المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 907 - بتاريخ: 20 - 11 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٩٠٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 907

- بتاريخ: 20 - 11 - 1950

ص: -1

‌علي محمود طه في يوم ذكراه

(تناولت أمس بالبريد مجموعة (زهر وخمر) للشاعر الساحر علي محمود طه فصار عندي من مجموعاته الخمس اثنتان: الملاح التائه وزهر وخمر. أما ليالي الملاح التائه، وأرواح شاردة، وأرواح وأشباح، فستصلني بالبريد حالما يقع نظر أخي الشاعر على هذه الكلمة، فأنا أحبه وأحب شعره. ولن أكلف نفسي مشقة إفهام خصومه لماذا أحب شعره ولماذا أحبه. . فإذا كان شعره لا يستطيع أن يضع في عيون أولئك الخصوم نورا، وفي أنوفهم عطورا، وفي قلوبهم شعورا، فلن يستطيع لساني!! فيا خصوم علي محمود طه: ستموتون ويبقى هو حيا، فغراب الموت البشع ينعب في سطوركم، وعروس الحياة الجميلة تحلم في قصائده.

ألا تعرفون حكاية الضفدع والحباحب؟ إذن فأسمعوها:

رأى ضفدع يوما حباحبا يلمع على حافة غدير، فخرج إليه قذرا ساخطا وراح يبصق عليه. فقال الحباحب: ماذا فعلت بك؟ من أين جاءك هذا الغضب؟ فأجابه الضفدع: وأنت من أين جاءك هذا اللمعان؟!

على أن ما يعزيني ويطربني ويملأ نفسي رجاء أن الإقبال على شعر علي محمود طه كبير، وفي هذا دليل كاف على أن الشعور بالجمال مطرد النمو في مصر كما هو في لبنان!

فيا أخي الشاعر علي محمود طه: أنا أقطن أجمل بقعة في الأرض: ورائي صنين شيخ الجبال، وأمامي وحولي أروع أعذب ما مهرت به الطبيعة بلدا من بلاد الله: شاطئ كشعرك ذهب وفضة. . فضة حين أتركه في الصباح إلى المدينة، وذهب حين أعود إليه في المساء وخليج كله فتنة كشعرك في (الجندول) وفي (كليوباترا) فاتنة الدنيا وحسناء الزمان. ورواب كشعرك شماء وادعة. وسماء. . سماء كأنها شعرك: جمال وحب والهام. وجو كله كشعرك غناء. وماذا أقول بعد؟

في هذه البقعة الطيبة، في هذا الإطار الساحر، قرأت شعرك أو قل تغنيت به وأحببتك. . ويقيني أنك ستجيء يوما إلينا، فأصعد بك إلى الشيخ صنين وننحدر معا إلى الروابي فالخليج فشاطئ الذهب والفضة. ويقيني أيضاً أن هذا الجبل سيظفر منك بأغنية أشجى من أغنية لامرتين في شاطئ سرنته!)

إلياس أبو شبكة

ص: 1

هذه الكلمة المشرقة إشراق الفجر، المحلقة تحليق الشعر، الهادرة هدير القمم، وجهها شاعر لبنان المبدع إلياس أبو شبكة إلى شاعرنا العبقري علي محمود طه بعد أن فرغ من قراءة ديوانه (زهر وخمر). . وكان ذلك منذ سبعة أعوام!

وقعت عيناي على هذه الكلمة، فأثارت في نفسي من الخواطر الحزينة ما أثارته ذكرى الشاعر الصديق. . ألأنها تصل اليوم بالأمس، أم لأنها تصور الواقع فتصدق، أم لأنها نفحة من نفحات الوفاء؟ قد يكون هذا كله مبعثا لتلك الخواطر الحزينة، ولكن الموجة الأولى التي غمرت شواطئ النفس بالأسى القاهر والأسف المقيم، هي أن أبا شبكة قد ودع الحياة فلم يملأ مكانه شاعر في لبنان، وأن علي طه قد فارق الدنيا فلم يشغل فراغه شاعر في مصر!!

مات شوقي هنا فقال الناس من بعده: لقد مات الشعر. . . قالوها وهم لا يرجون خيرا من الشيوخ ولا يعقدون أملاً على الشباب، لأن رفة الجناح الضخم عند شوقي وامتداد أفقه الرحيب لم يكن لهما في ذلك الوقت شبيه ولا نظير. أما الشيوخ فقد ظل شوقي طاغيا عليهم بشعره، مخمدا لأصواتهم بذكره، ساخرا من أصدائهم برجع صداه! وحين برز من بين صفوف الشباب شاعر جهير الصوت رصين الأداء شجي النغم، تطلعت إليه العيون وخفقت القلوب واشرأبت الأعناق. . كان علي طه في ذلك الحين لا يزال يشق الطريق؛ يشقه في قوة المؤمن وعزيمة المجتهد وأمل الواثق من بلوغ ما يريد. وكان الطريق تحت قدميه مفروشا بالصخور والأشواك: صخرة من حاقد، وشوكة من حاسد، وغمزة تنطلق من وراء لسان، وأخرى تنبعث من مداد قلم.

ولكن صيحات العطف والإعجاب كانت تغطي على صيحات الحقد والإنكار. . ومضى الزاحف المظفر وعيناه إلى الأمام، لا يلقي إلى الخلف نظرة، لأنه كان يؤثر ألا يمد عينيه إلى المتخلفين!

وكان الذين يغارون منه ويحقدون عليه، فئة من الشباب وحفنة من الشيوخ. . أما أولئك فقد راعهم ألا يسطع من بينهم غير أسم واحد، وألا يخرج من صفوفهم غير شاعر فرد، وألا يلحق به منهم لا حق في مضمار. وأما هؤلاء، فقد هالهم أن يملأ المكان الشاغر صوت ينبو على سمعهم لأنه صوت جديد، وجناح يشذ عن أفقهم لأنه منقطع الأواضر بالأمس

ص: 2

البعيد. . وكأن النبوغ في رأيهم لا يحسب بعدد المواهب والملكات، وإنما يحسب بعدد السنين والأيام!!

وها هي أمواج الأثير تنقل الصدى في ذلك الحين من مصر إلى لبنان، فتهز عواطف الشعر في نفس إلياس أبي شبكة، وتشحذ بين يديه شباة القلم، وتطلق من بين شفتيه هذه الكلمات:(ولن أكلف نفسي مشقة إفهام خصومه لماذا أحب شعره ولماذا أحبه. . فإذا كان شعره لا يستطيع أن يضع في عيون أولئك الخصوم نورا، وفي أنوفهم عطورا، وفي قلوبهم شعورا، فلن يستطيع لساني)!!

كان ذلك بالأمس. . أما اليوم، وقد انقضى على وفاة علي طه عام في حساب الزمن، فلا أظن أن الموت قد مسح بيد النسيان ما علق ببعض النفوس من أحقاد. ذلك لأن الموت حين أخذ علي طه لم يستطع أن يأخذ شعره. . وبقى هذا الشعر راسخا في الضمائر، ماثلا في الخواطر، نابضا في القلوب! وأهتف في يوم ذكراه كما هتف إلياس أبو شبكة منذ أعوام: (فيا خصوم علي محمود طه: ستموتون ويبقى هو حيا، فغراب الموت البشع ينعب في سطوركم، وعروس الحياة الجميلة تحلم في قصائده9!!

وسلام عليك يا صديقي. . . سلام عليك في الخالدين.

أنور المعداوي

ص: 3

‌الألعاب العربية

للأستاذ محمد محمود زيتون

- 3 -

رأينا في المقال السابق كيف التقت التربية البدنية بالتربية الدينية عند مبدأ الإخاء حيث تسود الألفة بين المتلاعبين.

ويحرص النبي عليه الصلاة والسلام على أن يكون الناس في جدهم ولهوهم إخوانا وزملاء فهو القائل (تآخوا في الله أخوين أخوين).

والقائل (لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده) ولهذا كان المسلمون في شتى مراحل الدعوة المحمدية أخوين أخوين.

وخرج عمر بن الخطاب يوما في سفر فقال لمن كان معه (ألا تزاملون) وزامل بين كل اثنين.

وحول هذا المحور من الإخاء دارت الألعاب الإسلامية فكان دورها حلقة ذات مكانة مرموقة في تعاليم الإسلام؛ ذلك الدين الذي الآن من عنفوان عمر حتى قال (ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي فإذا التمس ما عنده كان رجلا) وكذلك حقا كان عمر مع أولاده الصغار فقد كانوا يركبونه ويسحبونه ويسوقونه وهو أمير المؤمنين وفاتح الأمصار، وما كان أسعده بهذه اللحظات من اللهو البريء الذي هو اللعب المشروع من غير تناقض مع وقار الخليفة وجلال الخلافة، فلما دخل عليه أحد الولاة ورآه على هذا النحو الذي ذكرناه أستنكره منه وعندما سأله عما يفعله هو في بيته قال بما يفيد جفوته مع أهله فعزله أمير المؤمنين.

ومن هذا الباب أيضاً ما قاله علي بن أبي طالب (سلوا هذه النفوس ساعة بعد ساعة فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد) وهل تكون هذه التسلية إلا باللهو واللعب الذين هما جلاؤهما وصقالها؟

وفي هذا يقول أبو الدرداء الصحابي الجليل (أني لأستجم نفسي ببعض اللهو ليكون ذلك عونا لي على الحق).

ولما كان من أغراض التربية الكاملة تهذيب النفس بترويض الأعضاء على الفنون

ص: 4

والصناعات فإن القائمين على شؤون التعليم قد رفضوا دروس الأشغال في المدارس، وبهذا اللون من التربية اليدوية اتسمت حياة النبي الكريم.

سئلت عائشة: كيف كان النبي إذا خلا في بيته؟ فقالت: كان ألين الناس وأكرم الناس؛ وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان ضاحكا بساما.

وسئلت. ما كان يصنع في بيته: فقالت: ما يصنع أحدكم: يرقع ثوبه ويخصف (يخرز) نعله ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة؛ وكان يعمل عمل البيت وكثر ما يعمل الخياطة.

وكان رسول الله (ص) يضمر الخيل ليسابق بها، وهو الذي جعل للسباق حدودا لا يتعداها لهو المؤمن إذ قال (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) وما أرفع الغاية التي ينشدها نبي الإسلام للمؤمنين إذ يقول لهم (الهوا والعبوا فإني أكره أن أرى في دينكم غلضة) وتلك من غير شك غاية التربية البدنية، وما أنبلها من غاية.

وتقول عائشة أيضا: كان رسول الله يخصف نعليه وكنت أعزل

وسواء كانت هذه الصناعات اليدوية الصغرى مقصودة لذاتها أو لمجرد اللهو وسد أوقات الفراغ أو مقصودة للكسب المادي فإن كلا الأمرين شريف ومشروع وإن كنا لا نزال نعتقد أنها من ألزم اللزوميات لكل الناس ولا سيما ذوي الهيئات. ونحن نعلم عن مستر تشرشل وقد كان ولا يزال من مديري دفة السياسة البريطانية بل العالمية أنه من المغرمين بالرسم وكثيرا ما يذهب إلى سويسرا لرسم المناظر الطبيعية بريشة الفنان بحيث يستجم لنفسه في مهمته السياسية وما أثقل أعباءها.

وعندنا نحن من النماذج الإسلامية ما يزاحم الرءوس الكبار بما كان لها من أثر فعال في تغيير وجه التاريخ تغييرا شاملا؛ فهذا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء وقد عرف عنه أنه كان يذهب وحيدا بعيدا في صيد الوحوش الكواسر وطالما طالع أهل مكة بقوامه الفارع وشبابه المتوثب وهو يتقلد سيفه يتنكب قوسه وينتضى في يديه السهام ويختصر الحراب.

وكان عمر من المهتمين بالتربية عن طريق الأشغال اليدوية والألعاب الرياضية إذ يقول (من خط وخاط وفرس وعام فذاكم الغلام) وبهذا لم يهمل هذا النوع من الأشغال الذي يسمى بالإنجليزية (هوبة). وكان رسول الله يشجع على توجيه الصغار نحو مشاهدة الطبيعة

ص: 5

وتأمل الأحياء؛ فقد دخل على أم أنس بن مالك فوجد ابنها أبا عمير حزينا مغتما فقال لها: (يا أم سليم ما بال أبي عمير حزينا؟) قالت: يا رسول الله مات نغيره (عصفوره) فتلفت النبي إليه وقال: (أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان كلما رآه قالها له مداعبا.

ولا شك أن نوع اللعبة تحدده الغريزة الجنسية. كما أنها تستجيب لغريزة حب الاستطلاع، ثم هي مجال طبيعي يتعرف فيه الناشئ على خصائص الحيوان، وفيه تمتد آفاق الخيال، وتتكشف الانفعالات والعواطف نحو الحياة والأحياء في أبسط صورة.

وغريزة اللعب هذه ملازمة للإنسان من المهد إلى اللحد لا تبرح سلوكه ولا ينفك عنها نشاطه.

فلا تعارض بين اللعب والسن مهما يكن من هيبة ووقار.

فقد دخل النبي على عائشة وعمرها تسع سنين، وكانت لعبتها في يدها، ومعها صواحبها في أرجوحة بين نخلتين، فأنزلتها أمها من الأرجوحة لتزفها إلى رسول الله.

ولم تنس عائشة لعبها بعد أن أصبحت زوجة فهي تقول (قدم رسول الله من غزوة تبوك أو حنين فهبت ريح فكشفت ناحية من ستر على صفة في البيت عن بنات لي فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع. قال: وما هذا الذي أرى وسطهن؟ قلت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قلت. جناحان. قال: جناحان؟! قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ فضحك حتى بدت نواجذه)

والإسلام يقر اللهو البريء الذي لا يفسد الطبع ولا يصرف عن الجد، وما أصدق روح الإسلام في بيت البارودي إذ يقول:

سواي بتحنان الأغاريد يطرب=وغيري باللذات يلهو ويلعب

إلى ما في هذه القصيدة من اعتزاز بالدأب على طلب العلا، وافتخار بنفس أبية لها بين أطراف الأسنة مطلب، ولها مع الوحوش صراع، فلا عجب إذا أصغرت هذه الهمامة كل مأرب.

واستقبلت جويريات بني النجار رسول الله بالمدينة بالأناشيد والمعازف؛ كما أخذ الأحباش يلعبون بالحراب بين يديه، وأخذت جاريتان تضربان بالدف في بيته فلم ينكر عليهما ذلك حتى إذا دخل أبوبكر منعهما فقال له النبي: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا.

ص: 6

وذهبت عائشة يوما إلى عرس في بيت للأنصار فلما رجعت سألها النبي: (أهديتم الفتاة إلى بعلها؟) قالت: نعم. قال: (فبثتم معها من يغني؟) قالت: لا. قال: (أر ما عملت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ألا بعثتم معها من يقول:

أتيناكم أتيناكم=فحيونا نحييكم

ولولا الحبة السمرا_ء لم نحلل بواديكم

والعرب تطلق كلمة (المقلس) على الرجل يلعب بين يدي الأمير إذا قدم المصر.

والمداعبة والمضاحكة مما يدخل في باب اللهو واللعب بغية التسلية والترفيه، كما كان يفعل النبي، فقد قال لعجوز:(انه لا يدخل الجنة عجوز) فحزنت، ولكنه لم يلبث أن تلا عليها قول الله تعالى (عربا أترابا) فضحكت واستبشرت. لأنها سترتد في الجنة صغيرة السن عذراء حسناء، وذلك ما تتمناه المرأة للطبع المركب فيها.

وليس المزاح من المداعبة في شيء، لما له من أسوء الأثر في النفس، لهذا نهى النبي عنه. ويروى أن رجلا أخذ نعل رجل فغيها وهو يمزح فذكر ذلك للنبي فقال:(لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم) وقال في حديث آخر (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا) كما نهى عن المزاح بالسلاح فقال: (لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان يترع في يده فيقع في حفرة من النار).

وكان الإسلام حريصا على صيانة السباحة من الابتذال، فحرم على النساء أن يسبحن عاريات حتى لا تكون فتنة.

