الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 909
- بتاريخ: 04 - 12 - 1950
مثل الشيخ.
. .
مثل الشيخ كمثل الزرع إذا آتى ثمره ثم هاج واصفر وأوشك أن يكون حطاما؛ لا يهتمبأصوله في الثرى لأنها عجزت عن امتصاص الغذاء فحسبه منها أن تتماسك، وإنما يهتم بسيقانه وأوراقه، يخشى عليها نفحة البرد ولفحة الحر وهبة الريح. وكلما تغير وجه السماء، أو اشتدت سرعة الهواء، ارتاع وانكمش وتوقع النهاية، فإذا صحا الجو وسرى النسيم الفاتر يداعب الأغصان الملد والأوراق الغضة، تبلد من الهمود فلا يحس نشاطاً لدعابة ولا اغتباطاً بمتعة! وهكذا الشيخ! تذوبه السنون وتضوبه العلل فتيبس أسلافه وتجف أعاليه، فيعيش بالاجترار أكثر مما يعيش بالأكل؛ ويتجه إلى الوراء ليتذكر، ولا يتجه إلى الأمام ليأمل؛ ويجل باله لأخبار المرض والموت والدواء، أكثر مما يجعله لأخبار الرياضة والولادة والغذاء. فإذا سمع بمرض صديق سال ما مرضه؟ ومن طبيبه؟ وما أسباب هذا المرض؟ أعنده ارتفاع في الضغط، أم زيادة في السكر، أم تصلب في الشرايين، أم ضعف في القلب، أم اضطراب في الغدد؟ وإذا قرأ في الصحف نعي رجل سال بأي علة مات؟ وكم سنة عاش؟ فإذا كان من طوال العمر سأل بماذا طال عمره؟ أكان يتبع في الطعام نظاماً خاصاً، أم كان يسلك في الحياة خطة معينة؟ وإذا كان من قصاره سأل لماذا قصر عمره؟ هل كان يفرط على نفسه في الأكل أو في الطعام أو في الشراب أو في الدخان؟ أم هل كان يسرف على جسمه في العمل أو في الفكر أو في الهم؟ وإذا وقع على مجلة في الطب أو مقالة في العلاج أو إعلانا عن دواء، تلمس في كل أولئك ما يعيد الصحة أو يؤخر الشيخوخة أو يطيل الأجل. وإذا جلس شيخ إلى شيخ لا يسأل أحدهما الآخر عن شدة الغلاء، ولا عن أزمة الجلاء، ولا عن قضية الجيش؛ إنما يسأله عن مقدار سنه، ونوع أكله، وساعات نومه، وعن الطبيب الذي يعالجه، والدواء الذي يفضله، والنظام الذي يتبعه. وإذا رجا الناس من العلم أن يكشف عن أسرار المادة، ويهيمن على قوى الطبيعة، ليهبط بالفردوس إلى الأرض، ويفيض من السعادة على العالم، رجا الشيخ منه أن يدرس كل مادة، ويخبر كل قوة، ويسبر كل غور، ليستخرج من المنابع الخفية والناجم المجهولة العقار الذي يرجع الشباب، والإكسير الذي يطيل الحياة!
وإذا الشيخ رأى الشباب الريان يمرح في الطريق، والجمال الفتان يخطر في الندى، انصرف ذهنه عن الوسامة والسقامة والفتنة واللذة، إلى العضلات القوية، والحركات
العنيفة، والأعصاب المتينة، والشرايين المرنة، والنفوس المفتوحة، فيتحسر على ماض لا يعود، ويتأوه من حاضر لا يبقى!
وإذا الشيخ قال أف فما مل
…
حياة وإنما الضعف ملا
آله العيش صحة وشباب
…
فإذا وليا عن المرء ولى
أحمد حسن الزيات
تحية إلى صديق راحل
للأستاذ محمود رزق سليم
توفي الصديق الكريم، عبد العزيز المراغي، في صباح الخميس 16 نوفمبر عام 1950 م. فخبا بوفاته نجم لامع، وتوارت ومضات أمل ضاحك. وقد لاقى ربه بعد مرض لم يمهله، ولم يشفق عليه، وهو شاب القلب، فتى الفؤاد، يقظ الرأي، متوثب الرجاء، يعد نفسه إعدادا ممتازا لمستقبل سعيد يخدم به دينه ومليكه ووطنه.
وقد تلقى أصدقائه وعارفوا فضله خبر وفاته بقلوب فاجعة، وعيون ذارفة، ونفوس ولهى، وشعروا كأن ساعدا قويا قد اختطفه من بينهم على غرة، ويدا خالسة قد استلبته منهم على غير أهبة. ولكنه الأجل الوافي، والقدر المحتوم، والموت النقاد.
وقد نعاه الناعون ما بدا لهم النعي، ورثته الصحف ما عن لها الرثاء. وذكروا طرفا من أخبار حياته الحافة وبقى منها الشيء الكثير.
وقد كان عبد العزيز واسع الأفق في نواح من الحياة كثيرة. فقد هيأت له ملابساته - مع ذكائه وفطنته - أن تكشف له كثيرا من حقائقها، كما دفعته إلى تجربة الأمور وملاحظتها. فاكتسب من وراء ذلك مرانه وخبرة، وحنكة وحسن بصر بالأمور ومعالجتها.
وقد كان منذ صغره مشغوفا بأخيه الأكبر الأستاذ الإمام المراغي، ويرى فيه نموذجا ساميا يقتدي به. وقد جمعت بينهما ظروف الحياة، أكثر مما تجمع بين شقيقين. فرحل معه إلى السودان، وتعلم بكلية غوردون. ثم عاد إلى مصر فاندمج في سلك طلاب الأزهر، مبرزا بينهم حتى تخرج به بأرقى شهاداته حينذاك. وأرسل في بعثة علمية إلى إنجلترا، فلبث فيها زهاء خمسة أعوام، ازداد فيها علما بالحياة، ومعرفة بمذاهبها ومآتيها. وتخصص في دراسة التاريخ الإسلامي وتاريخ الأديان، وهما من أهم المواد الثقافية صقلاً للأذهان ودعما للتجارب وتبليغا إلى الحق.
ولما بلغ أخوه الأكبر مرتبة المشيخة الجليلة، للمرة الثانية، كان عبد العزيز - وبخاصة بعد عودته من إنجلترا - أشد سواعده القوية، ومن أقرب مستشاريه إلى نفسه. فحمل معه شيئا من العبء، على مقدار طاقته وجهده. وطبعي أن يصبح في ذلك الحين، موضعا للأمل والآملين، كما كان محطا للنقد والناقدين.
وقد استطاع عبد العزيز في هذه الحقبة - وهو على كثب من أمور الأزهر - أن يدرسها ظاهرها وباطنها، صريحها ومؤولها، وأن تتكشف له منها مواضع الداء، ويقدر الدواء. ولا أغلو حينما أذكر أن حدب عبد العزيز على الأزهر، وشغفه به، وأمله القوي في أن يسمق بنيانه، وترتفع أركانه، كان شيئا فوق مكنة الطالب الذي يعشق معهده، ويتعصب له
وقد عرف فيه إخوانه دماثة الخلق، والمرح، وبشاشة الوجه، وابتسامة الثغر، وعفة اللفظ على علانه - كما كان مطاوعا لكل ذي حديث، ولو كان فيه آمال، لا يصده عنه إلا بكيس ورفق - وربما نعى عليه بعض خلطائه أنه يلقى عدوه كما يلقى صديقه، فلا برم ولا تنكر - وما كانت هذه منه إلا لرحابة صدره وحسن سياسته، وحبه لتلافي ما يستطاع باللطف تلافيه. ولذلك ظل كثير ممن ينتقدونه ويحملون عليه، يبجلونه لذاته، ويحبونه لشخصه، ويلقونه لقاء الأخوة الكرام
ولما اختير إماماً للحضرة العلية الملكية تفتحت له من الحياة سبل جديدة، ازداد بها مرانه ومعرفة، وأخذ يخطو ويبرز نحو الصفوف الأولى بين رجالات الوطن. وكان إذ ذاك حركة دائبة. فيؤدي واجبه أمام مليكه، ويلقي دروسه وخطبه، ويذيع في المذياع، ويكتب في المجلات، في الأمور الدينية والاجتماعية والتاريخية
وقد كان عبد العزيز عالما أزهريا، بالمعنى الذي يفهمه التاريخ والعرف. ومرجع ذلك - فيما اعتقد - إلى حبه العميق للأزهر، وما في الأزهر من علم، وما له من تقاليد. فهو وإن بدا مترفا في بعض حياته، جانحا إلى الأخذ بأساليب العيش الحديثة. كان شديد الحنين إلى الحياة القروية الساذجة الهادئة التي تفضل البساطة في كل شئ من ملبس ومأكل ونحوهما، وهو سريع الجنوح إليها ما واتته الفرصة، ولهذا كان أحب الأيام إليه ما قضاه في بلده بالصعيد، والمراغة. . . بين عشيرته
وأهم خصوصيات العالم الأزهري - فضلا عن معرفة الشريعة الغراء - حبه الجدل والمناقشة، وقدرته على سوق الحجة والدليل، وعدم تسليمه لخصمه في سهولة ويسر. وقد كان عبد العزيز في ذلك، من الطراز الأول، لا يكاد المرء يدخل معه في نقاش حتى يفيض بالاعتراض والاستشهاد، وبالتدليل والتعليل، والموازنة والترجيح، حتى يصل إلى قرار الحق يشهد بذلك تلاميذه الكثيرون في كليات الأزهر، وأصدقائه، وأعتقد أن أصحاب
الفضيلة الإجلاء أعضاء لجنة الفتوى، قد لمسوا فيه هذه الخصوصية، خلال عضويته بها.
وكان ضليعا في معرفة الشريعة السمحة وأحكامها، خبيرا بمذاهب أئمتها على اختلافهم، بصيرا بمذاب الكلاميين من فقهائها. وقد أخرج كتابا في حياة (ثقي الدين بن تيمية الحراني) ألقى فيه ضوءا على جهاد هذا العلامة في سبيل دينه، موضحا عقيدته، مبينا أنها عقيدة السلف، وأنها بعيدة عن مزالق المبتدعة من متطرفي الحنابلة. وقد سمعت ثناء مستطابا على هذا الكتاب من كثير من الفضلاء
وقد كان مؤرخا راعيا لتطورات التاريخ الإسلامي وتقلب دولته، منقبا عن ذلك في كتب التاريخ الإسلامي العربي منها وغير العربي
وكان أديبا بكل ما تحمله هذه الكلمة من المعاني. فقد أوتي حافظة قوية كنت أغبطه عليها، ملمة بشتى عصور الأدب وتقلباتها وحوادثها إلماماً محموداً، وكثير ما تجود بالأبيات والطرف الأدبية والأمثال ونحو ذلك، عند أدنى مناسبة - وكان يطرب للدعابة اللطيفة والنكتة الرائعة - 0واو على حسابه - ويأخذ حينذاك سبيله إلى المرح قائلاً (لقد قتلتنا كثرة الجد) ولكنه سرعان ما ينحدر إلى سوق الحكم والنعي على الدنيا، مع الرضا والاستسلام لقضاء الله وقدره.
وكان كثير البحث في مظان اللغة، يحفظ من ألفاظها عددا تكتنز فيه المعني، أو يعبر عن المعاني الغريبة أو المستحدثة، ويعنى بالألفاظ الطوافة في اللغات، وما كسبته في كل لغة من المعاني. وأغلب الظن أن في مسجلاته كثيرا منها.
هذا إلى أنه كان كاتبا حسن الكتابة، وخطيبا رائع الخطابة، وممن أوتى مقدرة طيبة على تدبيج المقالات دينية واجتماعية وتاريخية. وهذه مقالته في مجلة (رسالة الإسلام) وغيرها، خير شاهد
ولا نقول جديدا إذا نوهنا بدروسه الدينية وخطبه المنبرية، فإنه أسبغ عليها سمة من التجديد، وغذاها بما تفيض به نزعته الأدبية وثقافته الواسعة، فخرجت بجديد أسلوبها ومعناها، عصرية بريئة من السمت التقليدي القديم
ومنذ سنوات أخذ على عاتقه إخراج كتاب من أهم كتب الحديث والفقه والقضاء الإسلامي، وهو كتاب (أخبار القضاء) لمحمد بن خلف بن حيان، المشهور بوكيع. استعار نسخته
الشمسية الوحيدة - على ما اعتقد - وأنفق فيها النفيس من وقته، والمرجو من راحته، حتى استقام له تقديمها إلى المطبعة. فأنجزت منها جزأين وبقى جزآن، وقد تسنى لي الاطلاع على الجزأين المطبوعين - وإن كانا لم يخرجا إلى السوق بعد - فوجدته قد عنى في الكتاب بالتصحيح والتعليق وشرح الغامض وتخريج الأحاديث، بما يشعرك بعلمه الغزير وأدبه الجم وإحاطته بمسائل الفقه ومواضع الحديث ومظان الأدب. وبما يشعرك بصبره وبالغ جهده في سبيل خدمة دينه وشريعته - ولعل أحد خلصانه وأحبابه ينجز من الكتاب ما بقى، حتى يخرجه إلى القراء، ويكون لهما أثرا خالدا وذكرا طيبا.
وقد عنى الفقيد أخيرا بموضوع من أجلْ الموضوعات وأشقها، (وهو تطور الفقه الإسلامي متأثرا بأحوال الدول الإسلامية) وكان كثير التفكير فيه، والحديث من نواحيه، ولا أدري إلى أي مرحلة من مراحله بلغ.
وبعد، فهذه عاجلة في ذكرى الفقيد العزيز دفعتني إليها مقتضيات صداقة كريمة دامت عشرين عاما على أنبل ما تكون الصداقات
رحمك الله أيها العزيز رحمة واسعة، وعزى فيك الوطن والأصدقاء.
