الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 91
- بتاريخ: 01 - 04 - 1935
الفردية علتنا الأصيلة
لا تزال الفردية أبين الصفات المميزة للعرب؛ ولا تزال هذه الصفة
أجلى ما تكون في مصر! فان المرء ليغالي في فرديته حتى ليوشك أن
يكون أمة وحده!
غلبت هذه الشيمة على العرب الأولين لقلة المرافق المشتركة، وأثرة الطبيعة الشحيحة، ووحدة الحياة الرتيبة، واستقلال النفس القوية، فالرجل منهم كان يحصر الدنيا في خيمته، ويجمع العالم في قبيلته، ثم يختصر القبيلة في نفسه فيجعلها قاعدة لتمثاله وإطاراً لصورته! فهو لا يحيا حياة بهائم الأنعام تحمي ضعفها بالاجتماع، وإنما يعيش عيش سباع الطير والوحش لا تشبل على أفراخها وأجرائها إلا ريثما ترتاض وتضرى. فلما اختيروا إلى الدعوة الكبرى استجابوا لقوة القوى، واطمأنوا لألفة الروح، واستجروا لحكم الجماعة، حتى بلغوا رسالة الله، ثم تحرك فيهم الهوى الموروث، وتيقظ الطبع الأثر، فهبت الفردية تحلل العقدة وتشتت الوحدة، حتى قسمت الوطن بلاداً، ومزقت الشعب أفراداً، خضعوا لسلطان المغير وداوا لقوة الغاضب!
لا تزال هذه الفردية القبيحة وتوابعها من شهوة الرياسة وحب الاستئثار ودناءة الحرص، تقطع أوشاج المجتمع في أقطار العرب، فتفد كل موضوع، وتبطل كل مشروع، وتشعث كل ألفة. وفي مصر أحد تلك الأقطار تستطيع أن تعرض جملة أمرها على رأيك فتجد المثال الذي لا يبعد والحال التي لا تختلف.
فالسياسة هنا وهناك لا تكاد أحزابها تقوم على فكرة جامعة ومبدأ متحد، إنما هي فرد ينبه في الخير أو ينبع في الشر، فتأتلف عليه الأفراد المختلفون، فيكون منهم مكان النظام من العقد، يمسكه ما دام حياً قوياً، فإذا ما انقطع ذهب الحب أباديد. والاقتصاد هنا وهناك جهود فردية تخشى المنافسة وتتعجل الربح وترضى بالنصيب الأخس، لأن الفردية قتلت فينا الثقة فلا نساهم في رأس مال، وأضعفت شعورنا بالخير العام فلا نشارك في مشروع، ونشرت بيننا داء الحسد فلا نستقيم على رأي جميع؛ وما النهضة الاقتصادية الحديثة إلا نبوغ فرد أنس الناس بناحيته، واطمأنوا إلى كفايته، فأخلدوا إليه بالثقة، وألقوا في يديه المقاليد. والأدب هنا وهناك لا تزال دوافعه فردية ومراميه خاصة؛ فالقصيدة عواطف
الشاعر لا تكاد تخرج عن دخائل نفسه ومدارج حسه، والمقالة خواطر الكتاب لا تكاد ترمي إلى غرض محدد ولا تجري في مذهب معين، والأغنية لواعج المغنى فلا تعبر عن المعاني العامة، ولا تهتف بالأماني المشتركة. أما الملاحم القومية، والقصص الاجتماعية، والأناشيد الشعبية، فتلك أغراض لا تزال منابعها ناضبة ودوافعها دخيلة
يأخذ المرء حال من الوجد أو الشوق أو الطرب، فيجد من القصائد والأناشيد ما يترجم هذه الحال، فيدندن ويتغنى؛ وتكون الجماعة منا في مجمع من المجامع، أو ملهى من الملاهي، أو موكب من المواكب، فيأخذها انفعال مشترك من ابتهاج أو احتجاج أو افتخار أو تحمس، فتريد أن تعبر عن ذلك بقول واحد وصوت واحد ونغم واحد، فلا تجد إلا خلجات تتوقد، ونظرات تتردد، ثم سكوناً بارداً كعرق المبهوت الخجل! حتى السلام الملكي الرسمي نعرفه نغماً ولا نعرفه كلماً كأنما وضعوه لأمة بكماء!
كذلك الفن هنا وهناك لا يجد من حرج الفردية مكاناً للتنوع ولا مجالاً للتقدم، فالتصوير كالشعر قلما يتعدى صورة الفرد وعاطفته، والرقص حتى الرجال لا يكون إلا من فرد، ولا يظهر من هذا الفرد إلا متعاقباً على أجزاء خاصة من جسمه، كالعجز والبطن والثديين والعنق، فهو حركات متقطعة مستقلة كأبيات القصيدة القديمة لا تربطها علاقة ولا تجمعها وحدة! والغناء والموسيقى يقعان دائماً على أصوات مفردة، وتقاسيم مرددة، وفرديات (مونولوجات) متشابهة، ومعان متكررة! فليس لنا - حتى ولا للقرويين - غناء جماعي ولا رقص جماعي يعبران عن شعور الجماعة ساعة الطرب أو الغضب أو النصر بكلمات موقعة وحركات موزونة؛ ولكل أمة من أمم الأرض أفنان شتى من ذلك حتى الزنوج!
إن الفردية تعلو فتكون الاستبداد، وتسفل فتكون الأنانية؛ وأن الجمعية ترتفع فتكون الإنسانية، وتنخفض فتكون العصبية؛ وإن بين الإنسانية والعصبية شعباً يعز، وأمة ترقي، وذكراً يبقى، وأثراً يخلد، ولكن بين الاستبداد والأنانية تحكم الهوى وشقاء العيش وذل الأبد. فإذا رأيت الأحزاب تتناقض وتنحل، مشروعات الشباب تضعف وتعتل، وإدارة الحكومة تسوء وتختل، فأبحث علل ذلك - غير مخطئ - في هذه الفردية حين تتعلى فتستبد، أو حين تتدلى فتستأثر. فلولا هذا الطبع الأصيل الذي طغى على الشعور، وبغى على الفطرة، لتنبه فينا الضمير الاجتماعي فأخلصنا للأمة كما نخلص للأسرة، وعملنا في
الديوان كما نعمل في البيت، وأحببنا لعامة الناس ما نحب لخاصة النفس؛ ولكن الفردية داء دخيل لا يحسمه إلا الدين الذي حسمه عن نفوس العرب حين اتبعوه، فهل إلى رجوع إليه من سبيل؟
أحمد حسن الزيات
تاريخ يتكلم.
. .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أيعرف القراء أن في الأحلام أحلاماً هي قصص عقلية كاملة الأجزاء محكمة الوضع متسقة التركيب بديعة التأليف، تجعل المرء حين ينام كأنه أسلم نفسه إلى (شركة من الملائكة)، تسيح به في عالم عجيب كأنما سحر فتحول إلى قصة؟
إن يكن في القراء من لا يعلم هذا فليعلمه مني؛ فإني كثيراً ما أكتب وأقرأ في النوم، وكثيراً ما يلقى علي من بارع الكلام، وكثيراً ما أرى ما لو دونته لعد من الخوارق والمعجزات
وهذهالقصة التي أرويها اليوم، كانت المعجزة فيها أني مشيت في التاريخ كما أمشي في طريق ممتدة؛ فتقدمت إلى أهل سنة 395 للهجرة وما يليها، فعشت معهم وتخبرت من أخبارهم، ثم رجعت إلى زمني لأقص ما رأيته على أهل سنة 1353. . .
أمسيت البارحة كالمغموم في أحوال ثقيلة على النفس ما تنطلق النفس لها، أولها سوء الهضم، ومتى كان البدء من هنا لم تكن الحركة في النفس إلا دائرة، تذهب ما تذهب ثم لا تنتهي إلا في سوء الهضم عينه. فجلست في الندى الذي أسمر فيه أحياناً، فكان لجوه وزن أحسسته كما يحس الغائص في الماء ثقل الماء عليه؛ ودخنت الكر كرة فلم تكن هواء ودخاناً يتروح، بل كانت من ثقلها كالطعام يدخل على الطعام؛ ونظرت ناحية فأخذت عيني رجلاً فيلي الخلقة، منطاد البطن، كأنما نفخ بطنه بالآلات، يحمل منه مقدار أربعة من بطون البدينات الحوامل، كل منهن في الشهر التاسع من حملها. . .؛ وكان معي إلى كل هذا البلاء خمس صحف يومية أريد قراءتها. . .!
ثم جئت إلى الدار، والمعركة حامية في أعصابي؛ وما كان سوء الهضم منومة فيدعو إلى النوم، فدخلت بيت كتبي وأردت كتاباً أي كتاب تناله يدي، فخرج لي كتاب في خرافات الأولين وأساطيرهم وهذيانهم وسوء هضمهم العقلي. . كالكلام أدونيس وأرطاميس وديونيس وسميراميس وإيسيس وأتوبيس وأثرغتيس. . . فاستعذت بالله وقلت: حتى الكتب لها في هذه الليلة أعصاب قد نالتها الثقلة والألم.؟
وبات الليل يقظان، وبقيت متململاً أتقلب حتى أخذ الصداع في رأسي، فانقلب التعب نوماً، وجاء من النوم تعب آخر، وقذفت إلى عالم الأحلام في قنبلة، تستقر بي حيث تريد لا حيث
أريد:
ورأيتني في قوم لا أعرف منهم أحداً، قد اجتمعوا جماهير، وسمعت قائلاً منهم يقول:(الساعة يمر مولانا العالي) فقلت لمن يليني: (من يكون مولانا العالي؟) قال: (أو أنت منهم؟) قلت (ممن؟) فألهاه عن جوابي تشوف الناس وانصرافهم إلى رجل أقبل راكباً حماراً أشهب؟ فصاحوا: (القمر القمر) ورفع الرجل الذي يناكبني صوته يقول: (البركات والعظمات لك يا مولانا العالي!)
قلت: (إنا لله! لقد وقعت في قوم من الزنادقة، يعارضون (التحيات والصلوات والطيبات لله)؛ ثم مر صاحب الحمار بحذائي، وغمزه الرجل علي، فقال:(ما بالك لا تقول مثله؟) قلت: أعوذ باله من كفر بعد إيمان؛ فكأنما أراد أن يلطمني فرفع يده، فصحت فيه:(كما أنت ويلك وإلا قبضت عليك وأسلمتك للبوليس، وشكوتك إلى النيابة، ورفعتك إلى محكمة الجنح!)
قال: (ماذا أسمع؟ الرجل مجنون فخذوه!) وأحاط بي جماعة منهم، ولكنه ترجل عن حماره واخذ بيدي ومشينا، فقلت:(من أنت يا هذا؟) قال: (أراك من غير هذا البلد؛ أما تعرف الحاكم بأمر الله؟ فأنا هو.) قلت: (انظر ويحك ما تقول؛ فما أظنك إلا ممروراً؛ لقد كتبت أمس كتاباً إلى مجلة (الرسالة) أرخته 13 ذي الحجة سنة 1353 و18 من مارس سنة 1935، وأرسلت به مقالة (الخروفين. . .)
قال: ماذا اسمع؟ نحن الآن فيسنة 395؛ فالرجل مجنون، أو لا فأنت أيها الرجل من معجزاتي. لقد جئت بك من التاريخ وتكتب، ثم تعود إلى التاريخ فتكون من معجزاتي، وتقص عني وتشهد لي. . .!)
قلت: (فإني أعرف أعمالك إلى أن قتلت في سنة 411. . .!)
قال: (أو إله أنت، فتخلق ست عشرة سنة بحوادثها؟ لقد كدت من أفنك وغباوتك تفسد على دعوى المعجزة!)
وهاج الصداع في رأسي، وبلغ سوء الهضم حده، واشتبكت سينات إيسيس وأتوبيس الخ بسين إبليس، ومرت بين كل هذا حوادث الطاغية المعتوه المتجبر، فرأيته يبتدع في كل وقت بدعاً، ويخترع أحكاماً يكره الناس على أن يعملوا بها، ويعاقبهم على الخروج منها ثم
يعود فينقض أمره، ويعاقب على الأخذ به، كأن الذي نقض غير الذي أبرم، وكأنه حين يتبلد فيعجزه أن يخترع جديداً - يجعل اختراعه إبطال اختراعه!
ورأيته كأنما يعتد نفسه مخ هذه الأمة، فلابد أن يكون عقلاً لعقولها، ثم لابد أن يستعلي الناس ويستبد بهم استبداد الشريعة في أمرها ونهيها، فكانت أعماله في جملتها هي نقض أعمال الشريعة الإسلامية، وظن أنه مستطيع محو ذلك العصر من أذهان الناس وقتل التاريخ الإسلامي بتاريخ قاتل سفاك
وسول له جنونه أن خلق تكذيباً للنبوة؛ ثم افرط عليه الجنون فحصل في نفسه أنه خلق تكذيباً للألوهية. وفي تكذيبه للنبوة والألوهية يحمل الأمة بالقهر والغلبة على ألا تصدق إلا به هو؛ وفي سبيل إثباته لنفسه صنع ما صنع، فجاء تاريخه لا ينفي ألوهية ولا نبوة، بل ينفي العقل عن صاحبه؛ وجاء هذا التاريخ في الإسلام ليتكلم يوماً في تاريخ الإسلام. . .
رأيتني أصبحت كاتباً لهذا الحاكم، فجعلت أشهد أعماله وأدون تاريخه وأقبلت على ما أفردني به، وقلت في نفسي: (لقد وضعتني الدنيا موضعاً عزيزاً لم يرتفع إليه أحد من كتابها وأدبائها، فسأكتب عن هذا الدهر بعقل بينه وبين هذا الدهر 968 سنة صاعدة في العلم
ودونت عشرة مجلدات ضخمة انتهيت وأنا أحفظها كلها، فإذا هي جمل صغيرة، جعل الحلم كل نبذة منها سفراً ضخماً كما يخيل للنائم أنه عاش عمراً طويلاً وأحدث أحداثاً ممتدة، على حين لا تكون الرؤيا إلا لحظة
وهذه هي المجلدات التي قلت: إن التاريخ يتكلم بها في التاريخ. . .
المجلد الأول
ابتلى هذا الطاغية بنقيصتين: إحداهما من نفسه والأخرى من غيره؛ فأما التي من نفسه فإني أراه قد خلق وفي مخه لفافة عصبية من يهودية جده رأس هذه الدعوة؛ فهو الحاكم بن العزيز بن المعز بن القاسم بن المهدي عبيد الله، ويقولون إن عبيد الله هذا كان ابن امرأة يهودية من حداد يهودي، فاتفق أن جرى ذكر النساء في مجلس الحسين بن محمد القداح فوصفوا له تلك المرأة اليهودية، وأنها آية في الحسن، وكان لها من الحداد ولد، فتزوجها الرجل وأدب ابنها وعلمه، ثم عرفه أسرار الدعوة العلوية وعهد إليه بها
من بعض اللفائف العصبية في المخ ما ينحدر بالوراثة مطبوعاً على خيره أو شره، لا يد للمرء فيه ولا حيلة له في دفعه أو الانتفاء منه، فيكون قدراً يتسلسل في الخلق ليحدث غاياته المقدورة، فمتى وقع في مخ إنسان فالدنيا كالحبلى ولابد أن تتمخض عنه
هذه اللفافة اليهودية في مخ هذا الطاغية ستحقق به قول الله تعالى: (لتَجدَنّ أشَدّ الناس عداوةً للّذين آمنُوا اليهود.) فهو لن يكون العدو للإسلام دون أن يكون الأشد في هذه العداوة، ولن يكون فيها الأشد حتى يفعل بها الأفاعيل المنكرة. وما أرى هذه المآذن القائمة في الجو إلا تخرق بمنظرها عينيه من بغضه للإسلام وانطوائه على عداوته؛ فويل لها منه!
وأما النقيصة الثانية فقد ابتلي بقوم فتنوه بآرائهم ومذهبهم، وهم حمزة بن علي، والأجرم، وفلان، وفلان. . . وقد لفقوا للدنيا مذهباً هو صورة عقولهم الطائشة، لا يجيء إلا للهدم، ثم لا يضع أول معاوله إلا في قبة السماء ليهدمها. . .! ولو أنا جمعت هذا المذهب في كلمة واحدة لقلت: هو حماقة حمقاء تريد إخراج الله من الوجود لإدخال الله في بعض الطغاة!
ويتلقبون في مذهبهم بهذه الألقاب: العقل، الإرادة، الإمام، قائم الزمان، علة العلل. . .! وهذه هي الشيوعية بعينها، تعمل على هدم فكرة الألوهية وإلحاقها بالخرافة؛ كأن القائم بهذا المذهب هو عقل الناس وإرادتهم، كرهوا أم رضوا، فلا إرادة لهم معه ولا عقل، وهو الزمن فيصبغ الزمن بما شاء، ويجعله كيف شاء، لأنه به وعلة العلل في سياسته وتدبيره
شيوعية آثمة، كبرت في حماقتها أن تقوم بجنون واحد، فلا تقوم إلا باثنين معاً: جنون العقل، وجنون السيف!
المجلد الثاني
أظهر الطاغية أن الله يؤيد به الإسلام، ليتألف الجند والشعب ويستميلهم إليه، وكان في ذلك لئيم الكيد دنيء الحيلة يهودي المكر. فأمر المدارس للفقه والتفسير والحديث والفُتْيا، وبذل فيها الأموال، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، وبالغ في إكرامهم والتوسعة عليهم والتخضع لهم، ودخل في ظلال العمائم. . . وأحضر لنفسه فقهين مالكيين (اثنين لا واحد) يعلمانه ويفقهانه، وكان أشبه بمريد مع شيخ الطريقة يتسعد به ويتيمن؛ أشرف ألقابه أنه خادم العمامة الخضراء، وأسعد أوقاته اليوم الذي يقول له فيه الشيخ: رأيتك في الرؤيا ورأيت لك. . .!
وكانت هذه المعاملة الإسلامية الكريمة من هذا الطاغية - هي بعينها ربا اللفافة اليهودية في مخه؛ تصلح بإقراض مائة، وفيها نية الخراب بالستين في المائة. .! فإنه ما كاد يتمكن من الناس ويعرف إقبالهم عليه وثقتهم به، حتى طلبت اللفافة رأس المال والربا؛ فأمرهم بهدم تلك المدارس وإخرابها، وأبطل العيدين وصلاة الجمعة، وقتل الفقهاء وقتل معهم فقيهيه وأستاذيه، وعاد كالمريد المنافق مع شيخ الطريقة، يقول في نفسه: إن هناك ثلاثة تعمل عملاً واحداً في الصيد: الفخ، والعمامة، واللحية. . .!
إن هذا الطاغية ملك حاكم، يستطيع أن يجعل حماقته شيئاً واقعاً، فيقتل علماء الدين بإهلاكهم، ويقتل مدارس الدين بإخرابها، ولو شاء لاستطاع أن يشنق كل ذي عمامة من سواد المسلمين في عمامته. ويبلغ من كفره أن يتبجح ويرى هذا قوة ولا يعلم أنه لهوانه على الله جعله الله كالذبابة التي تصيب الناس بالمرض، والبعوضة التي تقتل بالحمى، والقملة التي تضرب بالطاعون، فلو فخرت ذبابة أو تبجحت قملة أو استطالت بعوضة لجاز له أن يطن طنينه في العالم. وهل فعل أكثر مما تفعل؟
لقد أودي بأناس يقوم إيمانهم على أن الموت في سبيل الحق هو الذي يخلدهم في الحق، وأن انتزاعهم بالسيف من الحياة هو الذي يضعهم في حقيقتها، وأن هذه الروح الإسلامية لا يطمسها الطغيان إلا ليجلوها
إنه والله ما قتل ولا شنق ولا عذب، ولكن الإسلام احتاج في عصره هذا إلى قوم يموتون في سبيله، وأعوزه ذلك النوع السامي من الموت الأول الذي كان حياة الفكر ومادة التاريخ، فجاءت القملة تحمل طاعونها. . .!
لقد أحياهم في التاريخ، أما هم ققتلوه في التاريخ، وجاءهم بالرحمة من جميع المسلمين، أما هم فجاءوه باللعنة من المسلمين جميعاً!
المجلد الثالث
يرى هذا الطاغية أن الدين الإسلامي خرافة وشعوذة على النفس، وأن محو الأخلاق الإسلامية العظيمة هو نفسه إيجاد أخلاق، وأن الإسلام كان جريئاً حين جاء فاحتل هذه الدنيا؛ فلا يطرده من الدنيا إلا جراءة الشيطان كالذي توقح على الله حين قال:(فَبعزَّتكَ لأُغْويَنَّهُمْ أجمعين.) ولهذا أمر الناس بسب الصحابة، وأن يكتب ذلك على حيطان المساجد
والمقابر والشوارع!
أخزاه الله! أهي رواية تمثيلية يلصق الإعلان عنها في كل مكان؟ لو سمع لسمع المساجد والمقابر والشوارع تقول: أخزاه الله. . .!
المجلد الرابع
هذا الفاسق لا يركب إلا حماراً أشهب يسميه: (القمر)، وقد جعل نفسه محتسباً لغاية خبيثة؛ فهو يدور على حماره هذا في الأسواق ومعه عبد أسود، فمن وجده قد غش أمر الأسود فـ. . .! ووقف ينظر ويقول للناس: انظروا. . .! ومن غلبة الفسوق على نفسه وعلى شيعته أن داعيته (حمزة بن علي) نوه بالحمار في كتابه وأومأ إليه بالثناء، لخصال: منها أن. . .! وكتب حمزة هذا في بعض رسائله: أن ما يرتكبه أهل الفساد بجوار البساتين التي يمر بها (الفاسق) من المنكر والفحشاء - إنما يُرتكب في طاعته. . .!
هذه طبيعة كل حاكم فاسق ملحد، يرى في نفسه رذائله عريانة فلا يكون كلامه وعمله وفكره إلا فحشاً يتعرى؛ وإن في هذا الرجل غريزة فسق بهيمية متصلة بطور الحيوان الإنساني الأول؛ فما من ريب أن في جسمه خلية عصبية مهتاجة، ما زالت تسبح بالوراثة في دماء الأحياء، متلففة على خصائصها حتى استقرت في أعصاب هذا الفاسق، فانفجرت بكل تلك الخصائص
ولست أرى أكثر أعماله ترجع في مردها إلا إلى طغيان هذه الغريزة فيه؛ فهو يحاول هدم الإسلام، لأنه دين العفة، ودين صون المرأة، يلزمها حجاب عفها إبائها، ويمنعها الابتذال والخلاعة، ويعينها أن تتخلص ممن يشتهيها ولو كان الحاكم. . . إنه يمقت هذا الدين القوي كما يمقت اللص القانون؛ فهو دين يثقل على غريزته الفاسقة، ولكل غريزة في الإنسان شعور لا مهنأ لها إلا أن يكون حراً حتى في التوهم؛ وهل يعجب السكير شيء أو يرضيه أو يلذه كما يعجبه أن يرى الناس كلهم سكارى، فينتشي هو بالخمر، وتسكر غريزته برؤية السكر
وما زال رأي الفساق في كل زمن أن الحرية هي حرية الاستمتاع، وأن تقييد اللذة إفساد للذة
المجلد الخامس
يزعم الطاغية أنه يعز قومه - وما أراه يعزهم - ولكنه يمتحن ذلهم وضعفهم وهوانهم على الأمم؛ فهو يتجزأ شيئاً فشيئاً منتظراً ما يتسهل مترقباً ما يمكن؛ وهو يرى أن أخلاقنا الإسلامية هي أمواتنا دفنوا أنسهم فينا؛ فمن ذلك يهدم الأخلاق ويظن عند نفسه أنه يهدم قبوراً لا أخلاقاً
ولقد سخر منه المصريون بنكتة من ظرفهم البديع، وجاءوه من غريزته فصنعوا امرأة من الورق الذي يشبه الجلد، وألبسوها خفها وإزارها، حتى لا يشك من رآها أنها آدمية، ثم وضعوا في يدها قصة وأقاموها في طريقه؛ فلما رآها عدل إليها وأخذ من يدها القصة وقرأها، فإذا فيها سب له ولآبائه، وسخرية من جنونه ورعونته المضحكة؛ فغضب وأمر بقتل المرأة؛ فكانت هذه سخرية أخرى حين تحقق أنها من الورق، وأخذته النكتة الظريفة بمثل البرق والرعد؛ فاستشاط وأمر عبيده من السودان بتحريق الدور لا ونهب ما فيها وسبي النساء والفجور بهن؛ حتى جاء الأزواج يشترون زوجاتهم من العبيد بعد أن طارت الزوبعة والسوداء في بياض الأعراض
اندلعت ثورة الفجور في المدينة، لا من العبيد، ولكن من الحيوان العتيق المستقر في هذا الطاغية
المجلد السادس
وهذه رعونة من أقبح رعوناته، كأن هذا الحيوان لا يحسب نساء لأمة كلها إلا نساءه، فيأمرهن بأمر امرأته، وكأن النساء في رأيه هن إلا استجابات عصبية تطلق وترد
إن لموجة الفسق في الغريزة الطاغية جزراً ومداً يقعان في تاريخ الفساق؛ فهذا الطاغية قد جزرت فيه الموجة، فأمر أن يمنع النساء من الخروج ليلاً ونهاراً، لا تطأ أرض المدينة قدم امرأة؛ وأمر الخفافين ألا يصنعوا لهن الأخفاف والأحذية؛ ولما علم أن بعض النساء خرجن إلى الحمامات هدم الحمامات عليهن!
