وتساهم فعل ماض أي اشترك ثوباها الخ. وجاء عن هذا البيت في الموجز من شرح التبريري على حماسة أبي تمام: (التساهم: التقاسم) فدلنا بالمدر على صيغته الماضيةلأنصيغة (التفاعل) لا تأتي إلا من (تفاعل). ولو كانت رواية البيت: (يساهم ثوباها) لصح أن يكون شاهدا أي ألا يكون مضارعا لساهم.
الحلة (العراق)
أحمد حسن الرحيم
جهود أديب مصري في أمريكا:
الدكتور أحمد زكي أبو شادي أديب مصري معروف، ورائد من رواد حركة التجديد في الشعر الحديث.
وهو منذ سنين يشغل منصب أستاذ الأديب العربي في جامعة آسيا بنيويورك.
وهو فوق ذلك دائم العمل والنشاط في سبيل أداء رسالته الثقافية والدعاية لمصر وأدبها في أمريكا الديمقراطية.
فهو يحرر في المجلة العربية الموسومة (أمريكا) التي توزع في العالم العربي، ويحاضر في محطة إذاعة (صوت أمريكا) العربية فيلقي فيها محاضرتين كل أسبوع، في دراسات تتصل بالتاريخ والأدب والشعر والفن في أسلوب قوي، وعرض شامل للفكرة. وتنقل محطة لندن كثيرا من هذه المحاضرات فتذيعها في برامجها العربية. ومن محاضراته في (صوت أمريكا) حديثه (الفتان الجبار)، وحديثه عن الشاعر أحمد نسيم الذي أذيع في 31 أغسطس الماضي تحية لذكرى ميلاد وهذا الشاعر الجليل (ولد أحمد نسيم في 31 - 8 - 1878م)، وقد تمنى الدكتور أبو شادي أن يصدر مربدوه الجزء الثالث من ديوانه.
والدكتور أبوشاديالآنيعد محاضرات عن أستاذه حمزة فتح الله وغيره من أعلام النهضة العربية الحديثة.
وفوق إذاعاته فهو يعمل في مراجعة تأليف تترجم في مصر أو في الولايات المتحدة، وفي التعليق على أفلام ثقافية، وفي غير ذلك من الأعمال الثقافية والأدبية. وقد أصدر هناك عدة دواوين شعرية منها ديوان جديد سماه (من السماء).
فجزاه الله عن مصر وعن الأدب العربي خير الجزاء.
محمد عبد المنعم خفاجى
أستاذ بكلية اللغة العربية
اذكروا محاسن موتاكم:
قرأت في (الرسالة) مقالا عن (شوقي) في مطلع أسبوع ذكراه، كتبه الأستاذ (محمد سيد كيلاني)، فسرني أن يذكر الأدباء أمير الشعراء، وأن يمجدوا ذكرى شاعر عبقري، ألهب الشعور الوطني، وتغنى بمصر، وماضيها، وعلم أبناء الجيل بلغة القوافي دروسا في الوطنية لا تنسى. . .
وما كدت أقرأ المقال حتى فوجئت بما لم يكن في حسباني. . . وإذا بالمقال عن قصة
(هروب) شوقي من الحج مع الخديوي وركبه. . . وإذا بالكاتب يروي عن صاحب الذكرى ما لا يصح أن يروى. . فقد هرب من الحج. واعتبره مقصرا في أداء الفرائض الدينية. . وأنه (كان يقيم في داره بالمطرية الحفلات الساهرة الراقصة حيث الكأس والطاس وغير ذلك مما لا داعي لذكره). . ولا شك أن (غير ذلك مما لا داعي لذكره) تحمل الكثير من المعاني، التي لا تخفى على ذكاء القارئ!. . .
ثم يتابع الكاتب حديثه عن (شوقي) فيقول:
(والشيء الذي لا مراء فيه أن شوقيا كان مهملا لفرائض الدين عدا الزكاة، فلم يعرف عنه أنه دخل مسجدا أو صام يوما يكفر عن سيئاته ويخفف به أوزاره، وكان في حياته ماجنا خليعا، مفرطا في شرب الخمر، مرسلا نفسه على سجيتها). . .