محمود رزق سليم
مدرس الأدب في كلية اللغة العربية
الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
- 9 -
التحليل النفسي
التحليل النفسي طريقة عملية لمعرفة الرغبات المكبوتة في اللاشعور، والعقد النفسية الناشئة عن هذا الكتب. وأول من فكر في هذه الطريقة ووضع قواعدها ومصطلحاتها العلمية العالم النفسي العظيم - سيجمند فرويد - وقد تقدم التحليل النفسي في السنين الأخيرة تقدما كان له أثر كبير في علم النفس فتطور هذا العلم بواسطته تطورا عظيم الأهمية بعيد الأثر ولا سيما من الناحية اللاشعورية. وتتلخص طريقة التحليل النفسي في حمل المرء المراد تحليل نفسيته على أن يطلق لنفسه العنان فيدع أفكاره تأتي وتروح بدون أن يضبطها أو يراقبها. وبهذا تكون أفكاره لا علاقة لها بالعلم الخارجي وتصبح حاله أشبه ما تكون بحال المطرق في حلم. ثم يطلب منه ألا يقاوم تلك الأحلام وما عيه إلا أن يقول كل ما يخطر بباله فيذكر أوهاما وعبارات مضطربة وألفاظا لا ارتباط بينها. بعضها عن حوادث بعيدة حصلت له في الطفولة وبعضها حصل له في بقية أدوار حياته الأخرى وأكثرها يتعلق بآلامه وآماله وبكل ما هو مؤثر في نفسه وسلوكه
ويجب على المحلل أن يكون شديد العطف على المريض فيعينه على البحث في قرارة نفسه حتى يصل به إلى حادثة أو فكرة معينة يتخذها كمفتاح يفتح به اللاشعور فيتوصل بها إلى معرفة سبب الاضطراب في السلوك والأعصاب، ومتى بلغ المحلل هذه النقطة أمكنه أن يعرف كل شئ. فالتحليل النفسي إذاً مفتاح اللاشعور والغاية منه معرفة سبب الاضطراب في لسلوك والأعصاب. ونحن نرى من الحق أن نبسط هذا الموضوع بعض البسط حرصاً على الفائدة وتوطئة لفهم ما عند الغزالي في هذا الموضوع فنقول
عندما اصطدم الإنسان بالمجتمع وما فيه من قيود انكبتت رغباته وميوله انكباتاً سبب له كثيراً من الأمراض النفسية والعصبية فخلقت هذه الأمراض النفسية والعصبية للمريض جحيما مستقرا لا تنطفي ناره ولا تخمد أوراه. والذي يؤسف له حقا هو أن أكثرية البشر
مريضة نفسا او عصبيا. أو نفسيا وعصبيا معاً وإن اختلفت هذه الأمراض قوة وضعفاً وضوحاً وغموضاً وقد مضى على البشر القرون الطويلة وهم يتقلبون في جحيم من الأمراض وهم لا يشعرون ولكن لم تخف هذه الحقيقة المؤلمة على أهل الفكر من أبناء الأجيال الماضية. فقد عرفوا هذه الحقيقة لأنهم اكتووا بنارها ولكنهم حاروا في سرها وضلوا الطريق إلى فهم كنهها وحقيقة أمرها فأخذوا يتخبطون في هذا الأمر تخبط العشواء في الظلام لا يخرجون من ظلمة حالكة إلا ليتردوا في هوة أشد حلكة حتى ألهم الله - فرويد - بدراسة العقل الباطن وما في هذا العقل العجيب من عواطف مكبوتة ورغبات متصادمة متلاطمة وعقد مبرمة محكمة ومركبات محتدمة مضطربة فاهتدى إلى حل هذه المشكلة النفسية بطريقة التحليل التي أشرنا إليها في صدر هذا المقال ونحن نعتقد أن الإنسانية تنتفع عظيم الانتفاع بطريقة - فرويد - في التحليل النفسي متى دخل على النفس التحليلي البيوت والمدارس والمصانع والمزارع وعمت العيادات والمستشفيات النفسية المدن والقرى. نقول هذه وأملنا كبير بتحقيق هذه الأمنية لأننا رأينا المدى الواسع الذي قطعه علم النفس التحليلي في الغرب خلال نصف قرن ذلك المدى الذي يبشرنا بقرب انتشار هذا العلم الجليل في الشرق فينتفع به الشرقيون عامة ويصبح الشرقي وقد تعود أن يذهب إلى العيادة النفسية لمعالجة الخوف والخجل كما يعالج السل والسرطان. ولا يفوتنا أن نذكر هنا شيئا جليل الخطر في موضوع التحليل النفسي وهو أن خطورة العقد النفسية وخطرها في خفائها وعدم الشعور بها، فإذا ما عرفت العقد وأصبح صاحبها شاعراً بها انحلت وبطل سحرها. ومتى انحلت العقد انتهى السلوك الشاذ الذي كان متسبباً عنها وهذا ما يرمي إليه التحليل النفسي ويعمل لأجله المحللون النفسيون.
ولندع الآن الإمام العلامة أبا حامد الغزالي يتحدث عن التحليل النفسي والطريق الذي يعرف به المرء عيوب نفسه. يقول أبو حامد الغزالي.
إذا أراد الله بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج. ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق
الأول. أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته
الثاني. أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً فينصبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنية والظاهرية ينبهه عليه
الثالث. أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه
الرابع. أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذموما فليطالب نفسه به وينسبها إليه فإن المؤمن مرآة المؤمن فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شئ منه فيتفقد نفسه ويطهرها منكل ما يذمه غيره
هذه طرق الغزالي الأربعة في التحليل النفسي. فالطريقة الأولى قريبة جدا من طريقة علم النفس الحديث ونرى ذلك واضحاً عندما نقابل ما يقضي به العلم الحديث من الإنسان حمل المراد تحليل نفسيته على أن يطلق العنان لأفكاره أمام المحلل وبين يدي شيخ بصير بعيوب النفس وبحكمه في نفسه ويتابع إشارته فيعرفه ذلك الشيخ عيوب نفسه وطريق علاجها. والطريقة الثانية هي الاستعانة بالصديق في معرفة العيوب وهذه الطريقة شبيهة بالأولى من حيث أنها استعانة بالغير في التحليل. إلا أن الأولى تحليل بواسطة اختصاصي (شيخ بصير بعيوب النفس) - والثانية تحليل بواسطة صديق بصير في المراقبة دقيق الملاحظة. وأما الطريقة الثالثة والرابعة فهما طريقتان للتحليل الذاتي والتأمل الباطني وطريقة التحليل الذاتي أفضل طرق التحليل لذوي البصائر النيرة والعقول الراجحة.
ومن حق الغزالي علينا أن نذكر له معرفته بس العقدة النفسية وإدراكه أن خفاء العقدة عن صاحبها هو السبب الذي يجعل حلها صعباً وشفاءها في بعض الأحوال مستحيلاً وإدراكه أيضاً أن معرفة العقدة والشعور بها يسبب حلها والتخلص من شرها. يقول - فمن تكون بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه فإذا عرف العيب أمكن العلاج. ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم. ثم يقول في موضع آخر: إن من الأمراض ما لا يعرفها صاحبها ومرض النفس مما لا يعرفه صاحبه وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه.
ولنسمع الآن ما عند الغزالي من طرق المعالجة النفسية يقول:
- ينظر في الداء فإذا كان البخل مثلا فعلاجه بذل المال. ولكن قد يبذل المال إلى حد يصير تبذيراً؛ فيكون التبذير أيضاً داء، فالمطلوب إذن هو الاعتدال، وهذا الاعتدال الذي يذكره الغزالي هو السلوك السوي الذي يعمل للحصول عليه التحليل النفسي لرد هؤلاء الشاذين في سلوكهم إليه. ولم تغفل بصيرة الغزالي اليقظة عن الصعوبة في رد الشاذ إلى الحد السوي من السلوك يقول - الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف. وقلما ينفك الإنسان عن ميل عم الصراط المستقيم أعني الوسط حتى لا يميل إلى أحد الجانبين.
وسنتحدث في مقالنا القادم عن السلوك في نظر الغزالي إن شاء الله
حمدي الحسيني
شعر الحماسة عند العرب
للأستاذ أحمد حسن الرحيم
شعر الحماسة لا يخلو منه أدب أمة من الأمم الراقية، فهو قطعة من تاريخ حروبها الداخلية والخارجية، وهو حافز قوي يؤجج في النفس الحمية والحرص على الكرامة. ولكثرة حروب العرب كثر في أدب شعر الدماء والصدام. وقد تكيف العربي لبيئته القاسية وأذعن لما تطلب منه حفظا لحياته، فالذي يعيش في خيمته عرضة لكل هجوم يباغته به عدوه من الإنسان أو الحيوان ينبغي أن يكون شجاعا خفيف الحركة لا تربكه المفاجآت. ولما كان الكلام من وسائل الدفاع - أيضاً - فقد وجب أن يكون سريع الارتجال، حاضر البديهة، بليغ الإجابة، وقد أحب العرب باديتهم وفضلوها عن الحضارة وافتخروا بحريتها وطلاقتها، قال القطامي: -
ومن تكن الحضارة أعجبته
…
فأي رجال بادية. ترانا
ومن ربط الجحاش فإن فينا
…
قنا سلباً وأفراساً حسانا
وقد كان العربي بحاجة مستمرة إلى سلاحه وجواده وقد روى عن حاتم الطائي الجواد العلم أنه كان يجود بكل ما يملك إن سئل إلا أنه يشق عليه جدا أن يجود بجواده أو حسامه، وهو على حق في ذلك فجوده في آلة الحرب في مجتمع دموي يسلمه إلى الذل والهوان، قال الشاعر: -
فما منعت دار ولا عز أهلها
…
من الناس إلا بالقنا والقنابل
ولسعة الصحراء وتنقل العرب فيها عز عليهم أن يذعنوا لجبار متحكم، لماذا يقبلون الضيم وأرض الله واسعة، ومطية السفر حاضرة وقد أوصى بعضهم بعضاً بمغادرة دار الهوان.
قال عنترة العبسي يطري دار العز ولو كانت سعيراً متقداً: -
لا تسقني كأس الحياة بذلة
…
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
كأس الحياة بذلة كجهنم
…
وجهنم بالعز أطيب منزل
وقال غيره: -
إذا جانب أعياك فاعمد لجانب
…
فإنك لاقٍ في بلاد معولا
فالعربي في صحرائه جراب آفاق لا يضيره بل يسره أن يتنقل من أرض إلى أخرى إذ لا
تربطه بها أملاك أو مصالح لا تنقل. ولكثرة ترحال العرب كثر أدب الحنين إلى الديار ووصف الدمن والأطلال والفراق كثرة بينة.
ونتج عن كثرة الحروب تعدد الزوجات ليكثر النسل (فالعزة للكاثر) ومن كان أكثر عدداً فقد نأى عنه الضيم، وفرضت مهابته على خصومه.
أبى لهم أن يعرقوا الضيم أنهم
…
بنو ناتق كانت كثيراً عيالها
وأصبح تعداد البنات عبئاً على الرجل ونقطة ضعف ينبغي أن يذود عنها.
ونسوتكم في الروع باد وجوهها
…
يخلن إماء والإماء حرائر
فهم يكثرون من النساء لزيادة النسل ولا يتمنون لهن أن يكثرن من البنات، ولو كانت فتاة الصحراء كفتا ة اليوم في حذق فن القتال لكان للعربي إلى المرأة نظرة أخرى. وقد ورد في تاريخ العرب ذكر نساء مقاتلات ولا سيما من الخوارج ولكنهن من القلة بحيث لا تستقيم بهن قاعدة. وقد تطور فن القتال وأصبح اليوم - بصالح المرأة، فقد كانت قديماً آلة الحرب تحتاج إلى عضل شديد، أما اليوم فقد أصبحت أهميته ضئيلة بجانب المهارة وقوة الأعصاب.
ولقد تمكن حب الحرب من نفس العربي، وساد نظام (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وأصبحت
الحرب عندهم من الأماني الثلاث العزيزة التي لولاها لا يحفل الإنسان بحياته.
قال طرفة بن العبد: -
ولو ثلاث هن من لذة الفتى
…
وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقى العاذلات بشربة
…
كميت متى ما قل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف مجنباً
…
كسيد الغصا - نبهته - المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
…
ببهكنة تحت الطرف المعمد
وقال غيره: -
وكان أخي جوان ذا حفاظ
…
وكان القتل للفتيان زينا
وقال غيره: -
وإني في الحرب الضروس موكل
…
بإقدام نفس لا أريد بقاءها
ومن الصواب أن شعر الانتقام والوعيد يذكي جذوة النفس، ويحفز إلى الأخذ بالثأر ويرهب الخصم العنيد، ولعل من أسباب انصراف العرب عن الملاحم الطويلة أنهم بحاجة إلى نوع من الشعر سهل الترديد، قصير مستقل بذاته، سهل حفظه، يردد قبيل الحرب أو بين الجموع المتشابكة - وقد جاشت الأرواح - ليقوي النفس على الثبات ويهبها الإقدام والحرص على مواقف البطولة - وجل ما ورد في ديوان الحماسة من شعر الحرب قصير موجز مع احتمال أن أبا تمام قصر منه بانتخابه الغزير التوفيق.
ومن شعر الحماسة نرى أن قسما من العرب يرى أن من سمات الشجاعة والسطوة أن يكون الإنسان سريع الاستجابة لدواعي الشر، متحككا بة، إمعة مع كل شرير، لأن ذلك من مظاهر القوة والبسالة.
قال الشاعر: -
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهمو
…
لأية حرب أم بأي مكان
وقال غيره: -
لا يسألون أخاهم حيث يندبهم
…
في النائبات على ما قال برهانا
وقال غيره: -
وأحيانا على بكر أخينا
…
إذا ما لم نجد إلا أخانا
وقال غيره: -
وإني لا أزال أخا حروب
…
إذا لم أجن كنت مجن جاني
غفر الله (لسواء بن المضرب) وكان في عون من عاصره وعايشه
هذه غاية حب الخصام والفتن أن يكون حريصا على أن يستمر حبل الشر فإذا لم يجن حمى الجناة وصار لهم وقاء استدامة لشرهم وظلمهم، وإذا أسعده الحظ فجنى على الناس فتلك الأمنية.
ومن العيب على أفراد العشيرة: (ألا يظلموا الناس حبة خردل) أو أن يطلبوا من المستصرخ دليلاً على دعواه ومظلمته قبل أن يبدءوا المعركة.
والمستقرئ لشعر الحماسة في أدب العرب يجد منه ما يمثل عاطفتين متضادتين: عاطفة الرأفة بالأقارب ورعايتهم، وعاطفة القسوة عليهم، والمثل لكلتا العاطفتين عديدة.
قال أوس بن حنباء في مقاومة الشر وإن جاء من ذوي القربى:
إذا المرء أولاك الهوان فأوله
…
هواناً وإن كانت قريباً أواصره
وقال غيره: -
ونحن بنو عم على ذات بيننا
…
زرابي فينا بغضة وتنافس
ونحن كصدع العس أن يعط شاعباً
…
يدعه وفيه عيبه متشاخس
وعارضه آخر في رعاية حقوق القربى وإكرام صلة النسب: -
وإني لأنسى عند كل حفيظة
…
إذا قيل مولاك احتمال الضغائن
وإن كان مولى ليس فيما يهمني
…
من الأمر بالكافي ولا بالمعاون
وقال غيره: -
لعمري لرهط المرء خير بقية
…
عليه وإن عالوا به كل مركب
من الجانب الأقصى وإن كان ذا غنى
…
جزيل ولم يخبرك مثل مجرب
وقال محمد بن عبد الأزدي:
ولا أدفع ابن العم يمشي على شفا
…
وإن بلغتني من أذاه الجنادع
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه
…
لترجعه يوما إلى الرواجع
وأحسب أن قصيدة (معن بن أوس) في مداراة القريب لانتزاع الضغينة من صدره باللطف والتسامح وسعة الصدر هي أم الباب في هذا الصدد: -
وذي رحم قلمت أظفار ضغنه
…
بحلمي عنه وهو ليس له حلم
وفيها يفصل أسلوبه الناجع في رأب الصدع وإصلاح الخلاف وتأليف الأفئدة. وقد أعجب بها عبد الملك بن مروان وكان ذا نزعة أدبية وفضلها على كل ما سمع من شعر أمرؤ القيس والأعشى والنابغة. وإذا أخذنا بنظرية (أدلر) في شدة التنافس بين الأقارب فإن ما ذكر من أشعار البغض بين الأقرباء شئ طبعي شائع كما أن استعمال الحسنى في معاملتهم سمو من تغليب العقل على العاطفة لا يرقى إليه إلا القلائل.
ومن سمات الضعف والاستخذاء قبول الدية فلا تقبل الديات إلا عند خوف معاقبة، وقبولها عندهم سمة الضعف والطمع.
قال مرة بن عداء من بني أسد: -
فلا تأخذوا عقلا من القوم إنني
…
أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
وقال غيره: -
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم
…
رضا العار فاختاروا على اللبن الدما
وقالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب على لسان أخيها القتيل: -
أرسل عبد الله إذ حان يومه
…
إلى قومه لا تعقلوا لهم دمى
ولا تأخذوا منهم أفالا وأبكراً
…
وأترك في بيت بصعدة مظلم
والمستحسن أن يضيف الموتور إلى رفض أخذ الدية زيادة في التنكيل والقتل يتجاوز بها حد المساواة.