ولو مدت الموجة في نفس الفاسق لفرض على النساء الخروج والاتصال بالرجال والتعرض للإباحة
إن الصلاح والفساد كلاهما فساد، ما لم يكن الصلاح نظافة في الروح وسمواً في القلب
المجلد السابع
يزعم الطاغية أنه سيهدم كل قديم، وإني لأخشى والله أن يأمر الناس في بعض سطوات جنونه؛ أن كل من كان له أب أو أم بلغ الستين فليقتله لتخلص الأمة من قديمها الإنساني. . .!
كأنه لا يعرف أنه إنما يتسلط على أيام معاصريه لا على التاريخ ويحكم على طاعة قومه وعصيانهم لا على قلوبهم وطباعهم وميراثهم من الأسلاف؛ فما هو إلا أن يهلك حتى ينبعث في الدنيا شيئان: نتن رمته في بطن الأرض؛ ونتن أعماله على ظهر الأرض إن هذا الرجل المسلط كالغبار المستطار، لا يكنس إلا بعد أن يقع. . .
ولقد رأى المأفون أن أكل الناس الملوخيا الخضراء والفقاع، والترمس والجرجير، والزبيب والعنب - هوى قديم في طباع الناس فنهى عن كل ذلك، لا يباع ولا يؤكل، وظهر على أن جماعة باعوا أشياء منها فضربهم بالسياط، وأمر فطيف بهم في الأسواق، ثم ضرب أعناقهم؛ كأن الذي يحمل الملوخيا الخضراء على رأسه ليبيعها يلبس عمامة خضراء. . .
أهذا - ويحه - تجديد في الأمة، أم تجديد في المعدة. . .؟
المجلد الثامن
لا يرضى الطاغية إلا أن يمحق روحانية الأمة كلها، فلا يترك شيئاً روحانياً يكون له في أعصاب الناس أثر من الوقار. وبمن يستظهر إذا محقت روحانية الأمة وأشرفت نزعتها الدينية على الانحلال؟ كأنه لا يعلم أن حقيقة الوجود لأمة من الأمم إنما تستمد من إيمانها بالمثل الأعلى الذي يدفعها في سلمها إلى الحياة بقوة، كما يدفعها في حربها إلى الموت بقوة؛ وكأنه لا يعلم أن التاريخ كله تقرره في الأرض بضعة مبادئ دينية
هذا الحاكم الأخرق هو عندي كالذي يقول لنفسه: لم أستطع أن أفتح دولة، فلأفتح دولة في مملكتي. . . لقد أمر بهدم الكنائس والبيع، حتى بلغ ما هدم منها ثلاثين ألفاً ونيفاً
أي مجنون أسخف جنوناً من هذا الذي يحسب النفوس الإنسانية كالأخشاب؛ تقبل كلها بغير استثناء أن تدق فيها المسامير. . .؟
سيعلم إذا نشبت حرب بينه وبين دولة أخرى، أنه كسر أشد سيوفه مضاء حين كسر الدين!
المجلد التاسع
هذه الطامة الكبرى؛ فلا أدري كيف أكتب عنها: لقد تطاول المجنون إلى الألوهية فادعاها وصار يكتب عن نفسه: باسم الحاكم الرحمن.!
لو كان أغبى الأغبياء في موضعه لاتقى شيئاً، لا أقول تقوى الدين والضمير، ولكن تقوى النفاق السياسي؛ فكان يحمل الناس أن يقولوا عنه:(أبانا الذي في الأرضين. . .!)
وإلا فأي جهل وخبط وأي حمق وتهور، أن يكون إله على حمار، وإن كان اسم حماره القمر!
المجلد العاشر
سيأخذه الله بامرأة؛ ولكل شيء آفة من جنسه، لقد بلغ من وقاحة غريزته أن ائتفك على أخته الأميرة (ست الملك)، ورماها بالفاحشة وهي من أزكى النساء وأفضلهن، واتهمها بالأمير (سيف الدين بن الدواس) وقد علمت أنها تدبر قتله، وأنها اجتمعت لذلك بسيف الدين. فسأمسك عن الكتابة في هذا المجلد، وأدع سائره بياضاً حتى أذهب إليهما فأعينهما بما عندي من الرأي، ثم أعود لتدوين ما يقع من بعد. . .
ورأيت أني اجتمعت بهما واطمأنا إلي، فأخذنا ندير الرأي: قالت الأميرة لسيف الدين فيما قالته: (والرأي عندي أن تتبعه غلماناً يقتلونه إذا خرج في غد إلى جبل المقطم، فإنه ينفرد بنفسه هناك!)
فقلت أنا: (ليس هذا الرأي ولا بالتدبير)
قالت: (فما الرأي والتدبير عندك؟)
قلت: (إن لنا علماً يسمونه (علم النفس)، لم يقع لعلمائكم، وقد صح عندي من هذا العلم أن الرجل طائش الغريزة مجنونها، وأن الأشعة اللطيفة الساحرة التي تنبعث من جسم المرأة، هي التي تنفجر في مخه مرة بعد مرة؛ فإذا خبت هذه الأشعة، وبطلت الغريزة - بطلت دواعي أعماله الخبيثة كلها وكف عن محاولته أن يجعل الأمة مملوءة من غرائز جسمه وشهواته لا من فضائلها ودينها. فلو أخذتم برأيي وأمضيتموه فإنه سينكر أعماله إذا عرضها على نفسه الجديدة، وبهذا يصلح ما أفسد، وتكون حياته قد نطقت بكلمتها الصحيحة كما
نطقت بكلمتها الفاسدة؛ فإذا. . .)
قال الأمير: (فإذا ماذا؟)
قلت: (فإذا خصي. . .)
فضحكت ست الملك ضحكة رنت رنيناً. قلت: (نعم إذا خصي هذا الحاكم. . .) فغلبها الضحك أشد من الأول ورمتني بمنديل لطيف كان في يدها أصاب وجهي فانتبهت وأنا أقوال (نعم إذا خصي هذا الحاكم. . .)
طنطا
عصر الخفاء في مصر الإسلامية
الحاكم بأمر الله
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
لبثت مصر منذ الفتح الإسلامي زهاء قرنين ونصف قرن ولاية خلافية، تتوارثها الخلافة أينما حلت؛ الخلافة العامة، فالأموية، فالعباسية. غير أن مصر كانت منذ الفتح تتبوأ بين الولايات الخلافية مركزاً ممتازاً؛ فقد اتخذت قاعدة لفتح إفريقية فالأندلس، وكان ولاتها الأوائل، ولاة لأفريقية؛ وكانت أيضاً، بموقعها الجغرافي، وأهميتها العمرانية مطمع الزعماء المتغلبين يرون فيها ملاذاً منيعاً للحركات الاستقلالية؛ فقد وليها فاتحها عمرو بن العاص ولايته الثانية من قبل معاوية، ولكنه جعل منها وحدة شبه مستقلة، وربما كان في اهتمام عمرو بالبقاء في ولاية مصر وسعيه لدى عثمان في تحقيق غايته، ثم اقتطاعها بعد ذلك من معاوية ثمناً لحلفه ومؤازرته ما يحمل على الاعتقاد بأنه لو ثابت لهذا القائد العظيم والسياسي البارع فرصة ملائمة لأنشأ بمصر لنفسه ولعقبه دولة أو خلافة مستقلة. ولما قام عبد الله بن الزبير بثورته على الخلافة الأموية ألفى في انتزاع مصر طعنة قوية يسددها لصدر الخلافة. ولما تألق نجم بني العباس وسحقت الخلافة الأموية في موقعة الزاب، فر مروان الثاني آخر الخلفاء الأمويين إلى مصر ليتخذها قاعدة للدفاع عن ملكه وتراث أسرته؛ ولعله لم يكن بعيداً عن التفكير في اتخاذ مصر بعد الشام معقلاً للخلافة الأموية وقاعدة لاسترداد تراثها الذاهب لو كتب له الظفر على مطارديه
ولما ضعف سلطان الدولة العباسية وتراخت قبضتها في النواحي، غدت مصر طعمة لطائفة من الحكام الأقوياء، يحكمونها باسم الخلافة، ولكن ينشئون بها دولاً مستقلة، لا تكاد تربطها بالخلافة أية روابط سياسية أو إدارية. وكان ابن طولون أول هذا الثبت من الحكام الأقوياء؛ قدم مصر والياً من قبل الخليفة المعتز سنة 254هـ (868م)، فلم يلبث أن استخلصها بعزمه وقوة نفسه، وأنشأ بها لنفسه ولعقبه دولة باذخة ترامت حدودها إلى شمال الشام؛ واستمرت مدى ربع قرن تنافس دولة الخلافة في السلطان والبهاء؛ فلما آنست
الخلافة أن الانحلال قد سرى إلى الدولة الفتية، بعثت جيوشها إلى مصر غازية، فاقتحمت مدينة القطائع عاصمة بني طولون، وقضت على تلك الدولة الزاهرة (292هـ - 904م) واستعادت الخلافة سلطانها على مصر عصراً آخر؛ بيد أن هذا السلطان لبث عرضة للانتقاض بين آونة وأخرى، وحاول ولاة أقوياء مثل تكين وابن كيغلغ أن ينتزعوها لأنفسهم في ظل الخلافة الأسمى؛ حتى كانت ولاية محمد ابن طغج الإخشيد، فاستطاع أن يقوم بمصر بمثل ما قام به ابن طولون، وأن ينشئ بها دولة قوية مستقلة شملت الشام والحرمين، واستمرت مدى ثلاثين عاماً (327 - 358هـ)
كانت مصر تتمتع إذاً بمركزها الممتاز بين ولايات الخلافة؛ وكان هذا المركز الخاص يجعلها قبلة مختارة لأطماع المتغلبين وذوي النزعة الاستقلالية من الولاة والحكام؛ ويرجع هذا المركز الممتاز إلى موقع مصر الجغرافي ونأيها عن مركز الخلافة العباسية، ثم إلى اتساعها وغناها، وكونها تصلح بمواردها الخاصة لأن تكون مركز مملكة مستقلة. ولم تخف على الفاطميين هذه الحقيقة يوم استطاعوا أن ينفذوا بدعوتهم إلى أفريقية، وأن ينشئوا بها دولتهم الأولى على أنقاض ملك الأغالبة، فاتجهوا بأنظارهم إلى مصر؛ وما كاد ملكهم يستقر بأفريقية، حتى بعث أبو عبيد الله المهدي أو خلفائهم جيوشه لافتتاح مصر، فاستولت على برقة والإسكندرية، ولكنها ارتدت أمام جيوش مصر وجيوش الخلافة (302هـ)؛ ثم غزت مصر ثانية، واستولت على الإسكندرية والفيوم، وأشرفت على عاصمة مصر، ولكنها ارتدت إلى المغرب كرة أخرى بعد حروب طاحنة مع جيوش الخلافة (307هـ)
واستطاعت مصر أن تظفر مدى حين، في ظل الدولة الإخشيدية، بقسط من الاستقرار والقوة، ولكن الخلافة الفاطمية الفتية لم تنبذ مشروعها في افتتاح ذلك القطر الشاسع الغنى، وبعث القائم بأمر الله ثاني الخلفاء الفاطميين جنده إلى مصر، فاستولوا على الإسكندرية مرة أخرى (332هـ)؛ وكانت الخلافة الفاطمية تشعر أنها، وهي في مركزها النائي بقفار المغرب تبقى بعيدة عن تحقيق غاياتها السياسية والمذهبية الكبرى، أعني مناوأة خصيمتها الدولة العباسية والعمل على تقويض دعائمها، وانتزاع زعامة الإسلام منها؛ وكانت مصر بتوسطها العالم الإسلامي، وبما اكتمل لها من أسباب الغنى والخصب، هي أصلح مركز لتحقيق هذه الغاية، وفيها دون غيرها تستطيع الخلافة الفاطمية أن تقيم ملكها السياسي على
أسس قوية باذخة. فلما سرى الوهن إلى الدولة الإخشيدية، رأى الفاطميون فرصتهم قد سنحت، وجهز المعز لدين الله الفاطمي حملة كبيرة لافتتاح مصر بقيادة مولاه وقائده أبي الحسين جوهر الصقلي، فسار إلى مصر، واستولى عليها بعد معارك يسيرة في شعبان سنة 358 (يوليه سنة 960)، وفي مساء نفس اليوم الذي تم فيه ذلك الفتح العظيم، وضع جوهر بأمر سيده المعز خطط مدينة جديدة هي القاهرة، ثم اختط الجامع الأزهر بعد أشهر قلائل، وأعدت المدينة الجديدة لتكون منزل الخلافة الفاطمية، وقاعدة ملكها السياسي، كما أعد الجامع الجديد (الأزهر) ليكون منبراً للدعوة الفاطمية ورمزاً للإمامة الجديدة
وهكذا تحقق مشروع الخلافة الفاطمية في افتتاح مصر؛ ومنذ السابع من رمضان سنة 362هـ (منتصف يونيه سنة 973) وهو تاريخ مقدم المعز لدين الله إلى مصر، تغدو القاهرة منزل الخلافة الفاطمية، بدلاً من رقادة والمهدية، وتغدو مصر معقل الخلافة الفاطمية وملاذها بدلاً من المغرب. فلم تكن مصر للفاطميين غنماً سياسياً فقط، ولكنها غدت أيضاً معقلاً للدعوة الشيعية التي لبث بنو العباس يطاردونها زهاء قرنين، والتي بدأت ظفرها السياسي بافتتاح المغرب؛ وكانت الدولة الفاطمية منذ قيامها بمصر تحتفظ بنفس الصبغة المذهبية التي اتشحت بها منذ قيامها بالمغرب، وكانت هذه الصبغة المذهبية الخاصة عنصراً من أهم عناصر الخصومة السياسية التي نشبت بين الدولتين العباسية والفاطمية؛ فالفاطميون الذين يرجعون نسبهم إلى فاطمة وعلي يختصون خلافتهم بالصفة الشرعية، ويعتبرون الدولة العباسية وريثة الدولة الأموية غاصبة للإمامة والخلافة اللتين اغتصبهما من قبل بنو أمية من علي وأبنائه، ويتخذون من هذا المبدأ دعامة لملكهم السياسي؛ فهم حسب دعواهم أبناء فاطمة بنت الرسول، وورثة علي وعقبه الشرعيين في إمامة المسلمين وخلافتهم
وهنا تعرض نقطة دقيقة. من هم في الواقع أولئك الفاطميون؟ وهل يرجع أصلهم حقاً إلى فاطمة وعلي؟ هذه مسألة يحيط بها الخفاء والغموض، ولم يقل فيها التاريخ كلمته الحاسمة؛ وقد لبثت مدى عصور موضع الخلاف والجدل في العالم الإسلامي والرواية الإسلامية؛ ففريق من العلماء والمؤرخين يؤيد الفاطميين في دعواهم وفي شرعية إمامتهم؛ ويرجع نسبة إمامهم ومؤسس دولتهم عبيد الله المهدي إلى الحسين بن علي وفاطمة. ولكن فريقاً
آخر ينكر عليهم هذه الدعوة ويرى أنهم أدعياء لا يمتون بأية صلة إلى علي، وأنهم إنما استتروا بالتشيع والإمامة ليكسبوا عطف العالم الإسلامي. ويرجع هذا الفريق المنكر نسبة الفاطميين إلى عبد الله بن ميمون القداح بن ديصان البوني، وهو فقيه وافر الذكاء والمعرفة من الأهواز يرجع إلى أصل مجوسي، وداعية من أعظم الدعاة السريين الذين عرفهم التاريخ؛ وقد كان يدعو سراً إلى مذهب فلسفي إلحادي لإنكار الأديان والنبوة ساغه في سبع دعوات سرية ينتهي الداخل فيها إلى إنكار جميع العقائد والشرائع، ومنها استمدت دعوة القرامطة وبعثت ثورتهم الإباحية المروعة؛ وكان يستتر بالتشيع ويدعو لإمام من آل البيت هو محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق من ولد الحسين بن علي؛ فلما توفي قام بدعوته السرية ولده أحمد، ومن بعد أحمد ولده الحسين فأخوه سعيد؛ واستقر سعيد بسلمية من أعمال حمص واستمر في نشر الدعوة وبث الدعاة حتى استفحل أمره وأمر دعوته، وحاول الخليفة المكتفي بالله أن يقبض عليه وأن يخمد دعوته ففر إلى المغرب؛ وبشر له هناك دعاته وقاتلوا من أجله حتى ظفر بملك الأغالبة وتلقب بعبيد الله المهدي، وادعى أنه من آل البيت وانتحل إمامتهم. ويقدم إلينا فريق آخر من المنكرين عن أصل عبيد الله رواية خلاصتها أن الحسين حفيد عبد الله بن ميمون هو الذي استقر بسلمية، وكانت له زوجة يهودية رائعة الحسن تزوجها بعد أن مات عنها زوجها الأول وهو يهودي ولها منه ولد فائق الذكاء والظرف، فتبناه الحسين وعلمه وأدبه ولقنه أسرار الدعوة، وتقدم إلى أصحابه بخدمته وطاعته، وزعمأنه هو الإمام، وهو الوصي؛ وانتحل له نسباً في ولد علي، فكان هو عبيد الله المهدي. وهنالك أيضاً من يقول إن عبيد الله هو ولد الحسين من زوجه اليهودية؛ وهنالك روايات وتفاصيل أخرى لا يتسع لها المقام
وهذا الجدل حول نسب الفاطميين، والطعن فيه وفي شرعية إمامتهم ومبادئهم يشغل فراغاً كبيراً في الكتب المذهبية؛ ونحن ممن يميل إلى الأخذ برواية المنكرين، ولا نجد في تدليل المؤيدين وشروحهم ما يلقي ضياء مقنعاً؛ وكان هذا الطعن سلاحاً في يد الدولة العباسية تشهره للنيل من الفاطميين وتشويه سمعتهم في العالم الإسلامي؛ وقد اتخذ قبل بعيد صبعة سياسية رسمية؛ ففي سنة 402 هـ في عهد الخليفة القادر بالله، أصدر بلاط بغداد محضراً رسمياً موقعاً عليه من كبار الفقهاء والقضاة، وبعض زعماء الشيعة، يتضمن الطعن في
نسب الفاطميين خلفاء مصر، وأنهم ليسوا من آل البيت، بل هم ديصانية ينتسبون إلى ميمون ابن ديصان، بل إنهم كفار زنادقة، وفساق ملاحدة، أباحوا الفروج، وأحلوا الخمور، وسبوا الأنبياء، وادعوا الربوبية. وفي سنة 444هـ، كتب ببغداد محضر آخر يتضمن نفس المطاعن؛ وزيد فيه أن الفاطميين يرجعون إلى أصل يهودي أو مجوسي. ونلاحظ أن الوثيقة الأولى صدرت من بلاط بغداد، وفي عهد الحاكم بأمر الله، وقد كان في تصرفاته وفي ظروف عصره، ما يصلح مادة غزيرة لهذه المطاعن
- 2 -
كانت مصر غنماً يسيراً للدولة الفاطمية الفتية، ولكنها كانت أسطع جوهرة في تاجها، وأعظم قطر في تلك الإمبراطورية الشاسعة التي أصبحت تسيطر عليها. ولقد كان قيام هذه الدولة القوية الشامخة في مصر مستهل عصرها الذهبي، ومفتتح تلك العظمة وذينك البهاء والبذخ التي نثرتها من حولها وطبعت بها حياة مصر العامة عصراً مديداً؛ وكانت مصر بخصبها ونعمائها وفيض مواردها أعظم دعامة في إقامة هذا الصرح الباذخ الفخم؛ فالعصر الفاطمي من أسطع عصور مصر الإسلامية إن لم يكن أسطعها جميعا؛ غير أن هذا العصر الذهبي الوهاج يبعث إلى كثير من التأمل، فبينا نراه وضاء واضحاً في بعض النواحي، إذ نراه في البعض الآخر مظلماً مغلقاً، وإذا هذه الخلافة القوية الساطعة يكتنفها كثير من الخفاء والغموض والريب، وإذا تتبدى لنا في هذا الصرح البراق ثغرات سود لا نستطيع أن نسبر غورها أو نظفر بقراراتها؛ ويشتد هذا الخفاء والغموض بالأخص كلما حاولنا أن نستعرض من هذا العصر نواحيه الدينية والمعنوية، فهنا تبدو من آن لآخر ظلمات يصعب استجلاؤها. على أننا سنحاول مع ذلك أن نستعرض من العصر الفاطمي فترة ربما كانت أشده خفاء وغموضاً، وربما كانت مع ذلك أدعى إلى الاهتمام والدرس، لما تعرضه لنا من حوادث وظرف وخواص مدهشة، ولما تسفر عنه أحياناً من الحقائق والأسرار الغريبةالتي تلقي شيئاً من الضياء على روح السياسة الفاطمية الدينية والمدنية، وعلى حقيقة وجهاتها وغاياتها
نريد بذلك عصر الحاكم بأمر الله أغرب وأغمض شخصية في تاريخ مصر الإسلامية
قدم المعز لدين الله (تميم أبو معد) إلى مصر بجيوشه وأمواله وعصبته في السابع من
رمضان سنة 362هـ (منتصف يونيه سنة 973) بعد أن أنشئت العاصمة الجديدة (القاهرة) وأعدت لنزوله، واستتب النظام، وتوطد الملك الجديد، وتلقى المعز ملك الشام كما تلقى ملك مصر على يد قائده جعفر بن فلاح، ودعا له بنوحمدان في حلب، فكانت مملكته الشاسعة تمتد من أواسط المغرب إلى شمال الشام؛ ولكن فورة القرامطة كانت تهدد ملكه الجديد في مصر والشام، وكان القرامطة قد زحفوا على مصر بالفعل في أوائل سنة 361، ونشبت بينهم وبين جيوش المعز بقيادة جوهر معارك هائلة على مقربة من الخندق (بجوار القاهرة) انتهت بهزيمتهم، ولكنهم ارتدوا عندئذ نحو الشام فافتتحوها من يد ابن فلاح نائب المعز، ثم زحفوا على مصر كرة أخرى، فلقيتهم جيوش المعز على مقربة من بلبيس، وهزمتهم هزيمة ساحقة (أواخر سنة 363هـ). وفي العام التالي خاضت الجيوش الفاطمية في الشام معارك شديدة ضد أفتكين المتغلب على دمشق وحلفائه البيزنطيين؛ وفي الوقت نفسه غلبت الدعوة الفاطمية على الحجاز ودعا للخليفة الفاطمي على منابرها
وتوفى المعز في 14 ربيع الثاني سنة 365هـ (ديسمبر سنة 975م)، فخلفه ولده العزيز بالله (أبو منصور نزار)، ولبث في الخلافة زهاء إحدى وعشرين سنة. وفي أول عهده زحف القرامطة وحليفهم أفتكين على مصر، فلقيهم العزيز في فلسطين وهزمهم بعد حرب شديدة وأسر أفتكين (368هـ) وفي أيامه استردت دمشق، وافتتحت الجيوش الفاطمية حمص وحماه وحلب وخاضت مع البيزنطيين معارك عديدة كان النصر حليفها فيها؛ ودعا للعزيز في الموصل واليمن، واتسع بذلك نطاق الدعوة الفاطمية اتساعاً عظيماً. ثم توفي العزيز في 28 رمضان سنة 386 هـ (سبتمبر سنة 996م) في بلبيس حيث كان يعتزم السير بعساكره إلى الشام؛ فخلفه يوم وفاته ولده وولي عهده أبو علي منصور، ولقب بالحاكم بأمر الله، وكان العزيز قد استدعاه إليه في مرض موته؛ وفي اليوم التالي سار الحاكم إلى القاهرة ومعه جثة أبيه، فدخلها في موكب فخم مؤس معاً
للبحث بقية
محمد عبد الله عنان
المحامي
كيف نبعث الأدب
وكيف نترواه للأستاذ عبد العزيز البشري
تتمة
أين أدبنا الصريح؟
لقد تعرف أن الأدب الحق لكل أمة هو الذي يشاكل حضارتها، ويكافئ ثقاتها، ويواتيها في جميع أسبابها، ويترجم في صدق ويسر عن عواطفها، وينفض ما يعتلج في الصدور من ألوان الشعور والإحساس. ولقد تعرف أن الأمم كما تختلف في ألوانها وفي ألسنتها وفي أخلاقها وعاداتها وغير أولئك، فإنها تختلف كذلك في شعورها وفي أذواقها ومنازع عواطفها. ومهما تختلف في أفراد الأمة الواحدة هذه العواطف بالقوة والضعف، والرقة والجفاء، وغير ذلك من وجوه الاختلاف، فإنها ترجع إلى اصل واحد، وتندرج تحت جنس واحد، على تعبير أصحاب المنطق، وذلك لأنها أثر من أثار الإرث، والبيئة، والعادة، والتاريخ، وما يتردد عليه النظر من صور الطبيعة، وغير ذلك. كما أن لنوع الثقافة ومبلغ حظ الأمة منها أثره البعيد أو القريب في هذا الباب
ومهما يكن من شيء فان لون العواطف الشائع في كل أمة ليس بالشيء الذي يستعار استعارة، ولا بالذي تتناقله الأمم كما تتناقل العلوم وفنون الصناعات مثلا. وكيف له بهذا وقد رأيت أن أبلغ عناصره مما لا يدرك بالكسب ولا بالاختيار، إن هو إلا حكم الطبيعة وما من حكم الطبيعة مناص!
