الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 906
- بتاريخ: 13 - 11 - 1950
الأزهر الكبير في طوره الجديد
- 2 -
نعم كان الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم هو المصلح الذي يرجوه الأزهر وينتظره، لأن الله جمع فيه من المواهب والمكاسب ما لا بد منه لكل مصلح. فهو أزهري مكتمل الأزهرية في دينه وخلقه وعلمه؛ وهو سلفي معتدل السلفية في عقيدته وطريقته وفهمه؛ وهو تقدمي متئد التقدمية في اجتهاده وإصلاحه وحكمه. فإذا أخذوا على الشيخ محمد عبده أنه أنكر القديم، وسبق الزمن، واستكره التطور، وتجاهل العوائق، واحتقر الخصوم، وتحدى الحاكم؛ وأخذوا على الشيخ مصطفى المراغي أنه وصل الأزهر بأسباب السياسة فجمع كما تجمع، وفرق كما تفرق، وصانع كما تصانع، ورأى غاية الإصلاح أن يسترضي الغضبان بالوعود، ويستمهل العجلان بالمنى، فلن يأخذوا على الشيخ عبد المجيد إلا أنه رجل جعل همه للأزهر ووكده للعلم وجهده للدين. ومن استولت على قلبه هذه الأمور امتنع عليه في سبيلها أن يداري في حق أو يهاوي في باطل.
وشيخ الأزهر الجديد خاتم طبقة من العلماء المحققين المتقين كانت لهم في النفوس جلالة، وفي القلوب مهابة، لأنهم حفظوا كرامة العلم فحفظ الناس كرامتهم، واعلوا مكانة الدين فأعلى الله مكانتهم. شهر أيام الطلب بالملكة النادرة في فقه الشريعة، يتعمق أصولها ويتقصى فروعها، ويستبطن دخائلها، بالذهن البارع والفهم الدقيق، فكان مرجع رفاقه في تفسير ما أعضل من المسائل، وتوضيح ما أشكل من التراكيب، وتوجيه ما تعارض من الآراء. يجد في ذلك متعة نفسه ورباضة عقله ومتابعة هواه. وظل شغفه بالبحث وكلفه بالاستقصاء آثر اللذات عنده، وأظهر النزعات فيه، حتى تولى منصب الإفتاء للديار المصرية فصرف هذه القدرة العجيبة إلى استنباط لأحكام الشرعية من مصادرها المتعددة ومظانها المختلفة لكل ما جد من شؤون الحياة وعرض من أحوال الناس، فلم توجه إليه مسألة من مسائل الدين، ولا مشكلة من مشكلات العيش، إلا كان له فيها قول مبين أو رأي منير، حتى أربت فتاويه وحده على فتاوي المفتين جميعا. فلما بلغ سن المعاش نقل مكتب الدرس والبحث والفتوى إلى داره. فكان له كل يوم مجلس حافل يندوا إليه علماء الفقه فيدور عليهم بلفائف التبغ وأكواب الشاي، ثم يقدم إليهم، كتابا من الكتب، أو مسألة من
المسائل، فيقرءون أو يناقشون، والشيخ من ورائهم محيط بسر الكتاب، أو عليم بوجه المسألة، يقول فيستمع قوله، ويرى فيتبع رأيه. فهو حجة الوقت في علم الفقه وأصوله ما في ذلك خلاف.
ذلك علمه؛ أما خلقه فشذوذ في أخلاق العصر، ولعله كذلك شذوذ في أخلاق الدهر! فإن سلوك الطريق الذي نهجه الله، والوقوف عند الحدود التي أقامها الشرع، أمران لم يؤتهما الله إلا صفوة من عباده المخلصين جعلهم في خلال القرون أعلاما في مجاهل الأرض، ونجوما في غياهب السماء. حدثني أقرب الناس إليه أن شركة الترام بالقاهرة أهدت إليه وهو يتولى الإفتاء تصريحين مجانيين أحدهما لنفسه والآخر لتابعه. فأما تصريحه فالأمر فيه واضح، أغلق عليه الدرج لأنه يركب السيارة ولا يركب الترام، وانتفاع غيره به وهو مقيد باسمه حرام. وأما تصريح التابع فالأمر فيه مشكل! من التابع الذي يجوز له أن ينتفع بهذا التصريح؟ أهو الكاتب أم الساعي أم الخادم؟ الكاتب لا ينتقل من دار الإفتاء إلا إلى داره. وانتقال الموظف من عمله إلى سكنه ومن سكنه إلى عمله، انتقال خاص لا يدخل في حساب المصلحة العامة. والساعي والخادم لم يخطرا على بال الشركة طبعا حين أعطت التصريح في الدرجة الأولى؛ لأنهما بحكم العادة من ركاب الدرجة الثانية. إذن ليبق التصريح مصونا في المكتب لا تقع عليه عين، ولا تمتد إليه يد، حتى يأتي التابع الذي يستحقه.
وفي أحد الأيام أمر خادمه أن يشتري له بعض الأشياء من السوق، فلما عاد الخادم بما اشترى، وقدم إليه الحساب بما أنفق، قال له: لم لم تحسب أجرة الترام؟ فأجابه الخادم الأمين: ركبت بالتصريح. فقال له الشيخ وقد فار دمه من الغضب: وكيف تستحل هذا والأشياء لي والتصريح ليس لك؟ ولم ينتظر الشيح جواب الخادم وإنما نهض فركب في سيارته حتى نزل في شارع محمد علي؛ ثم وقف في محطة من محطات الترام وأنتظر حتى جاء أحد القطر فاشترى من (الكمسري) تذكرتين من تذاكر الدرجة الأولى ثم مزقهما وانصرف! وتستطيع أنت أن تعرف بالحدس ماذا فهم الكمسري وماذا قال الركاب!!
أليس هنا الخلق شذوذا في بلد لا تصبحك فيه الصحف ولا تمسيك إلا بخبر عن اختلاس ضخم، أو تزوير فاحش، أو سرقة فضيعة، أو رشوة فاضحة، أو خيانة عظمى؟
ألم يكن موقفه المعروف من تعيين صديقه الحميم المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق شيخا للأزهر غريبا في مألوف هذا العصر الذي أبطل الحق بالمجاملة، وعطل القانون بالمحاباة؟ لقد كان الحق أعز عليه من الصداقة، والقانون أقوى لديه من الحكومة. وفي سبيل الحق والقانون تعرض الشيخ لما يتعرض له الأحرار الأبرار من طغيان الهوى وسلطان القوة.
مثل هذا الرجل، بهذا الدين، وفي هذا الخلق، وعلى هذا العلم، جدير بأن تناط به الآمال في إنهاض الإسلام وإصلاح الأزهر؛ لأنه بفضل دينه لا يؤتى من قبل نفسه، وبفضل علمه لا يؤتى من قبل قومه، وبفضل خلقه لا يؤتى من قبل سلطانه.
تحدث الأستاذ الأكبر عن منهاجه الإصلاحي في مؤتمر صحفي عقده في دار المشيخة قال: (إن مهمة الأزهر ذات شقين: أحدهما - تعليم أبناء المسلمين دينهم ولغة كتابهم تعليما قويا مثمرا يجعلهم حملة للشريعة، وأئمة الدين والفقه، وحعاظا حراسا لكتاب الله وسنة رسوله وتراث السلف الصالح. أما الآخر فهو القيام بما أوجبه الله على الأمة من تبليغ دعوته وإقامة حجته ونشر دينه؛ وأنه على رعاية هذين الشقين يجب أن تقوم خطة الإصلاح في الأزهر، وأن يعمل العاملون على تحقيق آمال الأمة فيه).
أما السبيل إلى إصلاح خطة التعليم (فمبدأها أن يكون العلم هو الغاية، والتزود من المعرفة هو الشعار. والعلم الذي أقصده هو الذي يطبع صاحبه بطابع الفضيلة والخلق الكريم، وتظهر آثاره في الأشخاص وأعمالهم، قبل أن تظهر في كتابتهم وأقوالهم. والوسيلة إلى ذلك هي العناية بالكتاب فستؤلف لجان من جماعة كبار العلماء وأساتذة الكليات والمعاهد، والمختصين في شؤون التعليم، لمراجعة الكتب الدراسية واختيار لون جديد يوجه الطلاب توجيها حسنا إلى العلم النافع من أقرب طريق وأيسره) وأما السبيل إلى تبليغ الدعوة فوجهته ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية وكتابة أبحاث في الفقه تساير الروح العلمي الحاضر، وتبرز ما في الشرع الإسلامي من مبادئ العدل والرحمة؛ ووضع مؤلفات في اللغات الأجنبية تكشف عن حقيقة الإسلام وتعرف بمزاياه؛ ثم العناية بالبحوث الإسلامية لتفقه الناس في الدين، وتوثق العلائق بين المسلمين. . .)
تلك هي المقاصد العامة لخطة الإصلاح نذكرها اليوم مجملة، لنعود إلى درسها وتحليلها
غدا مفصلة.
أحمد حسن الزيات
عهد جديد للأزهر
للدكتور محمد يوسف موسى
الحمد لله! ذلك ما كنا نبغي، شيخ للأزهر له فكرة واضحة ناضجة عن الإصلاح، ويقبل المنصب الثقيل التبعات لتنفيذ هذه الفكرة، ويجمع إلى الجلالة في العلم الاستقلال في الرأي، ومن ثم لنا أن ننتظر بحق من أستاذنا الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم الخير الكثير للأزهر والإسلام، مادام متمتعا - إلى ما ذكرنا - بتأييد مولانا جلالة الملك، وتقدير الحكومة وعونها.
وهذه الاتجاهات الإصلاحية التي طالعتنا بها الصحف، والتي استوحاها فضيلته من التوجيهات الملكية السامية الحكيمة يوافقه فيها الأزهريون جميعا بلا ريب، ففيها خلاصة ما يرجوه كل محب للأزهر وإصلاحه، وليس لنا ما نزيده عليها إلا بعض التفاصيل.
ذلك بأننا نستطيع أن نقول بأن رسالة الأزهر في رأينا ذات نواح خمس:
1 -
ناحية دينية بالعمل على فهم الدين فهما عميقا، وتنقيته مما أضافه إليه الزمن مما ليس منه، ثم تجليته (عقيدة وتشريعا وأخلاقا) للناس جميعا في الشرق والغرب باللغة العربية واللغات الأجنبية، وهذا الواجب الذي يجب أن نضطلع به مراقبة البحوث الفنية.
2 -
ناحية خلقية، بصيانة الأمة من الانحلال الخلقي، وتثبيت الخلق الصالح بالقدوة الطيبة، وهذا ما لا يكون إلا إذا أخذنا أنفسنا، ومن نلي أمورهم من الناشئة، بالمثل العليا والإقبال على المعنويات.
3 -
ناحية علمية، بالعمل على نشر عيون التراث الإسلامي والإفادة منه، ومما يضاف إليه من المعارف الحديثة، في صوغ عقول النشء وتوجيههم للخير والحق والجمال في القول والعمل.
4 -
والأزهر، يعد هذا، هو رباط ما بين الشعوب الإسلامية والمركز الثقافي الإسلامي الأكبر الذي يفد إليه كل عام الآلاف من البلاد الإسلامية، لذلك يكون من رسالته العمل على أن يفيد هؤلاء الوافدون إليه أكبر فائدة، حتى يكونوا متى انقلبوا إلى بلادهم رسل خير وصلاح، وسفراء لمصر والإسلام أينما وجدوا؛ وهذا لا يكون إلا بالعناية بإصلاح مراقبة البعوث الإسلامية إصلاحا جادا، وتعرف حاضر العالم الإسلامي بلدا بلدا، ليكون من
الممكن بعد ذلك معرفة حاجة كل بلد من الثقافة الإسلامية لونا وقدرا.
5 -
والأزهر، مع ذلك كله، جامعة، بل أقدم الجامعات العالمية وأمجدها تاريخا، ولكل جامعة طابعها وأهدافها وتجاربها وتطوراتها، وربما شركتنا بعض الجامعات الأخرى، في الشرق أو الغرب، في بعض ما نهدف إليه من غرض وغاية، وإن خالفتنا في الطرق والوسائل. على الأزهر إذا باعتباره جامعة عالمية أن يحرص على الاتصال الصحيح بهذه الجامعات، وإنه لواجد ولا ريب من ذلك خيرا كثيرا: تعاون في الوصول إلى هدف مشترك، وقوف على تطور بعض العلوم التي نعني بدراستها وعلى ما جد فيها من حقائق جديدة، إلى غير هذا وذاك مما نربحه من اتصالنا الحق بهذه الجامعات وهنا أيضا مجال كبير لنشاط مراقبة البحوث الفنية.
وبالإجمال، إن للأزهر رسالة يؤديها للأمة الإسلامية في مصر، وأخرى خارج مصر.
إن عليه في مصر أن يخرج للأمة جيلا من الناس يتميز بفهم الإسلام وتعاليمه الأصيلة فهما عميقا؛ كما يتميز بعدم الاحتفال بالدنيا وزينتها، وبالحق يصدع به وإن أغضب هذا أو ذاك، حتى ليستطيع الواحد منهم أن يقول كما قال سلف له من قبل: إن الذي يمد رجله لا يمد يده. إن مصر في حال انحلال خلقي، وتنأى عن الدين وتعاليمه كل يوم بخطى رتيبة وليس يمكن أن تخرج من هذا الحال الأليم إلا بالأزهر حين يربي رؤساؤه ناشئته على القول الحق والعمل الطيب.
وإن على الأزهر خارج مصر، متى تم له إعداد هذا الجيل يستعين بأبنائه في الدعاية للوطن والتبشير بالإسلام ونشره في كافة أرجاء الأرض. إن أفراد هذا الجيل يكونون سفراء لمصر والإسلام ينفذون بأقوالهم وأعمالهم إلى القلوب، ويصلون إلى الأوساط التي لا يمكن للسفراء الرسميين الوصول إليها، ومن هذا يكون لهم من التأثير الحسن الحاسم ما لا يكون مثله لهؤلاء.
كلنا نعرف أن هناك في العالم المسيحي ملايين وملايين من الناس ضاقوا ذرعا بالمسيحية وأسرارها التي تعجز العقول، وصاروا لا يستطيعون التوفيق بين حضارتهم القائمة على المادة والقوة وبين وصايا المسيحية القائمة على التسامح والروحية. إنهم لهذا وذاك يلتمسون دينا آخر يسير على العقل فهمه، وفيه من المادة ومن الروحية، ويرون أن هذا
الدين - على ما يسمعون - هو الإسلام، ولهذا يريدون أن يصلوا لفهم هذا الإسلام، ولكن يحول بينهم وبين ذلك جهلهم باللغة العربية وعدم وجود كتب سهلة التناول تعرض هذا الدين عرضا طيبا، ولقد سألني كثير من هؤلاء وأنا بباريس وحين زيارتي لألمانيا: لماذا لا يعمل الأزهر على تقريب الإسلام لهم بوضع كتاب عنه من نواحيه المختلفة، ثم يترجم هذا الكتاب لكل لغات العالم ويوزع في أقطار الأرض كلها.
وبعد، فهذا بعض ما كتبت عن رسالة الأزهر صيف هذا العام، في تقرير أرجو أن أوفق قريبا لنشره، وإن كان هذا الذي كتبت لا يخرج في جوهره عن بعض ما وفق الله تعالى إليه مولانا الأستاذ الأكبر.
والآن لا نستطيع إلا أن نضرع لله أن يؤيد مولانا الأستاذ الأكبر، هو ومن يعاونه من كبار رجال الأزهر، بروح من عنده؛ وأن يوفق الجميع لإصلاح هذا المعهد الخالد، ففي ذلك كل الخير للإسلام والمسلمين.
الدكتور محمد يوسف موسى
أستاذ بكلية أصول الدين
الألعاب العربية
للأستاذ محمد محمود زيتون
- 2 -
ومن البداهة أن الألعاب العربية - وأن كان بعضها في الأصل فارسيا - قد أدت مهمتها في شغل أوقات الفراغ لدى صبيان العرب وصباياهم. مما يدل على أن قسوة الصحراء وخشونة العيش وعنجهية الطبع كل ذلك لم يمنع من إعطاء الحياة لونا زاهيا يشيع معه الفرح والمرح ويهدف إلى تسلية النفس وتسرية الخاطر وترفيه الروح حتى أنتجت مصانع العروبة فوارس الغارات وحماة الثغور.