قال أحدهم: -
فيا شمل شمر واطلب القوم بالذي
…
أصبت ولا تقبل قصاصاً ولا عقلا
ومما يدل على جودة الطبع، والثقة بالنفس وحب الصدق أن يعترف العربي لخصمه بالصفات المشرفة فيطرى شجاعته ويصف البطولة في حملاته، وأشعار هذا الضرب تسمى عندهم (بالمنصفات)
يكرمون شاعرها ويعجبون به فوق ما يصنعون لغيره من الشعراء قال عبد الشارق بن عبد العزى الجهني: -
شددنا شدة فقتلت منهم
…
ثلاثة فتية وقتلت قينا
وشدوا شدة أخرى فجروا
…
بأرجل مثلهم ورموا جوينا
فآبوا بالرماح مكسرات
…
وأبنا بالسيوف قد انحنينا
وقال زفر بن الحرث: -
وكنا حبسنا كل بيضاء شحمة
…
ليالي لاقينا جذام وحميرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه
…
ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
ولما لقينا عصبة تغلبية
…
يقودون جرداً للمنية ضمرا
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها
…
ولكنهم كانوا على الموت اصبرا
لقد ذكر عن خصومه طواعية أنهم (كانوا على الموت اصبرا) وهذا لسان صدق ولفظ بديع يعتز بهما وبأمثالهما تاريخ الأدب.
وقال العديل بن الفرخ العجلي وهو شاعر إسلامي: -
إذا ما حملنا حملة مثلوا لنا
…
بمرهفة تذري السواعد من صعد
وإن نحن نازلناهم بصوارم
…
ردوا في سرابيل الحديد كما نردى
كفى حزناً أن لا أزال من القنا
…
يمج نجيعاً من ذراعي ومن زندي
ومن أشنع العيوب عند العرب أن يعيش الفرد للذته وعاره فتشغله اللذة عن واجب الإباء والكرامة، وصورة مصعب بن الزبير ماثلة للأذهان إذ يترك من بعده زوجه سكينة بنت الحسين فتاة الحسب والأدب والجمال تندب ثكلها وهو يلومها على جزعها بقوله (ما ترك أبوك لابن حرة من عذر). وقد كانت لمصعب القدرة على النجاة.
قال شبرمة بن الطفيل من شعراء العصر العباسي الأول: -
لعمري لرئم عند باب ابن محرز
…
أغن عليه اليارقان مشوف
أحب إليكم من بيوت عمادها
…
سيوف وأرماح لهن حفيف
فهو يعرض بهم لسكوتهم إلى الخفض وانزوائهم عن لقاء الحروب وأبو نواس - وهو ربيب حياة اللذة - لا يعجبه قول شبرمة بل يقف على حافة الطرف الثاني قال: -
رضيت من الدنيا بكأس وشادن
…
تحير في تفصيله فطن الفكر
إذا ما بدت أزرار جيب قميصه
…
تطلع منه صورة القمر البدر
فأحسن من ركض إلى حومة الوغى
…
وأحسن عندي من خروج إلى النحر
فلا خير في قوم تدور عليهم
…
كؤوس المنايا بالمثقفة السمر
تحياتهم في كل يوم وليلة
…
ظبي المشرفيات المزيرة للقبر
وهو بالإضافة إلى ما في حياته من عوامل الاستخذاء عاش في بيئة ترفل بنعمة الأمان، يسهر الحاكمون فيها على حماية دماء الناس وأموالهم، ولم يكلفه مجتمعه واجباً دفاعيا فظن نفسه مستغنيا عن الذياد. ولو عاش في بيئة يحتكم ساكنوها إلى القوة والسيف قبل المنطق لتبين خطل رأيه وراح ضحية فلسفته.
وقد زودت حرب الجاهلية وحرب الجمل وصفين وحروب الخوارج تاريخ الأدب العربي بأروع أدب الحرب، ولكنه نزر في العصر العباسي بالتدريج لتغير نظم المجتمع العربي. ولعل من أبرز شعر الحماسة في هذا العصر بائية أبي تمام في فتح عمورية وسيفيات أبي
الطيب في الحماسة والمديح. وفي عصر الفترة المظلمة قصيدة صفي الدين الطائي الحلي (677 - 750 هـ) وأولها: -
سلي الرماح العوالي عن معالينا
…
واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا
أما شعر الحماسة في الأدب الحديث فبحاجة إلى بحث مستقل وقد اكتسب معاني جديدة لتطور أساليب القتال ومعداته.
لقد كانت شوكة العرب وسطوتهم طاقة جبارة وجهها الإسلام إلى خارج الجزيرة واستغلتهالنشر الدين فاكتسح بها الأقطار.
وبعد هذا شواظ من أدب الحماسة عند أجدادنا الأباة أعيده على الأسماع لعله يقدح زند الحمية في النفوس ويلهب ما ورثت من حب التضحية لتوهب لها الحياة العزيزة، والدفاع المشروع تقره كل النظم الدينية والمدنية.
الحلة (العراق)
أحمد حسن الرحيم
ليسانس بالأدب العربي
الغباء الاجتماعي.
. .
للأستاذ محمد عثمان محمد
في ركن هادئ بأحد المقاهي العامة، جلس اثنان يتجاذبان الحديث، أحدهما محامٍ له ماضيه وشهرته، والثاني طبيب مشهور يعمل كبير لجراحي إحدى المؤسسات. .
وتشاء الصدفة البحتة أن يمر بها أثناء جلوسهما صديق قديم للمحامي، ليست له معرفة بالطبيب. .
وبالرغم من أن هذا الصديق مثقف ثقافة عالية، وحائز على أرقى الدرجات العلمية، إلا أنه لم يراع الكياسة الواجبة، واللباقة الأدبية في مقام التحية والترحيب. .
فهو مثلاً، لم يعط الفرصة لصديقه الحامي حتى يقدمه إلى صديقه الطبيب، بل رفع الكلفة من تلقاء نفسه وأسرع بمد يده إلى الطبيب الجراح مسلماً هازاً يده في حرارة وحماس شديد، كأن له به سابق معرفة، أو كأنه صديق قديم لم يره من زمن بعيد
وبمجرد جلوسه أخذ يسترسل في الحديث، منتقداً الطب والأطباء قائلاً أنهم فئة جشعة تجردت من الرحمة قلوبها، فئة أعمتها الأنانية الخبيثة، وبهرتها المادة الزائفة ببريقها الأخاذ، فسرعان ما طمست ضمائرها، ففقدت إنسانيتها التي كانت فيما مضي تعتز بها أيما اعتزاز. . . تصوروا أن بعضهم يأبى فحص المريض قبل المساومة. . . إلى آخر ما في جعبته من مثل هذا اللغو المسترسل حتى احمر وجه صديقه المحامي خجلاً. .
أمثال هذا الصديق، كثيرون في المجتمعات المختلفة، والأوساط المتباينة في الشرق وفي الغرب. تجدهم بين الطبقات الغنية الأرستقراطية، وبين الطبقات المتوسطة الديمقراطية، وبين الطبقات الفقيرة العمالية. تجدهم بين المتعلمين المثقفين، وبين أنصاف المتعلمين، وبين الأميين على السواء. .
وهؤلاء، من أمثال هذا الصديق، يمكن اعتبارهم مرضى، مصابون بما يسميه النفسانيون (الغباء الاجتماعي).
وهم لا يعنون بهذا الغباء ضعف الذاكرة، أو فقدان الذكاء العقلي، أو انطفاء الشعلة الذهبية المتقدة. كلا، فقد يكون الرجل ألمعياً، وعالماً عبقرياً، وحائزاً أرقى الدرجات الجامعية، ومع ذلك قد يكون مصابا بهذا (الغباء الاجتماعي). . وقد يكون الرجل أمياً، لا يعرف القراءة
والكتابة، ولكنه مع ذلك قد يكون حاد الذكاء، حاضر البديهية، متحدثاً لبقاً، يعرف كيف يترك أثراً طيباً في نفس سامعه أو محدثه أو جليسه. . ولكنهم يعنون (بالغباء الاجتماعي) إنعدام الميزة أو الصفة التي تجعل صاحبها محبوباً في المجتمع أو في البيئة التي يعيش فيها. .
فصاحبنا مثلا الذي لم يراع الذوق والكياسة وأدب المقابلة، وأخذ يجرح شعور جليسه الطبيب الكبير - دون معرفته طبعاً - بكلمات أحر من الجمر ووقف صديقه المحامي موقف الحرج بدون مبرر، لا يمكن أن يكسب يوماً أصدقاء، ولا يمكن أن يكون محبوباً في مجتمع من المجتمعات. . . وبالتالي لا يمكن أن ينجح النجاح العلمي المنشود في الحياة، ولا سيما إذا كان ممن يعملون في المحيط التجاري. . . ذلك لإصابته (بالغباء الاجتماعي)، ولانعدام تلك الهبة الإلهية التي تجعل صاحبها أهلاً بالترحيب والحفاوة به في المجتمعات والحفلات.
ويمكنك، على ذلك، أن تقول مؤكداً إن نجاح الفرد في الحياة يتوقف إلى حد كبير على هذه الهبة الربانية، أو هذه الصفة التي تجعل منه رجلاً محبوباً في البيئات والأواسط التي يختلط بها.
ٍوقد عزا بعض العلماء نجاح أكثر كبار رجال الأعمال والاقتصاد في العالم إلى هذه الموهبة العويدة. وإلى هذه الصفة التي تجعل الفرد غير مكروه من الأفراد والجماعات، وتجعل له القدرة الفائقة على اجتذاب القلوب.
بور سعيد
محمد عثمان محمد
على قبور الشعراء
القبر هو النهاية المحتومة بعد الموت لكل نفس عاشت على وجه الأرض، وتختلف نهاية كل إنسان على حسب عقيدته وعمله، فمنهم من جعل نهايته هداية لغيره، ومنهم من حذر من غرور الدنيا، ومنهم من شرح نهايته، ومنهم من طلب المغفرة من الرحيم الرحمن!
وهذه وصايا بعض الشعراء لعل فيها عضة وذكرى، لمن كان له قلب يفقه مصيره المحتوم!
1 -
أوصى أبو العتاهية الشاعر وهو يجود بنفسه أن يكتب على قبره: -
أذن حي تسمعي
…
اسمعي ثم عي وعي
أنا رهن بمضجعي
…
فاحذري مثل مصرعي
2 -
ولما احتضر يحيى بن عدي أوصى أن يكتب على قبره: -
ربَ ميت قد صار بالعلم حيا
…
ومبقى قد مات جهلا وعيا
فاقتنوا العلم كي تنالوا خلوداً
…
لا تعد الحياة في الجهل شيئا
3 -
نظم أبو الصلت الأشبيلي أبياتاً أوصى أن تكتب على قبره: -
سكنتك يا ديار الفناء مصدقا
…
بأني إلى دار البقاء أصير
وأعظم ما في الأمر أني صائر
…
إلى عادل في الحكم ليس يجور
فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها
…
وزادي قليل والذنوب كثير
4 -
وأوصى أبو العلاء المعري أن يكتب على قبره: -
هذا جناه أبي عليَ
…
وما جنيت على أحد
5 -
ونظم ابن الزقاق اللخمي أبياتاً وأوصى أن تكتب على قبره منها: -
أإخواننا والموت قد حال بيننا
…
وللموت حكم نافذ في الخلائق
فمن مر بيَ فليمض بيَ مترحما
…
ولا يك منسيا وفاء الأصادق
6 -
وأوصى محمد بن إبراهيم الأندلسي أن يكتب على قبره: -
لئن نفذ القدر السابق
…
بموتي كما حكم الخالق
فقل للذي سره مصرعي
…
تأهب فإنك بيَ لاحق
7 -
وطاب ابن زهر الأندلسي أن يكتب على قبره: -
تأمل بحقك يا واقفاً
…
ولاحظ مكانا دفعنا إليه
تراب الضريح على وجنتي
…
كأني لم أمشي يوماً عليه
8 -
ونظم ابن مطروح الشاعر ليكتب على قبره: -
أتجزع للموت هذا الجزع
…
ورحمة ربك فيها الطمع
ولو بذنوب الورى جئته
…
فرحمته كل شئ تسع
9 -
وطلب ابن منير الطرابلسي أن يكتب على قبره: -
من زار قبري فليكن موقنا
…
بأن ما ألقاه يلقاه
فيرحم الله امرأ زارني
…
وقال لي يرحمك الله
10 -
وأوصى الزمخشري جار الله صاحب التفسير المشهور باسمه أن يكتب على قبره: -
يا من مد البعوض جناحها
…
في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في نحرها
…
والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب عن فرطاته
…
ما كان منه في الزمان الأول
11 -
ووجد مكتوبا على قبرٍ لم يعرف صاحبه: -
تناجيك أجداث وهن صموت
…
وسكانها تحت التراب خفوت
أيا جامع الدنيا لغير بلاغه
…
لمن تجمع الدنيا وأنتَ تموت
12 -
وقال ابن السماك: مررت على المقابر فإذا على قبر مكتوب: -
يمر أقاربي جنبات قبري
…
كأن أقاربي لم يعرفوني
ذووا الميراث يقتسمون مالي
…
وما يألون أن جحدوا ديوني
وقد أخذوا سهامهم وعاشوا
…
فيا لله أسرع ما نسوني
13 -
ووجد على قبر آخر: -
وقفت على الأحبة حين صفت
…
قبورهم كأفراس الرهان
فلما أن بكيت وفاض دمعي
…
رأت عيناي بينهم مكاني
14 -
وقرأت أن أمير الشعراء أحمد شوقي بك أوصى أن يكتب على قبره من قصيدته الفريدة (نهج البردة)
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل
…
في الله يجعلني في خير معتصم
هذا ما عثرنا عليه لبعض الشعراء رحمهم الله وسبحان الدائم الباقي
شطانوف
محمد منصور خضر
رسالة الشعر
شاعر يودع الحياة
اللحن الأخير. . .
(أخي الأستاذ المعداوي:
(اسمح لي أن أقدم شكري لمصر المثقفة ممثلة في شخصك الكريم على الموقف المشرف الذي وقفته إزاء قضيتي في وزارة المعارف العراقية، واسمح لي أن أهدي إليك شكر الشباب العراقي المثقف على رسالتك الرائعة التي وجهتها إلى وزير معارف العراق، ولكني في الوقت نفسه أود أن اسمع أدباء العربية بأن صرختك وصرختي لم تنفذا إلى مسامع وزارة المعارف العراقية لأنها تجد في غمط حقوق الشعراء واجباً لا بد منه، وعلى كلٍ فإنك باسم مصر زعيمة البلاد العربية قد أديت ما عليك، لذا كان من واجبي أن أرفع هذا اللحن الباكي لك ولكل أديب مصري. . وهو كما أظن آخر ألحان الحياة. . .)