ولما دخلت الحمامات بلاد العرب وضع رسول الله حدودها فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام) وقال (شر البيوت الحمام ترفع فيه الأصوات وتكشف فيه العورات) ودخلت نسوة من الشام على عائشة فقالت لهن: أنتن اللاتي تدخلن نساءكن الحمامات. سمعت رسول الله يقول: (ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)

ويوم أن سار العرب في حماماتهم على هدى التعاليم الإسلامية صانوا كرامتهم، وشهد لهم جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) فقال (حمامات الشرق أفضل من حمامات الغرب صحة وراحة؛ وهي عدا ذلك محل للاجتماع والمحادثة ولا تقل شأنا عما كان لها

ص: 7

أيام الرومان)

والخلاصة أن الإسلام عندما اقر البريء من العاب العرب وشذب بعضها لم يهدف إلى اكتناز العضلات وصلابة العود، ولم يقصد إلى إطالة العمر، ولم يدفع إلى المضارة على الضعيف بالتذرع بحجج أوهى من نسيج العنكبوت مثل (شعب الله المختار) وإنما وضع الرياضة البدنية موضع الاعتبار بأن جعلها (تربية) ذات غرض نافع وهدف رافع.

كان عصر إسيرطة يعد الفتيان للحرب كفاية تقصد لذاتها، وكان أبناء الرومان يقاسون زمهرير الشتاء وذل النفس لينشئوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، أما الأسبان فقد جرت دماء الوحشية في عروقهم إذ اتخذوا من (مصارعة الثيران) مسلاة وملهاة، كلما رأوا اللاعب ينجو من غدر خصمه (الثور) عاجله بطعنة من خنجره فيخر مضرجا بدمائه.

والحق في جانب العرب في الحكم لهم بارتفاع الغريزة عما يشينها من حيوانية صارخة وشهوة عارمة، فهم قد عرفوا رياضة الإنسان وترويض الحيوان، فلما طالعهم الإسلام أحل الله لهم صيد البر والبحر وحثهم على الرفق في الأمر كله، ونهاهم عن المثلة ولو بالكلب العقور فكانوا طرازا نادرا في البطولة والرجولة.

طيروا الحمام الزاجل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. وأطلقوا الصقور بين يدي نبالهم تنقض على الصيد المباح، وامتلكوا نواصي الخيل. واعتلوا صهواتها. فأكرموا غاية الإكرام وركبوا سفينة الصحراء تشق بهم الوهاد والنجاد. وتربصوا للأسود الضارية والأفاعي الحاوية، فصرعوها في كهوفها، فتطهرت السبل من أذىالإنس والجن.

وكانت العاب العرب في جملتها وتفصيلها مسايرة لمطالب الطبع البشري، فلم يقهروا الغريزة قهرا، - ولو أرادوا لفعلوا - ولم يهربوا من الطبع الغلاب، بل واجهوا الحياة بما هو في الإمكان للسير بها قدما نحو الشرف والرفعة، حتى إذا لم يعد في الطاقة مكان، استسلم المرء للواقع المرير، وفي القلب الكسير حسرة على الماضي القوي، والشباب الصبي، فذلك قول شيخ العرب، وقد ذوى عوده، وانطوى ظله:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا=أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به=وحدي وأخشى الرياح والمطرا

من بعدما قوة اعز بها=أصبحت شيخا أعالج الكبرا

ص: 8

ولو شاء العربي أن يرمز إلى الحياة الجامحة فإنما تكون نفسه أقرب ما يسعفه إلى غرضه، بل تكون (الناقة) أقرب إليه والى الحياة من نفسه؛ فهي محور الأرض والسماء، ومرصد الشاهد والغائب، ومدار القوي والضعيف، ومقياس الشرف والصفة، ورمز العافية والضياع. ولهذا كان اغلب التعبيرات العربية عن النفس مشتقة من الناقة التي هي سفينة الحياة. وطالما كنى بها العربي عن نفسه في كل مظاهر الشعور.

فكان العقل من قولهم: عقل البعير، والعقل والعقال ما يعقل؛ والعائلة هي العاقلة أي القبيلة لأنها تعقل البعير في أداء الدية عن المعتدي الأثيم من أفرادها. وما أبرع تورية النبي لصاحب الناقة إذ قال (اعقلها وتوكل)

والعربي يرخى لنفسه العنان كما يفعل بناقته ثم يأخذ شكيمتها ويكبح جماحها. ويزجرها عن هواها، ويثنيها عن غربها وشموسها ويأخذ بناصيتها، ويمتلك سنامها، وتميل نفسه إلى ولده متأثرا بحنين الناقة إذا طربت في أثر ولدها، وإذا أناخها فبركت، فإنما هي نفسه التي ينيخها فتبرك. وكذلك حين يسوقها ويقودها ويحثها ويحدو لها فهي ذلول لا شرود، ما دام في يده خطامها يشد عليها زمامها، فيلزمها غرز الفضيلة وتنص به في ركاب الفضلاء، رائدة الخير لها، ينتجه صادرا وواردا.

تلك هي حياة العربي الذي يتخذ من الناقة سفينة إلى معالي المثل ومكارم الأمور، حتى إذا نفض يديه من حطام دنياه لم يكن له فيها ناقة ولا جمل، لا تخدعه فيها خضراء الدمن.

ولعمري إن الإنسان الذي يتوصل إلى ما بلغه العربي من مجد لأحق بالتمجيد والتخليد، وحسبه شرفا أنه سلك كل وعر، وامتطى كل صعب، حتى ألان الدنيا لأرادته. فكانت طوع أمره، وراض بدنه لنفسه، وروض جوارحه للمعالي، فكان صاحب السيادة.

ومفتاح هذا الظفر أنه اتخذ من الجمل مطية لكل غرض؛ فأصبحت الحياة بسيطة لا تعقيد فيها، وصار من المألوف المعروف عنه أن يقول (فلان يتخذ الليل جملا).

وانه لمجتمع كريم ذلك الذي يدرك فلسفة الحياة في كلمتين هما:

(الغاية والوسيلة) ويدرك حقيقة البطل في صورة فيها الجسم الجميل، والنفس الكاملة، والغرض السامي.

ولا شك أن الألعاب العربية في هذا الغرض الذي أبديناه قد أوفت على الغاية، واختارت

ص: 9

المسلك القريب، فزاحمت بذلك أصحاب الحضارة، وأثبتت أصالتها وعراقتها كلما تعرضت للمقاييس النزيهة مما نعرفه، ولم نعرفه بعد.

محمد محمود زيتون

(ممنوع النقل والنشر والترجمة إلا بأذن الرسالة)

ص: 10

‌بعد عام

علي محمود طه

لقد مضى الزمان بنا يخب، حتى صرنا على بعد عام من (علي محمود

طه). . ولكنا ما زلنا نرى الزورق سابحا. مبسوط الشراع، يجري

على كف الموج، في أنهار الخلود؛ لا يطويه أفق، ولا يحجبه بعد.

- 1 -

كان (علي طه) فردا آتاه الله الرهافة في الحس، والحدة في الشعور، والرقة في الذوق؛ فانطلق جوابا في الآفاق يستعرض آيات الله في جمال الطبيعة ومفاتنها.

معهدي هذا المروج وأست

اذي ربيع الطبيعة الفينانة

وقف أمام (كومو) واهتز لها فقال.

ها هنا يشعر الجم - اد ويوحي لمن شعر.

ولولا وفاه طبعت به الفطرة، وحب لبني النيل الأعزة؛ لركن (الملاح) الرحال إلى أحضان هذا الشاطئ، يحرسه بعينيه، ويطربه بموسيقاه.

آه لولا أحبة

نزلوا شاطئ النهر

ورفات مطهر

وكريم من السير

لتمنيت شرفة

لي في هذا الحجر

أقطع العمر عندها

غير وان عن النظر

فلقد فاز من رأى

ولقد عاش من ظفر

ولقد عاش حياته شاعرا غير الشعراء. فلم يتواضع لجني من عبقر يستجديه القصيد، وإنما راح يستهبط الوحي من ملائكة السماء ليندفع بعد ذلك شاديا. ينظم الحس أغاني، ويرسل بالجمال أهازيج، وإنه بذلك لخلاب باهر ينغم الأعماق بالإعجاب، ويشتمل العواطف بالطرب.

وسماء للشاعر الفذ منها

يستقي الشعر وحيه وبيانه

وأنا الشاعر الذي افتن بالحس

ن وأذكت يد الحياة افتنانه

ص: 11

فبوركت يا علي انك فنان

ضارب في الخيال ملق عنانه

ملك الوحي قلبه ولسانه

- 2 -

. ومن خلف عشرة عقود هبت على الوادي الأمين، أنسام المجد، تحمل في أحنائها ريح (إبراهيم)، وعطر ذكراه فوجدت بين جنبي الشاعر رئة مفتوحة تفيض بالحس، ورود تنتشي للنبوغ في القتال. كما تنتشي للتفوق في الجمال، ولنطرق صامتين لنسمع.

في كفك السيف فأحم الأهل والدارا

وادفع به الظلم، واضرب حيثما دارا

اضرب بسيفك لا تسمع لمعتذر

لم يترك البغي للباغين أعذارا

لم يفهموا في قراب السلم منطقه

فجاءهم عاري الحدين بتارا

دعا بهم ورماهم عن معاقلهم

جرحى وصرعى وأشلاء وأحجارا

والحرب شتى فنون أنت سيدها

إن حانت السلم، أو لاقيت غدارا

وهذا هو يقف لتحية أبطال القتال في (الفلوجة) ويسائلهم في أسلوب شيق جميل عن وقفتهم الخالدة، في القرية المحصورة.

هاتوا حديث الحرب كيف تطاحنت

لكمو منازعها، وهان عصيها

في قرية محصورة كسفينة

في لجة هاج وماج غضوبها

لم تدر فيها الريح أين قرارها؟

والشمس أين شروقها وغروبها

وهكذا في كل ناحية نجده موهوباً راسخ القدم.

- 3 -

أما شعر الفقيد بين معالم النهضة فطفرة جريئة. أحدثت روحا جديدة، لها لونها الخاص، ومذهبها الممتاز. بدت تباشيرها بظهور (الملاح التائه) وصارت ضحى فتيا قد اشتد وهجه وعلا سناه بإخراج (لياليه)؛ وإذا كان الشعر الحي: هو الذي ينبثق عن العاطفة، ملونا بظلال النفس، نابضا بتدفق الحياة، فشاعرية (علي طه) بارعة فنانة، تأتي بالصورة الدقيقة في البيت الرصين فيظن أنها تحت الباصرة مرئية واقعة، وإلا فأسبح مع الشاعر الحالم في سماواته العلى حين يقول:

ص: 12

إذا ارتقى البدر صفحة النهر

وضمنا فيه زورق يجري

وداعبت نسمة من العطر

على محياك خصلة الشعر

حسوتها قبلة من الجمر

يالها ألوانا مسكرة مخدرة، تطير بالروح هياما ونشوة، وتسيل بالنفس سحرا وغبطة. . .

بل يا لوعة الفن الرفيع إذ يخلفه ربه وحيدا أسيفا،

القاهرة

بركات

ص: 13

‌ما رأيت وما سمعت

في سوريا ولبنان

للأستاذ حبيب الزحلاوي

- 5 -

يستوي عندي غضب الغاضب ورضى الراضي. ولست أبالي بأولئك الحكام الذين أزعجهم فأقلقهم، وأثارهم فأغضبهم كلامي المستمد من الحقائق، وهي جارحة. وقد قلتها للشعب،

لا لمأرب ذاتي، ولغاية حزبية، بل أردته لسبب واحد هو (ضرورة إيقاف الشعب على الحقيقة) وهذا أول واجبات الكاتب.

صحيح أن الحقائق نسبية، وأن ليس كل ما يعلم يقال، والأصح من ذلك أن تكون الحقائق مجردة، والأذهان مهيأة، والخطط واضحة مبسوطة لمن كان حاله ووضعه كحال السوريين واللبنانيين ووضعهم على التخصيص، وحال ووضع شعوب دول الجامعة العربية بالنسبة لما هي منكوبة به من احتلال واقعي ومن تدخل وبسط سيطرة ونفوذ هو بمثابة احتلال مبرقع.

وإيقاف الشعوب العربية على الحقائق السياسية فرض محتوم وواجب مقدس، لا على الحاكم المسؤول الذي يريد أن يسير بأمته في طريق الإصلاح والتقدم والاستقرار فقط، بل هو أيضاً فرض محتوم وواجب مقدس على الكاتب الذي يعاون الحاكم بقلمه، وعلى قادة الرأي من الرجال العاملين والذين بمؤازرتهم، وعلى ضوء آرائهم يسير الحاكم بخطى وطيدة مع الشعب لتحقيق رسالته. بهذا تكون الصلة وثيقة، والروابط قوية بين الحاكم والمحكوم. أما إذا كان الحاكم غير ديمقراطي بالنزعة، وكانت له قواعد وقوانين دستورية كما هو الحال، وكان ممن يلبس الوجه البشوش والثغر الباسم للأجنبي المستقوي الطامع، ويطاطيء له الرأس كما هو الواقع، ويلبس للشعب جلد الأسد الهصور المكشر عن أنيابه، يعمل بالسر عكس ما يقول ويعلن، وكانت له صحافة طيعة المراس لينة العجينة، يتسابق كتابها في إيقاد أقلامهم فيجعلون منها نارا هادئة تحرق البخور العطر للحاكم وتظليلا للشعب كما هي الحقيقة، فقل السلام والرحمة على ذلك الشعب المسكين، وأعلم أن نكبته

ص: 14

بحكامه وصحافته أظلم وأدهى من نكبته بالمستعمر الطامع، وأن مصيره بعيد عن الغاية التي أوهموه أنه صائر إليها.

وقف فلان من صديقه الحاكم يقول له في معرض الحديث (أن الحاكم القوي بعمله لا يخشى صاحبة الجلالة، محلية كانت أو غير محلية، ووددت لو يزداد في عهدك عدد الأقلام المعارضة فتكون لك خير نبراس للهدى) فيؤمن الحاكم النير الذهن ويعد بأن يشجع الصحف المعارضة ليسترشد بها، وإذا بهذا الحاكم النير الذهن يوعز إلى زبانيته في قلم مراقبة المطبوعات أن تنزع من صحيفة الرسالة الصفحات التي فيها مقال (ما رأيت وما سمعت في سوريا ولبنان)

من هو الحاكم؟ الحاكم في حكومة جمهورية فرد من أفراد الشعب توفرت لديه الكفاية من موهبة وعلم وعزيمة؛ ينتخبه نواب الأمة للعمل في خدمة الشعب. والحكام الذين تداولوا مقاعد الرياسة في سورية على نوعين، نوع اختارته السلطة الأجنبية المحتلة، وفرضت رياسته على الشعب فرضا كالشيخ تاج الدين الحسيني ومحمد علي العابد وسواهما، ونوع اصطفته الأمة، وولته الرياسة تولية شرعية دستورية لا غبار عليها كالسيد شكري القوتلي، وكل حاكم يعتلي مقعد الحكم سواء أكان رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزارة صنم تعبده الجماهير وأصحاب الغايات والأغراض.

عبادة الأصنام صفة أصيلة في الطبيعة الشرقية وهو يلائم مزاجها ويدغدغ سريرتها.

وعبادة الأصنام تماثل عبادة الموتى، وكل ميت سواء كان عزيزا علينا أو غير عزيز، تسمو قيمته بعد الموت، ويجل قدره، ويصبح له شخصية وأن كان إمعة، وتاريخاً وأن كان نكرة،

سمعت فيما سمعت في سوريا أحاديث الناس في الحكومة القائمة، سمعت شكوى من نصرتها فئة من الشعب على فئة من الشعب، وسمعت حمدا لها لموقفها الحازم في لبنان تصفي مشكلتها معه في المصالح المشتركة، وسمعت انقساما في الرأي حيال موقفها من الجيش يزجرها عن الإقدام عن الانضمام إلى العراق وشرق الاردن، وسمعت ثناء على نشاطها في السعي للسير قدما في بناء ميناء اللاذقية وإزالة العراقيل التي تؤخر استلام القرض السعودي، وفي موقفها تصد الحكومات العربية عن التدخل في شؤونها الداخلية،

ص: 15

وسمعت أشياء كثيرة عن الحكومة القائمة تؤيد قول أبن الوردي القائل:

أن نصف الناس أعداء لمن

ولي الأحكام هذا إن عدل

وسمعت الإطناب في امتداح أعمال الوزير السابق السيد خالد العظم لدقته في تصريف الأمور الإدارية على أكمل وجه، وسمعت نقدا لعدم على قدرته الجمع بين دقة الإدارة ودقة السياسة، وسمعت من يعطف عليه ولم أرى من بكى بعده عن الحكم.