ولا يقف عند هذا الحد، بل يواصل حملته فيقول:
(فقد كان ينظم القصيدة وهو ثمل فلا ترى فيها غير البكاء على ما أصاب الإسلام والمسلمين والدعوة إلى النهوض والاتحاد تحت لواء الخلافة والحث على التمسك بالفضائل ومكارم الأخلاق حتى لتحس كأنك أمام واعظ يهدي إلى سبل الرشاد. كان يفعل هذا عقب انصرافه من مجلس خمر أو خلوة يرتكب فيها فاحشة).
بهذا الأسلوب، وبتلك العبارات، سطر الكاتب مقالة عن (شوقي). . فأقام من قلمه حسيبا على الشاعر، معددا سيئاته، كأن حياة الرجل كانت كلها عبثا، ومجونا، وفسقا، وفسادا؟!.
لقد آلمني هذا التعريض والتجريح الذي فاض به المقال عن أمير الشعراء، في مطلع أسبوع ذكراه. . فهل هذا هو التمجيد لذكراه. . أو بهذا تمجدون ذكرى الشعراء؟!. . .
ومن منا يل سيدي معصوم من السيئات؟!. . ولماذا لا تفسر اعتذاره عن تأدية فريضة الحج - وأقول اعتذاره ولا أقول هروبه! - بعذر آخر!. .
وحسبي أن أهمس في أذن الكاتب الفاضل بالحديث الشريف فأقول: (اذكروا محاسن موتاكم)!. .
عيسى متولي
القصص
الراقصة مارجو
للأستاذ نجاتي صدقي
تدب الحياة في حي الملاهي بعد الساعة الثامنة مساء فتشتد فيه الحركة وتتلألأ الأنوار الملونة في جميع أرجائه، منها ما يشير إلى الإعلان، ومنها ما هو خاص بلافتات المحال التجارية، ومنها ما يدل على الملاهي والمراقص، ويضاف إلى ذلك أنوار السيارات التي تخترق الشوارع طولا وعرضا. . . هذه هي أنوار الأرض الاصطناعية.
وأما في السماء فتنتشر النجوم الساطعة منها ما يلتقي شرفا بأضواء لبيوت الجبال الشاهقة فتهبط وإياها برفق على السفوح وتتملك المرء الحيرة في أمر هذه السماء التي تشبه ستارا من نور ينسدل على الأرض.
وذهبت ذات ليلة مع صديق إلى مرقص يقع في هذا الحي لنرفه عن نفسنا قليلا ولنمتع النظر بالمشاهد الفنية التي تقوم بها الراقصات اليونانيات والإيطاليات والمجريات وغيرهن.
وبعد أن أتمت الراقصات أدوارهن انتشرن حول الموائد وأخذن يتحككن بالحضور ويطلبن منهم السماح لهن بمجالستهم ومداعبتهم لقاء (كأس) من الخمر فقط.
ولا أدري كيف جلست مارجو إلى مائدتنا كما أنني لا أدري من الذي دعاها إلى مشاركتنا مسرتنا. . . وأخذت مكانها بيني وبين صديقي وصفقت بيديها طالبة من الخادم كأسا من الويسكي.
والراقصة مارجو هذه في الثلاثين من عمرها جميلة الصورة، وشعرها أقرب إلى لون الخرنوب منه إلى السواد، وعيناها ترسلان إشعاعا ساخرا، وفمها عنابي صغير الحجم، وشفتاها منفرجتان قليلا، وأنفها معتدل جميل الهندسة، وهي على الجملة ضحوك لعوب سريعة التعرف إلى الناس.
وعكفت مارجو تحدثنا دون تكلف وتمازحنا وتماجننا وتروي لنا النكت بلغة عربية مشوهة يلذ للمرء أن يستمع إليها طويلا.
