الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 908
- بتاريخ: 27 - 11 - 1950
من ذكريات الغربة:
قصة حشاش
كان تدخين الحشيش في أيامنا الخوالي مقصوراً على صعاليك الناس، يجلبونه في السر، ويدخنونه في الخفاء، ويلوذ بعضهم ببعض في زرائب القرى وخرائب المدن، فراراً من النظرات الجارحة والغمزات المهيمنة، لأنهم كانوا في رأي المجتمع أقل قدراً وأذل نفساً من معاقري الخمر ومتعاطي التبغ؛ فبينما كان الخيال المحايد يصور الكأس جمالا بين يد مترفة ووجه وضئ، والسيجارة جلالا بين يد قوية وثغر جريء، كان يصور الجوزة بقذارة بين يد خشنة وفم بذيء! فلما عمم البوليس تداول الحشيش في كل بيئة، ويسر تناوله على كل طبقة، بفضل مطاردته الدائبة لجالبيه ومهربيه، ومصادرته المستمرة لبائعيه ومحرزيه، أصبحت الكأس لا تلذ إلا معه، والسيجارة لا (تكيف) إلا به؛ وأضحى ذلك الشيء الحقير القذر يصان في حقيبة يد المرأة، وفي حافظة نقود الرجل، وفي محفظة كتب الطالب، وفي درج مكتب الموظف، ولا يسمى الرجل متمدناً ولا متقدماً إلا إذا أخذ منه وأعطى، وأتحِف به وأتحف؛ وأمسى الحشيش والحشاشون في صدر المجتمع وفي عين الدولة، لهم ذكر في الصحف، ومواد في القانون، وقلم في البوليس، ومحكمة في القضاء، ومهربون من حجاج البيت، وموردون من رجال السياسة، ومصدرون من إخوان العروبة! ولا جرم أن هذا الطبل الذي لا يسكن نقره، وذلك المزمار الذي لا ينقطع زمره، هما اللذان جذبا إلى الحشيش النظر، وجعلا للحشاشين والمهربين هذا الخطر! والمحظور منظور، والممنوع متبوع، والإعلان إعلام.
أين من حالهم اليوم حالهم بالأمس؟ كنا لا نراهم إلا في النادر، ولا نسمع بهم إلا في النكت والنوادر. ومن وقع منهم في الرؤية أو في السماع كان موضع النكير والتحقير حتى يتوب أو يموت. اقرأ هذه القصة ثم وازن في نفسك بين حال الحشيش حين كان وازعه الدين والخلق، وحاله حين أصبح وازعه القانون والبوليس:
كانت قريتنا حين وعيت لا تفهم من الحشيش إلا العشب، ولا من الحشاش إلا من يحش البرسيم. وكان ظرفاؤها ممن يغشون المدن يروون لأهلها الأضاحيك عن الحشاشين في القاهرة فيحسبونهم صنفاً من الناس تميزوا بالنكت والحيل والمعارف، حتى طرأ عليهم
رجل فقير ضرير يلبس الطربوش التركي والعباءة الجوخ والجلباب الصوف، ولكنه كان مقطوع الأسباب، فلا هو سائل فيعيش على الإحسان، ولا هو حافظ فيتكسب بالقرآن. إنما كان رجلا مهذب النفس، حلو الحديث، بارع النكتة، يحسن الغناء، ويجيد النقر على الدف، فأحسنوا لقياه وأكرموا مثواه وأفرد له عمدة القرية حجرة خارج الدور جعل منها دكانه ومجلسه ومضجعه. وكان يختلف إلى هذه الحجرة في كل مساء بعض الشيوخ ممن يحبون غريب السمر، وبعض الشباب ممن يطلبون لهو الحديث. وكان عباس، وهو اسم ذلك الرجل - يتنقل بالجلوس من جد إلى هزل، ومن غناء إلى عزف، فيعجب ويطرب، ولكن أمتع ما فيه كان الدعابة والنكتة: كانت نكته على طريقة (اشمعنى؟) وكانت دعاباته من طريق التورية. وكان يركب بهاتين الطريقتين أو بإحداهما ثلاثة من خلطائه وخلصائه: فقيها أعمى وطحاناً أعشى وفلاحاً أعور، فلا يدري أحد منهم كيف يدفع عن نفسه. كان هؤلاء الثلاثة يبقون إذا انصرف السمار، فيغلق الفلاح الباب، ويوقد الطحان النار، ويهيئ الفقيه الجوزة، ويُعد عباس القرص، ثم يتعاقبون الغابة نفسا بعد نَفس. وكان عباس قد أخبرهم منذ اطمأن إليهم أن هذا هو الحشيش الذي يفتق ذهن الغبي، وينطق لسان الأبكم، ويرهف حس البليد؛ وأنه هو الحشاش الذي تحفظ نكته، وتروى حيله، وتطلب فتواه. فلم يخامرهم شك في قوله، لأنه هو نفسه الدليل على صدقه، فأقبلوا على المدخنة القذرة يأخذونها للشهيق والزفير، ويتركونها للسعال والشخير، حتى أصبحوا مدمنين لا يطيقون صبراً عن الحشيش، ولا يستطيعون بعداً عن عباس. وكان لابد للحشاشين الجدد أن يساجلوا في (القافية) الحشاش القديم. فنجح الأعمى كل النجاح، ووفق الأعشى بعض التوفيق، وأخفق الأعور غاية الإخفاق؛ لأن غباء ذهنه كان أكثف من أن يلطف، وغشاء حسه كان أصفق من أن يرق. ولكنه كان قوي الإيمان بالحشيش فلم يؤمن بالواقع. وأقبل المساء وغصت الحجرة كعادتها بالشبان والأحداث، فلهوا بالحواديت، ثم تساجلوا بالفوازير، ثم تجاوبوا بالمواويل، ثم أخذ عباس يرسل النكتة بعد النكتة فيقهقه لها الحضور، ويرد عليه الفقيه والطحان فتنبلج لردهما الصدور، وتنصب النكت على الفلاح انصباباً فيحاول أن يردها عن نفسه فيغفر فاه، ويرعش رأسه، ويهز يده، ويحاول أن ينطق فتنشب في حلقه الحروف ولا تخرج، ويتردد في صدره الصوت ولا ينطلق، فيسخر منه الجلوس
ويتناولونه بالعبث المؤلم فلا يسعه إلا الانصراف. وفي أثناء الطريق تواردت على خاطره شبهات في قدرة الحشيش على حل العقدة من اللسان، ولكنه دفعها بما فعل في الفقيه والطحان، وعزم أن يضاعف المقدار. فلما رجع إلى (غرزة) العباس بعد انصراف الناس كرر الشد، وعمق النفس، وطول النوبة. وفي آخر الليل استعمى رفاقه واختلس قطعة كبيرة من الحشيش، وظل في داره النهار كله يقتطع منها القطعة على قدر حبة الفول، ويذيبها في فنجان من القهوة السادة ثم يجرعها. فعل ذلك مرتين ثم أراد أن يفعل الثالثة فلم يستطع. لقد أخذته حال من الخدر الشديد فصار يأكل ولا يشبع، ويشرب ولا يرتوي، ويتكلم ولا يعي، ويضحك ولا يكف. وكلما رأى أحداً من أهله أو من جيرته قال له بلهجة متلكئة متقطعة متكلفة: أنت تمشي - اشمعنى؟ زي الحمار! أه أه آه! أنت تأكل، اشمعنى؟ زي الغول! أه أه آه! فينظر إليه السامع مشدوهاً ولا يضحك، فيرفع (المسطول) الصوت، ويعيد النكتة، ويردد الضحكة، ولكن المشدوه يظل واجماً ولا ينطق. وفي المساء تحامل الأعور على نفسه حتى بلغ مجلس اللهو، ولم يكد يدخله حتى قال بلهجة المنزل المسطول: أنت يا عباس! فأجابه عباس مبتهجاً: اشمعنى؟ فقال له: أعمى! أه أه آه! وانتظر هو ماذا يقول الناس، وانتظر الناس ماذا يقول عباس، فإذا بالناس يصيحون، وإذا عباس يصيح! أهذه نكتة يا نصف أعمى؟ ثم انفجر بالنكات الساخرة في وجه الحشاش المخدوع حتى ألجأه إلى الخروج فخرج خزيان يهذي. وعاد إلى داره وهو يشعر أنه الليلة خير منه البارحة، لأنه قال على كل حال شيئاً. وكان قد عرف من عباس أين يباع الحشيش فاشترى منه مقداراً كبيراً وأخذ يذيب منه في القهوة ويشرب. وفي كل ساعة من ساعات النهار والليل كان يرتقب وحي الحشيش فلا ينزل، وينتظر ذكاء الحشاش فلا يقبل، فيضاعف المقدار ويزيد الوجبات، حتى هزل جسمه، وشحب لونه، واختل هضمه، واعتل صدره، واضطرب عصبه، وساء خلقه، واعتراه الهمود، ولزمه الوسواس، فصار لا يعمل في غيط ولا بيت، ولا يفكر في زوج ولا ولد، وإنما كان أكثر يومه نائماً، فإذا أفاق هذى بالنكت الباردة والدعابات السخيفة. وفي غشية من غشيات المخدر باح بالسر المكنون فقال وهو يضرب بيده على صدره: أنا الحشاش الأصلي لأنني أشرب الحشيش بالفنجان، وعباس وصاحباه حشاشون مقلدون لأنهم يكتفون منه بالدخان!
وتسامع الناس بالسر المفضوح فتحاموا الأعور حتى نفق من الخبال، وقاطعوا الأعمى والأعشى والأعمش حتى هلكوا بالسلال!
أحمد حسن الزيات
عصابة روتشيلد
1 -
أمير هس كاسل يبيع الشعب ليهود فرنكفورت.
2 -
إنجلترا تخطف أفراد الشعوب وتجندهم لاستعمار أمريكا.
3 -
فلاسفة أوربا يشهدون على الإنجليز واليهود اللصوصية.
4 -
اليهود يدخلون من القاع ويخرجون من القمة.
للأستاذ محمد محمود زيتون
انتصف القرن الثامن عشر وما تزال الثروة العامة محصورة في استغلال الضياع، أو المعادن المسيطرة على الأسواق، وليس من سبيل إلى الغنى سوى امتلاك الأرض، وتوفير المال، والتعامل بالربا، فكان من الطبيعي أن يكثر المال في أيدي أصحاب الثراء، بينما يكاد ينعدم عند الكثيرين، مما أدى إلى استغلال ذوي الحاجة، ودعا إلى الغبن والاحتكار.
وهناك في مدينة فرانكفورت، عرف (ماير أنسلم روتشيلد) في حي اليهود - بتجارة الأوسمة والأحجار الكريمة، وأفاد من تعدد العملة في الدويلات خبرة بشؤون النقد.
وأصبح (الكونت هانادننزج) - الصديق الحميم لليهودي روتشيلد - أميراً على (هس كاسل) فكان له حق التصرف في رعيته، ولا يسأل عما يفعل بهم، فهو يجندهم ثم يبيعهم - كقطعان الغنم - للدول الأجنبية تستخدمهم في حروبها الطاحنة.
وكان التنافس في الاستعمار بين إنجلترا وفرنسا على قدم وساق، بيد أن إنجلترا قد بذلت الجهود الجبارة في طرد فرنسا من أمريكا الشمالية لتكون لها خالصة، وتنفرد هي باستعمارها، فاستعانت بأمير (هس كاسل) تشتري منه شعبه المجند لتحقيق مطامعها.
لم يكن الأمير لينسى فضل اليهودي عليه وما بذله من أجله لدى معارفه من أصحاب المصارف في فرانكفورت لتخليص ثروته الهائلة يوم فر بها من وجه نابليون سنة 1806، ولو لم يكن غير هذا سبباً للمصادقة لكفى، ولكن الأواصر قد توثقت بدوام النصائح العملية التي كان يسديها روتشيلد إلى صديقه الأمير، فضلاً عما تميز به اليهودي من حذق بالغ في تدبير المال، وشح وصل بصاحبه إلى حد الجنون، وسيطرة نافذة على أسواق فرانكفورت.
أضف إلى هذا كله ما بين الرجلين من تقارب في الميول لاستثمار الأموال.
لهذا وضع الكونت كل ثقته في روتشيلد واستخدمه وكيلاً عاما لشؤونه المالية، من باب عرفان الفضل لذويه، فأبدى من المهارة في عمله ما جعله أحدوثة التجار في حي اليهود، وتقاطرت على الأمير طلبات القروض المالية من حكومات الدانمارك وهسي دار مستان وبادن، كما تكاثرت عقود استئجار أفراد شعبه، وهو يقدمهم لإنجلترا كأنهم رءوس من الغنم يدفعها إلى (سلخانة) الحرب الاستعمارية قطيعاً بعد قطيع.
ولم يكن تقديم هذه القطعان البشرية على هذا النحو جرياً وراء انتصار لحق، أو رغبة في اقتسام مغنم، أو مجرد الحب الصافي لأصحاب العيون الزرق، وإنما هو المال ولا شيء سواه.
كانت إنجلترا تستأجر - أو بالأحرى تشتري - قطعان هس كاسل بثمن، والأمير بدوره يدفع لهم أو لعائلاتهم ثمناً بخساً في حالة الحرب، أما المصابون بجراح أو عاهات تقعدهم عن كسب العيش؛ أما الذين تودي بهم الحرب إلى دار الفناء، فإن إنجلترا تدفع عنهم للكونت التعويضات المناسبة، التي يعود معظمها عليه وعلى وكيل ماليته بالذهب الغزير.
وليس في هذا أي غضاضة ما دامت المقاييس المعاصرة تبررها ولا تستنكرها، فإنما هو كسب تجاري، والمكسب هو الفرق بين ثمن البيع وثمن الشراء، وليس يهم بعد ذلك إذا كانت السلعة جماداً أو نباتاً أو حيواناً أو إنساناً فهي تجارة تؤدي إلى ربح، وهذا هو المطلوب.
وتجارة كهذه لا بد أن تدر المال الكثير وتجلب الثروة الضخمة، مما جعل للرجلين صفة ممتازة عند الحكومات الأجنبية التي تتعامل معهما، ولا سيما تلك السمعة الطيبة التي ظفروا بها في جميع الأوساط من حسن المعاملة، والوفاء بالتعهدات، وتنفيذ الشروط المتفق عليها، بالشرف والأمانة، ومن غير غش أو تزوير.
أما المحاربون وعائلاتهم فليس لهم أن ينبسوا ببنت شفة ما دام أميرهم هو السيد المطاع الذي امتلك أرواحهم وأجسادهم يوم امتلك الأرض بما عليها ومن عليها، فهو يبيع فيهم ويشتري، كيف يشاء ومع من يشاء، فإذا أعطاهم رواتبهم، ولذويهم التعويضات بعد موتهم، فذلك فضل منه.
وكان روتشيلد يخشى أن تتبدد الثروة بعد وفاته بين ذرية وأزواج بناته، فسارع إلى بيع متجره لبنيه الخمسة الذين تمرنوا معه في التجارة، وضربوا في البلاد طولاً وعرضاً، للسيطرة على زمام المال عبر البحار، واحتكار الأسواق ولضمان ذلك أنشئوا نظام (المراسلة) للوقوف على الحركات المالية بين مدها وجزرها وبهذا ظلت ألاعيبهم طي الكتمان، وبمأمن من عواصف المضاربات.
ومات شيخ التجار اليهود في فرانكفورت سنة 1812 وترك هذا التراث الضخم لأرملته وبنيه وبناته، فأكبوا على المال يستثمرونه بكل طريق مشروع، وحرصوا كل الحرص على خطة أبيهم، واتبعوا وصيته، وعضوا بالنواجذ على تقاليد الأسرة، وساروا خلف أبيهم: وقع الحافر على الحافر.
واقتسم الاخوة أرجاء القارة فيما بينهم، فأقام ناتان بلندن، وجيمس بباريس، وماير بفرنكفورت، وشارل بنابلي، وسليمان بفينا، وهكذا أحكموا ثقوب المصيدة على أوربا التي لم تلبث حكوماتها أن وقعت كالفيران واحدة تلو الأخرى في حبائل روتشيلد.
كانت العصابة اليهودية تعتنق مبدأ (ادخل من الحضيض لتخرج من القمة) ومن أجل هذا التمست كل سبيل إلى هذه الغاية. وأخذ اليهود الخمسة أنفسهم بتحقيق أغراضهم، وإن شطت بهم الديار، وبعد المزار، وعلى ضوء التعليمات الآتية دخلوا من القاع:
أولاً: يندمج أبناء روتشيلد اندماجاً كلياً في البلاد التي يقيمون بها ويتعرفون على دقائق الحياة فيها.
ثانياً: مصلحة روتشيلد أولا، فيهود فرنكفورت ثانياً، ثم اليهود عامة، ومن بعد ذلك الطوفان.
ثالثاً: لليهود وحدهم تكون الأميال والأموال.
رابعاً: التعاون مع الحكومات تعاوناً إيجابياً يكون من شأنه تحقيق أهداف روتشيلد وليكن بعد ذلك ما يكون.
خامساً: ليس لأحد الأخوة الخمسة أن ينقد خطة الآخرين، وفي حالة الفشل يتعاون الجميع على انتشاله.
سادساً: اتخاذ كل الطرق المؤدية إلى النجاح ولا سيما بالرشوة والدس والإلحاد والدعارة
والسرقة والتقتير، وما يستحدث بعد ذلك من أساليب.
سابعاً: المال. . المال. . المال. . ولا شيء إلا المال.
وفي الحق أن الاخوة الخمسة كانوا أمناء على هذه التعليمات: كل في دائرة عمله، وكانوا من النشاط بحيث فاقو القردة والثعالب خفة ودهاء.
