المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 904 - بتاريخ: 30 - 10 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٩٠٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 904

- بتاريخ: 30 - 10 - 1950

ص: -1

‌معاني الهجرة

للأستاذ واصف البارودي

نحن اليوم في سنة 1370 من هجرة محمد بن عبد الله، النبي العربي، المختار من ربه، الخالق المنعم، لدخول قدس أقداس الحياة السرمدية. . . فاطلع على أدق أسرارها خفاء في الأزل، وعلى ألطف معانيها خلودا في الأبد، وأكتشف ما في الحياة من نواميس تتحقق بها سعادة الإنسان بتحقق إنسانيته، فردا ومجتمعا، في دنياه وآخرته!. . .

1369 سنة مضت على هجرة محمد بن عبد الله، باعث نهضة العرب ومحقها، وهو المصطفى من رب العالمين، جلت حكمته، لحمل رسالة إلهية تنير ظلام الأفئدة، وتهز كيان الأرواح في الأجساد، فتتجه النفوس، في أتباعها طائعة مختارة، إلى ما تقتضيه تلك النواميس الإلهية، نواميس الحياة، من إيمان وثبات وإقدام، وعزم وتضحية وإخلاص، تنعم بها إنسانية الإنسان في تحقيق ذاتيتها!. . .

نحتفي اليوم بذكرى مرور 1369 سنة على هجرة محمد بن عبد الله، العربي المتحرر، بإرادة علوية قديرة، ليكون الهادي لطريق الحق الذي يتحرر في سلوكه عباد الله، من قيود الوثنية الظالمة، ومن طغيان أوثان المستعبدة - أوثان الحجر وأوثان البشر وأوثان النفوس، وقد اتبع ما أوحاه إليه ربه في كتابه الحكيم - قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.

(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي. . .) هذا ما أمره به ربه! فلا مندوحة له إذن عن تحمل أعباء الرسالة وفق نواميس الحياة البشرية. . سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا!. . .

الدعوة دعوة إلى الله، والدين دين الله. . ومهمة صاحب الرسالة تبليغ تلك الدعوة، وتثبيت أركان ذلك الدين!! فهل يتم له ذلك، وهو بشر، إلا بالصبر على الأذى وبتحمل المكاره، أولا، ثم بالجهاد، في أوسع معانيه - من جهاد نفس، تثبيتا للجنان في مواقف الضعف والهوان، وجهاد قتال، دفاعا عن الحرية، وحماية للحق الذي يجب أن يصان؟. . .

رسالة النبي رسالة تجدد وتحرر. وقد تسامت رسالة محمد بن عبد الله في الدفاع عن حرية الإنسان إلى درجة أبت معها أن تكره أحدا على إتباع الدين، وقد تحمل صاحبها ما تحمل في سبيل الدعوة إليه، وفي سبيل نشره وتثبيت أركانه في القلوب!. . فأوحى إليه ربه

ص: 1

صريح قوله - (لا إكراه في الدين). . . فتقررت بذلك حرية العقائد بين البشر، ما دامت العقائد تحترم الحرية، وما دامت متحررة في طغيان الأوثان ومن قيود طاغوتها.

وقد كان محمد بن عبد الله، صاحب هذه الذكرى، خير قدوة للبشر في التحرر، وخير معاني أوضح معاني الحرية على حقيقتها، في التفكير وفي الشعور وفي النزوع، قولا وعملا. ولم يكفه هذا، وقد تحمل في سبيله أنواع الأذى والآلام، بل عقد النية على الجهاد في سبيل الدفاع عن حرية الإنسان، فهاجر هجرة الجهاد.

والجهاد، ليس هو، في حقيقته، مطلق الحرب والقتال! وإنما هو حرب في سبيل الله دفاعا عن مثل عليا، من حق وخير وجمال، الله جامعها. وهو قتال لا هوادة فيه، صونا للحرية من أن تشوه حقيقتها، أو أن يعتدي على قدسيتها طغاة الأوثان. فليس التعدي على حقوق الغير جهادا، وليس في الضغط على حرية الإنسان، في تفكيره وشعوره ونزوعه، وفي التعبير عنها، أي معنى للجهاد؛ وإنما هما قتال عدوان وطغيان أوثان!

فالجهاد الذي تغذيه المثل العليا، المتحررة المحررة، هو من المعاني الأولى التي تتضمنها هجرة الرسول العظيم وصحبه الميامين. فما وجدت في القرآن الكريم آية ذكرت فيها الهجرة، إلا ذكر معها الجهاد في سبيل الله. فقد ورد، مثلا في سورة البقرة، قوله تعالى - (أن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، أولئك يرجون رحمة الله، والله غفور رحيم) وهكذا في سورة آل عمران والأنفال والنحل والحج. ففيها جميعها آيات بينات تقرن الهجرة بالجهاد وتنص دائما على أن تكون في سبيل الله، أي في سبيل المثل العليا، والله جامعها، لتحرير البشر من تحكم الاغيار ظلما واستعبادا!. . .

فالهجرة إذن هجرتان - هجرة جهاد في سبيل الله وهجرة سعي في سبيل الدنيا للذة والاقتناء. والنية هي قوام التميز بين الهجرتين. وقد أوضح ذلك نبي الهجرة في قوله - (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.

فليست هجرة السعي وراء الكسب أو العيش هجرة جهاد؛ وليست هجرة الالتجاء هجرة جهاد؛ وإنما تكون هجرة الجهاد بتبييت النية، وبالتكتل الصادق، والاستعداد الصحيح للدفاع

ص: 2

عن حرية الإنسان في حياته، وللتضحية في سبيل حرية المواطن ' في بلاد ورثها عن آبائه وأجداده، ولمحاربة طغيان الأوثان، ومكافحة الظلم والاستعباد.

ولهذا كان على من يرغب في هذه الهجرة أن يستبقها بهجرة روحية، هي هجرة النفس إلى ربها، تحقيقا للآية الكريمة - (فآمن له لوط، وقال إني مهاجر إلى ربي، إنه هو العزيز الحكيم) وبهذه الهجرة يتحقق الإيمان الصحيح، دون التواء ولا نفاق.

وأنت إذا تأملت في آية الهجرة التي وردت في سورة البقرة - (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله). لوجدت أن الهجرة قد ذكرت بين حالتين - حالة الإيمان وحالة الجهاد. فالهجرة إذن، في حقيقة معناها نتيجة طبيعية للإيمان تستلزم الجهاد. وهي هجرة رياضة روحية، تتصل بها الروح بربها لتنقذ من قيود التقاليد البالية، ومن تعسف طغيان الأوثان، على أنواعها، وهجرة نشاط عملي يتنقل بها الإنسان إلى حيث يتسنى له الاستعداد للجهاد الذي تستلزمه، إنقاذا للحرية الإنسانية التي أرادها الخالق لعباده.

ولا فرق بين أن يكون المكان بعيدا أو قريبا، فالشأن كل الشأن في وجود الأنصار الصادقين، وفي التكتل والانسجام في إيمان صحيح، وبنية خالصة. وهذا ما جرى للرسول الأعظم وصحبه الميامين، تحقيقا لرسالته الإنسانية، المنسجمة مع حكمة الله في نواميس الحياة.

فليست أهمية هجرة الرسول في الانتقال من بلد إلى بلد، وإنما تتجلى أهميتها وتبرز أدق معانيها السامية في اختيار الوقت الملائم بعد تركيز عقيدة الإيمان، وتثبيتها في نفوس نساء ورجال، يتكونون بها تكونا إنسانيا جديدا، فيولدون ولادة ثانية، يتحررون معها مما يرسفون فيها من قيود التفكير والشعور، وينقذون بها من إرث الاستسلام لطغيان الأوثان: أوثان النفس في داخل كيانها، وأوثانها في صلتها مع كون هو خارج عن وجودها الذاتي، أي مع محيطها. أولئك النساء وأولئك الرجال هم أناس يعرفون كيف يبيعون نفوسهم في سبيل الله، أي في سبيل العقيدة التي انعقدت عليها قلوبهم في صميم الأفئدة، وفي سبيل المبادئ والمثل العليا التي تستلزمها تلك العقيدة. وبذلك وحسب تستكمل الأمم نهضتها وتحقق أمجادها. .

إن الإسلام وقد كان الحافز القوي للعروبة في وثبتها لتحرير البشرية، وفي نهضتها لتكوين حضارة إنسانية محررة، تصل الأجيال في ماضيها وحاضرها ومستقبلها؛ إن هذا الإسلام

ص: 3

كان في زمن الهجرة، عند مفترق الطريق. فأما وثوب وتقدم، واعتلاء ومجد، وإما إنكماش وتقهقر وتلاش وفناء!. . . فالوضع كان إذن، بالنظر إلى المسلمين العرب، أو العرب المتجددين، وضع موت أو حياة. فجاءت الهجرة محكا يميز الخبث من الطيب. ويفرق بين النفاق والإخلاص. ولا قيام لمبدأ قويم، ولفكرة صحيحة، إلا بجهود المخلصين من المؤمنين! فلا يتعلق أمر النجاح على الكمية، وإنما على الكيفية وحدها يتوقف النجاح في الجهاد.

فمعنى الهجرة أوسع مدى من أن يحصرها حديث، ولعلها تتلخص في إستلزام الجهاد لفكرتها بعد إيمان صحيح وعقيدة راسخة؛ ونجاحها في حسن اختيار الوقت الملائم مع الاستعداد التام للحوادث، وفي اكتشاف المؤمنين المخلصين والمؤمنات المخلصات، وفي الاعتماد على هؤلاء مهما قل عددهم؛ ولا اعتبار للكمية في الحياة. والهجرة مع ذلك كله عزم وإقدام وثبات وتضحية وإخلاص.

فهل لنا، وندائي للمواطنين في البلاد العربية جمعاء، مسيحيين ومسلمين. . . هل لنا وقد استدار الزمن وأصبحنا في وضع يجب فيه أن نتعاون جميعا على نهضة وطنية قومية صادقة، أن نستمد من معاني الهجرة قوة نستعيد بها المجد الضائع؟. . . أم سنظل على زهونا في ترديد الألفاظ وتبادل المجاملات، نتسابق في حلبة الإطناب في الأقوال، والافتخار بما نقول؟. . . كأني بنا وقد أصبحنا نرى أن لا واجب علينا بتجاوز حدود هذه الأقوال، والزهو بما فعل الأقدمون!. . . وقد أصبح الذكي العبقري فينا من يعرف كيف يستغل تلك الذكريات العظيمة لمصالح خاصة حقيرة، بالنسبة لما يجب أن يتحقق بها في ذات إنسانية الإنسان، من معان ومن أمجاد!. . .

اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد بن عبد الله، وعلى صحبه الميامين، من مهاجرين وأنصار، وقد أمرتهم بالهجرة، فأجابوا داعي الله. اللهم اهدنا سبيلك، ووفقنا لتفهم حقيقة التحرر في معاني تلك الهجرة التي غيرت وجه التاريخ! وأرشدنا للعمل الصالح لنا ولجميع البشر، لتهنأ الإنسانية بالسلام والطمأنينة والسعادة! وأنقذنا، اللهم من قيود عقولنا، ومن استسلام نفوسنا، حتى ندرك معنى قولك، وقولك الحق، في كتابك المنزل -

(إن الله لا بغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

ص: 4

صدق الله العظيم!. . .

بيروت

واصف البارودي

المفتش الأول في وزارة التربية الوطنية

ص: 5

‌ذكرى كربلاء

دم الحسين

للأستاذ علي العماري

في العاشر من المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة وقع حادث عظيم ارتاعت منه قلوب المسلمين، ولا تزال ترتاع منه القلوب كلما جاء ذكره في اليوم العاشر من المحرم، ذلكم الحادث العظيم هو قتل الحسين بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد شباب أهل الجنة.

وكان المسلمون من شيعة علي يحتفلون بذكرى مقتل الحسين، يتمكنون من ذلك في بعض السنين، وفي بعض البلدان، ويمنعون من الاحتفال بهذه الذكرى كلما وقعوا تحت سلطان حاكم لا يتشيع لأهل البيت، وظلوا كذلك حتى كانت دولة البويهيين في بغداد، فجعلت الاحتفال بذكرى مقتل الحسين أمرا رسميا يلزم به جميع الناس، فقد أمر حاكم بغداد معز الدولة ابن يويه في سنة 532هـ (أمر الناس أن يغلقوا دكاكينهم وأن يبطلوا الأسواق، والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قبابا عملوها بالمسوح وأن يخرج النساء منشرات الشعور، مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن، ويدرن في البلد بالنوائح ويلطمن وجوههن، ويبكين على الحسين بن علي رضي الله عنه، ففعل الناس ذلك، وصارت عادة توارثها الناس.

وقد أردت أن أجول جولة تاريخية، وأؤلف بعض الأخبار لأحيي ذكرى مقتل أبي الشهداء.

كان النزاع قديما بين بني هاشم قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين بني أمية قبيلة أبي سفيان أبن حرب، وكانت بنو هاشم أعظم وأشرف - فلما جاء الرسول منهم زادهم رفعة وشرفا، وكما قال معاوية بن أبي سفيان وقد قيل له: أخبرنا عنكم وعن بني هاشم فقال: بنو هاشم أشرف واحدا، ونحن أشرف عدداً - فما كان ألا كلا، ولا، حتى جاءوا بواحدة يذت الأولين والآخرين. يريد النبي صلى الله عليه وسلم، وبقوله: أشرف واحدا: عبد المطلب بن هاشم، ولم يستطع الأمويون أن يرفعوا رؤوسهم في عهد رسول الله، ولا في عهد الخليفتين من بعده. فلما كانت خلافة سيدنا عثمان - وهو منهم - استطاعوا أن يتحكموا في سياسة المسلمين، وظلوا كذلك حتى قتل عثمان، ثم قام النزاع بين علي

ص: 6

ومعاوية، ذلك النزاع الذي انتهى بقتل أبن أبي طالب كرم الله وجهه، واستقرار الملك لابن أبي سفيان، وظل معاوية في خلافة المسلمين عشرين عاما، وقد رأى قبل وفاته أن يجعل الملك وراثيا، فأخذ البيعة لابنه يزيد، ولكنه كان يعلم أن في المسلمين رجالا تتجه إليهم الأنظار، وتدين بحبهم القلوب، لذلك أوصى يزيد عند احتضاره فقال:(يا بني أني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وأني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك ألا أربعة نفر من قريش؛ الحسين ابن علي، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الحسين بن علي فأن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه فأن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فأن له رحما ماسة، وحقا عظيما، وأما ابن أبي بكر فرجل أن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثلهم، ليس له همة ألا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد وبراوغك مراوغة الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير، فان هو فعلها بك فقدرت عليه، فقطعه إربا إربا).

وتولى يزيد الخلافة، ولم يكن بالخليفة المحبوب من المسلمين، فثارت عليه مدينة رسول الله، ولكنها لم تنجح في ثورتها، فهزمتها جيوش يزيد، ودخلتها، وأباحتها ثلاثة أيام. على أن أعظم حادث في عهد يزيد بل في عهد الدولة الأموية كله ما وقع للحسين بن علي وآل بيته، فان الحسين لم يرض عن سيرة يزيد وكان يرى أن من واجبه أن يجاهد هذا السلطان الجائر، المستحل لحرم الله، المخالف لسنة رسول الله، ووجد في العراق متسعا لدعوته، وميدانا لجهاده، بعد أن كثرت رسائل العراقيين إليه، يدعونه، ويلحون في دعوته، فما هو ألا أن انتهت أيام الحج من تلك السنة سنة إحدى وستين حتى خرج يريد الكوفة، ومع أن الحسين سمع في طريقه ما يشككه في نوايا أهل العراق وإخلاصهم إلا أنه كما قال الشاعر:

إذا هم ألقى بين عينيه عزمه

ونكب عن ذكر العواقب جانبا

لما خرج من المدينة لحق به أحد كبرائها فقال: أين تريد؟ قال: أريد العراق، قال له: ارجع، فأبى، فقال: أحدثك حديثا ما حدثت به أحدا قبلك، أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وأنكم بضعة منه، فوالله لا يليها أحد

ص: 7

من أهل بيته أبدا، وما صرفها عنكم ألا لما هو خير لكم، فارجع فأنت تعرف غدر أهل العراق، وما كان يلقى أبوك منهم، فأبى الحسين، فاعتنقه وقبله وبكى، وقال: استودعتك الله من قتيل!