ورأيت ناسا يبكون حسني الزعيم، لا لصفات فاضلة فيه، بل لأنه كان يريد أن يعمل، ولأن الشعب قد سمع أن صلاح الشعوب متوقف على وجود (مستبد عادل) وكان مرجوا أن يكون الزعيم ذلك (الرجل المنتظر) ولكنه ذهب فليرحمه الله، وليحسن إليه.

وسمعت من يهلل للسيد شكري القوتلي ويتحزب له، ويطالب بعودته إلى الحكم، ورأيتهم يغسلون آثامه بدموعهم، ويطهرونه من الخطيئات بنيران قلوبهم، ويغتفرون له ما تقدم من جرائمه وما تأخر من أجرامه، ونسوا أنهم هم الذين هللوا يوم أسقطه الزعيم من أريكة الرياسة، وهم الذين كبروا يوم سجنه الزعيم في سجن اللصوص والقتلة، وهم الذين طلبوا رأسه، وهم الذين نصبوا الزينات في شوارع البلد ونشروا ألوية الفرح ابتهاجا بسقوط شكري القوتلي الذي فعل كذا وكذا وكيت وكيت.

كل حاكم في كل بلد صنم يعبده الناس ويرجمونه، ومن سخرية الزمن أن عباد الحكام ينقلبون إلى كافرين ومجرمين، وان أتباع الحاكم يتطورون ساعة سقوط الحاكم إلى زبانية ومجدفين ثم لا يلبث غضبهم أن يؤول إلى رحمة وشفقة بالحاكم الصريع، يقيلون عثاره، ويمسحون دموعه، وينشفون عرقه، ويضمدون جراحه، ويواسون آلام نفسه، ثم يهملونه وينسونه.

هذه صورة لمصير كل حاكم في كل شعب، وفي كل زمان، ولكن هذه الصورة لا تنطبق على حال السيد شكري القوتلي بدليل أنه بعث بعد أن مات، وتقمص بعد أن فنى وأضمحل.

وأنا أقول إن الذي يهوى ويسقط لا تقوم له قائمة. وأن الصيحات التي نسمعها هنا وهناك، فينة بعد فينة، إن هي إلا صراخ صبية في ريعان الصبى ترملت بعيد الزواج معناه الإعلان الصريح عن حياة جديدة مع زوج جديد، أما الزوج الميت فلا يبعث.

ص: 16

الرئيس القوتلي في نظري هو من آخر من يستأهل الرحمة من كافة طبقات الشعب، لا لأنه السيد شكري القوتلي صاحب الصفحات المسطورة في تاريخ الجهاد الوطني منذ انبثاق هذا القرن، ولا لأنه صاحب الجلد القوي والعزيمة الجبارة في محاربة العثمانيين ومقاتلة الفرنسيين والاستعانة عليهم بالألمان تارة وبالإنجليز تارة أخرى، ولا لأنه كان (الحركة المستديمة) كما كنا نسميه، وأذ كان يقطع آلاف الأميال متنقلا بين الشام ومصر والحجاز والرياض واليمن في العمل المتواصل لاستقلال سورية وإزاحة نير الفرنسيين عنها، ولا لعشرات من الحسنات تسطرها الوطنية له بحروف من الفخر، وبرغم هذه الحسنات وسواها مما يعرفه له كل سوري؛ أقول أنه إلا يستأهل الرحمة ولا الغفران لأنه أجرم في حق نفسه، ثم في حق وطنه ثم في حق دستور بلاده؛ ولذلك يحسن أن يستمع إلى نصيحة الأمة تقول له بمودة وإشفاق (اذهب أيها الإنسان إلى منفاك لأنك لعبت دورك ففشلت).

الحكم الدستوري تقليد لا تخليد، ولكن السيد القوتلي وهو أول رئيس جمهورية لسورية المستقلة، قد عبث بالدستور، وسخر نواب الأمة فجعلهم يفتعلون له مادة في صلب القانون الأساسي تبيح إعادة انتخابه للرئاسة أكثر من مرة. فهذا العبث الصارخ جرأ الأمة على الاستهانة بدستورها وعلى تحويره وتبديله كلما طاب لشيطان من الشياطين إشباع شهوته من الحكم، وهذا العبث الإجرامي هو الذي مهد السبيل للانقلابات الثلاثة. وهو الذي حمل ضباط الجيش على ذبح بعضهم بعضا. وهو الذي بذر بذور فتنة أسال الله أن تختنق في مهدها. وهو الذي ألقى (خيوط الحرير في الشوك) وقال لأعدائه أن يتشبثوا بمطالبة الحكومة القائمة بإلغاء الدستور، ومحو القوانين التي سنها النواب للمحاكم، واعتبار ما قام على الفاسد فهو فاسد، وإعادة ما كان أيام حكمه السعيد إلى ما كان عليه، وأن يسرحوا النواب ورئيس الجمهورية ويتبعوهم ليعود فخامته إلى مقر حكمه، وصولجان ملكه.

قليل من العقل يا رجال دمشق. قليل من الرصانة التي عرفتم بها، لا تضيعوا الوقت في مماحكات أفلاطونية وعنعنات لا طائل تحتها، إن سورية لا تموت وهي ما برحت تنجب الرجال؛ فلا تعبدوا الأصنام ولا تبكوها إذا هوت وانطرحت في الرغام،

حبيب الزحلاوي

ص: 17

‌من الحوادث الأدبية

روزفلت في مصر

للأستاذ محمد سيد كيلاني

في شهر مارس سنة 1910 جاء مستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحدة سابقا إلى مصر عن طريق السودان بعد أن أمضا فترة في الصيد في غابات السودان. ونزل في أسوان والأمصر وزار ما فيهما من آثار.

وقد أراد المحتلون أن ينتفعوا بنفوذ روزفلت الأدبي في تثبيط همم المصريين وأضعاف عزائمهم حتى يرضوا بالاحتلال وينصرفوا عن طلب الاستقلال. فأوعزوا إليه أن يخطب مطريا الحكم البريطاني محبذا بقاءه. فقام في الخرطوم وألقى خطبة أشاد فيها بمزايا هذا الحكم وفوائده؛ كما أشاد بمزايا الدين المسيحي وفضائله وتواترت الأنباء بهذا إلى أذهان المصريين فتأثر الرأي العام بما سمع. وقد نظم المرحوم أحمد شوقي قصيدة فريدة هي قصيدة (أنس الوجود) وأهداها إلى الرئيس الأمريكي مرفقة بخطاب جاء فيه (. . . أنت اليوم تمشي فوق مهد الأعصر الأول، ولحد قواهر الدول. أرض أتخذها الإسكندر عرينا، وملأها على أهلها قيصر سفينا، وخلف أبن العاص فيها لسانا وجنسا ودينا، فكان أعظم المستعمرين حقيقة وأكثرهم يقينا. وهو الذي لم يعلم عليه أنه بغى أو ظلم أو سفك الدم أو نهى أو أمر إلا بين الرجاء والحذر، من عدل عمر، الذي تنبيك عنه السير.

(قمت أيها الضيف العظيم في السودان خطيبا فأنصت العصر، والتفتت مصر، وأقبل أهلها بعضهم على بعض يتساءلون: كيف خالف الرئيس سنة الأحرار من قادة الأمم وسواس الممالك أمثاله فطارد الشعور وهو يهب، والوجدان وهو يشب، والحياة وهي تدب في هذا الشعب. ومن حرمة العواطف السامية ألا تطارد كأنها وحوش ضارية، على صحراء أو بادية، كما طارت السباع بالأمس نقما من طبائعها الجافية. . . الخ) وقد وفق شوقي في هذه القصيدة توفيقا كبيرا وأجاد إجادة تامة. ولا ريب في أن عاطفته القوية وإحساسه المتدفق وشعوره الفياض كان حافزا له على التجويد. واهتم الشاعر في هذه القصيدة بالتنويه بمجد مصر القديم وحضاراتها ومدنيتها وما كان فيها من العلوم وما تركه الأقدمون من العمران. وقد كان قوي الأسلوب متين العبارة. وأراد الشاعر أن يكسب عطف هذا الرجل الأمريكي

ص: 18

حتى ينصر لمصر والمصريين ويعينهم بنفوذه الأدبي في قضيتهم الكبرى؛ قضية الاستقلال.

ومن قوله مخاطبا روزفلت:

يا إمام الشعوب بالمس واليو

م ستعطى من الثناء فترضى

كن ظهيرا لأهلها ونصيرا

وابذل النصح بعد ذلك محضا

قل لقوم على الولايات أيقا

ظ إذا ذاقت البرية غمضا

شيمة النيل أن بقى وعجيب

أحرجوه فضيع العهد نقضا

لم يشأ شوقي أن يلوم روزفلت أو يعتب عليه على ما تفوه به في الخرطوم من مدح للإنجليز وإطراء لهم. وذلك لأنه كان يطمع في أن يضمه إلى جانب المصريين فرأى أن يخاطبه فيأدب جم ورفق ولين، وأن يستميله إلى ناحية مصر بالتغني بهذه الآثار التي شاهدها روزفلت في الصعيد، ومما تدل عليه من عبقرية ونبوغ. وشعب كهذا جدير بالتقدير والاحترام، خليق بالحرية والاستقلال

أما حافظ وغيره من الشعراء فإنهم قابلوا روزفلت بالعتاب المر واللوم الشديد والتقريع والتعنيف، وقدموا له الأدلة والحجج على فساد آرائه وخطأ أفكاره وبعده عن جادة الحق،

أنظر إلى حافظ حين يقول:

يا نصير الضعيف مالك تطرى

خطة القوم بعد ذاك النكير

لم تطيقوا جوارهم بل أقمتم

في حماكم من دونهم ألف سور

أنت تطريهم وتثني عليهم

نائما آمنا وراء البحور

ليت شعري أكنت تدعوا إليهم

يوم كانوا على تخوم الثغور

يوم كانوا قذى بعين (نيويور

ك) وداء مستحكما في الصدور

يوم نادى واشنجتون فلبا

هـ من الغيل كل ليث هصور

يوم سجلتمو على صفحات الد

هر تاريخ مجدكم بالنور

ووثبتم إلى الحياة وثوبا

ونفضتم عنكم تراب القبور

إنما النيل والمسيسبي صنوا

ن هما حليتان للمعمور

وعجيب يفوز هذا بإطلا

ق وهذا في ذلة المأسور

ص: 19

هكذا خاطب حافظ روزفلت.

والشاعر في هذه الأبيات يرسل القول من أعماق فؤاده ممتزجا بدمائه. ويقول له إنكم لم تصبروا على حكم الإنجليز ولم تطيقوا بقائهم في بلادكم بل قمتم عليهم وأجليتموهم عن دياركم وطاردتموهم حتى خلت منهم أقطاركم ونلتم حريتكم واستقلالكم. ثم أخذ يسأله قائلا: هل كنت تمدح الإنجليز وتتغنى بفضائلهم يوم كانوا مرابطين في ثغوركم؟ هل كنت تمدحهم يوم قام واشنجتون يدعو إلى كفاحهم وجهادهم؟ يوم أن كانوا قذى في عين نيويورك وغصة في حلقها؟ لا شك في أن روزفلت لا يجيب عن هذا السؤال لأنه لم يرد خدمة الحق؛ بل أباح له ضميره الميت أن يحكم على شعب مجيد بالذل والهوان في سبيل منفعته الخاصة.

لقد دعى الجل إلى الخطابة في الجامعة المصرية فألقى خطبة طويلة ردد فيها آراء المحتلين في عدم صلاحية المصريين للحكم الدستوري والاستقلال ومما جاء فيها قوله (. . . فإنك لا تجعل الإنسان متربيا ومتعلما تعلما حقيقيا بمجرد إعطائه دروسا معينة، وكذلك لا تجعل أمة صالحة لأن تحكم نفسها بنفسها بمجرد إعطائها دستورا على الورق؛ بل تربية الفرد وتعليمه حتى يصير صالحا للعمل في العالم تستغرقان أعواما طويلة. وهكذا تربية الأمة وإعدادها حتى تنجح في قضاء واجبات الحكومة الذاتية لا يتمان في عشر سنوات أو عشرين بل يلزم لهما أجيال متعاقبة.) ثم قال (. . . فإن بعض الدجالين الجهلاء يزعمون أن مجرد إعطاء دستور على الورق ولا سيما إذا جعلت له مقدمة ترن ألفاظها في الآذان يجعل الأمة قادرة على الحكم الذاتي. وليس الأمر كذلك أبدا. . . الخ)

ظن روزفلت أنه قادر بمثل هذه الأقوال على القضاء على الروح الوطني عند المصريين وإخماد أنفاسهم وتدمير عزائمهم فيقبلون حياة العبودية والاحتلال راضين مطمئنين. ولكن خيب الله ظنه وأخزاه فلم يفلح في ما سعى إليه بل باء بفشل عظيم. ولم يكن الشعب المصري من الغفلة والسذاجة بحيث ظن، بل كان يقضا حساسا. وعلى هذا فإن خطبة روزفلت أثارت حفيظة المصريين أجمعين وأشعلت في قلوبهم نيران الحقد والبغض للمستعمرين وأنصارهم. فكأن الرئيس الأمريكي والحالة هذه قد أساء إلى المحتلين وأثار في وجوههم زوبعة عنيفة. أنظر إلى ما قالته صحيفة الأهرام في عدد 31 مارس سنة

ص: 20

1910 وهو (ما خطر لنا في خاطر أن المستر روزفلت يمر بهذه البلاد مرور العاصفة تترك وراءها دورا كبيرا، أو مرور الصاعقة تهز أعصاب البلاد هزا عنيفا. بل لم يخطر لنا بخاطر أن تكون زيارته مثارا يثير كوامن الأقلام ومحظأ تحرك به نيران الأحقاد فنسمع بعد رحيله عنا من فرقنا كلاما طالما أنكره العقلاء وتبرأ منه ومن إثارة زوابعه الفهماء. ولكن أبى روزفلت إلا أن يقول كلمة هاجت من الناس شجونا وحركت سكونا وأبرزت كامنا. . . الخ) فمن هذه الفقرة تدرك مقدار ما أثارته خطبته من آثار سيئة في النفوس.

وقد شمر الكتاب والخطباء والشعراء للرد على الرئيس الأمريكي فامتلأت الصحف بالمقالات الطويلة في هذا الموضوع، والظاهر أن الكتاب وجدوا فرصة للدعوة إلى الحكم الدستوري فكتبوا وأطنبوا شارحين الخطأ العظيم والضلال الكبير الذي وقع فيه روزفلت عامدا متعمدا. وهكذا ارتدت سهام المستعمرين إلى نحورهم وثبت المصريون على حقهم بل ازدادوا قوة وحماسة في المطالبة بالحكم الدستوري والاستقلال.