الناصري
جف نبعي وشف روحي الغليل
…
وتمشي على حطامي الذبول
وغدا قلبي الندى يباباً
…
ما به واحة ولا سلسبيل
وخيالي الطليق قيده اله
…
م فإن طار جاذبته الكبول
وارتضت نفسي الجريحة بالوهم
…
وللوهم يركن المخذول
فزع صارخ يلف حياتي
…
فحياتي تلفت وذهول
وفراغ كوحشة القبر
…
أزيحه، فلا فرحة ولا ترتيل
وحدة مرة وغربة روح
…
راضها للعذاب صبر جميل
فالحنين الحنين للشاطئ المجهول
…
ريي وزادي المستحيل
كلما أشرفت على الغيب روحي
…
ودها مأمل لوح سؤول
فالضباب الكثيف، والظلمة الدك
…
ناء، والوحش والطريق الطويل
والعذاب الممل والعدم الشام
…
ل، والخوف والرجاء القتيل
وعواء الذئاب والظمأ القاتل،
…
والشوك. والهجير الأكول
وأنا راكض، ألملم آمالي
…
فتذري شتاتهن القبول
واللهاث المحموم يأكل من ص
…
دري حطاماً فد مزقته النصول
وجراحي المفتحات الدوامي
…
تتنزى وكالغمام تسيل
كلها هوة يبرقعها الموت،
…
وشك ضبابه لا يزول!
يا (هنائي) أنا الغريب بأرض
…
لص - خيراتها - القوي الدخيل
كيف أشقى وهذه الدار داري
…
كيف. قولي. . أما لليلي رحيل؟!
كيف عم الظلام، وانطمس أل
…
نور، ورانت على العقول السدول!؟
كيف! لا تعجبي إذا ساد قومي
…
مستبداً بهم، عني جهول!
يا (هنائي) ضيعت في التيه عمري
…
مثلما، ضاع في الرحاب الأصيل
مثلما ضاع بلبل أسلمته
…
ليد الشؤم (بومة) و (طلول)
فطوى جنحه على الجرح يشدو
…
لا (سياط) تخيفه أو (نصول)
يا ضلالي مع الأعاصير في اللي
…
ل، أأهدى، ومن ضلالي الدليل!؟
كيف بيَ، والعمى يقود شروداً
…
ضل عن دربه فضاع السبيل
شاعر بالأسى تقضت لياليه
…
وأيامه، ضنى وعويل
كل يوم، يمر يدفن مني
…
أملاً بالدموع مني غسيل
أتراني وقد نغضت (الثلاثين)
…
سعيداً. .، ثكلت. ماذا أقول
يا هذا الشقاء، قد نضب الزي
…
ت، وما زال في السراج الفتيل!!
رعشة الموت لم تزل في دمائي
…
نغمة ما لسرها تعليل
أنا من وحيها أعيش بكون
…
مرعب فوقه الردى مسدول
ما حياتي إلا انتظار رهيب
…
لجفاها ترى جفاها يطول؟
فعلى راحتي من جثث الموتى اص
…
فرار وفوق وجهي نحول
وعلى مبسمي احمرار من السم
…
وفي عيني السهاد الطويل
ويردني من فاجرات الليالي
…
بقع، ما للونهن نصول
دمغ الشؤم جبهتي فعلى صد
…
غي من نحسي العقيم دليل
دب في السقام وانتشر السل
…
بجسمي، وشاق نجمي الأفول
فأنا في يد المباضع جرح
…
حائر عن أساته لا يميل
وأنا في فم العفاء حذاء
…
يتلهى به الردى المخبول
كان لي مطمح بأمس وقد
…
مات فماتت رغائب وميول
وغدي مثل أمس مر كئيباً
…
لا رجاء فيه ولا تأميل
يا لمستقبلي الرهيب أيبقى
…
ناعباً في ركابه عزريل؟!
أين منى (عناية) القدر الساحر
…
بل أين (طيفها) المجهول؟!
أو لم أذبح الرقاد للقيا
…
ها، وقلبي بحبها متبول؟
عاصرا مقلتي في قدح السه
…
د، سلافا والليل وحف ظليل
أتراها كالآل تلمحه العين
…
ولكن ما إن إليه وصول؟
تعست حقبة حرمت بها الصف
…
و، ولحظ (الهناء) عني كليل
أن عمراً بالدمع والشجن الم
…
وار، يقضي لذاك عمر فضول
كيف أرجو من السقام نجاة
…
أو يرجو شفاءه المسلول؟!
إيه أشباح جنة الخلد هيا
…
فلقد ضاق بالحياة العليل
أقبلي كالطيوف من عالم الن
…
ور، ورفي كالزهر وهو بليل
بالتهاليل طوفي حول نعشي
…
وتغني فذاك عرس جميل
واسرجي لي الشموع واحدي بركبي
…
فالسرى متعب، ودربي طويل!!
(بغداد)
عبد القادر رشيد الناصري
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مع الفن الشهيد في العراق:
لا تعتب على أخيك أن تأخر في تقديم خالص شكره وشكر الشباب العراقي المثقف إليك على ذلك الموقف النبيل المشرف الذي وقفته من محنته على صفحات الرسالة، فلست ذلك الإنسان الذي سرعان ما ينسى الجميل ويتنكر لمعاني الوفاء؛ ولكن ثق أنني كنت في المستشفى أقاسي وخز الإبر وعذاب الداء. . . ولقد جاءت الرسالة وقرأ الناس تعقيبك الأول وكلمتك الثانية، فأعجبوا بهما شأن كل ما كتب، ثم نقلت الصحف العراقية كلمتك الموجهة إلى وزير المعارف معلقة وثمينة. . . وكان الثناء عاطراً عليك وعلى مصر، حتى لقد دفع بعض أصحاب النفوس المريضة إلى أن يفرغوا ما رسب في نفوسهم من أحقاد!
أما عن موقف وزارة المعارف العراقية فقد بقيت كعهدها الأول، صماء بكماء، ويظهر أنها تريد محاربة الأدباء لأنها تخشى انتشار الثقافة في العراق! ماذا أقول لك؟ لقد قلت كل شئ في هذه القصيدة التي تقص عليك أحزان النفس وأشجان الحياة. ألا توافقني بعد هذا كله على أنها يجب أن تكون (اللحن الأخير)؟ صدقني إنها تسمية صادقة، لأن الزورق المجهد يوشك أن يرسو على شواطئ الفناء!!
(بغداد - العراق)
عبد القادر رشيد الناصري
الشيء الذي كنت أنتظره وينتظره معي الناس، هو أن يتفضل معالي الأستاذ خليل كنه فيثبت لنا أنه إنسان. . . كنا ننتظر منه هذا المعنى الكبير، ولكنه أبى إلا أن يثبت لنا أنه وزير! ومن دلائل هذا الإثبات أن معالي الأستاذ قد أغمض عينيه فلم ينظر، وأعلق أذنيه فلم يسمع، وأطبق شفتيه فلم ينطق بكلمة واحدة تنقد الفن الشهيد وتنصف الحق المهضوم!!
إن القلم يتعثر في يدي وأنا أسجل هذه الحقيقة. هذه الحقيقة المرة التي تهمس في أذن التاريخ قائلة له: إن وزير المعارف قد آثر أن يكون من أصحاب المعالي على أن يكون من أصحاب الإنسانية، وفضل جاه المنصب وهو تقليد على فعل الخير وهو تخليد، وزهد كل
الزهد في أن تخصه الأقلام بشيء مما تخص به الناس من الذكر الجميل!
ألا يوافقني معالي الأستاذ خليل كنه على أن لأصحاب المواهب حقوقا في الدولة يجب أن تذكر فلا تهدر، وأن تصان فلا تهان، وأن يضرب بها المثل على سلامة الوعي ونزاهة القصد وعدالة التقدير؟ لا أشك لحظة في أنه سيوافقني في قلبه وسيؤيدني بلسانه. . والدليل؟ الدليل هو أن العراق قد ضرب يوماً هذا المثل، حين مد يده إلى مقعد من مقاعد الصحافة لينقل منه رجلا إلى مقاعد الوزراء. . هذا الرجل هو معالي الأستاذ خليل كنه!! ما باله إذن وقد ظفر بكل ما له على الدولة من حقوق، ينسى أن هناك أناساً لهم بعض الحق وهو في يديه، ثم لا يمنحهم شيئاً من هذا الحق وهو قادر عليه؟! سؤال حائر، وسيظل حائراً ما شاء له وزير المعارف أن يحار. . . أما الجواب، فسيوافقني عليه معالي الأستاذ خليل كنه بقلبه إن لم يؤيدني بلسانه. . . وآه من حيرة الجواب بين القلب واللسان!!
ويقول لي الأستاذ الناصري إن صحف العراق قد نقلت كلمتي عن (الرسالة) معلقة وثمينة. . أنا شاكر للصحافة العراقية عطفها على الشاعر وثناءها على الكاتب، وأدعو الله من قلبي ألا ينقل أحد رجالها بعد الآن من مقعد التحرير إلى مقعد الوزير، حتى تظل جذوة الإنسانية متوهجة منه في شعاب القلب متوقدة على شباة القلم، يصطلي دفء هواها كل من أضناه برد الأسى وتجهم الأيام!!
أما أنت يا عبد القادر فدعك من هذا اليأس الذي لا يطيقه الشباب ولا تحتمله الحياة. . إن الشباب ومضة شعاعه بالعزم وضاءة بالتضحية، وإن الحياة زهرة ندية بالصبر فواحة بالأمل، فلماذا تريد للومضة الساطعة أن تخمد، وللزهرة اليانعة أن تذبل، وللأمل الخالد أن يذهب أدراج الرياح؟ إن الحياة يا صديقي ليست هي اليوم المشهود ولكنها الغد المرتقب. . . الغد الذي قد يزف الربيع إلى جفاف الغصون، ويطلق الأحرار من زوايا السجون، ويحمل خمرة السلوان إلى ندامى الشجن!
وتسألني إن كنت أوافقك على تسمية هذه القصيدة التي بين يدي باللحن الأخير؟ إنني أوافقك على أنها يجب أن تكون كذلك. . . أن تكون آخر لحن يضج بالشكوى ويشرق بالدموع! ولهذا سأصفح عن هذه القصيدة الباكية التي لا تتفق مع أحلام الشباب وأمانيه،
على أن تكون قصائدك المقبلة كلها باسمة كالأمل مشرقة كالفجر، حافلة بخفقات القلب المتفتح لنداء الحياة!
إن الابتسامة الصادقة هي السلاح القاطع في كل معركة وكل صراع، وإن ما ينقصنا نحن الشرقيين هو أن نتعلم كيف نبتسم. . . نبتسم للخصم كما نبتسم للصديق، نبتسم للمرض كما نبتسم للعافية، نبتسم للنصر كما نبتسم للهزيمة. وعلى مدار قدرتنا على تلوين الابتسامة هنا وتلوينها هناك، نستطيع أن نلمح الغاية ونرسم الطريق ونحدد المصير!
ولا تحسب بعد هذا كله أنك تقف وحيداً بلا نصراء. . . إن بين يدي كثيراً من الرسائل من مختلف أقطار العروبة، يؤازرك أصحابها بكل ما يملكون من عواطف الأخوة ومشاعر الوفاء؛ وأتصفح أنا هذه الرسائل لأتخير منها واحدة عرف صاحبها كيف يخاطب القلوب المغلقة في العراق!
رجع الصدى من السودان:
قرأت تلك الصرخة التي أرسلها الشاعر العراقي المطبوع الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري على صفحات (الرسالة) وقرأت ما كتبته أنت بقلمك السيال إلى وزير معارف العراق، راجياً منه أن يتدارك صرخة الفن الشهيد بعطفه ورعايته. . فإلى وزير المعارف العراقي أرفع هذه القصة:
جاء بمجلة كردفان التي تصدر بعاصمتها (الأبيض) الخبر الآتي تحت عنوان: (عطف ملكي). . . (وصل إلى علم جلالة الملك فاروق إبان وجوده بفرنسا، أن الطالب السوداني أحمد مدثر وقد ذهب إلى فرنسا لتلقي العلم، قد أرغمته سوء حالته المالية على أن يعمل (حمالا) في وقت فراغه، ومع ذلك فقد نال دبلوم العلوم السياسية. . . ولولا سوء حالته المالية لسافر إلى سويسرا للحصول على الدكتوراه! وقد تعطف صاحب الجلالة الملك فاروق بعد علمه فمنحه خمسين ألف فرنك، مع إيفاده إلى سويسرا على نفقته الخاصة)
قرأت هذا على ما أسلفت، وأحببت أن أقارن بين الطالبين. . ولكن القلم القاصر والبيان العاجز، لا يتيحان لي أن أصب مشاعر النفس فيما يلاثمها من كلمات. . . وما دمت قد وهبت قلمك للدفاع عن قضايا الأدب وحقوق الأدباء، فليس لي إلا أن أهدي هذه القصة الخالدة إلى وزير المعارف العراقي ليسمع، وإلى كاتب التعقيبات المصري ليعقب
(أم روابه - سودان)
محمد الحسن شاع الدين
هذه المأثرة النادرة التي يقص علينا نبأها الأديب السوداني الفاضل، أشارت إليها الصحف المصرية وكانت حديث الناس في كل مكان، وأشادت بها الصحف الفرنسية وكانت محل التقدير البالغ على كل لسان. . وليست هي بالمأثرة الأولى لجلالة الملك فاروق، فما أكثر المآثر والمفاخر التي تمتلئ بها حياة هذا الإنسان العظيم! وقد يقول بعض الذين لا يدركون حقيقة القلب الإنساني كما فطره الله، إن الملك فاروق قد مد يد العون إلى هذا الطالب لأنه واحد من رعاياه. . إن القلوب الكبيرة في شعورها المرهف لا تفرق بين جنس وجنس، ولا بين لغة ولغة، ولا بين دين ودين، ذلك لأنها طبعت على حب الخير، وفطرت على صنع المعروف، وجبلت على إسدال الجميل! وأستطيع أن أقسم لمن يقفز إلي إخلادهم مثل هذا الخاطر العجيب، أن عبد القادر الناصري (العراقي) لو قدر له أن يكون في باريس إبان وجود صاحب الجلالة (المصرية)، لما بكى شبابه الدامي على صفحات الرسالة!!
إنني أشكر لحضرات المتفضلين برسائلهم كريم عواطفهم، وأقتصر على هذه الرسالة لأنها خير لفة يمكن أن تقدم لوزير المعارف العراقي في مثل هذا المجال. . وأكتفي بهذا التعقيب لأنني قلت اليوم وبالأمس كل ما يمكن أن يقال!
كلمات في نقد الشعر:
يشجعني على مواصلة الكتابة إليكم ومعاودة الكلام في شعر العطار وأباظة، أني وجدتكم تلتمسون في الشعر الذي تحبونه وتؤثرونه، تلك الإلتماعات الخواطف للبصر، الخوالب للفكر، التي تلقيها عليه مخيلة أعطيت القدرة على التحليق المتمادي والانطلاق الحر، في عوالم انقطعت دونها أخيلة الكثرة من الأدعياء، عوالم زخرت بطرائف الرؤى وخوارق الصور.
بل يشوقني إلى هذا الكلام أني أجدكم تتحرون في هذا الشعر، بل في الأثر الأدبي دون تحديد، حلاوة ذلك الشعور الناعم بدفء الحياة، الدفء الذي تطلقه فيه روح متصلة السر بسر الحياة الأكبر. فهي تستمد عناصر قوتها وعناصر وجودها من تلك الصلة الخالدة التي
تشرف بها على أقصى أعماق الطبيعة الإنسانية، وتفضي بها إلى أخفى الحقائق في محيط هذا الكون الحافل الزاخر اللامحدود. وأنكم كذلك ترهفون السمع في العمل الفني إلى صدى ذلك الرنين، بل إلى الرنين نفسه، الذي أودعته فيه ملكة فذة من تلك الملكات التي ترصد لكل معنى يخطر ولكل كلمة ترسل نغما خالداً لا يجوز عليه الفناء، لأنه مما توقع عليه تجارب الحياة في مجال الشعور الصادق، ومما توحي نتائج تلك التجارب في نطاق الذهن المتفوق!