ولا يخفي ما في هذه الألعاب من استجابة للغريزة البشرية عامة وللبيئة العربية خاصة، ولعل كثيرا وكثيرا جدا غير ما ذكرنا من ألعاب - كان سائدا في تلك البيئة التي نبع منها الشعر وفاضت به البحور.
والشعر ليس إلا نوعا من اللعب كان يلهو به العربي كلما ترامى بين يديه الزمان والمكان جميعا، ولعل معالي أستاذنا الدكتور طه حسين بك كان موفقا كل التوفيق إذ اعتبر (لزوميات ما لا يلزم) نوعا من اللعب الذي كان يزجى به أبو العلاء المعري وقته وهو رهين المحبسين.
ومن هنا تبرز القيمة الحضارية للألعاب العربية فلا ينبغي لها أن ينظر إلها الدارسون على أنها عاديات (أنتيكة) ولكنها في جوهر الحقيقة معالم حظارة، ومعارف حياة: فيها عرق ينبض، ودم يجري، ونسيم يرف، ورمال تسفو، وبعر يتفتت، وشباب يجد ويلعب.
وإلى جانب هذا نرى الإسلام يسجل للألعاب العربية ما تستحقه من ذكر؛ مشجعا على النافع، مبغضا في الضار، كالقمار والميسر والأزلام وغيرها.
ومقياس النفع والضرر في العرف الإسلامي لا يشذ عن روح هذا الدين المتين وهو إعلاء الغريزة البشرية كأساس للتربية الصحيحة الكاملة لكل من الفرد والجماعة.
وأقرب مثل لذلك أن النبي كان يلعب وهو صغير بعظم وضاح مع الغلمان فمر به يهودي فرأى مهارته في اللعب وميزته على رفقائه فدعاه اليهودي وتوسم فيه البراعة وقال له: لتقتلن صناديد هذه القرية.
ومن هذا يتضح أن الكبار من العرب لم يكونوا ينظرون نظرة العابرين إلى ألعاب الصبيان وإنما كانوا - وهم أصحاب الفراسة - يتفحصون (شخصية اللاعب) أثناء اللعب حتى إذا جاء الإسلام ذهب بغريزة اللعب إلى أبعد مدى تستقيم معه كرامة الإنسان.
أشاد الإسلام بمبدأ (القوة) لأن الله تعالى (ذو قوة) وهو سبحانه (القوي)(أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).
والمعجزات التي أيد الله بها أنبياءه إنما هي (قوى) بل كوى تتجلى منها آيات صاحب الحول والطول حتى يعلم العبد المحدود في إمكانياته أنه (لا حول ولا قوة إلا بالله).
ومن هنا أكبرت بنت شعيب قوة موسى إذ قالت لأبيها (أن خير من استأجرت القوي الأمين) وناجى موسى عليه السلام ربه فقال (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون) فاطمأن موسى إلى تأييد ربه إذ (قال سنشد عضدك بأخيك فنجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا، أنتما ومن اتبعكما الغالبون) وقال أيضا كليم الله يلتمس القوة من رب القوة ليستعين به على فرعون وملئه (واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري وأشركه في أمري).
وهذا محمد عليه السلام يقول (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف) وينزل عليه من السماء (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ويرى عمر بن الخطاب رجلا يتنطع ويتماوت فيضربه ويقول (لا تمت علينا ديننا أماتك الله). .
وكان النبي يقول وهو يدخل مكة حاجا في العام السابع لهجرته (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة) وكان يقول عند دخولها في عمرة الحديبية (أرملوا بالبيت ليرى المشركون قوتكم) وهذه هي المناورة المشروعة في الإرهاب المشروع.
سئل أعرابي: لم تسمون أبنائكم بشر الأسماء: نحو كلب وذئب، وتسمون عبيدكم بأحسن الأسماء: نحو رزق ومرزوق ورباح فقال: إنما نسمي أبنائنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا.
وهكذا عنى العرب بالقوة حتى في تسمية أبنائهم لينشئوا أقوياء الأجسام ومن هنا قال النبي الكريم (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا) وذلك بقصد ربط الخلف بالسلف برباط وثيق من الرمي كمظهر على القوة والشجاعة.
وكان الأنصار يستقبلون النبي يوم هجرته فيقولون: يا رسول الله هلم إلى القوة والمنعة - وكل بني دار يدعونه إليهم معتزين بما عندهم من عدد وعدة وسلاح وخلائف ودرك.
ولم يمهل نبي الإسلام وأمام القوة والإيمان حقوق البدن فقال: (إن لبدنك عليك حقا) ذلك البدن الذي هو (بناء الله) كما سماه سرول الله إذ يقول (من هدم بناء ربه تبارك وتعالى فهو ملعون) وكان النبي يتمنى في بدأ الدعوة أن يعز الله دين الإسلام بعمر بن الخطاب لأنه كان رجلا طوالا عراضا أوتي بسطة في الجسم. فلما اكتمل به عدد المسلمين أربعين خرجوا من مخبأ الأرقم في صفين على رأسيهما حمزة وعمر وقد انتضيا السيف وقريش تنظر مخلوعة القلب وقد أخذ الإرهاب من صناديدها ما أخذ.
ومر رجل على النبي فرأى الصحابة من جلده ونشاطه ما حداهم إلى القول: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان).
والمعروف أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي وضع الحدود لكل لهو مشروع؛ فقد عصم الله تعالى نبيه منذ نعومة أظفاره يوم دفعته الغريزة والصبا إلى الربوة ليستمع إلى لهو السامرين وعزف العازفين في عرس بمكة ذات ليلة فضرب الله على قلبه فنام حتى الصباح ولم يتدنس طبعه بفساد.
وكان المسلمون في عصر النبي ينتظرون عودة دحية الكلبي من تجارته وهو القسيم الوسيم فيستقبلونه بالطبول والزمور حتى لقد كانوا يتركون النبي قائما على منبره ويخرجون إلى دحية فنزلت (وما عند الله خير من اللهو ومن التجارة).
وإنه لتوجيه سليم لسائر الأجيال الإسلامية ينفرد به رسول الله من بين معلمي الخير وأساتذة الإنسانية إذ يقول (حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي) ويقول المربي الأكبر عليه السلام (علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل) كما يقول (تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة).
وحث على مواصلة تعلم الألعاب فقال (من تعلم الرمي ثم نسيه فقد عصى) وقرن تعلم
الألعاب بتعلم القرآن إذ قال (من تعلم القرآن ثم نسيه فليس مني؛ ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس مني) وفي رواية أخرى (فهي نعمة جحدها).
ويزيد هذا الحديث إيضاحا وتبيانا قوله الكريم (كل شييْ ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليم السباحة).
وكأنما أدرك رسول الله أن الألعاب ليست وقفا على الفراغ عند العرب في أول عهدهم بالدعوة فدعا إلى مزاولتها مهما اتسع نطاق حياتهم وامتدت رقعة دعوتهم وخرجوا بفتوحاتهم من البداوة إلى الحضارة فهو يقول (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهوا بأسهمه).
وإنه لدرس نافع من النبي المرشد إذ يقول (كل شيْ يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته).
وعلى الجملة فإن الرسول الكريم إنما يهدف إلى صقل الروح وتهذيبها والبعد بها عما يثقل الكاهل من هموم وأحزان فيقول (من كثر همه سقم بدنه) وباللعب يتفادى المرء هذا السقم.
وعندئذ يبدأ مرحلة جديدة من التربية هدفها امتلاك النفس عند الغضب، وإحكام زمامها خشية الزلل، وقيادتها نحو معالي الأمور.
فإذا كان الصرعة هو الذي يصرع الرجال ولا يصرعه الرجال فإن رسول الله كان أول من دعا بالفطرة الخالصة إلى تعلية الغريزة وكبح جماح النفس إذ يقول (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وهذا هو الجهاد الأكبر: جهاد النفس المركبة من شتى الغرائز حتى لقد سئل النبي: ما الهجرة؟ فقال: (أن تهجر السوء) ثم سئل فأي الهجرة أفضل؟ فقال (الجهاد) قيل وما الجهاد؟ قال: (أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم) قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عقر جواده وأهريق دمه) وقال أيضا (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) ذلك بأن الجهاد منهج المؤمن في سبيل انتصار الحق وانتشار الخير وصدق رسول الله (اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
ومن أجل هذه الغاية البعيدة وذلك الهدف الرفيع كان العربي يعلم ابنه الرماية كل يوم إذ يقول:
أعلمه الرماية كل يوم
…
فلما اشتد ساعده رماني
وفي غزوة أحد أخذ قائد الإسلام ونبي الجهاد يستعرض الصفوف وإذا برافع بن خديج وهو غلام حدث - يشب بقدميه ليبدو طويلا فلا يحرم من الجهاد والاستشهاد فرده النبي لصغر سنه فبكى رافع، فقالوا للنبي: أنه رام، فشفعت له الرماية وأنتظم في سلك المجاهدين. ثم مر النبي القائد بسمرة بن جندب فرده أيضا لصغر سنه فقال أبوه: يا رسول الله إنه يصرع رافعا - فأمرهما النبي فتصارعا فأحسنا المصارعة فأجازهما وقاتلا أحسن القتال.
وفي هذه الغزاة كان نساء قريش يحرضن الرجال ويذمرنهم على القتال وقد اتخذن المعازف والدفوف بينما الأناشيد والأراجيز تلهب ظهور المحاربين حمية وحماسة.
وأخذ أبو دجانة سيف النبي بحقه واعتصب بالموت الأسود وأخذ يتبختر فأنكروها عليه فقال النبي (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) وجاءت إلى النبي أسماء بنت يزيد الأنصارية تسأله في جهاد النساء وأغلب - الظن أنها وغيرها قد سمعت أم عمارة في دفاعها عن النبي يوم أحد - فقال النبي (انصرفي يا أسماء واعلمي أنك من النساء إن حسن تبعل (ملاعبة) إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته وأتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال) من سعي وجهاد وشهود للجنائز والجماعات.
وكان النبي أعرف الناس بفوائد السفر ومنافع الرحيل فقال (سافروا تصحوا وترزقوا) وكان يسافر إلى الشام صغيرا مع عمه كما كان يتاجر وهو شاب في مال خديجة فأفاد من كل ذلك فوائد جمة. وكان رسول الله مثلا يحتذي في حياته المليئة بكل ما يدفع الإنسانية إلى الرفيع من كل أمر؛ فقد حدثت أم المؤمنين عائشة قالت (خرجت مع النبي في سفر من أسفاره فنزلنا منزلا فقال: تعالي أسابقك، فسبقته. وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر فنزلنا منزلا فقال: تعالي حتى أسابقك فسبقني، ثم ضرب بيده بين كتفي وقال: هذه بتلك).
وكان عليه السلام يقول (إذا أعيا أحدكم فليهرول فإنه يذهب العياء) ولحكمة أسنن الله السعي بين الصفا والمروة هرولة وجعلها من مناسك الحج.
ومن هنا تبرز صفحة جديدة في الإسلام عنوانها (لهو المؤمن) ليتبين المسلم ما أحل الله له وما حرم عليه من صنوف اللهو واللعب، وفي هذا الباب يقول نبي الإسلام (خير لهو المؤمن السباحة وخير لهو المرأة المغزل).
ومما يروى عنه عليه السلام أنه - وله من العمر ست سنوات - أقام بدار النابغة مع أمه وحاضنته أم أيمن، فلما نزل قصر بني عدي بن النجار بالمدينة نظر إلى ذلك القصر وقال:(كنت ألاعب أنيسة - جارية من الأنصار - على هذا الأطم وكنت مع غلمان من أخوالي نطير طائرا كان يقع عليه) ثم نظر إلى الدار وقال: (هاهنا نزلت بي أمي؛ وفي هذا الدار قبر أبي عبد الله ابن عبد المطلب؛ وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار).
وكان اليهود يختلفون عليه وهو يستحم مع الصبيان في البئر فيقول أحدهم - كما تروي أم أيمن - هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته.
وفي الحق أن رسول الله قد مارس كثيرا من ألعاب العرب منذ صباه الأول مما كان له أكبر الأثر في نشاطه الجسماني، ورقيه النفساني. وتروي عنه مرضعته حليمة السعدية وتقول (. . . ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان).
وجاء في كتاب (آداب الإسلام) لابن زمنين أن النبي خرج مع أصحابه حتى انتهوا إلى غدير فسبحوا فيه فقال (ليسبح كل رجل منكم إلى صاحبه وأنا أسبح إلى صاحبي) فسبحوا وسبح النبي إلى أبي بكر.
وإذن فقد أخذت الألعاب على يدي النبي طابعا خاصا فأصبح منها ما يمكن أن نطلق عليه: (السباحة الإسلامية) كمظهر من مظاهر لهو المؤمن، إذ أن روح الإسلام لا تفارق كل عمل يدعوا إليه رسول الله؛ فإذا كانت مهمته عليه السلام هي (المؤاخاة بين الناس) فإنه لم يتخلف عنها حتى في وقت السباحة.
(يتبع)
محمد محمود زيتون
(ممنوع النشر والترجمة إلا بإذن الرسالة)
ما رأيت وما سمعت
في سورية ولبنان
- 4 -
للأستاذ حبيب الزحلاوي
لا محبذ للباحث في شؤون سياسة البلاد العربية التي قسمتها معاهدة سايكس ـ بيكو إلى مناطق نفوذ، وصيرت في تلك المناطق دويلات تنقصها أكثر المرافق الطبيعية، والخصائص الضرورية لقيام الدولة، أقول لامناص له من الإطلاع على أغراض الدول الكبرى صاحبات الأطماع الاستعمارية والأغراض المتشابكة المتضاربة، خصوصا أغراض الدولة البريطانية صاحبة النفوذ والسيطرة على هذا الشرق المبتلى بها. ولابد له أيضا من الاسترشاد بالخطط التي وضعها أقطاب الاستعمار، والاستئناس بالرأي الصحيح الذي بسطه ويبسطه ساسة العالم سواء في مؤلفاتهم أو في مذكراتهم، وهي معروضة في المكاتب وفي متناول يد الكاتب والباحث والطلعة والمتطفل، ولأن من أوائل أغراض المستعمر إيقاف السواد الأعظم من المتعلمين من أبناء البلاد على نياتهم ومقاصدهم التي هي كالبلاء النازل الذي لا مفر منه، والقضاء المحتوم الذي لا مرد له، ولأن من أوجب واجبات الكتاب ومن إليهم من قادة الفكر والساسة المحترفين إيقاف الشعب على ما يحيط به من أمور وما يدبر له من شؤون، أما سياسة إهمال الشعب وخداعه وتضليله وتخدير أعصابه فهي سياسة ضارة بليغة الضرر، سيئة العواقب. وإن من أوائل ما يجب معرفته الآن، الآن فقط هو ما يأتي.
1 -
أن الخطة التي رسمتها أطماع الإنجليز، بعد إجلائهم الفرنسيين عن سورية ولبنان، والتي صيرت سورية ولبنان والعراق وشرق الأردن ودولة إسرائيل في أوضاعها الحالية، لم يبق على تنفيذها لتكون تامة كاملة سوى اعتراف الدول رسميا بدولة إسرائيل.
2 -
أن الخطة الجديدة التي يضطلع بتنفيذها الجنرال كلايتون، مازالت في دور المناورات، وستبقى تدور في محيط المحاولات حتى تزول الحوائل العسيرة التي تحول دون تنفيذها فورا.
3 -
أن تلك الحوائل ليست سهلة كما يتوهم الناس استنادا إلى الصداقة الإنجليزية الأميريكية، بل هي صعبة عسيرة بالنسبة لهذه الصداقة الأميركية الإنجليزية، وأن عسرها، ويسرها موقوف على قرب أو بعد الحرب المقبلة، المقبلة حتما.
4 -
أن الحوائل سواء أكانت يسيرة أو عسيرة ستذلل قبل وقوع الحرب المقبلة، أما إذا رضا الشعب السوري أن يتغاضى عن الأميركان، وألا يلتفت إلى ألاعيبهم، وأن يسير مع الإنجليز مدفوعا مع عواطفه، وأن تتحد كلمة رجالاته وهيئاته على مد يدهم إلى العراق وإلى شرق الأردن ضاربا بالفوارق الأساسية والنظم القويمة لبناء الدولة، فعندها فقط تكون (سوريا الكبرى) لا جمهورية سورية ولا عراقية، بل ذيلا للمملكة العربية الهاشمية التي ربطت مصيرها بدولاب عربة الإمبراطورية البريطانية.