وأحسب أننا، بعد التسليم بهذا، في غير حاجة إلى أن نبعث الأدلة على أن ما يترجم عن عواطف قوم ويصور من حسهم الباطن قد لا يؤدي هذا لغيرهم، وأن ما يستقيم من البيان لأذواق خلق من الناس لقد ينشز على أذواق معشر آخرين. على أنه قد تشترك العاطفة والذوق كلاهما في معنى من المعاني وحينئذ يصدق البيان
وعلى هذا فانه مهما نسرف في مطالعة أدب الغرب والتروي منه، ومهما نجهد في محاكاته وتقليده، فانه لن يكون لنا أدباً في يوم من الأيام، اللهم إلا أن تنقلب أوضاع الطبيعة، فان الأمم لا تطبع على غرار الآداب، بل إن الآداب لهى التي تطبع على غرار الأمم!
لقد نكون في حاجة ولقد تكون هذه الحاجة شديدة جداً إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب، ولكن ليس معنى هذا أن نتخذها آداباً لنا. فذلك، كما علمت، عبث لا يغني ولا يفيد
والآن نلتمس أدبنا باعتبارنا عرباً أو مستعربين نعيش في مصر، مأخوذين بثقافتها القائمة، وموصولين بتاريخها القديم. إننا نلتمس هذا الأدب الذي يوحي به إلينا تاريخنا العربي من ناحية، وتاريخنا المصري من الناحية الأخرى. هذا الأدب الذي تلهمنا إياه أخلاقنا وعاداتنا وثقافتنا، ويسويه لنفوسنا العيش في وادي النيل. إننا نلتمس هذا الأدب الذي يفيض بما تجيش به عواطفنا، ويصدق في الترجمة عما يعتلج في نفوسنا، ويصور دخائل حسنا أكمل تصوير، ويعبر عنها أدق تعبير. وإن شئنا الكلمة الجامعة قلنا إننا نلتمس الأدب القومي فلا نصيب أثره إلا قليلاً فيما يخرج لنا من آثار الأدباء والمتأدبين!
اللهم إن فينا أدباء جروا من العربية على عرق، وأحرزوا صدراً من بديع صيغها، وتفتحت نفوسهم لمنازع بلاغاتها، واستظهروا الكثير من روائعها فيما نظم متقدمو شعرائها وما أرسل المجلون من كتابها. على أن أكثر هؤلاء، والشعراء منهم على وجه خاص، إذا اجتمع أحدهم لحديث العاطفة لم ينفض ما يحس هو وما يشعر، وإنما تراه يترجم عما كان يجده السلف الأقدمون من مئات السنين، لأنه جعل كل همه إلى المحاكاة والتقليد ليخرج شعره عربياً لا شك فيه، وهؤلاء يتناقص عديدهم على الزمان حتى أشفى فنهم على الزوال
وهناك شباب لم يبلغوا حظاً مذكوراً من العربية، ولعل من بلغ منهم حظاً منها لم يعن ولم يكترث لها، وهؤلاء أقبلوا على أدب الغرب فجعلوا يحاكونه ويترسمون آثاره، فيستحدثون أخيلة لم تتراء لأحلامهم، ويسوون صوراً لم تتمثل لخواطرهم، ويريقون عواطف لم تترقرق في نفوسهم، ويفصدون أحاسيس لم تجش قط في صدورهم. وتراهم يستكرهون هذه الأمشاج من المعاني على نظام ليس فيه من العربية إلا مفردات الألفاظ، يشد بعضها إلى بعض بمثل قيود الحديد برغم تنافرها وتناكرها بحيث لو أطلقت من إسارها لتطايرت إلى الشرق والغرب ما يلوي شيء منها على شيء! فيخرج من هذا ومن هذا كلام لا يستوي للطبع، ولا يستريح إليه الذوق، ولا يخف للتعلق به الخيال! وكيف له بشيء من هذا ولم ينتصح به طبع، ولا رهف له حس، ولا تحركت به عاطفة، ولا انبعث إليه من
نفسه خيال! فهو أدب مصنوع مكذوب على كل حال بل إن هناك شباباً لم يحذقوا شيئاً من لغات الغرب، ولم يظهروا فيها على شيء من آداب القوم، ولكن لقد تعاظمتهم صنعة أولئك فراحوا هم الآخرون يشاكلونها ويحذون جاهدين حذوها ليضافوا هم كذلك إلى جمهرة (المجددين)، وما التجديد في شرعة أكثر هؤلاء إلا الإتيان بالغريب الشامس في نظمه وفي صوره وأخيلته ومعانيه! وإذا كان هذا اللون من البيان مما يصح أن ينتسب إلى أي أدب من الآداب، فانه مما لا يصلح لنا على أي حال!
وإن مما يضاعف الإساءة ويزيد في الألم أن يقبل الناشئون من طلبة المدارس على هذا اللغو فيتخذوا منه نماذج يحتذونها إذا شمروا للبيان، ولن يجشمهم التجويد والبراعة فيه جليلاً من جهد ولا مشقة، لأن قسر أي معنى على أي لفظ، وتسوية الخيال في أية صورة، وليس مما يعي جهد المرء ولا مما يعتريه بالمشاق. ومن هنا يشيع ارخص الآداب، أو أنه ينذر بالشيوع في هذه البلاد! ولو قد ترك في مذهبه هذا لطغى أشد الطغيان ما تغني في صده جهود الأعلام من الأدباء وحينئذ يكتب على مصر أن تعيش من غير أدب أو تعيش بهذا الأدب المنكر الشائه الذي لا نسب له مدة طويلة من الزمان!
الأدب القومي
إذن لا مفر لنا من أن نلتمس أدبنا القومي. ولا يكون هذا الأدب إلا عربي الشكل والصورة، مصري الجوهر والموضوع. وإذن فقد حق علينا أن نبعث الأدب العربي القديم، وننثل دواوينه، ونستظهر روائعه، ونتروى منها بالقدر الذي يفسح في ملكاتنا، ويقوم السنتنا، ويطبعنا على صحيح البيان. فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يتصل بالآداب، بوجه خاص. أطلقنا القول في صيغة عربية لا شك فيها، على ألا نطلب بها إلا الترجمة عما يختلج في نفوسنا، ويتصل بإحساسنا، ونصور بها ما نجد مما يلهمه كل ما يحيط بنا، وما يعترينا في مختلف أسبابنا من فكر ومن شعور ومن خيال
ولقد قدمت لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جداً إلى مطالعه آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها. ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب. وهذا أمر لا شك فيه ولا غناء لنا عنه، فان ذلك مما يهذب من ثقافتنا، ويفسح في ملكاتنا، ويرهف من حسنا، ويهدينا إلى كثير من الأغراض التي تشتعبها آداب الغرب في هذا
العصر. والواقع أننا تهدينا من آداب الغرب إلى فنون لم يكن لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سلفنا ولكن لم يكن حظهم منه جليلاً. ومن أظهر هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ومذاهب النقد الحديث!
على أن شيئاً من ذلك الأدب الأجنبي لا يجدي علينا، ولا يؤدي الغرض المقسوم بمطالعته والإصابة منه إلا إذا هذبناه وسوينا من خلقه ولونا من صورته حتى يتسق لطباعنا ويوائم مألوف عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا. كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في نظام من البلاغة العربية محكم التنضيد، فلا نحس فيه شيئاً من نبو ولا نشوز. وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونرفع من شأنه درجات على درجات
وليس هذا الذي نرجوه لأدبنا بدعا في شريعة الآداب سواء في جديد الزمن أو في قديمه. فقد كان الأدباء وما برحوا إلى اليوم يعتمدون الفكرة البديعة، والمعنى السامي، والخيال الطريف المنسجم، ويصيبونه في لغي أجنبية، فلا يزالون به يطامنون منه لأذواقهم، ويروضونه لأساليب لغاهم، حتى يجلوه فيها من غير عسر ولا استكراه. وان تصرف المتقدمين من أقطاب البيان العربي فيما شكوا من ألوان المعاني في اللغات الأجنبية لمن أصدق الدليل على صحة هذا الكلام. وهل رأيت إلى ابن المقفع لو لم يجئك أنه ترجم كتابه (كليلة ودمنة) عن إحدى اللغات الهندية. أفكان يتسرح بك الشك في أنه عربي الأصل والمنجم، عربي الحلية والنسب؟ اللهم إن تسوية المترجم لما ينقل إلى لغته، وطبعه على ما يواتي أحلام معشره، ويسوغ في أذواقهم، وينزع منازع بلاغاتهم، ليس مما يقدح في كفايته، بل إنه لما يرفع من قدره ويغلى من تصرفه. وكيف لا وهذا القرآن الحكيم لقد حدثنا عن عشرات من الأمم، كانوا ينطقون في الأعجمية لغات متفرقة، ونقل إلينا كثيراً من أحاديثهم ومقاولاتهم ومحاوراتهم ومجادلاتهم، فما أداها إلا في أعلى العربية الخالصة، بل في العربية البالغة حد الاعجاز، وهل بعد بلاغة القرآن بلاغة، وهل وراء بيان الكتاب العزيز بيان؟!
وصفوة القول أنه لا يعيب اللغة أو يغض من شأنها أن تصيب من بلاغات غيرها على أن تسيغه وتهضمه وتسويه حتى ينتظم في سلكها، ويتصل بخلقها، ويوسع في مادتها، ويضاعف ثروتها، لا أن يقسر عليها قسراً ويستكره لها استكراهاً، فينكر صورتها ويشوه من خلقها على ما نرى من صنع كثير يعربدون في الأدب العربي باسم (التجديد) في هذه
السنين!
كيف نعلم الأدب:
ولا شك في أن الينبوع الأول الذي يرده النشء لينهلوا من فنون العربية ويترووا آدابها ويستشعروا بلاغتها، وينبعثوا لترسمها إذا هم أقبلوا على البيان، هو معاهد التعليم على وجه عام، فإذا هي جدت في مهمها وأخذت من بين يديها من التلاميذ بما ينبغي أن يؤخذوا به من أساليب التعليم والتمرين، كان لنا في هذا الباب كل ما نريد
وإذا كان الأدب كسائر الفنون إنما يبرع المرء فيه بالاستعداد الفطري مع الكلف به وشدة الاقبال عليه وطول التمرين فيه بأكثر مما يحرز بالتعليم والتلقين، فان مما لا يعتريه الريب أن للأستاذ، وخاصة في ابتداء العهد بالطلب، أثراً بعيداً في تعليم أصول الفن وبيان حدوده، وإعلام طريقه بين يدي الطالب، وتهذيبه بطول التعهد، وتوسيع ملكاته بألوان الملاحظة، وإسلاس الإجادة له بفنون التدريب والتمرين. ولعمري لو قد أخذ الأساتيذ تلاميذهم بهذا الأسلوب في تعليم الأدب العربي لأحبوه وكلفوا به وانبعثوا من تلقاء أنفسهم لمراجعته في أوقات فراغهم، وإمتاع النفس بتسريح النظر في بدائعه. وكذلك تصبح مطالعة الأدب رياضة يطلب بها الترفيه والاستجمام إذا لحق الكد، وأجهدت المطاولة في طلب العلم. وسرعان ما تستقيم الطباع، وتدرك الملكات، ويجري صادق البيان في الأعراق مجرى الدماء
أما إذا حصب التلاميذ بالقواعد جافة لا يترقرق فيها ماء البيان صافياً، وقنع الأساتذة بأن يلقوا إليهم قطعاً من الشعر أو النثر ليحفظوها دون أن يوصل بين نفوسهم وبين ما تحوي من ناصح البلاغة، فقد استثقلوا الدرس وكرهوه وبرموا به، وتجرعوه تجرعاً إشفاقاً من العقوبة أو من التخلف إذا كان الامتحان! وإني لأكره أن أقول إن إقبال كثرة التلاميذ على هذا الأدب الرخيص الذي يخرج في العامية حيناً، وفي تلك العربية المنكرة الشائهة أحياناً، وتهافتهم عليه، وافتتانهم به، وأخذ الأقلام بمحاكاته وترسمه، إنما هو أثر من آثار ذلك البرم والاستثقال لدروس العربية وآدابها في معاهدنا المصرية!
والآن فالرأي في قيام أدبنا القومي وفي لغة الكتاب العزيز إلى أساتيذ المدارس، وإلى وزارة المعارف، فلننظر ما هم فاعلون!
عثرة ورجاء:
بقيت هنالك مسألة لا يجمل بنا أن نختم هذا المقال دون أن نعرض لها بشيء من البيان: يقولون إن اللغة العربية فقيرة، أو إنها أصبحت فقيرة بحيث لا تستطيع أن تؤدي بعض مطالب الحياة في هذا العصر إلا في شدة عسر وحرج، ولا تستطيع أن تؤدي بعضها أبداً. وهذا كلام، على أنه لا يخلو من الحق، فانه لا يخلو من الإسراف إلى حد بعيد. إذ الواقع أن اللغة العربية غنية سخية بالكثير مما يواتي مطالب العاطفة، ويصور نوازع الشعور أحسن تصوير. فلقد بلغ المتقدمون من شعراء العربية في هذا الباب ما لا أحسب أن قد برعهم فيه كثير من أصحاب البيان في اللغات الأخرى. ولو قد نفض متكلفو الأدب دواوين أولئك الشعراء وفروا ما أجنت من قصائد ومقطوعات لخرج لهم من ذلك ما يبلغهم جليلاً من تصوير مختلف العواطف والتعبير عن خفيات الحس والشعور. وهذا، لو علمت، أجل مطالب الأدب في جميع اللغات. وحبذا لو أكثر الأساتيذ من عرض هذه الأشعار على تلاميذهم، وتقدموا إليهم الفنية بعد الفنية بالحديث في الموضوعات الإنشائية، عن الحس والعاطفة في مختلف الأسباب، واستدركواعليهم ما عسى أن يكون قد أخطأهم في ذلك من ناصح البيان
على أن هناك عقبة أخرى تحتاج إلى جهد في التذليل، وهي أنه في ركود لغة العرب بانقباض حضارتهم، عقد ما لا يكاد يحصره العدد من الاصطلاحات العلمية والفنية، واستحدثت أشياء كثيرة جداً في جميع وسائل الحياة، سواء منها الضروريات والكماليات. ولا شك في أن إصابة هذه الأشياء في لغاتها إفساد للعربية واستهلاك لها. كما أنه لا معنى للالتفات عنها إلا الإعراض عن هذه الحضارة العريضة، بل الإعراض عن أكثر ما نجده وما نعالجه في هذه الحياة. وهذه العقبة تقوم الآن على تذليلها جهود أفاضل الأدباء من جهة، والمجمع الملكي للغة العربية من جهة أخرى، بالغوص عما يدل على ذلك في مجفو العربية سواء بأصل الوضع أو بالطرق الفنية الأخرى
ولقد يكون من المفيد في هذا المقام أن ننبه حضرات رجال هذا المجمع أن الاكتفاء بإثبات ما يتسق لهم من المصطلحات والألفاظ في معجم جامع أو نشرها في كراسات دورية ليس مما يجدي كثيراً في إصابة الغرض المقسوم، فقد ثبت، بحكم التجربة، أن أبلغ الوسائل في
شيوع الألفاظ والصيغ المستحدثة أو المبعوثة من جاثم اللغة، وكثرة دورانها على الألسن والأقلام، هي استعمال كبار الشعراء والكتاب لها، وترديدها فيما تجليه الصحف السائرة لهم من الآثار، فحبذا لو سعى إلى هذا أولياء اللغة، وخاصة فيما يتصل، مما يستظهرون، بالفنون والآداب
نسأل الله تعالى أن يهدي الجميع سواء السبيل
عبد العزيز البشري
موسى بن ميمون
وعقدة الاتصال بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية
بمناسبة ذكراه المئوية الثامنة
للدكتور إبراهيم مدكور
موسى بن ميمون، هو فيلسوف الأندلس ومصر في القرن الثاني عشر، وأحد كبار حكماء بني إسرائيل الذين خلدوا أسماءهم بما خلفوا من كتب وآراء. ولد بقرطبة في الثلاثين من شهر مارس سنة 1135؛ وتوفي بالقاهرة سنة1204. تنقل بين مراكش وفلسطين؛ إلا أنه قضى بمصر جزءاً عظيما من حياته، فعاش بها سبعاً وثلاثين سنة يدرس الفلسفة والطب، ويشغل كرسي الحاخام. فكان بذلك وليد الحياة العقلية الإسلامية، وتلميذ المدرسة العربية التي أثرت فيه تأثيراً عظيما. وليس ثمت من مثل أوضح لهذا التأثير من كتابه (دلالة الحائرين)، تلك المرآة الناصعة والصادقة في أغلب الأحيان، التي تعكس علينا في تفصيل ودقة تاريخ شطر كبير من الأفكار الدينية والفلسفية الإسلامية
لا أحاول في هذه الكلمة القصيرة أن أبين الصلة بين فلسفة ابن ميمون وفلسفة الإسلام، أو إن شئت بين هذه والفلسفة اليهودية عامة في القرون الوسطى، والتي يمثلها رجلنا أصدق تمثيل؛ فقد تصديت لهذا الموضوع في بحث حديث العهد، وأثبت ببراهين لا تدع مجالاً للشك أن ما يصح أن نسميه فلسفة يهودية إنما هو امتداد طبيعي للدراسات الإسلامية. ولقد كتب في هذا من قبل مؤرخين متعددون على رأسهم رينان. وإنما أريد فقط أن أوضح نقطة لم يوفها الباحثون حقها، لم يتنبهوا إلى أهميتها التاريخية: ألا وهي الدور الذي لعبه ابن ميمون في نشر الفلسفة والأفكار الإسلامية في العالم الغربي. لم يكتف مفكرو اليهود باعتناق آراء فلاسفة الإسلام ونظرياتهم، بل عملوا على نقلها إلى المدارس المسيحية؛ فوصلوا الشرق بالغرب، وربطوا حلقات التاريخ بعضها ببعض. وفضلهم في هذا الصدد أوضح من أن ينوه عنه؛ وحسبنا دليلاً ما صنعوا ببعض الكتب الفلسفية التي فقد أصلها العربي، ولم يبق لنا منها إلا المترجمات العبرية واللاتينية. فابن رشد مثلا تتعذر علينا دراسته إن وقفنا عند مؤلفاته العربية التي وصلت إلينا؛ ويكاد يكون أعرف إلى قراء
العبرية اللاتينية منه إلى قراء العربية. وعلى الجملة فاليهود الذين تتلمذوا على العالم العربي، وانتشروا في كبار العواصم الأوربية يعدون بحق عقدة الاتصال بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية
لم يكن ابن ميمون بالناقل أو المترجم؛ بيد أن كتابه (دلالة الحائرين) كان من أول ما ترجم إلى اللاتينية في الدائرة الفلسفية والعلوم الدينية. ليس في مقدورنا أن نحدد بالدقة تاريخ ولا صاحب أول ترجمة لاتينية لهذا الكتاب؛ وكل ما يمكن تعيينه أن هذه الترجمة سابقة لمنتصف القرن الثالث عشر الميلادي: ذلك لأن و ; يرددان كثيراً اسم موسى بن ميمون؛ كما أن ، و ;
يشيران إلى (دلالة الحائرين) كمصدر أخذا عنه واعتمدا عليه. لم يكد هذا الكتاب يترجم إلى اللاتينية حتى أكب على دراسته كبار فلاسفة القرن الثالث عشر الذين ذكرنا بعض أسمائهم. فأفادوا منه كثيراً؛ وكان عمدتهم في تعرف النظريات الإسلامية الهامة. ونستطيع أن نقول إن (دلالة الحائرين) أول وأشمل مؤلف درس فيه اللاتينيون الفلسفة العربية، وأنه قد عمل على نشر هذه الفلسفة بدرجة لا يعادله فيها كتاب آخر. نحن لا ننكر أن بعض مؤلفات الفارابي وابن سينا وحظاً وافراً من مؤلفات ابن رشد قد ترجم إلى اللاتينية، غير أن (دلالة الحائرين) كان أسبق من هذه المترجمات وأعظم شيوعاً. فأما الفارابي فما كان يعرفه إلا آحاد من فلاسفة الغرب، وإذا استثنينا لا نكاد نجد مؤلفاً قد أشار إلى اسمه في كتاب من كتبه. وأما ابن سينا فبرغم نفوذه العظيم لدى طائفة من علماء القرن الثالث عشر لم يكن بالمقرب إليهم قرب ابن ميمون؛ ولعل للفوارق الدينية أثراً في هذه الظاهرة. وأما ابن رشد فقد كانت خرافة إلحاده التي سادت أوربا في القرون الوسطى، والتي درسها (رينان) دراسة مفصلة سبباً في أن ينظر إليه بنظرة خاصة. على العكس من هؤلاء جميعا قد استطاع ابن ميمون بفصل كتابه (دلالة الحائرين) أن يمكن من نفوذ الفلسفة الإسلامية في المدارس الغربية عن طريق غير مباشر لا يشك فيه ولا يخشى خطره
ويجب أن نضيف إلى ما تقدم أن نقد هذا الحبر لبعض نظريات المتكلمين قد حببه، فيما يظهر، إلى الفلاسفة المسيحيين. فهو ينقض نظرية الجوهر الفرد ونظرية تعريف الله ونظرية الصفات الألهية بشكل يقربه من أرسطو بقدر ما يبعده عن علماء التوحيد
