المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 905 - بتاريخ: 06 - 11 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٩٠٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 905

- بتاريخ: 06 - 11 - 1950

ص: -1

‌الأزهر في طوره الجديد

إصلاح الأزهر كلمة تناقلتها الأفواه منذ استهل هذا القرن. وكان المطالبون به يومئذ كالمطالبين بالدستور، أمامهم خاصة لا تريد ووراءهم عامة لا تعي. والشأن في إصلاح الدين عن طريق الأزهر، غير الشأن في إصلاح الدنيا عن طريق البرلمان: إصلاح الحكومة زعامة يقوم بها فرد قوي أو حزب كبير، وإصلاح العقيدة إمامة لا يضطلع بها إلا رجل عمله سنة وقوله حجة ورأيه فتوى. وكان الإمام الذي دعا هذه الدعوة أول الناس عسا أن ينهض بهذا الإصلاح لولا أنه كان من سياسة القصر على حد منكب. والجامع الأزهر وقصر الخلافة بناهما جوهر الصقلي من حجر واحد في آن واحد! لذلك استطاع الخديوي أن يخفت صوت المفتي في جلبة شانئيه ومناوئيه من كبار الشيوخ. ولكن دعوة الإصلاح الديني كانت من مخلفات الأستاذ الإمام فحرص عليها مريدوه، وتظاهر بها مقلدوه، فكانوا يديرون بها ألسنتهم بين الحين والحين تشبها بالإمام أو تنزها عن الجمود، حتى انفجرت مسافة الخلف بين قديم الأزهر وجديد العصر، فلم يكن بد من شعور الأزهريين بتخلفهم عن ركب الحياة؛ فجأروا بالإصلاح، وانضووا إلى لواء المراغي في مشيخته الأولى، ورسمت خطة الكفاح للإصلاح. ولكن أولي الأمر لم يباركوا هذه الحركة، فطوى اللواء وعزل القائد وتفرق الجند. ثم أخذ الأزهر بنمط من الإصلاح عجيب: جدد في الشكل دون الموضوع، ولها بالقشر عن اللباب، وعني بالكم لا بالكيف، وامتحن في المقروء لا في المقرر؛ وكاد الأزهر مملا من هذه المعامل الثقافية همه أن يخرج لا أن يخرِّج. وضج الغير حفاظا على أقدم الجامعات وأقدسها فطالبوا بإصلاح الإصلاح. وكان الذي تولى زعامة هذه المعارضة الشريفة الإمام عبد المجيد سليم.

فلما تغيرت الأوضاع واتسقت الأمور وعاد الإمام المراغي إلى مشيخة الأزهر انتعش ما ذوي من الأمل، وقال الناس إن الوسائل قد تهيأت كلها لخليفة الإمام ليصلح الأزهر؛ فالقصر يسنده، والحكومة تعضده، والأمة تؤيده، والأساتذة والطلاب يلقون إليه المقادة ويحملونه الأمانة، والشيخ عبد المجيد وشيعته يخلصون له النصح ويشاركونه التبعة. ولكن المراغي لأمر يعلمه الله أراد أن يكون صاحب سياسة، فاستحب المداراة وآثر العافية.

وبقي الأزهر في انتظار المصلح، تتعارض في جوفه التيارات المختلفة، وتتناوح على سطحه الرياح النكب. وكان هذا المصلح المنتظر قد هيأه الله بالفطرة، وجهزه بالعدة،

ص: 1

وادخره لهذا اليوم، وأقامه على مقربة من (عين شمس). فكلما خلا كرسي المشيخة لهجت بذكره الألسن، واتجهت إلى مثواه القلوب؛ ولكن للسياسة مشيئة كمشيئة القدر تطغي على كل إرادة، وتنبو على كل منطق!

وأخيرا أراد الله لكلمة (إصلاح الأزهر) أن تجد معناها الصحيح الصريح بعد نصف قرن، فأتاح الفرصة ليتولى تفسيرها ذلك المصلح المنتظر وهو الشيخ عبد المجيد سليم. . .

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌إبراهيم عبد القادر المازني

للأستاذ حسني كنعان

من حق الرسالة أن تعتب على حملة الأقلام وملوك القول في مصر لتقصيرهم في (سنوية) المازني، ومن حقنا هنا معشر السوريين الذين عرفنا الفقيد حق المعرفة أن نشارك الرسالة في هذا العتاب والملامة؛ لأن المازني الخالد الذكر له في ربوعنا تلاميذ، وله مدرسة، فالمعجبون بأسلوبه والمرتشفون مناهل ينابيعه والمترسمون خطاه كثر بين ظهرانينا.

ولقد لمع نجمه في بلادنا منذ عهد مجلة السياسة الأسبوعية التي كان يصدرها حسين هيكل بك، وأحبه الدماشقة في زياراته المتكررة لبلادهم، وعشقوه من هذه الصولات القلمية التي دافع بها عن أوطانهم يوم كل أمير الفرنسي يحز في أعناقنا، ولذا بات من حقهم مشاركة اللائمين في تقصيرهم بإقامة حفلة لإحياء ذكرى وإن كانت ذكراه ماثلة للعيان في آثاره الأدبية وكتبه المنتشرة في كل قطر عربي. . . إن من حق الصحف العربية في جميع أقطارها أن نملأ عقولها اليوم بذكرى جاحظ عصرنا الحالي الفقيد المازني وتعدد مناقبه لما له على لغة الضاد من بيض الأيادي، وأن الأقلام العربية على غزارة مادتها وتنوع مناهجها لم تشهد منذ عهد الجاحظ كاتبا ملك من أسلوب الصياغة وإشراق الديباجة مثل الذي ملكه. فهو عبقري في فنه يتناول أبحاثه بأسلوب الساخر المتهكم، فيحدث من هذه الناحية في جسوم خصومه جراحات دامية فيصرعهم صرعا. ويدق أعناقهم دقا بأسلوبه اللاذع المرير، وإلى هذا فإن من أدبه الجم من أي النواحي أتيته لمادة ثرى جديرة بأن يكتب عنها إحياء للذكرى، وإني شخصيا على شدة هيامي بأسلوبه، وحزني على فقدانه لم أجد ما أقوله فيه بهذه (السنوية) سوى ذكرى زيارته الأولى لدمشق سنة 1943 وذكرى تشرفي بمعرفته، إذ ما كاد يذاع وقتئذ في عاصمة أبناء عبد شمس الغر الميامين خبر قدوم زعيم الثورة الأدبية وحامل لوائها حتى خف أدباء العاصمة ومتأدبوها شبابا وشيبا لمقابلته والتعرف عليه، وكنت بين هؤلاء الذين حجوا النزل لزيارته. فأول ما تبادر إلى ذهني قبل رؤيتي الرجل أني سأرى ماردا من مردة الجان لكثرة ما كنت أسمعه عنه وكثرة تحدث الناس عن أدبه الجم وأسلوبه العجيب، فقلت في نفسي لعل هذا المازني الذي نسمع به ونعجب بشهرته الأدبية الواسعة يكون على عظم هذه الشهرة أضخم من عرفنا وأطول

ص: 3

وأعرض ممن رأينا في حياتنا من البشر.

دخلنا المنزل ونحن جد مشوقين لرؤية الأديب الكبير، سألنا عنه أحد عبيد النزل فأشار إلينا ذلك العبد الذي يشبه فحمة الليل بطرف موقه إلى إحدى القاعات، فدخلناها، وما كدنا نضع أقدامنا في وصيدها حتى شدهنا وأخذنا بدهشة الداخل المرتاب، وما لبث أن هدأ روعنا عندما أبصرنا عصبة من الأدباء الذين نعرفهم متكوفين حول رجل ضئيل ضاو هزيل؛ وعلى مقربة منه من المسلمين عليه الدكتور إبراهيم الساطي المرحوم وهو سميه كما ترى، وكان من المعروفين بالبدانة وضخامة الجسم وثقله، فسألت الجالسين أين هو الأستاذ المازني؟ فخف من جانب الدكتور الساطي رجل نحيف قميء لا تكاد تحمله قدماه لنحافة جسمه تنم ملامح وجهه وبريق عينيه على ذكاء حاد وذهن متوقد، فمد يده مسلما علينا قائلا:

أنا ذا هو المازني بقضه وقضيضه، ونضه وفقهه، وعجره ويجره. فضحك من في القاعة حتى استلقوا على ظهورهم، فاستحييت ومن معي من الرفاق وتمنينا أن تملئ علينا الأرض، ثم انطوينا على أنفسنا وهممنا بالعودة من حيث أتينا ظانين أن القوم يسخرون منا ويهزءون بنا، فتورد وجهي الذي ما رأيته متوردا طوال معرفتي به من جراء هذه اللقيا غير المنتظرة؛ فأشفق علينا بعض الحاضرين وتلطف قائلا:

لا تخجلوا يا أخوان مما لقيتموه وسمعتموه، فهذا هو المازني كما تعرفونه، وهذا هو شأنه من الدعابة إن جدا وإن هزلا.

فكتمت أمرا في نفسي وأزمعت الانتقام بيد أني جلست أخيرا كاتما ما في نفسي مع الجالسين نسمع طرف الرجل الأدبية ونوادره. وإني والحق أقول ما رأيت - وسني سني - منظرا أثر في نفسي مثل منظره جالسا على يمين سميه الدكتور الساطي لنحافته وقصر قامته؛ وبدانة ذاك وضخامة جسمه. فسبحان جامع الأضداد وشتان في الأجسام ما بين الإبراهيميين.

جلست في الحلقة وكان فيها فرجة فطبقتها، وجعلت أحدق بالمحتفى به وأنا في شك من أمره. أهذا هو المازني بعينه صاحب خصاد الهشيم، وقبض الريح، والرحلة الحجازية، وخيوط العنكبوت، وإبراهيم الكاتب، وغيرها من المؤلفات والروايات الكثيرة والقصص

ص: 4

الرائعة؟ أهذا صاحب الأشعار الرقيقة ورئيس تحرير السياسة والبلاغ؟ أهذا هو المجلي بين كتاب الرسالة؟ فمن كانت هذه مؤلفاته وهذه كتاباته وهذه شهرته بحب أن يضارع على الأقل سميه الساطي بضخامة جسمه، وعوج بن عناق بطول المفرط وعنترة بن شداد أخا عبس بشجاعته وقوته. إن قائدا كبيرا من قواد الأدب وفاتحا عظيما من فاتحي القلوب يجب أن يضمه جسم غير هذا الجسم إذا قيست عظمة الأعمال بعظمة الأبدان. . . حقا إن المازني يعد بكبير عمله مع ضآلة جسمه من الأعاجيب. قلبت يومئذ صور الأشخاص الذين أعرفهم والذين وقع نظري عليهم عساني أرى لهذا المخلوق العجيب شبيها من الصور التي أعرفها؛ فتمثلت أمامي صورة الشقي الفلسطيني المعروف المسمى (أبو جلدة) فقلت بنفسي ما أشبه هذا بذاك. فكتبت مقالا للانتقام بهذا الشبه ودفعته للمازني بيده فضحك رحمه الله كثيرا وكان المقال طريفا للغاية جاء في بعض فقراته. . . أجل إن المازني يشبه أبا جلدة من وجوه عدة مهما تنصل من هذا التشبيه واتخذ الألوان والأصباغ ليدرأ عن نفسه هذه التهمة.

فذاك كان مليك الصحاري والقفار، ومخيف السلطات في جبال النار، وهذا مليك الأقلام وصاحب المراوغات والمصاولات الأدبية المخيفة. ذاك كان سارق الجيوب وقاتل النفوس ومزعج السلطات والإقطاعيين البخيلين، وهذا سارق العقول بأساليبه الغريبة، وخالب الألباب، وقاتل الدجالين من المتأدبين بنقده المرير، ومزعج الأدباء من خصومه بتهكمه المرير ومنجله الحاصد. فويل (لخفافيش الأدب من هذا المنجل العضب، وويل للدجالين من هذا القلم الجموح الخالق المبدع).

ولقد كنا نسمع بأعمال أبي جلدة عن بعد فنعجب به، ولما تكشفت لنا حقيقة جسمه وضعفه وهزاله ازددنا به عجبا لصدور هذه الحوارق من رجل هزيل مثله.

كما أنّا كنّا نقرأ كتب المازني ومقالاته فنعجب بها ونسحر، والآن قد ازددنا سرورا وعجبا عندما أبصرنا أن هذه المنتوجات الأدبية تقوم على جسم نحيل ضئيل كجسمه. فحيا الله تربة أنبتته وأما حفلت به وأرضعته ثدييها، فلقد فتح لنا بأسلوبه التهكمي ودعابته الجميلة طرفا في الأدب لم تكن من قبل معروفة في لغة الضاد منذ عصر الجاحظ، فإنه (جاحظي) في أسلوبه وسخريته وكتاباته؛ لذا فهو قمين بزعامة الأدب في هذا العصر، وحق له

ص: 5

التتويج والخلود.

وبعد فإني لا أجزع على نفسي فيما إذا مت الآن، لأني بلغت أمنيتي ورأيت المازني الذي عشقته منذ نعومة أظفاري وهمت به. ولما تقدمت إليه بالمقال دسه في جيبه بعد أن نظر نظرة خاطفة إلى عنوانه الذي جاء فيه (أبو جلدة بيننا ولا ندري) فضحك وقال: نعم التشبيه تشبهك، وقد علمت فيما بعد أنه كان للمقال أثر بليغ في نفسه.

دمشق

حسني كنعان

ص: 6

‌الألعاب العربية

للأستاذ محمد محمود زيتون

- 1 -

لم يكن العرب بمعزل عن الحضارات التي أحاطت ببلادهم، بل كانوا على اتصال وثيق بها، في الأخذ والعطاء. على أن الرمال السوافي، والجبال الرواسي، والبطاح المترامية، لم نحجب عن العرب أصداء الفرس والروم والأحباش والهنود والسريان والمصريين.

ويخطئ من يظن أن العرب لم يحتفلوا بالألعاب الرياضية احتفال الرومان والفرس بها. وفي الحق أن العرب عنوا بالرياضة لا باعتبارها لهوا ولعبا؛ ولكن على أنها تربية ذات طابع قومي، ونهج واضح، وغاية رفيعة.

والتراث العربي حافل بهذا اللون من التربية، سواء في كتاب الله، وسنة رسوله، ودواوين الشعراء، والقواميس والمعاجم، مما أضاف إلى الحضارة العربية ثروة جديدة ذات قيمة نادرة، وإن كان الدارسون منا ومن المستشرقين لم يلمسوا هذه الزاوية في قليل أو كثير، إلا أنها لا تقل أهمية عن مظاهر هذه الحضارة التي نعتز بإذاعتها في الناس.

ولنذكر أولا في هذا البحث الألعاب المشهورة عند العرب ليقف القارئ البصير على مقدار نفعها البدني، وغايتها في تربية الفرد وأثرها في المجتمع، ولنا بعد ذلك وقفة عند موقف الإسلام الحنيف من هذه الألعاب التي نستخرجها من كتب اللغة والأدب والسيرة ونذكر منها:

المفايلة: لعبة لفتيان العرب يخبئون الشيء في التراب ثم يقسمونه فإذا أخطأ المخطئ قيل له فال رأيك.

الجثة: تشبه المفايلة هي أن يختبئ الصبيان شيئا تحت التراب ثم يصدع صدعين ثم يضرب أحدهم بيده على أحدهما أو على بعضه؛ فإن قبض على الخبء فيه قمر.

عظم وضاح: لعبة الصبيان بالليل وهي أن يأخذوا عظما أبيض شديد البياض فيلقوه ثم يتفرقوا في طلبه فمن وجده منهم ركب أصحابه.

خراج: يمسك أحدهم شيئا بيده ويقول لسائرهم اخرجوا ما في يدي.

الخطرة: وهي اللعب بالمخراق.

ص: 7

الضب: وهي أن يصور الضب في الأرض ثم يحول أحدهم وجهه ويقول: ضع يدك على صورة الضب، على أي موضع من الضب وضعته فإن أصاب قمر.