ولما خرج من مكة لقيه الفرزدق الشاعر مقبلا من العراق، فقال: إلى أين يا حسين؟ قال: إلى الكوفة، قال: ارجع فمالك فيها خير، قال: بين لنا خير الناس، قال: قلوب الناس معك، وسيوفهم عليك، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء. فقال الحسين: لله الأمر، يفعل ما يشاء. ثم حرك راحلته وسار، وما لاقى الحسين في طريقه أحدا يعرف إخلاصه وصدقه ألا نصحه بالرجوع، وأكد له أن ليس له في العراق خير، ولكنه عزم وصمم لأمر أراده الله، والله بالغ أمره.

كان الحسين في عدد قليل من أصحابه لا يبلغ المائة، وكان جيش العراق الذي قابله أربعة آلاف، فوجد أنه لا طاقة له بالقتال، فعرض عليهم أن يقبلوا منه واحدة من ثلاث، أما أن يرجع إلى مكة، أو يذهب إلى يزيد الخليفة في الشام، أو يذهب إلى ثغر من ثغور المسلمين يحارب فيه حتى يموت، وهنا تظهر الأحقاد القديمة، فيتمثل ابن زياد بقول الشاعر:

الآن إذ علقت مخالبنا به

يرجو النجاة ولات حين مناص

فلا يقبل الجيش منه إلا أن يذهب إلى الوالي عبيد الله بن زياد ليرى فيه رأيه. يا سبحان الله، الحسين بن علي بن أبي طالب ابن فاطمة الزهراء صاحب السبق والسابقة في الإسلام يذل فيكون أسيرا في يد ابن زياد الذي لا يعرف له نسب! لذلك أبى الحسين - وكان أبياً - أن يجيبهم إلى ما طلبوا، وقال: كلمته النبيلة: لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد. ثم تظهر الأحقاد القديمة مرة أخرى، فيكتب ابن زياد إلى قائد جيشه: أما بعد فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان. فحالوا بينه وبين الماء، ذلك الماء الذي يشرب منه اليهودي والنصراني والمجوسي يمنع منه ابن بنت رسول الله! ويعجبني ما كان يفعله الصاحب بن عباد، فانه كان إذا شرب ماء باردا حمد الله ثم قال: اللهم العن من منع الحسين الماء.

وجد الجد، وأمكن الناس دم الحسين، ولكن أكثرهم تهيبه. ومن قبل عرض علي والي

ص: 8

المدينة، وكان ابن عم الخليفة أن يقتل الحسين أن لم يبايع فقال: والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت حسينا. سبحان الله! أقتل حسينا أن قال لا أبايع، والله أني لأظن أن أمرا يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان.

وقد طال تردد رجال الجيش، وكان كل واحد منهم يتمنى أن يبوء غيره بدم الحسين، حتى تقدم شقيهم فأصاب الحسين، ثم تقدم الأشقى فذبحه رضي الله عنه كما تذبح الشاة.

وتصور لنا كتب التاريخ ما أصاب الذين اشتركوا في دم الحسين، فقد كان دمه شؤما على كل الذين أصابوا منه، فالفارس الذي احتز رأس الحسين لم يمهله الله إلا ليلة واحدة، فانه حمل الرأس، وذهب جذلان فرحا إلى والي الكوفة، وهو ينشد:

أوقر ركابي فضة وذهبا

أني قتلت الملك المحجبا

خير عباد الله أما وأبا

فقال له الوالي: يا أحمق، إذا كان خير عباد الله أما وأبا فلم قتلته؟ اضربوا عنقه. والفارس الذي منعه الماء مات عطشان بالرغم من أنه كان يسقى الماء حتى يبغر، ثم يعود يشرب حتى يبغر، وما زال كذلك حتى لفظ أنفاسه. والشقي بحر بن كعب - وقد سلب الحسين لباسه - كانت يداه في الشتاء تنضحان الماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود. وأما عمر بن سعد قائد الجيش فقد قتل - فيما بعد - في داره. وأما عبيد الله بن زياد والي العراق فقد قتل في ثورة المختار الثقفي، وذهبوا برأسه إلى علي بن الحسين فوصلوا إليه ظهرا، وهو يتغدى فقال: سبحان الله، ما اغتر بالدنيا إلا من ليس لله في عنقه نعمة. لقد أدخل رأس أبى علي عبيد الله بن زياد وهو يتغدى. وفي بعض الكتب أنه لما انتهب عسكر الحسين وجد فيه طيب فما تطيبت به امرأة إلا برصت. ثم خرجت الخلافة من أسرة معاوية بعد قليل، وكذلك كتب عبد الملك بن مروان لقائده الحجاج يقول: جنبني دماء أهل هذا البيت، فإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين.

(وبعد) فإلى أي حد بلغت فظاعة هذه الجريمة؟ أن بعض السلف يجيبنا عن ذلك فيقول: لو كنت فيمن قتل الحسين ودخلت الجنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يجيبنا عنه بعض اليهود حيث يقول لبعض المسلمين: أن بيني وبين داود سبعين أبا، وأن اليهود إذا رأوني عظموني وعرفوا حقي، وأنه ليس بينكم وبين نبيكم ألا

ص: 9

أب واحد قتلتم ابنه. ثم ماذا، ثم ننشد مع السيد الحميري.

امررعلى جدث الحسين وقل لأعظمه الزكيه

يا أعظما لا زلت من وطغاء ساكبة رويه

وإذا مررت بقبره فأطل به وقف المطيه

وأنك المطهر للمطهر والمطهرة النقيه

كبكاء معولة أتت يوما لواحدها المنيه

ألا رضى الله عن الحسين، ولعن الذين منعوه الماء، وجازى قاتليه بما هم له أهل

علي العماري

المعهد العلمي - أم درمان

ص: 10

‌صور من الحياة:

هوى على الشاطئ

للأستاذ كامل محمود حبيب

- 3 -

. . . وانطوت أيام وحانت ساعة الوداع، فوقف قلب - لدى الشاطئ - إلى جانب قلب يناجيه بكلمات تتأجج فيها زفرات اللوعة وتنبعث منها مرارة الأسى. وتعانق القلبان ساعة من زمان ثم افترقا ليتلاقيا - بعد حين - في القاهرة.

غادر الفتى الأسكندرية، مسرح الهوى والغرام، ومهد السعادة والرضا؛ غادرها وفي قلبه غصة وفي فؤاده شجن، فانقبضت أساريره وغامت الدنيا في ناظريه، وغم عليه وجه الرأي، فانطوى على خواطره حينا يتلمس الخلاص فلا يجده، ويطلب السلوى فتعز عليه.

ورأت الزوجة في زوجها أمراً غريباً عنها. رأته جهم الوجه مقطب الجبين ساهم الفكر، وبدا لها أن صدمات من الضيق والأسى توشك أن تخترمه فتعصر روحه وتقتل أمله، فراحت تحوم حواليه تريد أن تستشف خلجات ضميره أو أن تنفذ إلى أغوار سره فما استطاعت، وهي فتاة قروية تعوزها الحيلة وتفتقر إلى الدهاء، فأمسكت على مضض وإن قلبها ليحدثها بخطر ذي بال، والصبية إلى جانبها ينكرون إهمال الرجل لهم وانصرافه عنهم، وهو كان بهم حفيا رحيما، يداعبهم حتى تستقر نفوسهم، ويلاعبهم حتى يغمرهم البشر. أما هذه الدار فقد حال حالها، فهي الآن تعتمد على أسس واهية من نزوات طائشة تفعم قلب الزوج فتستلبه الرأي والصواب، وتقوم على عمد متداعية من الشك الذي تفهق به نفس الزوجة فينتزع عنها الراحة والهدوء. والصغار بينهما يعانون الإهمال والضياع في غير ذنب.

ومرت الأيام تذكر الفتى الساذج بتاريخه يوم أن كانت روح الدين تضطرم في نفسه فتردعه عن الغي وترده إلى الدار والزوجة والوالد؛ على حين كان الزمن يسدل أستار النسيان - رويدا رويدا على لذاذات الشاطئ التي تشق عبيرها الجذاب ورشف رحيقها الحلو، هناك في الإسكندرية على حين غفلة من الدين والزوجة، فسكنت نوازع الحماقة في

ص: 11

قلبه، وهدأت نزوات الطيش في فؤاده، غير أنه لم ينس فتاته. . . الفتاة التي تفتح لها قلبه أول مرة فرأى فيها فنونا جميلة من المرأة صاغتها يد الحضارة الصناع، فنونا جميلة جذابة أفتقدها في زوجته الريفية التي حبستها التقاليد القاسية بين أسوار من العمى والجهل.

وهبت أول نسمات الشتاء تحمل طياتها خبر قدوم الفتاة التي أحب فهب يلقاها في نشوة وطرب، وتلاقتا على ميعاد.

واستلب الفتى من وعيه - فنسى عقله ودينه، فانطلق على سننه والفتاة إلى جانبه تجذبه إليها في رفق وتسيطر عليه في هوادة وتلقاه في بشر، وتفتح أمامه باب السينما وتمهد له السبيل إلى المسرح وهو ينقاد لها في سهولة وسير، فانشغل في الدار والزوجة والولد، وطار إلى المتعة لا يعبأ بشيء، ومن ورائه زوجته تتقلب في حرقة الوحدة والريبة، وتتلظى بنار الأسى والضيق، ثم لا تستطيع أن تجذبه إلى الدار ولا أن ترده عن الغواية.

وتيقظ ضمير الفتى - ذات مرة - فأحس بأنه استعبد لفتاة من بنات حواء فشعر بمعنى القيد في رجله والغل في عنقه، فأراد أن ينزع عنه ربقة الذل، ولكن شيطانه هب - إذ ذاك - يتفلسف له فلسفة شيطانية ويوسوس له قائلا - لا عليك - يا صاحبي فهذه هي زوجة القلب تجد إلى جانبها النور والسعادة والمتاع، وتلك هي زوجة العقل تلمس في ظلها السكون والعون والخادم. ولا ضير عليك إن أنت جمعت بين زوجين في آن، لتستشعر لذاذات حرمتها زمانا) فاطمأن الفتى للخاطرة، والفتاة إلى جواره تطمع أن تكون للفتى وأن تكون هولها. وما ترامي لها - بعد - أن الفتى زوج وأب زوج وأب، فراحت تحتال الأمر بطريقة شيطانية صاغتها يد الحضارة الصناع في دقة وإتقان.

وتناهي إليها - بعد حين - أن فتاها زوج وأب فما أزعجها الخبر وما أقعدها عن الغاية التي تصبو إليها فشمرت تبتغي الوسيلة في غير ضعف ولا فتور. ولا عجب فأن في المرأة روح شيطان مارد درب على الختل والخداع والشر يبتغى الغاية فلا تعجزه الوسيلة.

وهمت الفتاة إلى غايتها تتلمس الطريق، ومن ورائها أمها العجوز تدفعها وترسم لها السبيل، وتحدثها (لا بأس عليك فهو يندفع إليك في غير صبر، ويهفو نحوك في غير أناة، ولن يحس عنتا في أن يفتديك بزوجته وأولاده)

وتظاهرت الفتاة وأمها على الفتى الساذج فختلاه عن عقله وعن رجولته، فألقى إليهما السلم

ص: 12

في ضعف، وقد أعماه الهوى الجامح عن الهوة السحيقة التي يوشك أن يتردى فيها.

ودخل الفتى دار الفتاة - لأول مرة - فألفى يد المدنية قد انبثت بين ثناياها فرتبتها على نسق يثير الدهشة والإعجاب، ووجد آثار النعمة قد تغلغلت في أضعافها فهي تتألق في كل مكان وتنبعث من كل ركن، فانجذب لها قلبه وعقله في وقت معا، وما له عهد بما يرى ويحس، فتمنى - في أعماق نفسه - لو أن له مثل هذه الدار فينعم بما فيها من ترف وثراء، ونسى أن بهرج الحضارة زيف لا قلب له ينبض، وغاب عنه أن ألق المدينة سراب لا عقل له يفكر به. وإلى جانبه أم الفتاة تمكر به في لباقة فتخدعه عن أهله وتختله عن نفسه.

آه، لقد أحس صاحبي بالحرية طفرة واحدة، الحرية التي لا تعرف الأخلاق ولا تؤمن بالكرامة ولا تسمو إلى الإباء. لقد انطلق الطائر السجين من بين قضبان القفص الضيق يبتغي الحرية والانطلاق فوجد في جناحيه الذبول وفي قوته الوهن وفي جلده الخور، فما استطاع أن يرد على نفسه المكر والخداع حين راحت عجوز من النساء توسوس له وهو يندفع على آثارها في حماقة وغي. والتاث عقل الفتى فانطلق - ذات مساء - إلى دار الفتاة التي أحب ليكون زوجا لها؛ وليكون ربا لدار التي انجذب لها قلبه وعقله في وقت معا؛ وليذر من خلفه زوجة فيها الوفاء والإخلاص، وفيها الطاعة والاستسلام، ليذرها وحيدة بين الصبية تعاني شدة القر وألم الوحدة ولذع الخيانة.

وشعر الفتى يوم أن خلا به وبفتاته المكان. . . شعر بأنه دخل الجنة التي كان يطمع فيها ونسى الزوجة الأولى هناك بعصرها الضيق ويفريها الأسى وتعركها الغربة. وعز عليها أن تعيش طويلا في هذا القيد فأرسلت إليه تقول (إذا لم تكن في حاجة إلى فسرحني سراحا جميلا ودعني أسافر إلى أهلي في القرية، فأنا هنا - كما تعلم - أجد مس الغربة والوحدة ولا أستطيع أن أتشبث بسوي رجولتك لأنني بعيدة عن أهلي وعن ذوي قرابتي أفتقد العون والساعد ولا أعرف الطريق. وأنت أخذتني من بين أهلي يوم أن أردتني لك زوجة، واليوم - حين عافتني نفسك أهيب بشهامتك أن تدفعك لترافقني إلى هناك. وهذا - ولا ريب أمر هين لا أخالك تظن به على)

وانتفض الفتى للفكرة، وجاء تاريخه الطويل يعرض نفسه وهو يسمع صرخات الدم

ص: 13

وصيحات الدين وثورات العقل، يسمعها جميعا تتعالى في جلية عنيفة لتوقظه من سبات عميق ران عليه شهورا، فأحس بالزلة الكبرى، وتبدت له أفانين المكر والخداع التي لفته بين طياته، تعميه عن الصواب وتدفعه إلى الهاوية، غير أن عزيمته المتداعية ضعفت عن أن تذر الفتاة التي أحب أو أن تهجر الدار التي أغوته. وتعاوره أمران، ثم عقد شيطانه العزم على أن يسرح الزوجة الأولى.

ثم دخل الفتى الدار التي سعد بها زمانا ثم هجرها حينا. . . دار الزوجة الأولى. . . دخلها فتدافع نحوه الصبية الأبرياء يتعلقون به في شوق، ويغمرونه بالقبلات الحارة في شغف، ويلصقون به في عناق طويل حبيب إلى النفس. وهاجت شجون الفتى الساذج وتيقظ عقله ليرى الزلة الكبرى التي هوى في قرارها حين غم عليه الأمر، فتحدرت من عينيه عبرات والزوجة الأولى ترى، فثارت عاطفتها الخالصة فاندفعت إلى حجرتها لتواري خلف الباب ضعف نفسها وبكاء قلبها. . . تحدرت العبرات من عيني الفتى لتمسح على تاريخ قصر من الحماقة والجهل والعمى، تاريخ باع فيه صغاره الأحباء بالثمن البخس، بفتاة ما فيها سوى بهرج الحضارة وزيف المدينة، بفتاة خدعته فسرقته من زوجته وأولاده.

وباتت اللصة التي تستتر وراء فنون من الدلال والأناقة والتطرية والعطر. . . تسترت وراءها جميعا لتسرق الرجل من زوجته وأولاده. . باتت اللصة تنتظر عبثا عودة الزوج الغر. . .

وطار الطائر السجين إلى قفصه حين آذاه النور وآلمته الحرية فتخبط بينهما حينا ثم ارتد إلى عشه الأمين: إلى زوجته وأولاده وهم نور عينيه وفرحة قلبه وبهجة حياته!

كامل محمود حبيب

ص: 14

‌تروتسكي

أحد مؤسسي النظام الشيوعي في الروسيا

للأستاذ احمد بك رمزي

كان تروتسكي أول ضحايا (استالين)، وفي مقدمة الذين اضطهدتهم الشيوعية الروسية بعد وفاة زعيمها لينين، مع أن تروتسكي أدى للثورة أجل الخدم. وليس لنا أن نتساءل ماذا سيكون موقف السوفيت ولا مستقبل النظام الشيوعي لو بقى تروتسكي حيا يرزق، أو لو قدر له أن يحتل مركز الزعامة، كما أنه ليس لي ولا لغيري أن يصدر حكما في صالحه أو ضده، وإنما أكتفي بأن أنظر إليه كرجل اضطهد ونفى، وتحمل أشد أساليب الضغط على حريته، وأبعد من محيط العمل السياسي والثوري في بلد يدعي أنه أقام الثورة الكبرى ضد الرأسمالية، وحطم القيود والأغلال، لكي يهب السعادة والرفاهية والعمل الصالح لأكبر عدد ممكن من سكناه: فإذا به يضطهد رجلا كان من أشد أنصار هذا النظام القائم الآن في السوفيت: خدمه كثوري وكاتب وخطيب ومؤلف، ثم كانت نهايته الملاحقة والتفنن في تعذيبه وهو في غربته، ثم قتله بصورة لا ترضي الإنسانية ولا يسلم بها العقل. فأنا إذا كتبت عنه أشيد به كرجل مثقف لقي من أنصار النظام الذي أقامه غير ما يستحق.