كل ذلك يحملني على الكلام ويغريني به، لأنه يجعلني أشعر بالطمأنينة إلى أنكم تنظرون إلى الحقائق الفنية الثابتة، من نفس الزاوية التي أحاول أن أنظر منها إليها، وأنكم تضعون للأعمال الأدبية الميزان الذي لست أو من بغيره! أجل، وهاأنذا الآن أقرأ لكم هذا التعقيب البارع على كلمتي السابقة، أو هذا المقال الفصل، على إجازة، في شاعرية العطار، مرتكزاً فيه الحكم على إنتاجه العام، فأجدني راضياً كل الرضا عما أقرأ، مقتنعاً كل الاقتناع بأن ما رأيتموه في شعر الشاعر يتفق في جملته وهذا الذي أراه.
هو في جملته شعر يعوزه عنصر الحياة الذي يذكي خواطر القارئ، ويلهب وجدانه، ويهز أوتار قلبه وكيانه. . وإن كان لا يخلو من اللفتات الشعرية المحلقة في بعض الأحيان! وهو شعر تنقصه أصالة الرؤية الشعرية، وطبيعة الحركة النفسية، برغم أن قائله من أحلى الشعراء جرساً كما تقولون. . أو هو بعبارتي الخاصة، شعر يفتقر إلى ذلك الإشراق الذي يشف عن الآفاق الفنية المترامية التي يتداعى إليها الخيال المبدع؛ وذلك الدفء الحبيب الذي يمسك على الأثر الشعري حياته وأنفاسه ويصون نظره ورواءه، وهو يفتقر أخيراً إلى تلك الموسيقى النفسية التي تحدثتم عنها في نقد الشعر
على أني أخشى يا سيدي الأستاذ ألا نكون قد اتفقنا بعد على وضع الشاعرين، أباظة والعطار، في طبقة واحدة. فشعر أباظة على الأكثر شعر موفور: تحوطه هالة من الألوان التي تهيئ للذهن ذلك الجو الخالص حيث تسبح المعاني وترقص الأخيلة؛ وتترقرق في أعماقه موجة الحياة حارة صادقة، الحياة التي تدنو به من نفسك، بل تلصقه إلى نفسك، ويغطي كل ذلك على مشاعرك ويمتد سحره إلى قلبك، حيث جذور الحياة الإنسانية، ليهزها من أصولها هزاً، ويغمرها غمراً! وأباظة فنان يقدم في إطار من أجمل الشعر وأطرفه
مشاهد فنية هي في الأغلب الأعم ملء النظر وملء الحس وملء الفكر، لأنه إذ يقول هذا الشعر إنما يستجيب لحركة نفسه، ويترحم عن خوالج وجدانه، ويغمس ريشته بنور قلبه.
وأخيرا أنا أعاود الكلام يا سيدي لأوكد لكم مخلصا أنه لا هوى يقود رأي حامل هذا القلم إلا هوى الفن الذي يتوخى في آثار الفنانين لمحات الأصالة الذهنية، ودلالات الصدق الشعوري وبعد. . فأختم هذه الكلمة محييا فبكم شخص الأديب والناقد، شاطرا للظروف هذه الفرصة الكريمة التي أتاحت لي لقاءكم في هذا الجو الحبيب الذي تتراوح فيه أنسام الشعر الجميل وأنغام الوداد الخالص وإلى لقاء قريب إن شاء الله، في محراب قصتكم الخالدة (من الأعماق). . . والسلام عليكم من المخلص
(دمشق - سورية)
محمد الأرناؤوط
أتعرف ملكة (المزاج الفني)؟. . إذا استطعت أن تتخيل القصيدة الشعرية بأدائها النفسي جسما من الأجسام، وإذا استطعت أن تفترض كل ملكة من الملكات الشعرية عضوا عاملا في حركة هذا الجسم، وإذا استطعت أن تتمثل الحيز الذي يشغله هذا الجسم من الوجدان المتذوق مكونا من تلك المجموعة من الأعضاء؛ إذا استطعت أن تتخيل وأن تفترض وأن تتمثل هذا كله، فإن ملكة (المزاج الفني) هي الثوب الذي يلتف حول هذا الجسم بمجموعة أعضائه ليبرز تقاطعيه للعيون ويكشف عن مفاتنه! إنه أشبه بالثوب الذي ترتديه أي حسناء. قد يكون جسمها نموذجا خاصا لجمال كل عضو من أعضاءه على حدة، وقد يكون جسمها نموذجا عاما لتناسق تلك الأعضاء مجتمعة، ولكن الثوب هو الحكم الأخير الفاصل بين أجساد الحسان، لأنه هو وحده الذي يطلعنا على مدى التفاوت الجمالي بين جسد وجسد! هناك ثوب يوحي إليك أن صانعه غير (فنان)، لأنه لم يراع النسب الفنية بينه وبين جسم صاحبته: من ناحية الطول والقصر، ومن ناحية الضيق والسعة، ومن ناحية الكماليات التي تلتمس مظاهر الزينة وتوائم بين لون الثوب ولون البشرة، مثل هذا الثوب لا شك أنه يظلم الجسد الجميل لأنه يقدمه للعيون على غير حقيقته؛ على تلك الحقيقة الأخرى التي اقتضاها ذوق صانع غير فنان. ماذا ينقص هذا الصانع من (ملكات الفن) ليصنع (ملكات الجمال)؟
تنقصه ملكة (المزاج الفني)، ملكة تفصيل (الأثواب الكاشفة) عن مفاتن الأجساد!
المزاج الفني إذن هو المسئول، بل هو واضع الحدود والفروق بين طابع كاتب وكاتب وبين طابع شاعر وشاعر. . خذ مثلا طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم - ككتاب في مجال القصة وحدها لا في مجال آخر - فستجد أن طه في (شجرة البؤس) و (دعاء الكروان) يمثل الطابع الأدبي فهو قصاص أديب، وستجد أن العقاد في (سارة) يمثل الطابع الفكري فهو قصاصا مفكر. وستجد أن توفيق في عدد من قصصه يمثل الطابع الفني فهو قصاص فنان. . . وخذ العقاد مرة أخرى وعزيز أباظة وعلي طه - كشعراء - فستجد أن الأول يمثل المزاج الفكري فهو شاعر مفكر، وأن الثاني يمثل المزاج الأدبي فهو شاعر أديب، وأن الثالث يمثل المزاج الفني فهو شاعر فنان. . . هذا التقسيم واضح كل الوضوح في الأدب المصري الحديث كما هو واضح كل الوضوح في الأدب الفرنسي الحديث: أندريه جيد وفرانسوا مورياك كلاهما نموذج لهذا القصاص الأديب، وجان بول سارتر وبول كلودل كلاهما نموذج لهذا القصاص المفكر، وجان كوكتو وجان إنوي كلاهما نموذج أهذا القصاص الفنان!
إن الشعر دفقه وانتفاضة. . دفقه يتلقاها الشعراء جميعا، ولكن فيهم من يتلقاها بانتفاضة الذهن وحده، وفيهم من يتلقاها بانتفاضة الحس وحده، وفيهم من يتلقاها بانتفاضة الذهن والحس والشعور في وقت واحد. ونفرق نحن بين هذه الألوان من الانتفاضات في محاولة فنية تهدف من ورائها إلى استشفاف (الحقيقة الشعرية) من خلال أثوابها الكاشفة، وننتهي إلى أن حقيقة الشاعر الأول صاحب الانتفاضة الأولى هي (وجهة نظر) فكرية، وهذا هو العقاد. وإلى أن حقيقة الشاعر الثاني صاحب الانتفاضة الثانية هي (وجهة نظر) أدبية، وهذا هو عزيز أباظة. وإلى أن حقيقية الشاعر الثالث صاحب الانتفاضة الثالثة هي (وجهة نظر) فنية، وهذا هو علي طه. . . وهكذا تجد مزاج الشاعر المفكر، ومزاج الشاعر الأديب، ومزاج الشاعر الفنان!!
هذا هو رأي الأخير الذي أقدمه للأديب السوري الفاضل تعقيبا على كلمته عن الشاعر عزيز أباظة، ولا أريد أن أفرض هذا الرأي عليه ولا على غيره من الأدباء. . إن للأستاذ الأرناؤوط مطلق الحرية في أن يحتفظ بآرائه الخاصة حول قيم الشعر، كما يهديه إليها
ذوقه الخاص وموازينه الذاتية، وله مني خالص الود وصادق التقدير.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ردوا على الأزهر كرامته:
كادت كلية اللغة العربية في هذه الأيام الأخيرة أن تتسم بطابع وزارة المعارف ومن علامات هذه الظاهرة عقد مسابقات لقبول الطلبة الراغبين في الانتساب إليها تحت إشراف الوزارة، وتعديل منهاج التعليم على النحو الذي أقرته في كلية دار العلوم.
ورسالة الأزهر (كما نعلم جميعا) هي المحافظة على كيان العلوم الإسلامية، والعمل على نشرها في جميع بقاع العالم على لسان أبنائه الأزهريين، أو بأقلامهم السيالة المؤمنة. ولا يخفى ما للغة العربية من أثر في تأدية هذه الرسالة على وجهها. إذ هي الأداة الوحيدة في فهم لغة السماء المقدسة، وفي هدى النفوس الحائرة في ضباب الأوهام والجهالة، وتصحيح معتقداتها الإلهية؛ وفقد الأزهر لكلية اللغة العربية ليس إلا فقد دعامة متينة من بنيانه مما يخل بتأدية هذه الرسالة المقدسة، واندراجها له تحت إشراف وزارة المعارف في الوقت الذي ينادي فيه بعض ذوي الرأي من رجالات التعليم بوجوب انفصال الجامعة المصرية عن الوزارة، واعتبارها هيئة قائمة بذاتها، إذ أن في وضعها الحالي غضا كبيراً من كرامتها كدار يدرس فيها لأرقى أنواع الطبقات المثقفة في مصر.
وإذا كان الطلاب الأزهريون يرضون عن هذه الأوضاع الراهنة بغض الطرف عما يترتب عليها من نتائج غير مرضية لأنهم إنما ينظرون بعين المادة، فما الداعي لرضاء أولي الأمر فيه.!! والقائمين عليه. .!! الأمر الذي يوشك أن يحرم الأزهر من حرمته وقدسيته؟
أنا لا أفهم الأزهري النابه ينسلخ هكذا من أزهريته، ويتمرد على أزهره، وإنما أفهمه يترنم بمجده وشرفه، وينادي بتدعيم بناء مكانته العلمية والأدبية، ويطالب في إباء وشمم أولياء الأمر من أساتذته الأزهريين بتعديل أساليب الدراسة، ومنهاج التدريس كما يتفق وروح العصر، ومسايرة العالم في تطوراته وأحداثه، ويجأر أكثر مما يجأر بتدريس اللغات الأجنبية دراسة وافية عميقة.!! ومتى اكتملت للأزهر الشريف هذه المقومات استطاع بجدارة أن يشغل مكانة ممتازة بين الهيئات العلمية المختلفة. وأن يؤدي رسالته المقدسة بكل لسان في كل مكان. .!!
إن عقد مسابقات للقبول بكلية اللغة العربية معناه حرمان كثير من ذوي الميول الطبيعية، والاستعدادات الفطرية، من تمكينهم من تغذية ملكاتهم وتنمية مواهبهم. .!! وعقده تحت إشراف رجال الوزارة معناه طعن رجال التعليم الوزاريين الصريح في كفاية الأزهري ومقدرته العلمية، ودراسات أزهره، واعتراف رجال الأزهر بذلك، معناه فقد الأزهر جزءاً حياً من أجزائه. وهدم ركن شديد من بنيانه. .!!
إن الأزهر ليستصرخ باسم الدين الغيورين من رجاله أن يردوا عليه كرامته؛ وأن ينقذوه من هذا الجمود البغيض، ويسايروا به مواكب الحياة العلمية المتوثبة، وتقدم العصر المطرد ويومئذ يستطيع الأزهر أن يحمل بجدارة مشاعل العلم والنور والحرية. .!!
كلية اللغة العربية
نيازي علي مرزوق
وردت هذه الكلمة بعنوانها المثبت على رأسها، وهي كلمة حق، والموضوع الذي تعرض له موضوع خطير، لأنه يتعلق بكيان الأزهر الذي يجب أن يبقى مستقلا بمقوماته وخصائصه، ذلك الكيان الذي نراه مهدداً بالتيارات التي تحدث عنها الأديب الفطن نيازي علي مرزوق.
والواقع الصريح أن أصل الموضوع هو عدم ثقة وزارة المعارف بحسن إعداد الطلبة في كلية اللغة العربية، لأنها ترى أسس التعليم في الأزهر غير متمشية مع طرائقها التربوية، وهي في الوقت نفسه تحتاج إلى خريجين لتدريس اللغة العربية والدين الإسلامي بالمدارس وهؤلاء الخريجون أنفسهم يطالبون بذلك. فالوزارات تريد أن تطمئن إليهم في تأدية هذا العمل على الوجه المرضي، فهي تعمل على المشاركة في إعدادهم وامتحانهم.
فهل ذلك الاتجاه من صالح الأزهر باعتباره جامعة لها كيانها وكرامتها ومقوماتها الأصيلة؟ لا شك أن خريجي الأزهر وطلبته الذين يريدون الخروج عن النطاق الأزهري وغزو البيئات الأخرى، هم الذين يدفعون بالأزهر إلى ذلك الوضع. ولأنفسهم يمنون الخير، وهم يريدون بلوغ غايتهم، والأزهر يقف بهم عند حدوده، فهم ينتقلون بالأزهر إلى ما يريدون، ورؤساء الأزهر يسيرون مع تيارهم، لأنه تيار جارف لا يستطيعون الوقوف في سبيله
والواقع الصريح كذلك أن كثيراً من طلبة الأزهر نشئوا فيه بغير إرادتهم، وكثير منهم يضيقون به عندما تلوح لهم مظاهر الحياة المصرية التي يعزلهم عنها الأزهر، فيتلمسون أي سبيل للخروج منه، كما يتلمسون أي صفة أخرى تغطي على أزهريتهم، وذلك بعض المتخرجين الذين لحقوا بمعهد الأوا فيه أاأأأاا ' تنببتراتنلافثلرعتلاافبعتلرلابىأ
تربية وتخرجوا فيه، تراهم يحرصون على أن يكتبوا تحت أسمائهم الصفة الجديدة فقط. ولا بأس بالاستطراد إلى أمر آخر يجرنا إليه هؤلاء الضائقون أزهريتهم، وهو ما يقول به بعض المصلحين من الأزهريين وغيرهم، من قصر التعليم على الكلمات واستمدادها الطلبة من التعليم العام، فإني أرى أن الطالب الذي يتجه إلى الأزهر، أعني الكليات، يتجه إليه برغبة، ويختاره عن عقيدة؛ فيكون الأزهري المقتنع بأزهريته، بل المعتز بها.
ونعود بعد هذا الاستطراد القصير إلى موضوعنا الأصلي، فنحرر المسألة على الوضع التالي: لا بد لخريجي الأزهر أن يلوا ما يناسبه من وظائف الدولة، وخاصة إن هذه الوظائف تحتاج إليهم، ولكن ليس معنى ذلك أن يفقد الأزهر شخصيته، ويمحو بيديه صبغته، وأعتقد أن ما حدث كان لا بد منه، فلم يكن هناك من سبيل غيره لإقناع وزارة المعارف، ولكن أعتقد كذلك أنها كانت مرحلة انتقال، يجب الآن إنهاؤها. والدور الآن على رؤساء الأزهر، فواجبهم أن يردوا عليه كرامته، على حد تعبير السيد نيازي، فيعملوا على إصلاحه وتقويمه بحيث يقتنع الجميع بأنه قوي بذاته وأن أهله أهل لما يناسبهم من الأعمال دون مشاركة أحد في إعدادهم.