النقيري: وهي لعبة بالتراب، ويقال الصبيان ينقرون أي يلعبون النقيري.

المقلاء والقلة: عودان يلعب بهما الصبيان فالعود الذي يضرب به يسمى المقلاء وهي خشبة قدر ذراع - والقلة هي الخشبة الصغيرة - والقلو لعبك بالقلة وذلك رمها في الجو ثم ضربها بمقلاء في اليد فتستمر القلة ماضية فإذا وقعت كان طرفاها ناتئين على الأرض فتضرب أحد طرفيها فتستدير وترتفع ثم تعترضها بالمقلاء فتضربها في الهواء فتستمر ماضية - والفعل قلا يقلو قلوا.

المقلاع: معروف ويستخدم في رمي حجرة إلى مكان بعيد.

العرعار: لعبة للصبيان أيضا.

الخذروف: شيء يدوره الصبي في يده بخيط فيسمع له دوي - قال امرئ القيس يصف فرسه في شدة جريه:

درير كخذروف الوليد أثره

تتابع كفيه بخيط موصل

الكرة: معروفة ويقال كرا الكرة يكررها ومقطها يمقطها أي يضرب بها الأرض ثم يأخذها.

الطبطابة: مضرب الكرة.

الصاعة: البقعة الجرداء ليس فيها شيء، يكسحها الغلام وينحى حجارتها ويكرو فيها بالكرة.

الكجة: يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة فهو يكج أي يلعب بالكجة.

التوز: الخشبة تلعب بها الكجة.

البكسة: خرقة يلعب بها وتسمى الكجة.

الصولجان: المحجن وهو قضيب يثنى طرفه.

الميجار: شبه صولجان تضرب به الكرة.

القفيزي: خشبة ينصبها الصبيان يتقافزون عليها.

النفاز: لعبة يتنافزون عليها أي يتواثبون.

الحوفزي: أن تلقي الصبي على أطراف رجليك فترفعه - والفعل حوفزي.

ص: 8

البنات: التماثيل الصغار يلعب بها وهي المعروفة في الفرنسية باسم:

الربيعة: حجر تمتحن بإشالته القوى.

الزحلوقة: مكان منحدر مملس.

الأرجوحة: خشبة توضع على تل ثم يجلس غلام على أحد طرفيها وغلام آخر على الطرف الآخر فتترجح الخشبة بهما وتتحركان فيميل أحدهما بالآخر - والفعل ترجح يترجح على الأرجوحة.

الحمص: هو الترجح والفعل حمص يحمص حمصا.

الجعري: أن يحمل الصبي بين اثنين على أيديهما.

المقثة: خشبة مستديرة على قدر قرص يلعب بها الصبيان تشبه الخرارة.

الخرارة: عود يوثق بخيط ويحرك الخيط وتجر الخشبة فيصوت.

المطثة والمطخة: خشبة عريضة يدقق أحد رأسيها يلعب به الصبيان.

الحجورة: يخط الصبيان خطا مستديرا ويقف فيه صبي ويحيط به الصبيان ويضربونه فمن أخذ منهم أقامه مكانه.

الجماح: سهم يجعل على رأسه طين كالبندقية يرمي به الصبيان.

التخاسي: الرجلان يتخاسيان أي يلعبان بالزوج والفرد يقال: خساً أو زكا أي فرد أو زوج.

الأمبوثة: هي أن يحفر الصبيان حفيرا ويدفنون فيه شيئا فمن استخرجه فقد غلب.

الدعلجة: لعبة يختلف فيها الصبيان للجيئة والذهاب.

الحوالس: هي أن يخطو خمسة أبيات في أرض سهلة ويجعلوا في كل بيت خمس بعرات وبينها خمسة أبيات ليس فيها شيء ثم يجر البعر إليها وكل خط منها حالس.

المخراق: منديل أو نحوه يلوى فيضرب به.

الرجاحة: حبل يعلق ويركبه الصبيان.

الجنابا أو الجنابى: هي أن يتجانب اثنان فيعتصم كل واحد من الآخر.

ردت الجارية: أي رفعت رجلا ومشت على أخرى تلعب.

يتبادح الصبيان: أي يترامون بالبطيخ والرمان والكرين ونحوها.

البوصاء: عود في رأسه نار يديرنه على رءوسهم.

ص: 9

المخزق: عوبد في طرفه مسمار محدد يكون عند بياع البسر بالنوى وله مخازق كثيرة فيأتيه الصبي بالنوى فيأخذه فيه ويشرط له كذا وكذا ضربة بالمخزق فما انتظم له من البسر فهو له قل أو كثر، وإن أخطأ فلا شيء له وذهب نواه.

التضرفط: أن تركب أحداً وتخرج رجليك من تحت إبطيه وتجعلهما على عنقه.

الرهان والمراهنة: هي المخاطرة والمسابقة على الخيل.

الوجب: السبق في الرمي، وهم يتخاطرون أي يتراهنون في الرمي.

الميسر: اللعب في القداح.

هذا فضلا عن الكعب والشطرنج والنرد والدامة والمصارعة والرماية والفروسية والمسايفة والمبارزة والسباحة والرقص واللعب بالمشاعل والرماح والحراب مما يدخل في باب اللعب الذي هو ضد الجد والذي هو أحيانا اللهو.

ومن مادة (لعب) اشتق العرب الاصطلاحات الآتية:

اللعبة: وهي ما يلعب به.

اللعاب: وهو الرجل الذي حرفته اللعب.

اللعب: وهي تماثيل من عاج.

تلعب: لعب مرة بعد أخرى.

ورجل تلعابة. كثير اللعب. التلعاب: اللعب واللعب.

الملعبة: وهي الثوب لا كم له يلعب به الصبي.

الملعب: المكان الذي يلعب فيه الصبيان.

وكذلك قالوا:

برحى: للمخطئ في مرمى.

مرحي: للمصيب في الرمي.

الطالع: وهو السهم الذي يقع وراء الهدف.

الشعوذة: وهي خفة في اليد وأخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين، والرجل مشعوذ.

النيرج والنيرنج: وهي الشعوذة.

ص: 10

وبرزت عناية العرب بسباق الخيل وابتدعوا المصطلحات الوفيرة له منها المصلي والمجلي كما سموا الأخير باسم الفسكل وأجازوا الحائز لقصب السبق ومنحوه نوط الجدارة والصرة وهي البدرة من المال. وقال الشاعر يصف الخيل في السباق:

ترى ذا السبق والمسبوق منها

كما بسطت أناملها اليدان

وبلغ من عنايتهم بالتشجيع وإفساح المجال أمام الضعيف أن قالوا: (وعند مستبق الزود تسبق العرجاء) ليكون باب الأمل مفتوحا على مصراعيه، وافتخروا بنشأتهم على ظهور الخيل فقالوا:

كأنهم في ظهور الخيل نبت ربي

من شدة الحزم لا من شدة الحزم

فكانوا حقاً وصدقا رهبان الليل وفرسان النهار.

وتعمقوا في دراسة الخيل من كل وجه فدرسوا أعضاءها وأطوار حياتها وطباعها وألوانها وفصائلها وتناسلها وألفوا في ذلك الموسوعات التي من أشهرها كتاب (جر الذيل في علم الخيل) واحتفل بها القرآن الكريم وأقسم بها رب العزة فقال في كتابه العزيز (والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغريات صبحا، فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا) وأمر الله بإرهاب العدو بكل ما يستطاع من قوة (ومن رباط الخيل) وما أبلغ النبي العربي بقوله (يا خيل الله اركبي) وليس بعجيب أن يأمر النبي المسلمين بتربية الخيل وإعدادها للجهاد نهيا عن اتخاذها لمجرد الزينة والتفاخر قائلا بعد ذلك (الخير تحت أقدام الخيل) وقد قرن المتنبي عزة الفارس بفضل الكتاب فقال:

أعز مكان في الدنى سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

وكان العرب كذلك أسبق الشعوب إلى حركة الكشف فهم المشهورون بقص الأثر والتعرف على الخصائص الدقيقة لصاحبه بمجرد النظر إلى ما خلفه قدمه على الرمل السافي أو صفاة الجبل فيعرفون إذا كان رجلا أو امرأة، عذراء أو حاملا. وكذلك هم المشهورون بالنار وإشعالها بالليل لهداية الضال وإكرام الضيف وتحدي العدو فقالوا (ناركم منار غيركم) وجاء في الحديث الشريف (إن الرائد لا يكذب أهله.) وكانوا حراصا على تنشئة فتيانهم على المجازفة والمخاطرة فكان منهم أسود البحار الذين قهرت عزائمهم كل قوة وسادت تعاليمهم كل مصر؛ وحتى نعتهم رسول الله بأنهم (الملوك على الأسرة) فذلت لهم

ص: 11

رقاب العمالقة والفراعنة، ودانت لهم عروش القياصرة والأكاسرة وبهذا كان العرب جادين حين يلعبون - وبالإسلام صاروا أصحاب رسالة تتجلى آثارها في حركاتهم وسكناتهم وتنضج بها شعائر دينهم ومظاهر دنياهم حتى أصبحوا أصحاب اللهو المشروع الذي لم يتخلف قيد أنملة عن مجال الدعوة المحمدية في أقطارها البعيدة.

(يتبع)

محمد محمود زيتون

(ممنوع النشر والنقل والترجمة إلا بأذن الرسالة)

ص: 12

‌من الأدب الغربي

عندما يسأم الشاعر الحياة

للأستاذ إبراهيم سكيك

يتعرض كل إنسان لفترة من الزمن تطغى عليه في خلالها موجة من اليأس يرى الحياة وهو يخوض عبابها عابسة ممطرة لا يتلذذ بجمالها أو يبتسم لمفاتنها؛ ولا يؤخذ بسحرها أو يبهر بروعتها، فتبدوا له بدائع الكون كئيبة قاتمة تبعث على الملل والضجر فينبعث منه أنين خافت وتأوه مكبوت، ويتردد في نفسه خاطر الحزن واليأس، وتستعر بين جوانحه لوعات الشجن والأسى، ويلم بخياله طيف الموت والفناء، ولا يزال على هذا الحال من العذاب والشقاء حتى ينبعث نور من الأمل يبدد دجنة الحياة وديجور اليأس.

وقد مرت هذه الفترة اليائسة بكثير من شعراء العاطفة والوجدان فأذكت قرائحهم الشعرية وألهبت حواسهم الشعرية فنفحو الأدب بما جاد به براعهم من نظم ونثر. وفي هذا الموضوع من الأدب الإنكليزي أترجمه إلى قراء العربية:

أقتبس أولا قصيدة للشاعر المعروف (ملتون) الذي كثيرا ما يشبهه الأدباء بالمعري قالها عند ما كف بصره وتسرب اليأس إلى نفسه وهذه ترجمتها:

عندما أفكر في نفسي كيف فقدت نور بصري قبل أن أقطع نصف الشوط الذي قد اقطعه في هذا العالم المظلم الرحيب، وكيف أن تلك الموهبة الأدبية التي تكمن في نفسي ولا ريب أن في كبتها قتل لتلك النفس التي ترغب في استغلالها لخدمة خالقها وتقديم واجباتها إليه لئلا ينحى عليها باللائمة، عندما أفكر في كل ذلك اتساءل بلهف: هل يتطلب الله مني العمل في حين أنه يضن على بنور البصر؟.

بيد أن (الصبر) يوقف هذه الشكوى ويبدد حيرتي فيجيب على تساؤلي قائلا (ليس الله في حاجة إلى عمل الناس ومواهبهم، وأن أولئك الذين يتحملون نيره اللطيف ليخدموه الخدمة الكبرى. نعم يخدمه أولئك الذين يقفون منتظرين قضاءه من غير ضجر أو ملل. أما هو جل جلاله ففي غنى عنا؛ لأن ملكوته عظيم يسعى في مرضاته ألوف الملائكة الذين يجوبون البراري والبحار دون تعب أو نصب.!!

وهذا الشاعر الروائي (سكوت)(1770 - 1832) يصف منظر رائعا بفقد روعته التي

ص: 13

اعتادها لأنه كان في أواخر أيامه في ضيق مالي شديد اضطره لإجهاد نفسه وأخيرا لإرهاق جسمه والقضاء عليه في أيام بائسة وصف في أثنائها هذا المنظر بقوله:

أرى الشمس على سفح تلة (وردلو) تغوص لتغيب وراء وادي (إترك) والريح الغربية هادئة لا صوت لها، والبحيرة ترقد نائمة عند أقدام التلة. غير أن هذا المنظر بجلال روعته لا يحمل بين طياته تلك الألوان البراقة والجاذبية الخلابة التي كان يحملها في زمان سلف وعهد غبر.

مع أن يد المساء تطلي بوهيجها شاطئ (إترك) فتكسبه صبغة أرجوانية. ألقيت نظرة على ذلك السهل لأرى تيار نهر (نويد) الفضي ينساب متماوجا في مجراه، وأنقاض هيكل (ملروز) قائمة في كبرياء إلى جانب البحيرة الوادعة.

لكن الهواء العطري والتلة والغدير والبرج والشجر، مالي أراها تبعث الملل؟ هل هي كما كانت بالأمس، أم أن التغيير هذا في نفسي فقط؟.

ويلاه! كيف يمكن للوح المقوس المحطم أن تزخرفه يد الدهان؟ وكيف يمكن للقيثارة ذات الأوتار المتشنجة غير المنسمة أن تتناسق أنغامها مع صوت المطرب الشادي؟

هكذا كل منظر رائع تتضاءل روعته في نظر العين المتألمة.

وكل نسمة عليلة من الهواء اللطيف تبد وللمحموم زوبعة قارصة.

وكل عرائش البادية وجنات عدن قاحلة كهذا المنظر في نظري.

وهذا شاعر الطبيعة وليم وردزورت (1770 - 1850) وكان شاعر البلاط في عهده يصف جمال الكون وهو في شيخوخته وصفا مشابها لوصف (سكوت) فيقول: لقد مضى زمن كان فيه المرج والبستان والغدير والأرض وكل منظر اعتيادي يظهر لي موشحا بنور قدسي.

وكأنما أفقت من حلم مروع فأراها الآن مغايرة لما كانت عليه في سالف الأزمان؛ وإني وجهت نظري في الليل أو النهار تظهر أمامي الأشياء التي كنت أراها من قبل يظهر قوس قزح ثم يتلاشى، وتفتح أزهار الربيع الجميلة ويضيء، حولها القمر الساطع في الليالي الصافية، ويتلألأ ماء الغدير في تلك الليالي المقمرة، وتشرق الشمس فتخلب الألباب، بيد أني أينما ذهبت أشعر بأن مجدا سالفا قد زال عن وجه الكون.

ص: 14

ويقارب هذا الوصف ما نظمه زميله الشاعر (شلى) وهو يتحسر على الماضي ويتألم لحاضره فيقول:

أيها العالم، أيتها الحياة، أيها الزمن، يا من أقف على آخر درجات سلمك وأنا أرتجف فرقا حين أنظر إلى أسفل حيث درجات الماضي البعيد.

متى يعود مجدك وعظمة أيامك التي ولت؟

آه! لن تعود! لن تعود!

إن السعادة قد طارت من أيامي وليالي.

فالربيع الجميل والصيف النضير والشتاء الأبيض تحرك في فؤادي مشاعر الأشجان دون أن تجلب شيئا من المسرة والابتهاج. فمتى يعود لنفسي المرح والحبور:

آه! لن يعود! لن يعود!

وفي فترة من اليأس الشديد مرت بهذا الشاعر السيء الحظ عندما كان بعيدا عن وطنه يقاسي مرارة الغربة وألم البعد عن الوطن وفرقة الأحباب بعد أن خرج على والده وهجر وطنه فتكبد مشقات لا توصف، في هذه الفترة نظم قصيدة يدعو فيها نفسه إلى العودة لأرض الوطن فيقول:

هيا فإن المرج مظلم حالك بعد أن امتصت السحب آخر أشعة المساء الشاحبة.

هيا فإن الرياح المتجمعة تنادي الظلام؛ ولا ريب أنه سيلبي النداء فيغطي جميع أنوار السماء كما لو كان كفنا شديد السواد.