ثم صفقت بيديها ثانيا وطلبت كأسا أخرى من الويسكي واستمرت مارغو تروي لنا النكت
ونحن نضحك ثم راحت توزع علينا عطفها فتارة تميل إلى جانب صديقي وتقبله في عنقه، وتارة تميل إلى جانبي وتقبلني في وجنتي. تطوقنا بذراعيها العاريتين وتسألنا بالتناوب: أتحبني؟. فأخذتنا النشوة وكنا نقول لها معا: نحبك. . ونعبدك. . ما أنت فلأي منا تميلين ذلك أكثر؟ فتقهقه وتجيبنا أنتما الاثنان أعز لدي من روحي. . . وتغمرنا بالقبل الحارة.
ثم صفقت بيدها ثالثة وأمرت الخادم قائلة، هيئ مائدة العشاء.
وسألتنا أيمكنني العشاء معكما؟ فتحركت فينا النخوة العربية وقلنا لها لا يجوز لكي أن تطرحي علينا سؤالا كهذا. تفضلي واطلبي ما تريدينه من عشاء.
وكان العشاء مزيجا من لحم الديك الرومي والبطاطس المحمرة والخضار المشكل والسمك المقلي، والسلطات، والحلويات ثم رفعت الصحون وعدنا إلى شرب الويسكي.
ويبدو أن مارغو قد ثملت قليلا ودبت الحرارة في شرايينها فصارت تصفق بيديها بين الفينة والفينة، وتطلب كأسا من الويسكي. وأخيرا مالت علي وقالت: أي نور عيني - لقد سئمت الويسكي أتسمح لي بطلب زجاجة من الشمبانيا؟ أرجوك. فاحمر وجهي خجلا، وصعب علي أن أرى فتاة تستعطفني، فقلت لها: تفضلي واطلبي. . فصفقت مارغو بيديها ونادت بأعلى صوتها: جورجي! إيتني بزجاجة شمبانيا في صطل ثلج.
ومما أثار دهشتي ودهشة زميلي أن جميع الراقصات وأصحاب المحل والخدم كانوا يرقوننا بنظرات غريبة هي مزيج من الازدراء والشفقة.
وجاءت زجاجة الشمبانيا وأفرغناها في أجوافنا، وهنا شعرت أن زمام الأمر انتقل إلى يدي مارغو فراحت تأمر وتنهي كما تشاء. . فطلبت زجاجة ثانية من الشمبانيا. وألحقتها بزجاجة ثالثة. . والخدم يلبون أوامرها ويكدسون أوراقا مقلوبة على وجهها تحت صحن اللوز والبندق. . ولما قاربت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل صفقت مارغو بيديها وقالت: جورجي. . . هات حسابك.
فجاء جورجي مسرعا ومن ورائه أصحاب المحال والعازف على (الأوكرديون) زأخذ يجمع ويضرب وقال: - ستون جنيها وأربعة وأربعون قرشا.
فتطلعت إلى صديقي فرأيت عينيه تدوران في الحدقتين. . ثم أخرج من جيبه أربعين جنيها وأخرجت أنا المبلغ الباقي. . . وأدينا الحساب ثم قالت لي مارغو: اعطني عشرة جنيهات،
خمسة فخمسة!. قلت: ولماذا؟. . قالت لا تسل!. فامتثلت لأمرها ونقدتها عشرة جنيهات خمسة فخمسة. فصرخت قائلة: جورجي. خذ هذه الجنيهات الخمسة لك. ثم نادت اليكس فاقبل العازف على الأوكرديون ونقدته خمسة جنيهات أيضاً وقالت له اعزف لنا ألحانا شجية. . وشرع اليكس يعزف (سريناد الحب) لنوبرت، (الرابسودية المجرية) للبست، و (فالد الدانوب الأزرق) للستراوير. ثم نهضت مارغو ونادت بأعلى صوتها: أوركسترا اعزفوا (فوكستروت) عنيف. . وأخذتني من يدي وقادتني إلى حلبة الرقص ولم يكن فيها أحد غيرنا، وكنت أدور معا فاقد الوعي من أثر الخمر، وأصابني دوار شديد، وكانت هي تطوقني بذراعيها وتدور، وأنا أضحك كالأبله وهي تصرخ. . أوركسترا اعزفوا بعنف. . بسرعة. . فاختلطت الأنوار في رأسي بالألحان الموسيقية وبالراقصات وبالموائد والخدم. . نم وقعت على الأرض فرفعني الخدم وأعادوني إلى كرسي. ومارغو تضحك وتترنح ذات اليمين وذات اليسار وتقول: يا لعيبك. أتقع!.