بين (بولتافا) و (كيرسون) نشأ ليفي دافيد وفتش برونشتاين، هناك حيث المروج الخضراء والغابات، وفي السهول التي يطلق عليها أسم (كورجان) والتي تحفظ أسم (نوجاي) التتري، أو نوجايسكايا بالروسي؛ هناك رأى الطفل اليهودي الذي حمل أسم (تروتسكي) النور، إذ ولد في قرية يهودية تقع بجوار (كيرسون) في 16 أكتوبر سنة 1879، فتروتسكي أسم لا علاقة له به وائما غلب عليه، ويدل أسم والده على تأثره بالجرمانية ولو أن يهود هذه المنطقة يغلب عليهم أنهم من سلالة (الخرز) فهم أقرب ما يكون إلى الآسيويين أو إلى الشعوب الطورانية منهم إلى الشعوب السامية، وإن كنت أعتقد أن تقاطيع تروتسكي تدل على انحداره من أصل إسرائيلي صميم.

ويقول تروتسكي في ترجمة حياته إن والده ينحدر من أسرة يهودية، كانت تقطن قرية بجوار (بولتافا) في اوكرانيا، - وهذه المدينة هي التي نسب إليها في التاريخ القائد العثماني الشهير بالطجي باشا، وصحته بولتاجي باشا، الذي أسر بطرس الأكبر ثم فك حصاره. وقد

ص: 15

هاجر والد تروتسكي متجها إلى الجنوب ومعه بعض المال، فاشترى مزرعة بجوار مدينة كيرصون، الواقعة على شواطئ البحر الأسود.

والمتتبع لتاريخ اليهود وفرقهم وسحنتهم، يلمس من أول نظرة الفرق الكبير بين يهود البلاد العربية، إذا قارنتهم بيهود أوروبا، ولكن هناك فريقا ينفرد بميزات خاصة عن يهود أوروبا هو فريق يهود الروسيا. أنهم عنصر قائم بذاته، لأنه يأتي من بلاد لا تزال القرى والمدن فيها تحمل أسماء تترية آسيوية، فهو من هذه الناحية يختلف تماما عن غيره من يهود العالم لأنه يمتاز بشدة المراس والشجاعة. والغريب أن ينشأ صاحب القلم الثوري في وسط غير عمالي، فهو يقرر أن والده كان في سعة من العيش، وأنه لم يذق قط في حياته شظف الحرمان، وأن الثورة التي دعا إليها وكافح طول عمره من أجلها، انتهت بحرمان والده من مزرعته وتشتيت أفراد عائلته الذين اضطهدوا في عهد القيصرية ثم من جيوش دنيكين وفرانجيل بحكم قرابتهم له طول أيام الحروب الأهلية، ولما جاءت جيوش البلاشفة اتهموا كرجال رأسماليين، فكان نصيبهم سيئا في الحالين.

إنني لا أزال أذكر جيدا، كيف قرأت له لأول مرة في حياتي، فقد كنا نقيم طول أيام الحرب العالمية الأولى في ضاحية المعادي، وفي سنة 1920 بعد انتهاء الحرب كنت بمحطة باب اللوق، حينما وقع نظري على كتاب بعنوان (الثورة الروسية) بقلم ليون تروتسكي، وهو على ما أذكر أول كتبه، ورغم أنني كنت في السنوات الأولى بمدرسة الحقوق بمصر، ومعلوماتنا في اللغات الأجنبية كانت محدودة، فقد استهواني الكتاب وقرأت فصوله التي تحدث فيها عن الثورة الروسية، ومحاولات عقد الصلح بين روسيا من جهة ودول ألمانيا والنمسا وتركيا وبلغاريا من جهة أخرى ولا أخفى القارئ أنني تأثرت من كتابة تروتسكي وقلمه، فانطبعت في مخيلتي الثورة وحوادثها ومآسيها، وتعرفت على أسماء البلاد الروسية وأشخاص السوفييت، فاستعملت كل ذلك في محادثاتي مع الكثيرين من الضباط الروس الذين جاءوا لمصر، كانوا يملئون شوارعها عقب هزيمة القوات الوطنية، التي حاولت إخماد ثورة البلاشفة.

كان هذا أول اتصال لي بتروتسكي، الكاتب المؤرخ للثورة الروسية التي قامت سنة 1917.

ص: 16

ثم رأيته رأى العين، وكان ذلك في استنبول حينما نفى إلى تركيا، فقد كنت أتناول الغذاء في مطعم روسي بحي (بيوغلى) حينما جاءت المضيفة وهي سيدة من الروس البيض، وأسرت إلى بأن أنظر إلى مائدة عليها جماعة من الناس، تحيط بها عدة موائد مشغولة برجال يظهر على سحنتهم أنهم من رجال الأمن، ثم قالت: ها هو تروتسكي بين الجالسين قالت هذا والفرح يشع من عينيها. أنها كانت تنتظر هذا المصير لجميع رجال البلاشفة، والعودة إلى وطنها حيث ذكريات الماضي، أنها كغيرها كانت تحلم بالفردوس المفقود. . .

ولما توجهت لتلك الناحية بناظري، رأيت عن قرب الرجل الذي كتب المذكرات التي رافقتني في ذهابي وإيابي بقطار حلوان قبل ذلك العهد بأكثر من عشر سنوات، رأيته جالسا أمامي على بعد خطوات مني، فكان أول ما لفت نظري تلك اللحية المدببة على وجه أصفر اللون، أظهر ما فيه النظارتان ثم العينان، أن لهما لونا خاصا بين الزرقة والخضرة الفاتحة، أنه قريب الشبه بالصور المنحوتة على بعض المعابد المصرية القديمة، والتي تمثل جماعات الآسيويين في هجرتهم من آسيا إلى أفريقيا. . .

رأيته رقيق الجسم أقرب إلى القصر منه إلى الطول، يحوطه شيء من الغموض والانكفاء على نفسه، فهو قليل الكلام مع من معه، مقتر على نفسه حتى في تناول الطعام.

جاء تروتسكي إلى تركيا بناء على اتفاق سابق مع السوفييت، بعد أن ضيق هؤلاء الخناق عليه إبتداء من أوائل سنة 1928، فبعثوا به إلى أواسط آسيا حيث قضى سنة على حدود أراضي الصين، ولما خفتت أصوات أنصاره وتبين للسلطات أنه لم يعد ينفع ولم يعد يضر، سمحوا له بمغادرة البلاد، ووافقوا على أن يقيم بتركيا، فنزلها في فبراير 1929 واختار أن يسكن في منزل بسيط بجزائر الأمراء، الواقعة أمام الشاطئ الآسيوي.

وكنا كثيرا ما نذهب لقضاء يوم بطوله في تلك الجزر الجميلة وفي أحد الأيام طرأت علينا فكرة زيارة تروتسكي والتحدث إليه، وجاء الاعتذار عن لسانه بالتلفون رقيقا، مما يدل على أن الزعيم قد أعطى كلمة الشرف، على ألا يستقبل غير أهله واخصائه في منفاه، وهكذا رأيت تروتسكي وضاعت مني فرصة التحدث إليه والسماع لأقواله ونظرياته.

يحدثنا تروتسكي عن نفسه في كتابه عن تاريخ حياته، فيقول أن الطبيعة قد قضت عليه منذ نشأته: أن يكون ثوريا انقلابيا، فهو قد ولد ونشأ وعاش وكافح من أجل أفكار ومبادئ

ص: 17

وآراء معينة، تثبتت في مخيلته وتملكت نفسيته وملأت روحه فلم يستطع أن يحيط عنها، أو يجد عنها حولا طول السنوات التي عاشها.

وقال أنه نشأ وترعرع في وسط غمرات تعاليم الثورة، فلم يشعر في قرارة نفسه بأنه ملك شعب من الشعوب أو جنس من الأجناس أو دين من الأديان، فانتهى به الأمر أن أصبح أمميا، أي ملكا للأمم كافة، لا يعرف سوى مذهب العالمية، هذه العالمية التي جعلت منه في النهاية بعد سنوات النفي بولشفيا، يقود أكبر ثورة عمالية على الأرض في وسط بلاد تعد أكثر البلاد تمسكا بالرجعية.

وقال (أنه يؤمن بالثورة على حد أنها تغيير بطيء أو عنيف يصيب الكيان السياسي والاجتماعي والدستوري، نتيجة لتبدل الأسس الاقتصادية والإنتاجية لأمة من الأمم) وهو التفسير الذي وضعه كاوتسكي قبله في كتابه الثورة الاجتماعية.

ولكن زعيم الانقلاب الروسي، كان يعلم في داخلية نفسه أن أكثر من تسعة أعشار الشعوب الروسية ضده، وأن عنصر المفاجأة والتضليل والدجل على الجماعات هو الذي مكنه من الحصول على انتصاراته الأولى: وقد كان إذ كسب الجولة الأولى. .

فما الذي ساعده على الوصول إلى مقام الزعامة بجوار لينين ثم ما الذي أنزله من مكانته؟ إن القلم الذي يحمله تروتسكي، كان ثوريا إلى النهاية في كل قطرة من مداده،. . . لهذا أقر الناس بأن كتاباته هي أقوى أسلحته وأشدها فتكا وأعمقها أثرا فهو قد بلغ أعلى المراكز وقدم للثورة أعظم الخدمات، وأنشأ الجيش الأحمر وانتصر به في الحروب الداخلية وفي رد العدوان الخاص عن أراضي السوفييت، ومع ذلك وضع في الصف الثاني بعد وفاة لينين، وأبعد من المناصب التي يؤهله علمه وعمله وجهاده لها، فمال للعاطفة حينا حتى أخرج للناس كتابه عن ثورة عام 1917، فإذا أهم ما فيه سبعون صفحة جعلها نقدا وتحليلا لحوادث ثورة نوفمبر من تلك السنة، كانت بمثابة تتويج لعمله الثوري الانقلابي في الثورة الروسية، حيث أبرز فيها ما قام به من أعمال. . .

وهنا قامت قيامة الحزب الشيوعي عليه فسلقه رجاله بألسنة حداد إرضاء (لاستالين) هنا وكتبوا عنه في لجانهم ومجتمعاتهم:

(أنه يضع المقاييس لنفسه ولأقرانه، ويصور بقلمه الجبار صورته للناس ويشيد بعمله كي

ص: 18

يخرج من كل ذلك أنه الصانع الأول وصاحب القدح المعلى في ثورة نوفمبر ولولاه هو لما قامت ثورة البلاشفة).

ترى لو تركوه ماذا كان يحدث في أراضي السوفييت؟

سؤال لم يترك له الوقت لأنه ما لبثت أن انقلبت الصحافة عليه، في أنحاء الاتحاد السوفييتي تدعو إلى جمع كتبه وحرقها وقالت:

(أنه كشف النقطة الضعيفة في درعه. . . أن الثائر للكبير قد تملكه الغرور، وهو داء رأسمالي لا يعرف طريق الولوج إلى قلوب الثوار، أن تروتسكي يحاول أن تقتن به الناس وأن تخضع لعظمته الجماعات، أن طابع الغرور والأنانية ومحبة الذات من بقايا العصور البائدة، أما رجال الثورة فيعيشون من أجل الثورة لا من أجل أنفسهم). ثم تساءلوا. . .

(من هذا القزم الذي يحاول أن يضع نفسه على مقعد الزعماء الخالدين؟ فيحط من قدر إخوانه وزملائه في الجهاد، ويحاول أن يجعل من مقاييس الثورة المنبثقة من تطور التاريخ وكفاح السوفييت وتأييد الجماعات، غشاء لا رضاء نفس متحيرة مترددة ضعيفة. . .)

(أنها نفس تقبل على عاتقها أن تحط من جلال عمل كبير، وأن تنسب إلى جهودها إخراج المستحيل والوصول إلى عظائم الأمور وأصعبها وأنه (لولاها لما قامت للثورة قائمة).

(أن هذه النفس مريضة وفيها بقايا الإنسان الرجعي)

ويعذرني القارئ إذا قلت أن تروتسكي لقى جزاء سنمار بعد هذه الحملة التي جعلته عدوا للنظام القائم الذي أخذ يتتبع أنصاره واتباعه ويبعدهم واحدا بعد الآخر عن مناصب الدولة.

ثم جاءت الخاتمة. نعم أن الرجل الذي أفنى عمره في سبيل الثورة وأتاه نبأ احتضار والده، وهو يرأس لجنة شؤون الحرب بقصر الكرملين، لم يشأ أن يوقف عمل اللجنة ليودع والده الوداع الأخير، بل استمر في رئاستها يناقش أعضائها.

وجاء وقت دفن أبيه فلم يشأ أن يقوم من مقعده. أنه يعتبر نفسه قد تحرر من أمراض الرجعية، ويريد أن يضرب بنفسه مثلا لما يجب أن يكون عليه رجل الثورة الذي لا تشغله الغرائز ولا تجد العواطف أو الواجبات مدخلا لقلبه، ولكن ماذا كانت خاتمته؟ كانت النفي والتشريد ثم القتل بعيدا عن الثورة، وعن الفردوس الذي تصور أن يقيمه بيديه، وانتهت حياته في المكسيك، ولم يحظ برثاء أو تقدير من هذا النظام الذي أقامه وتعهده وكافح من

ص: 19

أجله. . .

لقد قرأت خبر نكبته وفعلته ووضعت أمامي ما كتبه هذا الزعيم في أوائل الحكم الشيوعي: -

لقد كان من نتائج هذه الحرب (14 - 1918) أن تزعزعت أركان الرأسمالية فأخذت تنهار، وها نحن نبرز إلى الوجود بجرأة وعزم فلا يمكن لقوة في العالم أن تقهرنا. ألا يشبه هذا ما يقوله دعاة السوفييت اليوم؟ إنهم يحلمون بالثورة الكبرى كما كان يحلم تروتسكي، ويرددون قوله: إن السور المحكم الذي يحاول الأعداء من قوى الاستعمار والرأسمالية أن يحيطونا به، سنحطمه تحطيما. . . أنهم ستأخذهم رجة واحدة وسوف تلبي الجموع دعوتنا وتأتي صفا صفا إلينا، لإنشاء العالم الجديد؛ بإرادة لا تعرف التراجع، لأن القوة العمالية المركزة تحت عزيمة ثابتة لن تقف أمامها عقبة. ولن يحول دون انتصارها حائل. وهكذا استمر الزعيم يتنبأ كتنبؤات بني إسرائيل فقال:(ألا فأعلموا. أن التاريخ يحارب في صفنا، والزمن حليف لنا، أن الثورة الاشتراكية ستنشب حتما في كل من أوربا وأميريكا، مهما بعد الزمن أو قرب) ومر الزمن فلم يحدث شيء من ذلك. لقد أسكرت نشوة الظفر تروتسكي فإذا بنى الشيوعية يغرق في غمرات الأحلام والآمال، وبقى راديو موسكو يردد نبوءات تروتسكي ثلاثة وثلاثين عاما، ولم تقم الثورة العالمية الكبرى، ولم ينشب الجموع أظفارهم في رقاب الطبقات الحاكمة: لقد كان تروتسكي يقيس العالم بما رأته عيناه في روسيا، فإذا بها تنفرد وحدها في طريق والعالم في طريق آخر: -

لقد مات تروتسكي، وإذا بأحلامه أبعد عن التحقيق اليوم من سنة 1917، وإذا نحن في بداية النهاية. إن الثورة التي أحسن أدارتها من مكتبة في مدرسة بالعاصمة الروسية سنة 1917 قد خمدت وهي تتطور وتسير نحو الانكماش، وقد يأتي يوم تسير فيه إلى المنفى كما سار هو من قبل.

كان كارل ماركس ولينين من جبابرة الفكر، وكان تروتسكي من جبابرة الثورة، وقد تركوا من الأنقاض والخرائب في الروسيا وغيرها ما يشغل جيلا، أنها خسائر المادة. أما ما تركوه من الآلام وضياع الآمال فلا سبيل لإصلاحه. إنها كانت تجربة قاسية دفعت ثمنها الإنسانية غاليا (وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم رشدا).