هذه هي الخطوة الاستعمارية الإنجليزية الجديدة التي سميتها تجوزا خطة الجنرال كلايتون.
إذن هناك حوائل تحول دون ربط العراق والأردن بسورية فما هي تلك الحوائل؟
- لست أدري كيف أسمي تلك الحوائل أو العراقيل الأمير كية ولا كيف أنعتها، لأنها أقرب إلى ألاعيب الصبية منها إلى المناورات الدبلوماتية.
يقول الأمريكان جهرا أنهم أبناء الإمبراطورية البريطانية البكر، وورثتها الشرعيون، وأن مصلحتهم التي قضت بوضع يدهم على بلاد اليونان والأتراك من جانب وعلى دولة إسرائيل والمملكة السعودية من الجانب الآخر تقضي أن تمتد إلى لبنان ليتم الاتصال من الجانبين. ويقولون ويجهرون بعدم رضاهم عن اتحاد عراقي سوري أردني يعرض وضعهم الساحلي للخطر، ولهذا تراهم يعملون على إحباط خطة سورية الكبرى عملا يماثل مساعي التي يبذلها الجنرال كلايتون وأعوانه على القد والمثل، يسخرون رجالا كرجاله من سوريا ولبنان والعراق منهم المسلم السني والشيعي والمسيحي الموراني والكاثوليكي والأرثوذكسي، والدر زي واليهودي أيضا.
هذا هو الواقع الذي رأيته ولمسته وسمعته، ولكني برغم ذلك أعتقد أن الأميركان لا يعملون أي عمل سياسي أو غير سياسي بغير حلفائهم الإنجليز، وكذلك لا يعمل الإنجليز عملا انفراديا بدون حلفائهم الأميركان. وأكبر ظني أن تلك الألاعيب أن هي إلا ضحك من السوريين، وأن الغرض منها أبعد كثيرا من غاية الضحك نفسها، وقد ألمس الحقيقة أو أدنو
منها إذا قلت أن الغرض الحقيقي هو إظهار العرب بمظهر غير الكفؤ لإدراك معاني الحياة الديمقراطية، وتقدير المسئولية الاجتماعية، وجهل السياسة إطلاقا.
سميت حوائل الأميركان ألاعيب صبيان، ويحسن أن أسميها ألاعيب أميريكانية على الطريقة الأميريكية وإلى القارئ مثلا أورده للتسلية والترفيه.
للبنانيين والسوريين جاليات موزعة في جميع أنحاء العالم هاجرت منذ زمن بعيد، واستقر بأكثرها النوى في أمريكا بلاد الاجتهاد والمغامرات والكسب، وقد صار لها فيها نشاط اقتصادي ملحوظ، ومكانة في التجارة محترمة، وسمعة في الأخلاق طيبة. ولكن هاتيك الجاليات، وعددها في ولايات أميركا المتحدة وغير المتحدة أكثر من عدد سكان لبنان، برغم البعاد البعيد، والمسافات الشاسعة الفاصلة، تحن دائما أبدا إلى الوطن وساكنيه، لا تألو جهدا في إمدادهم بالمال المعونة، كلما دعاها داع وطني أو قومي، أو استنجد بها مستنجد، حاكم أو هيئة أو راع ديني.
من هذه الجاليات، ولأول مرة في تأريخ الهجرة، قيل لنا بلسان الصحافة اللبنانية في الوطن والهجرة أن جمعيات لبنانية سورية، عددها حوالي الأربعين عقد رؤساؤها الأفاضل، مؤتمرا عاما في نيويورك أطلقوا عليه اسم (الأحلاف السورية اللبنانية لولايات أميركا الشرقية) قرروا فيه دعوة إخوانهم الأعضاء لزيارة الوطن والأهل.
لبى الدعوة نحو من ألف سيد وسيدة منهم الثري واسع الثراء، ومنهم المتوسط الحال، وأكثرهم من المتقاعدين عن العمل، وفيهم الصبي اليافع والفتاة الناضجة.
رحبت الحكومتان اللبنانية والسورية بالفكرة وتبنتاها، واتفقنا على تسمية هذا الحجيج الأول (بمؤتمر المغتربين) ونظمتا برنامجا للاحتفال بالمغتربين أضياف الحكومتين وقد رصدتا لهم مبلغا من المال وفرا ينفق بسخاء على إخواننا وأبنائنا (العائدين برؤوس أموالهم الضخمة يستثمرونها في بناء المصانع والمعامل وأحياء أرض الوطن).
لبيت أنا الدعوة، فلمست الذوق اللبناني الرفيع يتجلى في الدعوة التي أقامها لبنان في (عالية)؛ وتذوقت السخاء العربي والأنس البهيج في الحفلة التي أقامتها سورية في متحف آل العظم بدمشق، ورافقت المغتربين وحضرت أكثر الاحتفالات والاجتماعات والدعوات والزيارات المدبرة، وسعدت بلقاء إخوان وأصدقاء ومعارف لم يكن يخطر ببالي أن سألقاهم
بعد أن فرقت بيننا سبل العيش، وانتبهت إلى سماع ردود المغتربين على أسئلتي ودونتها على مذكراتي، ووعيت أقوال الخطباء من أركان الحكومتين السورية واللبنانية، وتيقظ ذهني لكل كلمة وردت في خطاب رئيس المغتربين، وعنيت بعض العناية بما نشرته أكثر الصحف. ولما عدت إلى نفسي وذاكرتي، وقفت حيران لا أدري كيف تكون المقارنة بين أقوال الداعين والمدعوين، ولا كيف السبيل إلى التوفيق والتوحيد بين من يريني السهى فأريه القمر!
لقد رحب لبنان رسميا (بالمغتربن العائدين بأموالهم يستثمرونها في إحياء أرض الوطن) ورحبت سوريا بأبنائها (الذين غادروا البلاد عندما كانت تحت وطأة الحكم الأجنبي. . . ولم ينسوا أهلهم أيام محنتهم وجهادهم للاستقلال. . بل أمدوهم وأعانوهم وشاركوهم بالألم والأمل) وهي تعترف لهم بلسان رئيس الوزراء (بنصيبهم من أسباب الحياة القومية المتقدمة) ويدعوهم (مع المحافظة على ولائهم لأوطانهم الجديدة، إلى أن يبقوا صلتهم بالوطن قوية فعالة للخير المشترك والمصلحة الشاملة. . . لتكون مؤدية لما تنشدون وننشد من دعم نهضة وتوطيد محبة وأخوة).
أما الخطاب الذي ألقاه رئيس مؤتمر المغتربين في الجامعة السورية بحضور رئيس الجمهورية ووزراء من سورية ولبنان، وعدد من أعضاء الجمعية التأسيسية ومن هيئات تمثل جميع الطوائف والأعيان وسفراء الدول كان خطابا جامعا لتاريخ الهجرة، وجهاد المهاجرين، وما عملوا وما أفادوا وكيف تطوروا فصاروا شركاء مع الأمريكان في الحياة الديمقراطية، وتعريفها (أنها في جوهرها طريقة في الحياة أساسها الإيمان الوثيق بقيمة الفرد وكرامته) ثم أخذ يشيد يتقدم سورية العظيم في نهضتها الاقتصادية والعمرانية وأنها (موضع فخرنا وثقتنا بإخلاص الشعب السوري لقضية بلاده) وقال:
(كلنا يعلم أن في الاتحاد قوة. . . ونحن متأكدون أن شعبي سورية ولبنان وزعماءهما سينهجون سياسة تعاون مستمر بين البلدين. . . لأن سلامة أي منهما متعلق بالآخر).
أنتقل الخطيب إلى موضوع أخر وهو ما ألفت نظر القارئ إليه قال ما نصه:
(ومنذ أمد وجيز تألف اتحاد إقليمي يضم سائر الأحلاف في الولايات الأمريكية. . ولي وطيد الأمل أن تكون اجتماعاتنا هذه في سورية ولبنان بما تضمه من مندوبين عن
المهاجرين في مختلف أرجاء العالم، (خطوة تمهيدية لتشكيل منظمة دولية لكافة المغتربين). . (ومؤتمرنا المنعقد في سورية ولبنان قد أتاح لنا فرصة نادرة لتوطيد العلاقات الوثيقة بين الأمم، وخاصة بين الولايات المتحدة وسورية ولبنان). . (والمهم في الأمر هو أن نكون بعملنا هذا، أداة فعالة في وضع الأسس لمشاريع أخرى في المستقبل تساعد على نشر التفاهم وحسن النية مع شعوب العالم).
تلفت حولي أسأل نفسي عن المراد بتشكيل منظمة دولية لكافة المغتربين وما الغرض منها؟ وعن سنوح الفرصة النادرة لتوطيد العلاقات بين الولايات المتحدة وسورية ولبنان، وكيف تتطور العلاقات بينهما وبين الولايات المتحدة وهي تناصر اليهود وتشد أزرهم على عرب فلسطين الذين نزعت بلادهم منهم وطردوا منها؟ وعن كيف تكون جمعيات المهاجرين أداة فعالة في وضع الأسس لمشاريع تساعد على نشر التفاهم وحسن النية بين شعوب العالم، وأي عالم هذا الذي ليس بينه وبين سورية ولبنان تفاهم وحسن نية غير دولة إسرائيل ربيبة ترومان وشعب العم سام؟
وددت لو أستعين بمن تمرنوا على قراءة ما بين السطور أو ألفوا التعابير المرنة والصياغات المتنوعة للمعنى الواحد، ولقد كنت استعنت بسواي من غير تردد لو أن حكومة أمريكا هي القائلة هذا القول بلسان وأحد من رجالها، ولكني تذكرت قول الصديق الكريم أحمد رمزي بك في رجال يرددون ما يلقنون تلقينا، وليس ببعيد أن يكون هؤلاء من أولئك.
يممت زحلة موطن أجدادي للاستجمام والراحة، وإذا بي أتلقى ساعة وصولي دعوة من شخصية رسمية لبنانية كريمة إلى حضور مؤتمر لبناني يضم جميع رؤساء الجمعيات التي كونت مؤتمر المغتربين لم أستغرب الدعوة بل استغربت اجتماع هؤلاء الرؤساء في مدينة زحلة وبرنامج الاحتفالات في سورية لم يتم بعد!
لبيت الدعوة ونفسي تحدثني بوقوع مفاجئة مسرحية تحل عقدة الرواية.
سمعت خطبا عدة كلها إشادة بالعبقرية اللبنانية وسمعت رئيس المؤتمر يشرح لرؤساء الجمعيات معاني الجمل التي وردت في خطابه وكيفية تفسيرها، ورأيت الأستاذ سعيد عقل الشاعر المعروف بألمعيته وجرأته، يقف فيرتجل خطابا حمل فيه حملة شعواء على أولئك
الذين يلعبون بعبقريات الرجال لعب القط بالفار، وعلى دولة إسرائيل التي لا حد لأطماعها وتوسع دولتها وعلى الدولة العاتية التي تريد أن تغرر بنا باسم النصرانية والإسلام وهي لا تحترم العرب ولا تقدر نهضة الشرق ويقول، أن كتابا قد أتم تأليفه سينشره قريبا، وعندها يعلم الأمريكان أي أثم يجترحونه في إضعافهم العرب وتقوية اليهود، وأي جريمة اقترفوها في فلسطين.
لقد وجم الحاضرون وسكتوا احتراما لمكانة الخطيب الشاعر ابن زحلة المحبوب.
لا داعي إلى ذكر ما حدث بعيد خطاب الأستاذ عقل وارفضاض المؤتمر، وما أوردت هذه الخلاصة المقتضبة إلا لأظهر العقلية الأمريكية الطفلة كيف تلعب بعقليات وعبقريات الرجال الطفلة أيضا على طريقتها الأمريكية، وهي تلعب في سورية كما تلعب في لبنان وبالمهاجرين أيضا.
حبيب الزحلاوي
رسالة الشعر
يا أحباي!
إلى الأستاذ المعداوي
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
يا أحباي عذبتني رغابي
…
وسقاني الحرمان كأس عذاب
أنا حران والرحيق المصفى
…
بيد أفلحت بسكب شرابي
وترى أخرس وكأسي ظمأى
…
فكأني شوك بقفر يباب
وصباحي شبيه ليلي داج
…
- كجناح الغداف - أغبر كاب
كلما لألأت بروق الدياحى
…
قطبت بسمة الأماني العذاب
المسرات هَّجد وهمومي
…
حَّشد، رتَّع بزهو شبابي
والأسى حارس على الدرب يخشى
…
أن تمر الأفراح مراً ببابي
أنا والهم توأمان، بكفي
…
صاح شوك، وفي فمي كأس صاب
ضاع يومي ضياع أمي ويحي
…
وغداً. . يومض الفؤاد ارتيابي
فحياتي وهم. لقد ضاع عمري
…
يا أحباي، فاتزعوا أكوابي
صدمتني الحياة بالواقع المر وألوت بمنيتي للتراب
لا تلمني إذا تأوه شعري
…
إن شعري يروي مرير اكتئابي
أنت أججت خافيات شجوني
…
فاستمع، (أنور) نواح الشباب
في غد نلتقي فلا تأس أني
…
حافظ للود، ذاكر لصحابي
أنا في وحدتي سميري شعري
…
- لا أبالي - وخير صحبي كتابي
خلق الناس من تراب مهين
…
وخلقنا من السنا الخلاب
أنا بالأمس قد طلبت المعالي
…
وأنا اليوم قانع بالسراب
كلما شمت في سمائي سعداً
…
عاد نحسا. . يا للحظوظ الكوابي
فاقصر اللوم - في فمي أنا ماء -
…
كيف أحتال كي أبثك ما بي
(بغداد)
عبد القادر رشيد الناصري
قصة قلب.
.
للآنسة هجران شوقي
(ليست قصة قلب بعينه، ولكنها قصة القلوب جميعا تتحمل عن أصحابها فجاءة، وتعود إليهم فجاءة، ولكنها تعود من رحلتها مجرحة مهشمة، تحب وتخفق في حبها، ثم تعيش بذكرى هذا الحب، وتتغذى به طول حياتها، لا تصحب أملا أو لا تملك رجاء وإنما تصحب الألم وتملك العذاب. .)
(هجران شوقي)
جلست أمني النفس بالقمر البدر
…
وقد سال فضياً على صفحة النهر
فأشرقت الدنيا بأنواره رؤى
…
ورفت رفيف الثغر يهتف بالشعر
يردده لحناً فتحسبه صدى
…
لأحلى نجاوى القلب في سالف الدهر
ألوف من الأحلام قد حاكها الهوى
…
وألبسها أبهى المطارف والأزر
ووشحها بالشجو والحب والمنى
…
وضمخها بالنور والعطر والسحر
قرأت بها ماضي فأهتز خافق
…
وأفلت من صدري وطار بلا حذر
. . . إلى أين يا قلبي؟! أتهجر مضجعاً
…
أراحك في حلو الحياة وفي المر
إلى أين يا ابن الحب والشعر والأسى
…
أتطمع في صدي وترغب في هجري
وقد كنت لي اللحن الذي ذاب رقة
…
وكنت لك المثوى البريء من الغدر
وسحت دموع من جفوني غزيرة
…
كأن بدمعي بعض ما جاش في فكري
فقال ابن جنبى: إنني اليوم مزمع
…
إلى حيث أدري من زماعي ولا أدري
فما الحب أن نختار أو نملك الرضا
…
ولكنه ألا نقر على أمر
وأن نطوي الأيام شوقا ولوعة
…
وتطوينا الأيام قهراً على قهر
وأقفر صدري لا ربيع ولا شذا
…
ولا جدول يجري ولا نغم يسري
سوى أنة مكلومة ملؤها الجوى
…
تردد ما بين الترائب والنحر
ومرت ليال لست أملك عدها
…
ولكنها أشقى ليالي من عمري
وكان مساء لا يفيق كآبة
…
رأيت به قلبي يعود إلى صدري
وجيعا تحاماه الأساة مجرحا
…
كأن به عيناً على حبه تجري
دمشق
هجران شوقي
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
بين أزمة الكتب وأزمة القراء:
(لست أدري لماذا آثر هذا القارئ الصديق أن يخفي اسمه؟)
بهذا السؤال المشرئب إلى جوابه بدأت تعقيبك اللبق على دفاع قارئ صديق عن القراء. ثم تفضلت فأبديت رأيك في الدفاع (شكلا) وفي القارئ (موضوعا). فما كان أكرم شعورك وأحسن ضنك إذ تقول (لقد دافعت دفاعا حارا عن القراء، لأنك قارئ مثالي ينظر إلى غيره على أنه نسخة صادقة منه. . . ألا ليت القراء كانوا في مثل شغفك في القراءة وولعك بالإطلاع ووفائك للأدب. .) وحيال هذه العبارة النبيلة يجمل بي أن أنيخ مطية الوقوف بعض الوقت. . . لأسوق إلى رحابك هوادي الشكر أطلق في جوائك طيوب الثناء؛ ولأن جنين الإجابة على سؤالك السالف إنما يكمن في أحشاء هذه العبارة النبيلة؛ وبالأصح في نقيض هذه العبارة النبيلة. اجل يا سيدي؛ فلو عرفت أن حرارة إحساسي بعدالة قضيتنا نحن القراء كانت أشد تلهبا في أعماقي وأقوى اشتعالا في مسارب ذاتي من شعوري بحرارة الدفاع نفسه، لأدركت لماذا آثر هذا القارئ الصديق أن يخفي اسمه. أما أنت فقد كنت تنظر إلى المسألة من الزاوية الأخرى. . كنت تراها قضية خاسرة أحسنت الدفاع عنها، فلا غرو أن تشيد بالدفاع، وأن أيدت الحكم، وأن تطري المدافع، وإن أدنت المتهم.