لا تتريث فقد مضى الوقت، وكل صوت في الطبيعة يناديك بالإسراع لا تغرينك دمعة من صديق أو نظرة من حبيب مهما بالغت في توسلاتها؛ لأن الواجب يدعوك لأن تعود إلى العزلة والانفراد.

هيا أسرع، أسرع إلى وطنك الهادئ الحزين، وهناك اسكب الدموع المريرة على موقده المهجور، وارقب ظلاله القائمة وهي تتحول من هنا إلى هناك كالأشباح، وانظر إلى نسيج غريب هناك سداه الكآبة ولحمته المرح. إن السحب التي تسير في السماء لتخلد إلى الراحة في منتصف الليل عندما تسكن الرياح المتعبة، وكما تسكن هذه الرياح فإن القمر كثيرا ما يريح نفسه فيغيب عن عالمنا المترع بالأحزان، وهذه البحار والمحيطات تجد لنفسها فترات

ص: 15

تريح فيها أعصابها من الاضطراب المستمر.

كل ما يتحرك إذا أو يكد أو يحزن لا بدله من إغفاءة مريحة.

أما أنت فلن ترى الراحة إلا في القبر حيث الخلود الأبدي.

غزه

إبراهيم سكيك

ص: 16

‌الغزالي وعلم النفس

الإلهام

- 7 -

للأستاذ حمدي الحسيني

بعد أن ظهر جليا في المقال السابق أن الإمام الغزالي رحمه الله قد عرف اللاشعور وحقيقته والعقل الباطن وأسراره؛ نرى من الحق أن نتحدث عن بعض أسرار هذا العقل الباطن أو اللاشعور، تلك الأسرار التي وصل إليها الغزالي في دراساته للنفس البشرية، وقد يكون الحيال من أهم أسرار العقل الباطن في نظر الغزالي، ولهذا فقد أخذنا هذا الخيال الذي ذكره الغزالي في سياق حديثه عن العقل فوجدناه قد ألم به الماما حسنا شأنه في بقية المواضيع النفسية التي عالجها. وقد رأيناه يتخذ في بحثه هذا قاعدتين ثابتتين يرتكز عليهما في معالجاته لهذا الموضوع، وهاتان القاعدتان هما الإلهام والوسواس. وها نحن الآن نتحدث عن الإلهام مرجئين التحدث عن الوسواس إلى المقال القادم إن شاء الله.

والتخيل كما يصفه النفسيون هو استعادة الإنسان في ذهنه ما حصل عليه بالحس من قبل، وهو نوعان: التخيل الاستحضاري وهو أن تستحضر في نفسك ما كنت قد أدركته بحواسك من قبل غير قاصد التبديل فيه أو التغيير. وأما التخيل الإبداعي والابتكاري فهو التغيير في تركيب أجزاء المدركات الحسية السابقة ابتغاء شيء جديد. والأخيلة التي من هذا الطراز لا تدخل العقل مبتكرة وإنما تدخل العقل بجميع أجزائها من صور مختلفة متعددة معهودة إليه من قبل فيرتبها ترتيبا جيدا، وهذا ما يميز العباقرة في الفن والموسيقى والعلم والصناعة عن سائر الناس، على أنه مهما بلغت قدرة الفرد على الاختراع والابتكار في العلم أو في الصناعة أو في الأدب لا يأبى بشيء، كل ما فيه جديد. لأن الإنسان لا يخلق شيئا من عدم، وهذا التخيل الابتكاري يقسم إلى سلبي وإيجابي.

ففي التخيل السلبي لا يكون الإنسان مشرفا بإرادته إشرافا عمليا على عملية التخيل، ولا يكون لديه غرض معين يشعر به ويقصد إليه في تخيله، بل يمتطي خياله فيجمع هذا الخيال إلى الأماني والأوهام والوساوس وأحلام اليقظة. أما التخيل الإيجابي فالإنسان يرمي

ص: 17

فيه إلى غرض محدود ويوجه تخيله في طريق معين ويجعله تحت رقابة عقله فيكون شاعرا كل الشعور بالعناصر التي يختارها، وأنه يوجه عملية التخيل نحو غرض معين، وهذا الغرض هو الذي يتحكم في اختيار العناصر والصيغة النهائية التي تصب فيها، ودرجة الإنشاء والاختراع فيه تختلف اختلافا كبيرا حسب اقتراب التخيل من الممكن أو بعده عنه. وكلما بعد التخيل الإيجابي عن الممكن اقتراب من الأوهام والوساوس.

وأما الإلهام فهو كما يقول النفسيون أيضا: يقولون هو التخيل اللاشعوري الذي يبرز فجأة من اللا شعور فيتجلى في الشعور واضحا بدون أي جهد يصرفه في سبيل تبيينه واستجلائه.

وهذا الظهور الفجائي ليس فجائيا كما يظن؛ وإنما هو نتيجة عمل طويل للا شعور، فعدم الشعور بالجهد فيه هو الذي يجعلنا نراه فجائيا ونعده إلهاما ووحيا وهذا الإلهام يسبق كل تحليل وتركيب فيمن الخاطر للعبقري، فجأة ثم يأخذ هو في تحليله وتركيبه من جديد.

ولنسمع بعد هذا كله ما يقوله الغزالي في هذه المواضيع يقول - لو فرضنا حوضا مجفورا في الأرض ويحتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي فتفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم. وقد يكون أغزر وأكثر، كذلك العقل مثل الحوض، والعلم مثل الماء، والحواس الخمس مثل الأنهار وقد يمكن أن تساق العلوم إلى العقل بواسطة الحواس، وقد يمكن أن تسد هذه الأنهار؛ بالخلوة والعزلة فيعمد إلى عمق العقل حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله. ويقول أيضاً إن العقل تحصل فيه حقيقة الشيء تارة من الحواس مما سماه اللوح المحفوظ - أي من العقل الباطن - كما أن العين تحصل فيها صورة الشمس تارة من النظر إليها وتارة من النظر إلى الماء الذي يقابلها ويحكي صورتها. فإذا للنفس بابان باب مفتوح إلى الحواس الخمس، وباب مفتوح إلى العقل الباطن. وأما انفتاح النفس للاقتباس من الحواس الخمس فلا يخفى على أحد أما انفتاح الباب الداخلي فيعرف يقينا بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل وما كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس.

ولنسمع الغزالي يتحدث عن حصول العلوم بالتجارب والتفكير في عقل الإنسان يقول: إن

ص: 18

حصول العلوم المكتسبة في عقل الإنسان بالتجارب والفكر، فتكون هذه العلوم المكتسبة كالمخزونة عنده فإذا شاء رجع إليها وحاله حال الحاذق بالكتابة إذ يقال له كاتب وإن لم يكن مباشرا للكتابة مع قدرته عليها وهذه غاية درجة الإنسانية. ولكن في هذه الدرجة مراتب لا تحصى بتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وبطريق تحصيلها إذ تحصل بعض العقول بالإلهام.

ولنصغ الآن إلى الغزالي يتحدث عن هذا الإلهام في الفصلين الكبيرين اللذين عقدهما على هذا الموضوع في الجزء الثالث من كتابه الجليل - إحياء علوم الدين - يقول إن العلوم التي ليست ضرورية وتحصل في العقل في بعض الأحوال تختلف الحال في حصولها؛ فتارة تهجم على العقل كأنها الغيث فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعليم. فالذي يحصل بغير طريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا. ثم الواقع في العقل بغير حيلة وتعلم واجتهاد ينقسم إلى ما لا يدري الإنسان كيف حصل له ولا من أين حصل، وإلى ما يطلع معه على السبب اذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب، والأول يسمى إلهاما ونفثا في الروح، والثاني يسمى وحيا، والأول تختص به الأولياء والأصفياء، والثاني تختص به الأنبياء. وأما العلم المكتسب بطريق الاستدلال فيختص به العلماء.

ولا بد هنا قبل أن نستمر في إيراد أقوال الغزالي من أن نبين أن الغزالي يستعمل في هذا البحث لفظة القلب بدل العقل، والعقل بدل العقل الواعي أو الشعور، واللوح المحفوظ بدل العقل الباطن أو اللاشعور، ولهذا فإننا نورد أقواله مع التصرف في هذه الألفاظ توضيحا للمعنى المقصود. يقول الغزالي. إن العقل مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الأشياء كلها وبحال بينه وبينها بأسباب تكون كالحجاب المسدل بين الشعور واللاشعور، وتجلى حقائق العلوم من مرآة الشعور يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها والحجاب بين المرآتين.

وقد ينكشف الحجاب عن عين الشعور فيتجلى فيها بعض ما هو منظور في اللاشعور ويكون ذلك تارة عند المنام وتارة في اليقظة. وانكشاف الحجب عن عيون الشعور ليتجلى فيها بعض ما هو مستور في اللاشعور يذكرنا برأي للعلامة النفسي الكبير (ينج) وقعنا عليه في تحليل له لبعض الشخصيات الكبيرة التي عرفها بذاته؛ وهو أن سر عبقرية ذلك الرجل

ص: 19

كان في ائتلاف عقله الواعي مع عقله الباطن ائتلافا تاما بحيث ترد على عقله الواعي خواطر عقله الباطن تواردا حرا فيوافق عليها عقله الواعي موافقة تامة، ويشترك في تنفيذها اشتراكا كاملا. ويدهشنا جدا التوفق بين رأيي الغزالي قبل ثمانية قرون ورأي (ينج) قبل ثماني سنين في الإلهام الذي هو سر العبقرية وروح البطولة.

وأما طريق الحصول على هذا الإلهام في نظر الغزالي فهي صعبة شائكة لا يقوى على سلوكها إلا من توفرت فيهم الأسباب لمثل هذا الأمر العظيم. وأما الطريق فهي أن يستعد الإنسان الراغب في هذا الأمر بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإرادة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار.

فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب؛ بل بتفريغ النفس من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الهدف وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بالانقطاع للهدف بالكلية وتفريغ النفس عن كل ما سواه، وبقطع الهمة عن الأهل والولد والمال والجاه والولاية حتى يصبح في حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه. ثم يخلو بنفسه ويجلس مجموع الهم ولا يفرق فكرة بالقراءة والتأمل؛ بل يجتهد أن لا يخطر بباله شيء سوى هدفه فلا يزال بعد جلوسه في خلواته ذاكرا بلسانه هدفه حتى ينتهي إلى حالة يترك معها تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثم يصبر على ذلك إلى، أن يمحي أثره عن اللسان ويظل قلبه مواظبا على ذكر الهدف ثم يواظب عليه إلى أن تمحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة. ويبقى معنى الكلمة مجردا من قلبه حاضرا فيه كأنه لازم له لا يفارقه وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد. وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في نفسه.

ولا شك في أن هذه الطريقة التي ذكرها الغزالي للحصول على الإلهام هي الطريق التي تسلك أيضاً لإيجاد اليقين الذي يستولي على القلب. وعلى كل حال فهي الاستهواء الذاتي بعينه ولكنه من النوع القوي الذي يؤدي إلى ذلك الشيء الذي يسميه علم النفس الحديث بانقسام الشخصية.

حمدي الحسيني

ص: 20

‌من أدب التاريخ

سفارة موسيقية

من مصر إلى مراكش

للأستاذ محمد سيد كيلاني

كان عام 1904 نهاية التنافس الاستعماري بين إنجلترا وفرنسا فعقد بين الدولتين اتفاق ودي بمقتضاه تسيطر إنجلترا على مصر في نظير اعترافها لفرنسا بحق السيطرة على مراكش. وقد قلقت النفوس في مصر ومراكش من جراء هذا الإنفاق واضطربت الخواطر وسادت الكآبة وعم الحزن. وبينما كان الناس متجهين بعواطفهم نحو مراكش، يرقبون في جزع شديد ما سوف يقع على هذا الشعب المسكين من بطش الاستعمار الفرنسي وجبروته إذا بصحيفة المؤيد تطلع على الجمهور بعددها الصادر في 9 مارس سنة 1904 تحت العنوان المتقدم بالنبأ الآتي:

(هذه السفارة ليست من حكومة مصر بل من رعايا دولة الغرب الأقصى في مصر إلى مولاي عبد العزيز سلطان تلك الدولة وهي مؤلفة من ثمانية أشخاص بين مغن ومغنية وموسيقى قد اتفق معهم حضرة الحاج محمد شقرون وكيل دولة الغرب الأقصى سابقا في مصر على السفر بالمرتبات التي تقررت لهم وهي المذكورة بإزاء أسمائهم ولولا أن أحد محرري الجريدة شاهد بعينه أوراق السفر في الدرجة الأولى والعقود المختصة بذلك ما صدقنا الخبر الذي يراه كل إنسان ملم بأحوال دولة الغرب الأقصى، ومشاكلها المالية والسياسية الآن في غاية الغرابة.

وقد استلمت جوقة الطرب المصرية جوازات السفر وتذاكر الوابور في الدرجة الأولى لجميعهم وأجرة ثلاثة أشهر مقدما على الحساب الآتي:

المرتب الشهري بالجنيهات

الأسم

الصنعة

45

ص: 22

علي الرشيدي

عواد

65

مرسي بركات

قانوني ومغني

25

فربد شلهوب

كمنجاتي

30

محمود حمدي

مغن

20

محمد السيد

مغن

145

نظيرة سلطانة

عوادة ومغنية

60

لطيفة سلطانة

مغنية

وربما كانت هذه الجوقة أكبر وفد مصري ذهب إلى بلاد مراكش بألطف معنى من معاني التواد والتواصل بين الأمم وبعضها، فعسى أن تكون هذه السفارة فاتحة خير بين المملكتين وعسى أن يتعود مولاي عبد العزيز بعدها على رؤية الوفود تأتيه من البلاد المشرقية فينتفع منها لكل أرب بعد هذا الطرب).

وما كاد الناس في مصر يقرئون هذا الخبر حتى وقفوا أمامه متعجبين مندهشين وثارت

ص: 23

خواطر الغيورين على صالح المسلمين ضد سلطان مراكش وشرع الكتاب ينشرون المقالات ناقدين مسلك السلطان نقدا عنيفا مرا، حاملين عليه حملة قاسية، وقد اضطلعت صحيفتا اللواء والمؤيد بعبء تلك الحملة التي ساهم فيها مصطفى كامل بقلمه ونفث من روحه عبارات حماسية رائعة ضد السلطان عبد العزيز وكال له التوبيخ والتقريع ووفي الكيل. وإلى جانب ما في هذه المقالات من نقد وتجريح ترى مقالات أخرى يغلب عليها روح التهكم والسخرية ومثال ذلك ما جاء في المؤيد بتاريخ 28 مارس من تلك السنة وهو: (يظن أن أنباء صدى جوقة الطرب وصلت إلى عظمة مولاي عبد العزيز سلطان مراكش في الوقت الذي وصلت فيه إلى عظمته أنباء بوادر الاتفاق الإنكليزي الفرنساوي بشأن مراكش. وقد ذكر لنا ثقة أن مكاتب البلاط المراكشي في مصر بعث إليه يقول إن الاتفاق قد تم مع أحسن جوقة طرب مصرية كل فرد من أفرادها صفوة أهل فنه. فمتى وصلت إلى الحضرة السلطانية المراكشية وصدع موسيقارها وغنى مغنيها قالت الحضرة الشريفة على الدنيا كلها السلام.

أما مكاتب التيمس في طنجة فقد بعث لجريدته يقول إن أنباء بوادر الاتفاق الإنكليزي الفرنساوي بشأن مراكش قد وصلت إلينا وأرسلت إلى سلطان المغرب، وكبار الأهالي ينتظرون بقية التفاصيل انتظار الظمآن للماء. . . الخ)

صدى جوقة الطرب:

تحت هذا العنوان أفسحت المؤيد مكانا للشعراء فأخذوا يتبارون في نظم المقطوعات وكلها تفيض بالهجاء الموجع والنقد المؤلم والتهكم والسخرية وإظهار الأسى والحزن على ما وصلت إليه أحوال البلاد المراكشية. قالت صحيفة المؤيد (وجاءتنا مقطعات كثيرة من بعض أفاضل الشعراء في هذا الباب فمنعنا عن نشرها غلو أصحابها في الألفاظ الموجهة لسلطان الغرب.