ص: 20

أحمد رمزي

ص: 21

‌ما رأيت وما سمعت

في سورية ولبنان

للأستاذ حبيب تلزحلاوي

- 3 -

أجملت في مقالي السابق بعض المسائل الهامة التي تدور في سوريا اليوم، وقد كان من الضروري شرحها وتبسيطها ليقف القارئ على حقيقتها، أما آلا وقد زالت الأسباب التي الجأتني إلى الإجمال دون التفصيل، وذلك بنقل شركات الأنباء أخبار الاعتداء على العقيد أديب الشيشكلي، زعيم الانقلاب الثالث والمؤامرة التي دبرت لرئيس الوزارة والمجلس، فقد صار من الواجب علي أن أتبسط في الشرح، لاعتقادي أن الأحداث المقبلة قد لا تقف عند حد إطلاق الرصاص على ضابط كبير، بل هي أعظم وأخطر من التآمر على حياة وزير أو رئيس.

ليست سياسة الحكم، ولا حب الاستئثار بمقاعد الحكم، ولا اختصام الأحزاب على موارد الكسب عن طريق الحكم، هي سبب الاضطراب والقلق والخوف الذي يحسه كل سوري، ولا هي العثرة في طريق الاستقرار المنشود، إنما مرد ذلك إلى نقرة قائمة بين جيلين يرى الواحد مالا يمكن أن يراه الآخر تعصبا وعنادا، وينكر عليه كل عمل يعمله ادعاء وعنجهية لا لأن أعمال هذا أو ذاك فاسدة أو صحيحة، بل لأن الجيل الجديد يعمل بروح لا تقوم للملك قائمة بدونه، وأن هذا الروح لا أثر له البتة في نفوس وعقول أبناء الجيل القديم. ومن العجب العجاب أن ضباط الجيش قد حشروا ذواتهم حشرا في هذه الخصومة الطبيعية. لا باعتبار أنهم بعيدون عن المؤثرات النفسية ودوافعها، بل لأنهم في مستوى عقلي يجعلهم غرباء عن أبناء الجيل المتقلب بين الميوعة والتحجر، وعن ابن الجيل الجديد المتوثب للعمل المجدي.

صحيح أن السوري من أبناء الجيل السابق قام بأعمال باهرة مجيدة في ميدان الكفاح والدفاع أبلغته، بعد لأي وجهاد، الغرض الذي صبا إلى تحقيقه وهو (الاستقلال) ولكن ما قيمة هذا الاستقلال - في نظر ابن الجيل الجديد - ما قدره والأهواء السياسية تتقاذفه

ص: 22

وتتلاعب به وأن المتلاعب المساوم هو الرجل الذي دافع وكافح لنواله؟؟!!

يحسن أن نرفع اللثام قليلا لنبين طرفا من وجه المسألة المشكلة التي أحدثت النفرة بين الجيلين، أي النفرة المستحكمة بين الوالد والولد، فأن فعلنا نجد أن مسألة (سورية الكبرى) هي المشكلة الكبرى والسبب الأوحد في كل ما وقع ويقع وسيقع وسوف يقع بين أبناء سورية من جهة واحدة، وبينهم وبين أبناء العراق وشرق الأردن ولبنان، نعم ولبنان أيضا من جهة ثانية، وأن العلة أو المشكلة ستبقى قائمة ما دامت سياسة الاستعمار البريطاني لم تبلغ كل أغراضها بعد، ومادامت الأيدي (العربية) المأجورة لأجل تحقيق هذا الغرض عاجزة عن تحقيقه.

ما هو هذا الغرض الذي ترمي إليه سياسة الاستعمار البريطاني؟

ليس الرد على هذا السؤال بالعسير حتى على رجل الشارع في دمشق وبغداد وعمان وبيروت، لأن سياسة الاستعمار البريطانية التي جعلت من الوطن القومي اليهودي (دولة إسرائيل) غير المعترف بها من الدول بعد، وجعلت من لبنان (جمهورية مسيحية) ضمن سلامتها وتعهد بقاءها في وضعها الحالي، كل من إنجلترا وأمريكا وفرنسا، تريد أن تجعل من (سوريا الكبرى) مملكة إسلامية هاشمية.

من يراجع خطب المطران مبارك، بل من يراجع الكتاب الأزرق الذي رفعه السيد نوري السعيد إلى وزير الدولة البريطاني مستر كابسي، والذي تطوعت جمعية (الاتحاد العربي) في مصر بطبعه وتوزيعه على نفقتها، هذه الجمعية التي تدعو إلى (اتحاد عربي إسلامي) يرأسها المرحوم توفيق دوس باشا القبطي، ويدير أعمالها بحنكة ونشاط (الشيخ المحترم خليل ثابت بك رئيس تحرير المقطم الأسبق يعاونه الخواجه أرفش أيضا، أقول من يراجع كتاب السيد نوري السعيد يجد أسبابا اقتصادية واجتماعية وسياسية وجيهة دفعته إلى رفع تقريره إلى وزير الدولة البريطاني بشأن (سورية الكبرى) وبه يقول (. . . ويحتاج العراق إلى منفذ إلى البحر الأبيض المتوسط لنفطه ومنتجاته، وتحتاج فلسطين التي تتحول بسرعة إلى قطر صناعي إلى أسواق لمنتجاتها، وتحتاج إلى نفط ووقود لمعاملها. . ويكتفي دولته بهذه الأسباب الاقتصادية لحلف سوريا الكبرى لتمد فلسطين أي دولة إسرائيل التي تحولت إلى قطر صناعي تحتاج معامله إلى نفط العراق ويسكت عن السبب الآخر الذي يجعل من

ص: 23

سوريا الكبرى مملكة هاشمية تقف سدا في وجه المملكة السعودية العربية التي يتحكم الأمريكان في نفطها وينعم أهلها بالدولار والذهب، ناهيك بوضع شرق الأردن السياسي ومعاهدته المعهودة مع الإنجليز، وبالفرق بين وضع سوريا المستقلة السياسي.

لقضية سوريا الكبرى جوانب أخرى خلاف الجانبين السياسي والاقتصادي، ولعل الجانب العاطفي فيها هو أكثر الجوانب حساسية لاتصاله المباشر بالدين الحنيف، ولالتصاقه بمجد العرب الذي يتشوق كل مسلم إلى استعادة عزه وسلطانه.

من هذا الجانب الحساس، يتقدم العراقي المسلم من سوريا المسلمة، ومن هذا الجانب الشعوري تتقرب وفود جمعية (الاتحاد العربي) وهم مسيحيون كما عرفت، من أبناء سورية المسلمة، ومن هذا الجانب الديني المقدس يتودد دعاة البيت الهاشمي إلى رجالات سورية؛ ولكن إلى أي فئة من أبناء سوريا يتقدم هؤلاء الدعاة وسورية كما عرفت منقسمة قسمين، جيل قديم يضع رجله في حفرة القبر وتتطلع عينه إلى متع الحياة الغرور، وجيل جديد يؤمن بمستقبله، ويعمل له، ويكافح من أجله، ويشيد بناءه لبنة لبنة، وهو مجد في تكوين ذاته تكوينا (إدولوجيا) ببعده من مخاطر الخوف والقلق واليأس، ويدنيه من الاعتماد على النفس بالتربية السياسية وتقويم الأخلاق.

هنا نرى الدعاة المأجورين يتخطرون في مشيتهم، ويشمخون بأنوفهم، ويبشون بشاشة ناصلة اللون عندما يتقدمون من الشيوخ السوريين الواضعين أرجلهم في حفر القبور يحملون لهم الذهب الإنجليزي. والجنيه الإنجليزي، والتعضيد الإنجليزي، ثم الأجر العظيم المرتقب عند الله في اليوم الآخر لكل عامل في خدمة الدين وعز الإسلام، ومجد العرب!!!

وترى هؤلاء الدعاة أنفسهم، ينكصون على أعقابهم بوجوه شاحبة كاحلة كلما حاولوا الدنو من الشباب المتعلم، الذي لا يخامره شك في أن هؤلاء الدغاة، إن هم إلا خدام أجراء لأسياد غاصبين مستترين وراء ستار شفاف (هم الإنجليز) الذين لا يريدون بهذا الشرق العربي خيرا إلا الخير الذي يعود على رس العزبة أو الإقطاعية.

هنا يصطدم الولد بالوالد في حدود التقاليد العربية وعادات الأسرة. هنا تقف الفتاة إلى جانب أخيها تشد عضده وتوازره وتسانده في رد أبيه إلى صراط الوطن، وعز القومية، وشرف الإنسانية، ودفع غائلة الأجنبي المستقوي.

ص: 24

هنا يقف الوالد من أولاده، يضحك من اعتزازهم بالعلم واعتزازهم به، ويسخر من جدهم في أمر الوطن والقومية، ويسخط على هذا الجيل الذي لم يتعلم ما تعلمه هو في ميدان الجهاد والمنافع.

ليست الفوارق بين جيلين، ولا اصطدم عقليتين، ولا اصطرع الأحزاب، ولا انصراف التاجر والزارع والعامل إلى عمله الخاص، ولا قرارات النواب، ولا إلزام السلطة التنفيذية الأمة بقرارات النواب، ولا وقوف الجيش يساند هذه الفئة من أبناء الأمة ويناصرها أو يخذل تلك الفئة ويتخلى عنها، ليس كل هذه الأمور مجتمعة هي التي ستدنى أو ستحول دون وقوع (شجار أهلي) منتظر مرتقب، إنما الذي سيدنيه أو يحول دونه أي دون (اضطراب داخلي) هي القوة العسكرية التي ستفرض سلطانها فرضا تعسفيا على سورية والسوريين، فتهد عرشا قوامه الآمة، وتقيم عرشا ليس في وسع الأمة إنكاره أو التنكر له، وأن هذه لا تكون حتما عراقية وأردنية ولا سورية أيضا بل تكون من المرتزقة من جميع هؤلاء، وأن موعد ظهور هذه القوة في ميدان العمل، ليس رهنا بمشيئة الأمم العربية، إنما هو رهن بالاتفاقات وتبادل المنافع، وبالظروف السائحة، وانتهاز الفرصة. وأزعم أن الإنجليز لا يخطون بسرعة هذه الخطوة الحمقاء.

هل في وسع شباب سورية الحيلولة دون وقوع هذه النكبة؟

حبيب الزحلاوي

ص: 25

‌زائرة الحمى

(إلى شاعرة العواطف النبيلة الآنسة الفاضلة فدوى عبد الفتاح

طوقان. . تحية إعجاب وتكريم)

للأستاذ عبد الرحيم عثمان صارو

أهلا بزائرة الحمى!. أهلا بمقدمك الأغر!

بأحب شاعرة تطالع خاطري بأحب شعر

ينهل من شفق العواطف والخيال المستسر

أنى حللت من الحمى. . حيتك جانحة وعين

وهفت تقبل خطوك ألحاني شفاه الضفتين

أهلا بزائرة الحمى. . عفوا. . فلست من الزوائر

لست الغريبة عن حماي، وإن تباعدت المخاضر

عفوا. . فأنت شقيقتي في الروح، في نسب المشاعر

وحماك - والهفى عليه من الذئاب، من الدخيل

هو - ما علمت - جوى حماى ودمع أهداب النخيل

أختاه! أية فرصة طافت على وتر القلوب؟

فترنمت خفقاتها - طربا - بمقدمك الحبيب

أهوى أعبر عن شعور النيل بالكلم الرغيب

فأرى مقاليد البيان لدى عاصية مدله

فلتعذريني إن عييت فلم أبن إلا أقله

لوددت لو أني قدمت إليك من جوف الصعيد

أروى النواظر بالتلاقي والخواطر بالنشيد

لكنها بعض القيود، وبعض أغلال الوجود

وشواغل قصت خطاي. . وزهرتاي الآدمية

وهما رغابى في الحياة. . هما وأنغمك الشجية

ص: 26

أختاه! هذي مصر في حلل الصباحة والرواء

والنيل نشوان الضفاف يتيه من فرح اللقاء

فترشفي كأس الهناء، ورددي لحن الصفاء

وانسي به شكوى الزمان فقد يؤوب إياب نادم

قدح المقادر لم يزل متنقلا فوق المباسم

لم تشتكين من الحياة. آثرت آلامي بنفسي؟

لم تشتكين من الزمان، وما عدوت حدود أمس؟

لا تنصتي لليأس، ما خلق الشباب نديم يأس

من كان مثلك في يديه معازف الدنيا الجميله

جعل المسرة في الحياة وفرحة الدنيا سبيله

أختاه! ألف تحية لك من قلوب تخفق

لو كان ينبوع البيان على فمي يتدفق

لنظمت ما زخر الفؤاد به وألوى المنطق

إن لم تكن كل المنى ذي، فلتكن رمز المنى

شتان بين جناحك الضافي، وخافيتي أنا

أهلا بزائرة الحمى، أهلا بمقدمك الأغر

بأحب شاعرة تطالع خاطري بأحب شعر

ينهل من شفق العواطف والخيال المستسر

أنى حللت من الحمى، حيتك جانحة وعين

وهفت تقبل خطوك الحاني شفاه الضفتين

(طهطا)

عبد الرحيم عثمان صارو

ص: 27

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

إلى معالي وزير المعارف في العراق:

سيدي الأستاذ

سألت عنك، فقيل لي إنك أحد هؤلاء الممتازين خلقا وثقافة. وحين علمت هذه الحقيقة، قد قررت على الفور أنك تقرأ (الرسالة) وتألف صرير القلم، وتستجيب لدعوة الحق، ولهذا كتبت إليك. . فليس أحب إلي من أن أتحدث إلى رجل ممتاز أو أخلو إلى كتاب ممتاز، لأن كليهما لن يضيق بصحبة الأدب ولن يتنكر لرسالة الوفاء!

وأحمد الله أنك في المكان الذي أحب لأمثالك من الممتازين أن يكونوا فيه، وأشكر للعراق فطنته في اختيار الذين يحملون ألوية العلم ويشرفون على تربية الجيل، وينثرون في أرض المعرفة بذور نهضة فكرية يشتد منها العود وينضج الثمر. من حقك علي إذن، ومن حقك على (الرسالة) ومن حقك على كل صاحب قلم يربطه بك سبب من أسباب الفكر أو صلة من صلات اللغة أو آصرة من أواصر الجوار، أن نبعث إليك بأخلص التحية وأصدق التقدير، مع الأمل المصحوب بحرارة الرجاء. . ومن حقي عليك، وحق (الرسالة) وحق هؤلاء الذين أتحدث إليك باسمهم هنا وهناك، ألا تخذل ثقتنا بك ورجاءنا فيك، لأن القضية التي نعرضها عليك هي قضية الشعر المظلوم والحق المهضوم والفن الشهيد، فوق ثرى هذه الأرض الطيبة التي أنبتتك. . أرض العراق الحبيب!

قضية اليوم التي نتقدم بها إلى ساحتك، هي قضية الشاعر العراقي المطبوع الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري. . ترى هل استمعت إلى صرخته التي أطلقها منذ قريب على صفحات (الرسالة)؟ أننا نرجو أن تكون هذه الصرخة قد حطمت السدود والقيود، وعبرت الآماد والأبعاد، لتصل إلى سمعك وتنفذ إلى قلبك. . وندعو الله أن يكون سمعك قد ألتقط صرخة الشعر وأن يكون قلبك قد أهتز لزفرة الشاعر، كما التقطتها الأسماع هنا واهتزت لها القلوب!

مصدر هذه الصرخة يا سيدي هو أن العراق - ممثلا في شخص وزير المعارف الأسبق السيد نجيب الراوي - قد عطف يوما على عبد القادر فأرسله إلى جامعة باريس ليطلب

ص: 28

فيها العلم. . وقبل أن أمضي في طريقي لأعرض عليك أدوار هذه القضية، أود أن أقف لحظة لأخفض قلمي تحية للسيد نجيب الراوي، هذا الرجل الفاضل الذي يسعدنا نحن المصريين ويثلج منا الصدور أن يكون اليوم بيننا ممثلا لبلاده أخفض قلمي تحية له لأنه عطف على عبد القادر حين لمس في شعره الموهبة وطالعته منه دلائل النبوغ، فأشفق على الفن أن يختلق في الظلام فأخرجه إلى رحاب النور، وبعث به إلى باريس ليتعلم على نفقته الخاصة. . لم يظن السيد نجيب الراوي على الشاعر بماله، بل جعل من هذا المال حقا كريما لأصحاب المواهب والملكات. وأوشك أن يزيد من فضله حين عزم على أن يشرك الدولة في تقديره لرسالة الفن، وذلك بأن تقدم وزارة المعارف لهذا الشاعر منحة سنوية تعينه على استكمال دراسته في أروقة السوربون، ولكن الأقدار تتدخل فتحول بين الوزير وبين أن يحقق للشاعر ما كان يتطلع إليه من الأمل المرتقب في ظلال الوعود.