ربما كنت قارئا مجدا، بل ربما كنت أكثر من قارئ في بعض الأحايين، ربما كنت ذلك القارئ الذي يقتات من ثمرات السماء - أعني ثمرات الفكر - أكثر مما يقتات من ثمرات الأرض، ويتناول من وجبات المطالعة والتثقيف أكثر مما يتناول من وجبات الطعام والشراب. ربما كان هذا واقعا من الواقع وحقيقة من الحقائق، إلا أن هنالك واقعا آخر وحقيقة أخرى يجريان في ظني مجرى العقيدة الواغلة واليقين المتغلغل؛ هنالك آلاف غيري من القراء المثاليين ممن يتضاءل بجانب شغفهم بالقراءة شغفي، وولعهم بالإطلاع ولعي، ووفائهم للأدب وفائي. لشد ما يحز في نفسي ويدهشني إذن أن تقول (. . وحتى الأسواق الخارجية التي كنا نعتمد عليها في الترويج للكتاب المصري - وأعني بها أسواق سوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن وفلسطين والحجاز - قد أغلقتها في وجوهنا وزارة
المالية المصرية) كأنما خلت الكنانة من رواد القراءة وطلاب المعرفة، ونضبت الأذواق في المشاعر وجفت الأرواج في القلوب. إن من طائفة المعلمين خاصة ولا أقول المتعلمين عامة، إن فيها آلافا وآلافا من أبناء هذه الطائفة وحدها. أي هم لهؤلاء - ولو بحكم الصنعة كما يقولون - غير التهافت على ثمرات العقول وتلقف ما تقذف به أحشاء المطابع؟ أم أنهم لا يطالعون غير الكتب المدرسية وحدها ولا يعيشون إلا بها ولها؟ أنا لا أصدق، أو لعلي لا أحب أن أصدق هذا، وإن ترامى إلي من أحد أبناء هذه الطائفة الكريمة نفسها. فلعله أن يكون واحدا مثاليا ينظر إلى غيره على أنه نسخة صادقة منه. . . مثاليا في طموحه القاصر وقصوره المعيب ولا قياس للشواذ ولا حكم للنادر.
يخيل لي يا سيدي العزيز، بل أعتقد، أن التسمية الصحيحة لأزمتنا هذه إنما ينبغي أن تكون (أزمة الكتب) لا (أزمة القراء) فالكتب هي التي تعاني أزمة الكساد ومحنة الركود ما في ذلك ريب. أما القراء - قراء الكتاب وغير الكتاب - فلا يزالون على وفرة في العدد وشغف بالقراءة وولع بالإطلاع ووفاء للأدب. وأعني بالكساد هنا - كي أبعد عن قولي شبح التناقض - ذلك الكساد المادي على وجه التخصيص. ولن يكون القارئ بحال هو المسئول الوحيد عن هذا الكساد. فالكتاب أنفسهم مسئولون عنه متلبسون به متسببون فيه. فلقد أوشكوا - لأمر ما - لا يدعون للقارئ فسحة من الوقت يلقاهم فيها على صفحات كتاب. . . لكثرة ما يزحمون من وقته ويشغلون من زمنه بالمقال العابر والرأي الطائر على صفحات الورق السيار.
ودور الكتب الحكومية وفروعها من المسئولين - فيما يخيل لي - عن أزمة الكتاب أيضا. فأنا أعرف عشرات من القراء لا ينفقون مليما واحدا في شراء كتاب رغم شغفهم بالقراءة وولعهم بالإطلاع ووفائهم للأدب، لأنهم يجدون في هذه الدور بالمجان ما يكفيهم مؤونة الشراء ومشقة البذل، ولا معتب على القارئ ولا ملام إن هو لجأ إلى تلك الطريق كي يوفر لنفسه ثمن القميص الحريري الهفهاف والرباط العنقي الثمين فليس من السهل - كما هو الحال في الكتاب - أن يستعير هذا القميص أو ذاك الرباط (استعارة داخلية أو خارجية) ولقد غدت هذه الأشياء المظهرية إحدى، أن لم تكن أولى - ضرورات الحياة في هذا العصر. . . العصر الأمريكي. . . أو عصر الدنيا الجديدة، إن صحت هذه التعابير. سيدي
لست أعني أن تغلق دور الكتب أبوابها - أستغفر العقل - ولكنني أرى ألا تتيح للقارئ الإطلاع على أي كتاب حديث الطبع قبل أن يمضي عام أو أكثر على عرضه في الأسواق.
ودور النشر العامة، أو لعلها المكتبات التجارية خاصة، مسئولة بدورها عن هذه الأزمة ذهبت مرة لشراء بعض الكتب من إحدى تلك المكتبات المنبثة بين الأعمدة القائمة على إفريز شارع محمد علي بالقاهرة، وما أن تعارفنا - صاحب المكتبة وأنا حتى أشعرني إشفاقه علي (ماليتي الضائعة) في شراء الكتب، وأردف هذا بفكرة سعيدة موفقة يضرب لي فيها عصفورين بحجر أن يعيرني ما أرغب بمطالعته أو نسخه من الكتب لقاء قروش معدودات. وبهذا - على حد قولي - يمكنني أن أطالع ستة كتب مختلفة بثمن كتاب وأحد. ومعنى هذا أيضا، معناه الآخر، أن نعمل عل كساد ستة كتب مختلفة كسادا ماديا بالغ الأثر قوي الوضوح.
أفلا توافقني أنت إذن على أنها أزمة الكتب وليست أزمة القراء، وأن التبعة ينبغي ألا تلقى على كاهل القارئ وحده وألا يتحمل فيها قسوة الحكم بمفرده. ولا أقل من أن نوجد له شركاء في (التهمة) حتى تخف العقوبة عليه حين تتوزع عليهم.
وبعد. . فكم أود يا سيدي أن تنتهي إلى لقاء في الرأي على قارعة هذه المسألة. . . يفضي إلى لقاء آخر قريب على صفحات كتبك. كم أود أن أقول لك: ليس من الخير، ولو بالنسبة إلى أصدقائك العديدين في مختلف أقطار العروبة، أن ترجئ طبع ما لديك من كتب، حتى يكون للأدباء نقابة أو لا يكون. ليس من الخير أن تعيش حياتك كلها في عالم الواقع حتى لا تفقد عالم الخيال! وما أجمل الخيال، ما أجمله من عالم! ليس من الخير أن تشكوا من قراء الكتب، كتبك أنت بالذات. ليس من الخير أن تشقق من لقائهم في مقبل الأيام، فإنهم - كما قلت لك في رسالتي الأولى - على استعداد تام، وبرهانهم فوق أيديهم، أن يشتروا منك كل كتبك منذ الآن. قبل طبعها. فهلا أعنتهم على تحقيق بغيتهم واستجابة طلبتهم؟
كلما أرسلت النظر إلى رفوف المكتبة العربية، حيث تشع منها هذه الأسماء اللوامع: طه حسين، العقاد، هيكل، أحمد أمين، الزيات، الحكيم، تيمور؛ طالعني فيها رف شاغر يومئ إليك ويهيب بك أن تسد رمقه وتروي ظمأه وتملأ فراغه.
وسلاما لك، ممن يشرفه أن تعرف اسمه وتحية ومحبة:
من القارئ
(طهطا)
عبد الرحيم عثمان صارو
مرة أخرى أشكر للأستاذ الفاضل ثناءه ووفاءه، وأقول له إنني حين أشرت إلى اسمه في العدد الماضي (من الرسالة)، لم أكن قد تلقيت بعد رسالته الثانية. . ومن هنا كانت الإشارة في صيغة السؤال المترجح بين الشك واليقين في انتظار الجواب. أما وقد ثبت أن القارئ الصديق هو الشاعر الرقيق، فلا حرج بعد الآن إذا ما وجهت إليه الحديث نقاشا وتحية!
ماذا أقول للأستاذ عبد الرحيم وهو يدافع عن القراء بقلبه وقلمه؟ ثق يا أخي أنني أنقل فيما أكتب عن الواقع، وأتهم وبين يدي الدليل، وأحكم ونصب عيني شهود الإثبات. . فالواقع الذي لا مريه فيه أن الكتب في مصر مكدسة لا تجد القارئ، والدليل لذي لا نقض له أن المكتبات خاوية لا ترى الزائر، وأن شهود الإثبات على صدق هذا القول أحياء يرزقون! هل يتفضل الأستاذ الشاعر فيزورني يوما في القاهرة لأطلعه على كل عجيب وغريب؟ سأمضي به أولا إلى جامعة فؤاد الأول؛ تلك الجامعة التي تعد مركز الفكر وموئل الثقافة ومناط الأمل، في تخريج جيل يدرك أثر القراءة في بعث العقول وشحذ المواهب وصقل الآفاق والأذواق. سأمضي به إلى هناك، وعليه أن يختبر الأيدي التي تحمل الكتب والأذهان التي تختزن العلم، والمثل العليا التي تتطلع إلى لقاء الحياة. سيجد الأيدي خالية إلا من الكتب المقررة، والأذهان فارغة إلا من بقايا المحاضرات، والمثل العليا الفكرية تروح وتغدو حول سهرة المساء! إن كل همهم هو أن ينظروا في هذه الكتب وحدها لينجحوا في الامتحان، وأن ينجحوا في الامتحان ليظفروا بالوظيفة، وأن يظفروا بالوظيفة لينعموا بهدوء الفكر وراحة البال!
أين نبحث عن القارئ المثالي، قارئ الكتاب النفيس، إذا لم نبحث عنه بين جدران الجامعة؟ هل نبحث عنه في الطرقات أم نلتمسه هناك بين الجالسين في القهوات؟ إن عابر الطريق في مصر وقد يكون من خريجي الجامعة - يمر وهو في طريقه بمكتبة على
اليمين وأخرى على اليسار، فلا يكلف قدميه مشقة الوقوف ولا عينيه عناء النظر، إلى تلك العيون الرانية إليه من وراء الزجاج. . عيون الأدب الخالد والفن الجميل! وإن (زبون) القهوة في مصر - وقد يكون هو أيضا من خريجي الجامعة - يمر عليه بائع الكتب وهو جالس في مكانه، فيفضل عصير الليمون على عصير الذهن، وتصفح الوجوه على تصفح الأفكار، وصحبة (الدومينو) و (الشيشة) على صحبة العقاد وتوفيق الحكيم!!
هذا هو حال القارئ في. . فهل يدهش الأستاذ الشاعر إذا قلت له إننا نعتمد في الترويج للكتاب المصري على البلاد العربية؟ أؤكد له أنها حقيقة لا تقبل الجدل، وأنني لا أحس شيئا من الحرج وأنا أعلنها سافرة بغير قناع! إن الكتاب المصري الذي يطبع منه الناشر عددا من الألوف، يخصص منه الجزء الأكبر لأسواق سورية ولبنان والعراق وغيرها من أقطار العروبة، وتخصص البقية الباقية لمصر حيث يوجد الأستاذ الفاضل وغيره من القراء المثاليين!
وأعود إلى الجانب الآخر من جوانب المشكلة لأقول للأستاذ عبد الرحيم، بالله لا تذكر طوائف المعلمين في مثل هذا المجال. . لو كان المعلم المصري يقرأ لأصبح الطالب المصري صورة أمينة لأستاذه. هل تصدق أن معلما له حظ من الشغف بالقراءة والولع بالإطلاع والوفاء للأدب، ثم لا يعكس أصداء نفسه وأضواء حسه على أفكار طلابه؟ لو عثرت على الطالب الذي يقصر زاده على ثمرات الفكر ومتاعه على نفحات العلم وصحبته على صفحات الكتب، فاعلم أن من وراءه الأستاذ الذي قبس له من فكره وأفاض عليه من علمه وفتح لقلبه وعينيه منافذ الضياء! ولكن أين هذا الطالب؟. . ابحث يا صديقي عن النتائج في ضوء المقدمات!
بعد هذا يريد الأستاذ عبد الرحيم أن يثبت أن الأزمة متعلقة بالكتب وليست متعلقة بالقراء، لأن قارئ الكتاب موجود لاشك في وجوده، وبخاصة في دور الكتب العامة حيث يجد هناك ما يكفيه مشقة البذل ومؤونة الشراء. . إن ردي عليه هو أن أسأله: كم عدد المترددين على أماكن القراءة والإطلاع وكم عدد المترددين على أماكن اللهو والمتاع؟ إن شيئا من المقارنة لكفيل بأن يضع أيدينا على هذه الحقيقة الناصعة، وهي أن عدد الوافدين إلى دور الكتب إذا ما قيس بعدد المتسكعين في الطرقات، لأسقطناه في معرض النسبة المئوية من كل حساب.
ثم بماذا نخرج من هذا الدليل الذي يسوقه إلينا ليثبت لنا أن قارئ الكتاب موجود؛ قارئ الكتاب بلا مقابل؟ أفي هذا ما يشجعنا نحن الأدباء على أن ندفع إلى المطبعة بما لدينا من ثمرات العقول؟ سمها إن شئت أزمة كتب، ثم أرجعها على التحقيق إلى أزمة القراء، فما أكثر ما يعج به هذا البلد من أزمات!
ثم هذا الاقتراح الذي يعرضه الأستاذ الشاعر ليحل به الأزمة ويفض المشكلة ويحسم النزاع، وهو ألا تقدم دور الكتب العامة لروادها أي كتاب جديد قبل مضي عام أو أكثر على عرضه في الأسواق. . إن دور الكتب يا صديقي تزخر بها مدينة مثل باريس حيث يقصد إليها الألوف من كل مكان، ومع ذلك فإن تلك الدور لم تقلل من عدد المقبلين على اقتناء الكتب الأدبية، وحسبك أن بعض كتب (سارتر) قد طبع ثلاثا وتسعين مرة!! أريد أن أقول للأستاذ الفاضل إن الذين يريدون أن يقرءوا لا يحول بينهم وبين القراءة حائل. . وإن القارئ الحق هو الذي لا يكتفي بقراءة الكتاب منقولا من أحد الرفوف أو مستعارا من أحد الأصدقاء، ولكنه الذي يبذل من وقته ليستوعبه وينفق من ماله ليقتنيه، حتى يصبح ولديه مكتبة يرجع إليها من حين إلى حين، ليجد في ضيافتها المثلى غذاء العقل والقلب والروح!
وليس من شك في أنني لا ألقي التبعة كلها على القراء، لأن هناك بعض العناصر المسئولة عن هذه الأزمة التي استفحل أمرها وعظم خطرها واستعصت على كثير من الحلول. . ولقد عرضت لهذه العناصر منذ عام مضى على صفحات الرسالة ولا أحب أن أعود إليها من جديد، ولكن الذي يهمني أن أعود إليه هو قول الأستاذ عبد الرحيم بأن الكتاب يحملون شيئا من هذه التبعة، لأنهم يصرفون القراء عن قراءة الكتب بكثرة ما يشغلون من وقتهم بالمقال العابر والرأي الطائر. . يا أخي أن المكتبات عامرة بكتب الشرق والعرب يدفع بها إليها الكتاب من هنا وهناك، ولكن القراء - كما قلت لك من قبل - هم الذين (يربحهم) أن ينفقوا عشر دقائق من وقتهم في قراءة مقال، وقرشين من مالهم ثمنا لمجلة تحمل إليهم هذا المقال. ثم يضيقون كل الضيق بصحبة كتاب نفيس، لأنهم يضنون عليه بالوقت الذي لن يتعدى الساعتين وبالقروش التي لن تزيد على العشرين. . إن أعصاب الأدباء بخير يا صديقي العزيز، ولكن المسئول هو أعصاب القراء!!