فعلى الذين يجودون بأدبهم على القراء من هذا المعنى الجديد أن يراعوا مقام من يتعلق به الكلام، ولكل مقام مقال.)

وهذه العبارة تكفي للدلالة على الأثر السيء الذي تركته في النفوس تلك السفارة الموسيقية التي أقام بها سلطان مراكش فرحا في وسط المآتم والمحازن التي كان يقيمها أفراد شعبه.

ص: 24

ومع ذلك فإن الشعر الذي نشر في ذلك الوقت يفيض بالأسى والحزن ويعرب عن حقد شديد على هذا السلطان العابث. ومثال ذلك قول حافظ إبراهيم:

عبد العزيز لقد ذكرتنا أمما

كانت جوارك في لهو وفي طرب

ذكرتنا يوم ضاعت أرض أندلس

الحرب بالباب والسلطان في اللعب

فاحذر على التخت أن يسري الخراب له

فتخت سلطانة أعدي من الجرب

وفي هذه الأبيات يقف الشاعر حزينا متحسرا لتلك الحال التي ذكرته بما كانت عليه الأمور في بلاد الأندلس من اختلال، متوقعا لمراكش نفس المصير الذي لاقته بلاد الأندلس من قبل نتيجة لانغماس ملوكها في اللهو واللعب، وإهمالهم لشؤون الملك حتى ضاع من أيديهم فناحوا بعد ذلك عليه كما تنوح النساء ولم يجدهم ذلك نفعا وذهبت البلاد من أيديهم. وقد حاول حافظ أن يسوق هذه الذكرى المؤلمة لسلطان مراكش لعله ينتفع بها ويقلع عن غيه ويعمل لما فيه صالح رعيته قبل أن يغرقه الطوفان.

وقال آخر:

قالوا الخليفة في فاس أحق بها

من فرع عثمان فرع الفضل والحود

فقلت إن صدقت دعواكم النمسوا

خليفة الله بين الناي والعود

شر الخلافة ما قد بات صاحبه

ما بين (مرسي وشلهوب ومحمود)

وبين (سلطانة) لا بين سلطنة

تلهية عن كل تدبير وتسديد

يا مرخيا لهوى النفس العنان أفق

واشفق على رمق باق به تودي

هلا نهاك اتفاق (الدولتين) غدا

عن اتفاق مع القينات والغيد

وهذه الأبيات تمتاز بأنها تتناول حال سلاطين تركيا وحال سلاطين مراكش بالموازنة. والشاعر هنا يرد على من يريدون نقل الخلافة من سلاطين تركيا إلى سلاطين مراكش الذين يدعون الانتساب إلى الرسول فيسفه آراءهم ويخطئ أفكارهم ويقول لهم انظروا إلى هذا السلطان المراكشي الذي يريدون تنصيبه خليفة للمسلمين فهو عاكف على اللذات منغمس في الشهوات منفق المال بغير حساب على المغنيات. ومثل هذا السلطان لا يصلح بالطبع لأن يشغل منصب الخلافة. ثم ختم هذه الأبيات بالوعظ والتذكير والتوبيخ والتقريع الذي ساقه إلى السلطان في غير رفق ولا لين.

ص: 25

وقال أحمد الكاشف:

من كعبد العزيز أقوى على الده

ريلاقي الخطوب سمحا لعوبا

زلزلت أرضه فغنى على زا

زالها ناعم الفؤاد طروبا

وفي هذين البيتين سخرية مرة وتهكم شديد. فالشاعر يظهر العجب من شدة بأس السلطان وقوة احتماله. فهو لم يجزع للخطوب ولم يتحرك للحوادث الجسام التي أحاطت به، بل قابل الشدائد باللهو واللعب. ولما زلزلت الأرض تحته لم يفزع ولم يخف بل جلس على أنقاض هذه الزلازل يستمتع بالغناء والرقص والخمر.

وقال:

لا تلوموا خليفة الغرب في اللهو فما غيره عزاء لنفسه

نظر الخطب وهو لا بد منه

فتحاشاه في مجالس أنسه

ربما مثلت له حبب الكأ

س شهابا فظنه بعض بأسه

وفي البيتين الأولين يصور الشاعر السلطان في صورة من يهرب من الحزن والغم إلى مجلس أنس ليبعد عن نفسه متاعب الأحزان وآلامها، ويجد في الخمر والغناء عزاء لنفسه وتسلية لها حتى لا تسترسل في الهموم فتهلك. وفي البيت الأخير يسخر الشاعر من السلطان سخرية مرة ويتهكم منه تهكما قاسيا مضحكا. وقال:

عبد العزيز علام تلهو بالصبا

لهو المؤمل أطول الآجال

وإلى م تسمع مطربيك وقد علا

صوت النذير بأعجل الأهوال

فلقد أجرتموه ثلاثة أشهر

هلا أجرتموه ثلاث ليالي

وفي هذه الأبيات لا نسمع سوى التوبيخ والتعنيف والتقريع الشديد المؤلم؛ والتحذير والترهيب من سوء العاقبة.

وقال آخر:

إيه عبد العزيز أي شهاب

أنت في ظلمة القضاء المخيف

يرسل الخطب كل يوم نذيرا

فتراه بالناظر المكفوف

كيف يصغي إلى النذير فؤاد

ملأته (سلطانة) بالعزيف

أنت كالقدر تبلغ النار منها

فتغنى كالواله المشغوف

ص: 26

خطر حاضر وآخر آت

وحتوف نذيرة بحتوف

وعدو إلى اغتيالك ظام

ظمأ الصب للمى المرشوف

هو في حومة وأنت بأخرى

بين بيض كبيضه وصفوف

فالدم الراح والجنود سقاة

وقراع الظبا رنين الدفوف

فانظر إلى ما في هذه الأبيات من الصور والمعاني وعبارات الهجاء اللاذع كما في قوله (أنت كالقدر. .) وإلى ما فيها من التهكم والسخرية، والموازنة بين حالة الفرنسيين الذين كانوا يجسدون في امتلاك مراكش وما يقابل ذلك من غفلة السلطان وقعوده عن الذود عن بلاده، واشتغاله بتوافه الأمور وركونه إلى اللهو واللعب. وأنه لم يجد أمامه ما يفعله بإزاء تلك الخطوب التي حاقت ببلاده سوى إنفاق الأموال الطائلة على المغنيات في الوقت الذي اضطربت فيه الأحوال المالية في بلاده اضطرابا مهد للفرنسيين السبيل لبسط حمايتهم على البلاد وإذلالها.

وقال أحمد نسيم:

ليتني قادر على اللهو يوما

فيه يشجى الفؤاد نقر الدفوف

عن عبد العزيز في كل خطب

هذه عيشة الفتى الفيلسوف

لم يستطع أحمد نسيم وكان أجيرا لسلطات الاحتلال في مصر في ذلك الوقت أن يقول أكثر من هذا. وماذا يقول وهو الذي كان يشيد بفضل الاحتلال البريطاني ويسبح بحمده؟ والاتفاق الودي أثر من آثار هذا الاحتلال. وفيه اعترفت فرنسا لإنجلترا بمركزها في مصر كما أطلقت بريطانيا يد فرنسا في مراكش. فأحمد نسيم اعتبر سلطان مراكش فيلسوفا يعيش عيشة الفلاسفة. وهو يحض السلطان على سماع الغناء والانغماس في اللذات في أوقات المحن والخطوب. فإن هذا العمل في نظر أحمد نسيم شاعر الاحتلال من الأعمال المحمودة التي تليق بالفلاسفة في نظر هذا الشاعر هم الذين يتركون شعوبهم تموت جوعا، بينما هم ينغمسون في الشهوات دون حسيب أو رقيب.

وقال إمام العبد:

لاموا الفتاة وما سرت بطبولها

غلا لتوقظ أمة نعسانه

لما رأت سلطانهم في نشوة

راحت ثدير شؤونهم (سلطانة)

ص: 27

ومن قال الإمام العبد إن الأمة المراكشية كانت نعسانة، وأنها كانت في حاجة إلى العود والقانون لتستيقظ على أنغامهما؟ أما قوله إن السلطان كان في نشوة فهذا صحيح. أما قوله (راحت تدير شؤونهم سلطانه) فخطأ محض؛ لأن الفرنسيين لم يقفوا متفرجين بل كانوا قابضين على ناصية الأمور بيد من حديد.

على أنك لن تجد من الشعراء من قال فأضحك وأبي بالنكتة اللاذعة التي اشتهر بها الحشاشون غير إسماعيل صبري فإنه قال:

يا المراكش وفد الغناء أني

من مصر يسعى لمولاكم على الراس

لا تنكروا نكتة في طي بعثته

فالعود أحسن ما يهدي إلى (فاسي)

ففي كلمة العود تورية. فهي بمعنى الآلة الموسيقية المعروفة وبمعنى عود البخور. وكذك في كلمة (فاسي) تورية فهي إما نسبة إلى مدينة فاس أو اسم فاعل لا يخفى معناه. وهكذا تناول إسماعيل صبري الموضوع على هذا الوجه المضحك. وقد بقيت صحيفة المؤيد تنشر هذه المقطوعات مدة من الزمن ثم أقفلت الباب فجأة منوهة بما يصلها يوميا من الأشعار، ذاكرة أنها نشرت ما فيه الكفاية.

ولكن هذه الحملة التي شنها الكتاب والشعراء لم تغير من موقف سلطان مراكش ولم تترك في نفسه أثرا. فقد جاءت الأخبار بوصف حفلات الغناء والرقص التي أقيمت في البلاط السلطاني، كما وردت الأنباء بالهدايا والتحف التي وهبها السلطان لضيوفه.

محمد سيد كيلاني

ص: 28

‌كشاجم

للأستاذ عبد الجواد الطي

- 3 -

إذا كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن ثقافة الرجل، فمما يتصل بهذا الموضوع أن نعرف شيئا عن أساتذته وتلاميذه، أو من تأثر بهم وأفاد منهم، وإن لم يبلغوا مرتبة الأستاذية، ومن تأثروا به، وإن لم يكونوا بالفعل تلاميذه.

ومما يؤسف له، أن مرجعا من المراجع التي بين أيدينا لم يحدثنا عن شيء من ذلك يذكر، حتى ليحار المرء فيما نسبوه إليه من ألوان العلم والمعرفة، دون أن يشيروا - ولو إشارة عابرة - إلى بعض مصادر هذه المعرفة وأصولها!.

وإذا كانت هذه حال المراجع التي ترجمت للشاعر، فليس لدينا إذن إلا أن نستهدي شعره عساه أن يوصلنا إلى شيء مما نبتغيه.

يحدثنا شعر كشاجم أنه قد اتصل ببعض الأطباء والمنجمين من معاصريه وقد مدحهم وأثنى على علمهم وإنتاجهم، ومن هؤلاء أبو جعفر أحمد بن إبراهيم المعروف بابن الجزار، الذي أثنى عليه كشاجم حتى بعد وفاته وذكر كتابه المعروف (بزاد المسافر)

أبا جعفر أبقيت حيا وميتا

مفاخر في ظهر الزمان عظاما

رأيت على زاد المسافر عندنا

من الناظرين العارفين زحاما

ثم هذا الأخ الصديق الذي يقول فيه:

الحمد لله قد وجدت أخا

لست مدى الدهر مثله واجد

أسكن في صحتي إليه فإن

مرضت كان الطبيب والعائد

طبايعيا منجما جدلا

يجمع منه الكثير في واحد

فإنه وأن كانت صلة الشاعر بهذين وأمثالهما لا تبلغ أن تكون صلة الأستاذ والتلميذ، فإنهما على كل حال صلة الصديق بالصديق. والإنسان قد يفيد من معارف الإخوان والأصدقاء، لا من طريق التعليم والتعلم، وإنما من طريق المصادفات والمناسبات التي يتطرق إليها الحديث - والحديث ذو شجون - فتحصل الإفادة والاستفادة من طريق غير مباشر.

وليس لنا أن نقلل من قيمة هذا الاتصال كوسيلة من وسائل الثقافة لها أهميتها التي تزيد أو

ص: 29

تنقص تبعا للظروف والملابسات، ولكنها لا يمكن أن تتلاشى أو تنعدم، فنحن نرى أن حافظ إبراهيم كان من المصادر الهامة في ثقافته اتصاله بالأستاذ الإمام، وسعد زغلول، ومصطفى كامل، وقاسم أمين. . فكان يفيد من مجالسهم في النواحي العلمية والاجتماعية، والسياسية ما ظهر أثره واضحا في شعره. حقا إن صلات حافظ كانت من طراز آخر غير صلات كشاجم، فجعلت من شاعر النيل شاعرا خلق لعصر جديد له نزعاته وميوله واتجاهاته التي لم تكن من سمات ذلك العصر الذي وجد فيه أمثال كشاجم.

وقد اتصل شاعرنا بأديب من معاصريه هو أبو بكر الصنوبري المتوفي سنة 334هـ، وقد نشأت بينهما صداقة قوية تنعكس واضحة في شعر الرجلين، وإذا شئت أن تتبين شيئا من ذلك فإنظر في قول كشاجم:

لي من أبي بكر أخو ثقة

لم أسترب بإخائه قط

ما حال في قرب ولا بعد

سيان منه القرب والشحط

جسمان والروحان واحدة

كالنقطتين حواهما خط

أبا بكر اسلم للعودة والصفا

فودك باق لا يحول ولا ينضو

متى يشق خل بالتغير من أخ

خؤون فحظي من مودتك الخفض

فالصنوبري - كما ترى (أخو ثقة) لحميمه كشاجم الذي لم يشك يوما في إخلاصه ووفائه، فهو لم يتغير ولم يتنكر لهذا الحب سواء نأت داره، أو قرب مزاره، وإنما هو مخلص في كلا الأمرين، ووده باق في كلا الحالين، ولا يتحول ولا يحول، فإن كانا في عالم المادة جسمين اثنين، فهما في عالم الحب، والمثالية في الوفاء روح واحدة تجمع بين هذين الجسمين جميعا.

ثم هما قد يتبعان كما يفعل الخلصاء حين يحدث بينهما ما يدعو إلى ذلك، فنجد هذه الأخوة بارزة في هذا العتب الأخوي.

أتنسى زمانا كنا

به كالماء والخمر

أليفين حليفين

على الإعسار واليسر

مكبين على اللذات في

الصحو وفي السكر

نرى في فلك الآداب

كالشمس وكالبدر

ص: 30

ثم إن الصنوبري عزيز على صاحبه أثير لديه إلى الحد الذي يقول معه:

ولو سفكت يداه دم ابن عمي

أو ابني لم أثره ولم أعاده

ولو قتلى أراد قتلت نفسي

له عمداً ليبلغ من مراده

ولا يخفى ما في هذين البيتين من مبالغة غير مقبولة، ولكنهما على كل حال يصوران هذه الأخوة الوثيقة بين الرجلين.

وإذا كنت قد لمست آثار هذا الحب بادية في شعر كشاجم، فأنظر معي في قول صاحبه:

إذا انتسب الثقاة إلى وفاء

فحسبك بانتسابي وانتسابه

على أني وإن حزت الثريا

فلست أقاس بعد إلى ترابه

ولو أقسمت أن المجد شيء

له دون البرية لم أحابه

خليل كنت إن واريت شخصي

رأت عيناك شخصي في ثيابه

حمامي في تنائيه ولكن

حياتي حين يقرب في اقترابه

فأنت ترى أن الصنوبري قد أسرف في مجاملة صاحبه فلم يقتصر على أن غض من نفسه ورفع من قدر صديقه، ولكنه لو أقسم أن المجد شيء قد خص به كشاجم دون العالمين ما حنث في يمينه، ولا حابى صاحبه، وهذه لا شك مغالاة قد توحي - في بعض جوانبها - بأن الامتزاج والاختلاط بين الصديقين لم يصلا إلى درجة يسقط معها هذا التكلف، ولكن المسألة في ذاتها ربما لا تعدو أن تكون مبالغة شاعر ولا تعني شيئا غير الحفاوة بصاحبه والتعبير عن حبه له وتفانيه في إكرامه، كما يتفانى هو الآخر في إعزازه وتكريمه، ومع هذا فأنت تلمح - إلى جانب هذه المغالاة - آثار هذه الأخوة معتدلة مقبولة، لا تكثر فيها ولا تزيد، فإذا كان للثقاة أن ينتسبوا إلى الوفاء فهما خير من ينتسب إليه. . . فأنت إذا افتقدت أحدهما رأيته في شخص صاحبه.