ولو عقل المستعمرون لما قاوموا هذه الرغبة ولما وقفوا في وجه تلك النهضة؛ ولكن شهوة الاستعمار أعمتهم وأضلتهم عن سواء السبيل. وكيف يعقل أن يسكت الشعب المصري على الذل والهوان في الوقت الذي تمتع فيه الترك وأمم البلقان بالحرية والدستور وهم أقل من المصريين ثقافة وحضارة؟ لقد أشتد تطلع المصريين إلى الدستور منذ اليوم الذي ظفر الأتراك به. قلنا إن الشعراء ساهموا في الحملة على روزفلت. فمن ذلك قول أحمد نسيم

سدد سهامك عند كل خطاب

لست الذي ترجى ليوم مصاب

أمبشر يهدي العباد لدينه

أم ضيفن مذق اللسان محابي

برح الخفاء وبان روزفلت لنا

من أبغض الأعداء لا الأحباب

برح الخفاء فلا تكونوا أمة

تدع الدخيل يعضها بالناب

أياكموا أن تركنوا لزخارف

تثنيكم عن مجلس النواب

أني أرى الدستور يخطر بينكم

لا تتركوه فإنه بالباب

وقال آخر

روزفلت آلمت العواطف منكرا

كرم الوفادة مرضيا إنكلترا

ما هكذا الرجل العظيم تميله

عن مبدأ الأحرار أغراض الورى

ص: 21

ما أصدقوك رواية عن حالنا

بل كان ذاك القول افكا مفترى

هلا سبرت شعورنا من قبل ما

تلقى الخطابة بيننا مستهترا

أنسيت تاريخا لكم ولغيركم

شغلت به تلك المظالم أعصرا

حكم النفوس على النفوس مصيبة

عظمى أيمدحها الرئيس مكررا

حكم ضميرك يا رئيس وبعدها

فأحكم بما يرضاه عنك مسطرا

وقال الأستاذ علي الغاياتي

لعمرك لست بالرجل الهمام

إذا عد الهمام من الكرام

كرام الناس أصدقهم حديثا

وأبعد عن أكاذيب اللئام

فمالك لم تقم بالنيل إلا

لتسمعنا أباطيل الكلام

لقد كنتم لأهل الأرض نهبا

وكانت أرضكم أرض اغتنام

وكان الإنجليز لكم رؤوسا=فهل رفعوا لكم هام احترام

وهكذا أفرغ الشعراء غضبهم على السائح الأمريكي الذي جر على نفسه ذلك الغضب. والشعر الذي قيل في هذا الصدد شعر عاطفي صادق كل الصدق. ولم يكتف أحمد نسيم بلوم الرئيس روزفلت وتعنيفه، بل أتجه إلى المصريين وحثهم على احتقار أقوال روزفلت وازدرائها وحرضهم على مواصلة الجهاد والكفاح في سبيل الدستور الذي آن أوانه واقتربت ساعته كما قال في شعره. وهذه روح طيبة تدل على سمو صاحبها وعلى أنه لا يعرف اليأس ولا القنوط.

أما أبيات الغاياتي فإنها امتازت بالشدة والقسوة. فهي هجاء لاذع وطعن فاحش، ولكنه لا يقاس إلى جانب طعن روزفلت في المصريين. فهو مثلا في قوله (. . . فان بعض الدجالين الجهلاء يزعمون أن مجرد إعطاء دستور. . . الخ) عنى رجال الحزب الوطني الذين كانوا يلحون في طلب الدستور ليل نهار. والأستاذ الغاياتي كان وما زال من رجال الحزب الوطني، فلا لوم عليه إذا قابل وقاحة روزفلت بما تستحق، وجزاء سيئة سيئة مثلها.

وقال إسماعيل صبري:

إذا سيق تبر إلى مسمع

تعسر خالصه في الرغام

ص: 22

وإن ساق روزفلت ما دونه

إليه تنحى كلام الكرام

صدقتم وأخطأ من لم يقل

كلام الرئيس رئيس الكلام

وقد استهجن الناس هذه الأبيات وأطلقوا ألسنتهم في قائلها بألفاظ نابية، فأضطر إسماعيل صبري إلى إعادة نشرها ثم علق عليها بكلمة جاء فيها:(. . . وما البيت الثالث الذي هو مظنة المدح والإطراء إلا تهكم على من يقدرون الكلام على حسب مقدار قائله.) ولكن الذي لا شك فيه أن إسماعيل صبري لم يكن موفقا في هذه الأبيات.

وقد تألفت مظاهر وسارت إلى فندق شبرد الذي نزل فيه روزفلت وأخذت تهتف ضده فأضطر إلى الرحيل عن البلاد ولما وصل إلى الإسكندرية قابلته الجماهير بالشتائم والسباب.

ومن الغريب أن الجامعة المصرية بالرغم من شعور السخط الذي سببه روزفلت بخطبته قد منحته الدكتوراه الفخرية متحدية بذلك الرأي العام مع أن مركزها لم يكن ليسمح لها بذلك. إذ لم تكن جامعة بالمعنى الصحيح، بل كانت قاعة صغيرة لإلقاء محاضرات في بعض المواد، وعلاوة على ذلك فإن حداثة عهدها لا تخول لها حق هذا المنح.

وقد كانت هذه الحادثة تصرف الرأي العام عن الجامعة والقائمين عليها ووجه إلى رجالها نقد عنيف وطعن شديد؛ كما أن بعض الكتاب حثوا الجمهور على عدم التبرع للجامعة حتى تسحب درجة الدكتوراه الفخرية التي منحها للرئيس روزفلت وكانت أول درجة فخرية منحتها تلك الجامعة الناشئة.

ولم يكتف روزفلت بما ساقه في مصر من مطاعن في أهلها، بل وقف في دار البلدية بلندن وألقى خطبة ملأها بالشتائم والسباب على المصريين. فأنبرى له الكاتب الإنجليزي المرحوم برنارشو وصفعه بمقال عنيف جاء فيه (. . . فلئن كان من واجبنا نحن الإنجليز أن نحكم مصر لمصلحة مصر بدون اخذ رأي أهلها المصريين كما يقول مستر روزفلت لقد كان من واجبنا العظيم أن نحكم أمريكا بنفس نصيحة مستر روزفلت.)

قلنا إن شعور الوطني في مصر في ذلك الوقت كان ينذر بالانفجار عن ثورة ضد الاحتلال والمحتلين. وقد ظهر ذلك واضحا حينما رفض المصريون أجمعون المشروع الذي عرضته شركة قناة السويس لمد أجل امتيازها.

ص: 23

وهذه الفترة من تاريخ مصر حافلة بقصائد الشعر السياسي الذي كانت تغذيه عاطفة ملتهبة وشعور متدفق

محمد سيد كيلاني

ص: 24

‌شعراء معاصرون مغمورون

للأستاذ الدكتور محمد كامل حسين

1 -

حسن طنطاوي سليم

روى ابن خلكان في حديثه عن ربيعة الرأي أن بكر بن عبد الله الصنعاني قال: أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، وكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذلك الطاق؟ فأتينا ربيعة فأنبناه، وقلنا له: أنت ربيعة؟ قال نعم. قلنا: أنت الذي يحدث عنك مالك ابن أنس؟ قال نعم. قلنا: كيف خطر بك مالك وأنت لم تخطر بنفسك؟ قال: أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من حمل علم!!!

هكذا استطاع ربيعة الرأي بهذا الرد المفحم أن يسكت من جاء يؤنبه، وكانت كلماته هذه أصدق تصوير لما عليه المجتمع في كل العصور، وكل البيئات، فقد أدرك ربيعة أن العام لا يعظم قدره إلا إذا اتصل بذي سلطان، وأن الشاعر لا ينبه ذكره إلا إذا عاش في كنف عظيم، وأن الأديب لا يحمد أمره إلا إذا حظى بصحبة من بيدهم الأمر. والتاريخ يحدثنا بأنه قل أن نجد عالما قدر علمه في حياته، أو شاعرا سار شعره، أو فنانا علا صيته إلا وجدنا وراءه صاحب أمر يقدمه إلى الناس، وعندئذ فقط يلقى من الجماهير تقديرا لفنه، وإشادة بذكره وإعجابا بمواهبه، أما هؤلاء الذين وهبوا ملكات علمية أو فنية ولم يستطيعوا الاتصال بعظيم أو كبير فهم يعيشون منطوين على أنفسهم، منزوين في عقور ديارهم، لا يشعر بهم أحد، ولا تعرف ملكاتهم ولا تقدر مواهبهم. فمنهم من لا يقوي ملكته الفنية لأن الناس حوله لا يشعرون به، ومنهم من يغذي مواهبه وملكاته إرضاء لنفسه دون الحاجة إلى إرضاء الناس وهؤلاء هم الذين سنتحدث عنهم محاولين أن نظهر شخصيتهم الفنية، لأن هؤلاء أولى بالحديث عنهم لأن الفن أصيل عندهم. وهم كما قال أرسططاليس يعيشون للفن فقط، ومن هنا كان فنهم أرفع وأرقى من فن كثير ممن حظوا بشهرة واسعة، واسما عريضا، ونالوا تقدير الجمهور وإعجابه.

وأول حديث لي عن الشعراء المغمورين، هو الحديث عن شاعر معاصر هو الأستاذ حسن الطنطاوي سليم مدرس اللغة العربية بمدرسة المنيا الثانوية، فقد سمعت منذ شهور قطعة من شعره كان يحفظها صديق زميل، فأعجبتني تلك المقطوعة لما فيها من شاعرية وفن

ص: 25

أصيل، لاحظت أن الشاعر لم يكن من المتكلفين ولا من المنمقين، إنما يرسل الشعر عن طبيعة فنان متمكن من فنه في ألفاظ سهلة يسيرة ليس بها غموض ولا تعقيد، فهو يقول في هذه المقطوعة

رأى في اللهو متسعا

فخلى الزهد والورعا

وأقسم لا يرى قمرا

بدا، إلا به ولعا

فصار الحب مذهبه

وعاد لغيده تبعا

وصرف الدهر شيبه

وصير رأسه شيعا

ودق الهم أعظمه

فما تاب ولا امتنعا

عذاب الحب شرعته

رضينا بالذي شرعا

حقيقة أرى كثير من الشعراء المتقدمين تناولوا الغرض في شعرهم، وذكروا أمثال هذه المعاني، ولكن الشاعر الحديث أرق من القدماء، ولا سيما البيتين الأخيرين.

طلبت المزيد من شعر هذا المغمور، وأردت أن أعرف شيئا من ترجمة حياته، فكان من حظي أن ألقاه وأتحدث إليه ويتحدث الي، فعرفت أنه رجل عصامي حقا، نشأ في أسرة فقيرة، ولكنه كافح في الحياة، وذاق الحلو والمر، واضطر إلى أن يلتمس قوته في الوقت الذي كان يهيئ نفسه فيه للحصول على الشهادات الدراسية، يشتغل مرة كاتبا عند صائغ، ومرة أخرى كاتبا عند محام، ثم يحصل على كفاءة التعليم الأولى فيعين مدرسا إلزاميا، فناظر إلزاميا أيضا، ولكن لم تقعد به همته عند هذه الوظائف بل درس وجد في الدرس حتى حصل على دبلوم التجارة الليلية في نفس السنة التي حصل فيها على شهادة تجهيزية دار العلوم، وقد ساعدته مواهبه وملكاته على أن يحصل على هاتين الشهادتين من المنزل دون أن يتلقى العلم عن مدرس بالرغم من كده في أعماله الأخرى التي اضطرته إليها الحياة، واستمر في كفاحه حتى حصل على إجازة التدريس في دار العلوم وتقلب في مناصب التدريس بالمدارس الابتدائية والثانوية حتى استقر به المقام في بلده الذي نشأ فيه، وأصبح قانعا بما وهبه الله من سعة في الرزق. فازدادت إكبار له وإعجابا بنشاطه وهمته، واستمعت إلى أشعاره، فعجبت كيف يغمر مثل هذا الفن، ويجهل مثل هذا الشاعر المكافح المجاهد في الحياة. أنشدني قطعة من قصيدته (معجزة القرآن الكريم) وفيها يقول:

ص: 26

قالت أتطرب بعد فوت أوانه

وترى حليف البشر بعد زمانه

وأراك في مرح الصبا وكأنما

عاد الشباب إليك في ريعانه

قلت أسمعي يا عز لا تتعجبي

إني سمعت الله في قرآنه

والجن قد سمعت به فتعجبت

من رشده، وصغت إلى رحمانه

(عمر) الذي قد كان جد معاند

للمسلمين يلج في طغيانه

لما تلا (طه) استعاد صوابه

وأتى الرسول يموج في إيمانه

وأنا الأديب تلوته ووعيته

فسجدت عجزا عند سحر بيانه

(ومحمد) لم يختلقه وإنما

مولاه يسره لنا بلسانه

الله غازله وناسج برده

والمصطفى البزاز في دكانه

لا يبتغي أجرا على تبيانه

فالله آجره برحب جنانه

قد أعجز الفصحاء منذ نزوله

حتى يصير الدهر في أكفانه

إن كنت تنكر ذاك، فأت بسورة

من مثله وانزل إلي ميدانه

أو فانطح الصليب فإنما

مولاك وازنه على ميزانه

أين السفينة؟ أين بعض حطامها؟

يروى لنا ما كان من طوفانه

أين العصا؟ تحكي لنا بلسانها

ما كان من فرعون أو هامانه

أو طين عيسى فيه ينفخ داعيا

فإذا به طير على أفنانه

بل أين ناقة صالح في شربها؟

ولهيب إبراهيم تحت دخانه

فنيت جميع المعجزات ولم يزل

حيا يشير إلى الهدى ببنانه

من هذه القصيدة الجميلة نرى الشاعر يتأثر بالقرآن الكريم، ويجري لسانه بالحديث عن إعجاز القرآن حديث رجل امتلأ بنور الهدى والفرقان، فاقتبس في قصيدته بعض آيات القرآن، وضمن قصيدته معاني آيات أخرى، نظمها في هذا الشعر السهل الرقيق، ثم نرى الشاعر وفق في اختيار الألفاظ التي تلائم المعنى الذي يقصده ملائمة تامة ولا سيما في البيتين الرابع والخامس، ففي البيت الرابع يتحدث عن عمر قبل الإسلام فقال إن عمر كان (يلج في طغيانه) وفي البيت الخامس يتحدث عن عمر بعد الإسلام فقال أنه تموج في إيمانه ولعلك معي في إن الشاعر أحسن كل الإحسان في اختيار هذه الألفاظ التي تدل على

ص: 27

ما يرمي إليه مع ما فيها من الموسيقى اللفظية التي تلائم المعنى. وجميل من الشاعر أن يتحدث في آخر بيت من القصيدة عن معجزات الأنبياء وأنها فنيت وليس لها أثر الآن، ولكن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التي لا تزال بل ستظل باقية إلى أن يشاء الله.

وشاعرنا مصري تتمثل فيه خصائص البيئة المصرية، وتتجلى شخصيته الفنية في مقطوعاته الفكاهية، ومداعباته لإخوانه، أو حديثه عما يحيط حوله من ألوان الحياة، والمصري كما قال بعض النقاد - يميل إلى الفكاهة ويتذوقها، ويقهقه لسماعها، والأدب المصري منذ أقدم العصور مليء بالفكاهات الشعرية وغير الشعرية، حتى لتعد الفكاهة ضرورة من ضرورات الحياة المصرية، والشاعر حسن طنطاوي سليم ضرب بسهم وافر في هذه الناحية حتى لتكاد تذهب إلى أن شعره كله في الفكاهة بل في المجون، ومتى كانت الفكاهة المصرية خالية من المجون؟ - استمع إليه وهو يداعب معالي عبد الحميد عبد الحق باشا وزير التموين سابقا إبان أزمة السكر، وكان الشاعر أصيب بمرض البول السكري.

قل لعبد الحق إن لاقيته

لا تخف نقصا يصيب السكرا

إن عندي منه قدرا هائلا

يغرق الأمصار طرا والقرى

أشرب الماء نقيا صافيا

فإذا السكر فيه قد سرى

أبيض اللون فإن حللته

صار في الأنبوب شيئا أحمرا

مالكم ترجون (عبودا) وفي

مصر من سكره يكفي الورى

أو استمع إليه وهو يصف (السويس) إبان الحرب وقد تزاحم فيها الناس، واشتد بها الغلاء، وتساقطت عليها القنابل، كل ذلك في صورة متلاحقة سريعة يتلو بعضها بعضا كأننا نشاهد عرضا سينمائيا.