استقالت الوزارة التي كان فيها السيد نجيب الراوي وزيرا للمعارف قبل أن يتم التصديق على الميزانية التي أدرج فيها الوزير تلك المنحة السنوية للشاعر، وأعقبتها في الحكم وزارة السيد توفيق السويدي التي أحلت محل السيد الراوي وزيرا آخر هو السيد سعد عمر. ومن باريس كتب الشاعر إلى الوزير الجديد يشكو إليه حاله، حال المكافح الباسل في طلب العلم حين تقسو عليه الحياة وهو غريب الأهل والدار، حال المواطن الصادق حين يفزع إلى وطنه مطالبا ببعض ماله على هذا الوطن من حقوق! ولكن العراق ممثلا في شخص الأستاذ سعد عمر لم يستمع لصرخة الفن الشهيد يطلقها عبد القادر، فأغلق دونها منافذ القلب والسمع والشعور. . واستمر عبد القادر يكافح، يكافح وحيدا، لا يد بالعون تمتد إليه، ولا صديق بالذكر يعطف عليه، ولا نسمة رخية من أنسام الوطن البعيد ترطب من حوله جفاف الحياة. وحين فقد آخر منحة من فيض السيد نجيب الراوي، وأخر أمل في إنسانية السيد سعد عمر، وآخر مورد من موارد الرزق الشريف، وآخر قطرة من سيل العرق والدموع قفل راجعا إلى العراق. . قفل راجعا ليبكي (شبابه الدامي) على صفحات الرسالة!!

واليوم تنطلق هذه الصرخة المدوية ومعالي الأستاذ خليل كنه وزير المعارف في العراق. ماذا أقول لهذا الرجل الممتاز وأبصارنا شاخصة إليه وأفكارنا متعلقة به؟ أقول له تلك

ص: 29

الكلمات التي قلتها في هذا المكان منذ أيام، وهي أن عبد القادر وتر من الأوتار الصادحة بأنغام الحق والخير والجمال، فلماذا يريد العراق لهذا الوتر أن تخمد أنغامه وهو يغني له ويتغنى به؟ أهو يضيق بصوت الحق فلا يسمع، وبمعنى الخير فلا ينظر، وبسر الجمال فلا يطرب وبصرخة الفن الشهيد فلا يستجيب؟! أنها مأساة. . أن أرى العراق يحول بين أحد شعرائه وبين نور العلم، وهو بهذا النور سيضيء لوطنه أقباس الأمل ومشاعل الرجاء!

أننا نعيذ العراق من مثل هذا الاتهام في عهد هذا الرجل المثقف الممتاز. . خليل كنه! أن عبد القادر يا سيدي منكم منصبا من المناصب، ولا لقبا من الألقاب، ولكنه يطلب منكم أن يغترف من مناهل العلم، وهذا - كما قلت أيضا بالأمس - هو أقل ما يجود به وطن على فنان!

ترى هل أنتظر لهذا الشاعر خيرا على يديك؟ إنني أريد أن أسجل لك هذه المنة على صفحات (الرسالة)، وأذهب إلى أبعد من هذا حين أربد أن يسجلها لك تاريخ الأدب. . صدقني أن تاريخ السياسة ليغفل أحيانا عن تسجيل بعض المآثر لبعض الممتازين، ولكن تاريخ الأدب من الوفاء بحيث لا يقفل عن أمثال هذه المآثر حين يعرض لها بالذكر الجميل. وهذا هو موقف التاريخين من وزير المعارف المصري محمد محب، حين غفل عن مأثرته التاريخ الأول وذكرها التاريخ الأخير. . محمد محب الذي أكرم الفن في شخص حافظ إبراهيم حين أنتشله من مهاوي البؤس فكرمه تاريخ الأدب وعطر بمداد التقدير خلقه وذكراه!

أن تاريخ الأدب العربي الحديث لا يذكر حافظا إلا وذكر في مجال الحديث عنه محمد محب. . لأن هذا الرجل الكريم كان نفحة صادقة من نفحات الكرامة العقلية في مصر؛ الكرامة الوفية للخلق والمخلصة للقيم، حين تنشد في ضوء المثل العليا أقدار الرجال! وأي وفاء للخلق وأي إخلاص للقيم أصدق من أن يمد هذا الوزير المصري يد العطف والرحمة إلى حافظ إبراهيم لينقله من حياته المشردة في الشوارع والقهوات، إلى حيث يوفر له من رغد العيش واستقرار النفس وراحة الجسم ما يليق بمكانة شاعر. . هناك حيث قدر لحافظ إبراهيم أن يكون مديرا لدار الكتب المصرية؟!

ص: 30

إننا نقدم هذه القصة المثالية لمعالي وزير المعارف في العراق. . نقدمها والأمل يملئ نفوسنا بأن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه؛ تاريخ الأدب العربي بعد أن تنصف وزارة المعارف العراقية هذا الشاعر، ويجيء اليوم الذي تخصص فيه بعض صفحاته للحديث عن مثلين نادرين من أمثلة الكرامة العقلية: هما محمد محب هنا وخليل كنه هناك!!

أن تاريخ السياسة كما سبق أن قلت، قد يسهو عن أن يثبت هذه المأثرة لمعالي الأستاذ خليل كنه، لأنه تاريخ لا يسلم من أن تعبث بسطوره يد الأهواء والأغراض. . أما تاريخ الأدب يا معالي الأستاذ، فهو أشرف قصدا وأنبل غاية، وأكثر بقاء على الزمن وصمودا على الأيام!

لحظات مع الرسام (الفرنسي) بيكاسو:

طالعت في العدد (902) من الرسالة، ما كتبتموه ردا على الأستاذ مختار العطار الذي يقول عن الرسام السريالي (بيكاسو) أنه أسباني وتخالفونه بقولكم أنه أسباني المولد ولكنه فرنسي النشأة وتجنس بالجنسية الفرنسية منذ أمد بعيد، وأن أسبانيا اليوم لا تعتبره واحدا من أبنائها ولا من فنانيها.

ومع إعجابي بكم واحترامي لكم، أقول أنه لم يجترأ على الحق في رده عليكم، ذلك لأن (بيكاسو) قد ولد عام 1881 وتعلم الرسم عن والده ودرس في مدرستي مدريد وبرشلونة للفنون الجميلة. وفي عام 1900 سافر إلى فرنسا، أي أنه أمضى تسعة عشر عاما في أسبانيا وأقام في فرنسا نهائيا وتجنس بالجنسية الفرنسية كما تقولون.

أما قولكم بأن أسبانيا لا تعتبره اليوم واحدا من أبنائها ولا من فنانيها فهو قول يخالف الواقع، لأنه لو كان كذلك لما عرضت الحكومة الأسبانية بعض لوحاته في معرض الفن الأسباني هذا العام مع زمرة الفنانين الأسبان. إننا حين نقول إن (بيكاسو) أسباني نكون أقرب إلى الصواب مما إذا قلنا أنه فرنسي. وختاما لكم احترامي وتحياتي.

مصطفى أحمد

طالب بالفنون الجميلة العليا قسم التصوير

أشكر للأديب الفاضل أدبه في الخطاب واهتمامه بالتعقيب، وأقول له: إن هذه المعلومات

ص: 31

التي حملتها إلى رسالته عن الرسام السريالي (بيكاسو) معلومات لا غبار عليها من الناحية التاريخية، ولكنها في حاجة إلى أن نزيل عنها الغبار من الناحية الفنية! لقد قلت عن (بيكاسو) إنه أسباني المولد ولكنه فرنسي النشأة، ومع أنني أعلم أنه أمضى في أسبانيا تسعة عشر عاما من سنى حياته التي أشرفت على السبعين مع هذا فقد قلت عنه ما قلت. لأن نشأة الفنان لا تقاس بهذه الفترة الصغيرة التي لا تنضج فنا ولا تعلي قدر ولا تسلك اسماً من الأسماء في عداد المشهورين! فإذا قلنا إن (بيكاسو) فرنسي النشأة، فإنما نعني النشأة (الفنية) الصحيحة التي تهيئ للفنان أن يكون فنانا، له أسمه وشهرته ومكانته. . . ومعنا هذا، أن تلك الأعوام التسعة عشر التي قضاها (بيكاسو) في أسبانيا، تعد بالنسبة إلى الحياة الفنية الحقة (مولد فنان)؛ ولكن تلك الأعوام الخمسين التي قضاها في فرنسا هي التي تعد بالنسبة إلى تلك الحياة (نشأة فنان). . ترى هل فهمني الأديب الفاضل وأنا احدد الفوارق الفنية بين (المولد) و (النشأة) في حيا ' الفنانين؟!

أريد أن أقول له إن شهرة (بيكاسو) الواسعة، وأسمه اللامع، ومذهبه الكلاسيكي القديم ومذهبه السريالي الجديد، كل هذه القيم الفنية لم يقدر لها أن تكون حقيقة ملموسة إلا في ضل هذه النشأة الفرنسية التي امتدت خمسين عاما. . أما قبل ذلك، فقد كان صبيا صغيرا يتلقى الأصول الأولى لفن الرسم في المدارس الأسبانية، وهي أصول لم تستطع أن تخلق الفنان الذي طبقت شهرته الآفاق. إن التسعة عشر عاما لم تصنع (بيكاسو) الذي يعرفه الناس، ولكن الخمسين عاما هي التي صنعت المعجزات. . هو إذا أسباني المولد ولكنه فرنسي النشأة، ولا أحب للأديب الفاضل، طالب الفنون الجميلة، أن يجادل في هذه الحقائق الفنية!

أما عن معرض الفن الأسباني الذي أقيم في القاهرة فقد زرته وشاهدت ما فيه من لوحات. . وأود أن أقول للأديب الفاضل إن بعض لوحات (بيكاسو) قد أقحمت إقحاما في هذا المعرض، بقصد الترويج للفن الأسباني على حساب هذا الفنان الفرنسي. . لأن رجلا مثل (بيكاسو) قد تجنس بالجنسية الفرنسية منذ خمسين عاما، وسجل أسمه ضمن مجموعة الرسامين الفرنسيين في متحف (اللوفر) بباريس، ولا يتحدث عنه (سارتر) و (جان كوكتو) إلا ويقولون عنه:(الفنان الفرنسي) مثل هذا الرجل (تتمسح) فيه الحكومة الأسبانية حين

ص: 32

تقحم بعض لوحاته في معرض الفن الأسباني بقصد الترويج لهذا المعرض بلا جدال!

وأزيد على ذلك فأقول: إن الحكومة الأسبانية قد أقدمت على أن تفعل ذلك في مصر، ولا أعتقد أنها تستطيع أن تقدم على مثل هذا العمل في بلد مثل إيطاليا أو فرنسا أو إنجلترا أو غيرها من البلاد الأوربية. . . ذلك لأن لوحات (بيكاسو) المحفوظة - ولا أقول المعروضة - في متحف (اللوفر) مسجلة كما سبق أن قلت ضمن مجموعة الفنانين الفرنسيين، لان صاحبها فرنسي باعترافه واعتراف الحكومة الفرنسية واعتراف الدوائر الفنية في العالم. وقد يسألني أحد القراء لماذا تحفظ لوحات (بيكاسو) في متحف اللوفر بباريس دون أن تعرض، فأقول له: إن عرض اللوحات في هذا المتحف العالمي غير جائز للفنانين الأحياء، فإذا ما انتقلوا إلى العالم الآخر فقد أصبح من حقهم أن ينتقل إنتاجهم الفني من (الحفظ) إلى (العرض) أعني من مكانة في (المخازن) إلى أمكنته من الجدران.

شعراء في الميزان:

أنا من المؤمنين بأن النفس الإنسانية هي الحوض، بل المحيط الذي يجب أن تغترف منه أقلام الشعراء؛ وأن الوجدان هو الأفق الذي يجب أن يضرب فيه جناح الشعر. . ولا أدين بغير هذا الفن الذي يؤدي عن النفس ولست أومن بغير هؤلاء الفنانين الذين يقبسون من الوجدان. ولا أكاد أدري أي شيء هذا الذي يجعلني أعتقد أني جئت إلى هذه الدنيا، وفي هذا الإيمان؛ وأني سأنصرف عنها ولا إيمان لي - في الأدب خاصة والفن عامة - غيره!

قد لا يعنيكم شيء من ذلك كله، ولولا أنها الرسالة الأولى، أو الشذرة الأولى، أكتبها إليكم، لسعى القلم إلى ما يريد دون توطئة له بهذه الكلمات. . . غير أنني قد قرأت تعقيبكم المعجب على رسالة الآنسة هجران الأخيرة، فوقفت فيه عند رأي من آرائكم تبدونه في بعض الشعر، وحكم من أحكامكم تطلقونه على بعض الشعراء.

بدا لي أنكم بهذه الكلمة تميزون في شعر (الأداء النفسي) بين لونين من الشعر: لون يرتفع فيه اللفظ بالخيال فيعجب؛ ولون يرتفع فيه الخيال باللفظ فيهز. . شعر قوامه العبارة الموحية، وشعر قوامه الوحي المعبر. . وأشهد لقد حالفكم في هذا التمييز التوفيق كل التوفيق!

على أني ألفيتكم تضعون قصيدة (الشاعر) للحداد، وقصيدة (راقصة الحانة) للشاعر الخالد

ص: 33

علي محمود طه، وقصيدة (الطلاسم) لأبي ماضي، في مستوى واحد، وتنسبون القصائد الثلاث إلى هذا الشعر الذي يتمثل وحيا معبرا، قوامه الحركة النفسية، والدفقة الوجدانية، والوثبة الخيالية، هذا الشعر الذي ما إن تقبل عليه حتى تشعر أنه ينقلك إلى جو كله رفيف، وكله أمل، وكله سلام. . جو من الأحلام، واللذائذ، والأناشيد المرقصة. . وأشهد مرة ثانية لقد أصبتم محجة الصواب في هذه المقابلة!

ثم. . . رأيتكم تجمعون في الطرف الآخر بين عزيز أباظة وأنور العطار، في صعيد واحد! وهنا أسمح لنفسي أن أختلف وإياكم بعد اتفاق، اختلف وإياكم في أمر العطار، بعد اتفاق تام معكم في كل ما رأيتموه في شاعريته، اليوم عند تمييزكم لشعره عن شعر الفئة الأولى، وأمس عند تمييزكم لقصيدة الحداد على قصيدة العطار. . وهنا أبادر بالقول إن شعر العطار ليس - على ما أرى في ظبقة شعر عزيز أباظة، ولا يمكن أن يبلغ مستواه!

أقول ذلك، وأنا قد قرأت الكثير من شعر أباظة: فهزني، وأطربني؛ وأثارني، وأشجاني، وحلق بي في جواء من الجمال والجلال والتسامي. . وأقوله، وأنا قد قرأت الكثير أيضا من شعر العطار الذي نشره، بل وقد سمعت العطار نفسه يلقى بعضه، في بعض المجامع والمناسبات. فلم أشعر بتلك الهزة، ولم أجد في نفسي أثر تلك اللذة، ولم يحفزني شيء فيه إلى التهويم مع الشاعر في واد، أو التدويم على جناحه في أفق!

شعر العطار - الذي عرفناه له على الأقل، شعر صناعة وألفاظ. . شعر عبارات مات فيها الجرس، وصور انفطعأت فيها الألوان وخمد البريق، ومعان أكرهت على السكون بعضها إلى بعض، فلم تكد تأتلف، ولم يكد يأنس شيء منها بشيء. . وهل نحن بعيد وعهد بقصيدته (بردى) و (عبقرية الفن) اللتين نشرتهما له (الرسالة) منذ قريب؟ إنهما قصيدتان نموذجيتان من شعره، تدلان أصدق دلالة وأوضحها على شاعرية الشاعر. . فهل يخرج منهما القارئ بشيء؟ اللهم إلا بهذه الطائفة الفنية (حقا) من مختارات الألفاظ. . كأنما الشعر الجميل ديوان المفردات الجميلة، أو قاموسها!! وبعد، فشعر العطار كما أراه، عمل ذهني، وجهد لغوي، لا يمت إلى شعر (الأداء النفسي) بصلة. . ولا كذلك شعر أباظة.

ووقفة أخرى وقفتها عند إشارتكم إلى قصيدة (الشاعر) للحداد، وتعقيبكم على هذه الإشارة بقولكم:(وقد تكون فلتة من الفلتات التي يصعب أن تتكرر من حين إلى حين). . نعم، قد

ص: 34

تكون هذه القصيدة المحلقة للحداد فلتة من الفلتات. . نعم ولا بد للناقد الحصيف من مثل هذا التحفظ في إطلاق الحكم على شاعرية شاعر لم تعرف له غير قصيدة واحدة. . ولكن هل ألمح من وراء هذا الكلام شيئا من تراجع عن ذلك الحكم الألمعي الذي حكمتم به من قبل للقصيدة. . أو شيئا من فتور في ذلك الحماس الكريم الذي اقترن به حديثكم السابق عن الشاعر. . أم هذا الذي يخيل إلى أضغاث أوهام؟ أرجو أن تصدق الأخيرة!