وقدمت لنا القهوة المرة فصحونا قليلا وشعرنا بأننا ارتكبنا حماقة لا مثيل لها، وشعرت مارغو بأننا أسرفت في الاستخفاف بنا، فأحبت أن تواسينا وقالت: لا تحزنا فنصيحتي إليكما ألا تقدما في مرة أخرى على دعوة راقصة إلى مائدتكما. . احضرا إلى هذا الملهى إذا شئتما، وتفرجا على المشاهد الفنية، ولكن لا تجالسا الراقصات.
ثم راحت مارغو تروي لنا قصة. . قالت: (أنني حقيرة في نظركما أليس كذلك؟. . آه يا عزيزي سامحني على ما بدا مني، أنني شقية مسكينة. . كنت في صباي على قدر وافر من الجمال فعشقني شاب وسكنت وإياه في بيت فرش بأفخر الفراش وكانت لنا سيارة وكان لنا خدم وكنت أتصرف بماله كما يحلو لي. وقضيت ثلاث سنوات وأنا أعاشر ذلك الثري فألححتعليه أن يتزوجني زواجا شرعيا فكان جوابه أن هجرني ونبذني. .
فصدمت في آمالي وشبابي وانتقمت من الحياة ومن نفسي بأن التحقت بالملاهي. . وما أناالآنإلا فتاة من فتيات الملاهي، وحياتي هذه تفسر لكما عطفي على الخادم والعازف على الاكورديون، ومنحي لكل منهما خمسة جنيهات. . انهما فقيران مثلي ومسئولان عن عائلتين كبيرتين. . لا تحزنا أيها الصديقان العزيزان. . هيا بنا الآن فقد شارفت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل.
أما صديقي فقد نهض على عجل ولبس معطفه وقال أسعدتما صباحا. . واختفى وتشبثت بي مارغو وهي تقول: لا تقتف أثره. . خذ هذا مفتاح نزلي وهو يقع في شارع البوارديه رقم 13. . اذهب فانتظرني عند الباب الخارجي. أفهمت قصدي من ذلك؟ أنني لا أريد أن يشعر صاحب المحل أو الخدم أن في الأمر ما يسيء إلى سمعتي!.
واستأجرت سيارة أوصلتني إلى بيت مارغو فاستفهمت من السائق عن هذا البيت فقال لي هذا سكن بعض بنات الملاهي. . فانتظرت قليلا عند الباب الخارجي وإذا بفتاة تلقت بمعطف أبيض تحاول الدخول إلى السكن لكنها سرعان ما ارتدت على عقبيها عندما رأتني مستندا إلى الباب وأنا أدخن لفافة من التبغ. . وبعد خمس دقائق عادت هذه الفتاة وبرفقتها ثلاثة حراس، فلما صاروا بالقرب مني قالت لهم: ما الذي يدعو هذا الرجل إلى الوقوف عند نزلنا؟. . أن قلبي يحدثني بأنه يتربص بي أو بإحدى زميلاتي. . أنه أحد الناقمين علينا. . فتندم حارس مني وساءلني بلهجة شديدة: ماذا تفعل هنا لا في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل؟. فأجبته بلسان معوج، أد. . أد - تظرما. رغو!.
فقالت الفتاة للحراس. . أسمعتم. . فاقتادوني إلى المخفر عنوة وقضيت فيه ليلة ليلاء!
نجاتي صدقي