خرجت من السويس وفي فؤادي

قروح ما لها قط التئام

لأن بها غلاء لا يدانى

حلا في جنه الموت الزؤام

وأزمة مسكن دون انفراج

فليس بها لمغترب مقام

زحام ما رأيت له مثيلا

تعالى أن يقال له زحام

كأن الناس (سردين) فبعض

على بعض - وإن كرهوا - ينام

ص: 28

ترى في ساحها سمكا ولكن

على أمثالنا سمك حرام

يكاد الفول فوق السوس يجري

من الأطباق حتى لا يرام

كسيارات بترول عليها

صهاريج بسيرها همام

شهدت بها الليالي كالحات

يضيء سوادها فحمتها ضرام

قنابل في شظاياها فناء

وفي نيرانها رقص الحمام

فتلك جواؤها، أما ثراها

ففيران يسابقها (الترام)

جيوش في بطون الأرض تجري

وفي جدران أدؤرنا قيام

لبسن الليل ثوبا من سواد

أليس الشر موطنه الظلام

تكاد على أسرتنا تناجي

وترقد لا تخاف ولا تضام

كأن القط حالفها - أمينا

فبين كلاهما أبدا ذمام

ذواهب آمنات راضيات

كأن قد ضمها البيت الحرام

ألست معي في أن فكاهات الشاعر حسن طنطاوي هي فكاهات تتمثل فيها الروح المصرية المرحة، وأن شعره يتناسب مع البيئة المصرية اللينة الهادئة التي تميل إلى البساطة في كل شيء فإذا بألفاظ الشاعر مطبوعة بهذا الطابع المصري اللين البسيط، وأنه يحاول أن يحلي شعره ببعض ألفاظ وتعبيرات مصرية خالصة مما يستعملها الناس في حياتهم العامة، ولا يبالي الشاعر إذا كان هذا اللفظ عربي الأصل أو غير عربي ما دامت هذه الكلمة قد دخلت إلى لغتنا العربية واستعملها الناس وفهموا مدلولها، شأنها في ذلك شأن آلاف الكلمات التي دخلت قواميس اللغة العربية في العصور السابقة وعرفت بأنها دخيلة ولكن الشعراء استعملوها، وأجازها النقاد والأدباء، فشاعرنا لم يتقيد بقيود علماء اللغة العربية، فهو يحافظ على اللغة وسلامتها من ناحيته، ويجدد فيها ويعيد إليها الحياة باستعمال بعض كلمات اصطلح الناس على تسميتها بالعامية، فشأنه في ذلك شأن الشاعر البهاء زهير الذي لم يتردد في أن يكثر من استخدام التعبيرات العامية المصرية في أشعاره وإن أغضب في ذلك نحاة عصره ولكن النقاد الأدباء فتنوا بشعره، ولا يزال النقاد إلى الآن يعجبون به، ولنا رجعة إلى الحديث عن الشاعر مرة أخرى.

محمد كامل حسين

ص: 29

‌في موكب الذكرى:

أبو القاسم الشابي

(بمناسبة ذكراه السادسة عشرة)

في توزر، تلك البلدة الجميلة بتونس، وفي صباح يوم من أيام عام 1909، فوق فراش وثير، وفي بيت مجد وجاه، رزق الشيخ محمد بن أبي القاسم الشابي طفلا أسماه (أبا القاسم)، تيمنا باسم جده.

فيا ترى هل علم المهد الوثير، والبيت الكبير، والشيخ الوالد، أن هذا اليوم كان يوم ميلاد شاعر عبقري، خلقه الله ليكون شاعرا وحسب، وأوجدته الطبيعة قطعة منها ليصوغها نغما شجيا، وهتافا ساحرا على أوتار القلوب الحساسة والعواطف الجياشة. . . حفظ أبو القاسم القرآن، شأن كل طفل يولد في بيت إسلامي، وبلد إسلامي في ذلك الحين، ولما شب التحق بجامع الزيتونة وهو صورة مصغرة من الأزهر في تونس.

أخذ شاعرنا يدرس علوم العربية على نظامها البالي العتيق، من متن وشرح وحاشية، وسار بخطى موفقة يعززها ذكاء وقاد، وميل طبيعي إلى القراءة والاطلاع، حتى نال شهادة (التطويع) عام 1916م، ثم التحق بكلية الحقوق التونسية، ونال إجازتها متفوقا، وأراد أن يتم دراسته، فتصدى له مرض الصدر جبارا عنيدا، قائلا: مكانك، فعكف الفتى على علاجه، ورجع مبتسما هادئا يتعلم في مدرسة الحياة. . . ويكب على القراءة والاطلاع إكباب المنهوم على الطعام، يقرأ في الأدب القديم باستيعاب وتفهم ويعب من نبعه الصافي، حتى أسلست له اللغة قيادها، وأتته طائعة مختارة، يقبل على الأدب الحديث، إقبال المشوق المستهام، بذهن صاف ومزاج شاعري كأنه المرآة يميز بين الغث والسمين في سهولة ويسر؛ وكان من نتيجة قراءته للقديم وإقباله على الحديث أن أخرج كتاب (الخيال الشعري عند العرب) وهو دراسة للأدب العربي في جميع عصوره على ضوء النقد الحديث. ولم يتعلم أبو القاسم لغة أجنبية، وهو بالرغم من ذلك مجدد، بل زعيم من زعماء المجددين في العصر الحديث. . . يعرف ذلك كل مطلع على شعره متذوق له، وهي ناحية من نواحي عبقرية شاعرنا المجيد.

وكان أبو القاسم مغرما بأدب المهجر؛ وبخاصة مدرسة جبران خليل جبران؛ ومع ذلك فقد

ص: 31

كان رحمه الله نسيج وجده منفردا بمدرسته.

. . . ولقد اشتدت عليه وطأة المرض حتى طواه الردى في فجر يوم 9 أكتوبر سنة 1934 ولما يتجاوز الخامسة والعشرين بعد.

كان أبو القاسم رحمه الله شاعر طبع رقيق، وعاطفة متقدة، وإحساس نبيل، أذاقه المرض من ويلات الحياة الكثير، وقد ظهر أثر ذلك في شعره جليا فكنت تحس فيه الألم العميق العبقري، والشكوى المريرة التي قنعها بقناع جميل من خياله الفسيح، فسمى قصائده: قلب الأم، وألحاني السكري، والجنة الضائعة. . . الخ وغير ذلك مما يدفع القارئ أن يظن لأول وهلة أنه إنما كتبها وصفا لغيره، وما هو في الحقيقة إلا وصف عميق لأغوار نفسه الكبيرة.

ولأبي القاسم أكثر من ناحية في شعره فهو تارة فيلسوف ساخر، وأخرى ثائر جبار، وثالثة يائس مستسلم، كل ذلك يعبر عنه في همس شاعري رقيق، وأداء نفسي جذاب، وتصوير فني ممتاز؛ فأبو القاسم الفيلسوف الساخر الذي يقول:

لست يا أمي أبكيك المجد أو لجاه

سلبته مني الدنيا، وبزتني رداه

فأنا أحتقر المجد وأوهام الحياه

هو نفسه أبو القاسم الثائر الجبار الذي يقول في (نشيد الجبار)

سأعيش رغم الداء والأعداء

كالنسر فوق القمة الشماء

أرنو إلى الشمس الكئيبة هازئا

بالسحب والأمطار والأنواء

وأقول للجمع الذين تجشموا

هدمي وودوا لو يخر بنائي

ورأوا على الأشواك ظلي هامدا

فتوهموا أني قضيت زماني:

إن المعاول لا تهد مناكبي

والنار لا تأتي على الأعضاء

وهو نفسه أبو القاسم اليائس المستسلم الذي يقول في قصيدته (في ظل وادي الموت).

قد رتعنا مع الحياة طويلا

وشدونا مع الطيور سنينا

وعدونا مع الليالي حفاة

في شعاب الزمان حتى دمينا

وأكلنا التراب حتى مللنا

وشربنا الدموع حتى روينا

ص: 32

ثم ماذا.! هذا أتاصرت في الدني

ابعيدا عن لهوها وغناها

في ظلام الفناء أدفن أيا

مي ولا أستطيعحتى بكاها

وزهور الحياة تهوى بصمت

محزن مضجر على قدميا

جف سحر الحياة يا قلبي البا

كي فهيا نجرب الموت هيا

أو يقول في قصيدته (ألحاني السكري) معبرا عن حبه العميق للحياة:

أيها الدهر! أيها المن الجا

ري إلى غير وجهة وقرار

أيها الكون! أيها الفلك الدوار

بالفجر والدجى والنهار

أيها الموت! أيها القدر الأعم

ى قفوا حيث أنتموا أو فسيروا

ودعونا هنا تغني لنا الأح

لام والحب والوجود الكبير

ولكنه يشعر بقلبه الكبير أن الدهر، والزمن، والكون، والموت لن يتركوه تغني له الأحلام والحب والوجود الكبير فسيستدرك استدراك الحس الرقيق:

وإذا ما أبيتمو فاحملونا

ولهيب الغرام في شفتينا

وزهور الحياة تعبق بالعطر

وبالسحر والصبا في يدينا

حقا! إن كل إنسان محب للحياة. . . ولكن هناك تفاوت في سمو الحب بمقدار تفاوت النفوس البشرية. . .! وأبو القاسم صاحب نفس رقيقة نبيلة يحب الحياة في أرق شيء فيها وأنبله، أنه يحبها في الحب نفسه، فيود أن يموت وعلى شفتيه لهيب الغرام وزهور الحياة والصبا في يديه. ولأبي القاسم ولع بالطبيعة فنفسه الشاعرية مرآة صافية وبيئة سواء في (توزر) أو في (عين دراهم) بيئة طبيعية الجمال، فلا عجب إذا انعكست صورها في مرآة نفسه، فاستمد تشبيهاته منها وصورها لنا تصويرا خليقا بالإعجاب في جل شعره إن لم يكن في كله. . .!

يقول في قصيدته (صلوات في هيكل الحب).

عذبة أنت كالطفولة كالأح

لام كاللحن كالصباح الجديد

كالسماء الضحوك كالليلة القم

راء كالورد كابتسام الوليد

ويقول فيها: -

في فؤادي الرحيب تخلق أكو

ان من السحر ذات حسن فريد

ص: 33

وشموس وضاءة ونجوم. .

تنثر النور في فضاء مديد

ويقول في قصيدته (قلب الأم).

يصغي لنغمتك الجميلة في خرير الساقية

في أنه المزمار في لغو الطيور الشادية

في ضجة البحر المجلجل في هدير العاصفة

في لجة الغابات في صوت الرعود القاصفة

في فتنة الشفق الوديع وفي النجوم الباسمة

في رقة الفجر البديع وفي الليالي الحالمة

في رقص أمواج البحيرة تحت أضواء النجوم

في سحر أزهار الربيع، وفي تهاويل الغيوم

في مشهد الغاب المجرد والورود الهاوية

في ظلمة الليل الحزين، وفي الكهوف العارية

وهكذا. . . هكذا، صور وتشبيهات خلابة، استمدها من الطبيعة، وأضفى عليها من روحه الحية الكثير، مما يحمل القارئ على الظن بأن هذا اللون من الشعر جديد في بابه، بالرغم من إيغاله في القدم.

ووحدة القصيد من المميزات الواضحة في شعرأبي القاسم؛ فلا يكاد القارئ يحس، من مطلع القصيدة إلى ختامها، لنشاز بيت واحد أو نبوه أثرا. وهو مجدد في تعبيراته فضلا عن أفكاره، ألمس ذلك في كل شعره، وأحسه كلما أقبلت عليه أقرأه في أي موضوع كان.

يقول في قصيدته (يا شعر) واصفا الموت:

يأتي بأجنحة السكون كأنه الليل البهيم

لكن طيف الموت قاس، والدجى طيف رحيم

ويقول فيها أيضا:

أرأيت أزهار الربيع وقد ذوت أوراقها

فهوت إلى صدر التراب وقد قضت أشواقها

ويقول في (صلوات في هيكل الحب).

ص: 34

وحياة شعرية هي عندي

صورة من حياة أهل الخلود

أو يقول في (الجنة الضائعة).

لا نسأم اللهو البريء وليس يدركنا الفتور

فكأننا نحيا بأعصاب من المرح المثير

فأجنحة السكون، وصدر التراب، والحياة الشعرية، والأعصاب التي هي من المرح المثير. . . كل تلك التعبيرات الرقيقة في ألفاظها، تحمل ما تحمل من عمق الفكرة وسمو الأداء.

وشعر المناسبات عند أبي القاسم قليل إن لم يكن معدوما، بيد أن له في الوطنية شعرا رقيقا قويا.

ومن أقوى ما قاله في شعره الوطني قصيدة (ليتني) المنشورة بالعددين (70، 664 من الرسالة) التي يقول في مطلعها:

أيها الشعب ليتني كنت حطابا

فأهوى على الجذوع بفأسي

ومن شعره القوي في هذا الموضوع قصيدته التي يقول فيها: -

إذا الشعب يوما أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي

ولا بد للقيد أن ينكسر

أما بعد: فما قصدنا بكلمتنا إلا إشارة عابرة إلى تلك العظمة في عالمها النوراني الساحر؛ وعلى كل حال فأفضل من عجز المحيط طاقة المشير.

وإنا لنتجه بمناسبة هذه الذكرى إلى أدباء العربية قاطبة في جميع بلدانها من مصر إلى المهجر الأمريكي، ومن فلسطين إلى تونس آملين أن يقوموا بواجبهم آراء هذا الشاعر الشاب الذي هوى من علياء سمائه وهو لا يزال في ميعة العمر، وريق الشباب، فيخرجوا للحياة (من أغاني الحياة) لتأخذ طريقها إلى المكان اللائق بها في المكتبة العربية الحديثة.

ألا رحم الله تلك الروح، وضمها إلى أفيائه وفي ظلال جناته، وجزاها على ما قدمت لأمتها خير الجزاء.

رجاء عبد المؤمن النقاس

ص: 35

‌رسالة الشعر

رقدة الملاح

للأستاذ حسن كامل الصرفي

(نظم الشاعر هذه القصيدة لتلقى في حفلة التأبين الكبرى التي أقيمت لصديقه الشاعر الخالد علي محمود طه بمدينة المنصورة منذ شهور. . وحال بينه المرض وبين السفر إلى هناك لينشد قصيدته فطويت إلى حين، إلى موعد هذه الذكرى الغالية التي يحييها بأناته وأبياته!)

لم يبق لي في طريق العمر أحباب

خلا الطريق وأحباب الرؤى غابوا

كانوا خيالا، وكان العيش حلم كرى

مضى به قدر للعمر نهاب

لم آنس آخر لقيانا وقد دمعت

شمس الأصيل ورقت منه أطياب

وأنت في حجرة كان الشفاء بها

وهما، وخلف صراع الطب وثاب

كدمعة في جفون العين بارقة

حتى يحين لها في الخد تسكاب

روح تشف عن الأحلام حائرة

والجسم قد شفه سقم وأوصاب

ترنو إلى الأفق لدامي فتحسبه

فتى من الحزن قد خانته أعصاب

تقضي لياليك بعد الأنس منفردا

لم يهو ساحك خلان وأتراب

سأمان ترقب أياما مغربة

كما تحول نحو الغرب جواب

كحانة في ظلام الليل نائية

جفت على صدرها المهجور أنخاب

في عزلة لم يقصر ليلها سمر

ولم تكشف دجالها الجهم أكواب

قد لفها الصمت إلا بعض همهمة

كما تهمهم في ظلمائها الغاب

قاسيتها محنة ما كاد غاشمها

ينزاح عن كتف الغاني وينجاب

حتى تحطم في استنهاضه أمل

وانهار في مثل لمح الطرف إطناب

كان اللقاء وداعا، والحديث صدى

من عالم الغيب لم تدركه ألباب

نشكو جراحاتنا والدمع يحبسه

عن أن يسيل أبي النفس غلاب

نرجو ونأمل والأقدار ترقبنا

والموت يحجبه عن وهمنا الباب

يا مرسل النغم العالي صدى ورؤى

ينصب في أذن الدنيا وينساب

غنت به ضفتا الوادي ورجعه

من ألسن الشرق أشهاد وغياب

ص: 36

أضعت عمرك في الأوهام تجرعها

كأسا مزاج طلاها الشهد والصاب

ما الزهر والخمر فيها غير مائدة

ألقى عليها ظلال الحزن مرتاب

ظننتها أنت جنات منضرة

وهي الخرائب فيها البوم نعاب

خدعت فيها بألوان مزيفة

وسوف تخدع أجيال وأعقاب

طوت مجاليك واغتالت مشاهدها

كطائر الأيك قد أصماه نشاب

فنمت والحلم الزاهي على مقل

غشى عليها ظلال النور إظباب

ومت والنغمة الكبرى على شفة

لما يتح لصداها العذاب إعراب. . .