كان (ناتان) مقيماً بإنجلترا منذ أسند إليه أبوه عملا ماليا هاما، واتفق أن ضرب الحصار القاري على المانش، وخشي (ناتان) عواقب التهريب، على أن نابليون لم يكن يسمح بالتهريب إلا في حدود ضيقة وذلك فقط إرضاء لحلفائه، وإلا تحطمت الصداقة على هذه الصخرة العاتية، في مثل هذا التوتر السياسي الذي ساد العلاقات الدولية آنذاك.
وأغلق الباب في وجه ولنجتن بجنوده في فرنسا، وأعوزته النفقات تأتيه من إنجلترا وكان الإنجليز في حيرة من أمرهم، وتنازعهم الخوف والرجاء: الخوف من تسرب المعادن النفيسة إلى الخارج، والرجاء في توصيل المال إلى ولنجتن.
أما ناتان فقد ائتمنه أحد النبلاء الإنجليز على أموال طائلة في فترات متعاقبة بغية أن يستبدل بها كميات من الذهب والفضة لتهريبها إلى فرنسا عبر المانش، وعرف ناتان من أين تؤكل الكتف، فاتصل بأخيه جيمس ووصاه بالمبادرة إلى الحصول على ترخيص من ولاة الأمر بباريس لدخول رسائله وبذلك ضرب ناتان عصفورين بحجر، وحصل على مبالغ طائلة من وراء التهريب.
وفي هذه الفترة كانت المالية الإنجليزية في عجز شديد، واضطراب بالغ، ولم تدر إنجلترا من أين تشتري الذهب، وبالتالي كيف تنقله إلى جنودها في الخارج، وبرز ناتان في الميدان، وسرعان ما استعان بجيمس الذي لعب دوره في السوق المالية حيث اشترى جميع الأموال الفرنسية التي أتخمت أوربا. ونجح ناتان في نقلها إلى إسبانيا وإلى النمسا، وقد عادت هذه العمليات عليه بأرباح تذهل العقل، مع أنه لم يلجأ إلى تحويل العملة عند النقل كما أنها لم تتعرض للأخطار من أي نوع، ووصلت سمعة شركة روتشيلد إلى قمة الثقة لدى جميع الحكومات.
وخيمت الغيوم السياسية على جميع أوربا، ومنيت الحالة المالية في كل مكان بالهبوط السريع المؤدي بالحكومات إلى الهاوية السحيقة، وإزاء هذه الحالة انفردت عصابة روتشيلد
بالقدرة على سد الحاجة، فأخذت تقرض بالربا الفاحش وتختص بقروضها ما تشاء من الحكومات، وتحتكر الأسواق المالية.
ولما فرض التعويض الحربي على فرنسا وتحتم نقله عبر أوربا، لم تجرؤ إلا شركة روتشيلد فتعهدت بالمهمة وقامت بها خير قيام. وربحت من جراء ذلك بنسبة واحد ونصف في المائة من عشرين مليوناً من الجنيهات أو أكثر، علاوة على ما ظفرت به من شكر حار وجهه إليها وزير إنجلترا، لقاء خدماتها التي تنوء بالاضطلاع بها على جميع الشركات وإن كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وهذه حكومة النمسا تئن تحت ديونها الفادحة للمصارف النمساوية. فتعهدت عصابة روتشيلد بنقل نصيبها في التعويض الحربي، بل أقرضت النمسا الأموال التي كانت في حاجة إليها. مما حدا بإمبراطور النمسا إلى أن يخلع على العصابة ألقاب الشرف، وسمح لها بتأسيس فرع لها في فينا، قام على شؤونه (سليمان روتشيلد).
وامتدت أيدي الأشراف في النمسا وبروسيا والروسيا إلى الاستدانة، مما أنعش حركة القروض في فرعي فينا وفرانكفورت على نحو ظاهر.
وقامت في نابلي ثورة أهلية فبعث (مترنخ) حملة لإخمادها، وفرض على الثوار غرامة مالية باهظة، فطلب من (شارل روتشيلد) أن يدبر المال للمغلوبين على أمرهم مع مراعاة مصلحة النمسا في هذا الإقليم. ولكن شارل سليل روتشيلد - تلك العصابة اليهودية التي تحددت أهدافها - كان وفيا للتعليمات، حريصاً على المبدأ، ولو على حساب (مترنخ) بل النمسا التي زرعته برفق فاقتلعها بقوة.
اندس شارل في أوساط نابلي كما تندس الأفعى في أحضان عش دفيء، وسعى سعياً حثيثاً في مقاومة الاحتلال النمساوي. وفتح خزائنه للمقترضين عسى أن يعتدل الميزان الاقتصادي، ولكنه على العكس انقلب رأساً على عقب، وزادت الحالة سوءا، وجاء شارل فأعماها، من حيث أرادت أن تكتمل بماله عيناها، ولم تنل من الأصفر الرنان، غير الرنين الطنان، وعجز الحاكمون عن إصلاح ما أفسد الدهر وشارل، ولكنه توارى بالحجاب، وداعب العيون ببريق الذهب، فتهافتوا عليه تهافت الفراش على النور، فاصطلوا بالنار.
هكذا كان شارل؛ فقد سنحت له الفرصة (الذهبية) واغتنم احتياج النمسا إلى المال فأرغمها
على تعيين نائبه وزيراً للمال، فكان له ذلك، والمضطر يركب الصعب من الأمور، وقام الوزير بتعديل يسير تلاه قرض ظفر به للنمسا من إنجلترا، فتحسنت الحالة، وتألق نجم شارل حتى اختاره البابا مديراً لأمواله تقديراً لخدماته التي تذكر فتشكر، وما كان أغنى شارل عن وافر الشكر، وعاطر الذكر، ولكنه يعمل حيثما كان في سبيل المال لنفسه، أما إذا كان لليهود فسعيه في سبيلهم مشكور وهو على ذلك غير مأجور ولا مأزور، وبحسبه هذا الحرص على تعليمات روتشيلد، يرعاها ويعض عليها بالنواجذ.
وأنشأ (جيمس) مصرفاً في باريس، تقاطرت عليه طلبات القروض، فربح من ذلك ثروة جعلته في أسرع وقت أغنى رجل في فرنسا بعد الملك، وصارت عصابة روتشيلد أخطر على البلاد من سائر الدول الأجنبية بعد إنجلترا، التي أهوت بفؤوس الخراب على رأس فرنسا، فجاءت روتشيلد تحصد ما تبقى من يابس وأخضر.
وكان لسليمان في النمسا وجهته، ولكل وجهة هو موليها، فقد ساهم في المنشآت العامة كالطرق الحديدية والمناجم ومصانع الألغام، وما كان هدفه من وراء ذلك إلا المال، ولا شيء إلا المال، ولما اعتزم مترنخ إعلان الحرب على بلجيكا أعوزه المال وفي ظنه أن خزائن سليمان منه على مد اليمين، ولكن خاب فأله إذ رفض سليمان، ولم يكن بد من العدول عن الحرب.
هذا وعصابة روتشيلد لا تتوانى عن إمداد اليهود بكل ما يخفف ويلاتهم، ويثبت قواعدهم، ويجمع شملهم الشتيت، يبذلون في ذلك المال بسخاء، وبدون قيد أو شرط، أما المثل العليا والحركات الناهضة، والمشروعات الهامة، فذلك بعيد عن رسالتهم ولا يتمشى مع اتجاههم بسبيل، فلا يولونه غير أذن من طين وأخرى من عجين.
كانوا من الذكاء إلى حد استغلال الخرافات والأساطير للسيطرة على أوهام الناس، وجذب الأنظار إليهم، فقد اقتضاهم نظام المراسلة الذي أنشئوه تكاليف طائلة هانت كلها أمام بخلهم في نقل خبر هزيمة نابليون في (ووترلو) قبل شركات الأنباء بيوم، فتمكنوا من تكييف أعمالهم المالية حسب الظروف، وكسبوا أيضاً قصب السبق في نقل الأنباء.
وسرعان ما دخلوا من القاع، وعجلان ما خرجوا من القمة، وتربعوا على كراسي الحكم في يسر، وامتزجوا بطبقات الأشراف عن قرب، وطاردتهم فلول المعارضة، في كل مكان، فلم
تلبث أن أعياها الكلال، وأجهدها اللحاق، ففي النمسا آثر المخلصون أن تزداد الحالة سوءا بأيدي المواطنين الكاثوليك، على أن تمتد إليها بالإصلاح أيدي الأجانب اليهود، ولكن ما الحيلة؟!. . . العين بصيرة، واليد قصيرة، وروتشيلد كالأخطبوط آخذة بخناق أوربا، ومركزها في جميع الأرجاء وطيد بحيث تفزع إليها الحكومات كلما خربت الأمور، واشتدت الأزمات وما أكثرها كما أن الدول لا تطمئن إلا لها في نقل التعويضات إلى حيث تشاء عبر أوربا وهي بمنجاة من الخسران.
ومع هذه الثروات الضخمة التي كدسوها من الربا والغبن والاحتكار لم يحاولوا الظهور في ميدان النظم الاقتصادية الحديثة القائمة على أسس علمية، فما كان أبعدهم عن هذا المضمار نظريا وعملياً، وما كان أقربهم من الحركات الرجعية الضاربة بعروقها في أعماق الشيح والأنانية.
فقد اكتشفت مناجم الذهب، وفاضت منابعه، وامتدت الطرق الحديدية، وتعددت الثروات واتسعت المصانع، وانتبهت الضحايا - وهي في الرمق الأخير - إلى الذئاب السود وقد ولغت في دماء أفراد الشعوب، وتشدقت بأشلاء حكومات الدول.
وعندئذ انكمشت العصابة السوداء في أوكارها، وبدأت تلم شعثها في الخفاء، ولكن أذنابها لم تزل حتى يومنا هذا تفعل أفاعيلها في لندن وباريس وفرانكفورت وفينا ونابلي. ولما كان ناتان أكثر الاخوة نشاطا، فقد لزم أن تكون لندن مركز هذا النشاط. ومن هنا كان على إنجلترا أن تتبنى سياسة عصابة روتشيلد، مسترشدة بأساليبها، مقتفية آثارها، ولا سيما بصدد الاستعمار: وليد اللصوصية اليهودية. وسليل الاتجار بالقطعان البشرية.
وتم التناسخ بين اليهود والإنجليز، وصعب على الناس التمييز بينهما، فإذا قالت إنجلترا (تمسكنت فتمكنت) تبادر إلى الأذهان أنها ترجمة حرفية لمبدأ (ادخل من الحضيض لتخرج من القمة).
وسيذكر التاريخ بمزيد الإعجاب فلاسفة أوربا المعاصرين أمثال (زهاروف)، و (ليفنسون)، و (ميبرز)، و (وارشو)، و (هارولد لاسكي)، و (شارل فرانسز)، و (هنري آدمز)، و (ولز) وغيرهم من الباحثين في تاريخ الثروات ووسائل تحصيلها وعوامل التضخم المالي في أوربا وأمريكا، وما خلت الحركات المالية قط من أصابع اليهود الذين أمسكوا بعجلة
التقدم، فعطلوا العالم عن بلوغ أهدافه السامية، وعكروا صفو السلام السياسي والاقتصادي، وإلى هؤلاء الباحثين يرجع الفضل في الكشف عن أسرار الخراب الأوربي في القرن الماضي، وبحسبهم أنهم رفعوا النقاب الأسود عن وجه القارة، وتتبعوا الأساليب اليهودية في كل مضمار، ووقفوا على خبايا الاستعمار، وخفايا السياسة (الأنجلو يهودية) مع الدقة والإخلاص في الشرح والتشريح.
ولسنا نجد أقرب من الكاتب الفيلسوف (هـ. ج. ولز) وهو إنجليزي لحماً ودماً وهو يشهد أمام محكمة التاريخ فيقول: (وإذا قامت أسرة روتشيلد بتحرير اليهود فإنما تحرر نفسها، وستسترد ما تنفق من مال بفضل تعاون اليهود الذي يقتضيه فعل المعرف، ويظهر أن ولاءهم لبني جلدتهم كان غريزة ركبت في طبعهم، كاتحادهم الطائفي، ودأبهم على العمل، على الرغم من أن رسائلهم وأساليبهم العملية لا توحي للباحث بهذا الرأي).
وليتأمل معي كل بصير هذه العبارة (وستسترد ما تنفق من مال) ولنذكر إلى جانبها عبارة أخرى للكاتب الفيلسوف بصدد تبرير هذه السياسة إذ يقول (إن أعمالهم كلها عادلة تبررها مقاييس العصر)، وهكذا صدق المثل العربي (إن العصا من العصية وهل تلد الحية إلا حية).
ليت العرب يعلمون هذا، ويعملون بقول شاعرهم:
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها
…
إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا
محمد محمود زيتون
صور من الحياة:
إنسانية تتهاوى!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي (ما بالك ساهم الفكر مضطرب النفس مقطب الجبين، يلوح الأسى والعبث في نظراتك، وترن نغمات الشجى والهم من خلال كلماتك. وعهدي بك متطلق الوجه مستبشر الخاطر منفرج الأسارير؟).
قلت (آه، يا صاحبي! لقد عشت منذ الصباح في غمرات من الألم أراها قاصمة الظهر، وجهدت أن أدفعها عن خيالي فآذني أن أفعل، فطرت إليك علك تخفف عن قلبي بعض ما أثقله حين تراءت له النفوس وقد نضبت من الإنسانية وصفرت من الرجولة):
قال (هاتها!)
قلت (هي قصة رجل عصرته الحياة بين فكين غليظين من وطأة العلة وشره المال فما أفاق إلا على دوى يؤرق نفسه ويثير همه. . . دوي ينذره بأنه أوشك أن يفقد حياته وماله في وقت معاً.
هو رجل طوى عمر الشباب ينظر إلى الدنيا بعينين فيهما فرحة الأمل ولمعة الرجاء، ومن حواليه صبية صغار يرفون رفيفاً حلواً ينفث في قلبه الهمة والنشاط ويبذر في روحه الهدوء والطمأنينة، فهو يرى فيهم نوراً يتألق فيبدد ظلمات من العيش تكاثفت أمامه منذ أن مات عنه أبوه وخلفه وحيداً في خضم الحياة تتقاذفه أمواجها العاتية لا يجد العون ولا الساعد ولا الناصح فراح يتخبط على غير هدى.
وأحست الحياة بوحدة الصبي وضياعه فعبست له وبسرت لا ترحم ولا تشفق، ولكن شيئاً من ذلك لم يقعد به عن أن يشق طريقه في أناة وصبر، ولا عن أن يندفع على سننه في قوة وعناد، لا يعبأ بالغلظة ولا يضيق بالجفوة، حتى أصاب طرفاً من نجاح فأصبح موظفاً صغيراً في الحكومة وانطوت السنون.
ثم جاءته المحنة الكبرى فأصيب بذات الرئة، وأحس بالداء يسري في دمه فما اضطربت نفسه ولا ضاقت به الحيلة، وبين يديه ألف جنيه، ورث البعض وادخر البعض، فهو يستطيع أن يشتري الطبيب والدواء في وقت معاً، فأنطلق إلى طبيب من ذوي الصيت
والعلم بطب لدائه، ومن أمامه ألف شعاع من أمل وألف نزوة من كبرياء. ووقف بإزاء الطبيب يحدثه (وأنا - يا سيدي - أدخر ألف جنيه لا أضن بها على من يمسح على دائي فيحبوني بالشفاء، لأجد في الصحة متعة صبية صغار يترجون أباهم) وتحلب ريق الطبيب فلبس ثوب الثعلب وهو يقول (لا عليك، فهذا داء قريب البرء عاجل الشفاء).
واطمأن المريض لكلمات الطبيب. وأمسك الطبيب بالسماعة ليسمع دقات جيب المريض، ثم أمسك بالقلم ليكتب له الدواء الذي يؤجل الشفاء ويمد في عمر الداء.
واطمأن المريض إلى العلاج الذي لا يغني ولا يشفي، على حين قد عمى عن يد الطبيب وهي تتسلل إلى جيبه في دهاء ومكر لتستلبه ميراث أبيه ووفر عمره. وأحس - بادئ ذي بدء - أن الصحة تسري في عروقه وتتألق على صفحة وجهه فاطمأن وهدأت جائشته، ثم ما لبث أن شعر بالخور والفتور والضعف توشك جميعاً أن تعصف بهمته ونشاطه وشبابه، فأنطلق إلى الطبيب يستعينه على الأمر ويبذل له الوفر، غير أن الطبيب أمسك بالقلم - مرة أخرى - ليكتب له الدواء الذي يؤجل الشفاء ويمد في عمر الداء.
وربط المريض حبله بحبل الطبيب الذي أخذ يختله عن صحته وماله، ووصل سببه بسببه فما ينطوي عنه إلا ريثما يعود إليه، والطبيب ينظر إليه - في كل مرة - بعينين فيهما معاني الضراوة والفتك، يرى مريضه يتهاوى تحت ضربات المرض الجاثية فلا ينبض قلبه برحمة ولا تخفق روحه بشفقة، ثم لا يجد في نفسه إلا معاني الأرضية الوضيعة تتوثب في شره تريد أن تفترس أو تلغ في الدم، فراح يستلب مال الرجل المسكين لينقض بيت أو تتهدم أسرة.
وللطبيب في مهنته منطق يشبه منطق الذئب أمام الشاة: منطق القتل والسلخ؛ منطق الجزار يغمد المدية في نحر البهيمة ليشخب دمها بين يديه نضاراً خالصاً يستحيل إلى دار أو إلى عزبة أو إلى متعة تافهة.