أما ذلك الرف الشاغر الذي يومئ إلى من رفوف المكتبة العربية كما تقول، فليس هنالك بد
من ملئه في يوم من الأيام. كل ما أرجوه هو أن يكون الغد القريب لا الغد البعيد هو موعدي معك ومع غيرك من الأصدقاء. . وأحبب به من لقاء!
مباراة شعرية وأخرى نقدية:
مباراة شعرية جرت بين الشعراء: شاهين وميشال معلوف وفوزي وشفيق معلوف، في دار شقيق الأولين وخال الآخرين، بمناسبة سقوط فنجان قهوة من يد قرينته إيزابيل معلوف ربة الدار، فجعلت للفائز الأول جائزة ثمينة وهي ساعة ذهبية. . وفيما يلي أبيات الشعراء الأربعة التي تقدموا بها إلى المباراة).
قال شاهين:
ثمل الفنجان لماَ لامست
…
شفتاه شفتيها واستعر
وتلظت من لظاه يدها
…
وهو لو يدري بما يجني اعتذر
وضعته عند ذا من كفها
…
يتلوى قلقا أنى استقر
وارتمى من وجده مستعطفا
…
قدميها وهو يبكي فانكسر!
وقال ميشال:
عاش يهواها ولكن
…
في هواه يتكتم
كلما أدنته منها
…
لاصق الثغر وتمتم
دأبه التقبيل لا ينفك حتى يتحطم!
وقال شفيق:
إن هوى الفنجان لا تعجب وقد
…
طفر الحزن على مبسمها
كل جزء طار من فنجانها
…
كان ذكرى قبلة من فمها
ونظر فوزي المعلوف إلى الفنجان فإذا هو لم ينكسر فقال:
ما هوى الفنجان مختارا فلو
…
خيروه لم يفارق شفتيها
هي ألقته وذا حظ الذي
…
يعتدي يوما بتقبيل عليها
لا ولا حطمه اليأس فها
…
هو يبكي شاكيا منها إليها
والذي أبقاه حيا سالما
…
أمل العودة يوما ليديها!
هذه المباراة الشعرية قدمها إلى صديق أديب، منتظرا رأيي في شعر الشعراء الأربعة،
وحكمي لأيهم بالسبق والتفوق، على أن يكون هذا الحكم مستندا إلى ما في (الأداء النفسي) من حيثيات. . أما أنا فقد كونت الرأي وأصدرت الحكم، بعد أن أرسلت الذوق وراء كل كلمة، وحشدت النفس خلال كل بيت، وأطلت المراجعة بعد كل مقطوعة. وقبل أن أسجل هذا الرأي على صفحات الرسالة، أود أن أستمع إلى الرأي العام الفني ممثلا في قراء العربية ما بين كاتب وشاعر، لأنني أريد أن أجعل من هذه المباراة الشعرية مباراة نقدية!
وأحب أن أقول لقراء الرسالة هنا وهناك، إنني في انتظار نقدهم لهذا الشعر، على أن يكون حكمهم للشاعر الأثير لديهم مشفوعا بأسباب التفضيل والإيثار. (وإذا كان الفائز الأول من الشعراء قد ظفر بساعة ذهبية، فإن الفائز الأول من النقاد سيظفر من هذا القلم. . بكلمة ذهبية!!
علي محمود طه في يوم ذكراه:
يوافق الأسبوع القادم ذكرى مرور العام الأول على وفاة شاعر مصر الحديثة، وشاعر العروبة الخالد، الصديق العزيز الأستاذ علي محمود طه رحمه الله. وفي مثل هذه الذكرى الغالية تخفض الأقلام حدادا على العبقري الراحل، وتحنى الرءوس شجنا على الشاعر الفنان. ولكن العزاء الذي يملأ المكان الشاغر في دنيا الشعر، هو أن القيثارة المحطمة ستظل تبعث أنغامها إلى الأبد، فتحيل الموت إلى حياة، والصمت إلى غناء، والذكرى إلى خلود!
وفي الأسبوع المقبل أقدم إلى الروح المطمئنة إلى جوار الله. . همسة القلب وتحية القلم.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
قاص يحبس ديوان أخيه:
كتبت في الأسبوع الماضي كلمة عن (ذكرى الزين) أجملت فيها الكلام عن ديوان المرحوم الشاعر الرواية الأستاذ أحمد الزين. وقد فهم القراء مما ذكرته أن هناك شخصا يحتجز هذا الديوان لديه ويأبى أن يدفعه إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر، التي قررت طبعه ونشره.
وقد رأيت أنه لا بد - لحق الأدب ولحق اليتيم الذي تركه الشاعر - أن أذكر الحقائق التي تتعلق بهذا الموضوع والتي تتضمنها القصة العجيبة التالية:
على أثر وفاة الشاعر الفقيد توجه إلى منزله أخوه الشيخ محمد الزين القاضي الشرعي بمحكمة الزقازيق، وهو يعلم أن أخاه الشاعر قد ترك ديوانه المجموع المخطوط وهو يحتوي على شعر نشر وشعر لم ينشر، وتلطف الشيخ محمد مع زوجة أخيه المتوفى، وطلب منها الديوان ليطبعه وينشره، فأسلمته إياه وهي واثقة من حسن نيته. ومرت الأيام ولم يطبع الشيخ الديوان، وكلما سألته عنه زوجة أخيه أجابها بمختلف المعاذير.
وفي خلال ذلك رأت لجنة التأليف والترجمة والنشر أن تعمل شيئا لتخليد ذكرى صديقها أحمد الزين وتقدير جهوده في أعمالها الأدبية، فقررت طبع ديوانه ونشره على أن تتنازل عن حصتها في ثمن ما يباع من الديوان لابنه الصغير. ثم سألت اللجنة عن الديوان لتبدأ في العمل، فعلمت أنه لدى أخيه الشيخ محمد الزين، فكتبت إليه بما قررته وطلبت منه أن يرسل إليها الديوان، فلم تتلق منه أي رد إلى الآن رغم مضي نحو سنتين على هذا الطلب.
وتبينت السيدة مماطلة أخي زوجها وعم ولدها اليتيم، في تسليم الديوان، فلا هو طبعه ولا هو دفعه إلى اللجنة، وفي الوقت الذي تشعر فيه بالحاجة إلى ما يساعد على ضرورات العيش، وترجوا أن تحصل من الديوان على شيء يضاف إلى النزر اليسير الذي تتبلغ أسرة الشاعر الكبير! وهنا موضوع آخر تبعث إثارته الألم والأسى، أرجئ تناوله إلى وقت آخر.
تبينت السيدة ذلك، فها لها الأمر، وأحزنها أن يطوي ديوان زوجها الراحل الذي كان اسمه يملأ الآفاق في عالم الشعر العربي الحديث، فراحت تتوسل إلى الشيخ بأصدقائه، بعد أن
أعياها رجاؤه، دون أن يجدي ذلك شيئا. ولعلك تسألني: ماذا يقول الشيخ وبم يعلل موقفه؟ قال لها مرة: إن الديوان عند رفعة النحاس باشا!! لأن رفعته ينوي عندما يتولى الوزارة (وكان ذلك قبل أن يتولى رفعته الوزارة) أن يسدي إلى ذكرى الفقيد عارفة بطبع ديوانه على نفقة الحكومة. ولما تولى رفعة النحاس باشا الحكم استبشرت السيدة الطيبة القلب. ولكن. . . مر الزمن الطويل ولم يظهر ما يدل على اهتمام الحكومة بالديوان، فعاودت مفاتحة الشيخ في الأمر ليذكر رفعة النحاس باشا بوعده فاضطر إلى أن يقول لها إن الديوان ليس عند النحاس باشا. فبكت ورجت، واستعطفت، وهو ساكن ساكت حتى فرغت، ثم نطق:
- أترين هذا الكرسي وهذه الكنبة وهذا الدولاب؟
- نعم.
- هل أحست بشيء مما قلت. .؟
- لا
- أنا كذلك!!
سبحان خالق الناس وقاسم الحظوظ وجاعل الأخ مختلفا عن أخيه! فقد كان الأستاذ الشاعر أحمد الزين وافر الحظ من دقة الإحساس ورقة المشاعر، بل كان ذلك ثروته التي أودعها شعره، ولعل بعض القراء يعرف أن الشيخ محمد الزين ينظم قصائد ويحاول أن يسير في ركب الشعراء فهل يحس أن شعره خال من الأحاسيس وينبغي أن يستمد من ديوان أخيه ما يسد به نقصه في الشعر؟
وإذا كان الشيخ محمد الزين حسن النية نحو ذلك الديوان، فلماذا لا يوضح ما يريد أن يصنع به لأم اليتيم صاحب الحق الوحيد في ديوان أبيه؟ ولماذا لم يرد على اللجنة ليبين لها وجهة نظره في الموضوع؟
على أنه من حق الرأي العام أيضا أن يقف على نية الشيخ إزاء هذا الديوان، فهو أثر أدبي لشاعر من شعراء العصر، يعد جزءا من أدبنا المعاصر، تجب صيانته من الضياع.
والشيخ محمد الزين قاض شرعي يحكم بين الناس بالعدل أفلا يستنكف فضيلته أن تقاضيه أرملة أخيه أمام المحكمة وخاصة أن هناك شاهدين على أنه أخذ منها الديوان؟
وهل يرضى معالي وزير العدل أن يحكم قاض من قضاة العدل بالحبس على ديوان شاعر يتعلق به حق يتيم؟
وفاة برناردشو:
مات الكاتب العالمي الكبير جورج برناردشو يوم الخميس الماضي (2 نوفمبر سنة 1950) عن 94 عاما، وكان يعيش في منزله الريفي بإحدى القرى الإنجليزية عيشة ظاهرها الهدوء والعزلة، ولكنه كان يحيى بفكره وحسه وخواطره في حياة الناس، متجردا من نوازع المحلية، محلقا فوق العالم كإنسان ممتاز. كان يكتب عن الإنسانية، ويكتب لها، في كل مكان، فشع أدبه للجميع، وترجم إلى جميع اللغات الحية، ومثلت مسرحياته على أهم المسارح في مختلف الأقطار، وقد مثل هو أكبر دور على مشهد من العالم أحمع، وهو دور الكاتب الحر الذي كشف حجب الظلام وسخر من غرور الناس وانتصر للحق. ولم ننس ولا ننسى له - نحن المصريين - موقفه من حادثة دنشواي التي ندد فيها بوحشية الجيش الإنجليزي في مصر، ولا تبصيره إيانا بنيات قومه الإنجليز نحونا ونصحه بعدم الاعتماد على المباحثات السياسية واللجوء إلى الهيئات الدولية في نيل استقلالنا وحريتنا، قائلا بأن السبيل الوحيد إلى ذلك هو أن نستخلص حقوقنا بأيدينا.
وقد كان برناردشو كاتبا ساخرا ولم يسلم الشعب الإنجليزي نفسه من سخريته، وهو شعب ذو تقاليد ومقدسات، ولكن شو لم يعبأ بذلك، لأنه لم يكن إنجليزيا فقط، بل كان فوق ذلك أنسانا. وكان بعيش في الحياة وكأنه فارق الأحياء، يطل عليهم روحا يضحك من أفعالهم ويسخر من أوضاعهم. ولم يزد بموته على أن قطع ضحكه وسخريته عن الأسماع!
ولد برناردشو بمدينة دبلن بايرلندا من أبوين فقيرين، وقد رحل إلى لندن وهو في العشرين من عمره، ولاقى في أول حياته بها متاعب كأديب ناشئ، لا يعبأ به، ولا تجازيه الصحف على ما يكتب فيها إلا بالقليل، ولكنه ظل يكافح حتى وصل إلى القمة، وقد رفض الألقاب، وأبى قبول جائزة نوبل المادية، لأنه لم يعد بحاجة إلى شيء من ذلك. وقد شبه جائزة نوبل التي منحت له بطوق النجاة الذي يلقى إلى من وصل إلى الشاطئ.
مات برناردشو، فكان لموته صدى في أرجاء العالم، واعتبرته كل أمة فقيدها، لما له في حياة العالم كله من آثار خالدة.
تحريف بيت لأبي العلاء:
كتبت السيدة (بنت الشاطئ) في الأهرام يوم الأحد الماضي (29 أكتوبر) مقالا بعنوان (عاشروا العالم أو فارقوا) قارنت فيه بين جمال البقاع في أوربا وبين الإهمال والقذارة في بلادنا. والذي يهمنا من هذا المقال ما ختمته به إذ قالت (ألا رحم الله أبا العلاء، ما أكثر ما نذكر هنا قوله منذ أكثر من ألف عام:
هذي بضاع العلم معروضة
…
فعاشروا العالم أو فارقوا
تأملت هذا البيت كما أوردته الكاتبة فلم أجد له معنى. ما هي أو ما هو (بضاع العلم)؟ الذي نعرفه أن بيت أبي العلاء - وهو من اللزوميات - هكذا:
هذي طباع الناس معروفة
…
فخالطوا العالم أو فارقوا
هذا هو (نص أبي العلاء) وفيه تظهر المناسبة بين طباع الناس على علاتها وبين مخالطتهم على ما هم عليه أو مفارقتهم. وهذا المعنى العلائي لا ينسجم مع مضمون المقال الذي سبقت الإشارة إليه، فلا بد إذن أن الكاتبة الفاضلة أرادت أن تطوعه بمناسبة ما عرضته، ولكنه بالصورة التي ظهر بها غير مفهوم على أي حال. قلت في نفسي: لابد أنها أرادت أن تجعل البيت هكذا:
هذي بقاع العالم معروضة
…
فعاشروا العالم أو فارقوا
أي أن تلك البقاع الأوربية التي زارتها وأعجبت بها هي التي وصفت، وعلينا نحن المصريين - أن نجعل بلادنا مثلها إذا أردنا أن نكون مثل ذلك العالم الراقي، أو. . . لست أدري ماذا نفعل. .
وجاءت المطبعة فجعلت (بقاع) - (بضاع)، وجاء المصحح فوجد البيت مكسورا ولمح موضع الكسر في كلمة (العالم) فجعلها (العلم) ليستقيم الوزن، ولعله رأى خلو العبارة من المعنى ولكنه آثر أن يكون البيت موزونا ولا معنى له على أن يكون كذلك وهو مكسور، وأمر واحد أخف من اجتماع أمرين.
وعلى ذلك ظهر البيت كما ظهر، وإذا لم يكن هذا الافتراض صحيحا فماذا عسى أن يكون؟!
ثم ذكرت يوما حضرت فيه مناقشة رسالة قدمتها الكاتبة الأديبة لنيل درجة الدكتوراه،
موضوعها تحقيق نص رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وقد شرحت للجنة الامتحان ما لقيته من عناء في ذلك التحقيق وأكدت محافظتها في النص وتقديسها إياه، وكانت تجيب على بعض الأسئلة بأن (النص هكذا) وقد أفرطت في ذلك حتى خلنا أن (المنهج الجامعي) الذي سارت عليه ليس مغايرا (للفوتوغرافيا) ولم يكن ذلك فقط، بل إنها حملت على من سبقوها في تحقيق رسالة الغفران لأنهم (لم يحافظوا على النص) وشغلت بهذه الحملة نحو سبعين صفحة من الرسالة، مما جعل الدكتور طه حسين بك رئيس اللجنة يصفها بالزهو والغرور.
فما بال الدكتورة قد تخلت عن منهجها في المحافظة على النص إذ نسبت إلى أبي العلاء ما لم يقله! لقد تحدث أبو العلاء عن طباع الناس وخير بين معاشرتهم على علاتهم أو مفارقتهم، والمحقق أنه لم ير بقاع سويسرا حتى يحثنا على التشبيه بأهلها، ولو لم تقل الدكتورة (منذ أكثر من ألف عام) لفرضنا أن ثمة شاعرا آخر معاصرا غير المعري اسمه أبو العلاء. . .
ولو أن أحدا آخر غير الدكتورة فعل ذلك ببيت أبي العلاء، لكان الأمر أهون، لأنها ترى بل تعتز بالمحافظة على (النص) والشأن كما قال أبو العلاء في أول الأبيات التي جاء فيها ذلك البيت:
ما ركب المأمون في فعله
…
أقبح مما ركب السارق
فسرقة السارق المعتاد على السرقة أمر عادي، أما المأمون المفروض فيه الأمانة فخيانته لا تغتفر. والدكتورة لما علمناه من حرصها على النص، في مكان (المأمون) فلم يكن يليق بها أن تصنع ببيت أبي العلاء ما صنعت.
