المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 911 - بتاريخ: 18 - 12 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٩١١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 911

- بتاريخ: 18 - 12 - 1950

ص: -1

‌كيف نحتفي بذكرى مولد الرسول؟

للأستاذ محمود أبو رية

ماذا أقول في وصف هذا المصلح الأعظم لهذا الكون العظيم؟ إن كبار الأدباء، ومصاقع الخطباء، وفحول الشعراء، ليتولاهم العجز، ويدر كهم الحصر، إذا هم اخذوا في وصف زعيم من الزعماء، أو عظيم من العظماء، على أن يكون هذا العظيم لأمة واحدة، وفي عصر واحد، وفي ناحية من العظمة بخصوصها، أمّا في العلم، أو في الأدب، أو في السياسة، أو في غير ذلك، والأمم كثيرة، والعصور متطاولة، ونواحي العظمة فسيحة مترامية! فما بالكم إذا كان الكلام في عظيم الدهر ومصلح العالم كله، في الدين والأدب والسياسة والأخلاق والفضائل، وما شئت من صفات الكمال البشري.

كنت أود أن أكون شاعراً محلقاً واسع الخيال فأحملكم على أجنحة خيالي إلى عرش البهاء الروحاني لذات الرسول صلوات الله عليه لتستغرقوا فيه لحظة، أو كاتباً بليغاً مرهف الحس فأنقلكم ببلاغتي إلى روض البيان الموشى بالأزاهر والأنوار ليتنفس عليكم هنيهة بالعبق والأريج من صفاته (ص).

كنت أود ذلك ولكن ماذا اصنع وقد بهر في سمو مقامه (ص) فلم استطع أن أقول فيه قولاً يبلغ بي ما أريد، ذلك بان كل قول مهما سما في البلاغة وعلا في البيان، لا يمكن أن يبلغ من وصفه شيئاً. وهل يستطاع وصف من بعثه الله ليكون نور الوجود كله على مد العصور كلها! ذلك الذي قال فيه أستاذنا الإمام محمد عبده فيما وصفه به:(أمي قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما يكتبون ويقرءون، بعيد عن مدارس العلم صاح بالعلماء ليمحصوا ما كانوا يعلمون، في ناحية من ينابيع العرفان جاء يرشد المعرفة، ناشئ بين الواهمين هب لتقويم عوج الحكماء، غريب في اقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة وأبعدها عن فهم نظام الخليقة، والنظر في سننه البديعة، أخذ يقرر للعالم أجمع: أصول الشريعة ويخط للسعادة طرقاً لن يهلك سالكها ولن يخلص تاركها).

لما أدركتني الحيرة رأيت أن أرجع إلى غيري ممن هم أصفى مني بياناً، وأقوى على القول سلطاناً، لأستعير منهم ذرواً مما قالوا في هادي الإنسانية كلها. ولا عاب في ذلك ًفالعاطلً تستعير!! فالتمست طلبتي عند البلغاء من المتقدمين والمتأخرين فوجدتهم جميعاً

ص: 1

على رائع ما قالوا، وبديع ما وصفوا لم يبلغوا شيئاً من وصف حقيقته، أللهمَّ إلا أبياتاً للبوصيري رحمه الله وها هي ذي:

كيف ترقى رقيك الأنبياء

يا سماء ما طاولتها سماء

لم يساورك في علاك وقد حا

ل سني منك دونهم وسناء

إنما مثلوا صفاتك للنا

س كما مثل النجوم الماء

أنت مصباح كل فضل فما تص

در إلا عن ضوئك الأضواء

وحقاً لقد صدق الشاعر في قوله:

ما كلام الأنام في الشمس إلا

أنها الشمس ليس فيها كلام

ولما بلغ بي الأمر إلى ذلك استخرت الله في أن أتخطى عصرنا هذا الى العصور الماضية - وبخاصة بعد أن ألفيت أن كل ما يقال في عصرنا متشابه حتى اصبح حديثاً معادا - فأغذذت السير في بيداء الزمن حتى وافيت عصر الصحابة وهم الذين سعدت أبصارهم بشهود حضرته، واستنارت بصائرهم بساطع حجته، ثم عدت مع الزمن الى عصور من أتوا بعدهم من التابعين ومن تبعهم رضوان الله عليهم أجمعين لعلى أقتبس من سني أقوالهم في مولده (صلوات الله عليه) قبساً أنير به هذه الذكرى لتصح المناسبة، وكذلك حاولت أن ابحث عن صنف الحلاوة التي كانت تصنع في أيامهم في ذكرى المولد الكريم. وبعد أن أمعنت في البحث. وبالغت في التنقيب ظهر لي أمر غريب ربما تدهشون له