والطبيب - في رأي الناس - رجل فوق القانون، لأنه يقتل بمشرط من القانون ويسلب بدهاء من القانون ويسرق بحيلة من القانون ويخدع بإذن من القانون.
وهو - في رأي نفسه - رجل بذل العمر والمال ليتعلم العلم الأرضي الذي يتلهف على المال ويمهد للمادة ويتداعى أمام الجنيه ثم هو - بعد ذلك - يترفع على الفقير والمسكين
وذي الحاجة. . . العلم الأرضي الذي يقاس بالقرش والجنيه ويقوم بالدرهم والدينار لا تسطع فيه روحانية السماء ولا سمو الروح.
وهو - في رأي السماء - روح الجنة التي تكشف البلاء، ويد الله التي تزيح الشقاء، وبلسم النفس التي تجد الغماء.
فيا لشقاء أهل الأرض من طبيب يتعلم العلم الأرضي الذي تلتصق دواعيه - أبداً - بالتراب.
وربط المريض حبله بحبل الطبيب، وتراخى الطبيب وأهمل، والمرض يستشري ويتشبث، ومضت سنة كاملة، استحال - من بعدها - الداء الذي كان قريب البرء إلى علة ما لها من دواء. . . إلى السل. وأحس الرجل بالسل يخترم قوته على حين قد نضب معينه وصفرت يده.
وانسابت الحسرة في قلب الرجل فهو لا يجد المال الذي يدفع به المرض، ولا يجد الصحة التي يكسب بها المال. وهو يضن بصغاره الأحياء أن يصيبهم المرض الخبيث الذي تغلغل في رئته، ويشفق عليهم أن ينالهم عنت الفقر، فراح ينظر إليهم - من بعد - في رقة لا تجد متنفساً.
وجلس الرجل - ذات ليلة - إلى زوجته يحدثها حديث الداء العضال الذي كتم عنها خبره منذ أن أصابه، فإنخرطت في بكاء مر. . . بكاء المرأة تحس مرارة الفاقة ولذع العوز وفقد العائل. وترامى إلى الحكومة خبر المرض الذي يفري الرجل فقذفت به إلى الشارع.
وانطلق الرجل في شدة الهم ولأواء الألم. . . انطلق إلى الطبيب يكشف له عن ضنا نفسه وشجو قلبه فأشاح عنه بوجهه وهو يقول في غير اكتراث (الآن لا معدي لك عن أن تذهب إلى مصحة حلوان).
لا عجب فقد طرحه الطبيب بعد أن استنزف ماله وامتص وفره، طرحه لأنه نزل عن إنسانيته ورجولته لقاء دريهمات.
وألقى الرجل السلم عن يد خيفة أن تنتقل العدوى إلى أحبائه: زوجته وأولاده.
ودخل الرجل المصحة حطاماً يئن من عوز ومن ضعف. ووضع طبيب المصحة يده ثم رفعها وقد اربد وجهه وتقطب جبينه وتيقظت إنسانيته، فجلس إلى المريض الواهي يسأله
ليعرف قصة رجل ضيعه طمع طبيب ليس من بني الإنسان. وأحس الرجل بالبهر والإعياء من طول الحديث فألقى بنفسه على فراش وعلى وجهه سمات الجهد والضنا. ونظر طبيب المصحة في غيظ وإشفاق ثم قال (آه، لو أن قانوناً يقول: النفس بالنفس. . .!) ثم عزم على أن يحيي موات الأمل في نفس هذا العليل المتداعي ليكون روح صبية صغار يترجون أباهم، فأصر على أن يستأصل الداء من جذوره رغم أن المريض لا يقوى على وطأة المخدر لضعفه وتهالكه. وأمسك الطبيب الطيب بالمنشار يقد ضلوع المريض وهو يرى ويسمع ويحس ويتألم ولكنه كظم صيحات نفسه فلم ينبس بكلمة.
وخرج المريض من المصحة، بعد حين، ليرى. . .
قال صاحبي (وخرج المريض من المصحة، بعد حين، ليرى الطبيب الذي غاله ماله وأسكبه من صحته وختله عن شبابه. . . ليراه ما يزال في عيادته ذئباً بين شياه، يستمتع بالأمن والسلام لأنه فوق القانون، يقتل بمشرط من القانون ويسلب بدهاء من القانون ويسرق بحيلة من القانون ويخدع بإذن من القانون. . .!)
كامل محمود حبيب
عسل النحل بين الطب والإسلام
للدكتور حامد البدري الغوابي
يقول الله سبحانه (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) صدق الله العظيم.
هذا هو إعجاز القرآن لا من جهة أسلوبه وما يملك من قوة ولسن وروعة فن؛ إنما هو إعجاز كشف الله به حجاب العلم.
فتأمل النحل وأحوالها، ومملكتها وأجنادها، وانظر إلى بيوتها وخلاياها مسدسة أشكالها، متقاربة أوضاعها، محكماً صنعها بنتها بغير مقياس أو آلة، إنما ألهمها ربها فنها، وأوحى لها أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، فأطاعت أمر ربها، واتخذ فريق منها بيوتها في بعض الجبال سكنا، واتخذت طائفة أخرى الفجوات في الأشجار بيتا ومأوى، كما اتخذ فريق ثالث بيوت الناس حيث يعرشون أي حيث يبنون لها العروش.
ولكي نفهم هذه الآية حق الفهم، يجب أن نعرف شيئاً عن النحل ومملكته ونظامها فهي مملكة ذات نظام وتنسيق، وقد أولع بها العالم (مرالدي) فصنع خلية من الزجاج راقب فيها أفرادها فرأى عجبا أنطق لسانه بالإقرار بقدرة الخلاق.
كل فرد في هذه المملكة له عمل، لا تقاعد ولا كسل، وهذا النشاط في الخلية أصبح يضرب به الأمثال، مما دعا أحد الحكماء في نصحه لتلاميذه أن يقول (كونوا كالنحل في الخلايا فهي لا تترك عندها متبطلا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية لأنه يضيق المكان ويفني العسل ويعلم النشيط الكسل) وهذا ما تفعله عاملات النحل بالذكور إذا أقبل الشتاء ببرده القارس واستعدت الخلية للبيات فتنقض على الذكور فتقتلها.
أجل!! ليت الإنسان قد أخذ من النحل في نشاطها المثل، فللنحل دوى ولكن يعمل؛ والإنسان قد تسمع له جعجعة ولا ترى طحنا.
وأفراد الخلية يطيعون الملكة ولا يعصون لها أمراً، وهي ملكة واحدة وظيفتها وضع البيض وتدبير العمل وتوزيعه على بقية الأفراد، ورحم الله شوقي حيث قال:
يا ما أقل ملكها
…
وما أجل خطره
قف سائل النحل به
…
بأي عقل دبره
تجبك بالأخلاق وهي
…
كالعقول جوهره
تغني قوي الأخلاق ما
…
تغني القوى المفكره
ويرفع الله بها
…
من شاء حتى الحشره
ثم يوجد في هذه المملكة بضع مئات من الذكور وظيفتها التلقيح، ثم توجد عدة آلاف من العاملات التي يدور عليها رحى العمل، فمنها التي تبني عيون الشمع بترتيب هندسي منظم يعجز عنه الفنان المعلم، وفي هذه العيون يخزن العسل وتضع الملكة البيض، ومنها التي تجمع الرحيق فيتحول بطريقة خاصة في معدتها عسلا ثم تلفظه شراباً فيه شفاء للناس، هو الشهد المصفى والسكر المكرر، ومنها التي تحمل الماء، ومنها المدافعات عن الخلية، فتلسع من يعتدي عليها سواء كان إنسانا أو حيوانا أو حشرة أو نحلة غريبة من خلية أخرى، ومنها ما تشتغل بتنظيف الخلية من الداخل، إلى آخر ما يرى من نظام في العمل بديع، وترتيب وتنسيق. والآن نتمم الكلام عن هذه الآية الكريمة، فبعد أن أوحى الله إليها بسكناها قال (ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا) فالنحل تسلك في الوصول إلى الحقول حيث الثمرات طرقاً ملتوية، ولكنها لا تضل على بعدها السبيل إلى الخلية، بل هداها الله أدراجها، وآتاها أبراجها، وجعل سبلها سهلة ميسرة، فقد تسلك بضع كيلومترات ولكنها لا تستوعر طريقها، وبعد أن ترتشف من الأزهار رحيقها، ترده عسلاً صافياً يخرج من بطونها مختلفا ألوانه بين الأحمر والأصفر والأبيض، وذلك باختلاف الرحيق الذي ترتشفه، فإنها إن ارتشفت من أزهار البرسيم مثلا، كان العسل فاتح اللون، وإن وقعت على بعض أزهار الفاكهة كان العسل أغمق لونا.
العسل من وجهة الدين
قرر القرآن الكريم أن الشراب الذي يخرج من بطون النحل شفاء للناس من أدوائهم. وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال (العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين العسل والقرآن) هذا وقد عالج رسول الله شكاة البطن بالعسل إذ جاءه رجل فقال إن أخي يشتكي بطنه فقال اسقه عسلا، ثم أتاه الثانية فقال اسقه عسلا؛ ثم أتاه الثالثة فقال اسقه عسلا؛ ثم أتاه فقال قد فعلت. قال صدق الله وكذب بطن
أخيك، اسقه عسلا فسقاه فبرئ.
والآن سنرى أن الطب يرى في عسل النحل ما قرره القرآن من قبل، ويقر علاج الرسول لشكاة البطن.
العسل من وجهة الطب
وقبل أن نتكلم عن فوائد العسل الطبية نذكر طرفا عن تركيبه الكيماوي:
العسل به 16 ? ماء، ومن 30 - 45 ? سكر فواكه (ليفيلوز)، ومن 25 - 40 ? سكر العنب (جلوكوز)، و1 ، 9 ? سكر قصب، وحديد وبوتاسيوم وصوديوم وكبريت ومغنيسيوم وحامض فسفوريك وحامض فورميك ومواد عطرية 3. 8 ?.
فنرى أن العسل يحتوي على مواد يحتاج إليها الجسم كالحديد والفوسفات وغيرها بخلاف ما فيه من سكريات.
أما الجلوكوز الموجود فيه فهو بيت القصيد، فهو يعطى الآن في الطب دواء وحقنا تحت الجلد وفي الوريد ويعطى حقناً شرجية أيضاً كمغذ ومقو، وهذه الحميات كالتيفود وغيرها، وهذه النزلات المعدية والمعوية وما يكتنفها من قيء وإسهال، وهذه الأمراض المزمنة كضعف القلب، وهذه التسممات من احتباس البول مثلا أو من مواد خارجية كالزرنيخ، كل هذه الأمراض يفيدها الجلوكوز ويسير بها إلى طريق الشفاء.
وكم رأينا من مريض منع في علاجه عن الأطعمة، فكان سكر الجلوكوز هو الغذاء والدواء، فهو سهل في امتصاصه سريع في فائدته.
وكم رأينا من طفل صغير أصابته الإسهالات التخمرية من استعمال المواد السكرية، فلما وضع له العسل في اللبن بدلاً من السكر، استفاد جسمه وتحسنت حالته، حيث أنه سهل هضمه، سريع امتصاصه، فلا يجهد الغدد في تحليلها، ولا الخمائر في تحويلها، كما أنه لا يسبب غازات بالأمعاء. وتلك ميزة عظيمة من ميزات العسل.
هذا فضلا عن أن العسل لا يتلف الأسنان كالمواد السكرية، بل أنه لتعالج به اللثة في الأطفال عند التسنين، وذلك بأن تمسح اللثة المحتقنة بالعسل، وما معظم الأدوية المسكنة للثة إلا ويدخل في تركيبها عسل النحل.
وكم رأينا من مريض بالبول السكري وهو من احتمى في غذائه من السكريات، إذا أصيب
بغيبوبة من تسمم السكر كان الجلوكوز مع الأنسولين هو الدواء الوحيد المنقذ، وكأنما يسري عليه القول (وداوها بالتي كانت هي الداء).
حتى إن أولاد مرضى السكر عند بدء ولادتهم يعالجون بالجلوكوز، فإن الأم المريضة بالسكر يولد طفلها ونسبة السكر في دمه قليلة في الساعات الأولى من حياته، فيعطى سكر الجلوكوز فوراً لتعويض هذه القلة بمقدار خمس نقط في الفم من محلول جلوكوز خمسين في المائة كل نصف ساعة في الست ساعات الأولى من حياته، وإلا فإنه يكون عرضة للموت نتيجة قلة السكر في الدم.
وللعسل تأثير ملطف يزيد في إفرازات الفم فيفيد في حالات صعوبة الابتلاع وجفاف الزور وفي حالات السعال الجافة. ولذلك أدخل طبياً في تركيب كثير من الغراغر وأدوية السعال، وكان يصفه (جالينوس) في آلام الصدر، وسبق أن أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال (نعم الشراب العسل يرعى القلب ويذهب برد الصدر).
والعسل ملين لطيف، فابدأ صباح كل يوم بتناول ملعقة كبيرة منه تستفد غذاء وتجد فيه مليناً.
وقد أثبتت التجارب التي عملت بمعهد باستير أن كيلو العسل يفيد الجسم بما يوازي 3 ونصف كيلو لحم و12 كيلو خضروات.
والعسل معقم ومضاد للفساد لأن أي ميكروب لا يستطيع أن يعيش فيه طويلا إذ أن درجة تركيز العسل تجذب الماء من أجسام الجراثيم فتبيدها.
وقد يسأل سائل لماذا لا يكون في الفواكه التي تشبه العسل في طعمها، ما في العسل من الفائدة؟ فنقول إن السكر الذي بها هو سكر القصب أو أنواع أخرى ليس لها ما للجلوكوز من مميزات علاجية؛ كما أن الفواكه لا تحتوي من الجلوكوز إلا على نسبة ضئيلة لا تغني شيئا.
ولا يفوتني هنا أن أنوه بسائل آخر يخرج من بطون النحل من مؤخرة الجسم عن طريق آلة اللسع وهو سم النحل، جعل فيه شفاء لبعض الأمراض، إذ قد لسع النحل بطريق المصادفة مريضاً بالروماتيزم بجوار مفصله المريض وكان عجباً أنه شفي بعد اللسع، ذلك حدا بعض المعامل إلى إجراء أمثال هذه التجارب على مرضى الروماتيزم واللمياجو
(روماتيزم في الجزء القطني من الظهر) والسياتيكا (عرق النسا).
ثم هناك الشمع الذي تفرزه النحلة من غدة خاصة بين حلقات بطنها، فيخرج أولا كصفائح رقيقة صلبة تتلعقها النحلة في فمها وتمضغها فتلين من صلابتها ويسهل بذلك تشكيلها في صنع الحجرات الصغيرة السداسية ذات الشكل الهندسي الرائع.
وقد استعمل الشمع قديما في صناعة شموع الإضاءة وحديثا في الطب كأساس في صنع المراهم والدهانات المرطبة (الكريم).
وأخيراً وليس أخرا جرب الدكتور الأمريكي (ايكارت) علاج لسعة النحل بمسها بالعسل فهدأ الورم وسكن الألم.
سبحانك اللهم، ألهمت مملكة النحل فدبرت ملكها ونظمت جندها، ألبستها الخيرات وأطعمتها الزهرات وسخرتها للناس بالعسل طاهيات، فهي إن دوت روت، وإن طعمت أطعمت وإن لسعت نفعت.
فهل رأيت النحل عن
…
أمانة مقصره
ما اقترضت من بقلة
…
أو استعانت زهره
أدت إلى الناس به
…
سكرة بسكره
سبحانك ربي هذا كتابك شفاء نافع ودواء ناجع ولكن ما أقل المستشفين به، وهو علم ونور يقف أمامه الجامد المنكر وقفة الأخيذ الحيران. وإلا فهل كان عند نزول القرآن منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا يعرف ما في عسل النحل من مركبات وهي لم تعرف إلا حديثاً، أم كان يعرف الجلوكوز وأنه سيستعمل يوماً، دواء للأدواء ولكنه علم من هو فوق كل ذي علم عليم.
وإلى فرصة أخرى لنوالي أحاديثنا عن الطب والإسلام تذكرة وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
الدكتور حامد الغوالي
طبيب أول مستشفى رعاية الطفل بالجيزة
الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
الأمراض النفسية
- 8 -
في الإنسان قوة اختلف علماء النفس في تسميتها؛ فبعضهم يسميها قوة الحياة أو القوة الدافعة أو إرادة القوة أو اللبيد، وهذه القوة على كل حال تدفع الإنسان إلى الاحتفاظ بحياته وتحفزه إلى أن يعني بأركان الحياة من الغذاء والسلامة وتخليد النوع. وفي الأزمنة الغابرة كان سهلا على الإنسان أن يحصل على مطالبه الضرورية المحدودة كما تقتضيه غرائزه وميوله. أما بعد أن تقدمت الحضارة وأصبح المجتمع يقضي على الإنسان بالخضوع لآداب وقوانين وعادات وتقاليد كثيرة لم يعد الإنسان قادراً على أن يطلق الحرية لغرائزه ورغباته وميوله وأمانيه.