عباس خضر
رسالة الفن
مسرحية شجرة الدر
تأليف: عزيز أباظة باشا. إخراج: الأستاذ فتوح نشاطي.
تمثيل: الفرقة المصرية على مسرح دار الأوبرا الملكية.
تحليل ونقد بقلم الأستاذ أنور فتح الله
افتتحت الفرقة المصرية موسمها التمثيلي بهذه المسرحية الشعرية. ولقد كان المؤلف موفقا في اختيار شخصية شجرة الدر لتكون موضوعا لمسرحيته. ذلك لأن شجرة الدر شخصية بارزة في التاريخ المصري. ولأنها أول ملكة مسلمة اعتلت عرش مصر. في وقت كان الصليبيون فيه يهددون استقلالها، والمماليك في الداخل يتآمرون على عرشها. . ولعل عصر المماليك الزاخر بالأحداث والدسائس هو أصلح العصور التاريخية لأن يكون مادة للمسرح المصري.
وأحداث المسرحية التاريخية تقع بين اعتلاء شجرة الدر عرش مصر وقتل عز الدين أيبك. وقد سلط المؤلف أضواءه على هذه الفترة التاريخية ليكشف عما يرقد تحت خطوط التاريخ من دوافع نفسية تسلطت على أبطال التاريخ وسيطرت على أعمالهم السياسية.
وشجرة الدر في نظر التاريخ كانت جارية من جواري الملك الصالح أيوب، فأحبها وتزوجها. وكانت تعيش في عصر تعصف به الأهواء والأطماع السياسية. وعندما تقدمت السن بزوجها اعتلى عرش مصر، فكانت خير مشير له، وكان الصليبيون يحاربون في داخل البلاد عندما مرض الملك، فتولت شجرة الدر وحدها شؤون السياسة والحرب، ومات الملك، فأخفت خبر موته حتى لا يفت ذلك في عضد الجيش، وعندما انتصرت جيوش مصر، وأسر الملك لويس التاسع في المنصورة، أعلنت شجرة الدر موت الملك، وأرسلت في طلب ولي العهد (طور أنشاه) من الشام وبايعته بالملك. وكان ضعيفا سكيرا غارقا في الملذات. وعندما أراد التخلص من شجرة الدر قتله أنصارها وبايعوها بالملك. وأرادت شجرة الدر وهي الخبيرة بشؤون السياسة والحكم أن تجمع المصريين والمماليك من حولها، لتقضي على التحزب الذي يهدد الملك، فأثار هذا حفيظة المماليك، وتمرد عليها أمراء الشام
ولجئوا إلى خيانتها مع الفرنسيين، فأطلقت سراح ملك فرنسا، وشكاها الأفراد إلى أمير المؤمنين في بغداد، فقرر عزلها. وتولى الملك الأشرف عرش مصر، وعين عز الدين أيبك وصيا عليه فألقى بالملك في السجن، وقبض على زمام الملك، وانصرف عن زوجته شجرة الدر. وعندما علمت أنه سيتزوج ابنة صاحب الموصل أغرت بعض خدمها فقتلوه في الحمام.
ولنبين ما أضافه المؤلف إلى التاريخ، ومدى تمسكه به، علينا أن نستعرض المسرحية.
بدأ المؤلف مسرحيته، فأبرز الأمير نجم الدين (الملك الصالح فيما بعد) وهو جالس في خيمته في الصحراء، وإلى جانبه زوجته شجرة الدر، وقد دخل عليه رجاله، بيبرس، وقطز، وقلاوون، وعز الدين أيبك. . ثم يدخل العراف فينبئهم بأن كلا منهم سيتولى عرش مصر. . فيسخرون منه، فيخرج وهو ويقول:
قلت حقا وكان ما لم أقله
…
إن بعضاً منكم سيأكل بعضا
ولقد كانت هذه المقدمة لفتة بارعة من المؤلف، ذلك لأنها تمهد لجو الدسائس والمؤامرات وهو الجو العام للمسرحية، وترمز إلى ما حدث في التاريخ، وتقدم أبطال المسرحية إلى المشاهد. ومن الناحية الفنية، فإن عرض المقدمة في شكل مشهد تمثيلي أقرب إلى طبيعة المسرح من المقدمةِ التي كانت في بداية المسرحيات الكلاسيكية وبعض المسرحيات التاريخية الحديثة، والتي كانت في صورة منلوج يلقيه ممثل قبل بداية التمثيل ليعرف المشاهد بموضوع المسرحية، أو في صورة ديالوج ليؤدي نفس الغرض.
. . ويبدأ الفصل الأول وشجرة الدر ملكة على مصر. . فنرى الجارية هيام تتآمر عليها. . وتسعى إلى استمالة قائد الجيش (أقطاي) إلى جانبها. . ونرى بيبرس وقلاوون وقد عادا من الشام ليخبرا الملكة بأن أمراء الشام قد أجمعوا على خيانة مصر. . وهنا تعلن شجرة الدر بأن مرغريت ملكة فرنسا قد قدمت إليها كتبا من أمراء الشام تثبت خيانتهم، ولهذا رأت أن تطلق لويس التاسع من أسره. . ويخرج الأمراء بعد أن تكلف بيبرس بمهمة في بغداد. . ثم تستبقي عز الدين أيبك. . فنراه يؤيد رأيها، ويمجد تدبيرها ويبوح لها بهواه. . ويلح في طلب الزواج منها. . فتعده بالزواج، وتطلب منه أن يكون عونا لها على أعباء الملك، فيجيبها بقوله:
لا بل تبيعك ما حييت فمهتد
…
يهداك محتشد لما يرضيك
. . . وفي الفصل الثاني. . تبدو هيام وهي تستطلع أخبار بيبرس من علا. . وتعرف من حديثهما أن الملك لويس التاسع سيمثل بين يدي شجرة الدر. ونرى (أقطاي) ساخطا يرمي شجرة الدر بالاستبداد، ويدخل المصريون وعلى رأسهم القاضي فينتحون ناحية، وسرعان ما يثير أقطاي أسباب النزاع بين المصريين والمماليك، فيهدئهم القاضي، ويدخل أيبك وقد أصبح زوجا لشجرة الدر فيعلن قدومها. . . ويخبر القاضي بأن الملكة قد عينته قاضيا لقضاة النيل، واختارت بهاء الدين وزيرا لها.
وتدخل شجرة الدر ومعها ملكة فرنسا، ويقدم إليها ملك الإفرنج فتستقبله وتعقد معه ميثاقا. ويأتي بيبرس فيخبرها بأن رسول أمير المؤمنين قد جاء ليبلغها أنه إذا لم تسترض أمراء الشام فسيعزلها، فترفض شجرة الدر طلب أمير المؤمنين لأن في ذلك سبة لمصر. . . ويدخل الرسول فتقول له شجرة الدر
أنا وازنت بين ملك وعرض
…
فهداني ربي الصراط القويما
إن في مصر أمة تكبر الر
…
أي وتأبى في عرضها أن تسوما
ويخبرها الرسول بأن مولاه يقبل اعتزالها فتعلن اعتزالها، فيغضب أيبك، ويثور المماليك والمصريون، فتقول لهم شجرة الدر:
لا تزلوا إن التحمس تعمي
…
عن هداها الوضئ فيه العقول
نحن نبني الدولات تبقى على الده
…
ر وأما أشخاصنا فتزول
وعندما يسألونها عمن تختار ليخلفها، تعلن اختيارها لعز الدين أيبك، والأشرف موسى، فيوافق الجميع على رأيها ماعدا أقطاي، فتنهاه شجرة الدر عن إثارة الفتنة، ويعلن أيبك سياسته بقوله:
نحن قوم إذا عهدنا وفينا
…
والتزام الوفاء بالحر أحرى
نحن قانون والمآثر عمر
…
يتخطى الفناء، والناس ذكرى
يحفظ لله من شقاق وخلف
…
شعب مصر ويحفظ الله مصرا
. . . وإلى هنا تنتهي حياة شجرة الدر الملكة. . وتبدأ حياتها كامرأة. . وفي هذا القسم من المسرحية ساير المؤلف خطوط التاريخ. . وربط بين الأحداث بالصراع السياسي الذي
صوره بين أمراء الشام ومن ورائهم أمير المؤمنين من جهة، وبين شجرة الدر من جهة أخرى، وقد انتهى هذا الصراع باعتزال شجرة الدر الملك. ولأن الصراع هنا لم يتخذ صورة بصرية، بل كان في صورة القصة على لسان بيبرس وقطز والرسول فقد غلب على هذا القسم جانب العرض التاريخي. على أن هذه الغلبة لا تنسينا أن نذكر للمؤلف توفيقه في ربط الأحداث التاريخية وتنسيقها في صورة فنية مشوقة؛ فكل مشهد لاحق نتيجة للمشهد سابق. وقد صب المؤلف المعلومات التاريخية في مشاهد مرئية كل مشهد منها يتضمن حادثا، وكل حادث مليء بالحركة فلم تطغ هذه المشاهد التاريخية، على الحركة المسرحية.
. . . وتدور أحداث الفصل الثالث في قاعة العرش بقصر القلعة. . . فنرى هيام وأقطاي وقد اتفقا على الإيقاع بين الملك عز الدين أيبك وشجرة الدر الزوجة. وتأتي شجرة الدر فنسمعها تحدث نفسها. . وتعاهد الله على أن تحمي مصر، وتعمل على إبعاد كل من تحدثه نفسه بالإساءة إليها. . وتخرج شجرة الدر. . ويأتي أمراء المماليك والمصريون. . فيطعن أقطاي في المصريين فيحدث النزاع بين الجانبين من جديد، ويدافع قاضي من القضاة عن المصريين. . وتدوي الأبواق. . ويأتي الملك عز الدين فيجلس على العرش. . ويحييه نائب عن المصريين. . فيرد عليه الملك. . وفي رده الزهو على مصر. . والطعن في شجاعة المصريين. . واتهامهم بالفرار من ميدان القتال: فيدفع قاضي القضاة التهمة عن المصريين. . فينهره الملك. . ويأمر المصريين بأن يمضوا في شأنهم حتى يصدر أحكامه فيهم. . ويثير أقطاي حفيظة الملك عليهم. . فيعلن أنه سيذيقهم نقمته وسيعزل قاضي القضاة والوزير. . وهنا يطلب منه أقطاي أن يتمهل حتى لا يغضب شجرة الدر!. . فيتراجع عز الدين. . ويطلب منه أقطاي أن يأخذ رأيها!. . . ويهم الملك بالخروج، فتدخل هيام. . وتخلو به. . وتخبره أنها رسوله من قبل زوجه أم علي. . وأن ولده مريض. . فيضطرب ويخبرها بأنه سيزورها. . فتطلب منه أن يحاذر حتى لا يغضب شجرة الدر، فلا يبالي بتحذيرها. . . وتأتي شجرة الدر لترده عن استبداده بالمصريين، وتسدي إليه النصح فلا يستمع لها. . وينكر عليها تدخلها. .
وفي الفصل الرابع. . نرى شجرة الدر تنظر في مرآتها، متحسرة على الشباب الذي ولى.
ويأتي الملك فتستقبله في حفاوة المرأة بزوجها. . ولكنه يراوغها. . ويطلب منها أن تسلمه كنوز الملك الصالح. . فتأبى. . فينفجر فيها ثائرا. . ويخبرها بأنه سيتزوج عروسين من بنات ملوك الشام. . ويتركها وقد جردها من نفوذها. . وكرامتها. . وحطم قلبها بمعارك الغيرة. .
ويدخل عليها قاضي القضاة، وبيبرس، وقلاوون ويلحون في قتله لتخلص مصر من ظلمه فترفض. وعندما تعلم أنه يطردها من قصرها. . تدعم لرأيهم. . وترسل إليه خطابا تتوسل إليه فيه أن يقضي ليلة في جناحها. . . ويأتي الملك إليها. . فتستقبله في حفاوة. . . وعندما يذهب إلى الحمام تأمر أعوانها بقتله.
. . . وفي هذا القسم من المسرحية، نرى المؤلف قد ساير التاريخ في تصوير الجانب السياسي من حياة شجرة الدر. وأضاف إلى التاريخ بتصويره الجانب الإنساني من حياتها، وبربطه بين تاريخ والإنسانية خلق على المسرح عالما فنيا نابضا بالحياة.
وفي هذين القسمين، استطاع المؤلف أن يرسل نقداته، وبصب تجاربه ومثله وآراءه في ذلك الإطار التاريخي، فنفذ إلى الواقع، وربط المشاهد بعالمه الفني. هذا، والجديد من هذه المسرحية، هو أن المؤلف لم يتابع ما سار عليه المرحوم جورجي زيدان وغيره ممن أنشئوا أعمالا فنية من شجرة الدر من إهمال. تصوير الجانب المصري من أعمالهم، بل عنى بتصوير المصريين في مسرحيته فصور آمالهم، وآلامهم، وبهذا ربط بين الواقع التاريخي والحاضر الواقعي.
ولعل الدافع الذي حدا بشوقي بك إلى كتابة مسرحية عن كليوباترا، هو نفس الدافع الذي حدا عزيز باشا أباظة إلى اختيار شجرة الدر لتكون موضوعا لمسرحيته. ولعل السبب في هذا الاتفاق بين الشاعرين، هو التشابه بين الملكتين، وبروزهما في التاريخ المصري. بل إن هناك تشابها كبيرا بين شخصية أوتوبيس الكاهن المصري، وبين شخصية قاضي القضاة، وكلاهما كان موضع ثقة مليكته ومشيرها. وكلاهما وطني يعمل لصالح وطنه. ولقد دافع شوقي عن كليوباترا لأنه رآها أكبر مما صورها به المؤرخون، ودافع عزيز باشا عن شجرة الدر لأنه رآها أكبر مما صورها به المؤرخون. فالشاعرية التي ألهمت شوقي الكتابة عن كليوباترا، هي التي ألهمت عزيز باشا الكتابة عن شجرة الدر.
والصراع المسرحي الرئيسي في هذه المسرحية يقع بين عز الدين أيبك وشجرة الدر، ولم يبدأ هذا الصراع إلا بعد اعتزال شجرة الدر الملك واعتلاء أيبك العرش. وذلك لأن شخصية أيبك كانت تابعة لشخصية شجرة الدر الملكة، ولم تنفصل عن هذه التبعية وتتحرر إلا بعد اعتزالها. فقد بدأ أيبك متملقا، طموحا، إلى أن تزوج شجرة الدر، ثم أصبح متفانيا في خدمتها إلى أن اعتزلت، وبعد أن أصبح ملكا، بدأت شخصيته تنفصل عنها، وبدأ الصراع بينهما إلى أن انتهى بقتله. ولو أحسن المؤلف استغلال شخصية الجارية هيام، وأقطاي، في النصف الأول من المسرحية، بقدر ما أحسن استغلالهما من الإيقاع بين شجرة الدر وأيبك في النصف الأخير منها، لكان توفيق المؤلف في بناء المسرحية كاملا، ذلك لأن هيام وأقطاي على الرغم من كراهيتهما لشجرة الدر وتآمرهما عليها في النصف الأول من المسرحية، فإنهما لم يؤثرا على الأحداث ولم يتقدما أية خطوة إيجابية بالفعل المسرحي. هذا، ولم نستطع أن نتبين من المسرحية الدافع الشخصي الذي يدفع هيام المرأة إلى محاربة شجرة الدر؛ بل إن المؤلف قد جانب الصواب عندما جعلها - وهي المرأة - تعمل على التفرقة بين أيبك وشجرة الدر لحساب امرأة أخرى هي أم علي. ولو قارنا بين شخصية هيام عند عزيز باشا، وشخصية سلافة عند جورجي زيدان، لوجدنا أن تصوير الثانية أوضح وأصدق من تصوير الأولى، وأثر الثانية على الأحداث أبرز بكثير من الأولى. كذلك جعل المؤلف شخصية أقطاي حائرة مترددة في النصف الأول من المسرحية وكان في مقدوره أن يستغلها في تقوية الصراع المسرحي لو جعل تأثيرها إيجابيا على الأحداث في هذا القسم.