المسلمين. وقد كان لهذا النقض أثر واضح على كبار فلاسفة القرن الثالث عشر. ونظرة إلى مناقشة الجوهر الفرد تحملنا على أن نجزم بأنه اعتمد اعتماداً كبيراً على كتاب لابن ميمون؛ على أنه هو نفسه يعترف بذلك في صراحة تامة، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هذا الكتاب هو المصدر الوحيد الذي عرف منه الفلاسفة اللاتينيون نظرية الجوهر الفرد الإسلامية؛ فإنا لا نجد أي إشارة هامة متعلقة بهذه النظرية فيما ترجم إلى اللاتينية من كتب عربية أخرى. (فدلالة الحائرين) قد اختص إذاً بنقل بعض المسائل الإسلامية إلى المدارس الغربية في القرن الثالث عشر الميلادي لم يقف أثر هذا الكتاب في نشر الأفكار الإسلامية عند القرون الوسطى، بل جاوزها إلى العصور الحديثة. وذلك أنا نجد لدي واحد كاسيبنوزا أو كلابنتزا آراء كثيرة الشبة بآراء فلاسفة الإسلام. فنظرية النبوة عند الأول تشبه شبها عظيماً النظرية التي أخذ بها الفارابي؛ ومشكلة العناية ' عند الثاني لا تختلف كثيراً عما قال به ابن سينا من قبل. ربما يبدو غريباً أن نحاول إثبات علاقة بين مفكري الإسلام وهؤلاء الفلاسفة المحدثين؛ خصوصاً وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند القرون الوسطى؛ وما فكر واحد منهم، فيما أعلم، أن يدرس الصلة بين هذه الفلسفة وفلسفة العصور الحديثة. غير أنا نرى أن هذه الصلة جديرة بالبحث والدرس ومعتمدة على أسس تعززها، فقد عرف اسبينوزا كتاب (دلالة الحائرين) وعني به عناية خاصة، كما عرفه لايبنتز، وأثنى عليه ثناء كبيراً. فعلى ضوء هذا الكتاب نستطيع أن نحدد إلى أي مدى تأثر رجال العصور الحديثة بالأفكار الإسلامية. يخيل إلينا أنا أول من تنبه إلى هذه العلاقات التاريخية؛ وقد حققناها فيما يتعلق بنظرية النبوة. ونأمل أن يمعن الباحثون في هذه الطريق التي سلكناها كي يلقوا جزءا من الضوء على طائفة كبيرة من النقط الغامضة، ويخدموا في آن واحد القرون الوسطى والتاريخ الحديث. نحن لا نقول بأن الفلسفة الإسلامية قد أثرت تأثيرا مباشرا في الفلسفة الحديثة، ولكنا نلاحظ فقط أن هناك مواطن شبه بين الفلسفتين فلنعمل إذا على توضيحها وبيدنا كتاب (دلالة الحائرين) الذي ألف بلغة الإسلام وفوق أرضه وتحت سمائه؛ ثم نقل إلى أوربا فكان موضع تقدير المفكرين منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى اليوم
إبراهيم مدكور
دكتور في الأدب والفلسفة
حول الأوزاعي
للأستاذ أمين الخولي
المدرس بكلية الآداب وكلية أصول الدين
الأوزاعي الكاتب: تفسير النصوص التاريخية والاستنباط منها
اتفق وأنا قريب عهد بكتاب (أحسن المساعي، في مناقب الأمام أبي عمرو الأوزاعي) الذي نشره ونقحه وعلق عليه، وقدم له، الأستاذ الكبير الأمير شكيب أرسلان؛ أن وصلني العدد 89 من الرسالة الصادر في 18 مارس سنة 1935، وفيه مقال عن الأوزاعي لحضرة الأديب عبد القادر علي الجاعوني؛ فلما قرأته تبدت لي نواح من القول عن الأمام الأوزاعي؛ وعن مقال الرسالة فيه، وأحببت أن أحدث بها قراء الرسالة؛ لكنما أحب قبل الخوض في شيء من ذلك أن أرسل وراء البحار، على صفحات الرسالة الغراء، تحية وإجلالاً للأمير العربي الكبير الأمير شكيب أرسلان لصدق غيرته، وجليل خدمته للعروبة وأهلها علمياً وأدبياً واجتماعيا: تحية تقدير لحقه على الشرق والعرب؛ وإجلال لذكريات كريمة للأديب العالم الأمير، على تمادي الأيام، ونأي الديار
الاوزاعي الكاتب
اشتهر عند القدماء والمحدثين، أن الأوزاعي إمام فقيه مجتهد، صاحب مذهب، أو ما يتصل بذلك وينتهي إليه، فحسب، ولم يعرفه الأدباء ومؤرخو الآداب، من أصحاب الأقلام والناثرين المقتدى بهم في القرن الثاني الهجري، من جيل عبد الحميد الكاتب أو يكاد؛ لكن هناك ناحية أدبية، في الأوزاعي، له فيها تفوق خطير، وآثار ذائعة، ومشاركة فعلية في حياة النثر العربي الأولى، وتاريخ الرسائل؛ إذ يذكر مترجموه أنه كان بارعاً في الكتابة والترسل؛ وأنه كانت صنعته الكتابة والترسل فرسائله تؤثر وينقلون أنه كان من ذلك موضع الإعجاب والإكبار، إذ يروون أن كتبه كانت ترد على المنصور فينظر فيها، ويتأملها، ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها؛ بل كان في موضع الاحتذاء والتقليد، بل كان يقتبس رءوس الكتابة من قوله، ويأخذون عنه، ويتهيبون الإجابة عن رسائله؛ إذ يقول المنصور يوماً لأحظى كتابه عنده، وهو سليمان بن مخلد: ينبغي أن تجيب الأوزاعي عن
كتبه، فيقول: والله يا أمير المؤمنين لا يقدر أحد من أهل الأرض على ذلك وقال: لا على مثل كلامه ولا على شيء منه؛ وإنا لنستعين بكلامه نكاتب به إلى الآفاق، إلى من لا يعرف أنه كلام الأوزاعي. لكن فقه الشيخ طغى على أدبه، وأخمل ذكره فيه؛ حتى يقول الذهبي في طبقات الحفاظ بعد أن روى عن أبي زرعة الدمشقي أن الأوزاعي كانت صنعته الكتابة والترسل فرسائله تؤثر: قلت: هذا ناقلة سوى الفقه؛ وهكذا غلب الفقه الأدب على الرجل، كما غلبه على الشافعي من بعده؛ وكما لا تزال تهيئ تلك الغلبة ظروف الحياة، فتمضي بأدباء متفوقين إلى غير حرفة الأدب. لكنا لا ننصف حين نؤرخ الأدب فنتابع القدماء على اعتبار أدب الأوزاعي نافلة؛ ولا ننصف إذا أعطينا هذا العهد المبكر بنثره لعبد الحميد وابن المقفع وحدهما؛ ولا نتحرى درس الأوزاعي الأديب الناثر الممتاز إذ ذاك، ولا نعني بجمع آثاره في هذا، ولاسيما بعد ما نسمع قول المؤرخين أنهم عرفوا له كلاماً ومواعظ ورسائل كثيرة. فلعل الأدباء يعنون بجمع هذه الآثار وتتبعها؛ ولعل المؤرخين يعنون بدراسة أثر الرجل ومنزلته بين الأدباء الناثرين في هذا العصر. وفي سبيل هذا التعاون أشير إلى مواضع ذلك في الكتاب المنشور عنه؛ ففي الصفحات - 84، 120، 121، 136، كتب للأوزاعي. وفي - 87، 124، 137، مواعظ له؛ وفي - 138 وما بعدها كلمات له وحكم، ولعل الزمن يسعفني على المشاركة في شيء من ذلك الدرس
2 -
تفسير النصوص التاريخية والاستنباط منها
تاريخنا الفني والعلمي والاجتماعي لم يكتب بعد، إذ اتجهت عناية القدماء إلى التاريخ السياسي واستيفائه؛ فلم يتركوا إلا أصولا متفرقة عن التاريخ غير السياسي، وإن النهضة لتتقاضانا هذا الحق، سداً لذلك النقص البادي، ونحن في هذا العصر نحاوله في النواحي المختلفة، وننتفع بما كتبة المستشرقون فيه، ولكن المادة الحقيقية إنما هي تلك المتفرقات القديمة التي كتبها أهل ذلك الشأن، عن قرب ومباشرة، وبادراك صحيح لروح ما يؤرخون وحقيقته. وفي الرجوع إلى هذه المتفرقات نحتاج إلى تفسير النصوص التاريخية بعد فهمها على وجهها فهما صحيحا لنستنبط منها أحكامنا على العصور والرجال والأعمال؛ والمتصدون لهذه الدراسة التاريخية الفنية أو العلمية أو الاجتماعية، يجرون من ذلك على أسلوب أشعر أنه لا يزال يحتاج إلى غير قليل من الدقة؛ وإن أحكامهم معه لا تسلم من
الدخل والوهن؛ وليس هذا موضع الإفاضة والبيان المسهب في ذلك، فانه مما يستحق القول المفرد في غير هذه الفرصة؛ وإنما أحببت في هذا المقام أن أشير إلى ما يقع كثيراً في تفسير هذه النصوص، من عدم الرجوع إلى مواضعات القدماء أنفسهم في الشؤون الخلقية والعلمية والعملية مما تشرحه كتبهم؛ والاعتماد في الفهم على ظواهر العبارات، أو القياس على مواضعاتنا وعوائدنا دون تقدير لما هناك من اختلاف قد يكون كبيراً، وكذلك عدم التنبه إلى نواميس الحياة النفسية الإنسانية التي يجب توفر الخبرة بها قبل التصدي لتفسير أعمال الأشخاص وأقوالهم أو الأقوال عنهم، ثم وجوب رعاية السنن الاجتماعية وتأثيرها وتأثرها قبل الحكم على الحوادث أو الرجال وتعليل الأعمال وبيان آثارها؛ فكل أولئك وكثير غيره مما يجب أن يقوم عليه فهم النص التاريخي، وتفسيره بله الاستنباط منه؛ وليست تلك المهمة من الهوان بما يتراءى لبعض محاولي تلك الدراسة، وأستميح الأديب الجاعوني عذرا في أن أشير إلى بعض تفسيرات تاريخية وردت في مقالته، تمثيلا لهذه الدقة وما تجب مراعاته في هذه المهمة. فهو مثلا يقول، حين عد شيوخ الأوزاعي وتلامذته:(وروى عنه جماعة من الذين سمعهم كقتادة والزهري وغيرهم)(ص 419 رسالة) وعلق على ذلك في الهامش رقم 7 بقوله: (يظهر أن قتادة والزهري كانا معاصرين للأوزاعي، فسمع عنهم وبذلك نعدهم أساتذته، ومن ثم رووا عنه، ولذلك يصح لنا تجاوزاً أن نعدهم من تلاميذه)
وتنظر أولا إلى قوله إن قتادة والزهري كانا معاصرين للأوزاعي فلا ترى ذلك صواباً على هذا الإطلاق؛ فهؤلاء من التابعين، وليس الأوزاعي منهم - وإن ادعي بعضهم له ذلك - ثم هم على كل حال جيل آخر، بين وفاة الأوزاعي ووفاة آخرهم نيف وثلاثون عاماً - قتادة توفي سنة 117، والزهري سنة 123، والأوزاعي توفي سنة 157 - وتدع هذا فترى تفسير الكاتب لأخذه عنهم وأخذهم عنه واعتبارهم تجوزا تلاميذه، تراه قلقاً مظطربا. وكانت تدفعه ملاحظة عادة القوم في هذا النوع من الروية الذي كانوا يسمونه رواية الأكابر عن الأصاغر، ويفردونه بالبيان الخاص في أصول الروية؛ وكانوا يرمون فيه إلى اعتبار خلقي نبيل من تقدير العلم وأخذه حيث كان، وحطم الكبرياء المغرورة للأستاذية، ليظل المروى عنه أبدا طالب علم، ومرتاد حقيقة يأخذها حتى عن تلميذه، وهذا التفسير نفسه
منصوص في كتاب أحسن المساعي الذي أرجح كثيرا أن الكاتب قد رجع إليه، إذ ورد في ص 52 - 53 منه ما نصه (. . . وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين، كمالك بن أنس، والثوري، والزهري، وهو من شيوخه، وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر فان الزهري من التابعين، وليس الأوزاعي من التابعين) ثم إن الكاتب صاحب المقال عن الأوزاعي يتعرض لقول جولدزيهر بتأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني، ويرى أن الأوزاعي أحرى بأن يكون آخر المتأثرين؛ ص 420 (رسالة)؛ ويحتاج لهذا الاستنباط (بأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي، ومن أقربهم إلى اتباع الكتاب والسنة. . . والكتاب والسنة أبعد الأشياء عن التأثر بالفقه الروماني). ومع عدم تعصبي للقول بهذا التأثر، ومع القصد في بيانه، فإني أرى هذا الاستدلال على عدم تأثر الأوزاعي غير مقبول من الوجهة الاجتماعية والنفسية، فان متبع الكتاب والسنة لا بد له من أن يفهمهما، ويتبين مراميهما، وأغراضهما، وعللهما وحكمهما، ولكل شخص في هذا الفهم والتبين عقله الخاص، وشخصيته الخاصة، ومنهجه الخاص، وذلك كله من أشد ما يكون تأثراً بالثقافة والبيئة، فلا غرابة في أن يتأثر فهم الفاهم للكتاب والسنة المتبع لهما، تأثراً جلياً بعوامل تثقيفه، وظروف حياته، كما تأثر بذلك تفسير القرآن في كل الأزمنة، بل كما تأثر بذلك فهم العقائد وأصول الدين ذاتها تأثراً لا يسعنا إنكاره؛ ولا قيمة لحرصنا على هذا الإنكار، لأننا بذلك نقاوم سنن الله في خلقه
تلك مثل صغيرة لما تجب مراعاته في تفسير النصوص وفهمها والاستنباط منها، حتى نوفق لكتابة تاريخنا غير السياسي، بل السياسي كذلك كتابة علمية صحيحة، تنير ماضينا وتمد مستقبلنا بكل قوة وحقيقة
أمين الحولي
حول الأوزاعي أيضاً
للأستاذ علي الطنطاوي
أسكر للكاتب الفاضل صاحب ترجمة الأمام الأوزاعي رضي الله عنه المنشورة في الرسالة التاسعة والثمانين عنايته بدراسة تاريخنا الجليل، واستخراج (جواهره) التي شغلتنا عنها (أصداف) غيرنا، وأرجو أن يقبل هذه الملاحظات قبولاً حسناً، وأن يعلم أن الذي حفزني إلى نشرها إنما هو حرمة الحق، وأمانة التاريخ
1 -
يقول الكاتب في تحقيق نسبة الأوزاعي: (وقد اختلف في
معنى هذه الكلمة، فمن قائل إنها بطن من ذي الكلاع من
اليمن، وقيل بطن من همذان (بالذال)، وقيل إن الأوزاع قرية
بدمشق خارج باب الفراديس) اهـ
والصحيح أنه ليس بين هذه الأقوال اختلاف، فالأوزاع اسم قبيلة من اليمن، سكنت هذا الموضع فسمي بها - كما ذكر باقوت - ونسبهم في حمير ولكن عدادهم في همدان - كما قال في التاج - وهمدان - كما في اللسان - قبيلة في اليمن، أما همذان التي ذكرها الكاتب فمدينة مشهورة في أرض العجم، وعجيب أن ينسب إليها الأوزاعي، وأعجب منه أنه نقل هذه الرواية عن ابن خلكان، وهي في ابن خلكان في الصفحة التي نقل منها الرواية، همدان بالدال لا همذان بالذال!
وقد وجدت في كتاب - لا يحضرني اسمه - أن الأوزاعي من العقيبة (قرية بظاهر دمشق). والعقيبة اليوم حي كبير من أحياء دمشق، بالقرب من السور خارج باب العمارة، وهذا الباب هو باب الفراديس بعينه، وهولا يزال موجودا، ولا يزال داخله طريق مواز للسور، يسمى طريق (بين السورين)، فعلى هذا تكون العقيبة هي قرية الأوزاع
2 -
وقال الكاتب إن الأوزاعي (لم يكن يستعمل الرأي، بل
إنه - كما فعل غيره - عدل إلى الكتاب والسنة) اهـ
والذي يفهم من هذه الجملة أن من يقول بالرأي يعدل عن الكتاب والسنة، وهذا خطاء
فاحش، لأن أصحاب الرأي أو القياس، لا يعملون رأيهم، ولا يجرون قياسهم، إلا في المسائل التي لم يرد فيها نص من كتاب ولا سنة، فهم يرجعونها إلى هذين الأصلين، ويطبقونها عليهما؛ وليس لمسلم أن يقول في الدين برأيه، ويتكلم فيه بهواه؛ والحنفية هم الذين يسمون بأصحاب الرأي؛ وجميع الحنفية - كما يقول ابن حزم - مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من الرأي والقياس. وقد قدم أبو حنيفة رحمه الله العمل بالأحاديث المرسلة على العمل بالرأي في مسائل عدة
ولعل الكاتب لم يقصد هذا الذي قد يفهم من كلامه!
3 -
وقال الكاتب: (ذهب بعض المؤرخين أمثال كولدزيهر
إلى أن الفقه الإسلامي قد تأثر بالفقه الروماني، وأنا أقول إن
كان هذا صحيحاً فأخر بالأوزاعي أن يكون آخر المتأثرين به
لأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي) اهـ
فلم يهتم الكاتب بدحض هذه الفرية التي افتراها كولدزيهر وأمثاله من المؤرخين، ولم يبين أنها في رأي العلم خرافة من الخرافات، وأن المحققين قد تكلموا فيها، وبينوا خطأها، بل كان جل همه أن يبرئ الأوزاعي منها، ولو يسلم ضمنا بأن الفقهاء قد تأثروا بالفقه الروماني!
على حين أنه لا يمكن أن يقوم دليل علمي واحد على أن الفقه الإسلامي مأخوذ من الفقه الروماني، إلا إذا كان القرآن مترجما عن لغة الرومان، وكان سيدنا محمد صلى الله عليه واله وسلم رومانياً خرج من أبوين عربيين! والذي نقوله إنه إذا كانت هناك علاقة بين الفقهين، فإن الفقه الروماني المعروف اليوم هو المقتبس عن الفقه الإسلامي، ودليلنا على هذا أن الفقه الروماني الحاضر جديد، لفقه طائفة من العلماء، بعد أن اندثر الفقه الروماني القديم، وهذا الدليل على علاقة أقوى من دليلهم على دعواهم، فليثبتوا إن استطاعوا أن الفقه الروماني الحاضر هو القديم ذاته، وليأتونا بالأسانيد الصحيحة والروايات المضبوطة، كما نأتيهم نحن بأسانيد حديثنا، وروايات سنتنا!
4 -
هذا وإن في ترجمة الأوزاعي كتابا قائما برأسه نشره من
عهد قريب كاتب الإسلام الأمير شكيب أرسلان فلينظره الكاتب
الفاضل
علي الطنطاوي
الحكم في المسابقة الأدبية
يذكر قراؤنا أننا نشرنا في العدد 79 من الرسالة قصيدة من الشعر الفرنسي عنوانها. (ارتياب) للآنسة النابغة (مي) ومعها ترجمتها بقلمها، وقد قدمتها إلى شعرائنا مقترحة أن ينقلوها نظماً إلى العربية جاعلة للسابق الأول جائزة مالية قدرها جنيهان مصريان؛ وقد استبق إلى مقترح الآنسة الفاضلة سبعة وعشرون شاعراً من مصر ومن سائر الأقطار العربية، وفي مساء يوم الجمعة الماضي اجتمعت في دار الشاعرة لجنة التحكيم وهي مؤلفة كما ذكرنا في عدد سابق من حضرات الدكتور طه حسين، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق، والدكتور أحمد زكي، ومحرر هذه المجلة، فقرأوا القصائد، ثم غربلوها، ثم نخلوها، حتى علق بالعيون ثلاث قصائد منها، فأعادوا النظر فيها، ثم وازنوا بينها، فكانت الأولى لشاعر لم يذكر اسمه ولم يرمز إليه، والثانية للأستاذ فخري أبو السعود، والثالثة لشاعر دمشقي إمضاؤه أ. ط، فقرروا نشر القصائد الثلاث وحكموا للشاعر الأول بالجائزة. والرسالة ترجو منه أن يرسل إليها عنوانه لترسل إليه حقه. وتلك هي القصائد:
القصيدة الأولى
ارتياب
أصديقتي ذات العيو
…
ن النجل! قد ولى النهارُ!
والريح هوجاء تهب (م)
…
بنا، وليس لها قرارُ
ولها أنينٌ ثائرُ،
…
كالقلب عاوده ادّكارُ
ولها صدى في النفس مك
…
بوتُ عَصى مستثار
أصديقتي، ذات العيو
…
ن النحل! قد ولى النهار
بين الزهور جلست أح
…
لمُ في حنينٍ واكتئابِ
والزعزعُ النكباءُ تع
…
صِف كل آونة ببابي
والسحب باكية، فوا
…
شجني لهذا الانتحابِ!
فلكم يثير من الشجى
…
في مهجتي دمعُ السحاب!
بين الزهور جلست أح
…
لم في حنين واكتئاب
هل تذكرين اليومَ رأ
…
سَ العام؟ ما أحلاه ذكرى!
يومُ به السرّ الخفيّ
…
أضاَء في عينيك سحرا
وهلالُ روحي عابدُ
…
مِنْ رُوحك المعبود بدرا
يومُ به أوحيت في نف
…
سي حديثاً مستسرَّاً
هل تذكرين اليومَ رأ
…
س العام؟ ما أحلاه ذكرى!
أسفي لهذا الشهر قد
…
ولَّى، وآذن بانَتهاءِ
فيه رأيتك مرتي
…
ن، لدي سويعات المساءِ
والآن أقضي الليل في
…
غير ابتهاج أو صفاءِ
واحرّ أشواقي لفج
…
رِ منك فتان الضياءِ
أسفي لهذا الشهر قد
…
ولى وآذَنَ بانتهاءِ
ليلُ مطير حالكُ
…
وكأنه ليلُ الوداعِ
والفكر أقتمُ لم يزل
…
وسط الهواجس في صراعِ
أمس الفؤاد ممزقاً
…
بين ارتياب وارتياعِ
ماذا لو أن فؤادَك المغ
…
رورَ أُولعَ بالخِداع
ليلُ مطيرُ حالك،
…
وكأنه ليل الوداعِ
القصيدة الثانية
ارتياب
أصديقتي يا رَبّة الحَدَقِ العِذا
…
بِ النُّجل روُحي رددتْ نجواك
الريحُ في هذا المساء عنيفة
…
هوجاء ذات صدى عصىّ باك
جاّرةُ أمسى عَصيّاً داوياً
…
في النفس مكبُوتاً صَدَاها الحاكي
أصديقتي يا ربة الحدق. . .
ما بين هاتين الزهور جلستُ واس
…
تسلمتُ للأحلام والأشجان
يغزو جناحُ النَّوْءِ نافذتي وقد
…
بكتِ السماءُ بِدَمعِها الهتَّان
واهاً لذاك الدمع يجري ناحباً
…
ماذا يُحرَّك في مدى الأعوان؟
ما بين هاتيك الزهور. . .
يا هل نراك ذكرت فيما قد مضى
…
يوماً لنا قد كان رأس العام؟
يوماً بمغرى السر نوَّرَ مقلة
…
خاطبتني منها بغير كلام
ورأت به روحي بروحك أُختها ال
…
كبرى ونلتِ عبادتي وهيامي
يا هل تراك ذكرت. . .
قد راح شهر بعد ذاك مولياً
…
ها نحن نرقب متهاه الداني
ولى وقد جادت بحُسْنَ لقاك أُم
…
سيتان في أثنائه ثنتان
والآن إذ جذلي إلى غده انتهى
…
أصبو إلى فجر مضى فتان
قد راح شهر بعد ذاك. . .
هذا مساء ممطر متساقط
…
ساجي الدجى، هذا مساء وداع
تعتامني غُبْرُ الهموم وقد مشى
…
رَيْب بقلبٍ للجوى مُنْصاع
ريْب خبيث! ما ترى لو لم يكن
…
لك غير قلبٍ مُزدْهٍ خدَّاع؟
هذا مساء ممطر متساقط
…
ساجي الدجى، هذا مساء وداع
فخري أبو السعود
القصيد الثالثة
صديقتي ذات العيون العذابْ
…
روحي تناديك! فهل تسمعينْ
جُنْ جنون الريح هذا المساءْ
…
وانفعت صخَّابة كالحُممْ
تروى وذي صيحاتها في الفضاء
…
يعيدُ في نفسي صداها الأصم
صديقتي ذات العيون العذابْ
…
روحي تناديك! فهل تسمعينْ
هأنذى أجلس بين الزَهَر
…
حالمةً مغمورةً بالشٌّجون!