بل اضطر أن يقمع كثيراً منها ويكبتها في قرارة نفسه كلما حاولت الظهور بمظهر لا يرتضيه المجتمع أو يضر بحسن مركزه أو سلامته فيه، وبذلك قام في النفوس صراع شديد بين ما يتطلبه المجتمع وبين ما يتطلبه الفرد. إلا أن كل رغبة تكبت وكل غريزة تخمد لا تموت بل تنزل إلى قرارة النفس وتنحدر إلى أعماقها المظلمة. وتبقى هناك حية عاملة في الخفاء تحرك المرء وتدفعه فتوجه سلوكه أو تحدث له من العلل الشيء الكثير على غير علم منه ببواعث هذا السلوك أو هذه العلل. وقد تحاول هذه الدوافع أن تجد لها منفذاً إلى الشعور فيمنعها المرء بإرادته ويقيم عليها من نفسه رقيباً هو الضمير يردها إلى اللاشعور فترجع خاسئة مهزومة ولكنها لا تلبث حتى تتحفز إلى الظهور ثانية وثالثة.
فكأن هناك مصارعة نفسية مستمرة بين الهوى والعقل تنتهي غالباً بمرض عصبي أو شذوذ في السلوك وهذه المغالبة والمصارعة بين ما تقتضيه أهواء الإنسان وميوله وبين ما تقتضيه البيئة تحدث كل يوم وفي كل إنسان من بداية نشأته إلى مماته.
وقد تنبه العالم الغزالي رحمه الله إلى هذه المعركة الهائلة في النفس الإنسانية وتتبع أسبابها وعللها وأهدافها ومراميها فعرف جلية أمرها وحقيقة حالها معرفة لا تقل قيمة وخطراً ولا
مدى واتساعاً عن المعرفة التي وصل إليها علماء العقل الباطن في زماننا هذا.
نرى الغزالي يشبه العقل بقبة مضروبة لها أبواب تنصب إليه الأحوال من كل باب، أو بهدف تنصب إليه السهام من الجوانب، أو مرآة منصوبة تجتاز عليها الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة، أو بحوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه وإنما مداخل هذه الأنهار المتجددة في العقل في كل حال. أما من الظاهر فالحواس الخمس، وأما من الباطن فالخيال والشهوات والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه على أثر في العقل وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل العقل من حال إلى حال آخر. والمقصود أن العقل في تغير وتأثر دائمين من هذه الأسباب. وأخص الآثار الحاصلة في العقل هو الخواطر وأعني بالخواطر ما يحصل في العقل من الأفكار وأعني به إدراكاته علوماً. إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر فإنها تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بعد أن كان العقل غافلا عنها. والخواطر هي المحركات للإرادات فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محلة. فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة والرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء. والخواطر المحركة للرغبة تقسم إلى ما يعدو إلى الشر أي إلى ما يضر وإلى ما يدعو إلى الخير أي إلى ما ينفع، فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين. فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً والخاطر المذموم أعني، الداعي إلى الشر يسمى وسواساً إلى أن يقول: ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة. ثم إن كل حادث لا بد له من محدث. ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب. ومهما استنارت حيطان البيت بنور الدار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الإنارة وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان.
فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً. واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقاً والذي يتهيأ لقبول وساوس الشيطان يسمى إغواء وخذلاناً.
هذه صورة واضحة الأجزاء بينة الجوانب زاهية الألوان بين الغزالي بها في صراحة
ووضوح وترتيب واتساق الرغبات المتصارعة في النفس الإنسانية من جراء القيود الكثيرة التي تقيدها بها النية الاجتماعية وهو يعنى ولا شك العقل، العقل بجزأيه اللاشعوري والشعوري، معتبراً خواطر العقل الباطن خواطر شر أو هي الشياطين التي تغري الإنسان بتحقيق رغباته الغريزية الإيجابية المتضاربة مع مقتضيات المجتمع. ومعتبراً خواطر العقل الواعي خواطر خير أو هي الملائكة التي توفقه لما فيه خيره ونفعه. وليس غريباً أن يعتبر الغزالي الرغبات الغريزية والميول الفطرية التي تتنافى مع مقتضيات المجتمع - ولا سيما من الوجهة الدينية - شروراً وآثاماً ضارة وشياطين موسوسة ومغرية، وأن يعتبر تحفظات العقل الواعي أو الضمير الاجتماعي ملائكة تلهم التوفيق وتدعو إلى الخير والنفع العميم.
ولم يفت الغزالي في هذا المعرض الخدع النفسية التي تحاول فتح باب الشعور لرغبات العقل الباطن المكبوتة. وقد أدرك ما في هذه الناحية من حياة الإنسان النفسية من غموض وصعوبة فهم قال - ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى ما يعلم قطعاً أنه داع إلى الشر فلا يخفى كونه وسوسة، وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخير فلا يشك في كونه إلهاماً وإلى ما يتردد فيه فلا يدرى أنه من الملك أم من الشيطان. فإن من مكايد الشيطان أن يعرض الشر في معرض الخير والتمييز في هذا غامض إلى أن يقول وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع ومكايد الشيطان. ولنر الآن هذا التشبيه الجميل الذي وضعه الغزالي للعقل الواعي بالنسبة للخواطر اللاشعورية أو رغبات العقل الباطن يقول - العقل مثال حصن والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه. فحماية العقل عن وسواس الشيطان واجبة.
أما الأبواب التي يذكرها الغزالي أنها مداخل الشيطان إلى العقل فهي الغرائز، يقول: من أبواب الشيطان العظيمة إلى العقل الغضب والهم والطمع والحقد.
ويعجبنا تنبيه الغزالي إلى تأثير كبت الرغبات الغريزية في اللاشعور كبتاً يحدث مرضاً عصبياً أو تسامياً، ويعجبنا أيضا من الغزالي هذا السؤال الذي طرحه على نفسه ليجيب عليه وهو هل يتصور أن ينقطع الوسواس بالكلية عند الذكر أم لا.
لاشك أن الغزالي عرف جيداً أن الرغبات الغريزية المكبوتة في اللاشعور لا تنقطع عن العمل بل تظل تعمل في صميم النفس وقرارة العقل الباطن أعمالاً تسبب أمراضاً نفسية وعصبية منها الوسواس، أو تسبب تسامياً تنفس به النفس ألم الكبت ومضاضة الحرمان. ويجمل بما أن نورد هنا ما يقوله الغزالي جواباً عن هذا السؤال يقول:
إن العلماء المراقبين للعقول من صفاتها وعجائبها اختلفوا في مسألة انقطاع الوسوسة بالذكر؛ فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع، وقالت أخرى: لا ينعدم أصل الوسوسة ولكن تجري في العقل ولا يكون لها أثر لأن العقل إذا صار مستوعباً للذكر كان محجوباً عن التأثر بالوسوسة، وقالت فرقة لا تسقط الوسوسة ولا أثرها ولكن تسقط غلبتها على العقل. والوسواس أصناف فقد يكون بتلبيس الباطل ثوب الحق، وقد يكون بتحريك الشهوات، وقد يكون بمجرد الخواطر.
ومن هذا يتبين لنا جليا أن الغزالي يعرف جيداً أن الوسوسة مرض نفسي لا يزول بذلك النوع من العلاج وهو الذكر، وكل ما يفعله الذكر في هذه المشكلة النفسية أو الوسوسة هو تخفيف وقعها وتقليل شرها. ونحن نرى الغزالي في هذه القطعة محللاً نفسيا أكثر منه واعظاً دينيا أو عالماً أخلاقيا.
وكأن الغزالي قد عز عليه أن يعرف أسرار النفس البشرية ولا يعرف العقد النفسية أو المركبات العاطفية فقد وضع يده على هذه العقد والمركبات وضع الخبير العارف قال - إن القلب تكتنفه الصفات التي ذكرناها وتنصب إليه الآثار والأحوال من الأبواب التي وصفناها فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب.
فإذا أصابه شيء يتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فتغير وضعيته، فإن نزل به الشيطان فدعاه إلى الهوى نزل به الملك وصرفه عنه، وإن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره، وإن جذبه ملك إلى خير جذبه آخر إلى غيره. فتارة يكون متنازعاً بين ملكين وتارة بين شيطانين وتارة بين ملك وشيطان. وأي قول أبلغ في وصف العقد النفسية والمركبات العاطفية من هذا القول وسنبسط هذا الموضوع في المقالات القادمة إن شاء الله.
حمدي الحسيني
من أخلاقنا
ردود الرسائل
للأستاذ محمد رجب البيومي
يتنقل الإنسان في حياته من مكان إلى آخر، ويترك قوما ليحل بين قوم، وفق ما تتطلبه شواغل الحياة. وهو في كل ناحية يقطن بها حينا من الدهر، يتخذ لنفسه أصدقاء يقاسمهم الود ويخلص لهم النصح، وقد يبسط لهم جناح المعونة إن وفقه الله إلى معروف، ثم تمضي الأيام فيجد نفسه مضطرا إلى فراق زملائه ليستأنف عملا جديدا في مكان آخر، فيودعهم ويودعونه حاملا بين أطواء نفسه من الذكريات الطيبة ما يلذ له أن يستعيده بين الفينة والفينة، والإنسان أقوى الحيوانات جميعها على التذكر والاستعادة، فجميع الحيوانات - غيره - تنسى ما يعترضها في الحياة بعد انقضائه بأيام أو أسابيع، أما الإنسان وحده فيحتفظ في مخيلته بذكريات يرجع بها إلى الطفولة والمراهقة مهما امتدت به السن في طريق الحياة فيستطيع أن يسرد لغيره أنباء طال عليها العهد، ولكنها لم تفقد مرآتها الواضحة في خاطره، وقد يسبح به تفكيره فيتمثل إخوانا شاطرهم الود، ولقي منهم المعروف، فيحن إلى ما تقدم من عهودهم الماضية، ثم يدفع به الحنين إلى مراسلتهم والوقوف على أنبائهم، وفي المراسلة تثبيت للمودة على البعد، وتقوية للمحبة على النزوح، فهي تقرب الشاسع، وتقضي مسألة النائي. نظرة فاحصة إلى ما خلفه الأدب العربي في تراثه الثمين من الرسائل الإخوانية تريك العجب العجيب، فقد ازدحمت الموسوعات الأدبية بتحف خالدة من الرسائل، وهي فوق مكانتها العالية في البلاغة والمنطق، تدل على الشعور الطيب الذي حفز أصحابها لتسطيرها وإنشائها، وتنبئ عما منحوه من إخلاص في الحب، وصدق في الوفاء، وإخلاص المرء وسام ناصع يتزين به، فهو الدليل المقنع على مروءته ونبله، كما يبرز للناس معدنه الحقيقي دون بهرجة وتزييف!!
ونحن في عصرنا الحاضر نغرق في أعمالنا المادية إلى آذاننا، ونستهلك أوقاتنا جميعها فيما نأمل منه النفع والكسب، فلا يجد الكثيرون وقتا صافيا للمراسلة في زعمهم. وقد يتطوع بعض من جبلوا على الوفاء والبر، بالسؤال عن أصحابه، فيسطر الصحيفة المخلصة إلى من يصطفيه، وتمضي الأيام فلا يجد ردا يسعفه بأنباء صاحبه، فيسطر رسالة
أخرى مبقيا على ما يدخره من محبة وود، فيأبى الرد أن يعود إليه أيضا!! وأنت تعجب حين تسمع من يرددون هذه الشكوى في أسف وحيرة، بل إن العجب ليبلغ منك أقصاه حين تقابل في الطريق من بعثت إليه رسائلك، فيخبرك أنه حظي بقراءتها، وأنس بلقائها، غير أن ظروفه الخاصة لم تمكنه من الرد السريع!! وكأنه لا يجد خمس دقائق يسطر فيها فوق قرطاسه ما يحتمه الواجب الملزم، وإذا كان من الأمور المخجلة أن تحيي زميلك في الطريق تحية عابرة، فلا يرد عليها أجمل رد، فكيف بمن تتذكره على البعد؟ فتسطر إليه أنباءك وتسأله عن أنبائه ثم لا تظفر بعد ذلك بخطاب مريح!!
هذه مشكلة خلقية أليمة. تدل دلالة واضحة على ما يغمرنا من تدابر وتقاطع، وتنبئ عما ينقصنا من يقظة ووعي، وهي كجميع مشاكلنا الاجتماعية ناجمة عن إهمال التعليم الخلقي في محيطنا الشعبي، فنحن في معاملاتنا الشخصية لا نتقيد بحدود واضحة المعالم، بينة الصوى، فندرس الأخلاق دراسة عملية، ونطبقها تطبيقا ملزما واعيا، بل نتقيد بقشور تافهة نقرأها ولا ننقدها في أكثر الأحيان، وأقول - في صراحة - أنه ليست لدينا حدود خلقية، تلقن في المدارس، وتذاع في الصحف، وتتناقل بين الناس، ولكننا نطبع علاقاتنا الاجتماعية بطابع التقليد والمحاكاة، فالصغير يقلد الكبير، والمتأخر يحاكي المتقدم، إذ يعيش معه في محيط واحد، ولا عليه إذا أخطأ بعد ذلك، فقد وقع في الخطأ من يفوقه ويكبره! وحسبك أن تكون زلة الكبير دفاعا ملجما يتقدم به الصغير، وحال كهذه الحال يجب أن تزعزعها العواصف الهوج.
وواضح أن البريد في عهدنا الحاضر قد قطع أبعد أشواطه في ميدان السرعة، حتى ليمكن الإنسان أن يراسل أخاه وراء الأميال الشاسعة. والمسافات القاصية، فتصله الرسالة في اليوم الذي كتبت فيه بأجر لا يقوم له اعتبار، فلم لا نستغل هذه الأداة الطيعة في توثيق العلائق وتقوية الروابط بمجتمع مفكك متدابر. وليت شعري كيف نكون لو تقدم بنا الزمن قرونا عدة، فرأينا العهد الذي يقطع فيه البريد شهورا وأسابيع حتى يقع في متناول صاحبه البعيد، وقد تجد أثناء هذه المدة ظروف تقلب أنباء الرسالة وصاحبها رأساً على عقب، والمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، فإذا قطع صلته الأخوية، بمن أنس إليهم حينا من الدهر، وسعد بلقائهم فترة طويلة، فسيخسر الشيء الجليل. وكثيراً ما أقع في حيرة مخجلة حين
يقابلني أحد الزملاء فيسألني عن صديق يعرف ما كان بيني وبينه من الود الأكيد فلا يجدني ملما بأنبائه وأخباره، وكأننا لم نتقابل قبل الآن، أو لطول اجتماع لم نبت ليلة معا - كما قال متمم - وإن أوجه الكلام لتضيق في وجهي حين أهم بإجابة هذا السائل، فماذا عسى أن أقول له؟ أخبره أني راسلته متسائلا عن أنبائه فلم أظفر برد؟ أم أظهر أمامه عاقاً غليظاً فأعلمه إني لم أتصل به منذ فارقته؟ أم أبسط إليه ما يغمر مجتمعنا الخلقي من تقصير وإهمال؟ ترى ماذا يكون؟ وأنت تبحث عن سبيل العذر في تقصير المقصرين فلا تجده بحال، بل إني أعلن للقراء أن هؤلاء لا يتمتعون بضمير حي متيقظ، وأن من لا يرد التحية بأحسن منها جدير أن ينسلخ من ثياب الإنسانية. ولن نرسل الكلام على إطلاقه، فنحن نعلم أن من الرجال من تتزاحم أمامهم الرسائل، وتتكدس فوق مكاتبهم الخطابات، فلا يجدون في فراغهم الضيق ما يكفي للإجابة والتعليق، وهؤلاء في العادة لا يقصرون في حقوق من اتصلوا بهم اتصالا شخصياً، وعرفوهم معرفة وثيقة، وإنما يفرطون في جانب من يشغل فراغه بمراسلة العظماء والموهوبين في غير طائل، وهم معذورون في هذا التفريط إذ عدمت الرابطة الشخصية، وضاق الوقت عن الإجابة المحيطة، فلا تؤاخذهم في ذلك، وإنما تؤاخذ من يقصر في حقك، وقد خالطته بنفسك، وأفضى إليك - يوما ما - برغباته وخلجاته ثم فرق بينكما الزمن، فنسى أمسه، وفرغ ليومه، وتجاهل حقوق المودة! ذلك عيب شنيع.
ونحن نتكلم هنا عن الرسائل الصادقة الخالصة لوجه المودة والوفاء فلا نتحدث عن الرسائل النفعية، التي يقصد بها أصحابها قضاء أرب مادي، أو استغلال نفوذ شخصي، فالسكوت عنها - في بعض الحالات - يجد مبرراته وظروفه، وإن كان الأجدر بصاحب الخلق الرفيع أن يسعى حسب طاقته في نفع أصدقائه، ما لم يؤد به مسعاه إلى ضرر إنسان ما، فإذا لم تسعفه النتيجة المرتقبة، أعلن أمره إلى صاحبه في رسالة صادقة. ورب خطاب رقيق أراح الضمير وأثلج الصدر، وإن لم يعد بالثمرة المشتهاة.