وإذا تناولنا الجانب الإنساني من هذه المسرحية، وجدناه صادقا من حيث التصوير النفسي. فقد انبثق الصراع المسرحي من داخل نفس عز الدين. تلك النفس الطموح التي تتملق شجرة الدر لتحوز رضاها. وتتفانى في خدمتها لتجتذب أنظارها. وتتربص بقلبها المحروم لتنفذ إليه. حتى إذا ما أصبح زوجا لها، بدأ يتظاهر بالغيرة والحماس، ليرقي سلم المجد، وليبدوا في نظرها جديرا بالملك. فإذا ملك، بدأ يتخلص منها ليملك فعلا، ولكنه وهو العبد الذي تعود الطاعة يخشى بأسها، وإزاء تحريض اقطاي وهيام، وطعنهما في كرامته، طغت عليه كبرياء الضعيف، وكرامة الذليل، فانفجر ليعوض النقص الذي في شخصيته. فعندما
كان عز الدين يخفي حقيقة نفسه، كان الصراع مخيفا في أغوار نفسه، وعندما تغيرت الأوضاع، فارتفع الوضيع، وانخفض الرفيع، بدأت حقيقته تظهر وبدأ التعارض بين نفسه، ونفس شجرة الدر. وعندما وصل الصراع إلى القمة لجأت تلك النفس الخيرة إلى الشر لتزيل الشر. وبتجسيم هذه الخطوط النفسية الدقيقة استطاع المؤلف أن يوصل المأساة إلى نفس المشاهد.
وكان المؤلف موفقا في تصوير شخصية شجرة الدر، فقد بدأ بها ملكة وانتهى بها إلى امرأة ككل النساء، تحب وتغار، وتحزن. ولعل ما أظهره المؤلف فيها من ضعف بشري، حتى عندما سمعت صراخ زوجها فترددت وحاولت إنقاذه، هو الذي ساعد على بعث الحياة في هذه الشخصية، لأنها استمدت حياتها من المشاعر الإنسانية.
والذي نلاحظه أن المؤلف تمسك بإظهار أعلام التاريخ في تلك الفترة كأقطاي وقطز وقلاوون وبيبرس. وقد أدى تعدد الشخصيات إلى عدم التركيز في تصويرها، فبدت في المسرحية شخصيات مكررة لتشابهها في موقفها من الأحداث وتأثيرها عليها. . فأقطاي وقطز في صف عز الدين أيبك، ولم تظهر حقيقة ذلك إلا في نهاية المسرحية، لهذا، كان على المؤلف أن يكتفي بأحدهما، ويبرز بوضوح معالم شخصيته، ويشركه في الصراع إلى جانب عز الدين من أول المسرحية. وكذلك بيبرس وقلاوون فهما في جانب شجرة الدر، وتأثيرهما على الأحداث واحد، فكان من الخير أن يقتصر المؤلف على أحدهما حتى لا يؤدي تعدد هذه الشخصيات إلى تشتيت انتباه المشاهد. وكذلك في تصويره للمصريين، كان من الواجب عليه أن يقتصر على شخصية قاض القضاة وهي الشخصية الأولى بين المصريين. ومن الإنصاف أن نقرر أن شخصية قاضي القضاة قد رسمت في دقة وعناية، وأن المؤلف قد شحنها بالوطنية المصرية، فكانت معبرة عن الآمال والآلام المصرية، وكانت من أهم العوامل في ربط التاريخ بواقعنا الاجتماعي. وكان تأثيرها قويا في إحداث التجاوب بين الممثل والمشاهد.
ومن حيث التصوير العقلي للشخصيات، كان المؤلف موفقا في تصوير عقلية شجرة الدر، وعقلية عز الدين أيبك. إلا أنه قد أنطق بعض الخدم كسنجر وسلافة بالحكمة والفلسفة في بعض المواقف، وبهذا جاوزت هذه الشخصيات حقيقتها الإنسانية. كذلك وزع المؤلف آراءه
وتجاربه العامة، على شخصيات الرواية، فأنطقها بها، فبدت أغلب الشخصيات في مستوى عقلي واحد، وكان على المؤلف في هذه الحالة أن يخصص شخصية واحدة، لينطقها بآرائه، ليفرق بين رأيه ورأي الشخصية الروائية في الموقف المسرحي. كما فعل ألفريد دي فيني في مسرحية (شاترتون) حيث كانت شخصية (كويكر) هي شخصية المؤلف.
وكما فعل بومارشية، في مسرحيته (زواج فيجارو) حيث جعل فيجاروا ينادي بآرائه التي أراد أن يوصلها إلى الشعب الفرنسي.
وفيما عدا هذا، فالمسرحية تعد جزءا للمسرحية التاريخية، من حيث تصوير الشخصيات والبناء الفني، والأسلوب الشعري.
وقد أخرج المسرحية الأستاذ فتوح نشاطي، فصدر في إخراجه عن وعي كامل بالمسرحية وجوها، وعصرها التاريخي. وقد هداه هذا الوعي إلى خلق الحياة التي رسم تصميمها المؤلف في النص المكتوب؛ فالمناظر كانت رمزية في بعض الفصول، واقعية في البعض الآخر. وهي في كلتا الحالتين تشيع الجو التاريخي للمسرحية. وقد بدت الأبهاء والأعمدة والعقود العربية الرائعة في صور طبيعية بعيدة عن الصنعة والافتعال. وكانت ألوان هذه المناظر هادئة حتى لا تجذب انتباه المشاهد فينصرف عن الممثلين. وكانت الثياب ذات ألوان قاتمة لتشد نظر المشاهد إلى الممثل. ولقد ساعدت الإضاءة على خلق ذلك الجو التاريخي الساحر فكانت جزءا مكملا للمنظر. وكانت طبيعية في مسايرتها للوقت.
وليس من شك في أن للمخرج الفضل الأول في تحريك الممثلين في هذه المسرحية الزاخرة بالحركة، وكذلك في تنظيم مجموعة الممثلين الثانويين وبعث الحياة فيها.
ولقد بدا مجهود المخرج في وحدة كاملة طابعها الطبيعة والصدق حتى ليتعذر على العين الناقدة أن تتلمس خطأ أو مغالاة في أية حركة أو منظر. وإنه لمن الإنصاف أن نقرر أن المخرج قد عبأ كل ما يملك من فهم وموهبة وفن في إخراج هذه المسرحية فكان ممتازا في إخراجه.
وقامت الآنسة أمينة رزق بدور شجرة الدر. وهذا الدور هو العمود الفقري للمسرحية من بدايتها إلى نهايتها وقد أحست أمينة رزق بخطر هذا الدور فحشدت له عقلها وإحساسها المرهف وعاطفتها الحارة وفنها الصادق فجسمت الألوان المختلفة التي تصور معالم
الشخصية التي تمثلها. وكانت موفقة في إشراك المشاهد معها واجتذاب قلبه إليها في الأزمات التي كانت تقاسيها على خشبة المسرح. وإذا كانت أمينة رزق ممثلة ناجحة، فقد بلغت في هذه المسرحية درجة من النجاح لم تبلغها من قبل.
وقام الأستاذ أحمد علام بدور عز الدين أيبك. والشخصية التي مثلها ناعمة ملساء تخفي ما تبطن من القسم الأول من المسرحية. وفي هذا القسم كان علام يضغط على العبارات التي أراد المؤلف بها إبراز معالم شخصيته المتملقة الطموح. وفي القسم الثاني عندما بدأت شخصية أيبك تظهر بوجهها الحقيقي ارتفع علام إلى القمة وظل محتفظا بهذا المستوى حتى نهاية المسرحية.
وقام الأستاذ منسي فهمي بدور قاضي القضاة فصدر في أدائه عن إحساس قوي بأهمية هذه الشخصية في ربط الواقع التاريخي بالمجتمع الحاضر. فكان يلهب القلوب بإيمانه الوطني، ويهز المشاعر بنبراته المرتعشة التي تفصح عن غضبه الكظيم.
وبعد. . . فهذه هي الفرقة التي كادت أن تعصف بها الأهواء. وتلقي بأفرادها في زوايا النسيان. . وقد أثبتت اليوم أنها جديرة بالحياة. . .
أنور فتح الله
ربع قرن في خدمة القصة
خمسة وعشرون كتابا قصصيا
بقلممحمود تيمور
1) كل عام وأنتم بخير
2) ملامح وعضون
3) اليوم خمر
4) إحسان لله
5) المخبأ رقم 13
6) فن القصص
7) أبو الهول يطير
8) سلوى في مهب الريح
9) خلف اللثام
10) حواء الخالدة
11) كليوبترا في خان الخليلي
12) شفاه غليظة
13) بنت الشيطان
14) نداء المجهول
15) عطر ودخان
16) مكتوب على الجبين
17) فرعون الصغير
18) سهاد
19) عوالي
20) المنقذة
21) أبو شوشة والموكب
22) قنابل
23) قال الراوي
24) شباب وغانيات (تحت الطبع)
25) ابن جلا (تحت الطبع)
البريد الأدبي
إلى حضرات الأساتذة الجامعيين:
هذه قضية الجامعة، قضية الكلية التي تغاضت عن رسالتها السامية وأغفلت مبادئها الجامعية فنسيت أنها خلقت لتعلم العلم والثقافة والحرية جميعا فجحدت حق رجل من المصريين فأهملت شأنه. . . رجل ليس مغمورا ولا نكرة ولا متخلفا في ركب الحياة، تخرج في مدرسة المعلمين العليا حين تخرج فلم يدع العلم ولا انصرف عن الكتاب فأصاب ثقافة عالية أخرى، نالها من طول ما قرأ ومن طول ما اطلع، ووصل أسبابه بأسباب الصحافة ينشر خواطر قلبه حينا وأفكار عقله حينا. وغير زمانا ثم ضاق بالوظيفة أو ضاقت هي به فتقدم إلى كلية من كليات الجامعة يطمح أن يكون طالبا بين شبابها بعد أن طوى عمر الشباب، فجاءه رد (المسجل) يقول (. . . ونأسف لعدم إمكان قبولكم بالقسم المذكور إذ أن القبول به قاصر على الطلاب الحاصلين على الشهادة التوجيهية. . .)
وخيل للرجل أن (المسجل) لا يملك أن يطرد طلبه على حين يقبل تلامذته فكتب إلى عميد هذه الكلية يقول (. . . ولقد رأيت في هذا الرد وثيقة علمية جامعية، وثيقة فريدة في بابها؛ وهي - إلى ذلك - ذات قيمة خاصة لي ولكل من توسوس له نفسه أن يلتحق بالجامعة طمعا في الاستزادة من العلم فحسب فأردت أن أنشرها أمامكم لأرى رأيكم)
ولبث الرجل حينا ينتظر رأي العميد، ولكن (صاحب السعادة) أصم أذنيه فلم يلق بالا إلى الأمر ولم يلق السمع إلى الشكوى. ولست أدري أكان ذلك سهوا منه أم إغفالا منه أم امتهانا لشأن الرجل الذي لم يعرفه بعد.
ورأيت أنا في هذا التعنت وهذا التغاضي ما يمس الروح الجامعية الحرة مسا عنيفا يشوه معاني الحرية والعلم التي اتسمت بها الجامعة منذ أن كانت. فأردت أن أجد الرأي الذي عزب عني في حضرات الأساتذة الجامعيين الإجلاء، وفي رأيي أنهم لن يضنوا بالرأي وهم قادة الرأي، ولا أن يبخلوا بالفتوى وهم نبراس الهدى.
وعجبت أن تقبل الكلية (الطلاب الحاصلين على شهادة التوجيهية) وترفض طالبا حصل على دبلوم المعلمين العليا، وأشكل على الأمر فخيل إلى أن دبلوم المعلمين العليا - في رأي الجامعة - أقل من شهادة التوجيهية. فبدا لي أن هذه المشكلة العلمية الجامعية مشكلة ذات
بال تقف بازائها عقول أساتذتنا العظماء حينا من الزمن. وأنا الآن في انتظار الرأي الذي يطمئن الخاطر أولا فلا جناح علي إن أنا بحثت هذا الأمر على نطاق واسع أفصل فيه ما أجملت هنا ولي قلم لا يتعثر يعرفه كل مثقف يغار على الروح الجامعية ويضن بها عن أن تنهار في أكبر جامعات الشرق.
كامل محمود حبيب
أين شعراؤنا؟. . .
تمر بنا مناسبات قومية كثيرة، وأحداث وطنية هامة، ويموت عظماء وقادة، ونستقبل أعيادا وطنية، فلا نسمع شاعرا يصور لنا بالقريض احساسات الشعب وشعوره، فيسجل تلك الأحداث في قصيدة ينظمها!. . .
فأين شعراؤنا؟!. .
وهل يعيشون في واد غير وادينا؟!. .
ومالهم صامتين. . لا نحس منهم من أحد، أو نسمع لهم ركزا؟!. . .
ترى. . هل هجرتهم شياطينهم. . أم ملت نفوسهم القوافي؟!. .
لقد ترك الشعراء السابقون تراثا من الشعر، سيظل خالدا مادامت السماوات والأرض. . فهذا (شوقي) لم يترك مناسبة من المناسبات، داخلية كانت أو خارجية، إلا قال فيها الشعر عذبا، طليا. . .
وكذلك كان (حافظ إبراهيم). . وكذلك كان (خليل مطران). . وكذلك كان (علي الجارم). . وكذلك كان (علي محمود طه). . فأين خلفاؤهم في مملكة القريض؟!. .
كيف لا تحرك كل تلك الأحداث مشاعر الشعراء وتلهمهم قول الشعر، فيرتلون من آياته ما يروي ظمأنا!. . .
أين أنتم أيها الشعراء؟!. .
ليحمل كل منكم قيثارته. . . فكلنا شوق إلى هذه القيثارة!. . .
عيسى متولي
رد على نقد: في رحاب الصوفية
تفضل الصديق الأديب الأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر فخص كتابي (في رحاب الصوفية) بكلمة تعريف في الرسالة الزهراء، ولم تصده زمالته السابقة ولا صداقته الباقية عن النقد والوخز الخفيف، وقد كنت أود لو أسلم للبدر ما كشف بضوء بيانه من مؤاخذة، إذن لسلمت راضيا، ولكن معذرة إليه إذا ما رأيت في تعريفه بالكتاب ما يستحق الرد أو التنفيذ.
فهم الأستاذ بدر أن الكتاب لغير الخاصة وهذه مجانبة للحقيقة والواقع، وأظن أن البحث في شطحات الصوفية ودرجاتها المقبولة والمرذولة، والكلام في وجوه التفسير الإشاري التصوفي للقرآن، وفي شروط الدعاء وأهدافه العامة والخاصة في الإسلام، ليس من الحديث للعامة، بل هو من خصائص الخاصة؛ وهناك في الكتاب فصول توفر لها (العمق) الذي يفتقده الأستاذ، ومن أمثلة ذلك استخلاص الصوفية للخير من مواطن الشر، وما في مناجاة ابن عطاء الله من أسرار، وما في ورد الصباح وورد المساء من رموز وتركيز.
ولا يمنع هذا أبدا من أن يكون المؤلف قد حاول بما استطاع أن يدني مسائل الكتب الدقيقة العميقة من الألباب بوضوح الخطاب!.
ويأخذ الناقد على الكتاب أنه لم يذكر معنى كلمة التوصف؛ وقد فاته أن خطة الكتاب كما جاء في المقدمة أن يكون جولة في رحاب الصوفية محرضة على متابعة الجولات، والحديث بعد هذا عن معنى الكلمة مستفيض مشهور، وقد طال الكلام عن اشتقاقها أو استقائها من الصفة أو الصفة أو الصفاء أو الصوف أو قبيلة صوفه، أو غير ذلك؛ وللمؤلف قبل هذا بحث طويل منشور عن (التصوف والإسلام) وفي كلمة (تصوف) حقها من البحث، ولو في ظنه هو على أقل تقدير!.
ويتمنى الناقد لو أن الكتاب تعرض لأدعياء الصوفية في القرى، وأظن كما يظن أن مجال البحث العلمي يترفع عن مثل هذه المجالات، وفوق هذا فإن المؤلف لم يسر في كتاب الصوفية على الدوام، بل نقدهم وميز بين طيبهم وخبيثهم، وذكر لهم شطحات وصفها بأنها طائشة شاذة غريبة، وفي ص 30 قال ما نصه:(وهؤلاء الأدعياء هم أخطر الناس على المجتمع وعلى الحياة وعلى الأحياء وعلى المسلة الكريمة. . .) الخ وفي ص 61 قال عن تراث الصوفية: (ولطبيعة الحال سترى تراثا ضخما شتيت الأصناف والألوان، وسترى فيه ما يعجبك وما يغضبك وما يروقك وما يعوقك) الخ. . .