ولعل هذه العلاقة القوية بين الرجلين كان لها أثرها في شعرهما ولا سيما في شعر كشاجم، الذي كان يجل صاحبه، فقد كان - على ما يبدو - أكبر منه سنا، وأشرف مهنة حينما اجتمعا في بلاط سيف الدولة حيث كان كشاجم طباخه والصنوبري خازنه. وربما دخل في حسابنا - إلى حد ما - أنه يعلوه أيضاً في الأصل والمحتد، فهذا عربي منسوب إلى ضبة بينما ذاك أعجمي. ثم إن له عليه من الأيادي البيضاء ما يردده كشاجم في شعره:

ص: 31

كم نعمة منه حليت بها

لا الشنف يبلغها ولا القرط

ويد له بيضاء ضاحية

مثل الملاءة حاكها القبط

ولعل قائلا يقول: ما شأن هذا كله وتأثره بصاحبه في الناحية الأدبية؟ ولكن الواقع أن هذه الأشياء كلها تهيئ جوا نفسيا خاصا يلعب دوره في إكبار الرجل لصاحبه، وتأثره به، أو تأثره إياه، هذا إلى ما عساه أن يجده في صاحبه، أو في أدب صاحبه من محاسن يجدر - في نظره - احتذاؤها والنسج على منوالها، ولكن الجو النفسي يضفي عليها هالة تزيدها جمالا وجلالا، ومن هنا تدرك سر إعجاب كشاجم بأدب صاحبه وعلمه:

ذاكره أو جاوره مختبرا

تر منه بحرا ما له شط

وجنان آداب مثمرة

ما زانها أثل ولا خمط

ولعل النعم التي حلى بها كشاجم من صاحبه، والأيادي البيضاء الضاحية التي أسبغها عليه، والتي رددها كثيرا في شعره كما رأينا، لعلها لم تقف عند الناحية المادية وحدها، وإنما تعدتها إلى ما عساه أن يكون قد أفاده منه في الناحية الأدبية الصرفة، فأنت إن (ذاكرت) صاحبه وجدته البحر علما وأدبا، وإن (جاورته) وجدته البحر جودا وكرما، وهكذا نرى أن المسألة ليست مسألة المادة وحدها؛ وإنما هي مسألة العلم والأدب أيضا، وهكذا المعنى الذي نلمحه في شعر كشاجم إزاء صديقه الصنوبري نراه يصرح به تصريحا في مدحه للحسين بن علي التنوخي:

علمت عبدك أن يصعر خده

كبرا وأبهة على أصحابه

بمواهب ضاعفن من أمواله

ومذكرات زدن في آدابه

وإنا حين نشير إلى تأثر كشاجم بصاحبه الصنوبري هذه الإشارة الخاطفة، إنما نرجئ الكلام المفصل في ذلك إلى الحديث في شعر كشاجم فيما يلي ذلك من فصول، غير أننا نستطيع الآن أن نقول إن الصنوبري حين أفاد كشاجم من طريق إيجابي، أفاده أيضامن الناحية السلبية، فهو أحيانا ينتقد شعره ويكايده وليس في شك في أن هذا العمل من شأنه أن يطلع المرء على عيوبه التي قد تخفي عليه، ويدفعه عن طريق غير مباشر إلى سد هذا النقص، ومحاولة الوصول إلى الكمال:

وكايدني ولم أرقط أحلى

من المعشوق لفظا في كياده

ص: 32

معنى في انتقاد حلى شعري

وفضل الشعر يظهر في انتقاده

ولو حاولت أن تزري ببدر

طلبت له المعايب من سواده

ومهما يكن فإن الشخص الذي صرح كشاجم بأنه قد تلمذ عليه فعلا هو علي بن سليمان الأخفش النحوي المتوفى سنة 315هـ حين يقول في ثنايا قصيدة في مدحه:

وكي يمنحني تأديبه المحض وتخريجه

ومن أولى بتقريظي ممن كنت خريجه

فيبدو من هذا أن كشاجم كان تلميذا للأخفش، وإذا علمنا أن الأخفش كان نحويا أكثر منه شيئا آخر، عرفنا أن كشاجم قد أصاب على يده شيئا من النحو إلا يكن كفيلا بأن يسلكه في عداد النحاة، فإنه يكفيه إلى الحد الذي يحتاجه الأديب ولا يستغني عنه، وقد يطالعك هذا الجانب النحوي من ثقافة الرجل في هذه الأبيات التي قالها متندرا بهذا الذي يدعى النحو، وليس من النحو في شيء:

تشبه في النحو بالأخفشين

فجاء بأعجوبة مطرفه

ولم يسمع النحو لكنه

قرا منه شيئا وقد صحفه

فإن لم يكن أخفش الناظري

ن فإن الفتى أخفش المعرفه

وقد سمع الأخفش أبوي العباس ثعلبا والمبرد، وفضلا اليزيدي وأبا العيناء الضرير. . . ودرس النحو واللغة وشيئا من الأدب. . . ولكنه لم يتوفر على الدراسة الأدبية توفره على الدراسة النحوية. ومع هذا يذكر ياقوت في معجمه نقلا عن المرزباني في المقتبس:(لم يكن (الأخفش) بالمتسع في الرواية للأخبار والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئا ألبته ولا قال شعرا، وكان إذا سئل عن مسائل النحو ضجر، وانتهر كثيرا من يواصل مسألته ويتابعها. وشهدته يوما وصار إليه رجل من حلوان كان يلزمه فحين رآه قال له:

حياك ربك أيها الحلواني

ووقاك ما يأتي من الأزمان

ثم التفت وقال: ما نحن من الشعر إلا هذا وما جرى مجراه

وهكذا يتبين لنا أن كشاجم لم يفد من أستاذه كثيرا - وربما لم يفد شيئا - في الناحية الأدبية، إن لم يكن قد أضر به ذوق أستاذه الذي ليس هنالك في الميدان الأدبي.

وإذا كان كشاجم قد تأثر بهؤلاء الذين ذكرنا، فقد وجد بعض من تأثر به، ولا سيما السري

ص: 33

الرفاء، الذي يقول فيه ابن خلكان:(وكان السري مغري ينسخ ديوان كشاجم الشاعر المشهور وهو إذ ذاك ريحانة الأدب، والسري في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب. .) وقد بلغ من إعجابه به وتعصبه له، وكراهته للخالديين المعاصرين له أنه (كان يدرس فيما كتبه من شعره أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجم ما ينسخه، وينفق سوقه، ويغلي شعره. . .)

عبد الجواد الطيب

ص: 34

‌خواطر في كتاب الله

تربية الدعاة

للأستاذ محمد عبد الله السمان

إن المهمة الملقاة على كواهل الدعاة شاقة خطيرة، ولذا كانت عناية القرآن بتربيتهم عناية كبرى تضيء الطريق أمامهم إلى قلوب الناس، والرسل جميعا - صلوات لله وسلامه عليهم - هم المثل الكامل للدعاة، وتعتبر تربيتهم أنموذجا للتربية الرفيعة السامية، لا سيما وأن مربيهم هو الحكيم الخبير.

ولما كان الداعية في حاجة إلى أسلوب سهل ممتزج باللباقة والسياسة في عرض دعوته، فقد راح القرآن يربي الدعاة تربية سياسية دبلوماسية رفيعة تعينهم كثيرا على نجاح دعواتهم:

(لقد أرسلنا نوحا إلى قومه، فقال يا قوم اعبدوا الله، ما لكم من إله غبره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين، قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، وأعلم من الله ما لا تعلمون، أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون؟).

(وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أفلا تتقون؟ قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين، قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين، أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم؟ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة، فاذكرا آلاء الله لعلكم تفلحون).

(قل يا أيها الناس: أني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلا هو يحيي ويميت، فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون).

وتلمس لدعوة إلى المرونة بارزة واضحة في أساليب الآيات القرآنية مما دل على اهتمام القرآن بهذا النوع من التربية. الذي يتوقف عليه نجاح الدعاة في كثير من الأحايين:

ص: 35

(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة الموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن - ولو كنت فظا غليظ القلب لا انفضوا من حولك - قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار. أنه لا يفلح الظالمون - وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون - فإن تولوا فقل أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا، إن ربي على كل شيء حفيظ - فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى - وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون).

وللمنطق أهميته الكبرى في مناقشة الدعوات، ولذلك نراه متجليا في أساليب الدعاة:

(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتيه الله الملك، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر).

(قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق بعيده؟ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون، قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل الله يهدي للحق، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي؟ فما لكم كيف تحكمون.)

(يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).

(قال فمن ربكما يا موسى؟ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى).

(وضرب لنا مثلا ونسي خلقه. قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون، أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؛ بلى، وهو الخلاق العليم).

ويوجه القرآن الكريم الدعاة إلى التذرع بالصبر والاحتمال في سبيل دعواتهم) فانتظروا إني معكم من المنتظرين - فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين - قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا - فاصبر على ما يقولون. فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم).

ويطبع القرآن الدعاة بطابع الشجاعة فهي من أهم مقومات الدعوات، ولأنها مما لا يستغنى

ص: 36

عنها داعية يريد أن يشق طريق النجاح لدعوته:

(واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله، فعلى الله توكلت، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون)(قالوا يا هود ما جئنا ببينة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين، إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، قال: إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم).

(إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين).

(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)

ويكافح القرآن الغرور في الدعاة. فهم لم يزيدوا عن كونهم بشرا ألقى الله على عوائقهم مهمات ثقالا، وبهذا تكون دعواتهم أقرب إلى قلوب الناس وأبعد من نفورهم.

(ولا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول إني ملك)

(قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء، إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون)

ويكافح القرآن في الدعاة مرض اليأس الخطير حتى لا يلحق هممهم الضعف، ويصيب جهودهم الفشل؛ وتمنى دعواتهم بالخيبة:

(وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون).

(وإذ قال موسى لقومه. إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد)

(وإن كان كبر عليك إعراضهم، فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين)

للبحث بقية

محمد عبد الله السمان

مدرس بعلم الدين الابتدائية للبنات بالسيدة زينب

ص: 37

‌رسالة الشعر

قصة واقعية

دمية

(إلى روح الطفلة فوزية)

للأستاذ إبراهيم العريض

مدت لها الأم راحتيها

كأنها صورة الحنان

صبية عرشها الحنايا

ما جاوزت دولة الثمان

خفيفة الظل، ذات زهو

تنعس في جفنها الأماني

ما أنضر الروض في صباها

وكل ما فيه وردتان

عالمها - لو ترى - صغير

لكن لها فيه ألف شان

تعقد أعراسها، فتلفي

ما شئت في العرس من أغان

بلا معان. . وإنما السحر

كله حيث لا معان

تسمعها دمية. . جلتها

والعرس معقولة اللسان

كحلاء. ترنو لها بصمت

إذا استقلت بها اليدان

تفتح العين لاستماع

وتغمض العين بعد آن

تجد في حبها وتلهو

فالجد واللهو توأمان

حتى إذا رنقت عياء

مال بها النوم في ثوان

بين يديها الحياة حلم

فهي من الليل في أمان

جاءت إلى الأم ذات صبح

فطوقتها براحتين

وبادلتها بقبلة - لم

تجاوز الشعر - قبلتين

(أماه! ما بال خالتي لا

تأتي به كي تقر عيني

أود أن أرتديه حالا

فإن للعرس جلستين

فالريح مجنونة، وأخشى

إذا تمادت في الضحكتين

- ضحكتها تعبر الصحاري

كأنها ثورة الحسين

ص: 38

وضحكة. . والنخيل تومي

برأسها؛ بينها وبيني -

أخشى. . على دميتي أذاها

وما أحق الدمى بصون

قالت: (دعيني بنيتي! في

أشعة الشمس غمضتين

فالبرد في لذعه شديد

بل أنا منه في شدتين

فربما احتاج نظرة ثو

بك الموشي، أو نظرتين

وعدك ألا يحين وقت ال

صلاة حتى أفي بديني

فتمرحي من صباك بضا

بين الصبايا بحلتين

ما أدبر الظهر في ارتعاش

كأنه مدرة وقور

حتى أنت كالمهار تعدو

لأمها ثغرها بنير

(أماه، أماه، طالعيني

في بخنقي، أنه كبير

ألا يرى شكله جميلا

على في الريح إذ يطير؟)

قالت لها: (لبسة العوافي!

عشت كما عاشت الزهور)

هاهي تختال في العذارى

بحلة يلقى بها السرور

ودمية الجبس في يديها

قد لفها البخنق الصغير

لا تسمع الأذن حيث زفت

غير زغاريد، يا طيور!

أو تبصر العين حيث حلت

إلا جنانا فالحور حور

حتى إذا الأفق حال وردا

وماج فوق الخضم نور

كأنه ضحكة المرايا

في يد حسناء تستخير

وجاء يعدو بموكب الليل=- بعدها - الكوكب المنير

عادت إلى البيت، كل خود

تود لو أنها الأخير

وسوت الأم مهدها في

ركن، وعادت إلى الحنيه

فأبصرتها، وفي يديها

دميتها، لم تزل أبيه

فالتفتت نحوها، وقالت:

(ألا تكفين يا صبية؟

كفاك طول النهار لعباً

هيا إلى النوم كالبقية)

أواه ما أرخص الغوالي

عند الذي يجهل القضيه

ص: 39

فلملمت ذيلها امتثالا

وضاحكت أمها نقيه

(أماه! هل تسمحين لي أن

أنام في بخنقي العشيه

فدميتي لن تنام إلا

معي هنا، إنها حييه

لقد قضينا النهار أزجي

لها، فتزجي لي التحيه

إني لأرجو لها، كما قد

ترجو، من النوم، لي هنيه

والبرد يسري إلى عظامي

كأنه البرد ذاب فيه

فدثرينا معا من الليل

، فهي مثلي تخشى دجيه

يا دميتي! أنت ذات عرش

فلا تجوري على الرعيه. .)

وداعب النوم جفنها في

لمح. فكفت عن منتجاها

وأنزلتها الأحلام، في زو

رق، من الخلد في رباها

فأبصرت نفسها توالي

في جنة سيرها شداها

فتحتها العشب حيث داست

فتح نواره وتاها

وفوقها الورق كل ورقاء

ذوبت نغمة حشاها

وحفها الورد. . كل ورد

ينفح في ردنه شذاها

وخرخر النهر من بعيد

يحصى على شله خطاها

وحلقت حولها لدات

من كل كحلاء في صباها

كأنها النرجس المندي

تكاد تلقي لها نداها

يجذبنها تارة، وأخرى

يدفعن في جنبها سواها

حتى تراءت. . وثغرها في

افتراره، معلن رؤاها

وأين عنهن من رعتها

حبا بحب. . لم لا تراها

فضمت الدمية التي لم

تزل إلى جنبها، يداها

وظلت الريح من قريب

تسمعها نوحة الثكالى

كأنها في الركاب شخص

ثار على الحق، فاستطالا

أرسل للفتك خيله. فهو

لا بني يطلب النزالا

تلهب بالسوط ظهر بيت

يأبى لها ركنه امتثالا

ص: 40

وعاود الحلم جفنها ثا

نيا، فتاهت في الحلم حالا

فأدركت نفسها على شا

طئ، وأمواجه تلالا

وكلما أومضت لها بر

قة، همى غيثها انهطالا

ولم يكن مزنه كماء ال

سماء، بل كاللظى اشتعالا

حتى دنت لجة، وكادت

تمضي بها. . صفها تعالى

وغام في وجهها ضباب

يخنق أنفاسها سعالا

فأفلتت من يمينها عر

سها، فألقت لها الشمالا

واستفزعت أمها بصوت

من ظمأ جف واستحالا

فاكتنفتها (روح) أحست

في حضنها الدفء والظلالا

دوى مع الريح صوت ناع

قد طعن الليل في سكونه

فالأم إذ تستفز، تلقى

من أرضعته على جبينه

وهالها أن ترى لسانا

قد سله الموت من كعينه

يلحس أطراف كل شيء

في البيت من سقفه لطينه

حتى غدا البيت في لظاه

كنقطة النون وسط نونه

فالريح نار. . . في وجهتيه

والنار ريح. . . على متونه

غلغل في ثوبها، ولما

يسر إلى الرأس في قرونه

وبادرت للرضيع ولهى

بمسكة العقل في جنونه

واختطفته توا أنجري

به على النار، أم بدونه؟

وتدفع الباب دفعة، غا

درته محنى على عرينه

للريح في سمعها دوي

كنكسة الطفل في أنينه

وأبصرت حولها رجالا

كل يداري على قرينه

فولولت: (أدركوا فتاتي

يا غصنها اللدن في أتوته!)