إن من المؤلم حقا أن تنقطع الروابط بين الناس لمجرد ابتعادهم من مكان إلى مكان. ويزيد في الألم أن تكون وسائل الاتصال في متناول اليد دون أن تجد من يحرص عليها، والمرء في خضم الحياة هدف للمشاكل المعقدة، والمعضلات المؤرقة، فهو في حاجة ماسة إلى
المشورة والاستفتاء، ومن الطبيعي أن يراسل خلصاءه مستفسرا مستنبئا، فقد يجد لديهم الحل المريح في غير عناء، ومن المضحك أن المرء في أغلب أحواله - كمالك الحزين - يرى الرأي لغيره صادقاً بصيراً، وتتخطفه الحيرة فلا يراه لنفسه إلا بعد مشقة وجهد. وتعليل هذه الظاهرة سهل بين، فالإنسان - إلا من عصم الله - شديد الخوف على نفسه، يظن الريبة والخطر في كل ما يقدم عليه، فلا يكاد يخطو خطوة واحدة حتى تتقاذفه الحيرة من سبيل إلى سبيل، لكن صديقه - في الغالب - أقدر منه ثباتا وعزما، فهو ينظر إلى المشكلة بعين الواقع، طارحاً ما يتراءى من الشكوك دبر أذنه، ولا نعني بذلك أنه قليل المبالاة بما يعترض الموقف من مصاعب، بل نفرض فيه اليقظة والحذر مع أعصاب هادئة وجنان مطمئن، وإن عاطفة (اعتبار الذات) لتمتد من الإنسان فتشمل ذويه وأصحابه، وتدفعه إلى المشورة السديدة والمساندة المخلصة، فأولى بالعاقل أن يلجأ إلى أصحابه على البعد، يبثهم النجوى، ويبسط أمامهم المشاكل، وأولى بهم أن يسارعوا في إيضاح الغامض. وحل المشكل، فستدور عليهم الدائرة يوما ما، ويحتاجون إلى من يشاورونه ويناشدونه، وفي ذلك تخفيف مريح لما تمتحن به الإنسانية من ويلات، وإن مجتمعا يتضافر أبناؤه على البعد، ويتكتل أجناده تحت لواء التضحية والإيثار، لجدير أن ينعم بالأمن والاستقرار.
هذه خواطر خاطفة تجول بذهني من وقت لآخر حين أواجه بمن أعتقد فيه الوفاء والمودة، فأراسله محييا مكرماً، عقب صلة وارفة تفيأنا معاً ظلالها الوريفة حقبة طويلة، ثم أجد الفتور في الرد حينا، والتواني عن الإجابة حينا، وقد لا أجد رداً بالمرة، فأسأل نفسي في حيرة محزنة، أليس لهؤلاء نفوس تستعيد الذكريات، وقلوب تستشعر اللوعة، وعواطف يذكيها الشوق!! ثم أغمض عيني وأنهض للبارودي فأستمع قوله الحزين
فيا ساكني الفسطاط ما بال كتبنا
…
ثوت عندكم شهراً، ولم يأتنا رد
أفي الحق أنا ذاكرون لعهدكم
…
وأنتم علينا ليس يعطفكم ود
فلا تحسبوني غافلاً عن ودادكم
…
رويداً، فما في مهجتي حجر صلد
(المنصورة)
محمد رجب البيومي
رسالة الشعر
قصة شريد
(إلى التي نسجت يد الأقدار من حياتها وحياتي قصة هذا
الشريد!)
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
كان شريد سائراً في فلاه
…
مضيع الصفو، شريد الأمان
يبكي، فتبكي في يديه الحياة
…
مما يلاقيه، ويبكي الزمان
يمشي على الرمل رماه الهجير
…
بناره حتى ترامى لظاه!
حيران قد أضناه طول المسير
…
ويشتكي لكن تضيع الشكاه!
ولم يكن يدري لماذا يسير؟
…
ولا إلى أين ستمضي خطاه!
في الليل، والليل رهيب الظلام
…
تراه يسري وحده مجهدا
كأنه روح ثوى في حطام
…
أطلقه من قبضتيه الردى
وحين تعوي الريح مثل الذئاب
…
ويستبد البرد بالبائسين
تراه يجري هائماُ في الشعاب
…
يبحث عن مأوى قوي أمين
وأين؟ لا مأوى يقيه العذاب
…
قد حرم المأوى على الشاردين!
سأمان يبكي ضارعا للملال
…
ويشتكي للوحشة القاحله
ظمآن يسقيه سراب الرمال
…
نار الأسى والحسرة القاتله
كم صاح بالأقدار في محنته:
…
هلا رحمت البائس الشاردا؟
فأعقبته من صدى صيحته
…
صمتاُ عميقاً ساخراً خالدا
وما على الأقدار من شقوته
…
وليس إلا في الورى واحدا؟
وحين ألقى عبئه واستراح
…
أو هكذا كان يريد الشريد
صاح به صوت عيي الصياح
…
يوشك أن ينقد منه الحديد:
قم أيها العبد الذليل المهين
…
وسر على الصحراء سير الأسير!
ولا تسل عن غاية السائرين
…
فإنها سر طواه الضمير!
قد خفي السر عن العارفين
…
فهل ترى الجاهل يدري المصير؟
فقام يسعى وهو باك طريد
…
معذب الخطو، شقي الطريق!
كما يرى السادة يمشي العبيد
…
حتى على الشوك! ولو في الحريق!
ومرت الأيام مثل الصدى
…
معروفة الأول والآخر
يماثل الفائت منها الغدا
…
والغائب المأمول كالحاضر
والشارد المسكين يحيا سدى
…
كريشة في عيلم زاخر
وبينما كان يسير الغريب
…
مستغرقاً في صمته ذاهلا
والقيظ بحر موجه من لهيب
…
لا تبصر العين له ساحلا
رأى على الأفق البعيد القريب
…
شيئاً تبدى جنة باسمه
رواحه منها نسيم رطيب
…
ونفحة من عطرها هائمه
فراح يهفو مستثار الوجيب
…
مستغرقاً في نشوة حالمه
وحين وافى الجنة الساحره
…
رأى. . . وما أعجب ما قد رآه!
ما صورت أحلامه الشاعرة
…
وقد سرى فيه ربيع الحياه
ماء شهي الورد كالسلسبيل
…
كأنما منبعه في السماء
يضعه عشب ندي جميل
…
يعانق الظل عليه الضياء
وفوقه يسري النسيم العليل
…
مرنح العطر، شجي الغناء
وهذه الأشجار قد أبدعت
…
تصويرها قدرة رب الوجود
وهذه الأشجار قد أينعت
…
ثمارها، تحمل سر الخلود
والطير تشدو بالغناء البديع
…
فتبعث الحب، وتذكي الحنين
كأنما تبصر طيف الربيع
…
إذا تراءى من خلال السنين
دنيا من الحسن الذي لا يشيع
…
ولا تره العين في كل حين
لما رأى الشارد هذا الجمال
…
هفا إليه مستهام الجناح
فراعه ما أطلعته الرمال
…
من غابة أشواكها كالرماح!
قد حجبت عنه الجمال الحبيب
…
فما يرى إلا من خيال الفناء!
ورن في الصحراء صوت رهيب
…
فارتجت البيد لهول النداء:
سر أيها الشارد فوق اللهيب
…
فأنت عبد من عبيد القضاء
لن تدخل الجنة مهما بقيت
…
ولو تحملت سهام القتاد
ولن ترى أمثالها ما حييت
…
فما خلقنا مثلها في البلاد
لغيرها هيئت يا ابن السبيل
…
فاذهب لكي تبحث عن غيرها!
أما ترى الأشجار مثل النخيل
…
أعشاشها وقف على طيرها؟
قد أزف البين، وحان الرحيل
…
فسر مع الأيام في سيرها!
فأجهش الشارد مستنجدا
…
وقال في صوت كرجع الأنين
يا أيها الصوت الرهيب الصدى
…
رفقاً بهذا الضارع المستكين
قضيت عمري في سعير الألم
…
وفي ضباب الوحشة البارده
وكان قلبي هائماً في القمم
…
يبحث عن أحلامه الشارده
وكم تمنيت حياة العدم
…
في ظل تلك الراحة الخالدة
وعشت في الصحراء عيش الهوان
…
يحيط بي أنى ذهبت الشقاء
أهتف: أين الحب؟ أين الحنان؟
…
فيذهب الصوت سدى في الفضاء
وكنت أمشي مستطار الفؤاد
…
على رمال ثائرات الشرار
شرابي الآل، وزادي القتاد
…
وليس لي مأوى، فأرجو القرار
وكان لي ثوبان: هذا السواد
…
يخلفه عندي بياض النهار
وكان لي في كل وقت حنين
…
إلى ظلال الجنة الزاهره
وكنت أمضي في فضاء السنين
…
أسأل عنها النسمة العابره
والآن قد أبصرتها ماثله
…
فعربد القلب كطير سجين
يريد تلك الجنة الحافله
…
بكل حسن يفتن الناظرين
والموت آت، والمنى زائلة
…
فكيف لا أنعم حتى يحين؟
علام حرمت على المتاع؟
…
وفيم قدرت على المحن؟
وكيف أمضي في طريق الضياع
…
أحمل في قلبي هموم الزمن؟
لمن تكون الجنة المشتهاه
…
إلا لمن أضناه طول السفر؟
والمورد العذب كجدب الفلاة
…
إن لم يكن للظامئ المنتظر
ظننت يأسي قد توارث رؤاه
…
فراعني يأس جديد الصور!
وهذه الجنة. . . وما ذنبها؟
…
حتى أراها ملك من لا تريد!
إني مناها. . . بل أنا حبها
…
وطيرها الشادي بحلو النشيد
ظمآن يا ربي! وهذا النمير
…
ترنو إليه غلتي الصاديه!
لهفان! والحسن الغضير النضير
…
تحنو عليه لهفتي الباكيه!
حيران! لكن ها أنا أستجير
…
من حيرتي بالجنة الحانيه!
دعني أعش في ظلها شاديا
…
حينا. . . إذا قدرت أن نفترق
وبعده مر أنطلق باكيا
…
بقلبي الشاكي، وروحي القلق
وحين يمضي عن حياتي الشباب
…
وينصت العمر لخطو المشيب!
أحيا بظل الذكريات العذاب
…
وأسأل الصمت الذي لا يجيب:
هل يرجع الغائب بعد الغياب
…
ويشتفي ممن يحب الحبيب؟
يا رب هذي منية المستهام
…
وأنت أدرى بأماني البشر
أذاعها الوجد الذي لا ينام
…
فما يقول الصوت. . صوت القدر؟
وأطرق الشارد حتى غدا
…
في صمته تمثال يأس عريق
كأنه والرمل لما بدا
…
من حوله. . جثة ميت غريق
منتظرا صوتا كحز المدي
…
إذا قسا، أو مثل لذع الحريق
وخيم الصمت، وران السكون
…
على رمال في الدجى نائمه
وفجأة ثارت به في جنون
…
عاصفة مجنونة عارمه
وا رحمتا للشارد المستطار
…
مقيداً في لجة العاصفه
تمضي به نحو بعيد القفار
…
في ليلة مقرورة واجفه
حتى إذا الليل طواه النهار
…
وغاب طيف الجنة الوارفه
تلفت الشارد كيما يرى
…
أين انتهى بعد المسير الطويل
فلم يجد إلا الردى العابرا
…
بقفرة للصمت فيها عويل!
فسار في واد عميق الوهاد
…
يسلك في الصخر طريق الشتات
ضلاله مثل الهدى والرشاد
…
ما دام يمضي ضائع الأمنيات
يحيا. . . ولكن للضنى والسهاد
…
واليأس والحسرة. . حتى الممات!
يا من يوافي طيفها وحدتي
…
وشخصها عني بعيد. . . بعيد!
هذي حياتي. . . هذه قصتي
…
قصة حب مستهام طريد!
تأمليها تعرفي محنتي
…
وتدركي سر شقائي العتيد!
وتعذريني إن بكت لهفتي
…
من حرقة الأسر، ونار القيود!
حملت نار الحب في مهجتي
…
وعشت أيامي بقلب شهيد!
رعاك بالآمال يا جنتي
…
من غال باليأس فتاك الشريد!
القاهرة
إبراهيم محمد نجا
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
في الأدب والنقد والحياة:
ما إن فرغت من قراءة تعليقك على رسالتي إليك؛ تلك الرسالة المنشورة في العدد (901) حتى سيطر عليّ شعور غريب لا أملك له دفعا، ذلك لأن تعليقك كان عميقا كأشد ما يكون البحر عمقا، وصافيا كأحلى ما يكون صفاء، متشعب النواحي ممتد الشعاب، يستجيب له القلب والقلم، ويتحفزان إلى الإجابة عن كل ناحية من نواحيه وكل شعبة من شعابه. . ولكنهما يحاران فيه حيرة تبعث على الصمت والإعجاب، والتفكير والاكتئاب!
1 -
فهنا روح (ناهد) التي تطل علي من عالمها الآخر تشكر لي عاطفة نبيلة أملت علي أن أذكر أختا لي في الأدب والإنسانية ولدت مع الربيع وماتت مع الورد، وكانت حياتها (أقباساً من وهج اللوعة، وفنونا من عبقرية الألم، وخريفا لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس)! لقد تحدث إليها قلبي وناجاها بياني في نفحات معطرة بالشكوى، مضمخة بالنجوى، هبت علي ذكراها من قصيدتي (قمرية تموت) المنشورة في العدد (903) من الرسالة.
ولكن من يدري أن (ناهد) قد ماتت في (هجران) وأن (هجران) قد ماتت في (ناهد)، وأن (قمرية تموت) ما كانت إلا استجابة للحزن الصارخ الجازع الذي يبكي القلب حين يدفن فيه الحب، ويفزع إلى النحيب حين يغيب عنه الحبيب؟ فمن شؤمنا نحن معاشر الأحياء أن نموت فيمن نحب، وأن نتوزع على من ينأى، وأن يعيش معذبين مروعين على نحو ما تعيش الحمائم قد غالت فراخها النسور، وأودت بعشاشها الرياح!
2 -
وهنا الشاعرة (المجهولة) التي ظلمت فنها حين قضت أن يظل رهين المحبسين: القلب والدار. ماذا أقول لك يا أنور وقد أثرت بهذه الحقيقة الصادقة نوازع النفس ونوازي الروح، ودفعتني إلى الشعر دفعا فإذا بالنفس تنسكب حسرات، وبالقلب يترقرق عبرات، وإذا بقصيدتي (رهينة المحبسين) تمثل أمامي عبرة صافية، وأنة شافية؟ فإن استطاعت هذه القصيدة أن تصور حال الفتاة وقد أرداها مجتمعها الظالم في هوة فاغرة كالقبر موحشة كالعدم، ملؤها الحرمان والقنوط والسأم والملل، فلأنك وحدك الباعث على هذا التصوير
والحافز لهذا التفكير. . ومن أولى منك بالدفاع عن (المرأة الشهيد) التي عاشت طعيناً بسكين من العادة والوهم كما يقول (شوقي) الخالد في مسرحيته (مجنون ليلى) على لسان (ليلى) مخاطبة (قيسا):
كلانا قيس مذبوح
…
قتيل الأب والأم
طعينان بسكين
…
من العادة والوهم!
أجل! فما هذا الشعر الذي قاله (شوقي) إلا تصوير لهذا المجتمع الآثم الذي أمات المرأة ووأدها وهي حية في دارها كرة وفي قلبها نزلة أخرى، بما فيه من عرف جائر وناس محافظين يعيشون بالعادة والوهم أضعاف ما يعيشون بالعقل والتفكير، ويستجيبون للغضب والشدة والخصام والعرام أكثر مما يستجيبون للأناة والرفق والوئام والسلام.
فيا أخي أنور لا تحسبنها الشاعرة وحدها (المجهولة) التي ظلمت فنها حين قضت أن يظل رهين المحبسين: القلب والدار. . ولكن كل فتاة عربية في هذا الجيل قد أمست رهينة محبسيها: قلبها ودارها، فعاشت تتطلع إلى مجتمعها الظالم من بعيد تنظر ولا تقترب، وتنطوي على نفسها تفكر وتكتئب، وتئن وتنتحب، وتبدع أدبا يتسم بالسأم والملل، ويتشح بالقنوط والحرمان!
أرأيت يا أخي أنور إلى هذه الأزمة المستعصية، أزمة الفتاة، وإلى غمتها التي ما تنجلي، وإلى إسارها الذي لا يطاق؛ وإلى حياتها التي تضج بالحرمان والعذاب؛ من مهد الصبا والشباب إلى مهد البلى والتراب؟ ألا تفوق هذه الأزمة أزمة القراء ومشكلة الكتب؟ وهل مثل هذه الغمة غمة يجدر بالأقلام أن تتساند على كشفها وتتساعد في جلائها؟ فهلم يا كاتب الأداء النفسي وثر على هذا العصر واصرخ في وجه هذا المجتمع وزحزح ناسه المحافظين الناقمين على المرأة أن تستنشق هواء الحرية، وأن تتذوق معنى الحياة وأن تلخص من أشواك العرف والعادة والوهم، وإسار القلب والدار!
هلم يا كاتب الأداء النفسي واجل ببيانك غمتها وعالج بتفكيرك أزمتها، وادع الكتاب والكاتبات إلى معالجة أزمة المرأة وغمة الفتاة، كما دعوتهم من قبل إلى معالجة شئون الأدب والأدباء، ومشكلة الكتب وأزمة القراء، فعسى أن يكون في انكشاف هذه الأزمة وانجلاء هذه الغمة ما يعين على تلافي أزمة القراء ومشكلة الكتب، بإنقاذ نصفنا الآخر
الذي يعيش ليشقى، ويتألم لينقى، ويتعلم ليبقى!
3 -
إن من حق أزمة القراء أن تصرفك عن التفكير في إخراج كتبك إلى الناس، هؤلاء الذي زهدوا في عصير الذهن ورغبوا في عصير الليمون كما تحدث من قبل صديقك الأستاذ توفيق الحكيم، في حواره النادر الذي أداره على صفحات (أخبار اليوم) بينه وبين عصاه، وعلقت عليه (الرسالة) في تعقيبات العدد (887)، وأنحى فيه باللائمة على المدرسة لأنها لم تستطع إلى الآن أن تغرس في الطالب ملكة المطالعة ومحبة الإطلاع اللتين ستلازمانه في كل حين وتجعلان منه رجلا نافعا وأداة صالحة.