وحين يبلغ الأزهر ذلك المبلغ الذي نرجوه له، لا نرى خريجي الأزهر يطالبون - مثلا - باللحاق بمعهد التربية لأن تخصص التدريس في الأزهر ليس أقل شأناً من معهد التربية، ولا نرى - مثلا أيضا - كلية اللغة العربية تطالب كلية دار العلوم بأن ترد عليها الهاربين منها، بتوحيد امتحان القبول في الكليتين واقتسام الناجحين، لأن كلية اللغة العربية لن تكون أقل إغراء من دار العلوم.
تأبين عجيب:
احتفلت نقابة الصحفيين يوم الخميس الماضي، بتأبين الكتاب الصحفي المرحوم الأستاذ عبد الحميد حمدي. وقد أبنه جماعة من الزملاء الصحفيين هم الأستاذ حافظ محمود ومحمد
مصطفى حمام وحسين صبحي وعبد الرحمن العيسوي وعبد العزيز السكري والسيدة منيرة ثابت. أما الأستاذ حافظ محمود فكانت كلمته مناسبة ووفت بحق الفقيد من حيث جهوده الصحفية ومودته لزملائه، وإن كان قد أساء إلى الخليل وسيبويه وغيرهما من علماء النحو واللغة، بالإضافة إلى الأخطاء. وأما الأستاذ حمام فقد جرى على عادته في كتابة أبيات الرثاء على علبة السجائر قبل إلقائها بدقائق معدودات. ومن الأبيات التي ألقاها في الفقيد:
مضى لم تدلله الحياة فلا تقل
…
(لكل مجد في الحياة نصيبه)
ولعله لهذا لم يجد في إعداد قصيدة للرثاء.
وكان حمام موفقاً صادقاً في قوله:
وأمتعها من مستطاب بيانه
…
وما أمتعه بالذي يستطيبه
فهذا ينطبق على المساكين أصحاب الأقلام في هذا البلد، يشبعون الناس أدبا وبيانا ولا يجدون لقاء ذلك مكافأة وتقديرا، وقد يتركون من بعدهم من يدعي إلى الاكتتاب لهم، كما حدث في هذا الاحتفال، إذ أعلنت ذلك السيدة منيرة ثابت عطفا على ابنة الفقيد!!
وجاء أكثر العجب بعد ذلك، فقد اتهم الأستاذ العيسوي الفقيد بأنه كان داعية للإنجليز! وقال أنه أفضى إليه مرة بألمه من ذلك. . وقد كان الأستاذ عبد الحميد حمدي رئيس الترجمة بالسفارة البريطانية.
وقد أصلح الأستاذ حسن صبحي ما قاله العيسوي، إذ وجه علاقة عبد الحميد حمدي بالإنجليز، بأن خدماته للسفارة كانت في وقت تتعاون فيه مصر مع بريطانيا وكان الجو بينهما مشبعا بروح الصداقة.
وأما الأستاذ السكري فقد هنأ الفقيد بوفاته. . وحمل عل الحياة وتمنى للأحياء أطيب التمنيات بمفارقتها!
وأما السيدة منيرة ثابت فقد أشادت بجهود الفقيد في مناصرة النهضة النسوية والدفاع عن حقوق المرأة، ونوهت بأن ذلك كان أيام الصبا والجمال! وهذا تواضع منها، فهي لا تزال!!
وحضر الحفلة طائفة من السيدات ومتزعمات الحركة النسوية، وقد لوحظ أنهن انصرفن قبل قراءة القرآن الكريم في الختام، فما قال القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى نهضن منصرفات. . وأنا استحلفهن بحق الانتخاب، هل كن يقمن لو اختتمت الحفلة
بشكوكو.؟
من أدب المجلس:
في مكتبة الكيلاني ينتدي - يوم السبت من كل أسبوع - جماعة أكثرهم من المشتغلين بالشؤون السياسية، وهم مع ذلك لا يتحدثون في السياسة. . . كأنهم جاءوا إلى هذه الندوة ليريحوا عقولهم من ذلك العناء، فلا تسمع إلا طرفة من هذا وملحة من ذاك، تتبين في تفكيرهم خواطر الأدباء، وفي حديثهم طلاوة الأدب، وإن لم تدركهم الحرفة. . . يتوسطهم المحدث اللبق الأستاذ كامل كيلاني، يدير عليهم كؤوس السلاف من حديثه الممتع، إلى جانب أكواب القرفة والتمر الهندي. . .
وفي الجلسة الماضية حلا للقوم موضوع الجرس المرافق للمعنى في أدب العرب، واشترك في الحديث الأساتذة مفتي الجزايرلي باشا وجمال الدين أباظة بك وأحمد حلمي باشا والحاج أمين الحسيني وحقي العظم بك وسامي العظم بك ومحمود حسيب بك والأستاذ الكيلاني. روى راويهم قول ابن الرومي:
من بنات الروم لا يكذبنا
…
لونها المشرق عن منصبها
فهي حسب العين من نزهتها
…
وهي حسب الأذن من مطربها
وإذا قامت إلى ملعبها
…
كمهاة الرمل في ربربها
سألت أردافها أعطافها
…
هل رأت أوطأ من مركبها
- إن الألفاظ تتماوج وتختال كأنها تكون صورة متحركة لتلك (البنت) الرومية.
- استمع إلى الموسيقى الغاضبة في قول ابن الرومي أيضاً:
ويح القوافي ما لها سفسفت
…
حظي كأني كنت سفسفتها
ألم تكن ميلا فقومتها
…
ألم تكن عوجا فثقفتها
إلى أن يقول:
حرمت في سني وفي ميمتي
…
قراي من الدنيا تضيفتها
لهفي على الدنيا وهل لهفة
…
تنصف منها إن تلهفتها
- كذلك في قول الله تعالى: (أم منْ هذا الذي هو جندُ لكمْ ينصركم من دونِ الرحمن) أين من هذه المقاطع القوية أن يقال: من ينصركم من دون الرحمن؟
- مما يتصل بحسن النسق بين الأجزاء قول الشاعر:
مرت بنا في قرطق أخضر
…
يعشق منها بعضها بعضا
ولم أر أبدع في التناسق من أن يعشق كل عضو عضوا
روى جمال الدين أباظة بك عن الدكتور طه حسين بك أنه فسر (القرطق) ب (الشمزت)
- ليت شعري ماذا كان يقول الشاعر لو رأى من عندنا من لابسات (الشمزت) الحديث؟
- لم يكن يقول شيئا. . فقد ألفنا كثرتهن حتى أصبح منظرهن شيئا عاديا لا يحفز على التغزل فيهن!
عباس خضر
رسالة الفن
مسرحية ابن جلا
نقد وتحليل
للأستاذ حبيب الزحلاوي
خطوة جريئة يخطوها الأستاذ الكبير محمود بك تيمور في بناء الرواية التمثيلية، والخطوة هذه على ما فيها من جرأة تدل على روح فنان دؤوب ونفس ثائرة لا يرحمها المشي في طريق مسلوك، بل هي تواقة إلى تعبيد طريق جديد يجد السائر فيه كل ما يبهج ويفرح
أسميت عمل الصديق تيمور خطوة جريئة ولم أسمها متمردة، لأن محافظا مثله يتشدد في المحافظة على سلوك المحافظين وفق (الإيتيكيت) لا ينحرف عنها في حياته الخاصة إلا حينما يجبره إخوانه الأدباء على الالتفاف حول طبق الثريد، وإن خروجه في رواية ابن جلا، على التاريخ يشذ به ويقلمه ويكيفه تكييفا خاصا وفق مزاج الفنان، يضرب بالقيود التاريخية، ويهمل الواقع والأسانيد والعنعنات والبلاغات الرسمية والمحفوظات وما إليها من عدة نفاق المؤرخين وكذب كتب التاريخ، إن خروجا كهذا لا يكفي أن نسميه بالخطوة الجريئة، ولا ننعته بالتمرد، بل يحسن أن نسميه فتحاً جديداً في الفن الروائي العربي
تصدى الأستاذ تيمور في العام الماضي لشخصية أدبية خالدة في تاريخ الأدب هي شخصية بارزة في الإسلام تتحلى بأوفر خصائص الرجل العظيم وصفاته، هي شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، وإن التعرض لشخصية خالدة وإخراجها على مسرح التمثيل لا يخلو من ضرورة خلق الجو الملائم لروح العصر والبيئة التي عاش فيها صاحب الشخصية؛ والانتقال به من مكان وسماء وملابسات وبواعث إلى خلافها أو إلى ما يناقضها من ظروف وصدف ومفاجآت، بل لا بد من السير في حدود حددها التاريخ ضمن نطاق محاط بسور من القدسية هي أمنع من الحصن، ولكن الأستاذ تيمور بروايته التي افتتحت بها (فرقة المسرح المصري) حياتها قد ابتعد عن كل ما له صلة بالتسلسل التاريخي وتناول (شخصية) البطل الذي خلق التاريخ وأطل عليها من ناحيات عدة ثم أرانا إياها مرة واضحة أو سافرة أو محجبة بحجاب كثيف، ومرة يحوطها ضباب معتم أو شفاف، وبكلمة
أوضح جعل أعمال البطل تدل عليه، وتصرفاته تنم عن شخصيته
هو ذا الفتح الجديد ي فن الرواية التمثيلية الذي عنيت، وهو فتح يساير روح العصر في الدرس والتحليل والاستقراء والاستنتاج، وفي الغوص على النفس ينبش المكنون في أعماقها يحل العقد فيها، ويبسط بواعث الانفعالات، ويلاحظ ويدقق في ملاحظة أسباب انفعالاتها ونتائج الانفعالات.
على هذا النحو من التأثر بروح العصر، وعلى هذا الضرب من مسايرة علم النفس أراد الأستاذ تيمور أن يظهر شخصية الحجاج أمام الجمهور، ولكن هل استطاع التوفيق بين ما أراده وبين ما أردنا إياه؟ هل صورة الحجاج التي رسمها لنا تمثل الحقيقة من حياة الرجل أم هي خيالات نفخ فيها من روحه هو ولم يقو على أن يبعث فيها روح صاحبها؟ هل تصرفات الحجاج في حياته جاءت مطابقة لما هو وارد في كتب التاريخ وسير أعلام الإسلام، أو أن المؤلف رأى بدافع من دوافع أصول الفن المسرحي أن يجعل خطوط حياة الحجاج مرة بارزة واضحة ومرة أخرى مستترة وراء شعار شفاف استلفاتاً لاهتمام النظارة وجذباً لأنظارهم؟
عرف الحجاج بالبلاغة الخطابية، والإرادة الصارمة، والشدة القاتلة، والحزم، والحرص على النظام، فأي صفة من هذه الصفات لم يعطها المؤلف حقها من الإيضاح وأي منها لم تنله كاملا؟ وهل الصورة التي علقت في ذهن المشاهد العادي هي صورة صادقة للحجاج، أو قريبة من الصدق، أو هي مشوهة؟
يحسن أن نلفت النظر إلى أن الأستاذ محمود بك تيمور هو من أعضاء المجمع اللغوي، وإن عالماً مثله صار في عداد الخالدين لا بد أن يكون اللغة طيعة له لينة، أضف إلى ذلك أن من أبرز صفاته الأدبية كتابة القصة، وأن لا محيد للقاص من الانفعال مع نفسه فيكون غضوباً ومسالماً، قاسياً وليناً، عبوساً وباشاً عند الحاجة، ولا بد له من القدرة على تقمص روح المتكلم فيكون كلامه كالملوك أو كالسوقة، كالعلماء أو كالجهلاء، كالمزارعين وعامة الدهماء، يهبط أو يرتفع مع كل طبقة من الناس حسب تفكيرها وتعابيرها ومصطلحاتها، يفكر تفكير المرأة يصور أحاسيسها وشعورها ومدى خيالها وأطماعها، وقد قرأنا في بعض مؤلفات الأستاذ تيمور ما يؤكد قدرته على ذلك، فهل استطاع في هذه المرة أن يسمو بحديثه
إلى بلاغة الحجاج وفصاحته، أو أنه التزم لغة المسرح في السهولة والبساطة؟
يخيل إليَ أن الأستاذ قد تأثر كثيراً بما قرأ من خطب الحجاج وسيرته وأعماله وأحاديثه، وأن بعض تأثره قد تبخر يوم صور أفكاره بالقلم، وأن صديقه وصديقنا الأستاذ زكي طليمات قد أخذ بتلابيبه برده عن الحجاج ويلح عليه في وجوب التزام مستوى الجماهير، فالحجاج الذي سمعناه يتكلم على المسرح، لم يكن بليغاً بل كان فصيحاً، طلق اللسان، واضح البيان، حاضر البديهة، سريع الخاطر، قوي الحجة، صادق الحكم، لا يعلو كثيراً في التفكير، وفي التعبير، وفي المصطلحات اللفظية، وفي تركيب الجمل، وفي التشبيه والاستعارة والاقتباس عن مستوى الطبقة المتعلمة لا الطبقة المثقفة.
لقد استطاع الأستاذ تيمور أن يرينا صوراً حية لحرص الحجاج على النظام، وعلى (تحيزه) الشدة الصارمة المفطور عليها، وعلى دغدغته رغبة الشدة الأصيلة فيه بافتعال المتناقضات إذ كان يطعم الجائع لا عن جود وكرم بل عن دعابة نفسية فيه تلزم الآكل أن يأكل عدداً من الصحاف إن قصر في ازدرادها عالجه يسف الجلاد، ومن بارع صور شدة الحجاج وحرصه على اللغة طرده المقرئ الذي غلط فلحن فكان جزاءه السجن لا يفرج عنه حتى يستوفي من حظه حفظ القرآن، أما قوة الإرادة وعدم الانصياع لآمر والنفور من كلمة تعني الأمر فقد كانت تغضبه وتثيره إلى حد أنه كان ينفض ثيابه ويديه منها كأنها علقت بها، وكان لا يطيع أمر الطبيب ويعصاه ويأبى تناول الدواء لأنه فرض مفروض، وقد أجاد الأستاذ تيمور في إبراز هذه الصور واضحة نقية.
بقيت مسألة أقف منها موقف المعجب بها والمستريب بصمتها وهي هل كان الحجاج منهماً شهوانياً، وهل حكاية تعلقه بالفتاة (الأهوازية) وكلفه بها، ولجاجته بالشكوى منها، وافتقادها إذا هجرته وعادته، والسؤال عنها لتكون قريبة دائماً منه، وكان يرتاح لخصامها؟
ليس بمستنكر أن تكون (رأس الحكمة إشباع المعدة) عند رجل عبقري كالحجاج، وليس بمستبعد أن يكون شرها في مناوحة المرأة، ولا بمستغرب أن يكلف بامرأة مفطورة على اللدد محبة للعظمة والكبرياء، موغلة في العناد، مشغولة بالاستعلاء بشخصيتها لتنحدر في إظهار أنوثتها وهي مقهورة. إن خصلة اللدد وحدها كافية لأن تجعل الحجاج الجبار، العنيد، المشاكس المقاتل الذي لا يرحم، يكلف بهذه القطة الأهوازية يهارشها فتخمشه وتدميه،
ويمسح شعرها فتعضه وتؤذيه، فكيف بها امرأة جميلة، وصبية بضة لا يقوى سواها من دون خلق الله أن يقف منه يجابهه ويعانده ويعنفه ثم يرتمي بين يديه يغسل جنونه بدموع الحب والارتماء في أحضان الحب
لا شك أن الحجاج كان نهماً جشعا يساير طبيعة الإنسان أي تحقيق غايته الأولى من وجوده وهي (الشبع) ولا ريب أنه يرغب في المرأة رغبة من كان قلبه لا يطيق التقيد، وبذلك أيضا يساير الطبيعة الإنسانية ولا يعطل غايتها الإنسانية من وجودها، فعزوف الحجاج عن المرأة مرده إلى انشغاله في توطيد الملك ومقاتلة خصومه يدلنا على ذلك رده (عفراء) رفيقة طفولته في كثير من الخشونة وعدم المبالاة، أما سعيه إلى التقيد بالزواج إنما هو سعي الوضيع الذي يطلب الرفعة والجاه عن طريق مصاهرة الهاشميين.