واحتملوها في غشوة، لم

تطل - على البرد - غير ساعه

فاسترجعت وعيها، لتلفى

رضيعها باسطا ذراعه

يلتمس الثدي فوق صدر

وكلما مسه أضاعه

ص: 41

فاحتضنته بلا شعور

قد جمدت عينها ضراعه

كم سمعت باسمها يناي

فانتفضت. لو لها استطاعه

فما استبانت إلا وجوهاً

يذري عليها اللظى قناعه

وقال من قال (بتها

قد نجت!. (ولم تنتظر سماعه

فساءلت (أين خلفوها؟

من ذا رآها من الجماعة؟

فوزيتي. . ليتني فداها

ألا كريم يمد باعه

لحملها، فاللهب يمعي!

أخشى على عينها شعاعه

وكم أرادت - وما أرادت -

تنعى على عمرها ضياعه

لولا نساء حسر، لديها

ناشدتها الصبر والقناعه

وحولها الخلق في هياج

يبدون سمعا لها وطاعه

وصعد الناس - بعد حبس -

أنفاسهم، إذ خبا الشرار

ظلوا إلى الصبح في انتظار

والآن لا ينفع انتظار

وأقبلوا يبحثون خبطاً

فالطين والماء حيث داروا

فلم يكد - بعدهم - لبيب

يدور للبحث حيث داروا

وزحزحت كفه سياجا

ما زال للجمر فيه ثار

حتى اعترت جسمه قشعري

رة، ودارت به الديار

فغمض من طرفه ارتياعا

يا هول ما غيب الغبار!

لقد رأى تحته فتاة

جللها في الردى الوقار

قد مست النار حاجبيها

ولم تمس اليدين نار

في حضنها دمية، حمتها

عن الأذى، راحة تغار

قد لفها بخنق جديد

لم يبق منه إلا الصدار

مغمضة العين في حماها

طاب لها قربها الجوار

دميتها! قد مضى بها من

له على الأنفس الخيار

فرجعي لي، والأم تصغي

كيف انقضى ذلك النهار!

ص: 42

إبراهيم العريض

ص: 43

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

من حقيبة البريد:

هذه رسالة متواضعة، أطمع أن تنشرها كاملة، ولعل صدرك الرحب لا يضيق بها ولا يتولى عنها، فربما كانت لمثلك فقيرة الوعاء مصدوعة البناء خاملة العبارة مبهورة الأنفاس. . ولكن ما ذنبي والأدب كالدين سمح كريم يغفر ويعفو، والكرام الكاتبون في تواضعهم وعظيم أخلاقهم وكياستهم كالأنبياء والأولياء والمصلحين يحتفون ويقربون، أو لم ينبه الله تعالى رسوله الكريم إلى أنه:(عبس وتولى أن جاءه الأعمى) ليقول له: (وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى)؟. . . هذا سر ما شجعني على الكتابة لك، وما يدريك يا سيدي لعلى أزكي، أو أتخرج على يديك وبفضل توجيهك وتشجعك لي، أديبا أو شاعرا أو ناقدا ألم تتفتح بالأمس زهرة (الشاعرة ناهد) بفضل هذا التشجيع والإدناء؟. ولكن للأسف قد اقتطفتها يد المنون على حين غفلة ولما تزل تنضح بالعطر، وتلك وردة أخرى (هجران) نفحتنا بأول نفحة من أريج أوراقها وبفضل رعايتك أيضا. . . وهل أكون مخطئا إذا اعتبرت هذا وسميته تخريجا على يديك وتوجيها منك، مادام الأمر مرتهنا بكلمة تزجيها إلى الشاعر المبتدئ أو الأديب الناشئ فيهتز لها جنانه وتنبعث الثقة في نفسه، فتشرق شمسه من بعد ظلمة يأسه، ويعمل على ملء تلك الثقة دؤوبا مجتهدا مواصلا ليلة بنهاره حتى لا يهان عند الامتحان؟ فكأن إشارتك له بمثابة نداء منك أن يهب من رقدته ليمضي في الطريق غير هياب ولا مختشع، إلى أن يصبح رهن أمرين كقول الهمذاني في مقدمة كتابه الألفاظ:(إما التعلق بالسماك مضاء ونفاذا إن ثابر حتى نهاية الطريق، وإما الانتكاس في الحضيض تخلفا ونقصا إن قعد به العجز عند أول أشواطه)!. . . وهل ننسى يا سيدي مذهب (الأداء النفسي) ودراساته الفنية العميقة، المحدثة المبدعة؟. . كلا والذي علمك البيان. على أية حال نخرج من هذا الكلام مراعاة لوقتك الثمين إلى سؤال أطمع في الإجابة عنه إجابة تبرد الحرقة وتشفي الغليل، وهو: ما الذي قعد بك عن متابعة نشر فصول كتابك عن شاعر الأداء النفسي على محمود طه في رسالته حتى يتم الكتاب؟ أتراك استجبت لرأى أحد أصدقائك على حد قولك؟ وهل صحيح أن نشرك الكتاب كله في الرسالة

ص: 44

الغراء يفقده كثيرا من بهجته وجدته حين تخرجه للناس كتابا كاملا بين دفتين؟ وهل كان يفعل مثلك الزيات في كتبه التي كان ينشرها فصولا متتابعة في الرسالة ككتابه (دفاع عن البلاغة) وغيره؟

وأختتم هذه الرسالة منتهزا تلك الفرصة الطيبة لأبعث إلى شباة القلم الفذ، بتحية التقدير والإعجاب والحب.

(السويس)

عبد الرحمن

هذا أديب آخر لم يشأ أن يذكر اسمه، وآثر - كما فعل أخ له من قبل - أن يختفي وراء قناع. وما قلته لأديب الأمس أحب أن أقوله لأديب اليوم، وهو أنني أفضل أن ألقي الأصدقاء الأدباء في وضح النهار. . أما أديب الأمس الذي نشرت كلمته في العدد (903) من الرسالة فقد ظهر على حقيقته في العدد الذي يليه، وأعني به العدد الذي ظهر منذ سبة أيام. لقد ظهر هذا الصديق في صفحة الشعر وعرفته هذه الصفحة قبل ذلك مرات. . . أليس القارئ (ع. ع. ص) الذي كتب إلي من (طهطا) مدافعا عن القراء، هو الأستاذ عبد الرحيم عثمان صارو الذي طالعنا بقصيدته (زائرة الحمى) في العدد الماضي من الرسالة؟ لقد أدهشني هذا الشاعر الصديق بروعة وفائه، ثم عاد مرة أخرى فأدهشني برقة شعره، ومن حقه على أن أذكر له هذه القيم الجميلة التي يشرف بها الخلق والفن. . ولا بأس أن آخذ عليه قوله: وزهرتاي الآدمية!

بعد هذا أقول لأديب اليوم بعد شكره على كريم تقديره إننا هنا لا نضن على المواهب بذكر ولا نبخل على أصحابها بالتشجيع، لأننا نؤمن كل الإيمان بأن كلمة تقال أو صدرا يرحب أو يد تمد، يمكن أن تخرج الكنوز من باطن الأرض وتفجر الينابيع من أعماق الصخر، وتحيل صحارى الفكر إلى جنان ورقي الظلال ميادة الغصون. . وليس في هذا الصنيع إن نحن أقدمنا علية شيء من الفضل، ولكنه الواجب الذي تفرضه علينا كرامة العقل ورسالة الذوق وديمقراطية الأدب! أننا ننكر هذا الأرستقراطية الأدبية التي تعترض طريق المواهب حين لا يسطع من ورائها شعاع اسم كبير، لأننا لدينا بهذه الكلمة الصادقة التي تقول لك: لا تنظر إلى من قال، ولكن أنظر إلى ما قال إننا لا نلتفت إلى ضخامة الاسم

ص: 45

بقدر ما نلتفت إلى ضخامة العقل، ولا نعترف بسعة الشهرة بقدر ما نعترف بسعة الأفق، ولا نهتم بعلو المكانة بقدر ما نهتم بعلو الثقافة، ولا نحفل باكتمال الصيت بقدر ما نحفل الأداة. . هذا هو مذهبنا الذي نؤمن به ودستورنا الذي نسير عليه، وعلى أصحاب المواهب أن يطمئنوا إلى أننا أمناء على الحق حرصاء على القيم. . ولن نحيد يوما عن الطريق.

أقول هذا وأعلم أن هناك كتابا وشعراء سيواجهونني بصيحة من العجب وأخرى من الإنكار، لأنهم بعثوا إلى بفيض من النثر والشعر غضضت عنه الطرف وصرفت الفكر ومسكت القلم. . إلى هؤلاء الاعتذار، لأن اتجاههم الأدبي يعوزه شيء من الصقل وشيء من النضج وأشياء من التجربة والمران. وليس عليهم من بأس إذا ما عمدوا إلى فنون من الجد والمثابرة واحتمال متاعب الطريق ليبلغوا من هذا الطريق منتهاه! كل ما أرجوه لا يتسرب إلى قلوبهم اليأس، وألا يتطرق إلى نفوسهم القنوط، وألا يغلقوا في مجال الطموح تلك الكوى الخفية التي تهب منها رياح الأمل. . الأمل الواثق من القدرة القادرة في الغد القريب.

أترك هذا الجانب من الإجابة على الشق الأول من رسالة الأديب الفاضل لأعرج بالتعقيب على الشق الأخير. . وخلاصة هذا التعقيب أن ذلك الكتاب الذي يشير إليه سيكون يوما بين أيادي القراء. ولن يضير قضية النقد وعشاق الأدب أرجئ نشر الفصول الباقية إلى حين، إلى أن تقع عليه أعين الناس كاملة بين دفتين. وليس هناك من سبب لهذا الإرجاء غير ما ذكرت، وهو أن نشر الكتاب كله على صفحات الرسالة سيغني القراء عن أقتنائه ويعفيهم من مشقة السعي إليه حيث ينقلونه من ضيافة الرفوف إلى ضيافة العقول!

أما الأستاذ الزيات فقد فعل مثل ما فعلت في مثل هذا الكتاب الذي أومأ إليه الأديب الفاضل وأعني به (دفاع عن البلاغة). . وليس من شك في أن وجهتي النظر تلتقيان حول حقيقة واحدة وهي أن نشر الكتاب كاملة على صفحات المجلات يفقدها عنصر الجدة التي تنشدها عين المتشوقة إلى كل جديد. وجوهر الطرافة التي يلتمسها ذوق المتطلع إلى كل طريف. . ولا حاجة بنا إلى الألفاظ في ذكر ما يلقاه الكتاب من قراء هذا الزمن!!

شعراء في الميزان:

في العدد الماضي من الرسالة كلمة الأديب السوري الفاضل محمد الأرناؤوط، يختلف فيها

ص: 46

معي حول رأي في شعر الشاعرين: عزيز أباظة وأنور العطار. وجوهر الخلاف أنني وضعت الشاعرين في طبق واحد فلم يقتنع الأديب الفاضل، ومضى يرفع من الشعر الأول ويخفض من الشعر الأخير؟ أو يدخل شعر أباظة في دائرة (الأداء النفسي) ليخرج منه شعر العطار! ومما جاء بكلمته في هذا الصدد قوله:(إن شعر العطار فيما أرى ليس في طبقه شعر عزيز أباظة ولا يمكن أن يبلغ مستواه. أنه شعر صناعة وألفاظ، شعر عبارات مات فيها الجرس، وصور انطفأت فيها الألوان وخمد البريق، ومعان أكرهت على السكون بعضها إلى بعض فلم تكد تأتلف، ولم يكد يأنس شيء منها بشيء. . أنه عمل ذهني وجهد لغوي، لا يمت إلى شعر (الأداء النفسي) بصلة، ولا كذلك شعر عزيز أباظة)!

من هذه الكلمات لتبين للقراء أن الأديب السوري يريد أن يجرد شعر العطار من كل ما يسلكه في إعداد الشعر. . . إلى هنا واقف قليلا لأقول له: إني لا أحب لملكته الناقدة أن تنزلق إلى طريق التجني وأن تندفع إلى سبيل الغلو، لأن كليهما يطمس الحقائق الفنية ويوحي إلى الأذهان بأن الأهواء وحدها هي التي تقود الرأي وتوجه الإبهام!

أنني حين قلت أن هناك لونين من الشعر يعجبني أحدهما ويهزني الآخر، لم أشأ أن أخرج اللون الأول - ومنه شعر العطار - من دائرة (الأداء النفسي) لأن ومضات هذا الأداء منبثقة في شعر هذا الشاعر بمقدر. ومعنى هذا أن وجودها بنسبة معينة أمر لاشك فيه. وعلى مدار هذه النسبة الفنية لتلك الومضات، أعني على مدار ما فيها من قوة وضعف أو من زيادة والنقص في شعر العطار وكل شعر، يتحدد المعنى الذي قصدت إليه حين قلت إن هناك شاعرا يعجبني بأدائه وآخر يهزني بهذا الأداء!

وإذا كنت قد قلت إن شعر العطار من ذلك اللون الذي يعجب ولا يطرب، فأرجو أن يفهم القراء أنني أتحدث عن هذا الشاعر منسوبا إلى كل شعره وليس إلى بعض القصائد أو بعض الأبيات، أعني أن الحكم الذي أصدرته كان حكيما منصبا على الشاغر في مجموعه، وهكذا يجب أن تكون كل الأحكام. . إن قصيدة (الشاعر) للعطار مثلا لا تهزني، وكذلك لا يهزني الكثير من شعره، ومع ذلك فإن إنتاجه الفني لا يخلو من الفلتات الشعرية الملحقة في بعض الأحيان، ولكن العبرة كما قلت هو أن ننظر إلى الشاعر في جملته، أعني أن نربط هذه النظرة بملكته الشعرية العامة لا الخاصة، وأن نركزها على طاقته الفنية التي تحددها

ص: 47

الكليات لا الجزئيات؟

هذا الميزان الذي أقيمه هنا بالنسبة إلى شعر العطار، وهو نفس الميزان الذي أقمته بالنسبة إلى شعر عزيز أباظة، وهو بعينه الذي دعاني إلى شيء من التحفظ وأنا أقصر الحكم على شاعرية يوسف حداد، في نطاق هذه القصيدة الوحيدة التي لم أقرأ له غيرها من قبل. . . وليس هناك شيء من التراجع أو شيء من الفتور نحو إعجابي الذي لا يحد بقصيدة الشاعر اللبناني كما خيل إلى الأديب الفاضل، ولكنه الحرص البالغ على أن تكون الأحكام النقدية العامة على شاعرية الشعراء مرتكزة على الإنتاج العام!