وأرى أن المدرسة أو الجامعة تزهد الفتى والفتاة في المطالعة بما يرهق الفكر ويتعب العقل من ضروب الثقافة وصنوف المعرفة التي تضجر بكثرتها الكاثرة، وتدفع النفس حين تخلص من محنتها ونقمتها أن تستجم وتستريح إلى فنون من اللهو والعبث والحياة الرخيصة، وألوان من الابتذال لا تثمر إلا بالكسل والسأم وإضاعة الوقت والمال. ذلك لأن المناهج لا تزال تحرص على الكمية أكثر من حرصها على الكيفية، ووظيفة الجامعة في هذا الزمن العجيب أن تسأل: كم قرأت؟ دون أن تسأل: ماذا أفدت؟! إن حشو الذهن بالمعلومات يؤذي خارج الجامعة أضعاف ما يؤذي داخلها؛ فهو بثوبه الثقيل وظله البغيض يصرف النفس صرفا عن المطالعة، لا لأنها لا تريدها ولا تحبها بل لأنها ملتها واجتوتها، ورأت في خلاطها ما يؤذي وفي صحبتها ما يضجر وفي الانصراف إليها ما يضيع رونق العمر وبهجة الحياة. إن الجامعة تنفر الطالب من القراءة لأنه تقتله قتلا بالقراءة. فلا يتخرج من الجامعة إلا بعد أن يذبل عينيه ويمحو رواء وجنتيه بمعلومات لا تغني غناء ولا تجدي جداء، والويل له إن قصر ويا خسره إن تأخر! فهل للجامعة بعد هذا كله أن تستجيب لنداء الأستاذ الحكيم:(فتعلم طلابها حب القراءة، وتمرن عضلاتهم الفكرية على هضم أغذية العقل، ثم تدفع بهم إلى الحياة ليزدردوا ثمرات الذهن. . إن الإنسان يولد زبونا بالفطرة لعصير الليمون، ولكنه لا بد أن يعد إعدادا ليصير زبونا لعصير الذهن)!
إن وظيفة المطالعة أن تغني الذهن أولا، وأن تقتل السأم والملل ثانيا بما تفرغه على النفس من نعمة النسيان ولذة الغرق في أيام سود كوالح، ناهيك بمتعة المعرفة التي تخلق التجاوب بين الكتاب والقراء فيستجيب الفكر للفكر ويخلد الرأي إلى الرأي، وينشأ من ذلك أدب
جديد يستنير بأضواء الكتاب وأقباس المؤلفين يعالج ما عالجوا وينقد ما نقدوا يسايرهم مرة ويغايرهم مرات. ذلك لأنه يحرص في أداء رسالته الجديدة على الصدق والحقيقة والخير، فالشعر يهيج الشعر والكلام يثير الكلام. ولله ما أصدق أكتب كتاب العربية أبا عثمان الجاحظ حين يقول:(كل شيء إذا ثنيته قصر إلا الكلام فإنك إذا ثنيته طال)!. وكذلك الشأن في التأليف فإنه يدفع إلى التأليف، كما أن القراءة تلهم الكتابة.
ومن حقنا أن ننصف حين نعالج الأمور، فليس عدلا أن يكون الذنب ذنب الجامعة وحدها بل هناك ذنب العصر الذي نشأنا فيه، فلقد غمرنا بعلل نفسية وأدواء اجتماعية بتنا أساراها نعانيها ولا ندري طريق الخلاص منها، فالعصر مضطرب هائج بالويلات، والثبور مائج بالفتن والحروب، والنفوس لا تستقر على حال من القلق كأنها الريشة في مهب الرياح كما يقول أبو الطيب المتنبي. . ولقد (قذفت الأمهات المضطربات هذا الوجود بسلالة شاحبة عنيفة مستعرة الأحشاء، نشأت على دوى القذائف ورائحة البارود وغبار المعارك، ففقدت إرادتها وأضاعت اتزانها وعاشت للسأم والملل) كما يقول (موسيه) في اعترافات فتى العصر!
وأحسب أن الحضارة قد قتلت (الكتاب) وأن المدنية قد خلقت أزمة القراء. فهذا هو المذياع قد قرب البعيد ويسر الممتنع وجعل العالم بين إصبعيك فما أطقت أيها الإنسان الملول الضجر أن تستمع إلى أخبار العالم ملخصة في أسطر، وما صبرت على الأديب يتحدث في دقائق معدودات حتى يتم حديثه، ولا على الشاعر حتى ينهي قصيده، ولا على المغني حتى يتم أغنيته، وأخذت بين إصبعيك العالم بأسره تبحث عن شاطئ السلام فلا تجده، وتفتش عن مرامك فلا تظفر به، وأنت لا تعرف على التحديد ما تريد، ولا تعلم على التحقيق ما تبتغي، وتظل رهين قلقك أسير ملالك حليف أساك. . وحين ملت أذنك السماع وفرت لك (الشاشة) النظر فعرضت لك الحوادث مصورة والأنباء مجسدة والوقائع ناطقة، فأشاحت العين بعد أن نفرت الأذن، ورغبت كلتاهما عن السماع والنظر.
لقد قتلت القصة الشعر كما صرعت المقالة الكتاب، وعفت الشاشة على القصة والشعر والمقالة والكتاب. وها هو ذا الإنسان يسأم النظر إلى الشاشة ويعاف سماع المذياع، لأنه ابن عصر قلق ضجر ورث عنه قلقه وضجره. فهل لأطباء النفوس أن يعالجوا داءه
ويصفوا دواءه وينجوه من العلل والأزمات فيخلص من عذاب لا يطاق وعناء لا يحتمل؟!
لقد كانت أديبتنا المطبوعة السيدة وداد سكاكيني صادقة كل الصدق حين زارتك في وزارة المعارف لتسألك عني ولتقول لك فيما قالت وأنتما تتحدثان عن أزمة القراء: (لو كنت تعلم منزلتك في الأقطار العربية عامة وفي سورية على الأخص، لما تأخرت في أن تقدم إلى قرائك ما لديك من كتب). . إنها كلمات من قبيل الحقيقة التي يؤيدها الواقع، فأنت أديب واسع الآفاق تملك من القراء والمعجبين بك ما لا حد له، ولكنك ستمنى بما مني به الأستاذ توفيق الحكيم من قبل، حين أرخص أثمان كتبه لييسر للناس اقتناءها فلم يقتن هذه الكتب إلا عشاق فنه وأحباب أدبه، فهم في نقص الثمن مثلهم في ارتفاعه، فهل هو حتم على الأديب أن يسكب نفسه في كتابه ليقدمه إلى الناس بالمجان، أو يهديه إلى قرائه إهداء كي ينتصر على أزمة الكتب ومشكلة القراء؟!
إن عصرا هذه محنه وعلله، وجامعات هذه برامجها ومناهجها وإن نصفنا الآخر وما يقاسيه من إسار وحرمان واحتباس في القلب والدار، كل أولئك كفيل أن يقضي على الكتاب ويزيد في أزمة القراء، ويقودنا إلى نكبة كبرى من جفاف العقل ومحول التفكير ونضوب الذهن وخلو القلب والروح. فإن رأيت أن تهدي كتبك إهداء لمن يطلبها على غرار ما صنع الشاعر عزيز أباظة في ديوانه الأول (أنات حائرة) أنهيت أزمة الكتاب على خير حال وأيسر منال، ولو ذهب المال إثر المال!!
4 -
أما عن هذا الباب الذي فتحته من قبل وهبت منه رياح العصبية الإقليمية وسرك أن أطرقه بهذه الكلمات: (إنني أمقت من ينتصف لبيئة بعينها دون غيرها من البيئات، ووطن بعينه دون غيره من الأوطان، لأنني أرى الفن وطنا وأحب أن يتلاقى الناس في هواه) فإنه ليسرني (أن أسمع هذه الصيحة من كل قارئ وأديب في مصر ولبنان وسورية والعراق، وكل وطن تربطه بالعروبة أواصر وأسباب، وأحب للكتاب أن ينظروا إلى أسمائهم وهي مجردة من أثواب الوطن الصغير ليلفها علم واحد هو علم الوطن الكبير. . عندئذ تختفي من الأذهان هذه العصبية البغيضة التي تنتصف لعلي محمود طه في مصر لأنه مصري، وتقف إلى جانب أبي ماضي في لبنان لأنه لبناني! إن كليهما في رأيي رأي الحق شاعر (عربي)، وهذا هو العنوان الصحيح الذي يجب أن تدرج تحته أسماء أهل الفن هنا
وهناك). لقد قلت أنت هذه الكلمات، ولكن ما بال مجمعنا اللغوي يعمم جوائز اللغة والأدب على مستحقيها من أدباء العرب، ثم يقصر جائزة الشعر على مصر كأنه يخصها دون سواها بهذا الخير، والشعر لا يقصر على قطر دون قطر، وإنما يترك فيه للمجلي الأمر، وفي التخصيص تضييق، وفي التعميم غنم كبير للشعر وهو في إبان ازدهاره وأوان إثماره؟! فهل لك يا كاتب الأداء النفسي أن تعمل على إغلاق هذا الباب الذي هبت منه رياح العصبية الإقليمية التي تتمنى على الشعر ألا يفارق أرجاء مصر؟ لقد فات المجمع أن (شوقي) الخالد إنما استمد خلوده لأنه ملك العرب والعروبة، كتب شعره ببيانها فنطق بلسانها وأعرب عن أفراحها وأحزانها!
5 -
أما عن سر إعجابي بشعر عزيز أباظة وأنور العطار فمرده إلى أن الشاعرين يغترفان ألفاظهما وأخيلتهما وقوالبهما من المنبع نفسه الذي كان يغترف منه (شوقي) الشاعر الخالد. . وما أحب للشعر العربي حين يتحرر في أفكاره أن يتبذل في قوالبه وأساليبه ولا أن يتجهم للغة ويتنكر للبيان. وإني لأرى في شعر علي محمود طه من تحرر الفكر ومتانة الأسلوب ورصانة البيان ما يفتن ويبهج، كما أرى في شعر خليل مطران من قوة الحبك ودقة النسج والحرص على النهج العربي المبين ما يعجب حقا ويفتن صدقا. ولكني لا أرى مثل هذا في شعر أبي ماضي. فهو يبدع في فكرته ويسف في لغته وأسلوبه، ويرتكب من الأخطاء اللغوية والنحوية ما يجعل الفكرة بالية في ثوبها المهلهل وقالبها الرديء، وأسلوبها الذي يتنكر للبيان العربي تارات وتارات. . وكذلك أنظر إلى قصيدة (يوسف حداد) إن كان في الأرض شاعر بهذا الاسم لم ينظم سوى قصيدة واحدة كانت (فلته من الفلتات التي يصعب أن تتكرر من حين إلى حين). وأغلب الظن أن يوسف حداد إن هو إلا شاعر من شعراء (العصبة الأندلسية) في المهجر، شاء أن يختفي وراء هذا القناع لتظل جائزة الشعر وفقاً عليه تنطلق منه إليه! على أني أكذب الفن وأنحرف عن جادة الإنصاف إن قلت إن قصيدة يوسف حداد خلو من الشعر أو هي براء من الخيال المجنح العجيب الذي يهز النفس هزاً ولكنه لا يظفر بقسط كبير من الإعجاب، كما أن في شعر عزيز أباظة وأنور العطار ما يعجب النفس أشد الإعجاب ولكنه لا يهزها هزاً إلا في لمحات عابرة وبدوات مشرقة وما أندرها وما أقلها!
إن في هذين اللونين من الشعر ما يرضى عنه (الأداء النفسي) كما تقول، فهل يتاح للشعر العربي شاعر مجنح عظيم يغترف صوره وأفكاره من (جبران) المنطلق الرحب، ويشيد قوالبه وأساليبه من نسج (الرافعي) المحتشد الرصين؟ عند ذلك تتطلع الأرواح والقلوب إلى (أبي الطيب) الجديد الذي يصبح أرث الخلود وهوى النفوس وشغل الزمان!
لا يا أخي أنور، إني ما شممت من كلامك رائحة اختلاف في الرأي، ما أحسب أنا اختلفنا في أمر وإنما نحن على ائتلاف في وجهات نظرنا إلى الأدب والأدباء ومشكلة الكتب وأزمة القراء. . وبحسبك أن تعلم أن هذه الأبيات التي قالها شوقي على لسان ابن ذريح برغم ما فيها من تحريف في البيت الأول اقتضاه المقام، إنما كان لسان حالي ويسرني أن أسجله مرة ثانية فأقول:
اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية
وبعد فما أحسب هذه المطالب متعبة وما أراها مضجرة، لأنها ستظل أبدا جزءا من تعقيباتك ولعلها تصبح تعقيباتك كلها في الغد القريب، فإن قلمك سينشط بعد هذا اليوم للدفاع عن المرأة التي صدها مجتمعها عن ولولج بابه والسير في رحابه والوصول إلى محرابه، حتى تنجلي أزمتها وتنكشف غمتها وما أنا إلا إحدى الحبيسات الشهيدات. والله يتولاك برعايته كفاء دفاعك عنا إحسانك إلينا.
دمشق
هجران شوقي
أعتقد أن الشاعرة السورية المطبوعة الآنسة هجران شوقي توافقني على إرجاء التعقيب إلى الأسبوع المقبل، لأن رسالتها المطولة قد طغت على الصفحات الأربع المخصصة للتعقيبات. . . وأعتقد مرة أخرى أن القراء سيلتمسون لي بعض العذر إذا ما شغلت عن أسئلتهم حول كثير من شؤون الأدب والفن، بالجواب عن هذه الرسالة في العدد القادم، ذلك لأن الشاعرة الفاضلة قد طرقت أبوابا جديدة تقف خلفها أكداس من الخواطر والمشاعر بعضها في الأدب، وبعضها في النقد، وبعضها في الحياة!
ويبدو لي أنني سأختلف مع الآنسة هجران حيث ينبغي أن نختلف وسأتفق معها حيث يجب
أن نتفق، لأنها تصيب الهدف في كثير من الدقة والإتقان، ثم ينحرف قلمها قليلا فتخطئ التصويب في بعض الأحيان! أما عن قصيدتها (رهينة المحبسين) فلها مني خالص التهنئة ولشعرها كله مثل هذه التهنئة الخالصة، وموعدي معها في الأيام القليلة المقبلة إن شاء الله.
أما عن الجزء الأخير من رسالتها فقد رأيت ألا أثبته حتى أتلقى منها ما يلقي بعض الضوء على زاوية خاصة، وجهت منها الحديث إليها في رسالة خاصة منذ بضعة أيام. وأنا في انتظار هذا الضوء الذي يبدد من حول حياتها حجبا من الظلام!
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
مسرحية (ابن جلا):
كان يوم السبت الماضي بدء تاريخ في حياة المسرح العربي، فهو أول يوم ظهرت فيه فرقة المسرح المصري الحديث على خشبة المسرح، وكان مسقط رأسها مسرح الأوبرا الملكية، وكان مولدها على يد الأستاذ زكي طليمات عميد المعهد العالي لفن التمثيل العربي، وقد اختار أعضاءها كلهم من أبناء هذا المعهد وبناته. عبأهم، وتقدم بهم مباشرة إلى الأوبرا على طريقة الزحف السريع، كما كان يصنع الحجاج (يمثل الأستاذ دور الحجاج في ابن جلا) وقبل أن نحكم على مدى انتصار فرقة الحجاج الحديث. . ننظر في جولتها الأولى. .
افتتحت الفرقة عملها بتمثيل رواية (ابن جلا) للأستاذ محمود تيمور بك، وهي رواية تعالج شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي وتعرض حياته في اثنتين وعشرين سنة، وهي الفترة التي ظهر فيها على مسرح الحياة السياسية في عهد بني أمية. تعرض المسرحية في ثمانية مناظر، يظهر في أولها الخليفة عبد الله بن مروان يدبر لحرب مصعب بن الزبير بالعراق، ويعين قواد الحملة فيختار الحجاج (رئيس الشرطة) قائداً لمؤخرة الجيش، وتظهر في هذا المنظر فتاة أهوازية مغامرة تقول إنها تشتغل بسقاية الجنود، فتسترعي جرأتها وغرابة حالها انتباه الحجاج. ويبدو الحجاج في المنظر الثاني قائدا للحملة المتوجهة إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، فها هو ذا بسفح الجبل، يشرف على الكعبة التي يحتمي بها ابن الزبير ويرميها بأحجار المنجنيق، ويفد عليه في أثناء ذلك ابن حكيم، وهو شيخ من الطائف ومعه ابنته عفراء، يذكرانه بأيام نشأته في الطائفي، وتعرض له الفتاة بما كان بينهما في أيام الصبا، ولكنه لا يلقى إليها بالاً، فتنصرف مع أبيها في انكسار وخيبة أمل. ويدور بين الحجاج والفتاة الأهوازية حديث عن المرأة الطائفية تظهر فيه غيرتها وحبها للحجاج، وقد صارت الفتاة مرافقة للحجاج وتعد له الطعام، وهي تطمع أن يبادلها الحب، وهو يعابثها، ويبدو من معاملته إياها أنه فقط يعطف عليها ويستملحا ويستطيب صحبتها.