الليل معتكر، والموج صخاب

وزورق الحلم في الهوجاء هياب

ملاحه بعد طول التيه قد عقدت

أجفانه سنة أطيافها آبوا

موسد لم يزحزح جفنه ألم

ولم يسهده إظناء وإتعاب

ألقى المجاديف وهنى والشراع لقى

يطويه من سطوات الريح جذاب

كم صارع الموج جياشا ومضطربا

ولم يزعزعه إعصار وإرهاب

منقبا عن جمال الكون تفتنه

جداول وخميلات وأعشاب

وفتنة من جفون الغيد تشرعها

إلى القلوت - هوى - منهن أهداب

والحسن ينبوع فن ظل يقصده

من عالم الشعر وراد وشراب

أوحى الخوالد في الدنيا إلى نفر

تفتحت لهمو في الخلد أبواب. . .

رسام سحر المجالي، أين ريشته

يفوح منها على القرطاس أطياب؟

كم لوحة من مرائيه منمقة

فيها من اللمحات الغر خلاب!

قد عطل الموت فنا خالصا غنيت

به على كرة الأجيال آداب

حملت والصفوة الأحرار ألوية

خفاقة تتحدى كل من عابوا

للفن ما اهتز من آمالهم وربا

والفن مذبح قربان ومحراب

تبتلت في جلال الفن أنفسهم

كما تبتل في المحراب أواب

كل له غاية يسعى ليدركها

وكم تحقق غايات وآراب. . .!

تشاءم القوم حينا وادعوا خرصا

أن القريض ثوى إذ مات أقطاب

وأن دولة هذا الفن قد ذهبت. . .

والشعر لم يتوقف منه دولاب

ص: 37

والشعر مسبح أرواح مجنحة

إن غاب سرب تبدت فيه أسراب

إن لم تقم لبناة الفكر أنصاب

فقد أقيمت لهم في الفكر أنصاب

وحسبهم من خلود الأرض أنهمو

لها إلى جنة الفردوس أسباب

هم رفهوا عن أساها وهي عابسة

لهم، وقد نضروها وهي مجداب

هم الألى وهبوها حلى زينتها

وكم يحارب مناح ووهاب!

إن نادموا الليل فيها، قال قائلها:

بنو خيال لكأس الوهم طلاب!.

حقائق الأرض ما أوحى خيالهمو

قد صبها في اختيار العلم أحقاب

عاشوا بها غرباء الروح تلمحهم

هالات نور عليها الليل جلباب

مروا خيالا، وكانوا في دجنتها

كواكب النور لما ضوأ واذابوا. . .

(على!) كان غروب الشمس موعدنا

يوم الخميس؛ فمالي منه أرتاب!؟

أطارد الوهم عن نفسي وبي وجل

كما يطارد وحش الغاب هياب

حتى تلقيت هول النعي فانتثرت

خواطري في ظلام الحزن تجتاب

لم يبق منعاك لي جهدا أفيك به

حق الرثاء ودمع العين منساب

ما أعجب القدر اللاهي بعالمنا

إذ تبسم أبدى الشرة الناب!

إن فرق الموت جسمينا فإن لنا

في عالم الروح لقياليس تنجاب

حسن كامل الصرفي

ص: 38

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

برناردشو في الميزان:

الذين يعرفون (شو) على حقيقته، يعرفونه من وراء هذه (اللافتات) الضخمة التي تكشف عن جوانبه وتشير إليه: لافتة العقل الساخر، ولافتة القلب الشاعر؛ ولافتة الكبرياء النفسية، ولافتة الطاقة الفنية. . وليست هي باللافتات التي تعلو إنتاج غيره من الكتاب فتلفت منك النظر دون أن تدفعك إلى إطالة الوقوف، ولكنها اللافتات (المضيئة) التي تجذب نظرك وفكرك، وتختبر أشعتها على القرب والبعد فلا يخبو لها بريق. وبهذه اللافتات (المضيئة) كما قلت لك، استطاع برناردشو أن (يبصر) مواضع قدميه في طريق الفن. . وطريق الحياة!

والسخرية في حياة (شو) هي المع اللافتات جميعا، بل هي الإطار الطبيعي الذي يحيط بكل صورة من صور هذه الحياة وهي في فنه نقطة الارتكاز التي يلتقي عندها خط الاتجاه النفسي الممتد من هنا وخط الاتجاه الفكري المنطلق من هناك. . وهي في حياته وفنه معا ذلك المعبر العظيم لإنسانية القلب وكبرياء النفس وأصالة الموهبة. وتضغط أنت على (زر) نفسي واحد لترسل التيار الكهربائي إلى هذه اللافتة الكبرى لتصبح (مضيئة) وتفسر على (ضوئها) ما تحمل اللافتات الأخرى من (ألوان) نفسية. . ما هو هذا الزر النفسي الذي يضيء لافتة السخرية عند (شو)، أو ما هو (مفتاح النور) لهذه الملكة الفذة التي غطت على غيرها من الملكات؟ أنه السخط. . السخط المتأصل في أعماق النفس منذ القدم على بعض القيود والأوضاع!

هذه الملكة النادرة عند هذا الكاتب العظيم، أنبتتها (الوراثة) وأنضجتها التجربة، وتولتها الموهبة بالعرض والتقديم. . لقد ولد في مهد العاقة فسخط، وبدأت حياته وانتهت وهي سلسلة من السخط المدثر بأثواب السخرية لقد سخط على الأغنياء لأنه تذوق طعم الفقر وسخط على الاستعمار لأنه نشأ حر الفكر، وسخط على العاجزين لأنه شجاع يؤثر الغلبة والاقتحام. . ثم أفرغ هذه الطاقة الساخطة في ذلك القالب الساخر؛ الساخر من شتى المثل والقيم والتقاليد!

ص: 39

لقد كان السخط هو المنبع الأصيل الذي انبثقت منه سخرية (شو)، لتنال برشاشها اللاذع كل ما يدخل في دائرة عقلية من مظاهر الإنكار. . وما هي السخرية على التحقيق إذ لم تردها إلى أصولها النفسية من السخط الثائر على أمر من الأمور؟ إنك لا تسخر من وضع في الحياة إلا إذا كنت ساخطا عليه، لأن السخرية في جوهرها ما هي إلا اتجاه عقلي إلى الحط من قيمة هذا الوضع، والتعرض له بفنون من الهدم والتجريح! والسخط لون من ألوان الثورة بلا جدال، ولكنه عند (شو) ثورة عقله مهذبة، هدفها التحطيم بالقلم واللسان، ومادتها السخرية التي تؤثر الهدم بالقول الجارح وتفعل بالظهور ما لا تفعل السياط. . هو ساخر في حياته وساخر في فنه، وبهذه السخرية القادرة نظر إلى الحياة والفن من زواياه الخاصة، وسلط عليهما أضواءه الخاصة، وأختلف مع كل المصورين في لقطاته البصرية والنفسية!

ولم تكن سخرية (شو) هي سخرية العاجزين حين يشكو النقص فيتندر على القادرين، ولكنها سخرية المشرف على الدنيا من فوق قمة عالية، تريه الأشياء صغيرة مسرفة في الصغر ضئيلة مغرضة في الضآلة. ومن هنا أمتزجت السخرية في دمه بالكبرياء، سخرية العقل بكبرياء النفس، ثم أنصهر هذا المزيج العجيب في بوتقة الحياة فنشأت عنه هذه النزعة الإنسانية التي تتسم بالعطف على الشعوب الفقيرة والمحتلة على حد سواء. إنها نبضات القلب الكبير، القلب الذي تقلب يوما على أشواك الفقر فقاد خطوات صاحبه إلى الطريق (الاشتراكية)، وناء يوما بثقل القيد فوجه قلم صاحبه إلى مهاجمة الاستعمار!

ولا بد من التفرقة بين التهكم والسخرية وبين المرح والدعابة في حياة الموهوبين، أعني لا بد من هذه التفرقة بين كاتب مثل برناردشو وبين كاتب آخر مثل مارك توين. . إن (التريقة) عند (شو) أساسها الطبيعة الساخرة المتركزة على أطراف كلمة ساخرة، هدفها رفع القناع عن وجه مشوه من وجوه الحياة. ولكن أساسها عند مارك توين هو الطبيعة المرحة التي تنشد المزاج لغرض بريء، وهدفها أن النكتة قد (حبكت) فلا مفر من تسجيلها ليضحك هو ويشرك معه الناس ولكي نوضح الفارق بين الطبيعتين نقتصر هنا على نادرتين من حياة هذا وذاك على سبيل الموازنة بين الدعابة والسخرية: أما النادرة الأولى فتصور لنا مارك توين سائرا في أحد شوارع نيويورك مع نفر من أصحابه، حين تقدم إليه

ص: 40

أحد مشوهي الحرب ليهمس في أذنه: سيدي، هل تتصدق على رجل (فقد) ساقيه؟ وينظر إليه الكاتب (المرح) متظاهرا بالدهشة وهو يقول: عجيب كيف لم تعلن في الصحف عن هذه الأشياء المفقودة؟. ويغرق هو في الضحك ويغرق معه أصحابه، ويبتسم الرجل معجبا بالدعابة ثم يمد يده ليأخذ من مارك توين نفحة مالية كأجر للإعلان أما النادرة الثانية فتصور لنا برناردشو في أحد مسارح لندن، يرقب من مقصورته عرض إحدى مسرحياته الناجحة، ويصغي في ختام العرض إلى هتاف بعض أبناء وطنه: تحيا أيرلندة. . وحين يتناهى إلى سمعه هتاف آخر ينطلق من بعض الحناجر الإنجليزية: تحيا جهنم. . يقف الكاتب (الساخر) ليعقب على الأصوات المتنافرة بقوله: أيها السادة، لا يسعني إلا أن أحيي الفريقين، لأن كليهما يهتف لوطنه. . ويذهل الخصوملأنالصفعة القاسية قد وقعت على غير ترقب وانتظار.

أرأيت إلى الفارق بين المداعبة البريئة وبين السخرية اللاذعة؟ إن مارك توين هناك يريد أن يداعب وأن يضحك وان يمزح، ولكن برناردشو هنا يريد أن يغمز وأن يلمز وأن يجرح وهي بعد ذلك سخرية موشحه بالترفع ملفعة بالكبرياء. ومن مظاهر الكبرياء في حياة (شو) أن يهاجم التقاليد الإنجليزية في كل مناسبة تدعوه إلى الهجوم، وسخر من المثل الإنجليزية في كل فرصة تهيئ له أسباب السخرية، في الوقت الذي كانت فيه أيرلندة وطنه الأول، تئن تحت ضغط الاستعمار البريطاني. . ثم لا يقف بكبريائه عند هذا الحد المقبول ولكنه يندفع بها إلى ما وراء المعقول فيمتدح الشيوعية الروسية وينعت قطبها الأكبر (ستالين). . بأنه خير الناس ترى هل كان (شو) يؤمن بهذا الذي يجهر به أم أن سخطه على الرأسمالية عامة وعلى الشعب البريطاني خاصة هو الذي كان ينطقه بغير ما يعتقد ويظهره بغير ما يريد؟ الحق أنه السخط من جهة والإيمان بالرأي من جهة أخرى. . وليس هناك شيء من العجب إذا ما أحدثت كلمات (شو) في نفوس البريطانيين أثرها العميق، لأن هذا الكاتب الساخر يخفض من كل ما لهم في الحياة من مثل ويرفع من كل ما لهم في الحياة من خصوم، ويبعث التاريخ من مرقده حين يعيد إلى أذهانهم قصة قديمة، قصة (بايرون) شاعرهم الطريد، يوم أن خلد عدو الإمبراطورية في عدد من قصائده المحلقة في (تشايد هارولد) لقد أعجب بايرون بنابليون وأعجب شو بستالين، وفر الأول من سخط

ص: 41

الشعب البريطاني بعد أن شيعه الرجال باللعنات وودعته النساء بالبصقات. . ومات - وهو الإنجليزي - فوق أرض يونانية! وصمد الأخير في وجه هذا السخط لأنه كان أقدر القادرين على الصمود. . ومات - وهو الايرلندي - فوق أرض إنجليزية!!

ومن العجيب أن يفقد (بايرون) عطف الشعب الإنجليزي واحترامه ويخرج من بلاده وهو منبوذ طريد، وأن يحظى (شو) باحترام هذا الشعب ويعيش بين أبنائه وهو مرهوب الجانب مرفوع المقام. . ويبطل العجب حين تفسر هذه الظاهرة على هدى هذه الحقيقة النفسية؛ الحقيقة التي تقول لك على لسان (سلم الخاسر) في بيت واحد من الشعر كأنما كان يعني (بايرون) بشطره الأول ويقصد (شو) بشطره الأخير:

من راقب الناس مات غما. . وفاز باللذة الجسور!!

هذه هي اللافتات المضيئة في حياة (شو): لافتة العقل الساخر، ولافتة القلب الشاعر، ولافتة الكبرياء النفسية. وتبقى بعد ذلك هذه اللافتة الأخيرة، لافتة الفكر في الكاتب المفكر أو لافتة الفن في الكاتب الفنان.

هل هو فيلسوف حقا كما يذهب إلى خلع هذه التسمية عليه كثير من الكتاب؟ إن لبرناردشو آراءه القيمة وأفكاره الناضجة بلا جدال، له هذه الآراء والأفكار في محيط السياسة والمجتمع والاقتصاد والأخلاق، وطالما تعرض له هذه الشؤون المعقدة في عصره بالنقد والتعليق والتوجيه، يصبها في أسلوبه الساخر اللاذع الهدام الذي يحاول أن يقيم بناءه الخاص على ركام الأنقاض. . . ومن هنا يتحدث الكتاب عن فلسفته السياسية والاقتصادية والخلقية والاجتماعية إلى آخر ما يضيفون إليه من فلسفات!

أما أن (شو) كان مصلحا اجتماعيا فأمر لا يجادل فيه ولا يختلف عليه، فهو من هذه الناحية صاحب رسالة يؤديها على الوجه الأكمل ويقف في سبيل الذود عنها موقف كل مؤمن راسخ العقيدة برسالته قوى الإيمان. ولك أن تعده في الطليعة من أصحاب الرأي في عصره، حين يكون للرأي قيمته في عرض ما يزخر به العصر من ألوان المشكلات. كل هذا حق يعترف به المنصفون حين يضعون الرجل في كفة المواهب الفكرية والإنسانية؛ ولكنه على مدار هذا كله كاتب مفكر وليس بفيلسوف. . إن كل فيلسوف يجب أن يسلك في عداد المفكرين وليس من الحتم أن يسلك كل مفكر في عداد الفلاسفة! هذا إذا حددنا الفلسفة

ص: 42

بأنها (المذهب) الفكري الكامل في ناحية من نواحي الحياة، المذهب الذي تتكون منه الأصول والفروع وتتولد عنه البحوث والأفكار، وتقام عليه الفوائد والنظريات وتحدد له الأهداف والغايات. . فإذا أمكن بعد هذا (التحديد) أن نساير بعض الكتاب حين ينسب (الفلسفة) إلى برناردشو أمكن أن نجاري البعض الآخر حين يلصق (الفلسفة) بأبي العلاء!!

ونعرج بعد هذا على الكاتب المسرحي الذي قدم للمسرح من الأعمال الفنية ما يربى على الخمسين. . ما هي قيمته في رأي الفن وميزان النقد؟ أما أنه يفهم الأصول الفنية الكاملة لكتابة المسرحية الحديثة فأمر لا يجادل فيه أيضاً ولا يختلف عليه، وحسبه في ذلك أنه تلميذ مخلص لعميد الأدب المسرحي الحديث (هنريك أبسن)! لقد أخذ (شو) عن (أبسن) وتأثر به وتتلمذ عليه، حتى أصبح النقاد لا يذكرون اسم هذا إلا مقترنا باسم ذاك، لما بين الاسمين من صلات الفن وقرابة الروح. . كل ما يأخذ النقد على (شو) أنه سخر فنه المسرحي لخدمة آرائه الخاصة ونقل أفكاره الخاصة؛ تلك التي تدور حول فهمه الخاص لمشكلات العصر وما فيها من قيم لا يرضى عنها وعادات ومعنى هذا أن الواقعية في مسرحيات الكاتب الأيرلندي واقعية لا يقبلها منطق الحياة في بعض الأحيان، لأن منطق الحياة هو منطق المجتمع العام في كل ما هو معروف ومألوف من المثل والأوضاع!