أما حكاية الفتاة (الأهوازية) التي لفقها المرحوم جرجي زيدان واقتبسها الأستاذ تيمور إنما هي حكاية لم أجد ما يؤيدها مما قرأت مما كتب عن الحجاج، وأرى أن الحق بجانب زيدان الروائي لا المؤرخ في تلفيق ما يجذب القارئ ويشوقه إلى قراءة فصول الرواية، وكذلك أجد أن من الواجب أن أشكر الأستاذ تيمور على اقتباسه تلك الحكاية واحتضانها وتجسيدها فجعلها المحور المركز على قاعدتين، الحجاج من جانب، والأهوازية من جانب آخر
لا يسعني حيال هذه الخطوة البارعة في جعل (شخصية) البطل هي التي تصوب عليها أنوار التحليل النفسي، وبذلك يشترك المشاهد مع المؤلف في تمييز ما يمكن وما لا يمكن من أمور النفس الإنسانية، وأن يلزم المؤلف المشاهد حمل ما يستطيع حمله من كنوز الرواية لتكون زاداً لعقله وتفكيره
هل رأيت ديكا فتيا يمد عنقه، ويفرد جناحيه، ينقل كفا بعجب، ويتبع الأخرى بتيه، ثم يقف فيطلق صيحة صداحة تتفتح لهاه أفئدة الدجاجات وجوارحها؟
كان هذا الديك التياه هو صاحبنا الأستاذ زكي طليمات، بله الحجاج بن يوسف الثقفي على مسرح الأوبرا، ولكنه لم يكن ديكا صيالا بين دجاجات تبيض، بل كان يتيه بين أقواب صغار زغبهم ذهبي ناعم، وزقزقتهم طفلة رنانة.
إني لأتمنى أن أراهم تياهين صوالين يجذب حيالهم في ميدان المسرح الجديد أذهاننا وأفئدتنا.
كنت في صحبة الكريم حضرة الغزة الأستاذ أحمد رمزي بك العالم المؤرخ والمدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي وقد شاهدنا تمثيل روايتي (شجرة الدر) لعزيز باشا أباظة و (ابن جلا) للأستاذ محمود بك تيمور فلقيته بنفر من الإحراج ويبرم بملابس الممثلين وقد قال ما نصه
(الإخراج فن لا يزال بدائيا في مصر، وهو فن من أصعب الفنون وخصوصاً إذا تعرض لإخراج الروايات التاريخية. وإني لا أعد مخرجي روايتي (شجرة الدر) و (ابن جلا) موفقين فيهما، لأن الذي يتعرض لمثل هذه الأمور يجب أن يكون لديه ثقافة وافرة، واطلاع عميق في النصوص التاريخية. وعى علم الآثار الإسلامية، والخطوط، ويفهم الملابس والإشارات والأسلحة والأثاث والمعمار الذي يسود كل عصر
وأجد أن كل عصر إسلامي يمتاز عن الآخر ميزة خاصة تميزه عن كل هذه النواحي، وأن كل مائة سنة تحتاج إلى رجل مختص يساعد المخرجين على تفهم الأمور التي أشرت إليها وكيف كانت في ذك العصر
والملابس التي أخرجت بها شجرة الدر لا تمت بصلة إلى عصر المماليك، والملابس التي أخرجت بها رواية الحجاج لا تمت بصلة إلى العصر الذي عاش فيه الحجاج. والأدلة على ذلك كثيرة، مثال ذلك، الأعلام التي جاءت في رواية الحجاج كتبت بالخط النسخ وهو لم يكن موجود في ذلك العصر، وكتبت بالخط الكوفي في رواية شجرة الدر بينما كان العكس هو الواجب أن يتبع
ومن أغرب ما شاهدت أن يرفع في وسط معسكر الحجاج علم عليه الشاليش التركي، وهي عادة جاءت في أواسط آسيا بعد قيام الدولة السلجوقية، فالأتراك هم أول من استعمل أذناب الخيل على الأعلام والسناجق وسموه (الشاليش) وأخذت به جميع الدول التركية سواء كانوا من الأيوبيين والأنابكة أو سلاطين الأتراك في الدولتين البحرية والبرجية بمصر
ولا شك أن في إخراج الجند الشامي بملابس عسكرية من ملابس القرن العشرين أمر مضحك. كذلك رئيس الشرطة أو قائد الجند الذي كان يلبس ألبسة تشبه ملابس القواد في الجيش الإيراني أيام مظفر شاه، أما ألبسة الحجاج فكانت مجموعة من أغرب ما رأيت
مسكين الحجاج جمع بين عصور المغول والفرس والهنود والانكشارية فكان إخراجا يدعو
إلى الدهشة والعجب، فقد لبس ألبسة العصور جميعاً غير عصره. وأغرب من ذلك أن تدلى له الشعور تحت العمامة وهي عادة لم يعرفها عصره وإنما جاءت بعد ذلك. وأعظم من هذا أن يلبس قلنسوة فارسية عليها عمامة، ويظهر آنا تحت طاقية حمراء لم تعرف إلا أيام تيمور لنك
أما بقية العمائم فلا تمت بصلة إلى ذلك العصر بتاتاً، بل هي عمائم عرفت في العصور المتأخرة، عصور العثمانيين. ولو شئنا التحدث عن الأسلحة والأعلام وشارات الملك والجند وما كان يلبسه الناس في أقدامهم لتبين القارئ أن المخرج بعيد عن فن الإخراج ولا يعرف شيئا عن عصر الحجاج ولا عن عصر شجرة الدر، والظاهر أنه يفهم هذه العصور على طريقة خاصة بدليل أنه وضع في خيمة الحجاج درعين وسيفين معلقين على قاعدة خضراء على هيئة الرنوك، هذه أيضا لم تعرف بعصر الحجاج ولم يأت لها ذكر إلا بعد ذلك بقرون
أما السيوف والأسلحة فليست من ذلك العهد بتاتاً
ويوجد في متحف استنبول مجموعة من السيوف القديمة التي استولى عليها العثمانيون من خزائن السلاح المصرية في قلاع مصر وقلاع الشام يقول بعض أهل التحقيق إن فيها ما يمكن عده من أسلحة الأمويين، فيحسن بالمخرجين أن يرجعوا لأهل الاختصاص في الملابس والدروع والأسلحة والعمائم وكل ما يتعلق بأي عصر من العصور معتمدين على النصوص التاريخية، وفن الملابس، وعلم الأسلحة، وفن المعمار وكل ما يتعلق بالخطوط وقراءتها، وعلم الآثار حتى لا تخرج دار الأوبرا الملكية منظراً في القرن الأول الهجري يمثل معماراً أندلسيا أو صورة من مبان تحمل الطابع الفاطمي وهو طراز من البناء جاء بعد الحجاج بأكثر من قرنين)
وللأستاذ العالم رمزي بك ملاحظات أخرى على الإبقاء والتمثيل، ومخارج الحروف وقت النطق وغير ذلك من الملاحظات ليته يتفضل بإتحاف قراء الرسالة بشئ عنها خدمة للغة العربية الفصحى التي نعرف مقدار حرصه على سلامتها
حبيب الزحلاوي
البريد الأدبي
حكاية حمار العمدة:
ألقى إلى البريد كتاباً طواه صاحبه على دعوة لتكريم (مدير المصلحة) المرقى إلى (وظيفة) أعلى، وكان من البديهي أن أجامل صديقي صاحب الدعوة، حيث لا علاقة بيني وبين هذا المدير، ولو بالسماع!
فلما ضمني مكان الحفل، إذا بكراسي مصفوفة، وموائد مرصوفة، فوقها زهر جنى، وطعام شهي، وشراب روي. حتى إذا أكل القوم مريئا، وشربوا هنيئا، وقف خطباؤهم يتبارون في المنظوم والمنثور، فأجادوا وأفادوا، وقد خلعوا على (المدير المنقول) نعوتا من إقدام عمرو وسماحة وحاتم وحلم أحنف وذكاء إياس!
وكان يجلس إلى جانبي رجل عرف بالحصافة والزكانة، فلويت إليه عنقي دهشة، وقلت له: يا هذا إن بعض هذه الأوصاف أسبغت على نابليون، وبعضها بصدق على بسمارك، وهي في جملتها تصح لو وصف بها عمر بن الخطاب؟
فبدهني بقوله: لا عليك، فهذا قول محفوظ وورد منظوم، يتلى عند وداع كل رئيس وعند استقبال كل رئيس، لا يتغير فيه سوى الأسماء.
ثم سألت صاحبي الزكي الحصيف: ترى لو كان هذا (المدير) أحيل على المعاش - مثلا - ولم يرق إلى منصب أعلى، أكان يقام له مثل هذا الحفل المرنق، ويقال فيه مثل هذا الكلام المنمق؟ فقاطعني على الفور: دعك من الإحراج؟ أو لم تسمع حكاية (حمار العمدة)؟ قلت: منك نستفيد. قال الزكي الحصيف: عندنا في الريف حكاية تهكمية مؤداها أنه حين ينفق حمار العمدة، يتبادر أه القرية جميعا لتعزيته في حماره النشيط الذي ضرب بحسن أخلاقه المثل، فلم يرفس، ولم يركل، ولم يعض؟
. . . فإذا قضى الله ومات العمدة ذاته، لم يذهب أحد لتعزية أهله. وإنما يترامون على باب العمدة المرقوب؟
قلت آمنت بالله؟
منصور جاب الله
كلمة غريبة في مقال:
قرأت في العدد 904 من مجلة الرسالة الزاهرة مقالاً الأستاذ علي العامري بعنوان (دم الحسين) والشيء الذي يوجب الاستغراب ويبعث الدهشة في النفس هو قوله (الفارس الذي منع الماء مات عطشان بالرغم من أنه كان يسقي الماء حتى يبعز ثم يعود فيشرب حتى يبعز وما زال كذلك حتى لفظ أنفاسه والشقي بحر بن كعب وقد سلب الحسين لباسه - كانت يداه في الشتاء تنضحان الماء) إلى غير ذلك من الخزعبلات والأباطيل التي تأباها العقول وتلفظها الألباب ويزدريها الواقع، وتكذبها الرواية
لقد مات إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم فبكاه رسول الله حتى اخضلت لحيته بالدموع ثم حمل إبراهيم ليدفن في البقيع ولم يكد الصحابة يغدرون البقيع حتى انكسفت الشمس فظن بعضهم أن الكون قد شاركهم في المصيبة وأن إنكساف الشمس إعلان الحزن على إبراهيم. ولما بلغ قولهم النبي صلى الله عليه وسلم أنكره قائلاً (أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) لقد أتيت بهذا المثل لأبسط للأستاذ العامري أن الرسول عليه الصلاة والسلام لو كان حياً بعد قتل الحسين ولو آمنا بما سطره لنا التاريخ من روايات وما لعبت به أيدي المؤرخين في زمن الدولة العباسية بسبب بغضهم لبني أمية أقول لو آمنا بما قيل في هذه الرواية لكان قول الرسول بأن ليس هناك من يموت عطشان بالرغم من أنه يسقي الماء من أجل قتل الحسين كما أن الشمس لم تنكسف من أجل وفاة إبراهيم.
لقد كانت هذه الرواية موضع استهجان نخبة ممتازة من الشباب المثقف في مجالسهم الخاصة وقد لاموا الرسالة المجلة الراقية على حد تعبيرهم لنشرها مثل هذه الأسطورة.
بغداد
عبد الخالق عبد الرحمن
تصويب لغوي:
انساق قلم الأستاذ الكبير أحمد الصاوي محمد إلى خطأين لا يحسن السكوت عليهما: -
- فأولا - ورد في (ما قل ودل) عبارة (يقدم رجلا ويؤخر رجلا) مما يوهم أن المثل العربي (أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى) معناه (أراك تقدم رجلا وتؤخر رجلا أخرى).
والصحيح أن كلمة (أخرى) نعت لكلمة (تارة) المحذوفة، أي أن أصل المثل هو (أراك تقدم رجلا تارة وتؤخرها تارة أخرى).
- ثانيا - جاء في (إبر النحل) عبارة (معالي الوزير المنصف دكتور طه حسين بك). ولا أدري لماذا آثر الأستاذ التنكير على التعريف في كلمة (دكتور) إلا أن يكون قد انساق انسياقا وراء لغة العامة والعصمة لله وحده
عبد المجيد عمر
نظرة في مقال:
اعتاد الأستاذ كامل محمود حبيب أن يتحفنا بين الفنية والفنية بمقالاته الرائعة وصوره الممتعة على صفحات الرسالة الزاهرة وكان آخر ما قرأنا له مقالا بعنوان (هوى على الشاطئ) المنشور في (العدد 902) من مجلة الرسالة الغراء ولكن الشئ الذي استرعى انتباهي قوله (. . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخشوع ويبعث في الروح الخوف ويفيد الهمة بالاستسلام) ويظهر أن الأستاذ كامل يفهم الدين على غير حقيقته. إن الدين قوة روحية لها من الكمال الأسنى قدسية تفيض بالجمال الإلهي فيملأ النفس حبا ويسمو على الرغبة والرهبة. حتى كأن للنفس طبيعة المرآة تنعكس فيها ظلال المعاني السامية فتفيض على الروح روحاً حتى لا تحيا في جسمها ولا تفنى معه. تضفي على الحياة معنى تتنسم منه خلود الجنة حتى لا ترى في الحياة شهوة مثيرة، أو رغبة أخاذة أو أملا فاتناً أو مصيبة مهلكة، إنما ترى فيها سبيلا مجداً دعاك إليه من خلق الحياة ومن ورائها الجنة فلا تأخذك الحياة بيأسها أو تغريرها كما لا تأخذ من الحياة إلا ما فيه مصلحة الحياة ولا تهمل منها ما فيه مصلحتها لأنه لم يخلق شيئاً عبثاً.
فالدين بجوهره خلق وتربية غير أنه لا يحتاج إلى ما تحتاجه الأخلاق من قوة مسيطرة وإنما هو القوة المسيطرة على الأخلاق توجهها لأقوم وجهة، فهي خارجة عن الذات تراقبها، ولها من الذات قوتها لاعتقادها بأن الله (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور).
إن الدين حق الفرد على الجماعة فلا تعتدي عليه، ولا تنقصه حقه ولا تقيده في حريته، وإنما تنتصف له حتى يكون ضعفه في أقوى قوة.
إن الاعتقاد بإله وآخره ما يبدل الحاجات ويقمع الشهوات ويلجم النزوات وفي هذا ما يغير النظر لذات الحياة فتكون الأخلاق غير الأخلاق، وتكون مع هذه الأرض غير الأرض كأنها بين ربوة عالية وهاوية سحيقة، ولهذا قال فولتير الأديب الفرنسي الشهير بإلحاده إن الإله شرطي يصون المجتمع حتى ليحب أن نوجده إن لم يكن موجوداً.