وتقبل أيها الأستاذ الناقد أصدق آيات الثناء على جميل أدبك من المعجب:

(دمشق - سوريا)

محمد الأرناؤوط

أشكر للأستاذ الفاضل ثنائه العاطر، وأعتذر إليه من أن تضيق صفحات هذا العدد من (الرسالة) عن التعقيب، لأنه طرق من زوايا الفن الشعري ما يحتاج إلى شيء من التحليل والتحديد. . إن موعدي معه في الأسبوع القادم إن شاء الله، وأرجو أن يتسع النطاق لبعض الرسائل الأخرى في حقيبة البريد.

أنور المعداوي

ص: 35

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

ذكرى شوقي:

كانت ذكرى وفاة أمير الشعراء أحمد شوقي بك في الأسبوع الماضي، فقد توفى في 14 أكتوبر سنة 1933. وقد كان مظهر الذكرى في هذا العام أبرز مما كان في السنوات الماضية، فقد كتبت فيها أكثر الصحف والمجلات كل على طريقتها، وإن كان ذلك لا يعد شيئا بالنظر إلى مكان الشاعر العظيم ومنزلته في النفوس.

ومما استرعى الأسماع في هذه المناسبة ذلك البرنامج الضخم الذي قامت به محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية، فقد بدأت الاحتفال بهذه الذكرى من أول أكتوبر، فخصصت الأوقات المعينة لمسرحيات شهر أكتوبر جميعها لإذاعة طائفة من مسرحيات شوقي يقوم بأدائها وتمثيلها نخبة من الممثلين الذين مرنوا على تمثيلها كأحمد علام وجورج أبيض وفاطمة رشدي، وتخلل البرنامج في هذه الفترة غناء قصائد كثيرة من شعره واهتمت بيوم الذكرى (14 أكتوبر) اهتماما خاصا، ومما قدمت فيه برنامج خاص بالشاعر الكبير عنوانه (في وادي الخلود) من تأليف أحمد رامي وإخراج السيد بدير.

أما محطة الإذاعة المصرية التي اعتادت أن تحيي ذكرى شاعر مصر الخالد بحديث واسطوانات عبد الوهاب - فقد ضاعفت جهدها هذا العام، فأضافت إلى الحديث آخر، وإلى اسطوانات عبد الوهاب أغنية (النيل) لأم كلثوم. .

ولا شك أن شاعرنا الكبير حرية ذكراه باحتفاء لم نقم به. وفي الأمم الأخرى تحيا ذكريات أمثال شوقي عندهم على نحو يستفيد منه الناس ويشعرون فيه بجلال أصحابها، فتقام الحفلات والمهرجانات أسابيع تلقى فيها الدراسات وتمثل المسرحيات، ويحج الناس إلى مقبرة الشاعر أو إلى مسقط رأسه، فيشعر الناس بدنيا الأدب والشعر وقيمة الأدباء والشعراء، فيقرءون لهم وتحلق أراحهم في أجوائهم العالية ويحسون بالآدمية المرتفعة فوق مطالب الحيوانية.

فأين نحن من كل ذلك؟ الجواب: لا شيء، ونحن مع ذلك نعيش في الشرق الروحاني. . كما يقولون.

ص: 36

لما لا تقوم الحكومة (وزارة المعارف أو وزارة الشؤون) بإحياء هذه الذكريات! وماذا تفعل الجمعيات الأدبية الثقافية إن لم تقم بذلك؟ وأين وفاء المسرح لشوقي لقاء ما قدم له من روائع المسرحيات؟ أولم يكن يجدر أن يفتتح موسم التمثيل بالأوبرا في 14 أكتوبر بتقديم مسرحية شوقية، وقد اصبح عندنا الآن فرقتان: الفرقة المصرية وفرقة المسرح الحديث فكان يجب أن تقدم كل منهما رواية لشوقي في ذكراه مما تمرنوا عليه ومثلوه من قبل، ثم يأخذون بعد ذلك في برنامج العام الجديد. ولندع ما فات فهل يفعلون بما هو آت؟

طي السجل:

جرت وزارة المعارف على أن تهدي السجل الثقافي إلى الهيئات والشخصيات الثقافية الكبيرة بمصر والخارج، وتخصص لهذا الإهداء أكثر الكمية المطبوعة، أما الباقي فيودع إدارة التوريدات بالوزارة كي يباع لمن يطلبه. وقد بيع من السجل الماضي (سجل سنة 1948) سبع نسخ! والسبعة الذين اشتروه أبطال. . . يستحقون التنويه بما بذلوا من جهد في الحصول عليه! يذهب أحدهم إلى إدارة التوريدات فيصعد إلى الدور الخامس، وكثيرا ما يكون المصعد معطلا فيضطر إلى الصعود على قدميه، وعندما يبلغ مكتب المدير لاهثا يطلب منه أن يكتب طلب الشراء وقد يلصق به (ورقة تمغة) وقد يضطر للهبوط إلى الشارع ليشتري الورق والتمغة ويصعد ثانيا. . ثم (يؤشر) المدير على الطلب، فينزل الطالب إلى الدور الثالث حيث الموظف المختص بالبيع، فيظفر بنسخة من السجل لقاء أربعين قرشا. .

ولم يستطع أحد غير أولئك السبعة الشجعان أن يفعل ما فعلوا وأنا أشك في أنهم سيستعيدون شجاعتهم في هذا العام ليسعوا إلى السجل الجديد (سجل سنة 1949) وما أشك في أن وزارة المعارف تريد نشر السجل لا طينه واختزانه، فليس هناك إذن إلا أحد أمرين: إما أن تهديه كله أو تتبع طريقة أخرى في نشره، والأمر الأول لا ينفع لأن الإهداء لن يستوعب كل من يريد الحصول عليه. فليس هناك في الواقع إلا أمر واحد وهو الأمر الثاني، وهو اتخاذ طريقة تيسره للناس كما تيسر التعليم لكل الراغبين فيه؛ وأنا أقترح عليها أن تعهد به إلى دور النشر كما صنعت بكتاب (تاريخ العالم) الذي تترجمه إدارة الترجمة بالوزارة وتنشره مكتبة النهضة، ودار النشر تستطيع بوسائلها أن تيسر نشره

ص: 37

وتدني نفعه وفي هذا تدليل لصعوبة أخرى هي أجراء مناقصة بين المطابع في كل عام لطبع السجل، وتستنفد إجراءاتها وقتا طويلا يؤخر صدوره عن أوائل العام وذلك لأن دار النشر التي تنشره هي التي تطبعه دون حاجة إلى مناقصة، ولا بد أن تسرع في طبعه وتحسن إخراجه لتضمن رواجه. وفي كل ذلك ما يحقق الأهداف التي ترمي إليها وزارة المعارف بإخراج السجل الثقافي.

اتجاه الأدب وواقع الحياة المصرية:

أذاعت محطة لندن العربية يوم الأحد الماضي، حديثا لمعالي الدكتور طه حسين بك، عن اتجاه الأدب وواقع الحياة المصرية الحاضرة، قال معاليه: كانت مصر قبل العشرين سنة الأخيرة تفكر تفكيرا مصريا بحتا، وقد كان ما يكتبه الأدباء المصريون ينتشر ويتداول في الأقطار العربية الأخرى، ولكن الموضوعات التي يتناولونها ومجال آراءهم ومدار أفكارهم - كل ذلك لم يكد يتجاوز الحدود المصرية. ولكن تطور الحوادث والاتجاهات بعد ذلك أخذ يحول التفكير إلى مجرى الحياة العربية العامة وأخذنا نفكر ونكتب باعتبارنا عربا لا باعتبارنا مصريين فقط ولم يقف الاهتمام بالحياة العربية عند المشرق وحده، بل انتقلنا بعد ذلك إلى طور آخر اتجهت فيه أنظارنا إلى المغرب، فأولينا البلاد العربية الغربية عنايتنا وعنينا بشؤونها ومسائلها.

وقال معاليه وكنا ننظر إلى الأمم الغربية في أوربا وفي أمريكا على أنها أمم متفوقة في الحضارة والقوة وأننا قوم متخلفون، ننظر إلى ما يرد إلينا منها على أنه شيء فائق معجز ولكن هذه النظرة دخلت بعد ذلك في طور آخر، هو أننا نعتبرها حقا أمما متقدمة في الحضارة وفي القوة، ولكننا أخذنا نشاركها، تأخذ عنها حينا وننقدها في أكثر الأحيان ونحن الآن ننتج في الأدب ألوانا كالألوان السائدة في الغرب فتكتب في الأنواع التي يكتبون فيها من دراسات وبحوث وقصص ومقالات، حتى الشعر، يجري فيه شعراؤنا على مناهجهم في التفكير والنظر إلى الأشياء، وأن كانوا يحافظون على نسقه الشكلي القديم. ولا شك أن الفضل في اتصالنا بتلك البلاد الغربية يرجع إلى الجامعات والأساتذة الذين نستقدمهم من الخارج والبعوث التي نرسلها سواء التي توفد للدراسات بالمعاهد والذين يشتركون في المؤتمرات والهيئات الدولية وشيء واحد هو الذي نفترق فيه عن تلك الأمم الغربية، وهو

ص: 38

أنها تخلصت من قيود الحرب الماضية، ولكننا لا نزال نشعر بآثارها، فأتيحت لهم بذلك حركة وطلاقه، ويوم يتاح لنا أن نتخلص من ضباب الحرب الباقي عندنا لا بد أن نلحق بهم، فأنا متفائل جدا بمستقبلنا القريب، يوم نفكر في أشياء لم نفكر فيها بعد. أو يفكر فيها بعضنا ولكنها لم تخرج إلى حيز الوجود.

مكافحة اللغات الإسلامية في الهند:

تنشر الصحف بين آونة وأخرى تصريحات لبعض ساسة الهند تتضمن أن الدولة الهندية ترعي حقوق الأقلية المسلمة التي بقيت في بلادها بعد أن تكونت دولة الباكستان من أكثرية مسلمي الهند، وقد قرأت أخيرا تصريحا لأحدهم يطلب فيه أن تتعاون مصر مع الأربعين مليون مسلم الموجودين في الهند وأن تهتم بشعورهم (وخاصة أن لهم مدارس تعلمهم اللغة العربية) وقد جاءت هذه العبارة المحصورة بين الأقواس في خلال التصريح دون مناسبة. فأن اهتمام مصر بمسلمي وشعورهم لا يتوقف على أن يكون لهم مدارس تعلمهم اللغة العربية. إنما المقصود - على ما يبدو لي - أن يقال ذلك لتغطية شيء، هو ما أردت الكشف عنه بهذا الموضوع.

لقد وقف العالم على ما كان من نزاع وتطاحن بين الهندوس والمسلمين قبل أن تنقسم البلاد الهندية إلى الدولتين الجديدتين، وعلم الناس أمر المشكلة الهندية المشهورة التي محورها (البقرة) التي يقدسها الهندوس ويذبحها المسلمون، ولم تفلح إنسانية غندي في التوفيق بين التقديس والذبح، فلم يكن بد من الانقسام، وكان المسلمون في الهند قبل هذا الانقسام نحو مائة وعشرين مليونا، وكانوا أقدر على مقاومة الاضطهاد من المسلمين الباقين في الهند الذين أصبحوا أقلية منتشرة في البلاد لا حول لها ولا طول؛ وكم نود أن نفهم أن دولة الهند الحديثة المستقلة التي قامت على مبادئ الحرية والعدالة أمكنها أن تحول التيار وتبدل الناس غير الناس أو تتصرف هي على الأقل تصرفا يدل على الاهتمام بشعور المسلمين في الهند. فهل تحقق ذلك أو أننا هنا نسمع لباقة من الساسة وتظاهرا ليس وراءه ما يسنده؟

في العام الماضي قرر المجلس التشريعي الهندي استبعاد الألفاظ العربية والفارسية والتركية من لغاتها وإحلال السنسكريتية محلها، وهذه الألفاظ التي تقرر استبعادها تكون الجزء الأغلب في اللغة الأردية، وكان دخولها فيها نتيجة للفتح الإسلامي وتتابع الدول الإسلامية

ص: 39

في الهند، وهذه اللغة الأردية التي تكونت من الهندية القديمة ومن العربية والفارسية والتركية استعملت في قرون متتابعة كانت فيها لغة الحضارة والثقافة الإسلامية هناك وتغلغلت بوساطتها الآداب الإسلامية ونظمت العلاقات بين الأفراد وبين الفرد والجماعة، وسادت في البلاد الهندية جميعها بين المسلمين وغيرهم ونقل إليها الكثير من المعارف الغربية.

فما هو الدافع إلى ذلك القرار؟ هل هو توحيد اللغة بين أهل البلاد وتسهيل التخاطب بينهم؟ أن كان هو الغرض فأن الأردية أصلح له، لأنها لغة الجميع السائدة في شتى أنحاء الهند. ليس هناك إذن إلا محو الآثار الإسلامية التي استقرت هناك بفعل التاريخ وصبغت القوم بصبغتها، وليس هناك أيضا إلا أن تخنق اللغة التي تصل المسلمين بثقافتهم وما يمت إليها. فيجب لذلك أن تصبح الهندستانية (المبرأة) من الكلمات الإسلامية لغت الهنود!

ولا شك أن الأقلية المسلمة الموجودة الآن في الهند لا تستطيع ذبح بقرة، فهل حرمت عليهم أيضا ألفاظ القرآن الكريم وهل جاء (العذاب الروحي) من قسمهم مقابل (العذاب البدني) عند الهندوس. .؟

عباس خضر

ص: 40

‌البحرية الإسلامية

تأليف الدكتور علي محمد فهمي شتا

للأستاذ منصور جاب الله

العنوان الكامل لهذا السفر القيم (البحرية الإسلامية في شرق البحر المتوسط من القرن السابع إلى القرن العاشر بعد الميلاد)، ومنذ عامين قدم الدكتور علي محمد فهمي شتا المفتش في وزارة المعارف هذا الكتاب إلى جامعة لندن، رسالة نال بها الدكتوراه الفلسفية في مادة التاريخ. وفي مطالع هذا الصيف طبع الرسالة باللغة الإنجليزية، وهو الآن بسبيل إخراجه باللغة العربية لتتم به الفائدة. وكتاب البحرية الإسلامية يتضمن سردا وافيا للتنظيمات البحرية في شرق البحر المتوسط بين القرن الأول والقرن الرابع بعد الهجرة، ولا نحسب أن كاتبا من الكتاب طرق هذا الباب من قريب أو بعيد سوى في العربية أو في غيرها من اللغات.

ويؤيد هذا الزعم الذي ذهبنا إليه أن الأستاذ (وستنفلد) جزم في تقريره الذي قدمه إلى جامعة جوتنجن عام 1880بإن أحد من الباحثين لم يطرق باب النشاط البحري عند المسلمين. وفي عام 1946أكد الأستاذ جاتو هذه الحقيقة في مقال نشرته مجلة (ريفيو أفربكان) مشيرا إلى أن انعدام المراجع لم يغوي أحدا من الباحثين على التوغل في ذلك الميدان.

وكذلك ضل تاريخ البحرية الإسلامية مغلوفا في غلالات من النسيان، وبقى الباحثون عنه في تيه سر مدى، ودفن دقائقه مع المؤرخين الإسلاميين القدامى الذين غيبوا عنا من زمن بعيد.

وقد وقفنا طويلا نتساءل عن سر اهتمام رجل مثل الدكتور شتى - وهو من رجال التعليم - بالمسائل البحرية، هذا الاهتمام الذي تجلى في كل سطر من سطور كتابات النفيس، وماله لم يلق هذا العبء على غيره من رجال البحر المثقفين عندنا؟ ثم عدنا نجيب بأن مرد ذلك إنما يرجع في الأكثر إلى العقل الباطن في المؤلف فهو من أسرة سكندرية عريقة، وأنه ليرى في مراحه ومغداه المنشآت في البحر كالأعلام، فينبع السؤال من قلبه: كيف نشأت؟ وكيف كانت؟ ثم كانت رسالته العلمية جوابا على خمسة فصول يبحث أولها في

ص: 41

دور الصناعة عند العرب والقواعد البحرية عند المسلمين معتمدا في ذلك على أوراق البردي وكتاب العرب القدامى. وقد بدأ بتحقيق ذلك في مصر وبين أهمية مرافئ القلزم والإسكندرية ودمياط ورشيد والقواعد البحرية الأخرى ثم عرج على تاريخ أول (ترسانة) إسلامية في مصر، وهي تلك التي كانت في حصن (بابل) وحدد موقعها تحديدا يذهب كل لبس. ثم عكف على معالجة دور الصناعة في الشام وتحدث باسم أب عن دار الصناعة في طرسوس.