هذه كلمة لا تعطيك صورة واضحة لشخصية (شو) كما هي في واقع الفن وواقع الحياة، ولكنها تقدم إليك المفاتيح الصادقة لهذه الشخصية لتعالج بها ما شئت منأبواب. . وبخاصة وقد أصبح الرجل العظيم في ضيافة الخلود!!

أنور المعداوي

ص: 43

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

ذكرى علي محمود طه:

كانت الذكرى الأولى لوفاة المغفور له الأستاذ علي محمود طه في هذا الأسبوع، فقد توفي رحمه الله يوم 16 نوفمبر سنة 1949. وها قد مضى عام ولم تبرح ذكراه نفوسنا، ولا يزال حر اللوعة على فقده يضطرم في أفئدتنا. وكيف ينسى (علي) وقد كان صادق الود وباعث الأنس؟ كيف ينسى مالئ دنيا الناس بأشعاره ومعطر الرجاء بفنه وظرفه؟ لن ينسى علي طه ما بقيت خوالد شعره، وما بقى الأحياء الذين ترك في نفوسهم أجمل الآثار وأطيب الذكريات.

لقد كان علي طه أحد القلائل الذين يجتذبون الناس إلى قراءة الشعر في هذا العصر. كان إذا غرد لنفسه أطرب، يصور الحب والجمال فتهفو النفوس إلى قوله، إذ تجد فيه أجمل مما يصوره. . تجد فيه جمال الفن وروح الشاعر الصافي؛ وكان إذ شارك قومه أعجب، شاعر يرنو إلى أهداف الجماعة، ويخفق قلبه بحب الخير وهو في هذا أيضاً ينشد الحب والجمال، فالخير جميل، وحبه حب. . .

سلام عليك يا شاعر الحب والجمال، سلام على روحك أيها الفقيد الصديق، سلام عليك كما تفقدناك فأوحشتنا طلعتك، سلام عليك كلما حزب أمر أو دعا داعي الوفاء، سلام عليك كلما تطلع عشاق الشعر إلى السحر والفتون.

سلام عليك أيها الملاح التائه، بل سلام عليك وقد وصلت إلى الشاطئ المجهول.

سلام عليك أيها الحلم الذي رأيناه، ولا نزال نغفى ليتصل. . .

هناك وهنا:

تلقى الأستاذ العزيز الإسلامبولي أمين مكتبة نقابة الصحفيين الكتاب التالي من إدارة الأنباء بالسفارة الأمريكية في القاهرة:

(نتشرف بإبلاغ حضرتكم أننا تلقينا طلبا من أحد المؤلفين الأمريكيين يشتغل الآن بوضع كتاب جديد بجامعة راتجرز عنوانه (دراسات توماس مان في خمسين عاما من سنة 1901

ص: 44

إلى 1950) ويعتقد المؤلف أن توماس مان زار مصر منذ أكثر من عشرين عاما مضت، ويذهب أن الصحف لا بد قد نشرت عنه بعض المقالات في ذلك الوقت، وظهر تبعا لذلك كثير من الأبحاث التي تناولت ترجمة حياته أو نقد أعماله، سواء كان ذلك في كتب أو نشرات أو مقالات في الصحف أو المجلات أو غيرها، ويود المؤلف المذكور الحصول على أسماء مؤلفي هذه الأبحاث وعنوانات المقالات التي نشرت وأرقام أعداد الصحف التي نشرتها وأسماءها ومكان تاريخ نشرها. ويكون من دواعي امتناننا لو تكرمتم بإحالة هذا الطلب إلى الإدارة المختصة في مكتبتكم لمراجعة الفهارس والسجلات التي تكشف عن البيانات المطلوبة. ونحن إذ نقدر لكم هذه المعاونة الكريمة، نود أن نؤكد لحضرتكم امتنان المؤلف لمساعدتكم له، ونرجو أن تتفضلوا بقبول وافر الاحترام)

أعجبتني هذه الروح العظيمة، وأشفقت ألا تصل هذه المعلومات ' إلى طالبها، فقد لا يتيسر لمكتبة النقابة - وإن كان الأستاذ الإسلامبولي أبدى استعدادا وتحمسا للمعاونة - أن توافي بكل المطلوب، ولا بد أنه قد أرسلت هذه الرسالة إلى هيئات أخرى في مصر كدار الكتب المصرية، وأشفقت أيضاً أن (تندشت) هذه الرسالة في المكاتب الحكومية التي يستطلب فيها الكسل والنوم - فأحببت أن أنشرها هنا، رجاء أن يهتم بها من يستطيع الإجابة عنها، فيسد عنها ثغرات. . .

وخطر لي هذا السؤال: ترى ماذا يحدث إذا طلب مؤلف مصري مثل هذا الطلب من إحدى السفارات المصرية؟ ولست أدري أي شيطان جعلني أتخيل الجواب على الوجه التالي: تحول السفارة الطلب إلى وزارة الخارجية، وهذه تحوله إلى وزارة الداخلية، وهذه تحوله إلى قسم البوليس التابع له المؤلف. . ويستدعي المؤلف إلى القسم، ويفتح له (محضر) يسأل فيه عن اسمه وصناعته وسنه، ومحل إقامته وشيخ حارته. . . الخ، ثم يسأل: كيف تجرؤ وأنت من (الأهالي) على أن تكلف جهة (أميرية) بمثل هذا الكلام الفارغ. . وأخيرا يفرج عنه بضمانة شيخ الحارة. . .

المطلوب تصحيح أوضاع:

ليست هي الأوضاع الدستورية التي يتحدث عنها المعارضون السياسيون والتي ضمنوها عريضتهم المعروفة، وإنما هي كما ترى في الرسالة الآتية:

ص: 45

وبعد فإننا نتوسل إليكم سيدي - وأنت الذي لم ترد لنا رجاء - أن تتكرم بإفادتنا عن الحكم في هذه المشكلة أو (التقليعة) الجديدة التي تفتت عنها العبقرية الأزهرية في عصر الذرة.

ليست هذه المشكلة هي بناء المدينة الأزهرية وسط المقابر والتلال! ولا في إحجام الشيوخ عن إخراج العلم للناس في ثوب قشيب! ولا في عدم مساعدة الطلاب صحيا أو اجتماعيا أو خلقيا!! لا يا سيدي، ليست مشكلتنا اليوم من هذه الأنواع فالكلام في هذا، يعد في عرف كثير من شيوخنا، خروجا على العقيدة. . وقد يشطب الطالب من كليته لمثل هذا. .

وإنما مشكلتنا بسيطة للغاية، وهذا ما دعانا إلى الالتجاء إليكم، أنشئت كلية الشريعة في (خرائب الدراسة) ومع أن الشرائط الصحية، لا تتوفر في كثير من فصولها، تجد أمرا عجبا. . تجد أن الألواح السوداء، وأعنى (السبورات) موضوعة خلف الطلاب!!

ورجونا المختصين كثيرا لتصحيح هذا الوضع، وجعلها أمام الطلاب؟ ولكن لأمر لا نعلمه، تصر إدارة الكلية على هذا الوضع الشاذ! وليس بعسير على سيدي، أن يتصور حالة الطلاب، حينما يريدون أن يتتبعوا شرح المدرس لمسألة ما، هي السبورة، ويلووا أعناقهم إلى الوراء!!

لا أدري أهذا منظر مضحك، أم محنق، ولكن الذي أدريه أن إلحاحنا لجعل هذه الألواح أمامنا، باء بالفشل، وكثيرا ما سمعنا من بعضهم أنهم كانوا يتلقون العلم - وهم على الحصر - فلا يشكون! أما نحن طلاب اليوم. .؟

. . وانتهينا إلى هذا الحد. .

ولو كان هم واحد هان خطبه

ولكنه هم وثان وثالث.

متعك الله بالصحة والسعادة لخدمة المجتمع البائس الحائر

ضياء الحائر

بكلية الشريعة

لك الله يا ضياء! إنك لست (حائرا) من قليل. . فقد تكشفت لنا حيرتك منذ شهور عن (حيرة الجيل الجديد في الأزهر) إزاء المؤلفات القديمة المعقدة، تلك الحيرة التي أرجو أن

ص: 46

تزول على يد فضيلة الأستاذ الأكبر عبد المجيد سليم.

أما الموضوع الذي يحيرك اليوم فأمره بالغ العجب. . ولولا ثقتي بك ما صدقت هذا الذي تصف. على أنك لم تبين لنا وجهة نظر (المختصين) في وضع السبورات وراءكم ظهريا. . فقد يرون مثلا أن في ذلك تمرينا لعضلات العنق بتحريك الرأس للنظر إلى الوراء!

وقد يكون الغرض أن تحدسوا ما على السبورة وهي خلفكم، على طريقة اللعبة التي تعصب فيها العينان! وقد اكتفيت بما سمعته من بعضهم أنهم كانوا يتلقون العلم على الحصر أما أنتم فاحمدوا الله على أنكم جالسون على مقاعد، فما أشد طموحكم! أتريدون مع ذلك أن تكون السبورة أمامكم. .؟

في الأمور التافهة ما يبعث أحيانا على التأمل، ووضع السبورات خلف الطلاب في كلية الشريعة من هذا القبيل، وأنا لا أزال أتخيل هذا المنظر الطريف وأتأمل. . . إنني أيضاً حائر. . .

حول مشكلة القراءة:

قرأت بالعدد 901 من الرسالة الغراء ما تفضلتم بكتابته تعليقا على مقال للأستاذ محمد علي غريب بجريدة الزمان عن مشكلة القراءة أو ظاهرة الإعراض عن القراءة المتفشية بين المتعلمين. وقد أرجعتم ذلك إلى طريقة التعليم من إرهاق التلاميذ والمدرسين مما يبغضهم في الكتب. وإني إذ أؤيد ما تفضلتم بذكره أضيف إلى ذلك أن الأستاذ غريب ناقض نفسه حين عرض لاستهلاك الموظفين تفكيرهم في تفهم منشورات العلاوات وحسبان الأقدميات بدلا من قراءة كتاب لعبقري موهوب.

إذ كيف يطلب من مثل هذا الموظف الذي يضني نفسه وتفكيره في محاولة زيادة دخله ولو قروشا معدودات، أن يدفع من دخله هذا الذي لا يكاد يكفي قوته وقوت أولاده ما يكفي لقوت فكره وعقله. أليس الأجدر من ذلك طبع الكتب طبعة شعبية إلى جانب الطبعة المرتفعة الثمن، وإذا أردتم اختبار مدى نجاح ذلك فهاكم سلسلة أقرأ التي تقدمها دار المعارف، وغيرها. ففي ذلك تسهيل لغير القادرين من محبي القراءة وتشجيع لغيرهم علاوة على الكسب المادي والأدبي الذي يصيب الكاتب نفسه.

ولا يفوتني أن أذكر في هذا المجال أن هناك كتبا كثيرة لكتاب أفاضل طبعت ووزعت

ص: 47

بالثمن العادي عدة مرات حتى أصبحت السوق منها في حالة تشبع، فلو أعيد طبع مثل هذه الكتب طبعات شعبية لفتحت سوقا جديدة رائجة تعود بالخير على البلاد. وأمامنا في هذا وغيرها.

وختاما تفضلوا بقبول فائق الاحترام.

محمود طه

تعقيبي على هذه الرسالة يشمل ما يلي:

1 -

هل الموظفون يريدون أن يقرئوا ولكنهم لا يستطيعون شراء الكتب؟ أنا لا أسلم بهذا، فأن أي موظف يمكنه - إذا أراد - أن يستعيض عن الجلوس في القهوة بالقراءة، وما يبذله في الأولى يكفي للثانية، وهل هم - وأعني بكل هذه الغالبية لا الجميع - يستفيدون من الكتب الزهيدة الثمن التي أشار إليها الأستاذ؟ أو هل يستفيدون من دور الكتب العامة بالقراءة فيها والاستعارة منها؟ وهناك غير دار الكتب المصرية مكتبات في كثير من المصالح والدواوين وكثير من عواصم الأقاليم وخاصة مكتبات المدارس والمعاهد والكليات. أنا شخصيا قرأت أكثر ما قرأت عن طريق الاستعارة، فلم تسعفني الظروف دائما بشراء ما أردت من الكتب، ومن المعروف نفسيا أن مستعير الكتاب يسرع إلى قراءته أكثر ممن يشتريه، ولهذه الحقيقة فضل علي كبير. . .

2 -

إذا سلمنا أن مسألة الثمن مشكلة، فهي مشكلة، فهي مشكلة الراغبين في القراءة ذوي الدخل القليل، وهم نادرون، والكثرة لا نريد أن تقرأ كتبا ولو أهديت إليهم.

3 -

أثمان الكتب عندنا أقل من البلاد الأخرى، والكتب الرخيصة الثمن التي تصدر في إنجلترا مثلا، هي كتب قديمة يعاد طبعها بنفقات قليلة بعد أن شبع أصحابها كسبا.

4 -

انصراف الناس عن قراءة الكتب يرجع بعض أسبابه إلى المؤلفين، فهؤلاء لا يكتبون في مسائل العصر ولا يصورون واقع الحياة، وإنما يهربون إلى التاريخ والدراسات، أو يعتكفون مع تأملاتهم العاجية، فالنتيجة المؤسفة أن الناس ينظرون في الكتب فلا يجدون أنفسهم فيها، فيرغبون عنها إلى الصحافة التي تربطهم بها بالواقع وتعرض عليهم صور الحياة

5 -

أرى أننا نسرف كثيرا في الغض من شأن الصحافة من حيث فائدتها في القراءة، أو

ص: 48

نقلل من أهميتها بالنسبة إلى المؤلفات الحديثة. حقا هناك كثير من المجلات المسلية التافهة، ولكن هذا لا ينبغي أن يجور على غيرها من المجلات ذات المنهج الثقافي؛ وكثير من الصحف اليومية والأسبوعية تنشر أشياء ذات قيمة، وقراءة كل ذلك لا شك مفيدة، وهي تمتاز على الكتب - كما سبق - بأنها متجددة، تساير الزمن، وتلائم روح العصر، وتربط القراء بعجلة الحياة.

عباس خضر

ص: 49

‌الكتب

تاريخ داريا

للقاضي عبد الجبار الخولاني

بتحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني

كتاب وجيز جم الفوائد يقع في 152 صفحة من القطع الوسط

من مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق

للأستاذ عز الدين التنوخي

عهد المجمع العلمي إلى الأستاذ المحقق سعيد الأفغاني بنشر تاريخ داريا للخولاني فاستفرغ في تحقيقه وسعه، وقدم له مقدمة ممتعة في تواريخ البلدان. ولهذا التاريخ مزيتان تسترعيان الإعجاب:

الأولى: تفرده بروايات ومعلومات لا توجد في المطولات كتاريخ ابن عساكر الكبير. والثانية: بحث المؤلف عن داريا وأحوال أهلها وأنسابهم. وهو ينص آخر أكثر التراجم على ذراري أصحابها فنعلم مثلا أن صحابيا كأبي راشد الخولاني الذي سماه النبي وكناه بقي ولده يتناسلون بداريا حتى سنة 365 وهو عام قراءة تاريخ داريا على المؤلف.

وداريا كانت قديما أم قرى الغوطة، والمعقل الأول لليمنيين، وهي اليوم ثانية قرى الغوطة، بعد دوما العاصمة، وحاضرة القرى الجنوبية منها؛ ولبثت قرونا كثيرة منار العلم والأدب، فكان يقال:(من أراد العلم فلينزل بين عنس وخولان بداريا).