ولا يمكن بحال أن أوافق الأديب السوري على مجموعة آرائه في شعر العطار، لأن من هذه الآراء ما لا يتفق مع الواقع كقوله أنه شعر صناعة وألفاظ، أو شعر عبارات مات فيها الجرس، وصور انطفأت فيها الألوان وخمد البريق. . لا يا صديقي! إن أنور العطار من أحلي الشراء جرسا ومن أكثرهم لمعان صور وإشعاع بريق، ولا أستطيع أبدا أن أضمه إلى قائمة الشعراء المصنوعين. . أنه في رأيي ورأى الحق شاعر مطبوع، كل ما ينقصه هو أن يتخلص من هذه القوالب الكلاسيكية التي يصب فيها شعره في كثير من الأحيان، وأن يعني بعض العناية بصدق الرؤية الشعرية في ألفاظه ومعانيه، وأن يهتم بملكة المراقبة النفسية أكثر من اهتمامه بملكة المراقبة الحسية. . وما أقوله هنا عنه يمكن أن أقوله عن عزيز أباظة!

لحظات في دار الكتب:

لحظات لم أقضها في القراءة والإطلاع، وإنما قضيتها في زيارة رسمية للأستاذ أحمد رامي. . ولعل القراء يذكرون موقفي من الأستاذ الفاضل في عدد مضى من الرسالة، ويعجبون كيف تم هذا اللقاء بيني وبينه بعد ذلك الذي كان!

الحق أنها كانت لحظات حافلة بالعجب عامرة بالطرافة. . . ومصدر العجب فيها هو أن نلتقي وجها لوجه، ويكرم الرجل وفادتي ويهش لمقدمي على الرغم من تلك الحملة القاسية التي شننتها عليه منذ أسابيع. ومرد الطرافة فيها إلى أن رامي لم يكن يعرف شيئا عن ذلك الزائر الغريب، سوى أنه مندوب رسمي للدكتور طه حسين بك وزير المعارف. . . ومن هنا أصر على ألا أبرح مكتبه حتى أتناول فنجانا من القهوة، تحية وترحيبا ومودة!

ص: 48

إنني أكتب هذه الكلمة لأقدم عن طريقها أخلص الشكر للأستاذ أحمد رامي وكيل دار الكتب المصرية، على كريم ضيافته وجميل حفاوته. . وأشهد أنه كان نفحة من نفحات الذوق حين أمر بإنجاز ما جئت من أجله في يومين وكان مقدارا له أن ينجز في أيام. . أشكره هنا على صفحات الرسالة لأنه لم يكن في طوقي أن أشكره في دار الكتب. . أقصد أنه لم يكن في استطاعتي أن أقدم إليه شكر صاحب (التعقيبات)، وإنما الذي أمكنني أن أقدمه إليه في ذلك اللقاء. . هو شكر مندوب وزير المعارف!

ترى ما الذي سيقوله الأستاذ أحمد رامي لنفسه بعد أن يطلع على هذه الكلمات؟ ليس من شك في أنها ستكون مفاجأة له، ومفاجأة طريفة. . أتراه سيحس شيئا من الأسف على كريم ضيافته وجميل حفاوته، وذلك الفنجان من القهوة الذي قدمه إلي ولن أنساه؟ الجواب في بطن الشاعر!!

سهو من الذاكرة:

طالع القراء في العدد الماضي من هذه المجلة حديثا موجها من كاتب هذه السطور إلى معالي وزير المعارف في العراق ومن المؤسف أن تجمع الذاكرة بين وزيرين مصريين ثم تسهو من الذكر أحدهما لتثبت ذكر الآخر، في مجال يقتضي أن يحل الوزير المقصود بالذكر محل صاحبه الذي ورد اسمه في الحديث وأعني به محب باشا. أما ذلك الوزير المصري الذي كان يجب إثبات اسمه في معرض العطف على شاعر النيل حافظ إبراهيم، فهو حشمت باشا وليس محمد محب! فإلى القراء أولا والتاريخ ثانيا أقدم أخلص الأسف وأعمق الاعتذار.

أنور المعداوي

ص: 49

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

بين التعليم والثقافة

تناولت (مشكلة القراءة) في عدد مضي من (الرسالة) فنظرت في أهم أسبابها، وهو طريقة التعليم عندنا وملابساته، من حيث المناهج المزدحمة والامتحانات التي تتجه إلى الذاكرة ولا تكاد تهتم بالإدراك، وإرهاق التلاميذ والمدرسين، فكل ذلك كما قلت (يبغض في الكتاب، إذ لا يكاد التلميذ ينتهي من (سخرة) الامتحان حتى يلقي بالكتب وهو يشعر بالسعادة لتخلصه منها، وبغضه للكتاب المدرسي بجره إلى بغض جنس الكتاب، فلا مكان إذن لحب القراءة من نفسه)

قلت ذاك، وقلت أيضاً (من أكبر الخطر أن المشكلة واقعة أيضاً بين المدرسين أنفسهم. . أولئك الذين يرجى منهم أن يبثوا حب القراءة والإطلاع في نفوس الطلاب، لأنهم أيضاً ضحية هذا النظام المدرسي. . . الخ) وحين قلت هذا وذاك لم تكن تغيب عني جهود الرجل العظيم طه حسين في وزارة المعارف التي يبذلها في تيسير التعليم وتعميمه وإنصاف المعلمين وبعث الطمأنينة في نفوسهم والحق أنني كلما تناولت مشكلة ثقافية لأكشف عن نواحي التقصير فيها يخالجني شعور الإشفاق على ذلك الرجل لما ينهض به من أعباء أثقلها الإهمال والتواني في الزمن الماضي، وأشعر في الوقت نفسه أن تلك المسائل الثقافية غير خافية عليه، ولعله يتحين لها الفرصة بعد الفراغ من إنصاف المظلومين وإتاحة فرص التعليم لجميع المواطنين. وقد لمحت بارقة من ذلك في خطبته التي تحدث بها إلى المعلمين في الحفلة التي كرمهم بها في الوزارة، إذ قال أنه يود أن يرى المعلم ينتفع بالعلم قبل الطلاب. ثم راعني هذا الغيث الذي انهمر في حديثه إلى مندوب الأهرام الأستاذ محمود العزب موسى الذي أثار كامن نفسه عندما سأله عما أعده من مشروعات للنهوض بالتعليم بعد الفراغ من التوسع في قبول التلاميذ والتوسعة على رجال التعليم. وقد كان الأستاذ العزب موفقا كل التوفيق في هذه الإثارة التي حدد نقطها، وكان منها (قصة الامتحانات ومستقبل الثقافة في البلاد).

لقد كان الحديث حديث أستاذنا وزميلنا الأديب الناقد الدكتور طه حسين بك. . إذ حمل على

ص: 50

ما تتبعه وزارة المعارف من سخافة في الامتحانات وما تجترحه بذلك من تبغيض المتعلمين وتنفيرهم من العلم والتعليم، قال، بعد أن بين ما يلاقيه من جهد في فحص المظالم ولقاء الآلاف من المظلومين وأصحاب الحاجات، وبعد أن ذكر ما أخذ فيه من تيسير المناهج لتكون أوفى إلى عقول التلاميذ وقلوبهم: وفكر في محنة الامتحان، فسترى أنها العلة التي لا يستقيم معها التعليم ولا بد من أن نصل إلى علاج مصر منها، فالتلاميذ يتعلمون ليمتحنوا آخر العام، والأساتذة يعلمون لينجح تلاميذهم في آخر العام، ويصبح الامتحان هو الغاية الأولى التي أنشئت المدارس والمعاهد من أجلها. . وما أعرف أن بلدا وصل من السخف إلى مثل ما وصلنا إليه في أمر الامتحانات. امتحانات النقل يشقى بها التلاميذ من أول يوم في العام الدراسي: أسرته تشعره دائما بأن عليه أن ينجح، وأساتذة يشعره دائما بأن عليه أن ينجح، فيشغله النجاح عن فقه ما يلقى إليه من الدرس، ويعنى بذاكرته، ويعطي عقله وقلبه إجازة أثناء العام الدراسي) وقال:(والامتحان العام نفسه نقدم عليه كأنما نقدم على عمل مقدس يجب أن نعدله عدته، في نفوسنا، وفي مظاهر حياتنا نفسها، ثم نعقده تعقيدا لا حد له) ثم رد على من يظنون أن تعقيد الامتحان هو الوسيلة الوحيدة لرفع مستوى التعليم بقوله: (فتعقيد الامتحان إن أدى إلى شيء فإنما يؤدي إلى تكوين المواطن الآلي الذي لا يفكر ولا يتعمق، وإنما يحفظ ما يلقى عليه، ثم يؤديه كما حفظه، ثم ينجح فيصبح مواطنا عقيما، أو يرسب فيصبح كلا على المدرسة، فإن اطرد رسوبه أصبح كلاً على الشعب. إن الذين يريدون أن يرفعوا مستوى التعليم حقا، يجب أن يحببوه إلى التلاميذ لا أن يبغضوه إليهم إن كنت تريد أن ترفع مستوى التعليم فاجعل أمور ميسرة، يقبل عليها التلاميذ عن حب لها ورغبة فيها، ويجدون الوحشة حين ينصرفون عنها في الإجازات. كل هذه أمور لا بد من التفكير فيها والفراغ لها، وقد فرغت لبعضها، وأرجو أن يتاح لي تحقيق ما أريد منها)

وهكذا نجد الرجل مشغولا بما كنا نمسك عن مواجهته به ومطالبته بتحقيقه، يثارا للاصطبار والانتظار، والواقع أن معاليه جند الجنود وحشد الحشود ووزع الأعطيات ونظم الأرزاق، ولكن بقي (التكتيك) بقي أن يوجه التعليم إلى غايته، بقى أن يوفق بين التعليم وبين الثقافة، وينهي الخصام الذي لا يزال قائما بينهما في عقول (المتعلمين) ولست أدري

ص: 51

ما فائدة التعليم إذا لم يفتح أبواب المعرفة أمام المتعلم ويغرس في نفسه حب التزود ومداومة الإطلاع.

لقد أفسدت الطريقة الآلية في التعليم، هذا الجيل، وجعلت التعليم المدرسي غاية في ذاته، فلم يتخذ - كما ينبغي - سببا إلى التثقيف الذاتي الذي يأخذ به المتعلم نفسه ويكمل نقصه، فيشعر أنه طول عمره محتاج إلى وجبات الثقافة كما هو محتاج إلى وجبات الطعام. وإنه ليعييك البحث عن المثقفين الحقيقيين بين (المتعلمين) الذين اجتازوا الامتحانات وظفروا بالشهادات، إذ لا تجد من أولئك غير أفراد بهم مناعة ضد آلية التعليم مثل المثقفين في مصر كمثل الفرق الرياضية فيها، قلة ممتازة تفصلها عن الكثرة الغالبة هوة بعيدة القرار.

لقد ضاع جزء كبير من أعمارنا في حفظ أشياء لا قيمة لها، ولقد سخروا عقولنا في مواد لم نجد لها أي أثر في حياتنا بعد التخرج، ولقد كان بغضنا لها داعيا إلى تعمد نسيانها بعد. . ويقولون أن الطالب في مصر يحصل على ورقة الطلاق من العلم بحصوله على الشهادة، ومن الإنصاف أن يقال أيضا: بعض المتعلمين يحصل على ورقة الطلاق من السخافات بفكاكه من التعليم المدرسي. .

والتعليم عندنا يفترض في كل إنسان قوة الحفظ ويفرض عليه أن يحفظ، فإن كان كذلك فحفظ ووعى ما تمتلئ به المناهج من سخافات، برز وتقدم ونال أعلى الدرجات وأكبر التقديرات، وفضل في الوظائف وأرسل في البعثات وتكون النتيجة أن يلي الأمور هؤلاء الآليون.

ولقد سافر أولئك المبعوثون وجاؤوا، لم يفيدوا شيئا، لأنهم ذهبوا بعقولهم الآلية وعادوا بها. حفظوا شيئا مما هناك لمجرد الحفظ، فلم ينتفعوا به في بحث ومقارنة وتعمق. وها نحن أولاء ما زلنا نشكو من عقم التعليم على الرغم من كثرة من أوفدنا إلى أوربا لدراسة التربية والتعليم!

أن العلة كلها تنحصر في البرزخ الكائن بين التعليم المدرسي وبين الثقافة العامة. واليوم الذي يزال فيه هذا البرزخ هو اليوم الذي يقال فيه إن التعليم يؤتي ثمراته ويؤدي إلى غايته.

إلى فضيلة شيخ الأزهر:

ص: 52

لم تنقطع عني رسائل طلبة الأزهر منذ كتبت في موضوع الكتب التي تدرس في الأزهر، وهي تدور حول لرغبة في مواصلة الكتابة في هذا الموضوع والإيهابة بالمسئولين أن يهتموا بإصلاح هذه الناحية في الدراسة الأزهرية، ويحسن بعضهم الظن أو يقوي أمله في أن يضع كل شيء وفق ما يكتب الكاتبون.

الآن وقد تولى مشيخة الأزهر شيخ جديد هو فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم، فطبيعي أن تتجه إليه الآمال لينتقل بالأزهر خطوة جديدة في سبيل تأدية رسالته، وهذا هو الطالب الأديب (عبد الصبور السيد الغندور بالمعهد الديني بشبين الكوم) يرجو أن يفسح له ليطل من (الرسالة) على الشيخ الأكبر، يقول:

(سيدي شيخ الأزهر - لقد استبشرنا باختيارك لنا، فمرحبا بقدومك، وأهلا بمعهدك الذي نرجو الله أن يجعله ميمونا سعيدا على الإسلام والأزهر. نتوجه إلى فضيلتكم فنضع بين يديكم ما يأتي:

1 -

لقد وعدنا الجميع بإزالة الكتب المقررة على المعاهد الدينية، لعدم صلاحها مطلقا وإبدال أخرى بها تكون ملائمة للعصر الذي نعيش فيه، فهل ستبحث فضيلتكم هذا الموضوع الشائك الذي من أجله شرد الكثيرون وبحت أصوات الباقين؟

2 -

لقد آمنت وزارة المعارف بالحكمة القائلة (العقل السليم في الجسم السليم) فأمرت بصرف الغذاء لجميع طلبتها أفلا تأمرون بصرف الغذاء لأبنائكم؟

3 -

لماذا يتسلم أبناء وزارة المعارف كتبهم المقررة والأدبية ونحرم نحن طلبة الأزهر ذلك؟ ألسنا من أبناء الأمة؟ ألم يصبح التعليم كله بالمجان؟ فلم هذا الفارق؟

نسأل الله تعالى أن يجعل نجاتنا على يديكم بعد أن أشرفنا على الغرق وإنا لمنتظرون)

ونحن نستبشر بما صرح به فضيلة الأستاذ الأكبر للصحفيين من أنه معنى بدراسة كتب المتقدمين والاستغناء بها عن بعض كتب المتأخرين، على ما في هذا التصريح من تحفظ قد يقتضيه المنصب الكبير، ونعده مقدمة لخير كثير نرجو أن نعتبره المرحلة الثالثة في إصلاح الأزهر بعد المرحلتين اللتين تمتا على يدي الإمامين عبده والمراغي، كما سبق أن أوضحنا.

ولا شك أن الاستغناء بكتب المتقدمين الموضوعية البليغة عن كتب المتأخرين الشكلية

ص: 53

المعقدة، أمر مفيد، وهو واجب لربط الثقافة الأزهرية والإسلامية على العموم بماضيها ولكن هناك التأليف بأسلوبي العصر والتطبيق على مسائل العصر، فقد أصبح مما يعرفه الجميع أن أساس التعليم - على اختلاف أنواعه - ملاءمة بين ثقافة المتعالم وبين حاجات عصره.

وهذا يستلزم أن يكون التأليف الجديد أهم ما تعتمد عليه الدراسة في الأزهر وخاصة في المرحلتين الابتدائية والثانوية، فالنهضة التي ينتظرها الأزهر أو ينتظرها الناس من الأزهر في الوقت الحاضر، تنحصر في كلمة واحدة هي (التأليف)

ذكرى الزين:

يظهر هذا العدد من (الرسالة) في يوم الذكرى الثالثة للمغفور له الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين.