أليس هذا دليلا على أن المؤلف لم يطلق المدح للصوفية، بل خصه بالصادقين الطاهرين الطيبين منهم؟.
أما بعد فقد فهمت من كلام الناقد أنه يزن الكتاب بميزان اللحم، والكتاب المنقود المضغوط في طبعه، الدقيق في حروفه، لو طبع كما يطبع البارعون في تكثير القليل كتبهم لملأ عينه كبره ومبناه، كما أعجبه موضوعه ومغزاه؛ وأنه لمشكور على كل حال!
أحمد الشرباصي
المدرس بالأزهر الشريف
بيتان لحسان بن ثابت: -
جاء في كتاب (من أضواء الماضي) الذي نشرته دار المعارف في أول أكتوبر سنة 1950 للأستاذ (سامي الكيالي) بيتان من الشعر نسبهما لابن عباس وهما:
إن يأخذ الله من عيني نورهما
…
ففي لساني وسمعي منهما نور
قلبي ذكي، وعقلي غير ذي دخل
…
وفي فمي صارم كالسيف مأثور
والواقع أن هذين البيتين ليسا لابن عباس رضي الله عنه، وإنما هما لشاعر الرسول (حسان بن ثابت)، قالهما عندما فقد بصره. وقد ورد البيتان في ديوان (حسان بن ثابت الأنصاري) الذي شرحه المرحوم الأستاذ (عبد الرحمن البرقوقي) والذي نشره صاحب المكتبة التجارية الكبرى بمصر، في صفحة 165.
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج
القصص
على الشاطئ المجهول
للأستاذ أحمد شاهين
قال الزاهد الرحالة أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الخواص. .
. . . وفي يوم جميل صفت سماؤه واعتدل هواؤه ركبت البحر في لفيف من الصوفية نريد بعض البلاد الإسلامية التي انتهى إلينا من أخبارها ما حبب إلينا السفر إليها وزيارة العارفين وأهل العلم فيها؛ أولئك الذين فرقهم الله في الأرض كما فرق النجوم في السماء للنور والهداية. ودلالة الخلق على الخالق؛ ونحن في التماس النور عند هؤلاء بالتنقل والأسفار أشبه بالتجار بيد أن بضاعتنا لا تكون من زهرة الدنيا ومتاعها بل هي من زاد الآخرة وكفا والسفر عندنا بعض أساليبنا الصوفية في رياضة النفس المؤمنة على الرضا بالقدر وقبول الحياة الدنيا في مختلف أشكالها وأحوالها. ومن سنن الحياة الثابتة أنها لا تثبت على حال؛ وقد لا يشق على النفس إذا اعتادت التحول عن مكان إلى آخر ومفارقة الأهل والأحباب وما ألفت من العوائد والمشاهد أن تتحول مع الحياة على الحلو والمر؛ وأن تصبر لصروف الدهر فلا يغرب عنها صوابها أو يضل ضلالها إذا جرت عليها الأحداث والمكارة. . . بلى. . . وأن من سنن هذه الحياة أن لا تستقيم للأحياء على الأرض إلا بنور من السماء، فإذا ما حادت منهم جماعة عن ذلك النور السماوي تناولتها سنة بقاء الأصلح بالمحور والانقراض فلم تبق منها إلا آثارها لتحدث أخبارها لأمثالنا من السائحين في الأرض للنظر والمعرفة والاعتبار.
. . . وسارت بنا السفينة باسم الله مجريها ومرساها في جو صحو وماء رقراق، وذهب قرص الشمس يتهادى بجوارها على صفحة الماء الفضية التي رفت عليها أشعة الأصيل فتماوجت بألوان كبريق الذهب والفضة وراح الشاطئ الأخضر يتباعد رويدا رويدا حتى اختفى وأمسينا بين الأزرقين. . . البحر والسماء، ثم أقبل الليل فتوارى عنا قرص الشمس كأنما خر عن الأفق الفاني إلى أعماق المحيط، وما أروع الطبيعة إذا خلعت بياض النهار وغشيها الليل بظلامه المطبق وصمته الرهيب.
. . قال أبو إسحاق. . . وفي روعة الجلال السافر ومظاهر الإبداع الباهر وجمال الطبيعة
الساحر نسينا نفوسنا وحلقت أرواحنا في ملكوت السموات والأرض، وغنى الملاحون حبورا بهذا الجو الجميل وتعالت أصواتنا بالتهليل والتكبير والثناء على رب هذا الكون العظيم فإنما الطبيعة لدينا محراب كبير تتجلى فيه مظاهر القدرة الأزلية في شتى المرائي والصور، فلا تكون نظرات العارف في مشاهد الطبيعة إلا كتأملاته في سور القرآن. والطبيعة كتاب الله المنشور والقرآن كتابه المسطور، وكلاهما تعبير عن وجود الله وكماله، بيد أن التعبير هنا بالآيات والسور المحكمة، وهناك بالمناظر والصور المجسمة؛ ومن ثم نجد القرآن كثيرا ما يحيل العقل في فهم معانيه وتحقيق براهينه على كتاب الطبيعة الخالد.
. . . قال وإنا لكذلك في نشوى وتأمل، وخشوع وتبتل، وقد فاتنا أن البحر أشبه ما في الحياة بالحياة فما ينفك يتلون ويتبدل وتتعاقب عليه المكارة والأهوال، ودوام الحال فيه من المحال، إذا بالسماء الصافية وقد غارت نجومها وتلبدت غيومها، وإذا بالريح الرخاء تهب علينا عاتية هوجاء، فهاج البحر وماج، وعج العجاج وتلاطمت من حولنا الأمواج وترنحت الفلك وجعلت الأعاصير الهوجاء تصارعها والأمواج الثائرة تتقاذفها هنا وهناك وهنالك. . . هاجت الريح فهاجت بنا المخاوف وأرعدت السماء فارتعدت الفرائص واضطربت القلوب بين الجوانح، وأشرفنا على الغرق واشتد الهول فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، هنالك أقبلنا على الله منيبين إليه تائبين، وبسطنا أيدينا بالتوسل والدعاء، ولو أن أشد الناس عنادا وأظلهم إلحادا ركب البحر فجاءته ريح عاصف وأحاط به الموج من كل مكان وبدا له شبح الموت الرهيب يسعى إليه في اللجة بين ريح عاصف ورعد قاصف وبرق خاطف وسحاب مركوم لانجابت الغشاوة عن بصيرته ولآمن لساعته؛ ذلك بأن دواعي الإيمان تلم آنئذ بأمراض النفس الضالة كما تسقط أشعة الشمس على قطع الجليد. من هنا دعا الإسلام إلى الإيمان بالرحمة والخوف، وناضل عن الحق بالبرهان وبالسيف. . . ثم وقعت الواقعة وارتطمت السفينة واندفعت بها الأعاصير إلى صخرة عظيمة فتحطمت وتناثر في اليم أشلاؤها وركابها جميعا.
. . . قال أبو إسحاق: تحطمت سفينتنا ولكن لم تتحطم ثقتنا بالله ورحمته ولطفه فتشبثنا بحطامها وجرفنا التيار الزاخر فجعلنا نغوص ونطفو والأمواج تتقاذفنا وقد غبنا عن الوجود حتى انتهينا إلى شاطئ لا ندري أي شاطئ هو فوقعنا على البر ساجدين شكرا لله الذي
نجانا من هاته المحنة الرهيبة، فلما أصبحنا وجدنا أنفسنا بأرض كأنها واحدة من هاتيك السيارات الوعرة التي بخلت عليها الطبيعة بالحياة؛ فإذا رأيت ثم رأيت هضابا شامخة وكثبانا عريضة وصخورا متراكمة وصحراء قاحلة تترامى حتى كأنها تلتقي بالسماء عند الأفق البعيد، وكأن البحر قد اغتال متاعنا كما اغتال سفينتنا فانتشرنا في هذه الأرض المجهولة باحثين عن شيء يمسك علينا رمق الحياة من صيد أو نبات، وذهب النهار وذهبت جهودنا أدراج الرياح وعدنا من حيث أتينا وقد أنهكنا التعب وألح علينا الجوع فقضينا على الطوى ليلة أخرى، وعند مطلع الفجر قمنا إلى الصلاة ثم تفرقنا في جهات شتى بحثا عن القوت حتى انقضى اليوم ولم نعثر على شيء فبتنا بليل أليم. فلما تنفس الصبح وصلينا الفجر لبثنا في موضعنا منهوكين حيارى حتى قال قائل منا ما ينبغي لنا أن نستسلم للموت هكذا ولن نرزق ونحن هاهنا قعود يائسون ولكن يطلب الرزق بثلاثة: العمل والأمل والتوكل على الله، فانتشروا في الأرض ينشر لكم ربكم من رحمته. وقال آخر تعالوا نجعل لله على أنفسنا شيئا إن هو خلصنا من هذه الشدة؛ فنذر بعضنا صياما ونذر بعضنا صدقة. وقال آخر أصلي كذا وكذا ركعة، ونذر بعضنا حجا إلى أن قال كل منا شيئا وبقيت أنا مطرقا لا أتكلم، فقال أحدهم. ما لك لا تجعل لله عليك نذرا فعساه يفرج ما بك فإنك حري بأن تطلب الخير إن نؤتيه وإلا فإنك لا تجني من الشوك العنب؛ فقلت لله على أن لا آكل لحم فيل أبدا، فتصايح رفاقي غاضبين وقالوا: أو تهزل في مثل هذا الظرف العصيب؟ قلت تالله ما الهزل أردت ولا قصدت بقولي مزاحا ولا دعابة ولكنني فكرت مليا فيما أدعه لله فما خطر ببالي ولا جرى على لساني إلا هذا النذر العجيب. ولعله وقع مني كما وقعنا نحن على هاته الأرض الغامضة لأمر يراد؛ فانظروا ماذا بعدها مما كتبته لنا الأقدار على صفحات الليل والنهار.
. . . قال وتفرقنا في فجاج الأرض وتوغلنا في مسالكها حتى مال ميزان النهار واصفر وجه الشمس وطفقت تطوى ذيولها الوردية عن الآكام والرمال حتى توارت بالحجاب. وعاد رفاقي تباعا دون أن يجدوا شيئا إلا واحدا منا أبطأ في العودة حتى ظننا أنه قد هلك في أحشاء الصحراء من فرط التعب والإعياء. فارتمينا على الأرض منهوكين حيارى لا نكاد نقوى حتى على الكلام وإنا لكذلك إذا بصاحبنا الغائب مقبلا علينا يلهث ويرتعد مما به
من التعب فألقى عن كاهله شيئا وإذا هو ولد فيل صغير فاجتمع عليه رفاقي فاحتالوا به حتى ذبحوه وجعلوه سليخا مشويا وأقبلوا ينهشون من لحمه إلا أنا فقد لزمت موضعي فقالوا تقدم وكل ولا عليك من نذرك السابق فإن لك فيه عذرا. . . قلت إني لأعلم أن الضرورات تبيح المحذورات ولكن قلبي يحدثني أن من وراء هذا الاتفاق العجيب سرا في ضمير القدر، وقد علمتم أني تركت لحم الفيل منذ ساعة تقربا إلى الله وما كنت لأرجع في شيء تركته له ومن يدري. فقد يكون هذا الذي جرى على لساني وأنكرتموه مني إنما هو لحضور أجلي من دونكم لأني ما أكلت شيئا منذ أيام وما أطمع في شيء آخر وما يراني الله أنقض عهده ولو مت وأني لمؤمن بالقدر راض بتصاريفه مهما تراءت الآن عجيبة قاسية فصبر جميل حتى يبلغ الكتاب أجله. . واعتزلتهم وأكلوا حتى فرغوا وسرعان ما غشيهم النوم فراحوا في سبات عميق وارتفع غطيطهم وبقيت وحدي ساهرا أتململ مما في أحشائي من آلام الجوع وهيهات يأوي النوم إلى عين استبد بها الخوف أو برح بها الألم وألح عليها الجوع القاسي؛ فذهبت أتشاغل بالإنصات إلى صفير الرياح في الصحراء وهدير الموج في البحر الخضم وأتأمل البدر المتألق في صدر السماء العاري وهو يرسل أشعته الفضية على الرمال والآكام ويشق طريقه بين النجوم متثاقلا واجما كأنه يرثي لحالي التعسة وقد ساد السكون وخيم الليل الموحش على المكان فتولاني خشوع عميق شغلني بعض الوقت عما أعانيه من الحيرة والألم.
قال أبو إسحاق وفي جوف الليل الصامت وسكون السحر الرهيب ترامى إلى سمعي صياح بعيد جعل يقترب ويرتفع في الفضاء سريعا وإذا أنا بفيل ضخم أقبل يقتفي أثر ولده حتى وقف علينا وعاين أشلاء ولده الذبيح فصاح صيحة نكرا. أفزعت رفاقي من سباتهم بيد أنهم لم يستطيعوا النهوض أو الفرار مما أخذهم من الفزع والذهول؛ فأقبل عليهم الفيل وجعل يمد خرطومه إلى الواحد منهم فيشمه فإذا وجد منه ريح لحم ولده رفع رجله فوضعها عليه وتحامل حتى يهشم أضلاعه فيقتله ثم يميل إلى صاحبه فيفعل به كذلك وقد انطرح القوم على الأرض وذهبوا يرددون الشهادة التي هي آخر الزاد من الدنيا. ورحت أنظر الفيل وهو يبطش برفاقي واحدا واحدا وقد جمد الدم في عروقي وانعقد من الروع لساني وخارت قواي ونضح جسدي بالعرق البارد وطارت نفسي شعاعا فرحت أتمتم بالاستغفار والشهادة
التي أشرقت بها روحي المودعة حتى انتهى إلي الفيل فمد خرطومه إلى فمي فانخلع قلبي ووجدت ريح الموت من أنفاسه فشم كل مكان في جسدي من رأسي إلى أخمص قدمي ثم رفع خرطومه وصاح صياحا منكرا خلت أنه زلزل الصحراء ثم أقبل علي ثانيا يقلبني ظهرا لبطن ويشمني هنا وهناك وقد غبت عن الوجود. . . وأخيرا لف علي خرطومه فرفعني في الهواء فقلت حضر الأجل ولكنه وضعني على ظهره ثم انكفأ راجعا فجهدت أن أثبت مكاني وانطلق بي الفيل يشتد عدوا فتارة يصعد بي في الهضاب وتارة ينحدر بي في الأودية ويسعى في الدروب الملتوية ويقتحم الأحراج والأدغال الكثيفة والليل الحالك مخيم على الوجود وصفير الرياح يقرع أذني في جوف الغابة الحالكة كأنه عزيف المردة التي تريد أن تتخطفني من كل مكان؛ وكان الفيل يهدأ أحيانا فيساورني الأمل الضئيل قي النجاة ثم يشتد عدوه فأتوقع أنه سيثور بي فيقتلني فأعاود الاستغفار والتشهد.
. . . قال وانتهى الفيل إلى أرض عريضة وكان الفجر قد أطل على الدنيا ونشر أشعته الفضية الحالمة فاستبانت لي طريق تشق المزارع الخضراء إلى حيث لا أدري؛ فدنا منها الفيل فرفعني عن ظهره فقلت إنا لله جاء الموت؛ بيد أنه أقامني على الطريق ثم ولى مدبرا. واتخذ سبيله في الأرض هربا فما عدت إلى صوابي إلا حين برزت الغزالة من خدرها وأضاءت المكان بنورها الذهبي الجميل فانبعثت أعدو في الطريق وأنا لا أصدق بالخلاص حتى بلغت قرية آويت إليها فعجب مني أهلوها وسألوني عن أمري فقصصت عليهم ما كان فزعموا أن الفيل سار بي في هذه الليلة مسيرة أيام واستطرفوا سلامتي فلبثت فيهم أياما حتى صلحت حالي من تلك الشدائد، وتندى بدني وعادت نفسي سيرتها الأولى. ثم خرجت في نفر من التجار إلى بلد على شاطئ البحر فركبته وأقلعت بنا الفلك في يوم طيب. ورزقني الله السلامة إلى أن عدت إلى بلدي وبقيت نفسي مليئة بهذه الذكريات الحزينة. ما عشت فلن أنسى أولئك الرفاق البررة الذين طالما طوفت معهم في الآفاق حتى ألقوا عصا التسيار. وأطبقوا جفونهم إلى الأبد على الشاطئ المجهول.
أحمد شاهين