ويرتفع الستار عن المنظر الثالث فيرى الحجاج بقصره في المدينة وقد أصبح واليا على الحجاز، ينتظر رسوله من دمشق، كما ينتظر قدوم عبد الله بن جعفر الذي بعث إليه،
فيحضر ابن جعفر، فيحسن الحجاج استقباله، ويتطرق الحديث بينهما إلى أن يخطب الحجاج إلى ابن جعفر ابنته، فيرفض ابن جعفر، لأن الحجاج ليس كفئا للهاشميات وإن علت به الولاية، وينصرف ابن جعفر بعد جدل عنيف بينه وبين الحجاج. وتقبل الأهوازية وتبدي غيرتها، وتظهر في مناقشة الحجاج الجرأة التي اعتادتها معه من أول لقاء بينهما، فتقول له: إنك تريد كدأبك أن تشرف بمصاهرة ذوي الحسب والنسب، ولما يقول لها أنه مصر على زواج ابنة عبد الله بن جعفر، تتوعده وتذكر له كيد المرأة. وفي آخر هذا المنظر يقدم الرسول من دمشق وينهي إلى الحجاج اضطراب الأمور في العراق وضعف واليها وحيرة الخليفة فيما يصنع لذلك، فيعلن الحجاج اعتزامه الرحيل إلى دمشق في وفد من أعيان الحجاز لإعطاء البيعة، يقول ذلك وهو يردد في نفسه كلمة: العراق. .
ويظهر الحجاج - في المنظر الرابع - بقصر الإمارة في الكوفة، مزهوا، يردد: هذا أوان الشد فاشتدي زيم. . ويصرف بعض الأمور، ثم يسأل صاحب الشرطة عن الأهوازية: ألم يعلم شيئا عنها؟ فيجيبه: لم أعلم من أمرها شيئا منذ هربت من المدينة. ثم يصيب الحجاج سهم في ذراعه نفذ إليه من الشرفة، فيهرع الحراس ويعودون ممسكين بالجاني. . ويتبينه الحجاج فإذا هو الأهوازية. ويدور بينهما حوار تقول فيه: إنها تريد أن تقتله لأنها تحبه. وإنها حاقدة عليه لخطبته هنداً بنت أسماء جريا على ما يتطلع إليه من فخر المصاهرة، ويختم هذا المنظر بوثوب الأهوازية من النافذة إلى النثر هربا.
فإذا كان المنظر الخامس رأينا في مخيم شبيب الخارجي أمه (جهيزة) وزوجه (غزالة) في لبوس القتال، ثم ينصرفان من جانب بعد حديث طويل، ويقبل من الجانب الآخر شبيب ومعه الأهوازية التي جاءت إليه لتنقل له أخبار الحجاج وتساعده على قتاله. وفي المنظر السادس نعود إلى قصر الإمارة بالكوفة وقد ظهر فيه حراس الحجاج في حالة فزع لأن شبيبا يحاصر القصر، ويدخل الحجاج فينهر حاشيته وحراسه لخوفهم، ثم يقبل الحجاج أن يستقبل وفدا من قبل شبيب للمفاوضة، ويدخل الوفد على رأسه الأهوازية، فينفرد بها، ويلجأ إلى خداعها بالحب، ثم تنصرف فتحتال على شبيب حتى تحمله على العودة ومغادرة الكوفة.
والمنظر السابع في قصر الإمارة بمدينة واسط التي بناها الحجاج؛ تقدم العمر بالحجاج،
وبدت عليه شيخوخة مبكرة، وصار يشكو آلام معدته، فهو يطلب الطبيب، ولكنه يأبى أن يخضع لأوامره، ويعاند حتى معدته، فيدخل عليها - وهو يعاني عسر الهضم - عشر صحاف من الفستق. وتظهر الأهوازية بجانب الحجاج، تعنى به وتسهر على راحته. يعبر الحجاج عن قلقه لبطئ (قتيبة) في حرب بخارى، ثم يقبل رسول قتيبة فيبشره بفتح بخارى، فيفرح لذلك أشد الفرح، ويعد الرسول بأن يزف إليه عروسا جميلة عندما يزف إليه نبأ دخول المسلمين أرض الصين.
وفي المنظر الثامن، وهو الأخير، نرى الحجاج ملففا بالملاحف، وعلى جانبيه مدفأتان، يغالب آلامه ويتمادى في مخالفة الطبيب ومعاندة معدته، فيأكل ويفرط في الطعام، والأهوازية لا تزال في خدمته والعناية به. وكانت عيون الحجاج تجد في البحث عن الفقيه الصالح سعيد بن جبير لخروجه عليه مع ابن الأشعث. وهذا يزيد ابن أبي مسلم كاتب الحجاج الذي يباريه في سطوته وبطشه، ينهى إلى الحجاج أنهم جاءوا بسعيد بن جبير، ويدخل سعيد على الحجاج، ويأبى أن يعتذر بخطأ، ويوغر يزيد صدر الحجاج على شبيب حتى يأمر بقتله، ولكنه يندم على ذلك بعد ويناجي نفسه بفظاعة هذا العمل، ذاهبا إلى إلقاء التبعة على كاتبه يزيد، ويعود إلى الطعام مصراً على المزيد، ولكنه يضعف فيلجأ إلى متكئه. ويأتي رسول قتيبة قائلا: جنود المسلمين على أبواب الصين، فيستدنيه الحجاج ويعانقه، وتبدو في أساريره نشوة الفرح رغم آلامه الشديدة. ثم تعاوده ذكرى الدماء، فيقول في مناجاته: مالي ولسعيد بن جبير؟ ما قتلته. على نفسه جنى. . رحمتاه يا ربي! وأخيرا يتمدد فاقد الحركة، فقد فاضت نفسه.
مسرحية طويلة يستغرق تمثيلها نحو أربع ساعات، ولكنها متجددة التشويق، تشيع فيها روح الدعابة والفكاهة، وتعبيراتها مجنحة بالخواطر والالتفاتات المعجبة. والهدف الذي ترمي إليه هو تحليل شخصية الحجاج كما يراها المؤلف، بل كما أحسها وفهمها من طول معاشرتها في تاريخها، وهو يتخذ هذا التاريخ وسيلة إلى غايته الفنية؛ فالتاريخ موجود في كتبه، ميسور لمن أراده، أما الفن فمجاله النفس الإنسانية، يطلبها في الحياة الحاضرة أو في (الحياة التاريخية) إن صح هذا التعبير.
قصد تيمور إلى الحجاج ذاته، ولم يعرض من تاريخه وأعماله إلا ما يعين على كشف
أغوار نفسه؛ ولذلك نجد المسرحية تعنى بحياته الخاصة أكثر مما تهتم بالأحداث التاريخية. الذي يهمنا من هذه المسرحية هو الحجاج باعتباره كائنا إنسانيا له خصائص متميزة كان يعيش في زمن ما.
الحجاج - كما صوره تيمور أو كما يبدو لنا من هذا التصوير - رجل طامح يتطلع إلى المجد، ويحس في أعماق نفسه بنقائص يحاول تعويضها، كان معلم صبيان بالطائف ثم جاء إلى دمشق ووضع قدمه على أول درج في السلم عندما لحق بشرطة الخليفة، فأراد أن يصعد عدوا، واستحكمت به الرغبة، فعنف وبطش وأسرف في عنفه وبطشه، بل أسرف في كل شيء حتى الطعام، وكان يحرص على فخر المصاهرة ليتسامى إلى ذوي الأحساب والأنساب. وهو رجل قوي الشكيمة يأبى الخضوع حتى أنه ليعصي أوامر الطبيب ويأبى تحكمه في ما يأكل ويشرب، ويعاند معدته فيحاول أن يرغمها على تقبل الطعام وهضمه مهما كثر وثقل. وهو أسود أخفش دميم، فتراه معنيا بزيه، يتخذ لغطاء رأسه الطراطير الطويلة يلف عليها العمائم الخضر أو الحمر ليتميز على نظرائه، وهو يميل إلى أن تعشقه النساء، يتجاذبه حبهن وحب المجد، وقد أتى المؤلف بالفتاة الأهوازية من إبداع خياله وجعلها محكا للحجاج ومسباراً لقلبه، فأجرى على لسانها ما يكشف عن نوازعه وأسرار نفسه، تجاهره بذلك في جرأة لا يضيق بها على رغم أنها تصل أحياناً إلى القحة، وبذلك يكشف لنا عن مرض نفسي لدى الحجاج هو (السادية) فهذا الجبار الباطش يلذ له أن تؤذيه هذه الفتاة المغامرة وهي أيضاً تشعر بلذة قسوته بل هي الناحية التي تعجبها فيه، وتجمل الفتاة رأيها في الحجاج بأنه (يد تبطش ومعدة تعوي).
وتيمور لا يرى الحجاج - على ما يبدو لي - رجلا شريراً، أو على الأقل يصدر في أعماله عن محبة للشر - لا يراه كذلك، وإنما يرجع دوافعه إلى البطش والطغيان، إلى ما يراه في جمع كلمة المسلمين وتدعيم الدولة، فهو يبتهج كل الابتهاج بانتصار المسلمين وتمام الفتح واتساع رقعة البلاد، يشم التراب الذي أتى به رسول قتيبة من تحت سنابك خيل المسلمين - يشمه فينتشي به وهو يحتضر. . ثم هو يتألم أشد الألم لقتل ابن جبير ويؤرقه تخيل دمه المسفوك.
وقد بلغت هذه المسرحية غايتها من حيث معالجة الحجاج وجلاء (ابن جلا وطلاع الثنايا)،
وكان جل العناية موجهاً إليه ثم إلى الفتاة الأهوازية، وكان رسم الشخصيتين منطقيا سليما وإن كان في علاقتهما شذوذ، وهو شذوذ يقع في الحياة. وليس في المسرحية عناية ذات شأن برسم شخصيات أخرى، وإن كان تقديم سائر الشخصيات طبيعياً فيما عدا شخصية شبيب الخارجي، فقد رأيناه على المسرح على غير ما نعلمه في التاريخ وعلى غير ما يوافق فكرته الثورية الدينية، رأيناه كلفا بحب الأهوازية يلح عليها في مبادلته الحب، وتفاجئه زوجه وأمه وهو مع الأهوازية في حالة تقبيل. . وقد نشأت من ذلك مشكلة هي غيرة الزوجة ونكوصها عن مشاركة زوجها في القتال لخيانته إياها، ثم انتهى الموقف انتهاء خطابيا لا يحل المشكلة، فكان الحل (مكلفتا!)
وقد جنح تيمور إلى تغليب جانب التحليل على جانب السبك، حتى أنه لم يحفل بترتيب نهاية مفاجئة، وهذا اتجاه فني لا غبار عليه، وقد سلكه مع المحافظة على اجتذاب المشاهدين إلى النهاية، وهي مقدرة لا يستهان بها، ولكني أريد النظر في محور القصة الذي يقوم عليه التشويق المسرحي، وهو العلاقة التي بين الحجاج والأهوازية، بدأت هذه العلاقة قوية مشبوبة في أول المسرحية واستمرت متصلة الحوادث حتى نهاية المنظر السادس، ثم كانت في المنظرين السابع والثامن على صورة واحدة، فتاة تعني بمن كانت تحبه عناية عطف ووفاء، وأرى بذلك أن هذا المحور انتهى قبل انتهاء المسرحية بمسافة كبيرة، وسد الفراغ بأشياء أخرى غيره كعرض مرض الحجاج ومناقشته لطبيبه، وقد طال ذلك حتى بدا فاترا لولا بعض المسليات كحركات الخصي (بهروز) ودخول الأعرابي على الحجاج.
وقد أخرج المسرحية الأستاذ زكي طليمات ومثل الحجاج، ولا بد أنه بذل جهداً كبيراً في ذلك، وخاصة أنه بصدد إعداد فرقة جديدة وإظهارها على المسرح أمام الجمهور لأول مرة، وقد وفق على رغم ذلك في الإخراج والتمثيل إلى حد كبير، فكانت أوضاع الممثلين وحركاتهم وأصواتهم طبيعية منتظمة، وكانت الإضاءة معبرة ومطابقة لأوقاتها، وكان منظر الصواعق ولهب الاحتراق رائعاً، وقد تجلت فيه طريقة زكي طليمات في التعبير بالمناظر والإيحاء بالأضواء، وزاد هذا المنظر روعة إصرار الحجاج على مواصلة الرمي وما لابس ذلك من قوة التمثيل وكانت المناظر والملابس موافقة، بيد أني أرى أن المخرج
اشترك مع المؤلف في المباعدة بين شخصية شبيب وبين الواقع، فقد بدا في (التزلك) برجليه والدرع اللامع على صدره كأنه من عساكر الرومان.
وفي المنظر الأول رأينا الوزير يدخل على الخليفة فزعاً صائحاً يطلب النصفة من الحجاج لأنه اعتدى على أعوانه، وأعتقد أن التصرف اللائق بالوزير وبالخليفة أن يدخل الأول هادئاً ويسلم بالخلافة فيؤذن له بالجلوس فيجلس ويبث شكايته ورأينا الحجاج (رئيس الشرطة) يدخل على الخليفة وبيده سوط، وقد يكون هذا مقبولاً، ولكن ما أظن لائقاً أن يرفع الشرطي السوط أمام الوزير لإرهابه في حضرة أمير المؤمنين!
وقد أدى الأستاذ زكي طليمات دوره في تمثيل شخصية الحجاج فأحسن الأداء، فقد اندمج فيها وخاصة في المناظر الأخيرة فقد لمحت شيئاً من (زكي طليمات) في البدء، ولكني افتقدته بعد ذلك تماماً حتى لم أعد أرى غير الحجاج.
ولم يكن جهد الأستاذ زكي طليمات في الإخراج قاصراً على الرواية، فقد أخرج أيضاً هؤلاء (الأولاد) الذين أظهروا على المسرح كفاية ممتازة تبعث الاطمئنان على مستقبل المسرح في مصر.
قامت نعيمة وصفي بدور الأهوازية، فبرعت في تمثيل الفتاة الجريئة المتهكمة والأنثى المذلة، وكانت معبرة بصوتها وحركاتها حسنة الأداء للجرس العربي، وهذا قليل في الممثلات، وهي ميزة تمتاز بها هذه الفرقة ممثلين وممثلات. وقد وصلت نعيمة وصفي إلى القمة في المنظر الثالث عندما كانت تحاور الحجاج في شأن خطبته لابنه عبد الله بن جعفر، ولكن ضعفها كان ظاهراً في المنظر السادس عندما أتت تفاوض الحجاج من قبل شبيب، كانت ضعيفة وانية، ولعل ذلك لتعبها.
وقد ظهر باقي الممثلين والممثلات في أدوار قصيرة، وقد أحسن كل منهم في تأدية دوره، وخاصة عبد الغني قمر وسعيد أبو بكر وعبد الرحيم الزرقاني وصلاح سرحان وفوزية مصطفى وسناء جميل وملك الجمل ومحمد الطوخي وأحمد الجزيري.
وكان توفيق الجميع ظاهرة سارة، لتحقيق أمنية (فرقة المسرح المصري الحديث) التي طالما داعبت الأحلام.
عباس خضر
البريد الأدبي
إلى فضيلة الأستاذ الأكبر:
بدأ الأمل في الإصلاح يعاود نفوس الغير منذ أن تولى مشيخة الأزهر أستاذنا الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم، وغمرت القلوب فرحة هذا النبأ لأنه قرب بعيد الآمال لمن طال بهم الانتظار. وإني حين أهنئ فضيلته بهذا المنصب الجليل أضرع إلى الله تعالى أن يعينه على النهوض بأعبائه الجسام. وأن يحقق على يديه الغاية الإسلامية الكبرى التي طالما انتظره الناس لها. وإن له من غزير علمه وتجارب سنه وحصيف رأيه وبعد نظره ومرونته التي رفعته عن مستوى الخامدين الرجعيين ما يتهيأ له به أن يمسك الدين الإسلامي عن التخلف في طريق المبادئ والإصلاح، ويدفعه للسير في طليعة مواكب الحضارة التي أقامها أصحابها على أساس يواكب روح التطور، ويعرض الإسلام على الناس نقياً طاهراً خالياً من كل شائبة ألحقها به سوء الفهم لمبادئه السامية وجمود القائمين عليه عند نصوصه التي عاصرت ميلاده، فاتهم الدين الإسلامي بالجمود والرجعية، وعدم صلاحيته لأن يطب لأدواء الحياة المعاصرة. وعلم الله أن دينه براء من ذلك وأن علاجه للمشاكل التي تورطت فيها البشرية هو السبيل الوحيد الذي ينقذ الإنسانية من متاهات الحيرة والضلال ويفضي بها إلى حياة السعادة والكمال؛ وقد شهد له بذلك من أعدائه رجال الفكر والإصلاح الذين يعصمهم الاعتدال والاتزان عن الاستجابة للأهواء والأغراض.
إن أعلى تراث ورثناه عن الآباء والأجداد قد وكل أمره إليك الآن يا سيدي وجعلك الله عليه قائماً، وإن أنبل عمل يرضى به الله عنك ويخلدك به التاريخ وترفع به شأن المسلمين، أن تنفض عن جمال الدين الإسلامي الغبار الذي أثارته الجهالة بتعاليمه، وأن تفك عنه العقل التي قيدته طويلا عن النهوض، وأن تبلغه للعالمين على الصورة الجميلة الرائعة التي صنعة الله عليها، فإن ما لحق به في عصور التخلف من إبداع وتزمت شوه تعاليمه ومسخ جماله وأخفى روائعه حتى عن بنيه، فلا عجب أن رأينا فيهم هذه الروح المعنوية الذابلة، فتطلعوا إلى كل مستحدث غربي، وأخذوا منه ما يخالف روح الإسلام وتقاليده، ونادي بذلك من هم أولى الناس برعايته وحياطته والسهر على إبراز محاسنه ودعوة الناس إليه. أمامك الآن يا سيدي مبهمات تنتظر التوضيح، ومشكلات تتطلب الحلول، وأوضاع يقف المرء
حيالها حائراً جامداً سليب العزم لأن الواقع صارم في إقناعه.
أمامك الآن يا سيدي مشكلة التعامل بالفائدة. . . وماذا يعمل الفلاح الذي لا يجد من يقرض الله قرضاً حسناً ويزجره دينه عن أن يدخل في بنوك التسليف في معاملات تقوم على أساس ربوي.