إن هذا التاريخ الذي يحق لأهل داريا أن يفاخروا به هو أحد تلك الكتب الجمة التي ألفها أسلافنا في تواريخ البلدان كالقاهرة والإسكندرية والصعيد ودمشق وبغداد وقرطبة وغرناطة وتونس والقيروان وغيرها. ومن مفاخر رجال داريا أبو الحسن علي بن داود المقري، وله خبر طريف يتصل بتاريخ دمشق وداريا معا ننقله على سبيل المثال لما في هذا التاريخ الممتع على إيجازه وحواشيه من فوائد. . ذلك أن أبا الحسن هذا كان يؤم أهل داريا فمات أمام جامع دمشق فخرج أهلها إلى داريا ليأتوا بإمامها إماما لجامعهم الكبير إذ لم يكن في

ص: 50

دمشق خير منه، وكان فيمن خرج معهم القاضي أبو عبد الله بن النصيبي الحسيني وجلة شيوخ البلد. ولما بلغوا داريا مانع أهلوها بالسلاح في رحيل إمامهم إلى دمشق وخلو بلدتهم من فضله، فقال لهم قاضي دمشق:

- يا أهل داريا، أما ترضون أن يشيع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إلى إمام داريا ليصلي بهم؟ فقالوا:

- رضينا، وألقوا السلاح

هذا، ويدل على مبلغ عناية المحقق الفاضل الأستاذ الأفغاني الذي أخرج لنا تاريخ داريا بهذا الضبط والإتقان أن الناسخ لهذا التاريخ شبه عامي، فكثرت أخطاؤه في أعلام الرجال وأنسابهم تحريفا أو أسقاطا، فاقتصر المحقق في الحواشي غالبا على ما يتعلق بتحقيق النص وضبط أعلامه وشرح لغوياته، ولم يتعرض لذكر الروايات المختلفة للحديثلأن نهجه الذي رسمه لنفسه أن يخرج للناس أصلا مضبوطا لا شرحا مبسوطا، ولم يغفل مع ذلك ذكر وفيات الرجال التي تركها المؤلف الذي لم يذكر من 47 ترجمة إلا وفيات سبعة من أصحابها.

إن الأستاذ الأفغاني مثال لرجال العلم المفتونين بدمشق بالعلم والأدب، والذين وهبهم الله للتحقيق جميل الصبر والدأب، قابل الله جميل صنعة للآداب، بجميل حمده والثواب.

دمشق

عز الدين التنوخي

عضو المجمع العلمي العربي

كتاب الخطابة لأرسطو طاليس

ترجمه وقدم له وحقق نصوصه وعلق حواشيه الأستاذ الدكتور

إبراهيم سلامه

للأستاذ أحمد محمود الحوفي

ص: 51

كان أرسطو وما زال بدعا في تفكيره، وينبوعا ثرا صافيا يستقي منه الباحثون، يعتزون بآرائه، ويفصلون فيها القول، ويشققون منها الأدلة كأنها من وحي هذا العصر.

وقد فطن العرب في عصرهم الذهبي إلى نفاسة مؤلفاته، فترجموا بعضها، ثم استقل في العصر الحاضر معالي الأستاذ لطفي السيد باشا بترجمة كتاب الأخلاق ولكن (كتاب الخطابة) - وهو من أجل كتب أرسطو وأصحها نسبة إليه - نال بعيدا عن اللسان العربي في صورته الصحيحة الكاملة إلى أن نهض بترجمته (الأستاذ الدكتور إبراهيم سلامة) ترجمة دقيقة أمينة سلسلة موسومة بطابع الأديب الذواق حين ينقل من لغة يدرك بلاغتها إلى لغة يفقه أسرارها.

ولم يشأ أن يحبس عمله على الترجمة وحدها، ولو أنه فعل ذلك وحده لكان جديرا بالشكران، وإنما قدم الكتاب بمقدمة حافلة في نحو مائة صفحة، تشع نورا على أرسطو، وعلى كتاب الخطابة وهي وحدها بحث قيم، بل كتاب مستقل خليق بالإعجاب.

عرض المترجم في المقدمة حياة أرسطو وكتبه، وأثبت أصالة كتاب الخطابة من حيث أنه صحيح النسبة لأرسطو فليس لا لغيره ممن تقدمه من الخطباء أو ممن تأخر عنه من تلاميذه. ومن حيث إن أفكاره أصيلة في نفس أرسطو، فهو كما يقول (أرنست هافي (ذو طريقة ونهج تفرد به أرسطو، فلم يعرض أحد من سابقيه من خطباء وغير خطباء عرضه ولا نهج نهجه، ولا تزال جدته باقية على الزمن ولا تزال خصبة منتجة) وهو لذلك لم يقتصر على الخطابة القضائية كما فعل سابقوه ومعاصروه، بل شمل بحثه أنواع الخطابة كلها، وخالفهم في عرضهم طريقتهم وآرائهم.

وقد تطلب البحث أن يعرض للخطابة قبل أرسطو، فتكلم عن السفسطائيين، وعن المدرسة اليونية، والمدرسة الإيلية وتعارضهما، ومناقضة السفسطائيين لهما، ثم عن حملة سقراط وأفلاطون على السفسطائيين، ونظرة سقراط إلى الخطابة ونظرة أفلاطون، ليخلص من ذلك إلى نظرة أرسطو في الفن الأدبي وتفريقه بين الفلسفة من حيث إنها علم وبين الخطابة من حيث إنها خطة ومنهج يتبعان الخطيب، ومن حيث إن هدف الخطابة الإقناع وهدف العلم البرهان. . . الخ.

ثم ساير كتاب الخطابة في الزمن، فعين زمن كتابته، ووضع بعثه في أوربا في القرن

ص: 52

السادس عشر، والترجمات العدة التي تناولته من 1608 إلى 1932 وقرر أنه انتقى ترجمتين اعتمد عليهما: أحدهما ترجمة (إميل رويل والثانية ترجمة حديثة ظهرت عام 1932 م ل (مدريك دوفور

وافترض أن يقال: إن الكتاب قد شرح قديما، وأضيف إلى الفكر العربي بفضل أبن سينا وأبن رشد، فماذا يدعو الآن إلى ترجمته؟

ورد على هذا التساؤل بأنه لا يضير الفكر العربي أن تترجم إليه آثار أرسطو عدة تراجم، هذا على فرض أن ما قام به الفيلسوفان العربيان يعد ترجمة.

والحق أن ما نقله أبن سينا عن أرسطو كتاب الخطابة مضطرب غامض في كثير من نواحيه وموضوعاته، لأنه لم يعمد إلى الكتاب يترجمه، وإنما حاول أن يستفيد منه، فأدمج بعضه ببعض، وخلط بعضه ببعض، وأغفل الأمثلة الأدبية التي أودعها أرسطو كتابه، وكذلك فعل أبن رشد، وأن كان مختصره أسهل فهما من شرح أبن سينا.

على أن باعثا آخر يقتضي هذه الترجمة أن كتاب أرسطو لا تزال أفكاره حية خصيبة، ولا تزال صادقة في تطبيقها، فمن الخير للأدب العربي أن يترجم ترجمة حديثة سهلة التناول قديرة على تخطي العقبات التي كانت تعوق الترجمة القديمة الحرفية مع ما بذل أصحابها من جهد مشكور.

على أن هذا التساؤل - وقد ورد عليه الدكتور المترجم - لا مدعاة له إذا علمنا أن كتاب الخطابة قد ترجم إلى الفرنسية عشر مرات، فمن العجز والتهاون ألا يترجم إلى العربية هذه الترجمة المستوفية شرائط الجودة.

ثم عقد المترجم بحثا قيما في أثر أرسطو في البلاغة، أشاد فيه بفضل الدكتور طه حسين في تنبيه على العلاقة بين البيان العربي والبيان اليوناني.

ونوه بهذا البحث القيم وبإعجاب المستشرق المرحوم كراوس به، وقرر أن نفسه بدأت تساوره منذ ذلك الحين ليترجم كتاب الخطابة، وعقب على رأي الدكتور طه حسين ببسط له وتدليل.

واقتضى ذلك أن يعرض لآراء الجاحظ وأثره في البيان العربي وتعصبه للعرب، ورجح أن الجاحظ كان على علم بكتاب الخطابة قبل أن يترجمه حنين بن إسحاق أو إسحاق بن

ص: 53

حنين.

واقتضى ذلك أيضاً أن يعرض لآراء أبن المعتز وأصالتها وتأثر بعضها بأرسطو وخاصة ملائمة الأسلوب التي سماها العرب ملائمة الكلام لمقتضى الحال.

والمذهب الكلامي الذي أخذوه من جدل أرسطو ومنطقه.

ثم عرض لتأثر قدامة بن جعفر بأرسطو، وأحال من أراد التوسع على كتابه الآخر (بلاغة أرسطو بين العرب واليونان).

وقد أحسن صنعا بأن قدم لكل فصل من فصول الكتاب بكلمة موجزة جمع فيها ما تفرق من فقراته، ليدرك القارئ إدراكا جمليا ما في الفصل من أفكار، لأن أرسطو لم يكن يكتب كما يكتب المحاضرون كتابة مرسلة مترابطة، بل كان يكتب فقرات في الموضوع الواحد كل فقرة تحمل فكرة.

وأحسن صنعا بهذه التعليقات القيمة التي أضافها إلى الترجمة وهي كثيرة قلما خلت منها صفحة، كما أنه ذيل الكتاب بفهرس مفصل يوضح معالمه، ويرشد إلى أجزاء كل موضوع منه.

وبعد:

فإن الدكتور إبراهيم سلامة قد نفح الأدب العربي بهذه الترجمة نفحة عظيمة القدر بالغة الأثر، وحقق ما كان يصبو إليه الأدباء والباحثون منذ عهد بعيد أن يقرئوا خطابة أرسطو كاملة النقل دقيقة الأداء صائبة الترجمة ممتسقة الموضوع، وما من شك في أن هذه الترجمة عمل أدبي عظيم جدير بالإشادة والتقدير.

وأن الأدب العربي ليتطلع في شوق إلى الجزأين الآخرين من كتاب الخطابة، وإلى (بلاغة أرسطو بين العرب واليونان)، ويشرأب في لهفة إلى كتاب أرسطو في الشعر، ويدفعه إلى ذلك ما يتمتع بع الدكتور سلامه من بسط وعمق في الثقافة، ومقدرة على تذوق البلاغة العالية في الفرنسية والعربية، واقتدار على التعبير الطيع، ومكانة ملحوظة مرموقة.

أحمد محمد الحوفي

المدرس بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول

ص: 54

‌القصص

قصة التباس

للأستاذ نجاتي صدقي

عثر سكان قرية انجليسيدس في جزيرة قبرص على جثة رجل مهشمة ملقاة على الخط الحديدي الممتد بين نيقوسيا وفاما غوستا، وسرعان ما عرفه أهلوه فهو البناء ياناغيس ستافري. فحملوه إلى القرية بين الولولة وقرع الصدور، فبكته زوجته طويلا، وذرف أولاده دموعهم السخية على جثمانه، وأقاموا الحداد في البيت، ورفعوا على دارهم اللواء الأسود وهو يحمل الأحرف الأولى من اسم الفقيد، كما هي العادة المتبعة في تلك الديار.

ثم شيع أهل ستافري وسكان القرية الفقيد إلى مقره الأخير وكان الناس يفدون إلى بيته بلا انقطاع مواسين معزين سائلين الله أن يجود ستافري بشآبيب رحمته ورضوانه.

وبعد مضي أربعة أيام على هذا الحادث ظهر ستافري في القرية فجأة، وقد أثار ظهوره بعد موته ضجة ولغطا لا حد لهما.

فمن سكان القرية من ظن بأن في الأمر شعوذة، ومنهم من ظن أن ستافري مات لكن روحه ظهرت في شخص آخر، ومنهم من أخذ يفكر جديا فيما إذا كان للشيطان إصبع في هذه القضية.

وعلى كل حال استقبل القرويون ستافري بحذر شديد، أما هو فلم يفقه شيئا من هذه الحالة الشاذة، لم يدر لماذا يرمقه الناس بنظرات التفحص والاستغراب، ولماذا رفع على بيته لواء الموت الأسود وهو يحمل الأحرف الأولى من اسمه، ولماذا استقبلته أسرته بمظاهر الترحيب والنحيب.

وبعد أن هدأت العاصفة واطمأنت النفوس زال الالتباس واتضحت الحقيقة.

كان ستافري قد أخبر زوجته مرة بأنه مسافر في طلب الرزق وأنه سيعود إليها في مساء اليوم ذاته، فذهب إلى قرية (انكورا) وعمل فيها في بناء جناح لديرها، وقد تطلب العمل في بناء هذا الجناح أربعة أيام متتالية لم يتمكن ستافري خلالها من إخبار زوجته عن مكان عمله، أو لم يجد لزوما لأخبارها لأنه أعتاد التغيب في طلب العمل.

وحدث في اليوم الثالث من سفره أن وجد سكان قرية انجليسيدس جثة مهشمة ملقاة على

ص: 56

الخط الحديدي، وكانت الجثة شديدة الشبه بستافري فحملها القرويون على أنها ستافري نفسه، وأكدت زوجته بأنها جثة زوجها وقد عرفته من علامات فارقة.

وهكذا انقلب حزن القرية إلى فرح، وأنزل اللواء الأسود عن باب بيت ستافري، وعم السرور الجميع، فصاروا يفدون إلى بيته مهنئين مرحبين بعد أن أتوه بالأمس مواسين معزين.

وظلت قصة ستافري هذه مدار حديث القرية بل جزيرة قبرص بأسرها مدة من الزمن وقد نسوها الآن أو كادوا ينسونها.

أما ستافري وأسرته فلم ينسوا الحادث وهم لا يزالون حتى يومنا هذا يعالجون ذيوله، فهم لا يدرون من هو هذا الشخص الذي يرقد في قبر أسرتهم على أنه أحد أفرادها!. وهم لا يدرون لماذا لم يأت أحد يطلب جثة القتيل.

وأخيرا رفع ستافري قضية في المحاكم على أسرة مجهولة لقتيل مجهول يطلب فيها تعويضا بسبعين جنيها هي ثمن ألبسة ستافري الجديدة التي ترقد فيها الجثة المجهولة الهوية، وهيأيضاً نفقات جنازتها وما تبع ذلك من تضييقات وتوزيع مال على الفقراء.

وقد أصدرت المحكمة حكما في صالح ستافري فسيجري تنفيذه فور ظهور أسرة القتيل الغريب.

غير أن هذه الأسرة لم تظهر بعد!.

- 2 -

السيد سليم شخص دنيوي، يسهر الليالي ويجلس إلى المائدة الخضراء ويعاقر بنت الحان، ويماجن دون أن يعرف لهذه المماجنة حدا.

وفي صباح أحد الأيام وبينما كان السيد سليم في دائرته يقوم بأعباء وظيفته أحس بدوار شديد فحمله زملاؤه وأرقدوه على المتكأ فغاب عن الوجود إلى أن جاء الطبيب. وبعد أن فحصه قال، لقد عرفت كنه مرضه. فقيل له: وما هو؟ قال: انخفاض في ضربات القلب ناتج عن قلة النوم والإكثار من شرب الخمرة.

فقيل له: وكيف تعالجون هذه الحالة. فأجاب الطبيب هاكم العلاج: وصفع السيد سليم بضع صفعات على وجهه، وإذا به يثب متنمرا (قائلا): أين أنا؟. وما لكم مجتمعين حولي؟. . وما

ص: 57

سبب وجود الطبيب هاهنا؟. .

فانتحى به الطبيب جانبا (وحدثه بما يجري وأفهمه بأنه اضطر إلى صفعه ليعيد إليه شعوره، فشكره السيد سليم على حسن صنيعه هذا.

وبعد مضي شهر تقريبا على هذا الحادث التقى السيد سليم في أحد الشوارع بجماعة من الناس ملتفين حول رجل مستلقي على الأرض وهو في غيبوبة تامة. . وتدل ألبسة الرجل على أنه من المتعطلين الفقراء، كما تدل صحته على أنه من المحتاجين الجائعين.

فشق السيد سليم طريقه بين الجمع وهو يصرخ: ابعدوا عنه ابعدوا فعلاج هذا الرجل عندي! ثم تقدم من الرجل البائس ورفعه عن الأرض قليلا وأسند رأسه إلى الحائط وأخذ يصفعه على وجهه بشدة. . وما هي إلا ثوان حتى شهق البائس شهقة وأسلم الروح!

فنهض السيد سليم وشق طريقه بين الناس المشدوهين وصرخ فيهم قائلا: أتريدون مني أن أحيي الموتى؟!

نجاتي صدقي

ص: 58