نافذتي تلطُمها العاصفة
…
والسحب تُذري عبرات الحنان
لله هذي الأدمع الواكفة
…
ماذا ستذكي في صميم الكيان
هأنذى أجلس بين الزّهَرْ
…
حالمةَ مغمورةً بالشُّجون
صديقتي بالله هل تذكرين
…
أول هذا العام هل تذكرين؟
إذ نم عنك الكلم الصامت
…
ونور عينيك نِمى السرَّا (كذا)
ويوم نفسي، والفضا ناصت (كذا)
…
ألفت لديكِ روحها الكبرى؟
صديقتي باللهِ هل تذكرين
…
أول هذا العام، هل تذكرين؟
شهر تولى ومضى مُسرعاً
…
وراحَ يغفو في خضمّ القرونْ
لم نحظ في أيامهِ باللقاء
…
سوى مساءين، ولم نسعدِ
والآن، إذ في الغَدِ كلُّ الهناءْ
…
أذوب أشواقاً لفجر الغد. . .
شهر تولى ومضى مسرعاً
…
وراح يغفو في خضم القرون
هذا مساءٌ دامعٌ قاتمٌ
…
مثل أماسي الوداع الحزين
خواطري فيه تُحاكي الدُّجى
…
والغم في نفسي طغى، والملل
والشك يلهو بيَ: ما تُرى
…
لو كان منك القلب جم الحيل؟
هذا مساءٌ دامعٌ قاتمٌ
…
مثل أماسي الوداع الحزين
أط
دمشق
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
اسبلنزاني
صلة حديثه
(القس الماكر الذي مالق الكنيسة والسلطات وهو يحتقرها جميعا لكي يعيش ولكي يعمل في سكون؛ الذي ناضل نضال الجند بغير أهبة الجند وعدة الجند؛ الذي أثبت من مرق اللحم أن المكروبات ككل الأحياء لا بد لها من آباء؛ الذي أهدى للعلم مثانته الوبيئة، ذلك الأثر الوحيد الذي بقي للناس إلى اليوم من هذا الرجل الكبير الخالد)
وجرت مكاتبات كثيرة بين اسبلنزانى وبين الكثير من بحاث أوروبا وشكاكيها. وجرت صداقة بالبريد بينه وبين فلتير ذلك الماكر الخبيث، وشكا له في كتبه أن إيطاليا ليس بها إلاأفذاذ قليلون من الرجال ذوي العقول الراجحة، وشكا له الطقس والرطوبة والضباب. ودار الزمن فإذا اسبلنزانى يتزعم تلك العصابة الرعناء من الفلاسفة والعلماء الذين طلبوا الحق صادقين وأرادوا للناس السعادة والعدل مخلصين، فإذا بهم يمهدون غير قاصدين لفتن هوجاء، تلطخ بها وجه الأرض بأغزر الدماء
واعتقد هؤلاء العلماء أن اسبلنزانى قضى كل القضاء على تلك الفرية التي افتراها الخصماء حيث قالوا إن الحياة قد تنبعث من لا شيء، وأخذ هؤلاء العلماء، وفي طليعتهم (فلتير)، يقهقهون بالنكات النادرة، ويتندرون بالفكاهات المستملحة، على القوة النباتية وعلى (بيفون) الفخم الطنان، وعلى صبي معمله الأدب (نيدم)
وبينا هم على هذا، صاح نيدم: (ولكن هذه القوة النباتية موجودة يا قوم. إنها شيء مستسر خفي. حقاً إنها لا ترى ولا توزن، ولكن بسببها تخرج الحياة من مرق اللحم ونقيع الحب، وقد تخرج بواسطتها من لا شيء. من الجائز أنها احتملت ذلك التحميص الشديد الذي
أولاها إياه اسبلنزانى. إنها قوة أكثر ما تحتاج إليه مرونة الهواء، وقد أغلى اسبلنزانى قبابته ساعة فأفسد مرونة الهواء بداخلها، ففسدت القوة النباتية فلم تتكون الأحياء)
سمع الطلياني بهذا فقام تواً للصراع. ونادى نيدم: (هل من تجارب تثبت بها أن الهواء إذا سخن قلت مرونته؟). وانتظر التجارب فلم يجب نيدم بغير ألفاظ. فصاح به الطلياني: (إذن فأنا آتيك بالتجارب). ورجع إلى معمله مرة أخرى فوضع البذر في القوارير، وصفها وأغلاها ساعة. وفي ذات صباح ذهب إليها يقصف رقابها. قصف الأولى وأرهف سمعه فسمع لها صفيراً. (ما هذا؟). واختطف الثانية فأدناها من أذنه وكسرها فسمع لها صفيراً. (هذا هو الصفير يعود! ومعنى هذا أن الهواء يدخل إلى القارورة أو أنه يخرج منها). وأشعل شمعة وأدناها من فم قارورة أخرى وفض قاها فإذا اللهب ينعطف نحوها. فصاح:(معنى هذا أن الهواء يدخل القارورة، ومعنى هذا أن الهواء بالقارورة أقل مرونة من الهواء خارجها، ومعنى هذا أن نيدم قد يكون على حق!)
وعندئذ أحس اسبلنزانى بجيشان في معدته، وأحس بالعرق يتصبب من جبينه، والأرض تدور به. . . أيجوز أن يكون هذا الأبله نيدم قد خبطها خبطةً عشواء فأصابت؟ أيكون قد تظنن فيما تحدث الحرارة في الهواء المخزون بداخل الزجاج المختوم فوقع على الحقيقة وهو لا يدريها؟ أيكون قد قدر لهذا الفيهق الثرثار اللغاط الهراء أن يفسد عليه الجهد الكبير الذي أنفقه في استنباط الحقائق في حرص وحذر كل هذه السنوات الطويلة؟ وقضى اسبلنزانى أياماً وهو سقيم المزاج، مشتت الفكر، ضيق الصدر، واشتد لتلاميذه واخشوشن من بعد رفق ولين. وأراد أن يروح عن نفسه فأخذ ينشد شعر (دانتى) و (هوميروس)، فلم يزده الإنشاد إلا ضيقاً. واستيقظ في نفسه شيطان أخذ يوسوس له:(قم وادرس لم يدخل الهواء داخل القبابة كلما كسرت ختمها، فلعل هذا لا صلة له بمرونة الهواء). وصاحبه هذا الوسواس الخناس وألح عليه حتى استيقظ ذات ليلة على صوته مخبولاً مرتبكاً. . . . وفي برهة كلمحة البصر وقع على تفسير للمعضل الذي هو فيه، فجرى إلى معمله، وكان نضده قد تغطى بقوارير مكسورة وزجاجات مهجورة تبعثرت جميعها عليه فكانت شواهد على ما كان فيه رجلنا من ترك ويأس. ومد يده إلى قمطر فأخرج منه قبابه. لقد كان ضل الطريق واليوم اهتدى اليه، وعما قريب يثبت أن نيدم مخطئ ضال. وتمطى يملأ رئتيه وسمعهما،
ثم زفر زفرة طويلة أبدلته من ضيق سعة ومن أزمة فرجا. ومع أنه لم يكن أثبت أن ما بدا له هو التفسير الحق لصفير الهواء، إلا أنه وثق بالذي ارتآه وثوقاً آثر معه أن يستعجل الغبطة والسرور. ونظر إلى القبابات وابتسم وقال:(كل القبابات التي استخدمتها فيما سبق كانت لها رقبة واسعة استلزمت حرارة كثيرة وتسخيناً طويلاً لتسيح ويتم ختمها. وهذه الحرارة الكثيرة تطرد الهواء من القبابة قبل لحامها، فلا عجب إذن أن يندفع الهواء فيها إذا فض اللحام)
وارتأى أن ما قاله نيدم عن إغلاء القبابات الملحومة في الماء وإفساده مرونة ما بداخلها من الهواء كلام هراء. ولكن أنى له بإثبات ذلك؟ أنى له بختم القبابة دون أن يطرد هواءها؟ وجاء شيطانه يوسوس إليه، فأخذ قبابة أخرى فوضع بها بذراً وملأ بعضها بالماء، وأدار رقبتها في اللهب الشديد حتى ساحت وضاقت حتى كادت تلتحم إلا ثقباً صغيراً ضيقاً يصل بينها وبين هواء الجو.
عندئذ برد القبابة؛ حتى إذا تمت برودتها قال: (إن الهواء بداخلها لا بد أن يكون مثله بخارجها. ثم جاء بلهب صغير سلطه على الثقب الباقي وهو كعين الإبرة فسده في لمحة دون أن ينطرد من هواء القبابة شيء. فلما اطمأن إلى ذلك وضع القبابة في الغلاية وأخذ يرقبها ساعة، وبينا هي تتأرجح وترقص في الماء كان هو ينشد الشعر ويترنم بالغناء. ثم نحاها أياماً، وفي ذات صباح جاء ليفتحها وهو واثق مما سيكون، فأشعل شمعة وأدناها من فم القبابة، وفي حذر شديد كسر فاها فسمع صفيراً، إلا أن لهب الشمع لم ينجذب إلى القبابة في هذه المرة بل مال عنها، دليلاً على أن مرونة الهواء داخلها أكثر من مرونته خارجها!
فكل هذا الغلي لم يفسد مرونة الهواء، بل على النقيض قد زاد مرونة، تلك المرونة التي قال نيدم بضرورتها لتلك القوة النباتية العجيبة. وأخرج اسبلنزانى من المرق القطرة فالقطرة، وعبثا حاول أن يجد فيها من الأحياء شيئاً برغم ازدياد مرونة الهواء. وأعاد التجربة فالتجربة بتلك المثابرة التي عرفناها عن (لوفن هوك)، وكسر قبابات وكب المرق على صدر قميصه ووسخ يديه، ولكنه لم يخرج على غير تلك النتيجة التي سلفت
- 5 - انتصر اسبلنزانى فصاح بتجاربه ليسمع أوروبا، فتردد
صداه شرقاً وغرباً، وسمعه نيدم وبيفون فجلسا على أنقاض
نظريتهما البالية ينعيان أطلالها في كآبة ظاهرة وحزن باد.
وما كان لهما مندوحة من هذا، وقد أفسدها عليهما هذا
الطلياني بحقيقة واضحة بسيطة. فلما اطمأن على الذي كان،
جلس يكتب. وبمقدار براعته في المعمل كان بارعاً في
المكتب، وعلى حسن جلاده بالقباب والعدس، كان يحسن
الجلاد بالقرطاس والقلم، على شريطة أن يكون قد اطمأن إلى
أن حقائقه العلمية قد سبقت فغلبت في الصراع خصيمه، وهذا
ما كان، فهو في هذا الوقت كان قد اطمأن إلى انصراع نيدم،
وإلى ضياع نظريته الفكهة التي تنشئ الشيء من لا شيء.
وكان اطمأن إلى أن الحيوانات جميعاً - حتى تلك الحيوانات
الصغيرة - لا تأتي إلا من حيوانات مثلها عاشت من قبلها،
وإلى أن هذه المكروبات الصغيرة تظل طيلة حياتها مكروبات
من النوع الذي كانته آباؤها، فإذا هي أنتجت كان نتاجها من
جنسها؛ كذلك الحمار في حياته لا يستحيل جملاً، وهو لا يأتي
إلا عن حمار، فإذا ولد فإنما يلد حماراً
وصاح اسبلنزانى يقول: (واختصاراً قد ثبت أن نيدم مخطئ، وقد أثبت فوق هذا أن في علم الأحياء نظاماً وقانوناً، كما أن في علم الأفلاك قانون ونظاماً) ثم أخذ يصف ما تكون حال هذا العلم لو أن نيدم لم يجد من يراقبه ويحاسبه، إذن لعشنا في اختبال وارتياع من
نزق هذه (القوة النباتية) المتقلبة الهوجاء تلك القوة التي إن هي شاءت أخرجت من الشيء ضفدعة، وإن هي شاءت أخرجت منه كلباً؛ أو هي تخرج منه اليوم فيلاً، وغداً عنكبوتاً؛ أو تخرج منه في الصباح حوتاً سابحاً، وفي الظهر بقرة حلوباً، وفي المساء إنساناً ناطقاً
قضى على نيدم، وقضى على قوته النباتية، وأصبح الإنسان يستمرئ العيش، ويستنشق الهواء في أمان وسلام، فلا تروعه تلك القوة الرهيبة اللعينة التي كان يتخيلها مخبوءة في هذا الركن ووراء ذلك الحائط تنتهز الفرصة لتحيله فيلاً أو تخلق منه غولاً وسرى اسماسبلنزانى في جامعات أوروبا يسطع كالماس، ويتألق كالنجم. وأيقنت جماعاتها العلمية بأنه عالم العصر الأوحد وكتبإليه فريدريك الأكبر طويلة، وبيمينه أمضى براءه تعيينه عضواً في أكاديمية برلين. وماريا تريزا النمسا وعدوة فريدريك اللدودة، نافست هذا الملك العظيم في تكريم هذا العالم الكبير، فنفسته، وذلك أنها عرضت عليه أن يكون أستاذاً في جامعة بافيا العتيقة بلمباردي إليه رسلها من عظام مستشاريها فجاءوه في حفل ضخم، وموكب فخم، مثقلين بكتب ملكية، وأختام امبراطورية، يتوسلون إليه في قبول المنصب عسى أن تجد جامعتهم فيه منقذها من السوء الذي هي فيه، ورافعها من الدرك الذي هبطت إليه. وجرت بينه وبينهم مناقشات، وجرت مباحثات ومساومات، في الأجر الذي يتقاضاه اسبلنزانى، فقد كان دائماً يحسن جمع المال كلما أمكنته الفرصة. وانتهت تلك الأحاديث بقبوله أستاذية التاريخ الطبيعي بالجامعة، وبتنصيبه أميناً لمتحف التاريخ الطبيعي في بافيا كذلك وذهب إلى متحف بافيا فوجده خاوياً خالياً. فشمر عن ساعده، وأخذ يحاضر في كل ما هب ودب، ويلقى دروساً في الجمهور يضمنها تجارب كبيرة هائلة يجريها على سمعهم وأبصارهم فهالت الناس وراعتهم، لأن النجاح كان يأتيها دائماً من حذق يديه، وأراد أن يملأ متحفه الخالي فأرسل إلى هنا وإلى هناك في طلب مجموعات من حيوانات عجيبة ونباتات غريبة وطيور لا يعرفها القوم. وذهب هو بنفسه إلى الجبال فتسلقها على خطورة مرتقاها، ورجع منها بركائز كثيرة وخامات غالية. وذهب إلى البحار يصطاد قروشها المفترسة، وإلى الغاب يقتنص من ذوات الريش كل ذات لون بهيج. ذهب كل مذهب ليس من اليسير تحقيقه، وضرب كل مضرب ليس من الهين تصديقه، وكل هذا في سبيل الجمع لمتحفه، وفي سبيل التخفف من ذلك النشاط الجم وتلك الطاقة الصخابة التي امتلأ بها جلده
فخرجت به عما وسم العرف به العلماء من طمأنينة وهدوء
وفي الفترات التي تخللت هذا التجميع هذا التدريس، كان ينفلت إلى معمله بأمراقه ومجاهره فيغلقه على نفسه، ويجري فيه التجارب الطويلة ليزيد في إثبات أن الأحياء الصغيرة تنصاع لقوانين الطبيعة انصياع الخيل والفيلة والرجال لها. ووضع قطرات من أحسيته وهي تموج بالمكروب على قطع من الزجاج المنبسط، ونفخ فيها من دخان تبغه، ثم أسرع فنظر إليها بعدسته، ثم ضحك ملء فيه عندما رآها تتهارب لتتقى أثر دخانه، وأطلق عليها شرراً كهربائياً، وعجب لما رآها تطيش وتميد، ثم تتمطى وتموت سريعاً
قال اسبلنزانى: (إن بذور هذه الأخبار الدقيقة أو بيضها قد يختلف عن بيض الدجاج أو بيض الضفدع أو بيض السمك، وهذه الأحياء نفسها قد تصمد للماء الغالي في قباباتي المختومة، ولكن عدا هذا فهي يقيناً لا تختلف عن سائر الحيوانات). ولم يكد أن ينطق بهذا اليقين حتى عاد يسترد ما انفلت به من أنفاسه
فذات يوم وقد انفرد في معمله قال لنفسه: (كل حيوان على ظهر هذه الأرض لا بد له من الهواء ليحيا، وإذن فلأتبين حيوانية هذه الأحياء الصغيرة فأضعها في فراغ خلو من الهواء وأرقبها وهي تموت). وببراعة بينة مط بالنار من أنبوب الزجاج السميك أنبوباً شعرياً رفيعاً كما كان يصنع (لوفن هوك) وغمس أنبوبة منها في مرق يعج بتلك الأحياء، فصعد فيها منه شيء. وأساح أحد طرفيها في النار فسده، ووصل الطرف الآخر المفتوح بمضخة قوية لتفريغ الهواء، وشغلها، ولصق عدسته بجدار أنبوبة الزجاج الرفيع، وأخذ يصوب بصره إلى تلك الأذرع الدقيقة التي منحها الله لتلك الأحياء لتجدف بها في الماء، وضل يرقب من ساعة لأخرى عله يجد في حركتها المنتظمة الهادئة ميدانا وطيشانا، وأخذ يتربص الفناء بتلك الأحياء، ولكن المضخة ظلت في دورانها، وظلت الأحياء في جريانها وروغانها متناسية صاحبنا العالم ومضخته البديعة، متجاهلة هذا الهواء الذي يقول بلزومه لحياة الأحياء. وعاشت أياماً. وعاشت أسابيع. وأعاد اسبلنزانى تجربته المرة بعد المرة. هذا غريب!. هذا محال. لا يعيش حي بلا هواء، كيف تتنفس هذه الأحياء. وكتب إلى صديقه (بونيت) مستغرباً: -
(إن طبيعة هذه الحيوانات مدهشة. فإنها تعيش في الفراغ مثل عيشها في الهواء، وتنشط
في هذا نشاطها في ذلك، فهي تعلو في السائل ثم تهبط، وهي تظل تتكاثر فيه أياماً. ألا ترى في هذا عجباً! ألم نقل دائماً أنه ما من حي يستطيع العيش من دون هذا الهواء)
كان اسبلنزانى معجباً بقوة خياله، معجباً بسرعة خاطره، وزاد إعجاباً بنفسه، وزاده غروراً إعجاب طلبته، وملق الأوانس والغواني، وإطراء الأساتذة العلماء، وتقريب الملوك الفاتحين. ولكنه كان إلى جانب خياله يتعشق التجربة، بل هو يقضى حقوق التجربة أولاً ثم يخال بعد ذلك، فان هي عارضت خاطرة بديعة من خياله الخصيب فسرعان ما كان يقر بالحق، وينزع عن خواطره مهما بلغت من الإبداع
وفي هذه الأثناء كان هذا الرجل الأمين، الغالي في أمانته في كل ما يتعلق بتجاربه، هذا الرجل الذي كان لا يخط قلمه إلا الحق الذي يجده بين روائحه الكريهة وأبخرته السامة وأدوات معمله اللامعة، هذا العالم الجليل الأمين، نعم أعيد فأقول الأمين، كان يتدنى إلى الحيلة الخسيسة ليزيد مرتبه في جامعة بافيا. هذا الرجل الشديد، لاعب الكرة، الكشاف، متسلق الجبال، يأتي إلى عاصمة النمسا متخاذلاً متواعكاً متأوهاًمتوجعاً، يشكو إلى رجال الحكم فيها سوء صحته، ويقول إن ضباب بافيا وأبخرتها تكاد تقتله. وأراد الإمبراطور أن يستبقيه فزاد أجره وضاعف إجازاته. وتحدث اسبلنزانى عن هذه الواقعة فضحك وسماها في خبث مداورة سياسية. هذا الرجل كان يصل إلى الغابة التي يريد فلا يقف شيء في سبيله. يريد الحقيقة فينالها بالتجربة البارعة والملاحظة القريبة والصبر المضني، ويريد المال والترقي فيناله بالعمل الشاق وأحياناً بالحيلة والكذب، ويريد أن يتقى ظلم الكنيسة واستبدادها فينال ذلك بدخوله قسيساً فيها
ولما كبر وطالت به السنون تشهى إلى تجارب غير تجارب معلمه، تجارب صخابة عنيفة يطلق فيها القياد لنفسه وحسه، فاعتزم أن يزور موقع طروادة القديمة لأن قصتها كانت تهزه هزاً؛ واعتزم أن يزور الشرق بحريمه وأرقائه وخصيانه، فقد كان يعتبر هذه الأمور جميعاً جزءاً من التاريخ الطبيعي كوطاويطه وضفادعه والحيوانات الصغيرة التي بنقيع بذوره. وشغل الشفاعات، وأعمل المحسوبية، واتصل ورجا، حتى أعطاه الإمبراطور إجازة عام، وأعطاه نفقة السفر إلى القسطنطينية، كل ذلك لاستعادة صحته واسترداد عافيته، وعلم الله ما كان أحسن صحته وأتم عافيته وقام اسبلنزانى فاختزن فباباته، وأغلق معمله، وودع
تلاميذه وداعاً حاراً استطاع أن يذري فيه ما تيسر من الدمع. وركب البحر الأبيض فاعتوره دواره وآذاه إيذاء شديداً، وارتطمت سفينته بالصخر وتحطمت، ولكنه استطاع أن ينجو وأن ينجى ما كان قد جمعه من بعض جزائر البحر، وجاء السلطان فأولم له وسقاه وأكرم وفادته، وأذن له أطباء السراي في دراسة عادات السراري الجميلة. . . . . . وبعد كل هذا قال للأتراك، وهو الرجل الأوربي الطيب - رجل القرن الثامن عشر - قال لهم إنه يعجب بكرمهم، ويعجب بعماراتهم، وما تضمنته من الفن الجميل، ولكنه يمقت استرقاقهم للجواري والعبيد، ويمقت استسلامهم للأقدار والأقسام. فكنت تخاله يقول لصديقه الشرقي، والشرقي رجل جامد، تقول حوله الدنيا وهو قاعد، وتجري عليه الأيام وهو مركوم، وتنبو عنه الحوادث وهو ملموم، كنت تخاله يقول له:(نحن الغربيين سنفتح بعلمنا الجديد هذا من الأمور مالا يفتح، ونجتاز به مالا يرجى اجتيازه، وسنمحو عن الإنسان وبني الإنسان هذا العذاب الأبدي والشقاء السرمدي الذي يئست الدهور من محوه). كان اسبلتزانى يؤمن بالله، ويؤمن بقدرته وجبروته، ولكنه كان بحاثا نقاباً طلاباً للحقائق فكانت تغلبه غيرة الباحث وروح المنقب على كل ما يقوله، وتسيطر على كل ما يفكر فيه، حتى ينسى الله، وحتى ليعتذر عنه آنا فيسميه الطبيعة، وآناء أخرى فيسميه المجهول، وحتى دفعته إلى أن ينصب نفسه شبه وكيل أول لله، يفتتح وإياه مجاهل هذه الطبيعة الغامضة ويكشف أسرارها
وبعد أشهر عديدة قضاها في الشرق عاد أدراجه، لا عن طريق البحر هذه المرة، بل عن طريق البلقان، وأنفذت معه الحكومات من الجند أصوبهم رماية، وأولم له أشراف البلغار وأراء الأفلاق. وأخيراً دخل فينا عاصمة الإمبراطورية وذهب إلى الإمبراطور يوسف الثاني، صاحب نعمته وراعيه، ليقضي واجب الشكر ويقدم فرائض الاحترام. وكانت هذه الساعة أفحم ساعات حياته، وأملؤها بالمجد، ذلك المجد الذي يعطيه الملوك والأمراء. وأسكرته خمرة تلك الساعة، وذهب دبيبها إلى رأسه، ومشت سورتها إلى أعماق نفسه، فكنت تسمعه يقول:(ما أحلى تحقيق الأحلام). ولكن. . . .