ولقد كان الزين شاعرا كبيرا من شعراء العربية المبرزين في هذا العصر، قرأ له الناس قصائد ممتعة في الأهرام والرسالة والثقافة، وكان رحمه الله قد جمع شعره في ديوان مخطوط، على عزيمة أن يطبعه في الفرصة المواتية. وتوفي قبل أن تواتيه هذه الفرصة. وقررت لجنة التأليف والترجمة والنشر، طبع ديوان الزين، على أن تقوم بنفقاته وتخصص ممن ما يباع منه لليتيم الذي تركه الفقيد.

وها قد مضت سنوات ولم يخرج الديوان. . لماذا؟ لأن اللجنة لا تزال تطلبه ممن هو عنده. فهل فقدنا الزين وفقدنا ديوانه؟!

أكتفي اليوم بتحية طيبة أبعث بها إلى روح فقيدنا الكبير في يوم ذكراه، وفي الأسبوع القادم إن شاء الله قصة ديوانه الذي يوشك أن يلحق به. . .

عباس خضر

ص: 54

‌البريد الأدبي

هل حققت هيئة الأمم وعودها

احتفلت هيئة الأمم المتحدة، في الأسبوع الماضي، بالذكرى الخامسة لتأسيسها، وقد أسست هيئة الأمم في وقت آمنت فيه الدول بضرورة تكوين رابطة دولية، تعمل على توطيد دعائم الأمن، ونشر ألوية السلام، بفض ما عساه أن يقوم بين الدول من نزاع، لتجنب العالم ويلات الحروب وشرورها. . . واختارت هيئة الأمم لها علما خاصا، يرمز إلى مهمتها، يتوسطه غصنان ممتدان من أغصان الزيتون، يعانقان الكرة الأرضية. . . فهل حققت هيئة الأمم وعودها؟!. .

هل استطاعت هيئة الأمم أن توطد دعائم السلم، وتنشر ألوية السلام، فتجنب العالم شرور الحرب وويلاتها؟!. . .

هل استطاعت هيئة الأمم أن تعالج المشاكل التي عرضت عليها، من الدول المغلوبة على أمرها، علاجا حاسما؟!. . .

هل استطاعت هيئة الأمم أن تنصف الدول (الصغرى). من الدول الكبرى). . وتصون حقوقها. . وتذود عن حريتها؟!.

هل استطاعت هيئة الأمم أن تكفل حريات الشعوب التي لاذت بساحتها، في ساعة العسرة، تستجير. . وتستغيث؟!. .

هل استطاعت هيئة الأمم أن تحذف من قاموس السياسة، تلك الكلمة البغيضة التي يحاربها الأحرار. . كلمة (الاستعمار)؟!

هل استطاعت هيئة الأمم أن تأخذ بيد الضعيف حتى ترد إليه حقه المسلوب. . وتقف في وجه القوي، وتصد عدوانه؟!.

هل استطاعت هيئة الأمم أن تعدل بين الأمم، يوم لاذت بها فلسطين والدماء تنزف منها. . ويوم عرضت عليها مصر قضيتها العادلة؟!. . .

هل استطاعت هيئة الأمم أن تحقق العدالة يوم قررت تقسيم فلسطين. . وتمزيقها. . ويوم أعرضت عن سماع شكوانا؟!. . .

إذن. . ماذا فعلت هيئة الأمم، في تلك السنوات الخمس؟!

ص: 55

لقد عقدنا عليها الآمال، يوم تبوأنا مقعدنا في صفوف أعضائها فإذا بآمالنا كنسج العنكبوت. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت!

وما كادت (كوريا) تنادي، حتى لبت هيئة الأمم النداء، وراحت تعد لها المعدات، وتعبئ لها الجيوش من مختلف الأقطار، وزلزلت الأرض زلزالها، وقامت الدنيا وقعدت!. .

وهكذا تكبل هيئة الأمم بكيلين. . . فهل بهذا تحقق العدالة الدولية أيها الساسة العباقرة؟!. . .

إنكم تعيدون علينا قصة (عصبة الأمم) الغابرة. . . لا طيب الله لها ثرى!. . .

ومن عجب أن بعض هيئاتنا قد ساهمت في الاحتفال بذكرى تأسيس تلك الهيئة التي خذلتنا. . . ففيم هذا الاحتفال يا سادة؟!.

أتساهمون في تكريم هيئة تصامت عن سماع صوتكم، يوم لذتم بها، وفي أيديكم قضية لم يشهد التاريخ لها مثيلا؟!. . .

أتساهمون في تكريم هيئة مزقت وحدة العرب، وقسمت وطنهم، وأخرجتهم من ديارهم وأموالهم بغير حق. . فهاموا على وجوههم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟!. . .

أتساهمون في تكريم هيئة إن تمسسكم حسنة تسؤها، وإن تصبكم مصيبة تفرح بها، وتريد بكم العسر ولا تريد بكم اليسر؟!.

أتساهمون في تكريم هيئة لا تكرمكم. . ولا تحفل بكم. . مالكم كيف تحكمون؟!. . . أف لكم، ولما تكرمون؟!. . .

إننا لا نستطيع أن نحتفل بذكرى هيئة الأمم إلا إذا أقامت لنا الدليل ساطعا على حسن نواياها. . وأكدت لنا - بالفعل لا بالقول - أنها جديرة بأن نحتفل بذكراها، ونشيد بمآثرنا، وصيغها!. . .

وإلى أن تحقق هيئة الأمم وعودها، نرجو لها التوفيق، وندعو لها بالخير، لتعمل على توطيد دعائم السلم، ونشر ألوية السلام!. . .

عيسى متولي

ص: 56

‌القصص

الشجاع. .!

للأديب كارنيك جورج

ما إن استلقى على سريره ووضع رأسه على الوسادة، حتى انتبه إلى حركة غريبة في الغرفة التي ينام فيها وحده! ما معنى تلك الحركة؟ وما هو تفسيرها؟ وتوقف فكره. . بل أنه جاهد حتى أوقفه عند هذا الحد خوف الوصول إلى التفسير الذي لا يقبل الشك. . وكان يجاهد أيضاً في أن يهدئ من روعه، وأن يخفف من خفقان قلبه. . خشية افتضاح أمره عند. . عند من يشاركه الغرفة في تلك الساعة الرهيبة!. . وبكثير من الجهد حول عينيه يبحث عن مصدر تلك الحركة. وعندئذ ارتاح إلى أنه لم يطفئ النور بعد.

وقعت أنظاره على صوان ملابسه فقال لا بد أن اللص فيه. . فازدادت رهبته، لكنه اطمأن قليلا إذ تبين موقع اللص منه، ولم يلبث أن انتبه إلى نفس الحركة وهي تصدر من مكان آخر. فالتفت إلتفاتة غريزية سريعة، فلمح على الأرض، عند طرف السرير، شيئا يتحرك! فما أنعم النظر تبين أنه غطاء فراشه الملقى على البساط شأنه في كل يوم. ومن حسن حظه أنه لم يفطن إليه عندما استلقى، فلو أنه فطن لدفعه ليتدثر به. . ولحلت الفاجعة. . التي لا يمكنه تصورها. . فاللص الذي كان في الغرفة قبل دخوله إليها قد اختفى، اختفى تحت الغطاء بمجرد أن سمع وقع خطواته في الدهليز! يا للهول، كيف لم ينتبه إلى ذلك أول ما دخل؛ ليته تأخر هذه الليلة، وترك للص الحرية، كي يسرق ما يشاء. فذاك أهون من أن يحتبس معه داخل غرفة ضيقة!!

ظل يرتعش. فتخشب جسده والتصق بالسرير، وظل حائرا وجلا لا يدري كيف النجاة من هذا الشر الذي تربص له في غرفته الآمنة وضاق صدره حتى خيل إليه أنه يختنق، كما لو أن اللص قد أفسد هواء الغرفة بطريقة خاصة. لكنه مع ذلك ظل جامدا لا يتحرك، وبقيت أنظاره وجلة مترقبة، ترمق ذلك الغطاء المنطوي على أخطر ما كان ينتظر.!

بيد أن الحركة لم تتكرر، فاطمأن. . وزال عنه بعض الخوف:

- هذا لا ينبغي، الأوفق أن أنقض عليه، وأشبعه ضربا وركلا، حتى يعجز عن المقاومة فيستسلم. فأوثقه بالحبال، ثم أخرج فأدعو أهلي، وأدعوا كافة الجيران. . . لعل أن تأتي

ص: 57

(صبيحة) مع ابنتها نجوى. ليطلعا على فعلي، وقد تتأكد نجوى من أنني بطل، لا كما توهمت، فسخرت مني عندما نبح أحد الكلاب الضالة علي بغتة فلذت بالهرب، ولجأت إلى البيت، فإذا بقهقهات ساخرة تترامى إلى أذني فارتعشت أكثر مما ارتعشت عند نباح الكلب. فقد عرفت صاحبة القهقهة الساخرة. . . إنها نجوى بالذات. فرأيت أني لا يجب أن أتراجع وألوذ بالبيت، وأبدوا أمامها كالوجل من نباح كلب حقير، فانتظرت برهة لأجمع رباطة جأشي، ثم دفعت الباب وخرجت، أتلفت يمنة ويسرة، فصرخت نجوى من نافذتها التي تشرف على (المحلة)(امض فقد ذهب الأسد) صفعتني عبارتها، ووددت لو أني ما خرجت تلك الساعة، ولا صادفني ذلك الكلب، ولا كانت نجوى في شرفتها. .! والله لو أني تنبأت بما سيقع، أو علمت أن نجوى تراقبني، لما تراجعت ولما ذعرت حتى لو قابلني أسد جائع لا كلب ضال.

(تلك الفتاة المغرورة الساخرة، ستتعجب! إذ تراني أوثقت اللص بالحبال. سألطمه على وجهه لطمات قوية أمامها. كي تغير رأيها فيّ. وتدرك أنني بظل حقا. وأنني أستحق الإعجاب منها. كبقية الأبطال الذين تعجب بهم وهي لم ترهم. أولهم (أرسين لوبين) هذا المنافس الغريب الذي يأتي إليها من خلال سطور الروايات فيسلب عقلها في حين أنني ما فتئت أحاول جذب نظرها إلي. نظرها الجدي. فتأبى هي إلا أن تنظر إلي بسخرية، ويأبى القدر إلا أن يمهد لسخريتها حادثة مضحكة، كحادثة الكلب، وحادثة السيارة، وحادثة أولاد الحارة الصغار. .

(كفاني سخرية، فإني لا أستحق سوى الإعجاب. إن هذه الفتاة المغرورة سوف تراني إلى جانب أرسين لوبين عملاقا.! إذ أنه يطالعها من خلال الأكاذيب، في حين أني أطالعها أنا من خلال حقائق ثابتة.! من قال إن ذلك الأجنبي يملك من الدهاء والقوة أكثر مما أملك؛ هيه، إني لأقوى منه، إني لأدهى منه، وسأثير اهتمام نجوى وأملك مشاعرها بمجرد أن أوثق هذا الدخيل المتدثر الخائف. . وهو خائف بلا شك، وإلا لظهر أمامي من دون غطاء. وعلي أن أنتهز الفرصة فأنقض عليه، وبذلك أرفع اسمي، وترفع نجوى عني لقب (الجبان) الذي منحته لي وتمنحني لقب (الشجاع).! ومن ثم سآخذ أسيري إلى أقرب نقطة للشرطة، ولا شك أن الشرطة سيفغرون أفواههم دهشا، معجبين بشجاعتي وإقدامي. ولا شك أن

ص: 58

كبيرهم سيشد على يدي مهنئا، ومن يدري لربما أنعم على بشيء، بهدية. . أو توسط عند رؤسائي للترقية، فأنا أستحق كل ذلك. . لأنني شجاع! ولأني قمت بمهمة وطنية تستلزم التشجيع! ولسوف تنشر الصحف اسمي وقصتي في صفحاتها الأولى، كما تنشر صوري أيضا. . وبعدئذ يشتهر أمري عند الرجال. . ويشتهر جمالي عند النساء! فيفدن إلى. ويقبلن علي، معجبات مغرمات. . ولسوف ترى نجوى كل ذلك، ولن أهتم بها أبدا، فأتركها فريسة للغيرة والندم. .)

وشهق شهقة عبرت عن مدى فرحته وابتهاجه بتلك الفكرة. بيد أن الغطاء الملقى على البساط ما لبث أن تحرك! فتوقف عن التفكير. وشابه بعض القلق. . ثم اتجه إلى وجهة أخرى. .: - لقد بدأ يتحرك، ما أمره؟ لعله قد فطن إلى ما سيحل به. فاحتاط مقدما. أليس من الخطورة أن أهجم عليه وليس في الغرفة سوانا؟ لا ريب أنه مسلح بينما أنا أعزل.)

انزعج لهذه الفكرة، لكنه لم يقدر أن ينحرف عنها، ليواصل أحلامه الحبيبة، لأن الغطاء تحرك مرة أخرى.

لا ريب أن الملعون يستعد لما سيقع فإذا أنا هجمت عليه لاقاني رأس خنجره قبل أن يلاقيني جسده المرتعش. أوه هذا مخيف، رأس خنجره يدخل صدري فينبثق الدم أحمر قانيا. . حتى تخمد أنفاسي. . ف. . فأموت. . ضحية مكيدة قذرة دبرها لص جبان! وقد يصبح موتي أيضاً سخرية في فم نجوى، لا. . إن هذا لمزعج، مخيف، يجب أن أستعد أنا أيضا. فهذه ساعة خطيرة قد لا أنجو فيشتهر أمري ويرتفع اسمي. . الأوفق أن. . أن آني له بسلاح، بأي سلاح، بسكين على الأقل، فالسكين أحسن من لا شيء! لأغادر الغرفة، إلى المطبخ، فإني بذلك السكين الكبير المعد لتكسير العظام! والأجدر أن أدعو كلبنا (جاكي) ليساعدني إذا احتجت إلى المساعدة، إن جاكي لكلب شجاع، فهو بالرغم من منظره وضآلة جسمه، وبالرغم من انزوائه وصمته يملك قوة خارقة. . مثلي تماما. فأنا أيضاً لا ينبئ مظهري وانزوائي بما أملك من قوة وشجاعة. كلانا سيكشف عما يذخر من قوى في هذه الساعة بالذات، والويل لهذا اللص الغبي الذي لم يحسن اختيار ضحيته، فوقع في شركي. الويل له. . إني سأجرب فيه قوتي وبطشي ويا ويله من قوتي وبطشي.)

وهنا ألقي نظرة ترفع واحتقار على الغطاء وهو ينسل بخفة من فراشه، ويستوي واقفا.

ص: 59

وقبل أن يستدير للخروج، تحرك الغطاء! فجمد هو في مكانه، فرأى أنه لو استدار فاللص قد يهجم عليه من الخلف، فعليه ألا يتمهل، وألا يرفع عينيه عنه. ومن ثم استطاع أن ينقل قدمه ببطء شديد، وبخوف شديد. . إلى الوراء خطوة قصيرة، ثم نقل إليها قدمه الأخرى، وهكذا استطرد ينسحب من الغرفة، دون أن يستدير. وكان الاضطراب قد بلغ منه مبلغا عظيما، بحيث جعله يذهل عما حوله، وينسى عتبة الباب، فإذا بقدمه تصطدم بها، فيعثر، فيسقط على وجهه. .! وفي اللحظة الأخيرة جاهد كي لا يقع على الغطاء الذي اختفى اللص تحته، وكان أن سقط على كرسي بجانبه، فمال الكرسي، فوقع على الغطاء بقوة!! فإذا بصرخة قوية تهز الغرفة. . فقال هو في نفسه (لقد مت)! لكنه لم يمت تماما. فقد تبين أن الصرخة التي أذهلته لا تشابه صراخ إنسان. . إنها تشابه إلى حد بعيد صراخ جاكي. وهنا رأى بعينيه الكلب وهو يثب من تحت الغطاء مذعورا وهو يعوي.!

العراق - بصرة

كارنيك جورج

ص: 60