إن الدين روح الأخلاق وأساس الفضيلة والمجتمع الذي لا يقوم على أساس من دين يهوي إلى الدرك الأسفل من الرذائل.
(بغداد)
ع. ع
تعقيب على تعقيب:
قرأت في مجلة الرسالة الحبيبة رقم 904 الكلمة المعنونة (تعقيب على مقال) الأديب عبد الخالق عبد الرحمن، يخطئ فيها الأديب الكبير، أحمد بك رمزي. في استعماله كلمة (خصيصاً) قائلا: هي مما يؤخذ بالسماع ولم ينقل عن العرب خصيص بمعنى مخصوص، وأقول هذه الكلمة وردت في منظومهم ومنثورهم، وهي صيغة سماعية لاسم الفاعل وليست لاسم المفعول.
فقد ورد في الجزء الثامن من لسان العرب ص 290 الطبعة الأولى في مادة (خص) ما نصه:
(خصه بالشيء يخصه: خصا وخصوصاً وخصوصية والفتح أفصح وخصيصي. والاسم: الخصوصية والخصوصية والخصية والخاصية والخصيص وهي تمد وتقصر عن كراع، ولا نظير لها إلا المكيثي) انتهى ما ورد باللسان. والألف في هذه الكلمة علامة المؤنث لأن هذه الكلمة مقصورة وزان فعيلي وكتب الصرف تؤيد هذا.
حسين سلامة دياب
القصص
السعادة
عن الكاتب البلغاري تيدور بانوف
للأستاذ ماجد فرحان سعيد
لقد كان شاباً أهيف ظريفاً فماذا كان ينقصه؟ السعادة وكان شوقه إليها يتبعه كظله دائماً إلى كل مكان فإذا ما استيقظ، شر كأنما قلبه الخافق رهن قبضته وكانت نظراته المفعمة (بالأماني) تجوز آفاقاً غريبة مجهولة
ترى ما الذي كان مشوقاً إليه؟
لقد كان مشوقاً إلى شئ ما. . . بل إلى كل شئ!
كان العندليب يداعب برعماً من الزهر ويشدو عليه أرق الألحان التي كانت رعشتها اللطيفة كنسم الصباح تتهادى لتتلاشى في الآفاق المترامية
وكان كل ما عداه هادئاً؛ كل شئ كابت أنفاسه. واستمعت السماوات والنجوم والقمر إلى شدوه، معجبة داهلة، وقد أرهفت السمع حتى أغمي عليها من شدة الحب والهيام
وفي الفترات التي كان ينقطع فيها العندليب عن التغريد، كانت تجتاح الكون تنهدة ذهول وغزل
(آه) هكذا كانت الأرض تلفظ أنفاسها الرقيقة، وكانت هذه (الآهة) تحمل إلى الأشجار والأعشاب والنجوم والقمر، ويموت صداها الناعم على ذرى الجبال البعيدة
كل شئ يتنهد بالسحر المجنح بالأحلام، وفي تلك التنهدات يكمن حنين الهوى الضائع. وواصل العندليب غناءه. . . وكانت أشعة القمر الذاهلة تعانق العندليب وشجيرات الورد بلطف زائد، وكانت النجوم تستمع إلى أغنية الهوى، وبابتسامة حنون تشجع الطائر الشاعر قائلة: - (أشد وغن أيها الحبيب!).
وإذ كان العندليب غارقا في رعشاته الصوتية العذبة، كان مبتهجاً أيضاً بعواطفه الغرامية الدافئة وإذ صار قلبه يدنو من برعم الوردة أكثر فأكثر، أخذ يتوسل قائلا (تفتحي أيتها الوردة!. . دعيني أستنشق عبيرك البكر مرة واحدة! دعيني أدفن رأسي بين وريقاتك
القرمزية!. . .)
هكذا واصل العندليب توسلاته، مرسلا ألحانه الشجية حتى الهزيع الأخير من الليل. وعندما أخذ رعشاته الرنانة تخفت شيئاً فشيئاً، ومع ذلك فقد كان يتعالى في صوته تنهد الشوق الظامئ. ولكن سكن الشادي في النهاية. وتنهد برفق وعمق مصعداً (آهته) الأخيرة
وفي تلك التنهدة التي طال مكوثها بين شجيرات الورد ناحت (الأمنية) التائهة الظامئة
وقف الشاب يستلقي ليل نهار على العشب الأخضر تحت ظلال أشجار الغابة الهرمة، يحدق في السماء الصافية
وكان النسيم يتهادى ما بين الأغصان فيلامس الأوراق برفق ويقبل وريقات الأعشاب بابتسامة هادئة حنون
وأما الأشجار العظيمة والأغصان القوية فقد بقيت هادئة دون حراك، لأنها كانت مستغرقة في سبات عميق؛ وفي أحلامها الأبدية كانت تكمن الأسرار العظيمة، ولذا كان النيسم الخفيف الروح يمر بها بهدوء مداعباً أوراقها فقط، كي لا يعكر عليها صفو الهدوء السني.
ولم كانت تهجع في نوم عميق شبيه بنوم الأموات؟
أليس ممكناً أن يعثر الشاب على أمنيته في نومها المسحور؟
وأرهف سمعه إلى هدير الجدل المنحدر من قمم الجبال المكسوة بالثلج الدائم، ولقد عظم هديره، وأخذ يصارع الصخور فيحمل معه قطعاً كبيرة منها، ويخدش بها صدر الجبل.
فأن كان الجدول يسرع في جريانه؟
لم يكن يدري. . .
لقد كان ينحدر هائجاً مزمجراً منذ الأزل، لا يعلم له وجهة ولا قصداً؛ فلربما أنصب وتلاشى في البحر أوفي سيل جارف، أو في الرمال المتناثرة وهذا ما لم يكن الجدول يعلمه.
وأما هديره وخريره. . . أليس تعبيراً عن غضب واهن علة (المجهول)؟!. . .
ولكنها (الأمنية). . .!
لم يكن الشاب يستطيع أن يحمل عبئا المجهد، فلقد كان ثقيلا عليه؛ وهكذا عبر العالم باحثاً عن (سعادته).
أشرقت الشمس ثم غربت مرات كثيرة. وتعاقبت الليالي والأنهر، وتصرم العام تلو العام، وما زال الشاب يضرب على وجه الأرض! لقد مر بقرى كثيرة، وفي إحداها وجد الفلاحين ذات مرة مستسلمين إلى نوم عميق أغرقهم فيه عملهم المضني. وكان الظلام الكثيف يلفع الأكواخ الحقيرة، والصمت أشبه ما يكون بصمت القبور. . .
(أين أنت أيتها (السعادة)؟) هكذا صرخ الشاب، ولكنه لم يظفر بجواب
واقترب من باب أحد الأكواخ وخفق قلبه متطيراً قلقاً وبعد هنيهة سمع وراء الباب أنيناً خافتاً وتنهداً عميقاً يائساً
إذاً فلا بد أن تكون (السعادة) في هذه الساعة المتأخرة تنتحب وسط ظلام الكوخ الموحش.
ومشى الشاب في طريقه حزيناً متثاقلا، وقطع الأنهار والبحيرات والوديان حتى ارتقى جبلا شامخاً، وإذا هنالك راع يرعى قطيعه، وكان العشب القصير الكثيف يتألق بما عليه من دموع الفجر وبدأت الريح اللطيفة تبعث بصوف الخراف التي بدأت ترتعش من برودة الصباح، وأسرعت تلتمس الدفء تحت أشعة الشمس المشرقة. أما الراعي، فقد كان شابا فتيا يحمل كيساً على ظهره، وقد جلس على صخرة، وأخذ يعزف على نايه، وهو يحدق في الأفق الأزرق بتخيل حالم، وكانت أنغامه المنخفضة العذبة تسيل من نايه، لطيفة كأشعة الشمس الأولى، حالمة كعيني العذراء، متسقة كذلك الضباب الأبيض المحلق فوق الجبال؛ وأخذت أنغامه تزحف بهدوء كالضباب فوق الصخور والأحجار والأعشاب، وأنصت القطيع إلى أنغام الراعي.
- (أخبرني، أخبرني، بالله عليك، لمن تغني؟)
- (لمن أغني؟ هل تغني الريح لأحد؟ إنني أغني لأنني لا أستطيع أن أمكث بدون غناء. . . إنني أعزف لأشياء مجهولة!)
- (هل تعرف السعادة أيها الراعي؟)
- (السعادة؟) إنني لم أعثر عليها قط في هذه الجبال؛ فأنا وحيد هنا مع خرافي بين قليل من الثلج والضباب. وأؤكد لك أن ليست السعادة من حوريات الغاب - لأنني أعرفهن جميعاً ولكن برغم الناس أنها هناك، بعيداً بعيداً. . . ألا ترى هناك مدينة جميلة؟ أوليس ممكناً أن تعيش (السعادة) فيها؟. . . لست أدري. . . إذ لم يسبق لي أن كنت هناك!. . .)
وهبط الشاب الجبل بعد أن تملكته رغبة أشد من قبل، ويمم وجهه نحو المدينة العجيبة. حقاً لقد كانت المدينة عجيبة - لأنه لم يكن قد شاهد نظيرها: - عمارات فخمة، وشوارع واسعة، ومراكز تجارية، وملاهٍ، وجنائن، وقصور. . . يغمرها جميعاً نور ساطع باهر وكان الثراء والبهاء والرخاء تتألق في جميع أرجائها.
وشرع الشاب يقطع شارعاً ويدخل آخر، وما لبث أن رأى أمام جدار يحيط منتزه، متسولا صغيراً يرتجف من شدة البرد، ويطلب الإحسان بصوت كئيب.
وتابع الشاب طريقه. . .
ثم وقف ليلقي نظرة من النافذة على أحد الملاهي، وإذا جمهور الناس يصفقون إعجاباً بفنانة شابة كانوا يعظمونها كأنما هي إلهتهم فانحنت أمامهم بلطف عذب، وبانت كأنما (السعادة) تتوهج في ابتسامتها؛ ولكنها دخلت بعد بضع دقائق غرفة اللبس، تبكي بخزن.
وغادر الشاب المدينة العظيمة، ولم يعد يلقي ولو نظرة واحدة إلى الوراء، فلقد حزت في نفسه التنهدات الأليمة التي كان يصعدها المتسول الصغير والبكاء اليائس الذي أطلقته الإلهة المعبودة.
وظل يخبط بالأرض مدة طويلة، وأخيراً وقف في مكان بين جبلين حيث كان يسكن في أحد المغاور العميقة ناسك طاعن في السن، بعيداً عن الناي وقريباً من الله. . .
وعندما وقف في حضرة الحكيم الناسك سأله بلطف: (هل تعرف يا سيدي الجليل مقر السعادة؟).
وكان الناسك آنئذ مستغرقاً في قراءة كتبه، يستوعب منها حكمة الدهور. ومضت فترة طويلة قبل أن أجاب على سؤال الشاب. وعندما رفع رأسه الأشيب، نظر إلى الشاب نظرة باهتة وبدت على وجهه المخدر ابتسامة صارمة.
ترى هل كان يفكر في شبابه المضمحل؟
(أسعادة لك؟) تساءل الحكيم بلهجة تشوبها الشك. ثم استغرق في التفكير. . . وعندما عاد ورفع رأسه، أخذ يتكلم بقسوة، فقال: - (عبث ذلك، إذ ليس هنالك من (سعادة)!. . إن هي إلا حلم من الأحلام!)
فأخذ الشاب يتنهد ثم قال: - (إذاً فما غايتي من (الحياة)؟ ولم أحتمل كل هذه الآلام؟ وما
الفائدة من كل أسفاري؟)
فرق قلب الشيخ وأخذ يشعر مع الشاب الحالم، وقال: - (لا تبك، هاهو ذا السبيل الذي تقصد! إذهب، فما زلت فتيا بعد! ولكن أحداً لم يعثر عليها حتى الآن؛ فإذا ما عدت، فما من شك في أنك ستجلب (السعادة) إلى هذه الأرض!).
فسار الشاب في طريقه، وكأنما فارقه التعب بعد سفرته الطويلة، لأن الناسك ولد في روحه الأمل الذي صار ينمو كل يوم وتنمو معه (أمنيته). وأخذ يضرب في المسالك الوعرة، ويرقى الجبال والتلال. . . وكانت قمم الصخور تتألق على ضوء أشعة الشمس الباهتة المنحدرة إلى المغيب، وحول هذه المرتفعات كان (الموت) يحوم ويسمم الهواء بأنفاسه. ولم يكن هناك أي شئ ينبئ (بالحياة) أو (الشباب).
كان كل شئ ساكنا هادئا كأنما ينذر بالسوء، أو كأنما حلت عليه لعنة القضاء العاتي العنيد. وظهرت فجأة في طريق الشاب هوة سحيقة. فوقف واجماً على بعد بضع خطوات منها، وقد استحوذت عليه الدهشة والخوف. . . وأخذ يتصاعد من أعماقها ضباب كثيف، وأخذ هدير الجدول تحت الأرض يدوي صداه المتصاعد من الأعماق السحيقة، فيملأ الجو هولاً ورعباً. . . وقد كان في الإمكان الاستماع تحت ستار الظلام، إلى هياج العناصر الرعيب، ومع ذلك، فإن الخوف لم يتطرق إلى قلب الشاب.
وعلى حافة الهوة المقابلة، كانت إحدى الحوريات تستند بذراعها إلى صخرة مغطاة بالطحلب. . . وكان شعرها الذهبي يتلألأ مع أنوار الغروب، فيستبين له احمرار فاتن.
أما الشاب فقد أخذ يسرح نظره مع مجرى الدم تحت بشرتها الشفافة، وكان ينبعث من عينيها وميض ساحر غامض، ومن صدرها تنهدات متموجة متسقة. ووقف الشاب في مكانه لا يبدي حراكا؛ ومع ذلك فقد مد إليها يده؛ وفي تلك اللحظة فقط أدرك سر غناء العندليب، وعلم أين يسرع الجدول المنحدر من على الجبل، ولم احتفظت الأشجار القديمة بسر صمتها، ولمن كان الراعي يعزف الأنغام
وجثا أمام الحورية متوسلا، دون أن يحول نظراته عنها! أجل عنها! عن (السعادة) الأرضية!
ولكن (الموت) كان مختبئاً وراء تلك الحورية، فقد كشر أنيابه الكاحلة بجهامة مخيفة،
وبسط فوق الهوة منجله الحاد. ولقد كان يبدو لأشعة الشمس المحتضرة لمعان عجيب على حد المنجل، وقد تراءى انعكاسه الباهت على غيمه كثيفة خارجة من الهوة المتثائبة
وظلت الحورية واقفة هناك، وقد أشارت إليه بيديها، وسحرته نظراتها، وأسكرته تنهدات صدرها المضطرب
وكان (الموت) يضحك وهو قابض على المنجل الذي ازداد توهجه عما كان عليه من قبل.
(أيها الأحمق! أيان تندفع؟).
وألقى ذلك الشاب نظرة واحدة على الهوة ليقيسها ثم قفز. . . لقد قفز بعد أن طال بحثه عن (السعادة)، السعادة التي أوقعته في العذاب، السعادة التي أسرته بجمالها!
أجل لقد قفز! ولكن لا ليعانق الحورية بل ليقع على منجل (الموت)!
ومنذ ذلك الحين صار الناس يدعونها (هوة السعادة).
ماجد فرحان سعيد
(مدرسة الفرندز للبنين) رام الله