(يتبع)
أحمد زكي
إلى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
-
رؤيا في السماء
بقلم الأديب فليكس فارس
إنك تتناول أدق المباحث الاجتماعية التي شغلت وما زالت تشغل المفكرين في كل عصر وفي كل بلاد، تتناولها وتخوض غمارها معتكفاً على موضع السر في ثقافتك العربية، مستنيراً بأضواء الكتاب الحق وحكمة من اهتدوا قبلك في هذا الشرق النير، فكانت عبادتهم فلسفة، وكانت صلواتهم استغراقاً وتفكيراً كثير من مجددي الإنشاء في هذا الزمان ينحرفون عن ثقافتهم وغرائزهم القومية، فينتحلون مذاهب كتاب الغرب وأساليبهم، أما أنت فمن الفئة القليلة الآخذة بروح الشرق لأحياء الشرق، النافخة في الأحفاد أرواح أجدادهم
قرأت لك في منارة العرب الوهاجة، في (الرسالة)، ما تتحف به العالم العربي من طرائف وبدائع، فأيقنت أنك من الكتاب العالميين الذي يستخدمون آياتهم من الألهام، ويستجلون الحقائق من قلب الحياة الخفاق، وما أقل من ينحنون على أنفسهم في هذه البلاد حين يكتبون! وما أكثر من يستطبعون الرواسم وينقلون مقلدين مشوهين!
بين ما نشرته لك (الرسالة) قطعة (رؤيا في السماء) وقفت عندها مأخوذاً بروعتها، فأردت أن أنقلها إلى اللغة الفرنسية لنشرها في مجلة أدبية في باريس، وقد ترجمتها فجاءت بما أبقيت لها من أسلوبك الفخم دليلاً على استقلال لغة العرب عن كل هذه الأساليب التي ينتحيها أكثر كتابنا مأخوذة عن الأسلوب الغربي، وعلى تفرد بيانها بهذا الإيجاز المعجز وفيه سر سحرها وبهائها
إن في مقالك من الدفاع عن حق الحياة وواجبات الحياة ما يعزز الوحي الذي أنزل على عيسى ومحمد عليهما السلام تحت سماء الشرق، فلم ينفذ الغربيون إلى كنهه في مبادئ المسيحية إذ ذهبوا منها في مسألة التبتل مذهباً أتى به الحواري بولس متأثراً بفلسفة الرومان وضائقة أزمنة الاضطهاد، لذلك ترى الأمم الغربية عندما تقف واجفة من تناقص النسل تهب إلى معالجة الأخطار المحدقة بها متوسلة بنظريات الكفاح والتفوق على الأمم المجاورة، فهي ترمي طغمات الأطفال فيالق للجهاد في ساحات الحروب من أجل المال، وكتلاً من لحم تعصرها الآلات عصراً فتتدفق بدمائها رحيقاً تتجرعه المدنية سماً زعافاً
إن الغربيين ليفوتهم أن يحاربوا أعداء الأسرة والنسل بالمبادئ الروحية تتناول ما وراء
هذه الحياة. وما أذكر مما قرأت لكتاب الغرب انهم شعروا بالأبوة كما شعرت بها أنت مخترقة حجاب الموت لتتجلى عند هدفها الأسمى في عالم الخلود
إن الأدب الغربي يقف بالأبوة عند نهاية الشطر الفاني من الحياة، فهو يرى الأرحام تدفع بالأجنة للقبور لا للأبد، لذلك أردت ألا يفوته ما أتيت به في مقالك الرائع من دعوة هي أقوى ما يتوسل به داع إلى حق الله في تناسل عبادة. وقد ترجمت هذا المقال لا مباهاة بروح الشرق العربية التي تهب من كل سطر فيه فحسب، بل لأنشر أيضاً في الغرب ما استوحته عبقريتك الشرقية من مبادئ الهداية الخالدة
إن هذا الحديث الذي أنطقت به أبا خالد وشيخه أبا ربيعة، لخير ما ابتكرته الآداب العالمية في هذا المطلب، وهذه الرؤى التي تقبض على الروح وترفعها قسراً إلى عالم الخفاء لتبسط من الحق أمام المتطلعين إلى ما وراء المادة ما يشعرون به في قرارة نفوسهم وينكرها عليهم عقلهم المنتبه المحلل الغارق في لجج الزائلات من قوة ومال ودول وجنود وحروب
غير أنني قبل أن أعلق على مقالك بما لا أرى بداً من إيراده بالفرنسية، أجدني مضطراً لإيضاح وجيز لا أراك تضن به، فان في ختام مقالك ما يفسح للفكر مجالاً للذهاب مذاهب تختلف اختلافاً بيناً عند النتيجة التي ترمي إليها
قلت: إن أبا ربيعة وقف في آخر حلمه تمر به طغمة الخالدين وتلقى إليه بكلمة (المشئوم) حتى مر غلام هو آخرهم فقال له: (كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله، ثم ماتت امرأتك وتحزنت على ما فاتك من القيام بحقها، فرفعنا عملك درجة أخرى، ثم أمرنا الليلة أن نضع عملك مع الخالفين الذين فروا وجبنوا)
فهل لك أيها الأستاذ الكبير أن تأتينا بإيضاح عما رآه الحق تخلفاً وجبنا في أبي ربيعة. فهل استحق هذا الشيخ نعته بالمشئوم لأنه، وقد استهوته عظة رفيقه، إلى على نفسه أن (يحول المرأة التي كانت في قلبه إلى صلاة) فأراد قتل تذكارها بالوفاء لله دون الوفاء لها في قبرها. أم كان ذلك لأنه قرر التبتل بعدها فلا يأخذ من بنات حواء من تقوم مقامها
إن من ينظر إلى حديث الشيخين ويأخذ بما ورد في القصة وفي ختامها ليقف مخيراً محتاراً بين السببين، وليس غير الأستاذ الكبير من يزيل هذا الإبهام فيأتي بمقال عن مسألة
لها مكانها بين العقد الاجتماعية، فيقول لنا ما إذا كان المثل الأعلى في العلاقة الزوجية محبة الشخصية في الأنوثة أم محبة الأنوثة، في الشخصية
إسكندرية
فليكس فارس
رئيس قسم الترجمة في البلدية
الأمير خسرو
الشاعر الهندي الكبير
للسيد أبي النصر أحمد الحسيني الهندي
إن اتصال الشعر دائماً هو بالماضي وبالحال، فان اتصل بالمستقبل فذلك بواسطة الحاضر. فما يقدم لنا الشعر إما من قبل (كان) أو (يكون). ولكنه يجمع ويرتب الحقيقة من جديد. لذلك حينما يسعى لا خراج فكرة من تلبك الأمور الواقعية وتنافرها ونقائصها، يميل بطريق راهن إلى ما لم يجمع ولم يرتب. فالشاعر لا يمثل الواقع كما هو، بل يخلقه من جديد بقوة خياله. لذلك ليس الشعر هو التمثيل البحت للحقيقة، بل الخيال دائماً يكون أعظم جزء في أساسه. هذا ما يشرحه لنا شعر خسرو في البيتين الآتيين قالهما في مدح حاتم خان قال:
قلت للبحر أنت كريم مثل خان
فأجاب بصوت مرتجف لا! لا!
إن أمواجي الشحيحة تلقى عشباً لا قيمة له
ولكن حاتماً يبعثر الجواهر في فخره الكريم
إن الشاعر يجد في سعة الطبيعة مستودعاً كبيراً للأشباح والصور التي تعبر عن أدق المراتب للفكر الإنساني وعواطفه. ففي هذا المستودع تطوف روحه طليقة، وفيه تدبر وتفكر حتى تنتج. فالشاعر يشعر بكل مظهر حوله كأنه رمز لشيء يتعلق بالعالم الآخر، وكأن كل شيء مؤثر في حواسه شبيه بالغائب المحجوب، وكأن الطبيعة بأسرها محبوكة كالأعضاء بالمشابهة والمماثلة بما هو خفي فيها، وكأن كل وجود مستقل متصل في جميع فروعه بغيره بواسطة رمز دقيق. وهذا هو الفرق بين العلم والشعر، فان العالم يقسم ويحلل والشاعر يجمع ويركب. فأنت ترى كيف أن خسرو جمع بين رفع الحجاب عن وجه محبوبه، وطلوع الشمس، وصلاة الصبح، في البيت الآتي وأوجد بينها الاتصال الشعري الدقيق الجميل قال:
برداشت طره أزرخ جون روزرفن كرد
…
برمن نماز صبح بوقت نماز شام
كشف (الحبيب) القناع عن وجهه عند ما دفن النهار، (فأوجب) على صلاة الصبح في وقت الليل
إن أهم ناحية من نواحي الشعر هي الحب والغرام، وقد قالوا إن من حسن الشعر وجماله أن يكون له اتصال بنفسه الشاعر، وأن يكون عليه مسحة من تجاربه النفسية. وبخاصة في هذه الناحية، فانه إذا تجرد عن ذلك أصبح تصنعاً وخداعاً. والشعر في هذه الناحية يصور تصويراً شعرياً دقيقاً ما بين قلب المحب والمحبوب من الأثر والتأثر، والجذب والانجذاب، والعزم والانثناء، والصبر والجزع، والرضا والسخط، والهجر والوصال. وشاعرنا العاشق قد صوره في غير واحد من الديوان وعبر عن حبه بآلاف من الأبيات. نقتطف بعضها هنا قال:
دلم به ناوك جشمت هزار وزن شد
…
زصورت توبهر روزن آفتابى هست
شب من أزجه سبب تيره ترشود هرروز
…
جوازرخ توبهر خانه ما هتابى هست
(إن سهم عينيك قد ثقب قلبي آلافا من الثقوب، وفي كل ثقب شمس محياك طالعة.)
(لم تظلم ليلى كل يوم ما دام قمر وجهك طالعا في كل بيت.)
وقال:
عاشق شدم ومحرم ابن كارنه دارم
…
فريادكه غم دارم وغمخورانه دارم
يك سينه برار قصه هجراست وليكن
…
ازتنكد لي طاقت كفتارنه دارم
(إنني عشقت وليس من يعرف عملي هذا. وا حسرتاه! عندي ألم، وليس لي رفيق في الألم)
(إن صدري مملوء بحكاية هجر (المحبوب)، ولكني من ضيق صدري لا أقدر أن أعبر عنها.)
وقال:
جندمى برسى كه خسرو راكه كشت
…
غمزه توجشم توا بروي تو
إلى متى تسألين من قتل خسرو؟
…
ما قتله إلا لحظك وعينك وحاجبك
وقال:
بجان رسيدم وازدل خبر نمي يابم
…
وزآنكه برد دلم نيزا ثرنمى يابم
وقال:
بهارآن وكلها شكفت ليك جه سود
…
كه نوى توز نسيم سحر نمى يابم
(دنوت من الموت وليس لدي خبر عن قلبي، ولا أجد أثر من خطفه.)
(جاء الربيع وتفتحت الأزهار، ولكن لا فائدة لي منه، لأني لا أجد ريحك في نسيم الصبح)
وقال:
مردمان درمن وبهوشى من حيرانند
…
من درآ نكس كه ترابيند وحيران نشود
(يعجب الناس منى ومن فقدان صوابي، وأنا أعجب ممن يراك ولا يفقد الصواب)
وصف أرسطو الشعر أنه رمز إلهامه أو محاكاة عمل ذلك الإلهام. وذهب دانتى إلى أن عمله هذا أيضاً رمزي، فالكلام الشعري الذي يقوله الشاعر لا يمثل ذلك العمل في شكل وقوام فني خاص، بل يقدم فيه المعنى الرمزي له. فأنت ترى خسرو كيف رمز إلى شدةنعاناته في الحب في البيت الآتي حين أشار إلى أنه عرف قدر الليل بألم الأرق، ولكنه لم يقدر أن يقيس ليلة الهجر بألم الهجر العظيم حتى بعد معرفة الليل، فان مقياس إدراك الأسباب الآلام هي الآلام قال:
(ازين دو ديده بي خراب شب شناس شدم،
…
ولي قياس شب هجر درنمى يابم
(إني عرفت قدر الليل بعيني هذه المؤرقة، ولكني لم أجد قياساً لليلة الهجر)
قال شيلى: إن الشعر ليس له أثر أخلاقي بغير تعيين ناحية خاصة من نواحي الأخلاق. لأن حقيقة الأخلاق عنده هي الحياة الفكرية في أعلى سموها وأبهى جمالها. ومظهر حيوية الفكر الخيال الذي يغذيه الشعر. ففي نعيش في العالم الذي يصدر منه شعورنا بغاية الأشياء وبالخلق العملي فالأبيات الآتية لخسرو تبين لك ما ذهب إليه شيلي قال ما ترجمته:
(ما دامالحبيب معنا فلم نستعجل رؤيته؟ وما دام يوسف في مصر قلبنا، فلم يجري نهر النيل من عيوننا؟)
(طلبت منه قتلى بلحظة القتال فقال، ما دام الصياد في كمين فلماذا يستعجل الصيد؟)
(إن سالكي طريق العشق لا يبالون بالراحة والألم، إن عشاق الكعبة لا يسألون عن الطريق والميل)
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
موكب آذار
الربيع
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
عضو المجمع الأدبي
كل شيء هنا يغنى ويحيا
…
نغماً ممتعاً وشدواً عجيباً
يا حبِيبي أفِق فقَد ضَحِك الرَّوْ - ضُ وَأَبدَى جَمَالَه الَمحْجُوباَ
واسْتَعادَ الوَادِي الأَنيسُ سَناَهُ
…
وَبَنى الّطيْرُ عُشَّهُ الَخْرُوباَ
طَرِبَ الْقَلْبُ فانْتَشى وَتَغنَّى
…
وَمِنَ الحبَّ أَنْ أعِيشَ طَرُوبا
وأناَ الشاعِرُ الذي يَغْمرُ الأَرْ
…
وَاحَ ضِحْكا وَما يَرِيمُ كئِيَبَا
في فؤاديِ الَّلهيف دَا قدِ اسْتعَ
…
صَى وَجُرحُ يِمضني تَعْذِبيَا
يا حبيبي دُنْياكَ تَطْفحُ بالحُسنِ
…
فَخُذْ لِلفُؤادِ منها نَصيِبا
هاتِ نِايَ الهوَى وَقمْ نملأ الأك
…
وانَ منْ سكْرةِ الغِناَءِ ضُروبا
لا تُرَعْ فالحياةُ يَوْم وَيَمضي
…
ليس يُرْجى لِطَيْفِهِ أنْ يَووبَا
رَفْرَفَ الرَّوضُ وَازْدَهَى وَتَجلَّى
…
رَائعاً فِتنْةَ العيُون قشِيباً
هو ذَا موكِب لآذَارَ حُلْوٌ
…
يَتَمشَّى على السُّهولِ لَعوبا
مَلأ الأرضَ وَالسمَواتِ عطراً
…
وَنفى الهَمَّ وَالضنَّى والشّحُوبا
وعلى مِعطفِ المُروجِ تَراَءتْ
…
قُبَلٌ لِلرَّبيعِ تَنْفَحُ طِيباً
اليَوَاقِيتُ في النَّواظِرِ ذابت
…
وجرى السَّحْرُ بالضَياءِ مشُوبا
جدوَل يُترِعُ القُلُوبَ غِناءً
…
ظَلَّ منْ موْجِهِ السَّنى سَكُوبا
ألمسُ النور في تَلاميعِهِ الزه
…
رِ وأشْتَمُّ رَوْحَهُ المحْبُوبا
وأرى العِطْرَ وهو هَيمْانُ في الدَّوْ
…
حِ يُنَاجي في غُصنِه العَندَليبا
وَأُحسُّ الحياةَ تَرْكُضُ في العُش
…
بِ وَتسْرِي بين الحقُول دَبيبا
نَفَس هَامِس وَآخَر شادٍ
…
وَرؤَى همَّ سِحرهَا أن يُجيباَ
كلُّ شيءً هُناَ يُغنَّى وَيَحيا
…
نغماً ممتعاً وَشدواً عَجِيباً
هَا هُنا تَسمَعُ الأناَشِيد أذْنيِ
…
وتَرى العْين في كَراها الغُيوبا
ها هُنا يَرْكَنُ المُحِبُّ إلى الأُن
…
سِ وَيُغفِي الفُؤادُ إلا وجيِباَ
يا حبيبي أفِقْ فَهاذَاك طَير ال
…
حُبَّ قد أسكَرَ الرُّبا تَطْريبا
تتَرَاَءى السموات ألحا
…
ظاً وَتَبدُو الأرْض الفضَاء قلُوبا
يا حبيبي هنا الهَوى فاغْتَنِمْهُ
…
لستَ عنْ جُرحهِ العَميقِ غَريبا
لَكَ منْ هَذه الدَّغَالِ أليِفٌ
…
يَتَصَبَّاكَ فاَتِناً وَحبيباً
ورياضِ فيها العِشاشُ تُغنَّي
…
فيذُوبُ الغِناَءُ خمراً صبيباً
إن هذا الجمالَ يا قلب نَهبٌ
…
فابْتَدِرْ نَخْطفِ السَّناَ المَنْهوبا
إحىَ لِلنُّورِ، لِلمسرَّةِ، للشّدْ
…
وِ، وَخلَّ الأسى وَخلَّ النَّحِيبا
دمشق
أنور العطار
زهرة آذار
بقلم أمجد الطرابلسي
(مهداة إلى صديقي أنور العطار)
يا زهدةً بعدَ طويلِ الأسى
…
جادتْ بها أفراحُ آذارِ
حُيّيتِ بَلْ قُدسْتِ من زخرةٍ
…
رَفَّتْ رَفيفَ الحُلُمِ الساري
حُيَيتِ من مَزْهوَّةٍ كالصبا
…
مُحْمَرَّةٍ كالَّلهبِ الواري
طلعتِ فانجابتْ غُيومُ الأسى
…
مِن بعدِ أرياحٍ وأمطارِ
بَسَمتِ للرَّوضِ وَحَيَّيتْهِ
…
تحيَّةَ الغائبِ للدارِ
فَضَجَّ بشراً واكتسى حُلةً
…
بيضاء من نور ونَوّارِ
وانبعثَ الوُرْقُ بأفيائِهِ
…
تشدو لآصال وأَسحارِ
ودَغْدَغتْ أفنانَه نَسمةٌ
…
تَخْطِرُ بين الآس والغارِ
تالله ما أدري أيا زهرتي
…
ما هِجْتِ في قلبي وأشعاري
تركتِ قلبي أيَّ مستعبرٍ
…
ينزو، ودمعي أيَّ مدرارٍ
لولا هوىً أجَّجتِ في خافقي
…
ما صغتُ يوماً فيه أشعاري
أحييتِ في قَلْبيَ مَيْت المنى
…
وهِجْتِ أحلامي وأسراري
. . أأنت من نارِ الحشا جمرة؟
…
أم أنتِ مَلآى بدمي الجاري!
أنَرْتِ هذا الرَّوضَ يا زَهْرتي
…
كما أنارَ الحبُّ أغْواري
ألم يكُنْ قَلبي قُبَيْل الهوى
…
يا زَهرتي، كالهيكَلِ العاري
كهفاً يَئِنُّ الحُزْنُ في جَوفِهِ
…
أنينَ أرْياحٍ وأوتارِ
مستوحِشاً قفراً سوى عاصف
…
للشكَّ، يلهو فيهِ، موّارِ
كهفَ مُنى لم يُبْق منها الأسى
…
غير خيالاتِ وآثارِ
حتى إذا ما حلَّ فيهِ الهوى
…
من بَعدِ أحزانٍ وأكدارِ
تَفَتَّحَتْ أحلامُهُ بَهْجَةً
…
تَفَتُّحَ الزهرِ لآذارِ
إيه أماني القلبِ ماذا تُرى
…
يُخفى لَكُنَّ الزمنُ الضاري؟
أخشى عليكُنَّ غداً حالكاً
…
يجري بأسرار وأقدارِ
عَوَّدَني دهريَ خُلْفَ المُنى
…
وهدمَ آمالي وأوطاري
هذا صبايَ الغضُّ، والهْفَتا،
…
كمْ مَأملِ لي فيهِ مُنهارِ
يا زهرةً بعدَ طويلِ الأسى
…
جادتْ بها أفراح آذار
أيَّ المُنى في القلبِ أيقَظتها
…
مَعسولةً، بل أيّ تَذْكارٍ؟
دمشق
أمجد الطرابلسي
القصص
من أساطير الإغريق
برسيوس وأندروميدا
والجرجون الثلاثة
للأستاذ دريني خشبه
في إحدى مدى الشاطئ الأغريقي، كانت تعيش أميرة جميلة تدعى (داناي)، هي وابنها الوحيد الجميل برسيوس، الذي كتب عليه أن يحرم من صدر والده الحنون، ذلك الوالد الذي طوحت به أسفاره، فشط مزاره، ولم يعد أحد يعرف أين انتهى قراره
ولقد كان هذا الوالد - فيما يظهر - على جانب عظيم من البأس وقوة الجانب، حتى لقد فرح أهل المدينة لبعده فرحاً شديداً؛ ولخوفهم من أن ينشأ طفله برسيوس على وتيرته، تآمروا فيما بينهم على نفيه هو وأمه من جزيرتهم في زورق صغير يدفعون به إلى اليم، والأمواج المتلاطمة كفيلة، ثمة، بإجراء حكمها فيهما. .
يا للوحوش! لقد أنفذ الأشقياء تدبيرهم؛ وتناوحت الأمواج حول الزورق تقذف به ها هنا وهاهنا، والأم المسكينة تغالب أحزانها وتنسى مخاوفها، فتغني لطفلها الراقد في حضنها، وتدلله كي ينام، وكي يكون بنجوة من فزع هذا البحر المصطخب
وبعد أن كان الموت المحقق قاب قوسين من هاتين الفريستين، وبعد أن كانت كل موجة تشق للزروق قبراً في أعماق الماء، شاءت العناية أن تسخر موجة هائلة تدفع به، في هوادة ورفق، إلى ساحل جزيرة نائبة في وسط المحيط. وهناك، نزلت الأم الموهونة متهالكة على نفسها، حاملة وديعتها البريئة، شاكية إلى الآلهة صنع الإنسان بالإنسان، ولمحت في الأفق قرية متطامنة، فيممت شطرها، وما فتئت تتعثر في خطاها حتى بلغتها والشمس تتوارى بالحجاب
ورحب الناس بالضيفين البائسين، لأن دينهم كان يأمرهم بإيواء أبناء السبيل، وإكرام الغرباء واللاجئين؛ فعاشا ناعمين، وشب برسيوس سليما من الآفات، مكتنز العضلات، بادي الفتوة، موفور القوة، عذب اللسان، مشبوب الجنان، وأحبه الناس وأعجبوا به، والتف
الجميع حوله يصغون إلى أحاديثه العذاب،
وقصصه الرطاب. . . .
وتسامع الكل به، وترامت إلى ملك الجزيرة اخباره، فشغله انصراف الناس إليه، وافتتانهم به؛ وكان (قاتله الله)، غيوراً رعديداً، فآلى أن يكيد له، ويدبر حيلة يقصيه بها عن طريقه، ليطمئن على نفسه. . . . وعرشه؟
وكان في إحدى الجزر النائية ثلاثة من الجرجون الضارية، وهي أفزع ما جاء في أساطير اليونان، وكل من هذه الجرجون تنين هائل له رأس امرأة، ويدان من النحاس الأصفر الصلب، ذواتا أظافر حادة، تنفذ في أقسى المعادن وأصلبها، وليس لها شعر في رءوسها كما للنساء، بل لها، عوضاً عن الشعر، حيات وأفاع ذات رؤوس مرعبة تنفث السم الزعاف. وقد أوتيت قوة خارقة، لتستطيع إحداها أن تقصم جذع النخلة بضربة ضعيفة من ذنبها الجبار! وليست هذه الجرجون مخيفة بسمها وقوة بنيتها فحسب، بل الأدهى والأمر، هو هذا السر الدفين في عيونها؛ إذ كل من جرؤ على النظر إلى هذه العيون، يتحول في الحال إلى صنم من الحجارة لا يتحرك، ولا يعي!!