وتناول الفصل الثاني مراكز قيادة الأسطول الأفريقي في برقة، وتحدث عن الصناعة البحرية في تونس، وأثبت أن أقريطش (كريت) كانت مركزا بحريا مهما في فجر الإسلام إذا قورنت في جزيرة قبرص.

أما الفصل الثالث فيتضمن وصف أدوات صناعة السفن ومنها أنواع الخشب المختلفة، ومناسبة كل نوع لغرض بحري، ثم أشار إلى توفر الخشب - في ذلك العهد - في كل من مصر وسوريا، وتناول بعد ذلك صناعة الحديد والسلاسل النحاسية والحبال وغيرها من الأدوات التي تستعمل في الصناعات البحرية.

ودرس في الفصل الرابع مسألة تنظيم الأساطيل الغازية وهي أسطول مصر وأسطول الشرق وأسطول إفريقيا، وأدلا بمعلومات خاصة عن قوة كل أسطول وميزانيته، ثم تطرق إلى الكلام عن الضرائب والسخرة والتجنيد وطرائق جمع البحارة والمقاتلة والصناع، وبعد ذلك تفرغ إلى البحث في مسائل التموين والذخيرة والأجور إلى أن انتهى إلى مسألة الفارين من الجندية البحرية الإجبارية وكيفية عقابهم وطرق استتابتهم.

أما الفصل الأخير في هذا الكتاب النادر فيتحدث عن الطابع الذي تمتاز به سفن البحر المتوسط - أو بحر الروم كما كان يسمى عند العرب - ونوازن بين السفن الإسلامية في ذلك البحر والسفن الإسلامية في بحر الزنج أو المحيط الهندي، ثم يتبع ذلك دراسة شاملة عن أنواع السفن البحرية والعاملين فيها، وأخيرا يردفها بالتعليمات الرسمية التي أصدرها الخليفة العباسي متعلقة بمهام قائد الأسطول.

وبعد تمام الكتاب أضاف إلية مؤلفه العالم ثلاثة تذييلات أولها عن الغابات في مصر والأمكنة التي كانت توجد بها وطرائق العناية بها وصيانتها وثانيها عن أسماء السفن في

ص: 42

عهد الدولة الطولونية، وآخرها عن أسماء السفن كما ذكرها المقدسي.

ومن خلال هذا العرض الموجز يعرف مدا المجهود الذي بذله المؤلف الشاب في كتابه الفريد في بابه، وكثرة المراجع التي أخذ نفسه بدراستها، ويزيد الأمر غرابة أن المؤلف لم يشتغل بالشؤون البحرية ولم تكن له دراية بها، ومن ثم يكون عمله هذا فذا في نوعه طريفا في بابه، يستحق عليه الإعجاب والإكبار.

منصور جاب الله

ص: 43

‌في رحاب الصوفية

تأليف الأستاذ أحمد الشرباصي

للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر

الكلام في الصوفية لغير الخاصة محتاج إلى براعة فائقة تقرب مدلولاتها للأذهان، وتدنى رموزها من القلوب. ولقد أتخذ بعض (المتواكلين) كلمة (التصوف) سبيلا إلى المتاجرة بها على أسلوب من الزهادة المصنوعة، وجعل لها (طقوسا) يخدع بها الساذجين من العامة، حتى يسيروا في ركابه، ويتمسحوا بأعتابه!

وقد عمد الأستاذ (الشراصي) إلى الوجازة المفيدة في تعريف الصوفية ليكشف الحقائق عن حقيقتها ليتعرفها من يعرفها مشوهة، ناقصة، ذات بريق خداع!

واستهل صاحب الرسالة بحثه الخاطف بشطحات يحلل بها السلوك الصوفي على أسلوب من الترغيب، لكنه لم يتعرض إلى معنى كلمة (التصوف) بحسب ما أراده بأسلوبه المقرب، مع أن المقصود من إيراده كشف الغطاء عن تلك الكلمة التي يخدع الخادعون بها البسطاء!

لم يكن المقصود من التأليف هذه العجالة العمق، والتخصص والإحاطة، لأنها ليست مرسلة للخاصة كما قلنا، لكنا نعتقد أن الحومان حول الكلمة ذاتها في استهلال البحث أدعى إلى المعرفة (الساذجة) من العرض الذي عرضه من دون تنبيه الأذهان!

لا ننكر لباقيه حينما تعرض (للشطحات) وصورها بأسلوب السلس الدفاق، الملئ بالجاذبية، والوضاءة، والألمعية، لكنا لا زلنا عند رأينا في ضرورة الإفصاح عن مدلول كلمة (التصوف).

بتغلغل في الريف جماعة لا هم لهم إلا اصطياد السذاجة في أحبولة الخداع؛ فيقع في شراكهم كثير من طالبي الحاجات يطلبون الخير والبركة، ويلتمسون العفو والمغفرة، ويأنسون إلى المخادعة والمنافقة!

إن الإشارة إلى هؤلاء البغاة على الأيمان فقيدة في الرسالة الصغيرة، وكان حريا بالأستاذ الشرياصي - وهو القوي الأيمان - أن يصور بقلمه الثائر الجوانب التي يعيش فيها المرتزقة باسم التصوف، لكنه تغافل وجودهم اكتفاء باستعراضه الصور الوضيئة للمتصوفة.

ص: 44

على أن هذه الرسالة - على صغرها - قد دعت إلى التمسك بأهداب الدين، والعمل وفق ما دعا إليه، ومحاربة حب الظهور، ومداواة العيوب، وملازمة الزهادة، والصبر على الشدائد، وآداب الدعاء، وطرق الاستجابة وكبت الشعور، والتكشف عن الذات العلية!

لقد ساق هذه اللمحات في صفحات؛ فصورها بأسلوبه اللامع الذي يزيل عتمة القلوب!

بور سعيد

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 45

(حول مقال التشبه في القرآن)

كتب الأستاذ الفاضل أحمد أحمد بدوي مقاله القيم (التشبيه في القرآن) بالعدد (895) من مجلة الرسالة الغراء، ومن يقرأ هذا المقال لا يملك أن يكتم إعجابه بما للأستاذ من ذوق فني سليم، وحس أدبي مرهف، ولا يمنعني إعجابي بالمقال من أن أتوجه إلى صاحبه بكلمة لا تغض من قيمته: بعد أن قرار الأستاذ أن القرآن ليس فيه سوى تشبيه المحسوس بالمحسوس، وتشبيه المعقول المحسوس تعرض للآية الكريمة:(طلعها كأنه رءوس الشياطين) وتكلم عنها كلاما يفيد أن المشبه به هنا أكتسب قوة المحسوس فأصبح في حكمه، وبعد هذا أجرى مجرى هذه الآية قوله تعالى:(فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبر أو لم يعقب) ثم قال: فهي صورة قوية للجان تمثله - شديد الحركة لا يكاد يهدأ ولا يستقر. والواقع أنه إذا كانت رءوس الشياطين قد صارت من الشهرة بحيث أرتسم لها في أذهان الناس شكل خاص، فأن اهتزاز الجان وشدة حركته لا يباغ بحال أن يصل في شهرته إلى أن يكون محسوسا أو كالمحسوس. . فلعل الأوفق ألا نجري هذه الآية مجرى سابقتها، إذ أن المشبه به محسوس فعلا، ولا يحتاج إلى مثل هذا التأويل؛ فالجان هنا ليس الجان بالمعنى الذي تطرق إلى ذهن الأستاذ، وإنما هو حية أو ثعبان، ولا تنطق بهذا كتب المفسرين وحدهم، وإنما تشهد بذلك كتب اللغة: يقول الجوهري في الصحاح: والجان أبو الجن، والجان أيضا حية بيضاء، وهذا المعنى الأخير لا يكاد يخلو منه كتب اللغة. . .

ومالنا نذهب بعيدا، والقرآن نفسه - وهو الذي يكمل بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا - يقول موضع آخر:(فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) سورة الأعراف: آية 106 - ثم يقول أيضا: (قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى) سورة طه آية 19 وهكذا يتبين لنا أن المشبه به شيء محسوس فعلا لا يحتاج تأويلا أو قياسا، ولعل هذا الذي ذكر هو أكثر اتساقا ومسايرة لمنهج الأستاذ في بحثه، فالعصا في شكلها وحركتها واهتزازها اقرب إلى الثعبان منها إلى الجان. وأخيرا فللأستاذ إعجابي وتقديري.

عبد الجواد الطيب

إلى الأستاذ عباس خضر

لا يا سيدي، ليست روحيتنا في التواكل والأوهام والخرافات بل أنها على العكس تدعونا

ص: 46

إلى النهوض مما نحن فيه في تكاسل وتناوم جعلنا - نحن الشرقيين - ذيلا للشعوب، وإنما هي تنصحنا بأن يكون نهوضنا عمليا لا يكتفي فيه بطنطنة جوفاء لا تؤدي إلى غاية. وهي تدعونا إلى الخروج على ضلال الأوهام والخرافات الذي لا زال الكثيرون يعمهون فيه فلا يستطيعون التفريق بين حق وباطل.

وليست روحيتنا في التنجيم والفنجان والكف وما دعوته باستحضار الأرواح. . . إلى آخر ما آداك إليه علمك بالروحية، فهذه الخزعبلات لمن عرف الروحية على حقيقتها ليست من الروحية في شيء. والواقع أن دعوتنا لم تقم إلا لتنقية جو الروحية من هذه الصغائر وجلاء حقيقتها الكبرى ليراها الناس، بعد أن عجزت العقول المشغولة بحب المادة عن استخلاص النتائج الدالة على هذه الحقيقة في المقدمات الطبيعية.

ولقد كان يحق لك أن تعترض على عمل (جماعة الأرواح) التي تنظر إلى وجودها بين مصدق ومكذب لأنك لا تلمس أجسامها بيديك، لو أنك كنت قد استطعت بنفسك أن تجعل في عالمك هذا، بعد أن تسلمت قياده وتوليت أمره، عالما تتسع فيه الحياة للناس جميعا، فلا تسمع فيه استغاثة محتاج ولا أنه مريض، ولا يرى فيه تخبط جاهل في ظلمات جهله؛ أما وقد فشلت يا صديقي في أن تحقق في هذا العالم ما توجبه للإنسان إنسانيته، بدليل هذا الفساد الشامل والاضطراب الواقع، فما هو إذا وجه اعتراضك على عمل هذه الجماعة التي وجهها الخالق إلى إخراج عباده مما هم فيه من ضلال وإنقاذهم مما هم صائرون إليه من سوء المآل؟

ومن الأنصاف أن نذكر أنه ليس بمستكثر ممن باعدت ميوله المادية بينه وبين الروحية أن يقع في الخطأ الذي وقعت فيه. ولو كنت اقتربت من الروحية لرأيت أن غايتها أن يتخلص الإنسان من متاعبه ويستكمل وسائل راحته، وأنها تسعى به إلى هذه الغاية بتوجيهه إلى أتباع ما وضع لانتظام الكون في قوانين لم يشذ في السير عليها إلا هذا الإنسان نفسه. وإنما تحارب الروحية فعلا تلك المادية التي تدفع الناس إلى سوء استعمال ما وصل إليه علمهم من هذه الوسائل.

ولقد عجبت من أنك تريد للضعفاء والفقراء أن يعوا أسباب ضعفهم وفقرهم ليتخلصوا منها ثم لا تدلهم على الوسيلة الفعالة التي يستطيعون بها ذلك؛ بعد أن جردتهم - بإنكارك وجود

ص: 47

القوى الروحية - من تلك القوة التي تمد السماء بها الضعيف ليصبح قادرا على التغلب على من يريد أن يطفى عليه.

وزاد عجبي حينما رأيتك تعود، بعد افتخارك واعتزازك بالانتساب إلى المادية، لتتعلق بأستار الروحية فتقول إنه لا زال في نفسك معناها الحقيقي الذي (هو شعور الإنسان بجمال المعاني النفسية والسلوك الإنساني الكريم، ذلك الشعور الذي يخلق في المرء روح التعاون والتكافل الاجتماعي، على أن يكون ذلك ممتزجا بالواقعية في مواجهة مسائل الحياة وبالمنطق المعقول في فهم الأشياء). فهل علمت يا صديقي أن الروحيين جعلوا للروحية معنى غير هذه المعاني التي رجعت تقول بها بعد أن اعتقدت (أن قانون الحياة الذي لا يدافع هو أن يستطيع الإنسان أن يأخذ حقه من الإنسان، لا أن ينتظر حتى يشعر بالعطف عليه)؟

أرجع يا سيدي إلى الكتاب فاطلع عليه إلى نهايته! أرجع إليه، وفقك الله، فدقق النظر فيه، بتدبر معانيه ومتابعة مراميه لترى فيه معنى الروحية الحقيقي، ولتعلم أن كاتبه لم يتعد الحق حينما ذكر أن موضوعه ليس من وضعه وأن عبارته ليست من بنائه.

فان أبيت إلا انصرافا عن جد الأمر إلى هزله، فطلبت روحا ليقنعك، أو يداعبك، فليس ببعيد ذلك اليوم الذي سترى فيه من الأحداث الجسيمة والوقائع العظيمة التي كتبها الله على العالم ما يجعلك تقتنع كل الاقتناع بأن (الوساطة الروحية) لم تأت في أمر هين ليكون موضوعها مادة للتظرف والتفكه.

عبد اللطيف محمد الدمياطي

الدراسات العليا في الأزهر

تحت هذا العنوان كتب صديقي الأستاذ عبد المنعم خفاجي في العدد (900) من الرسالة الغراء مقالا انتهى منه إلى أمرين.

(أولهما) إعادة الدراسات العليا في الأزهر متمثلة في تخصص المادة.

(ثانيهما) أن هذا التخصص قد قام بواجبه في خدمة الثقافة الأزهرية خير قيام، وقد فتح للثقافة الإسلامية آفاقا واسعة.

ص: 48

ولما كان الأزهر مقبلا على عهد جديد، ولما كانت مثل هذه الكتابات تنبه الأذهان، كان من الواجب على الحريصين على سمعة الأزهر، والراغبين في الإصلاح الحقيقي أن يناقشوا هذه الآراء.

ولا أدري لماذا يكره كثير من الأزهريين الكلام في إصلاح الأزهر، أو النقد لما ينتجه الأزهريون من كتب، وما يطبعه أبناؤه من مؤلفات، وما - يجمعونه أحيانًا - من الكتب القديمة ويسمونه تجديدا؟

وطالما تردد في نفسي أن أكتب عن كتب أزهرية، أو أشترك في المجادلات التي دارت وتدور حول إصلاح الأزهر، أو أبدي رأيي في تخصص المادة بالذات، ولكن كان يمنعني أن بعض الأزهريين يضيقون أشد الضيق بالصراحة والحق فكنت أسكت على مضض، فلما كان مقال الأستاذ خفاجي رأيت الفرصة سانحة لأن أجهر بحق طالما كتمته.

وقبل أن أخوض في الموضوع أحب أن يفهم الذين يعنيهم هذا المقال أني لا أقصد الجميع، وإنما أقصد المجموع على حد تعبيرنا الأزهري، وأن من بين الذين تخرجوا في تخصص المادة من هم في الطليعة بين أساتذة، الأزهر وأني أحمل للجميع كل مودة واحترام، ولكن لنستجيب مرة لصوت الحق.

وأعود إلى الموضوع فأقول: أما أن إعادة الدراسة في هذا التخصص واجبة فلا ثم لا، وأما أن هذا التخصص أخفق في أداء رسالته فنعم ثم نعم.

لقد فكر الشيخ المراغي عليه سحائب الرحمات في إنشاء هذا التخصص، وكان يأمل أن يخرج منه أبو حنيفة في الرأي، ومالك في الفقه، وعبد القاهر في البلاغة، وسيبويه في النحو. . وهكذا، فلما حضر مناقشة الفرقة الأولى، ورأى ما هم عليه اعتراه بعض الشك.