وأمامك الآن يا سيدي أوراق اليانصيب التي يصرف إيرادها في بناء دور الإسعاف والمبرات والإنفاق عليها في زمن قبضت الكرزة فيه الأيدي عن البذل في سبيل الله؛ وهذا النوع كما نراه لا يوقع الشيطان بين المساهمين فيه العداوة والبغضاء.
وأمامك يا سيدي موضوع التأمين على الحياة الذي تكالب عليه الناس وخاصة طوائف الموظفين الذين لا تدع لهم تكاليف الحياة ما يدخرونه لبنيهم من بعدهم - وحرص الآباء على سعادة أبنائهم من بعدهم غريزة فطرية لا مناص للمرء من الاستجابة لها أو قضاء حياته في بلبلة واضطراب. وأمامك الآن مشكلة الطلاق وتعدد الزوجات، تلك التي تهدد الأسر وتزلزل كيانها وتعصف بهنائها وتشرد أولادها، وأمرها متروك بلا عاصم ولا ضابط، فشاع التذمر والمقت في كل الأوساط.
وأمامك يا سيدي هذه الهيئات التي تسمي نفسها إسلامية وليس للإسلام فيها ظل من ظلاله أو سمة من سماته، ولا يأخذ رجالها أنفسهم بالتزام مبادئه وتعاليمه. وأمامك يا سيدي غير هذه المشاكل مما لا تتسع له هذه العجالة ولا يخفى عليك. فأقدم على بركة الله وسلط عليها من إيمانك وعلمك وعزمك ما يفل حديدها ويجلو دجنتها ويزيل لبسها ويبين للناس موقف الإسلام منها في صراحة ووضوح. وفقك الله إلى كل خير، وكتب للإسلام على يديك النصر والغلب.
فرشوط
عبد الفتاح محمد حماد
بتفتيش المعارف بفرشوط
على حد منكب
زارني بعض إخواني بمنزلي وكنت بين كتبي التي آنس بها وأسكن إليها وقال أحدهم:
مالك لا تأتينا في نادينا تحت شجرة الكافور؟ فكان جوابي: إنكم تعلمون أني لا أكاد ألم بهذا المكان إلا إذا كان الأستاذ الكبير صاحب الرسالة بين ظهرانينا، وأخذ الحدين بعد ذلك يذهب بنا ههنا وههنا، وبان من أمرهم أنهم أتوا للبحث عن معنى عبارة جرت على قلم صاحب الرسالة في الكلمة الأولى التي أنشأها عن (الأزهر في عهده الجديد) وهو يصف ما كان بين الأستاذ الإمام وبين خديوي مصر وهي (لولا أنه كان من سياسة القصر - على حد منكب) وقد قال أحدهم: لم لا يأتي الأستاذ الزيات بعبارات لا تستعصي على إفهام القراء؟ فقلت لهم: إن للبلغاء سبلاً في نشر مثل هذه العبارات يتلطفون في بثها في بيانهم لتشيع بين الأدباء وتجري على أسنة أقلامهم؛ والأستاذ الزيات لا تكاد تخلو كلمة من كلماته من مثل هذه العبارة.
وأخذنا بعد ذلك نتحدث في أمر هذه العبارة فقالوا إننا قد بحثنا عنها في المصباح المنير وما يماثله فلم نجدها فهل تكون في أساس البلاغة وهو لا يكتفي بإيراد المعنى اللغوي للكلمة وإنما يبين معناها المجازي؟ فأثبت به إليهم ولما لم يعثروا عليها فيه قلت لهم إن مثل هذه العبارة لا يصيبها الباحث إلا في كتب الأدب مما يستعمله كتاب البيان ويخيل إلى أنها توجد في مثل كتاب (نجمة الرائد) وتناولت هذا الكتاب وكان على مد يدي وأخذت أبحث فيه حتى ألفيتها جاثمة بين الصفحتين 240و41 من الجزء الأول منه وهذا نصها: (ويقال هو منه على حد منكب أي منحرف عنه دائم الإعراض) وكأنهم عندما عثرت عليها قد وجدوا كنزاً ولم يسعهم بعد ذلك إلا الإقرار بفضل صاحب الرسالة وعلو كعبه في الأدب وإلا الدعاء له بأن يديمه الله ذخرا للعربية وبلاغتها.
المنصورة
محمد أبو ريه
(الرسالة) جاء في معجم أقرب الموارد في مادة (نكب)(وفلان معي على حد منكب) أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه. وهو كقولهم (فلان يلقاني على حرف)
ابن عباس أو حسان: أيهما قال
اطلعت على مجلة الرسالة فرأيت تعليقا على كتاب - أضواء الماضي - للأستاذ سامي
الكيالي إذ نسب البيتين الآتيين إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهما:
إن يأخذ الله من عيني نورهما
…
ففي لساني وسمعي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل
…
وفي فمي صارم كالسيف مأثور
فصاحب الكتاب نسبهما لابن عباس والأستاذ المدرس بسوهاج نسبهما لحسان كما رأى ذلك في ديوان حسان.
وفي العقد الفريد جزء ثالث صفحة (105) قال: وقال ابن عباس لما كف بصره وسرد البيتين. وفي نكت العميان للصفدي صفحة 271 يقول أنشد الجاحظ لابن عباس وساق البيتين إلى أن قال الصفدي في صفحة (72) قال المعري:
سواد العين زاد سواد قلبي
…
ليشتقا على فهم الأمور
وقبله قال الخريمي:
فإن يك عيني خبا نورها
…
فكم قبلها نور عيني جبا
فلم يعم قلبي ولكنما
…
أرى نور عيني لقلبي سعا
قلت كلاهما أخذ المعنى من قول ابن عباس
وعلى هذا فصاحب الكتاب له العذر. والذي يرجح أن ابن عباس استشهد بكلام حسان أن الأخير هو المشهور بالشعر وابن عباس عرف بالحفظ وكلاهما كانا بصيرين كف بصرهما في الكبر وليس وجود الشعر في الديوان دليلا على أن النسبة صحيحة لحسان فكم من أبيات أدرجت وكم من أبيات حذفت ولم نتلق ديوان حسان بسند متصل. وتصحيح نسبة الكلام والقول لقائلة عسير جدا وقد نسب ديوان لعلي كرم الله وجهه والأدباء يقولون أنه لم يقل شعرا إلا بيتين. وقالوا إن كل شعر مجهول نسب إلى مجنون ليلى وليس هذا خاصا بالنثر والشعر بل تتناول الأقوال والآراء والحمد لله الذي لم يعصم إلا كتابه.
أسيوط
سيد على الطويجي
الواعظ العام لمديريتي أسيوط وجرجا
القصص
أحلام الزفاف
مهداة إلى رفيق الشباب محمد إسماعيل هاني
للأديب محمد أبو المعاطي أبو النجا
الأضواء الساطعة التي تنبعث من نهاية الزقاق، والجموع الحاشدة التي تتوافد إلى هناك، يؤكدان أن حادثاً هاماً شغل أهل الزقاق هذا المساء!
أما الأغاريد التي تنبعث بين آن وآخر، والأغنيات التي تسمع بين حين وحين، والأعلام الصغيرة الخضراء التي يهزها نسيم المساء الهادئ فتبدو كأنها أيد تدعو الناس إلى الحضور هناك. . .
كل أولئك كان يشير إلى أن الحادث الهام عرس من تلك الأعراس السعيدة التي تشغل أهل القرية كلما أنتفخ جيب شيخ بالمال، وأشرق وجه فتاة بالجمال!. . .
فإذا استخفتك هذه الأغاريد الحلوة، وراعتك هاته الأغنيات الشجية، وسرت في زحمة الناس إلى هناك فسترى في نهاية الزقاق فنوناً من الزينة وضروباً من البهجة تحيط بالعروسين في مكانهما المرتفع الغارق في الأزهار والأنوار. . .
وأقسم أنك لن تنظر إلى الأزهار وقد نسقت في نظام بديع، ولا إلى الأنوار وقد تألقت في وضع جذاب، ولا إلى العذارى من بنات القرية وقد أحطن بالعروس الشابة مثلما تحيط الملائكة بروح طاهرة تدخل الجنة!. . . لا، لن تنظر إلى شيء من ذلك وإنما ستحدق مذهولا في عيني العروس الفاتنة وستجد في نظراتها الساحرة الآسرة غناء عن كل أولئك.
وستظل تحدق في وجهها لا تمل التحديق، وعلى حين فجأة ستجد هاتين العينين تنطبقان في هدوء عجيب، وستجد العروس الفاتنة لا تحس بشيء مما حولها، حتى ولا بعريسها الشاب الجالس إلى جوارها وهو يدخن لفائفه المهداة إليه دون كلل أو فتور.
ستشعر أنت بالضيق حين يحجب عنك هذا الفيض الزاخر من السمر، وستحس برغبة ملحة في رؤية تلك الأحلام التي تمر مستخفية وراء تلك الأهداب الطوال. . .
ومن هنا سأقص عليك قصة تلك الأحلام. . . الواقع أنك كنت مشغولا بعينيها فلم تر ذلك
طفل الذي دخل هنا منذ لحظات وجعل يتأمل وجوه الناس ويتفقد أرجاء المكان؛ أنه (سامي) الأخ الصغير (لمحمود). . . وأنت لا تعرف محمودا هذا، ولكن (العروس) تعرفه جيداً. . . أنه الأفق الرحيب الذي تحلق فيه الأحلام، أما سامي الصغير. . . سامي الذي أثار بمرآه ذكريات رقدت في حنايا القلب وأغفت في ثنايا الروح. . . سامي هذا كان بمثابة الجناح الذي حمل العروس وحلق بها في وادي الأحلام، حيث يتراءى لها طيف محمود فوق كل ربوة وعد كل زهرة وجوار كل غدير. . .
إنها تعرف كل شيء عن (محمود). . تعرف أنه كان يتردد على منزلهم كلما أقبل في إجازة مدرسية إلى القرية، فأواصر القرابة التي تربط بينهم أقوى من أن تتركه يهمل تلك الزورات.
كانت تشعر بنشوة طارئة عندما يقبل وهو يسير بخطوات متوثبة حية كأنما يرقص على إيقاعها الشباب. . . وكانت دائماً تحشى أن تطيل النظر إليه حتى لا تلتقي منهما النظرات كانت تشعر كأن في عينيه قوة نفاثة تهزها بعنف فيصعد في وجهها ذلك الدم الحار الذي يكشف المكنون من العواطف ويزيح عن المشاعر أستار الجمود. . .
لذلك كانت تؤثر أن تقف خلف باب الحجرة التي يجلس فيها مع والدها لتسمع حديثه الفتي المرح الذي تتخلله الضحكات، ويا لها من ضحكات سحرية كانت تخترق صدرها الصغير لتوقظ ذلك القلب الراقد هناك في لفائف الصبا الغرير. . .
إنها تذكر كل ذلك. . ونذكر أيضاً أن أباها طلب إليها أن تصنع (شاياً) للضيف العزيز ولكنها لم تكد تضع الشاي على الموقد حتى تركته وراحت تعدو خفيفة إلى مكانها المأثور خلف باب الحجرة، ولم تبارح مكانها الحبيب إلا بعد أن ارتفع صوت والدها يستعجل الشراب للضيف الأثير. . وحين غادرت مكانها إلى الموقد كان الشاي قد غادر مكانه إلى الأرض. . . وتذكر أيضاً وما أجمل الذكريات! أنها كانت تتمنى أن تتحدث إلى (محمود) وأن تراه يخصها بكلماته ويغمرها بنظراته ويشعر بوجودها في خاطره ولو للحظات، هي التي تجعل كل خواطرها وقفاً عليه!! وقد وافتها تلك الأمنية السعيدة حين ذهب (محمود) إلى منزلهم ولم يكن أحد سواها هناك. لقد استجابت متكاسلة إلى طرقات الباب ولم يكد ينفرج عن وجه محمود حتى ندت عنها آهة خافتة كانت بمثابة عنوان صادق لكتاب
مشاعرها الكبير وحتى تلون وجهها الجميل بحمرة خفيفة كانت بمثابة حديث صامت عن أحلامها العذراء.
وأخرجها محمود من ارتباكها حين سألها:
- هل أبوك موجود؟ وأجابت بنبرات متقطعة خجولة
- إنه خرج. . . ولكن. . . تفضل. .! وأجابها وهو يبتسم
- سأعود مرة أخرى! فقالت وقد تغلبت على خجلها بعض الشيء
- ومتى ذلك؟ فأردف في نبرة حلوة:
- حين تريدين! تذكر أنها لم تجب بعد ذلك وتذكر أنه خلفها بعد أن ربت على كتفيها وهو يقول في صوت أخاذ.
- وداعا إلى أن أعود. . . ولم يكد يتوارى في نهاية الطريق حتى طفقت تعدو نشوى في أنحاء الدار كانت أشبه بسجين مدمن يتناول كأساً من الخمر لم يذق طعمها منذ أمد بعيد. .
وراحت تردد وهي مبهورة الأنفاس متوترة الأعصاب. . .
ربي. . . إنني لا اصدق أذني! أحقا إنني صادفت هوى من نفس محمود؟ حقا أن هذا الشيء اللطيف الرهيف الذي كنت أحسه على كتفي كان يده؟ أحقا انه يحبني؟
وأصبحت تجد طيف محمود في كل ما تنظر، وتستوعب حديثه في كل ما تسمع، وتعيش حياته في كل ما تحلم، وأصبح هو في دنياها كل شئ!!
وتذكر وما أعذب الذكريات أنهما تلاقيا بعد ذلك كثيراً وتحدثا كثيراً وفي ضوء تلك الأحاديث الشهية تلاقت عواطفهما الشابة لتسير في هذا الطريق الخالد الذي تزرع القلوب البشرية على جانبيه أزهار الأمل لتعطر للعشاق أنسام الحياة كان يحدثها عن غرامه حين يلقاها فتطرق!
وكان يربت على خدها حين يودعها فتبتسم. وكان هذا اللقاء الحبيب يتم بينهما خلسة في مكان بعيد. . . بعيد جدا هناك حيث لا تدب عصا التقاليد
وأعجب ما في الأمر أنها كانت تعلم أن هذه العلاقة لن تنتهي بهما إلى الزواج. . . كانت تعلم أن السنوات الباقية في حياته الدراسية وأن المركز الذي ينتظره في حياته الاجتماعية سوف يعودان بتلك الأمنية الغالية إلى دنيا الذكريات والأحلام. ثم هل تفكر الفتاة الريفية
البسيطة في الزواج بمحمود؟
يا لغرور الأحلام! لقد كانت كل أمانيها بالأمس تنحصر في شيء واحد هو أن تتحدث إليه، فهل تجمح بها الأخيلة إلى هذا الحد الذي تريد أن تشاركه فيه حياته؟! ثم ألا يكفيها أنه يحبها؟ أنه يلقاها فترى في عينيه دنيا من الأشواق تستطيع بحرارتها أن تدفئ قلبها إلى الأبد!! ثم أليست هي أول من يلقاه حين يحضر وآخر من يراه حين يسافر؟ حسبها إذن هذا المكان الجميل ما دام في قلب محمود!!
ثم تختلط أمامها الصور وتتزاحم الرؤى وتتماوج الأطياف حتى تنفرج أخيراً عن صورة تبدو واضحة السمات بارزة المعالم تلك هي صورة (متولي)
إنها تذكر جيدا هذا المساء الذي حضر فيه مع والده ومعه بعض الناس. لقد جلسوا طويلاً يتشاورون في أمر خطبتها (لمتولي) ثم انتهى المجلس بإعلان (الخطبة) وتذكر أن أمها وبعض الجيران رحن يزغردن في سرور والجميع يهتف بها في نشوة: مبروك يا حبيبتي. .!!
أما هي فقد كانت أشبه ما تكون بطفل صغير فقد يد أخيه الأكبر في حفلة من حفلات الزفاف، وجعل يبكي بين هتاف المغنين وأصوات المزامير دون أن يشعر به أحد. . لقد كانت تلك الأغاريد الحلوة تصل إلى أذنيها أشبه بالنواح كأنما تشيع أحلامها العذراء نحو مقابر الحرمان.
أجل حدث كل ذلك بالرغم من أنها كانت تثق بأن محموداً لن يكون زوجها المنتظر وأدركت تماما أنها كانت تخدع قلبها الصغير حين راحت توهمه بأن الزواج يصبح أملاً بسيطا حين تنفسح آفاق الحب وتسمو مشاعر العشاق!!. . . ومنذ ذلك اليوم أحست بأنها قد استيقظت من حلم جميل. . ومنذ ذلك اليوم أيضاً غاب عنها محمود!! لقد ظن الفتى النبيل أنه بذلك يساعدها على النسيان ولم يكن يقدر أن مرأى أخيه الصغير الذي يبحث عنه قد أثار كل هذه الذكريات. . .
لقد كانت الفتاة المسكينة تغمض عينها عن ضياء الحقائق لتنعم بطيف حبيبها في ظلام الأحلام؛ وعادت إليك تلك النظرات الساحرة الفاترة أشبه بشبح منهوك كان يزور قبر ولده الشاب! ومرة أخرى سوف تلهيك هذه النظرات عن سماع ذلك الحوار، أنه يدور بين شاب
في ربيع العمر وشيخ في خريف الحياة، أما الأول فهو يهتف في نشوة غامرة.
- ربي إنها تحلم. . . وأما الثاني فيجيبه بصوت ثقة وتجربة
- أجل يا بني بالسعادة المقبلة.
محمد أبو المعاطي أبو النجا