وكانت الجرجونة (مديوسا) أفظع أنواع الجرجون جميعاً، ولذا كانت أختاها الأخريان تحترمانها، وتسهران على راحتها ولكن ماذا اعتزم الملك الجبار في كل ذلك؟ لقد دبر أن يغري برسيوس بالذهاب إلى جزيرة الجرجون لقتل (مديوسا) والاياب رأسها كأحسن هدية تقدم إلى ملك. وكان هذا الرجل الخبيث يعلم تمام العلم أن مجرد محاولة الذهاب إلى جزيرة الجرجون هو ضرب من الجنون لا يقدم عليه إلا المأفونون، فان نظرة واحدة من عين مديوسا كفيلة بوضع حد لكل شيء وأرسل الملك إلى برسيوس فمثل بين يديه، وطفق يكيل له المدح جزافاً، ويبالغ في الثناء على ما ترامي إليه من أخباره، وضروب شجاعته التي يتحدث بها الجميع.
وامتلأ برسيوس، الفتى، زهواً، وشاعت في أعطافه الكبرياء، وراح هو بدوره يشكر الملك حلو ثنائه، وجميل إطرائه، فما إن أدرك الملك ما بلغ ثناؤه من قلب برسيوس الغرير، ونفسه الصغيرة، حتى أخبره بما انتدبه له؛ فقبل الفتى المسكين وهو لا يدري ما هي هذه الجرجون، ولا أين الجرجون؟
وانطلق من فوره، وأرسل الملك من حاشيته من أبلغوه خارج الأسوار، في مهرجان فخم، وموكب أنيق. ثم غربت الشمس فغلقت الأبواب، وجلس برسيوس على صخرة عظيمة مشرفة على البحر يفكر في هذه الجرجون، وينظر إلى القمر يشرق من الاثباج، فيفضض الموج، ويحور به البحر رجرجاً من لجين! ويذكر فجأة أنه لم يودع أمه، ولم يتزود منها قبلة أو دعاءً لهذا السفر الطويل. فيبكي. . . ويبكي بكاءً مراً!
وتصدع قلبه حينما خيل إليه أنه قد لا يعود إليها، مع أنه عزاؤها الوحيد في هذه الحياة!
وانتصف الليل!
وفيما هو غرق في لجة الفكر، شرق بواكف الدمع، إذا بصوت رقيق يناديه من فوق الصخرة المقابلة:(برسيوس أيها العزيز! فيم بكاؤك؟ ولم تذرف كل هذه الدموع؟ لقد هجت الآلهة، وأحزنت أرباب الأولمب!). ونظر برسيوس ليرى من صاحب هذا الصوت الرخيم الذي يناديه، فعجب عجباً شديداً! لقد رأى مخلوقاً جميلاً مشرق الجبين، يترقرق البشر في ` وجهه، لا يعقل أن يكون بشراً! يلبس فوق هامته قلنسوة ذات أرياش وأجنحة، وفي قدميه نعلان غريبتان يتصل بكل منهما جناح كجناح البازي، وفي يده عصا سحرية تتلوى بطرفها الأعلى ثعابين وحيات!!
على أن برسيوس لم يعلم أن الذي يتحدث إليه، إن هو إلا الإله هرمز رسول الآلهة بين السموات والأر ?، الذي لا يفوقه في سرعته أحد
وبعد، فلقد قص برسيوس قصته على هرمز. وما فرغ منها، حتى قال الإله له: (بني! إنك مقدم على أمر جلل، وشأن بعيد المدى، صعب المنال. ولقد أراد الملك أهلاكك حين اختارك لهذه المهمة، لأن أحدا لا يجسر على الذهاب إلى جزيرة الجرجون إلا إذا كان أحمق أو مجنوناً! ولكن أصغ إلى! انك لا بد فائز إذا علمت بوصاياي، ولم تحد عما أشير عليك به.
وسأذهب عنك لحظة، ثم أعود إليك بآلاء من الآلة، تقرب لك النجح، وتسهل عليك كل شاق من أمرك. فانتظر).
ورقى هرمز، ثم غاب في السماء، وبهت برسيوس حين رآه يطوي الأديم الفضي، ويطرق أبواب أورانوس!
وقص هرمز قصة صاحبه على الآلهة، فرثت للفتى المسكين وتحركت في قلوبها الرحمة
العلوية، التي طالما تنهمر من السماء، لتغسل الآم الأرض: وتعاهدت أن تؤازر برسيوس، وتمده بكل ما يسهل عليه أشق أمره. فنزل بلوتو، إله الموتى، عن قلنسوته التي تخفي من يلبسها فلا يراه أحد، وتبرعت مينرفا بترسها الذي يحمي لابسه من حراب الأعداء، وهو درع ثمين من الذهب الخالص، يلمع لمعاناً شديداً، حتى ليعكس المرئيات في صفحته، كأنه السجنجل
وحمل هرمز المنحتين، وعاد بهما إلى حيث يجلس برسيوس فقدمهما إليه، وزوده بجرازه المتلوي القاطع، الذي ليس كمثله سيف ولا حسام. ومنحه نعليه المجنحتين، اللتين تسبقان به الريح، فلبسهما ثم قال له:(تلك يا برسيوس هدايا الآلهة أسبغها عليك. بيد أنه ينبغي قبل كل شيءأن تذهب معي إلى هذه الجزيرة القريبة حيث تقيم ثلاث إناث من السيكلوب ذوات العين الواحدة، فتحتال عليهن حتى تعرف منهن موضع جزيرة الجرجون، لأن أحداً من العالمين لا يدري أين موضعها بالضبط غير هؤلاء السيكلوب. سر إذن على بركة الآلهة في أثري، واحترس لنفسك، والسماء تكلؤك.)
وكم عجب برسيوس حين رآه يطير في إثر هرمز، والبحر من تحتهما تتلاطم أمواجه، ويعج عجيجه، وهما من فوقه كالعصافير المهاجرة، وحطا في الجزيرة المنشودة، بعد أن دوما فوقها طويلا. وكان ذلك بالقرب من كهف حالك، في منحدر صخرة صعبة المرتقى. وقد لمح فيه برسيوس السيكلوب الثلاث، بفضل ترس مينرفا الذي كان يعكس في صفحته كل ما في الجزيرة
إنها مخلوقات غريبة حقاً، ليس كمثلها شيء في الآفاق، شاذة في خلقها، عجيبة في تنسيق جسمها؛ وهي إناث على كل حال، يعيشن في هذه الجزيرة المعشوشبة، بعيدات عن العالم، منزويات في هذا الركن السحيق من أركان الدنيا. وأغرب ما في أجسامهن من شذوذ، أنهن ليس لهن أعين كما للناس، ولكن لهن، لثلاثتهن، عين واحدة! تركبها إحداهن لوقت معلوم، في حفرة غائرة من جبينها، حتى إذا انتهى الوقت وجاءت نوبة السيكلوبة الأخرى، نزعت الأولى تلك العين وأعطتها للثانية، وهذه تعطيها للثالثة بدورها، وهكذا دواليك، وبوساطة تلك العين العجيبة تستطيع السيكلوب رؤية أصغر شيء في أقصى جهات العالم، من دون ما مشقة ولا عناء
وبعد أن زود هرمز صاحبه بوصايا غالية، انتحى ناحية قريبة، واختبأ بريسوس خلف شجرة باسقة؛ ولشد ما دهش إذ رأى إحدى السيكلوب تقود أختها، وفي جبينها العين العجيبة ترمق بها أصقاع العالم، وتحدث أختيها عما ترى. وبعد قيل ثار نزاع بين الأخوات على العين، كل تريد أن تأخذ نوبتها، وكل تدعى أن الدور دورها. وفيما كانت الأولى تنزع العين، وتوشك أن تعطيها للثانية، انقض برسيوس فتسلمها من السيكلوبة، دون وعي منها!! لأنها بدون العين لا تستطيع أن ترى شيئاً في العالم. وينشب نزاع شديد بين السيكلوب على العين، كل منهن تتهم أختها بأن العين معها وتدعى الإنكار، حتى وضع برسيوس حداً لتنازعهن، بان هتف بهن:(أيتها الأخوات العزيزات، لا تنازعن على عينكن، فهي في هذه اللحظة معي وبين يدي.) وانقضت السيكلوب هلعات نحو مصدر الصوت، ولكن هيهات أن يقبضن على شخص تحمله نعلا هرمز، فلقد قفز قفزة هائلة، أقصى بها نفسه عنهن، ثم قال:(أيتها الأخوات العزيزات! أنا أعلم أنكن لا تستطعن الحياة بدون العين الغالية، وأنا أعدكن بردها اليكن، ولكن بشرط واحد: ذلك أن تخبرنني عن المكان الذي تأوي إليه (مديوسا) وأخواتها الجرجون، فان لم تفعلن فلا عين لكن عندي.)
وهنا تميزت السيكلوب من الغيظ وكدن لا يجبن بشيء، لأنهن منهيات عن إذاعة أسرار العالم، ولكن إذاعة السر في هذه اللحظة أهون ألف مرة من هذا العمى المطلق، والظلام المبين يغطش حياتهن، فأخبرنه بموضع الجزيرة ومأوى الجرجون فيها، ولكي يثق مما أنبأنه به نظر في العين التي بين يديه فرأى الجزيرة، وأيقن أنهن لم يخنه؛ ثم إنه تحين الفرصة الملائمة ودفع بالعين في جبهة اقرب السيكلوب منه وغاب في الجو ميمماً شطر هرمز، حيث وجده يمرح في غيضة ناضرة فتعانقا عناقاً طويلاً، وشكره برسيوس على جزيل مساعدته، ثم افترقا على أن يبدأ برسيوس رحلته إلى جزيرة الجرجون
وكانت رحلة طويلة شاقة، برغم نعلي هرمز. فكم بحار طوى، وكم وهاد رأى، وكم ريح صرصر كافح، وكم مشقة احتمل، حتى وصل إلى جزيرة الجرجون! ولم ينس ما أوصاه به هرمز من وجوب النظر إلى أعلى دائماً حتى لا تقع عيناه على عيني إحدى الجرجون فيحور حجارة صماء. وكان يتخذ من درع مينرفا مرآة صافية يرى فيها ما تعج به الجزيرة من كهوف وزروع وغابات. ولشد ما سر سروراً لا مزيد عليه حين وجد الجرجون الثلاث
مستغرقات في سبات عميق عند مدخل كهفهن السحيق. وفي وسطهن مديوسا العاتية. تغط غطيطاً مروعاً. فاستخار الآلهة، وامتشق جراز هرم ?، وتعوذ ثم تعوذ، ثم انقض كالصاعقة، فأهوى على عنق مديوسا بضربة قاتلة، انفصل بها الرأس عن سائر الجسد. وهنالك، علا فحيح الأفاعي الباسقة في رأس مديوسا، تدمدم في الكيس الجلدي الذي ألفاها برسيوس فيه، حتى لقد استيقظ أختاها، وانطلقتا مرتاعتين في إثر الفتى، تودان لو تمسكان به، فتعتصران عظامه اعتصاراً. . .
ولكن قلنسوة بلوتو تخفيه عنهما، وتحفظه من شرهما وبينما هو يطوي الضحاضح والبحار، وبينما هو منتش بخمرة انتصاره، مفكر في اللحظة التي يلقي فيها الملك ليريه رأس مديوسا، ويحظى لديه بثمرة فوزه، بينما هو كذاك، إذا به يلمح في إحدى الجزر زحاماً شديداً، وجماهير حاشدة، متكبكبة حول صخرة ناتئة، مشرفة على البحر، وقد تدلت منها فتاة بارعة الجمال، بادية الحسن، مغلولة العنق، مربوطة الأطراف بسلاسل وأصفاد من حديد صلب. ونظر فرأى تنيناً بحرياً هائلاً يطفو فوق الماء، ويقترب من الفتاة قليلاً قليلاً، وراعه أفزع الروع تلك الصرخة الهائلة التي صرختها الفتاة فرددت الغيران والكهوف ومشارف الجبال صداها
ماذا؟. . .
الفتاة مذعورة أيما ذعر، والناس من حولها ينظرون ولا يحركون ساكناً. . .
والتنين يقترب ويقترب. . .؛ ولم ينتظر برسيوس حتى يفترس الوحش تلك الفتاة المفزعة، بل استل جراز هرمز وانقض فوق ظهر التنين وأهوى على عنقه بضربات سريعة متلاحقة غاص بها في أحشائه، ولبثا يتصارعان ساعة من الزمان كانت كلها هولا، وكانت كلها فزعا، والناس ينظرون مشدوهين، زائغة أبصارهم، لا يصدقون ما يبصرون.
ثم انجلت المعركة عن جثة التنين الضخمة طافية فوق الماء، الذي تحول بدوره خضما من الدماء. وقفز برسيوس إلى الشاطئ، وذهب إلى الفتاة ففك أصفادها، وهدأ من روعها، وسأل الناس فقادوها إلى والدتها المسكينة المعذبة التي حبست نفسها في حجرة مظلمة، وانتظرت ثمة من ينعى إليها ابنتها
أما هذه الأم، فهي الغادة الأغريقية كاسيوبيا، المشهورة بجمالها، وحسن روائها، والتي كانت
أفتن حسان هيلاس في زمانها، ولقد امتلأت زهواً بما أضفت عليها الآلهة من قسامة، وما أسبغت عليها من وسامة، فزعمت، وهي تفاخر أترابها، أنها أجمل من عرائس البحار التي لا يدانيها في جمالها الباقي، جمال هذا البشر الفاني. فغضبت عرائس الماء، لهاذا الادعاء، وأقسمن ليعذبنان أهل الجزيرة التي فيها كاسيوبيا بهذا التنين المروع الذي شرع يغدو كل يوم إلى شواطئ الجزيرة، فيقتل ويلتهم عشرات من سكانها!
وذعر القوم، وحاروا في أمر هذا التنين، وذهبوا إلى الهيكل يقدمون قرابينهم للآلهة، ويستوحون كهنتها نبوءة تبعد عنهم شره، وتكفيهم أمره. ولقد أجيبت أدعيتهم، وتقبلت أضحيتهم؛ وأرهفت الأسماع، وشمل الهيكل هذا السكون المقدس الرهيب، وما هي إلا لحظة حتى انطلق صوت خفي من أعماق المذبح، يقول: (قدموا العذراء أندروميدا، ابنة الغانية كاسيوبيا؛ ضحية حلالاً لتنين البحر، جزاء غرورها وكبريائها
- ذلك إن أردتم أن يكف التنين عنكم شره، ولا يعاودكم أذاه!) وانكفأ القوم محزونين مروعين، لأنهم كانوا يحبون كاسيوبيا وابنتها، حباً هو العبادة. وحاروا كيف يتقدمون للأم بهذا النبأ العظيم؟!
وكان لا بد من النفاذ، لإنقاذ الجزيرة وجميع سكانها. . .
والآن، لقد أنقذ برسيوس أندروميدا الجميلة من براثن التنين، وشعر في سويدائه بعاطفة نورانية تجذبه إلى هذه الفتاة، وأحس كأن مستقبله مرتبط بمستقبلها برباط قدسي تباركه السماء وتحرسه العناية؛ فتقدم إلى والدتها يطلب إليها يد أندروميدا ووافقت الوالدة، وسعدت الفتاة بهذا البطل الشاب الذي أنقذ حياتها مرتين: مرة من هذا الوحش الضاري الذي تركه برسيوس جثة هامدة، ومرة ثانية من ذلك الشيخ الفاني الهرم الذي تقدم إليها يريدها زوجة له، وكادت أمها تقسر على الموافقة لما للشيخ في الجزيرة من صولة وجبروت، لولا المقادير التي تتابعت بعد ذلك
وأقيم مهرجان كبير، وزينات فخمة للاحتفال بالعروسين؛ فمدت الأخونة، وأعدت الأسمطة، وبدأت الموسيقى الإغريقية تعزف أشجى ألحانها، وأخذ الجميع في قصف حلو وسمر برئ وإنهم لفي كل ذلك إذا بالرجل الهرم الذي تقدم لخطبة أندروميدا من قبل، يقتحم الحفل هو وعصبة قوية من رجاله المسلحين، وإذا بالرجل يهتف بيرسيوس قائلاً: (برسيوس! لقد
اعتديت على مولى هذه الجزيرة اعتداء صارخاً بانتزاعك أندروميدا من يدي؛ وإنك إن لم تنزل عنها طواعية فسأكرهك على تركها قسراً، بعد أن تروي هذه السيوف من دمائك ودماء من يلوذ بك!. . . .) فحدجه برسيوس بنظرة ساخرة وقال:(من أنت أيها الرجل الذي يجسر على مخاطبتي بهذا الهراء؟ لقد أصبحت أندروميدا زوجي، وإن كانت من قبل خطيبتك؛ أنت من غير ريب تحلم. . . غير أني أسألك: أين وليت وجهك يوم اضطرت أمها المسكينة أن تنزل عنها قرباناً للتنين؟ لقد كان أولى بشجاعتك أنت ورجالك لو توليتم إنقاذها من الأفعوان البحري الذي أذلك وأذلهم. . . .) ومد يده إلى الكيس الذي كان به رأس مديوسا، فأخرجه وقال:(ولكن انظر إلى هذا قبل أن تقتلني.) وما كاد الرجل ينظر إلى عيني مديوسا، حتى تصلبت عضلاته، وتحجر جسمه، وظل مكانه كأنه تمثال! ودهش أصحابه لجموده، وظنوه قد سمر حيث هو، فلما لامسوه استطيرت ألبابهم، ولاذوا من الفزع بالفرار
وأخفى برسيوس رأس مديوسا، واستمر القوم في سمرهم كأن لم يحدث شيء. . . اللهم إلا هذا التمثال المنتصب في أول ردهة، والذي كان يهرف منذ لحظة، فاصبح عبرة الزمان، وضحكة الأيام! وحان يوم الرحيل، فخرج أهل الجزيرة يودعون الزوجين، وظلت كاسيوبيا تعانق برسيوس مرة، وإندروميدا مرة أخرى، والدموع فيما بين هذه وتلك، تنهمر على خديها انهماراً. . .
والناس ينظرون. . . . ويبكون
ثم حمل برسيوس عروسه، ومرق في الهواء كالسهم، والقوم من عجب يتصايحون ويهتفون
وكانت الرحلة هذه المرة، على شدتها وطولها، من أروح الرحلات إلى قلب برسيوس. وتستطيع أن تتصور القبل الحلوة تنطبع على هذين الثغرين الحبيبين، في ملكوت السماء، لتدرك أي سعادة شعرية، وأي هنيهات سحرية، فازا بها في لازورد الفضاء
وبلغ مدينة الملك بعد نأى طويل، وسنين عدة، فذهب أول ما ذهب إلى منزل أمه، وناهيك بما كان من عناق، وما تبودل من تحيات. وبكت داناي المسكينة وهي تهنئ ابنها بأندروميدا، ثم أخذت تقص، ملء أحزانها، وفي فيض أشجانها ما انتابها من سوء، وما لحقها من عسف، لأنها أبت أن تكون خليلة الملك المخاتل الجبار، الذي صب عليها جام
نقمته، وأذاقها من الهوان ألواناً! فحزن برسيوس حزناً ممضاً، وهيج حتى خيف عليه، وذهب من فوره إلى قصر الملك بكل عتاده! ودخل إلى البهو الملكي بدون استئذان، وهو يضمر في القلب غصة، وفي النفس لوعة، وفي الكيس رأس مديوسا!!
وقال الملك حين لمح برسيوس: (هلا! برسيوس! لقد عدت أخيراً، وما أحسبك وفيت بما قطعت على نفسك من عهود! لعل شجاعتك التي بالغ الناس في إطرائها والثناء عليها قد واتتك في حربك مع الجرجون؟)
فأجاب برسيوس، دون أن يحيى بالتحية الملكية:(أيها الملك! لم تخاطبني هكذا ولا تتريث حتى تنظر إن كنت قد عدت إليك برأس مديوسا الرهيب؟)
(فقهقه الملك، وملأ التهكم شدقية، وقال: (طبعاً ستدعى أنك قتلت مديوسا ولكن رأسها وقع منك في البحر، فالتقمه الحوت؟. . . يا للشباب المخدوع؟!)
وثارت ثائرة برسيوس، ولم يجد إلى صبر من سبيل، فحسر عن رأس مديوسا وقال:(أيها الملك. . . انظر!)
وبهت الملك مكانه حين وقع بصره على عيني مديوسا؛ ثم تحول في لمحة إلى تمثال من الحجر ما يأتي بحركة؛ ولا ينبس ببنت شفة!!
وحدث عما شمل أهل الجزيرة من الفرح حين ترامت إليهم أخبار الملك؛ وما تم له مع برسيوس. لقد كانوا يؤثرون الموت على أن يحكمهم مثل هذا الظالم العاتي المستهتر، ولقد كانوا يودون له الهلك، حتى خلصهم برسيوس منه، فهرعوا إليه، وهتفوا في كل مكان باسمه، وحملوه على الأعناق إلى حيث الملك التمثال وهناك، صبوا لعناتهم على الطاغية، وانصرفوا، يهنئ بعضهم بعضاً، بعد ان اختار لهم برسيوس ملكا منهم. . . . فاضلاً، عادلاً. . . .
وقد عرضوا عليه الملك فأبى. . . لأن مملكته الكبيرة المكونة منه ومن أمه، ومن أندروميدا كانت آثر لديه من كل ملك عتيد!!
وتوجه إلى حيث لقي هرمز، عند الصخرة المشرفة على البحر، فوجده ينتظره، فتعانقا عناقاً يفيض محبة، ويقطر وداً، ثم رد إليه هدايا الآلهة بالحمد والثناء. . .
أما رأس مديوسا، فقد أهداها إلى منيرفا، ففرحت بها فرحاً شديداً، وهي إلى اليوم مركبة
في وسط ترسها ترهب بها أعداءها الألداء. . . .
دريني خشبة
البريد الأدبي
إحياء ذكرى الفيلسوف الطبيب موسى بن ميمون
لمرور ثمانمائة عام على ميلاد موسى بن ميمون أحد أقطاب الطب
والعلم في عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي وفيلسوف اليهود الأكبر
في العصور الإسلامية ورئيس الطائفة الإسرائيلية بالقاهرة والفسطاط،
ذلك الرجل الذي ترك أثراً خالداً في الفلسفة الإسرائيلية والطب
العربي، وكان واسطة الاتصال بين الحضارتين الشرقية والغربية
قررت جمعية المباحث الإسرائيلية بمصر إحياء ذكراه في ثلاث حفلات كبرى، أولاها بإشراف الجامعة المصرية وتحت رعاية صاحب المعالي وزير المعارف العمومية، وتقام بدار الأوبرا الملكية يوم الاثنين أول أبريل سنة 1935 (اليوم) يفتتحها معالي الوزير نجيب بك الهلالي ثم حضرة صاحب السعادة علي باشا إبراهيم مدير الجامعة المصرية بالنيابة
ويخطب في هذه الحفلة الدكتور جورجي صبحي أستاذ التاريخ الطبي بكلية الطب عن مصنفات موسى بن ميمون الطبية. والعلامة الدكتور ماكس مايرهوف عن كتاب العقار لموسى ابن ميمون، والأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب عن موسى بن ميمون في نظر مؤرخي فلاسفة المسلمين، والدكتور إسرائيل ولفنسون أستاذ اللغات السامية بدار العلوم العليا عن كتاب (دلالة الحائرين ومذهب موسى بن ميمون في الفلسفة) ويلقى في هذه المناسبة شاعر القطرين خليل بك مطران قصيدة رائعة، ويختتم الحفلة صاحب السعادة يوسف قطاوي باشا رئيس جمعية المباحث الإسرائيلية بمصر وأما الحفلتان الثانية والثالثة فعامتان
وجميع الخطب والقصائد التي تلقى في الحفلات الثلاث تجمع في كتاب واحد ينشر على نفقة الجمعية المذكورة
العيد الألفي للمتنبي
اعتزمت رابطة الأدب العربي بالقاهرة، إقامة العيد الألفي لأبي الطيب المتنبي في خلال شهر رمضان المقبل عام 1354 (ديسمبر سنة 1935) تذكاراً لانقضاء ألف عام على وفاته
ويشمل برنامج هذا العيد إقامة مؤتمر أدبي عربي عام يبحث جوانب الأدب العربي قديمه وحديثه، وما يجب أن يحاط به من العناية والإصلاح
ومن النواحي التي يوليها المؤتمر عنايته الخاصة:
أ - توحيد الثقافة الأدبية في البلاد العربية
ب - حدود التجديد في الأدب العربي
جـ - إصلاح مناهج الدراسة الأدبية
د - الأدب النسوي
هـ - أدب الأطفال
وأدب القصص
ز - أدب المسرح
ح - الأغاني والأناشيد
ويسر رابطة الأدب العربي أن يؤازرها الأدباء بحضورهم، أو بإرسال ثمرة بحثهم، عن المتنبي، أو عن أحد أغراض المؤتمر ليلقى في الحفل ويضم إلى كتاب الذكرى
وترجو الرابطة أن يصل الرد إلى لجنة تنظيم المؤتمر قبل آخر ربيع الثاني عام 1354 (يوليو سنة 1935)
ارفيوس ويوريدس
الآنسة أمينة شاكر فهمي - أسيوط
حول إلى أستاذنا الجليل صاحب (الرسالة) كتابك الكريم الذي ذكرني بالقصاص وعنترة والرجال الذي أقسم لا يذوق طعاماً حتى يخرج ابن شداد من سجنه؛ وكان القصاص قد انتهى إلى أسر عنترة، ثم وعد السامعين إلى الليلة المقبلة!