أما الرسائل التي يقول الأستاذ خفاجي أن فيها جهدا كبيرا، وألوانا جديدة من البحث والتحليل، فيؤسفنا أن نقول أن البلاغة العربية لا تزال كما قعدها السكاكي، وأن النحو العربي لا يزال كما وضعه نحاة البصرة والكوفة في القرنين الثاني والثالث، ونقول مثل ذلك في الفقه والأصول والتفسير والحديث والكلام، وأن هذه الرسائل لم تضف مسألة جديدة إلى العلم. نعم إن في بعض هذه الرسائل جهودا، ولكن هذه الجهود ليست في الاجتهاد والإصلاح، ولكنها في الجمع والتأليف، على أن الأستاذ خفاجي يضطرنا إلى أن

ص: 49

نقول في هذا الموضع: إن عالما أزهريا هو الآن في الكويت قد تنفس قلمه - على ما يقال - عن كثير من هذه الرسائل بل أن بعض الرسائل من وضع لجنة من الأساتذة، وليس لأصحابها فيها إلا وضع أسمائهم الكريمة على غلافها. وإني لأقول عن يقين أن هذا القلم الضعيف قد ألقيت عليه رسالة ليست في البلاغة ولا في الأدب كما يمكن أن يفهم لأول وهلة، بل في الفقه. وليست في الفقه الحنفي كما هو المنتظر، ولكنها في الفقه الشافعي. ولك أن تقدر، وللقراء أن يحدسوا ماذا تكون رسالة ضاقت السبل على مؤلفها الشافعي فلم يجد إلا حنيفا تخرج في كلية اللغة العربية ليلقي عليه عبء إصلاحها، وإنشاء بعض فصولها!!

وأما أن الأساتذة الذين تخرجوا في هذا التخصص حملوا بجدارة مناصب التدريس في كليات الأزهر ومعاهده فأمر يسأل عنه الطلاب، وما أظن أن رأيهم يوافق الأستاذ خفاجي كثيرا، بل ما أظنه يشرف. على إني أعتقد أن الأستاذ الفاضل لا يجهل رأي الأساتذة الذين أشرفوا على الامتحانات في هذا التخصص، وإن لم يقنع كلامي هذا صديقنا خفاجي فليرجع إلى التقريرات التي كتبت في هذا الشأن، وسيحمد لي أني لم أطلب نشر تقرير واحد منها.

وأعود فأقول إن من بين المتخرجين في هذا التخصص من يفخر بهم الأزهر، ولكن مع قلتهم لم يكن نبوغهم وليد الدراسة في هذا القسم، وإنما هي جهود شخصية، وظني أنهم لو لم يضيعوا زهرة شبابهم في هذه الدراسة لكانوا أحسن مما هم.

ثم أقول: لو أراد رجال الأزهر أن يعيدوا الدراسات العليا فيه، فليفكروا في كل شيء إلا أن يفكروا في إعادة تخصص المادة. فانهم جميعا - بحمد الله - ممن يؤمنون بأن هذا التخصص، لم يبلغ الآمال التي كانت ترجى من إنشائه، وأنه كان مضيعا لمن درسوا فيه، وأن النفع منه كان قليلا بل أقل من القليل.

(وبعد) فلعلي أكون جهرت بكلمة يعرفها كل الأزهريين، ويودون الجهر بها. ولعلي لا أكون أغضبت أصدقائي ممن درسوا في هذا التخصص، فإني ما أريد إلا الخير والإصلاح والحق والإنصاف، وقديما قال أرسطو لصاحبه: أنت صديقي والحق صديقي، ولكن الحق أولى بصداقتي، وإني أعيد ما قلته آنفا: إني أتكلم هنا عن الكثرة الغالبة، أما النوابغ فمكانهم

ص: 50

محفوظ.

ع.

تعقيب على مقال

قرأت في العدد 881 من مجلة الرسالة الزاهرة مقالا قيما بعنوان (السيدة نفيسة) للأستاذ أحمد رمزي بك وطالما أتحفنا الأستاذ بأحاديثه القيمة الممتعة على صفحات الرسالة الغراء ولكن الشيء الذي لفت نظري واسترعى انتباهي هو استعماله كلمة خصيصا حيث قال (. . . اركب خصيصا لهذا المقام ألخ. . .) ولا يخفى أن صيغة فعيل بمعنى المفعول ليست من المقيسات بل هي مما يؤخذ بالسماع ولم ينقل عن العرب خصيص بمعنى مخصوص. وقد جاء في بيتين قالهما أبو الرقممق جوابا لأصحاب دعوة إلى الصبوح في يوم بارد وسألوه أين طعام يريد أن يضعوا له ويقال أنه كان فقير الحال ليس لديه كسوة تقيه عادية البرد أما البيتان فهما.

أصحابنا قصدوا الصبوح بسحرة

وأتى رسولهم إلي خصيصا

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

ولقد ورد في كتاب معاهد التنصيص في شرح شواهد التلخيص كلمة خصوصا لا (خصيصا) وقد أيدني في هذا مجمع فؤاد الأول للغة العربية.

بغداد

عبد الخالق عبد الرحمن

ص: 51

‌امرأة معذبة

للأستاذ يوسف يعقوب حداد

جاء بغداد يبحث عن المتعة لنفس حرمت المتع منذ عهد بعيد، جاء بغداد ينشد فيها حياة جديدة، حياة ممتعة، بعد أن مل الحياة على وتيرة واحدة، كأنها اسطوانة واحدة، تتكرر كلما أشرقت الشمس وغابت!

وكانت ليلته تلك في الفندق، أول ليله له ينام فيها وحيدا، غريبا، فما سبق أن ألف حياة الوحدة والغربة.

ودقت الساعة الكبيرة المائلة أمامه عشر دقات، فوجد نفسه ضجرا، قلقا، لا يدري أين يقضي سواد هذه الليلة، وقد اعتزم من قبل ألا يترك لحظة واحدة من أيام إجازته القلائل تذهب مأسوفا عليها!. . . وفجأة تذكر أن فتيات (ملهى الأنوار) ينزلن هذا الفندق، فتساءل بينه وبين نفسه، لم لا يذهب إلى (ملهى الأنوار) ويتعرف على جاراته الحسان؟. . . لم لا يمضي هذه الليلة بين كأس ووتر؟!. . .

وفي طرف منعزل من حديقة الملهى، كان يشرب (بيرة) مثلجة، ويسمع نغما عابثا، ويتطلع بعينيين جائعتين إلى أربع وعشرين ساقا، تلمع كالسيوف الصقيلة، تحت أشعة المصابيح الصغيرة الملونة!. . .

ولفتت نظره واحدة منهن، كانت تشرب الكؤوس متتابعة، وتتدلل بإفراط، قد كشفت عن صدرها وظهرها في إسراف، فظل يرمقها في مجلسه، لا يكاد يحول عينيه عن جسدها العاري، أو ينقل نظراته عن صدرها العاجي، وكم اشتاق إلى صدرها العريض ليربح عليه رأسه المتعب. . .

كان من عباد الجمال الغربي، يثيره منه الشعر الأشقر كأنه سلاسل من ذهب، والعيون التي كأنها بحار من لازورد، والجسد الرشيق كأنه رمح صقيل، والنهود النافرة كأنها تتحدى السماء في عجرفة وكبرياء!

وكان صدره يتمزق آسى وحسرة حين وجد هذه الغانية اللعوب تغازل الشيوخ وقد عرفت في محافظهم انتفاخا مغريا، وتعزف عن الشباب وقد أدركت أنهم لا يملكون في جيوبهم غير مناديلهم المعطرة!. . . أحس أنه يشتهي هذه الغانية. . . ولكن دنانيره الهزيلة أضعف

ص: 52

من أن تستطيع الوصول به إليها، فأسرع يغادر الملهى، ليدفن رأسه بين طيات وسادته، ويصم أذنيه عن صدى أغاني الراقصات الهنغاريات المثيرة، ويغمض عينيه عن طيف (جانيت) الفتاة البوهيمية اللعوب التي أبث ألا أن تظل ماثلة أمام عينيه بدلالها، وجسدها المملوء فتنة، المتفجر حيوية!

وأوشك أن يتغلب على الشيطان الذي يحاربه، أوشك أن يصرع الوحش الهائل الذي هاج في أعماقه ويستسلم لنوم عميق هادئ، لولا أن رن جرس الباب رنينا متصلا، مزعجا، إطار النوم الذي كان يغالب خفنيه، فاعتدل يحاول أن يتبين الوقت في ساعة يده الفسفورية، فألقى عقارب الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل.

وتعالت عليه من أسفل السلم ضحكات ناعمة رن صداها في أذني المرهفتين، فتذكر فتيات الملهى، ثم ما لبث أن رأى (جانيت) تلك الفتاة التي أثارته بأنوثتها الحية وجسدها المغري وهي تدلف بخفة ورشاقة إلى غرفة التلفون المقابلة لغرفته، وتتحدث بلغة إنكليزية ركيكة إلى خادم الملهى تسأله أن يرسل إليها زجاجات من (البيرة) المثلجة! فأدرك من التواء الكلمات في فمها، وتعثر الألفاظ على شفتيها أنها ثملة، وأنها فقدت السيطرة على أعصابها!

ولأول مرة رآها من قريب، فراحت عيناه تلتهمان لحمها العاري المتورد وقد انحسر عنه الثوب، ولكنه استطاع أن يقاوم ثورته وتشبث بسريره بقوة وظل صدره يرتفع وينخفض بشدة، وأحس بقلبه يخفق في عنف!. . . لقد أوشك أن يجن في اشتهاء هذه المرأة، وكاد صدره يتمزق حسرة؛ لأنه لا يستطيع إرواء غليله منها!. . . لأول مرة شعر أنه يكره من أعماق قلبه أغنياء الناس، يكرههم، ويحسدهم، مع أنه عاش حياته قانعا بنصيبه من النعمة، يحب الناس وتحبه الناس!

ولم يطل الصمت بعد أن أوت كل فتاة إلى غرفتها وأسلمت نفسها لأحضان فراشها وهي تلهث كالحيوان المتعب، فقد رن جرس الباب مرة أخرى ذلك الرنين الطويل المزعج وأقتحم الفندق ثلاثة من أبناء الذوات، قد أفقدتهم الخمر شعورهم، وفيما هم يجادلون خادم الفندق جدالا سخيفا، مملاً، إذا بتلك الفتاة تخرج من غرفتها عارية إلا من ورقة التوت التي استترت بها جواء، فما كادت عيون الشباب السكارى تقع على محاسنها المكشوفة، حتى ثارت في عروقهم وحوش الشهوة، فتشبثوا بها يريدونها لمتعتهم سواد تلك الليلة، ولكن

ص: 53

الفتاة أبت، وحاولت أن تتملص من الأذرع الفولاذية، ولكنها لم تستطيع - فالفريسة قد وقعت بين أنياب الوحوش الكاسرة!. . . غير أن (جانيت) لم تشأ أن تستسلم لهم، كالشاة الذليلة إلى المجزرة - فثارت فيها تلك اللبوءة الجاثمة في أعماقها، وراحت تسمى للخلاص بكل قوتها، وما كان منها وقد كادت تخور قواها، إلا أن تصوب من كفها الرخصة، صفعة قوية إلى أشدهم قسوة، تكفي لإرهاب الوحوش، وإبعادهم عنها، ولكن هذه الصفعة التي تناهى رنينها إلى غرفة الفتى - قد أثارت نشوة الشاب المصفوع، وأحس بأن كرامته قد أذلتها امرأة - يستطيع أحقر الرجال أن يذل كرامتها، ويشتري شرفها وعزتها، فتناول الفتاة بالضرب المبرح حتى أدمى جسدها.

وسمع الفتى صوت (جانيت) وهي تستغيث بصوت باك يقطع نياط القلب، فقفز من فراشه وقد ثارت حميته، وخف لنجدة المرأة المستغيثة. . . وحين لحق بها، وجدها مرفوعة في الهواء، على ذراعي أحد الشباب السكارى، يريد أن يقذف بها من حالق!

وأنقذ الفتاة من موت محتم. . . ثم عاد إليها ليجدها وقد أسلمت نفسها لبكاء مر يفتت الكبد ويذيب الحجر!

لم تكن الفتاة تبكي من جراحها الدامية أو من ألم الضربات المبرحة، وإنما كانت تبكي حظها، تبكي طهرها، تبكي عفافها. . . كانت تبكي لأنها فقدت الطهر والعفاف، وصارت واحدة من بنات الليل، تفرش عفافها تحت أقدام اللذة المنهومة وتعرض جسدها للمذلة والمهانة!. . . كانت تبكي في مرارة مؤلمة وتنشج في حرقة وحرارة؛ لأنها امرأة ضعيفة تعجز عن الانتقام لكرامتها والدفاع عن نفسها. . . كانت تبكي لأنها عند الناس بائعة هوى رخيصة يستطيع كل من يملك ثمنها أن يؤجرها لمتعته وهواه!. . . نعم، كانت تبكي لأنها في هذا البلد امرأة غريبة ليس لها من يحميها وقد حرمتها الحرب زوجها وطوح بها القدر الساخر إلى عالم داعر فاجر تتوائب في ساحته ذئاب ضارية وتتحفز لتقطع عنقها وتفترس جسدها!. . . جرح الرصاص زوجها، واختطف الموت طفلها - وساقها القدر من بلد إلى بلد وتنقل بها من ملهى إلى ملهى، تبيع لطلاب المتعة، وتشتري لنفسها الحياة!

كانت تشكو للفتى ظلم الحياة وقسوة القدر، وتمزج حديثها بالدموع وتنفث من أعماق صدرها الزفرات، وهو جالس أمامها وقد فاض قلبه بالعطف والحنان، ولولا الحياء لمزج

ص: 54

دموعه بدموعها، كان رقيق القلب، سريع التأثر إلى حد بعيد! وسألته متوسلة أن يتحدث إلى خادم الملهى يستحثه على إرسال زجاجات (البيرة) فقد اعتادت أن تذيب همومها في كؤوس الخمرة، ولكن الفتى أشفق عليها من كثرة ما شربت تلك الليلة، فأبى عليها أن تشرب، وأقنعها بان تذهب إلى فراشها وتحاول أن تنام. . . إن الإنسان لا ينسى همومه إلا إذا نام أو مات!. . . غير أن الفتاة ألحت وتوسلت وكادت تقبل يديه من أجل كأس واحدة تخفف بها بعض أساها، ولكنه سألها في تأثر بالغ وهو يدفع بها إلى مخدعها في رفق - ولكنك ستقتلين نفسك يا سيدتي. . . أنك تنتحرين! فرفعت إليه عينين ذابلتين بللتهما الدموع، وأجابته في صوت خافت ذبيح النبرات - يا ليتني يا سيدي استطعت. . . ليتني وضعت حدا لهذه الحياة الذليلة، حياة العار والمذلة!

وعاد إلى غرفته. . .

كانت الساعة تعلن النصف بعد الرابعة حين سمع الفتى صوت بابها وهو يفتح، ويرى ظلها أمامه على الحائط المقابل لغرفته وهي تضع كأسا على شفتيها، ودق قلبه دقات مضطربة وهو يسمعها تبكي بكاء مخنوقا وتسعل سعالا مكتوما، فغادر غرفته ليستطلع أمرها، وكم كان ارتياعه شديدا (حين رآها تتجرع كأسا من حامض الفينيك كان خادم الفندق يعقم به الغرف والممرات)!

وأسرع إليها كالمجنون ينتزع الكأس من بين شفتيها انتزاعا، ثم دس سبابته في فمها ليرغمها على إخراج ما أدخلت في جوفها من سم زعاف!

كانت الفتاة بين يديه كالخرقة البالية. . .

كانت كالغصن الذابل المقطوع من شجرة. . .

كانت جسدا متخاذلا جامد الأطراف. . .

أن هذه النائمة على صدره المستسلمة لذراعيه - العارية بين يديه هي نفسها تلك المرأة التي اشتهى أن يمد يده إلى لحمها العاري ليتحسس نعومته وطراوته. . . أنها نفسها تلك المرأة التي أشتاق منذ ساعات إلى صدرها العريض ليريح عليه رأسه المتعب. . . ولكنه بحث عن تلك الرغبات في نفسه فلم يجد لها أثراً. . . كانت قد ماتت في صدره كل الرغبات ولم تعد تختلج أو تتحرك!. . . أن ذاك الوحش الذي كان قد ثار في صدره بعد

ص: 55

أن رآها لأول مرة في الملهى قد خمدت ثورته وشلت كل حركة فيه!. . . ذلك الوحش الهائل نفسه قد عاد الآن إنسانا تختلج في قلبه عاطفة نبيلة إنسانية كريمة!

وأسرع يلف جسدها العاري بملاءة فراشه، ويحملها إلى اقرب طبيب!

ولم يبقى في ذلك الفندق أكثر مما بقى، فقد كانت تلك المرأة كلما وقعت عليه عيناها تذكرت تلك الليلة المشؤومة فتنهمل الدموع من عينيها، وتنكأ الجرح العميق الذي خلفته في قلبها. . .

أشفق عليها من مرارة الذكرى، وغادر الفندق إلى الأبد!

عراق. . . بصرة

يوسف يعقوب حداد

ص: 56