تسألينني يا أختاه هل لقي أرفيوس يوريدس بعد عودته إلى هيدز روحاً بلا جسد؟ فأجيبك
أن نعم! لأن الأرواح كلها تلتقي في هيدز، فيما كان يزعم الإغريق القدماء
وتسأليني هل كان الإغريق يؤمنون بالحياة الآخرة، واجتماع الأرواح وتعارفها بعد الموت؟
ولعل من حسن التوفيق أن كنت أكتب فصلاً عن ديانات الشعوب الهيلانية عامة، وعن مذهب الأرفزم خاصة، ذلك المذهب الذي شاع بين اليونانيين فيما قبل القرن السادس (ق. م)، وظلت آثاره قوية جلية في أكثر آداب الأغريق، منذ هسيود شاعر الطبيعة الصداح، حتى يورييدز كبير ملاحدة التاريخ القديم. وإني أعدك بإرسال هذا الفصل إلى (الرسالة)، وإن لم أكتبه للصحف، لأن فيه الرد الوافي الذي تطلبين
على أني أحسبك قد قرأت دانتي اليجيري، فذكرتك أسطورة أرفيوس برحلته في الجحيم والمطهر والفردوس، ليلقى ثمة حبيبته بباتريس
الأسطورة الأغريقية، وكوميدية دانتي متشابهتان يا آنسة؛ فإلى اللقاء، على صفحات الرسالة الغراء
دريني خشبة
بجماليون المثال
سيدي. . . . . صاحب (الرسالة)
قرأت في عدد (الرسالة) الأخير قصة (بجماليون المثال) للأستاذ دريني، فكانت حقاً رائعة. ولكن الأستاذ لم يكمل الأسطورة، بل اكتفى بجزء منها. لأنني قرأت هذه الأسطورة نفسها في كتاب لا أذكره ولا أذكر كاتبه. ويغلب على ظني أنه لجبران خليل جبران
ومجمل القصة الكاملة أن بجماليون عشق تمثاله، وطلب من فينوس أن تنفخ فيه الروح فاستجابت دعاءه، وراعه أن رأى أمامه جسداً بشرياً لغادة بارعة الحسن. . . . . إلى هنا انتهى الأستاذ، وفاته أن يذكر أن هذا التمثال الحي: جالاتيا، قد ألم بها مرض ملح أوشك أن يودي بحياتها، فتملك بجماليون الرعب واليأس، وذهب ليلاً إلى ممثله وأحضر إزميله ومنحته وأعملهما في جسم حبيبته المريضة فارتدت رخاماً كما كانت - خالدة كما أراد لها الخلود، بعد أن أراد لها الحياة فدبت فيها الحياة -
ولعل هذا الجزء الأخير من الأسطورة يكسبها روعة على روعتها فضلاً عن أنه يجعل لها
مغزى بارعاً يرفعها إلى مصاف القصص الفلسفي فوق مكانتها في عالم الأساطير
شبرا
زكي شنودة جندي
في الأكاديمية الفرنسية
عينت الأكاديمية الفرنسية يوم 28مارس الماضي لأجراء الانتخاب للكراسي الثلاثة التي خلت بوفاة الأب بريمون، ومسيو لوي بارتو، ومسيو رايمون بونكاريه. وقد خلا أخيراً كرسي جديد بوفاة المؤرخ الكبير لينوثر، فصارت الكراسي الخالية أربعة، وقد شهدت الأكاديمية في الأشهر الأخيرة انقلاباً عظيماً في تكوينها الجديد، فذهبت منها فجأة بالوفاة عدة من الشخصيات البارزة، مثل ليوتي وبارتو وبوانكاريه، واندمجت فيها شخصيات جديدة عظيمة أيضاً، مثل الماريشال فرانسيه دسبري الذي ملأ كرسي ليوتي، والدوق دي بروجلي العلامة الأشهر. وفي مقدمة المرشحين للعضوية، مسيو دومرج رئيس الجمهورية السابق إذ يرشح لكرسي بوانكاريه، ومسيو جورج دوهامل. وبيير ميل، من أعلام الكتاب
من هنا ومن هناك
كتاب عن مقاهي باريس
أجل كتاب عن مقاهي باريس صدر أخيرا بقلم مسيو فرانسوا فوسكا، وعنوانه (باريس قريتي) وانه لنوع طريف من الأدب أن يعنى كاتب بهذه الناحية من الحياة مدينة عظيمة؛ فكما أن باريس تزخر بمتاحفها وكنائسها وآثارها العظيمة، فهي أيضا تزهو وتتألق بمقاهيها ومنتدياتها الليلية. وقد تناول مسيو فوسكا في كتابة صور المقاهي الباريزية الشهيرة في العهد المنقضي والعهد الحالي، ووصفها وصف خبير طاف بأرجائها وتسكع في أركانها؛ فمن مقاهي بروكوب دي ديكلو، والريجانس، إلى مقاصف البالية رويال، وسورس دي فرلين، وفاشيت دي موريا، وفبير، وبار دي لابية، وتولية وغيرها إلى منتديات اليوم ومعاهده. وهي صور تثير في نفس الباريزي الحق شجنا وذكريات عزيزة، ولا سيما حين يتصفح أسماء وصورا كانت بالأمس متألقة شهيرة ملء الأبصار والأسماع، وكان يهرع إليها ويتخذ مكانة بها ويقضي فيها ساعات لذيذة، قبل العشاء أو بعد المسرح، ثم اختفت اليوم صورها وأثوابها القديمة المحبوبة لتفسح مكانا لأثوابها الجديدة، وأي باريزى حق لا يتأثر حين يستعرض ذكريات (قهوة الإنكليز)(كافيه ديزانجليه) الشهيرة التي كانت قطعة من حياة كثيرة من أقطاب السياسة والقلم في أواخر القرن الماضي، والتي أضحت أثرا بعد عين، ثم (مقهى نابولتان) الذي غيرت معالمه ومظاهره، وكذلك مقهى فبيروباردىلابيه. لقد ذهبت هذه المعاهد القديمة، واكتسحها تيار التحول الحديث، فأسبغ عليها تخطيطاً خشناً، وأنوارا مؤذية، وترفاً سخيفاً، ورفع عنها ذلك الجو العائلي الذي كان يشعر به الرواد من قبل. بيد أنه ما زالت توجد طائفة من المقاهي القديمة، الفرنسية حقاً، وهذا ما زالت كعبة الباريزيين المحافظين الذين يسحرهم المكان والمجلس بأكثر مما يسحرهم المأكول والمشروب
وينوء مسيو فوسكا في كتابه بما كان لهذا المقاهي الباريزية الشهيرة من أثر في تكوين الأوساط الأدبية والفنية؛ فقد كانت مقصد الكتاب والفنانين والشعراء من كل ضرب، وكانت مجمعهم، وكثيراً ما كانت مركزاً للحلقات الأدبية والفنية الشهيرة، وكثيراً ما كانت مصدر الوحي لكاتب أو شاعر أو فنان. ومن ثم كان كتاب مسيو فوسكا قطعة اجتماعية أدبية فنية
فياضة السحر والمتاع
كتاب عن الأبهاء الأدبية
صدر أخيراً بالفرنسية كتاب طريف فريد في نوعه وموضوعه للسيدة ماري شكيفتش عنوانه (ذكريات عصر مضى)، وفيه تتحدث المؤلفة عن حياة المجتمع وأبهاء الأدب والاجتماع قبل الحرب، ولا ريب أن كثيراً من نواحي الحياة الاجتماعية قد تغير تغيراً عظيماً، وأصبحت تلك الحياة الذاهبة نكرة بالنسبة للجيل الحالي، والحياة تتغير دائماً بلا ريب، ولكن المرحلة التي استحالت إليها الحياة الاجتماعية بعد الحرب كانت سريعة عنيفة، وكان الانقلاب ثورياً لم يتخذ أسلوب التطور العادي. فمن يقرأ كتاب السيدة شكيفتش من شباب العصر يكاد يعتقد أنه يقرأ عن مجتمع غاضت كل آثاره وكل ألوانه الأولى. على انه مما يلاحظ أن الحياة الاجتماعية ولا سيما حياة الأبهاء الأدبية تسير أيضاً إلى تطور مستمر؛ ولقد كان أولئك الذين عرفوا هذه الحياة أيام روسو ومدام ديبناي مثلاً، ينكرونها بعد ذلك بنحو نصف قرن، أيام عود الملوكية في أوائل القرن التاسع عشر. وكان أولئك الذين عاصروا مدام ريكامبية وشاتو بريان وتذوقوا الحياة الاجتماعية الأدبية في ذلك العصر يرون في أطوارها وأساليبها التي اتخذتها في عصر الإمبراطورية الأولى حياة جديدة لم يعرفوها؛ على أن هنالك ظاهرة يجب الالتفات إليها، وهي أن صور الحياة العقلية في ذاتها لم تتطور كثيراً من الوجهة الاجتماعية؛ وفي وسعك أن تتصور أن الكتاب والمفكرين في العصور الخالية كانوا يجتمعون في حلقاتهم أو أبهائهم لمثل ما يجتمع له الكتاب والمفكرون في عصرنا؛ غير أن أساليب الاجتماع ذاته قد تغيرت؛ وتبوأت المرأة في العصور الحديثة مقامها اللائق في الأبهاء الأدبية والحلقات الاجتماعية فنفثت فيها من نفوذها وسحرها ألواناً قوية أضحت اليوم من أظهر خواصها الاجتماعية. وحياة الأبهاء الأدبية من أهم عناصر الحياة الفرنسية الاجتماعية في جميع أطوارها الحديثة؛ وإنك لتقرأ في مذكرات سانت سيمون، أو رسائل مدام سفنييه ما تقرأه اليوم في ذكريات مدام شكيفتش من ألوان هذه الحياة الاجتماعية والأدبية الساحرة، وقد لاحظ كاتب كبير بحق أن أهم ظاهرة في الأدب الفرنسي هي أنه اجتماعي، فكل ما فيه كلام عن المجتمع، وكل ما فيه موجه اليه، والحياة الفرنسية في ذاتها تقوم على الاجتماع والروح الاجتماعية قبل كل شيء؛ وسحر مؤلف مدام
شكيفتش في أنه يصور هذه الروح أقوى تصوير
جيته وفن الحياة
نعرف أن شاعر ألمانيا الأكبر (جيته) قد ترك فيما ترك محادثاته التي تملأ عشرة مجلدات ومذكراته اليومية ومراسلاته العديدة؛ ومن الصعب اليوم، في عصر السرعة والحياة المثقلة، أن يتفرغ المرء لقراءة هذه المجلدات العديدة وأن يستمرئ كل ما فيها من المعاني والصور، ولكن كاتباً فرنسياً هو المسيو ربوز داركور استطاع أن يدرس هذا التراث دراسة مستفيضة وأن يضع كتاباً بخلاصة دراسته بعنوان (جيته وفن الحياة) ' يحاول المؤلف في كتابه أن يلخص تراث جيته أو يردده، ولكنه يحاول أن يقدم للقارئ مجموعة الحكم والصور والمواعظ التي تتخلل تراث الشاعر الأكبر. وتسمية الكتاب بهذا العنوان ترجع إلى اللقب الذي يطلقه الألمان أنفسهم على جيته، فهم يسمونه (فنان الحياة)
والواقع أنه قلما يوجد بين عظماء الرجال من يضارع جيته في حياته المنظمة المركزة حول غايات معينة؛ فقد عاش جيته تحدوه إرادة راسخة في أن يعرف وأن يشبع حاجات النفس وحاجات الخلق، وأن يباعد بين نفسه وبين ما تتأذى منه، وأن يرتفع بكرامته إلى الذرى؛ وقد فطن جيته إلى ذلك النقص الاجتماعي الذي يبعثه تشبع الناس بفكرة حقوق الإنسان نحو المجتمع، وأدرك أن للإنسان نحو نفسه حقوقاً خاصة، هي أن يرتفع بخلاله وأن يسعى إلى الكمال، وفي عصرنا لا يكاد يفطن المرء إلى هذا الواجب، لأن مشاغل الحياة وحمى الشهوات البشرية تستغرق كل عنايته وتفكيره؛ وقد كان جيته من أشد الناس عملاً وانشغالاً، ولكنه لم ينس أن يعمل لنفسه من الناحية الخلقية والمعنوية، وأن يكونها حسبما توحي به المثل العليا. غير أنك تشعر خلال هذه الصور الممتازة التي يقدمها إليك كفاح جيته في سبيل الكمال بنقص بين، هو ما تأنسه في كل أقواله وأفعاله من ضروب الأثرة؛ فقد كان يحرص على ألا يعكر حياته معكر، وألا يثير عواطفه شيء، حتى لا يضعف أمام النوازل والحوادث؛ وهي فلسفة الجمود والقسوة التي تبعد كثيراً عن مثل الإنسانية الرفيعة. هذه الصور والحقائق يدرسها مسيو داركور دراسة فياضة ممتعة، ويقدم إلينا حياة الشاعر الأكبر على ضوء المبادئ والفلسفة التي تكونت فيها
ذكرى يوهان باخ
تتأهب الدوائر الفنية والموسيقية في ألمانيا وفي جميع أنحاء العالم للاحتفال بذكرى الموسيقي الأكبر يوهان سبستيان باخ وذلك لمناسبة مرور مائتين وخمسين عاماً على مولده. وباخ من أعظم أبطال الفن والموسيقى لا في ألمانيا وحدها، ولكن في العالم كله. وقد كان مولده في مدينة إيزناخ سنة 1685، من أسرة عرفت بمواهبها الموسيقية، ونبغ منها أكثر من موسيقي كبير، وقد كان لهذا الظرف أثره في تربية باخ وفي تكوينه، وظهر هيام باخ بالموسيقى مذ كان طفلاً في العاشرة، وكانت أسرته تخشى على مستقبله من هذا الهيام وتخفى عنه المؤلفات الموسيقية ولكن باخ كان يبحث عنها وينقلها لنفسه على ضوء القمر، وكان للغلام صوت بديع لم يلبث أن استرعى الأنظار، فعين مرتلاً في مدرسة لينبرج؛ ولما ساء صوته بعد ذلك عين عازفاً على القيثارة؛ ثم ظهرت مواهبه الموسيقية بسرعة، وكانت رائعة، فاستدعى إلى بلاط فيمار وعين موسيقياً ملكياً، وهنالك استطاع أن يدرس الموسيقى الإيطالية؛ ثم عين بعد ذلك عازفاً على (الأرغن) في كنيسة ارنشتاث، ومن ذلك الحين أعني مذ كان باخ في نحو العشرين فقط، أخذ في وضع القطع الموسيقية؛ وكانت أولى قطعه (رحيل أخي الفجائي) من أبدع ما عرف التأليف الموسيقي، وقد استلهمها من رحيل أخيه عن وطنه ليلتحق بالجيش السويدي، وتزوج باخ بابنة عمه ماريا بربارا، وعاد بعد عامين أو ثلاثة إلى العمل في بلاط فيمار؛ وهنالك أقام نحو تسعة أعوام، ووضع أبدع قطعه الموسيقية، وتأثر في دراسته بالأساتذة الإيطاليين أعظم تأثر. وفي سنة 1720 توفيت زوجته ماريا فتزوج من بعدها (أنا فلكنس)، وكانت ذات مواهب موسيقية بديعة، فعاونته في عمله؛ وفي ذلك الحين ابتدأ باخ يضع قطعه الشهيرة المعروفة (بالتوابع). ثم عين باخ أستاذاً للغناء في مدرسة توماس في ليبزج، وهنالك وضع معظم قطعه وأناشيده الغنائية ومنها أناشيد قصة (الآلام)، وقدم في ذلك الحين بعض قطعه إلى أوجستوس ملك سكسونية فأنعم عليه بلقب (مؤلف البلاط). وفي سنة 1747 زار فردريك الأكبر في بونسدام ونال عطفه ورعايته، ثم أصيب باخ بضعف في بصره انتهى بالعمى، وعقب ذلك أصابه الصرع؛ وكانت وفاته (سنة 1750). وكان باخ فوق نبوغه الباهر في التأليف والموسيقى مخترعاً موسيقياً أيضاً، ومن اختراعاته الوضع الإصبعي الحديث، وتنظيم (البيانو) بحيث يتسع للعزف بجميع الأوضاع والأصوات
الكتب
ترجمة نفسية تحليلية
3 -
هو ذا تاريخ إنسان. . .!
للأستاذ خليل هنداوي
(ومع ذلك فكيف لي أن أكتب عن جبران من غير أن أذكر نفسي وقد كان بيننا من القرابة ما كان؟) ميخائيل نعيمة
(الناقد الفنان يترك أثراً من نفسه في شخصية من يحلله، لأنه يحلل بنفسه ويفهم بنفسه
(درسوا جبران في غضون الكتاب، ولم يدرسوا (نعيمة) وإنما في الكتاب وجهان متلاصقان في ناحية مفترقان في ناحية، لا يفترقان في ناحية إلا ليجتمعا، ولا يجتمعان إلا ليفترقا. . .)
(خ. هـ)
- 2 -
وجه ميخائيل نعيمة
لنعيمة - في كتاب جبران خليل جبران - وجه بادي الملامح مستقل النزعة، يجب أن نفتش عنه كما نفتش عن وجه جبران؛ ولا يكمل أحدهما إلا بالآخر. ففيه نعيمة الإنساني ونعيمة الشاعر، ونعيمة المصور، ونعيمة الناقد. لأنه ليس من أولئك الناقدين الجافين الذين يعجزون عن تمثيل شخصياتهم فيما يكتبون وفي أي نوع كتبوا؛ ونعيمة صاحب فلسفة يعمل لها وصاحب مذهب اجتماعي يدور حوله ويؤمن به كل الإيمان. قد أخذ جبران مثلاً له، وألف من حياته رواية نفسية لفتى استحوذ عليه القلق، وألم بخيوط تلك الحياة وحاكها بفلسفته الإنسانية، وبلغ به ما شاء أن يبلغه الفن الذي يترجمه صاحبه والناس إلى قوة تنشط بهم من عقالات المعيشة المحدودة إلى المعيشة التي لا تحد. . .
فلسفة نعيمة الإنساني
تكاد تطغى على كل تعاليمه موجة الإنسانية التي لا تقيم بين بني الإنسان حدوداً وفواصل.
فهنالك الإنسانية المتصلة الشاملة المشتركة في الألم والهناء، الساخرة من هذه التقاليد التي فصلت بين أبناء الأصل الواحد. وإذا عدت إلى فصله (تمخضت الفأرة فولدت جبلاً) عرفت ذلك العدو الذي فكك بين وشائح الإنسانية الحقيقية، وجاء بوشائح كاذبة مستعارة يبني عليها حضارته الجديدة
ينظر نعيمة إلى الحياة المتآلفة في باطنها، المتنافرة في ظاهرها، حيث يمتزج كل شيء بشيء، ويتصل كل جزء بجزء، ولا جزء يستطيع أن يفنى بالانفصال. يبشر (نعيمة) بهذه الدعوة الإنسانية التي يجد عروقها مغروسة في الشرق، والتي بشر بها الشرق من أزمان. . . والإنسانية - في اعتقاده - لا تفر من نفسها إلا إلى نفسها - ولكن السامعين نداء أنفسهم قليل! وهي لا تقسم طرقها إلا لتجد سبيلها الواحد ومحجتها الواحدة
فلسفة تحب العرى النفسي المجرد والطبيعة السامية، ألم يقل لي في حديث له (هذا الجبل عاريا ما أجمله! أحب كل عار في الحياة لأنه يظهر على الحياة بحقيقته) إن الحياة عارية والإنسانية عارية، فلماذا نستر عريهما بأوهامنا وتقاليدنا؟ والحياة جوهر عار فلماذا نجعل منها مركباً تفرح لتركيبه عقولنا وتضل عنه أرواحنا؟ (الحياة شركة شاملة للواحد فيها ما للكل، وللكل ما للواحد. لأن الكل هو الواحد والواحد هو الكل. لكننا أفسدنا تلك الشركة بما أدخلناه عليها من روح الاستئثار والكسب عندما جعلنا ثمناً لكل هباتها التي لا تثمن. . .)
وهذه الإنسانية المجردة التي يبشر بها (نعيمة) قد لا تروق للبعض لضيق آفاقهم، ولأن عقولهم تزين لهم أن يطعنوا هذه الإنسانية ويردوها منهزمة مجرحة. . . وقد تثبت هذه الإنسانية أمام العقل، لأن (نعيمة) يستمد هذه الإنسانية من قلبه لا من عقله، فهو يريد لها القلوب وعاء لا العقول. وقد جرب (نعيمة) كما جرب غيره أن يقف على غاية الحياة بعقله، جرب كثيراً وتاه كثيراً لأنه كلما بلغ به عقله نقطة، ضاعت عنه الثانية، فليس له إلا ما يبلغه أمامه، وليس له من ورائه شيء، سار به عقله إلى سلسلة متناقضات يصارع بعضها بعضاً وينفي بعضها بعضاً، وأين سبيل النجاة أيها العقل؟
وأخيراً يجد نعيمة سبيل النجاة في واحة الخيال المنعتق من كابوس المقاييس الزمنية والمكانية والتفلت من قيود التقاليد. وجده في الخيال ووجد إنسانيته في الخيال، يخاطبه الناس بعقولهم ويخاطبهم بخياله وومضاته، أما طريق الوصول إليه، فهو الفن الذي يحمل
صاحبه على جناحي الخيال إلى تلك المعيشة التي لا تحد - من الإنسان في الله، إلى الله في الإنسان
فهو مع الحياة في سلم أبدي، لأن الحياة طاهرة الجوهر، لا تتمخض بالسوء؛ وهب أنها تمخضت بسوء - كما تراه مداركنا - فهذا السوء سوء عندنا، وليس بسوء عند الحياة، الحياة التي تسعى وراء تحقيق غايتها، وإنما الأجدر بنا أن نؤلف بين غايتنا وغاية الحياة، لأن السعادة التامة الكاملة، إنما تتم في هذه الألفة! وأنى لنا أن ندرك سبل الحياة وغايتها؟
- ستدرك كل ذلك - أيها الإنسان عندما تصبح إلهاً!
(ما أشفق الحياة على بناتها وعلى أبنائها، فلا تضع في حدقتي مخلوق من نورها أكثر مما يحتاجه ذلك المخلوق ليستدل على طريقه. ولا تودع ساقيه من قوتها أكثر مما يلزمه لقطع المسافة التي تخطها له) والإنسان خلال ذلك مزهو بكبريائه، تسول له ذاته أن يكون رب نفسه، والحياة تشفق على هذه الربوبية الضعيفة وتحضنها كالأم التي تحضن ولدها العاق المتألم
- ستعرف غايتي أيها الإنسان عندما تصبح إلها!
(يتبع)
خليل هنداوي