ذلك أني لم أجد من صحابة النبي وخلفائه الراشدين ولا من التابعين من تبعهم وهم بنص الحديث خير القرون قولاً يقال في حفل يقام لمولده (ص) في شهر ربيع الأول من أي عام!!

ولما استنبأت التاريخ عن أول من أحتفل بمولده (ص) أخبرني أن الذي ابتدع هذا الاحتفال هو السلطان المظفر أبو سعيد صاحب إربل الذي تولى الحكم من سنة 586هـ إلى سنة 630 هـ وبذلك يكون هذا الاحتفال قد أبتدع بعد نحو ستة قرون من مولده (ص) ولأن هذا العمل محدث فقد أختلف فيه شيوخ الدين ولهم آراء كثيرة في الإباحة والمنع لا نتوسع بإيرادها.

لعلكم تعجبون من أن ينقضي عهد الصحابة وفيهم الخلفاء الراشدون ثم يتولى عصر السلف

ص: 2

الصالح الذين هم أعلم الناس بفضله والتنويه بذكره ولا يقام للنبي (ص) احتفال بمولده! ثم يظل الأمر على ذلك قرابة ستمائة سنة حتى يأتي رجل تركماني فيحتفل به ويقوم بعمل لم يعلموه!

ولم يقف الأمر بالصحابة عند ذلك بل رأيناهم قد أهمله غير هذا أمراً عظيماً، ذلك أن النصارى قد جعلوا مولد عيسى عليه السلام مبدأ لتاريخهم ولكن تاريخنا لم يكن من مولده (ص) وإنما جعل من هجرته فهل كانت عناية المسيحيين بنبيهم أشد وأقوى من عنايتنا برسولنا؟

وهناك أمر ثالث عثرنا عليه في بحثنا، ذلك أنه لما انتقل النبي إلى الرفيق الأعلى دفنوه حيث قبض ولم يشيدوا على رفاته قبراً مخصصاً ولا أقاموا على القبر قبة عالية مزخرفة ولا وضعوا عليه أستاراً من حرير أو أقفاصاً من نحاس أو حديد كما يوضع لقبور الأولياء وظل الأمر على ذلك حتى جاء بعض ملوك مصر فأقام عليه قبة وكان ذلك على ما يحدثنا التاريخ سنة 678 هـ أي بعد سبعة قرون من موته (ص).

هذا ما أنبأنا به التاريخ من عمل الصحابة، لا يعنون بتشييد قبره (ص) ولا يحتفلون باليوم الذي بزغت فيه شمس نوره، ولا يؤرخون بيوم مولده! فهل بعد ذلك منهم إهمالا أو تقصيراً في حقه وما يجب له صلوات الله عليه؟؟

كيف كانوا يحتفلون به؟

كلا! وما كان لنا أن نرميهم بالإهمال أو نحكم عليهم بالتقصير فليس في المسلمين أحد على مد التاريخ الإسلامي كله يعرف من قدره (ص) مثل ما يعرف صحابته ولا من جاء بعدهم وإنما كان احتفالهم به (ص) احتفالا أروع من احتفالنا، واحتفاؤهم بذكراه أجل وأوفى من احتفائنا.

إن احتفالنا بمولده الشريف واحتفاءنا بذكراه إنما يكون في كل عام مرة! فينظم الشعراء في وصفه فرائد الشعر، وينسج الخطباء لمدحه برود النثر، وتزين الأماكن بالثريات وترفع عليها الرايات. هذا كل ما نصفه!. ولكن وا أسفاه! لم يكد يفرغ الشعراء والخطباء من قولهم حتى يكون الهواء قد حمل كل ما يقولون فبدده بين أمواجه. وقبل أن نغادر الحفل تطوى الأعلام وتطفأ الأنوار وتحمل المقاعد الى حيث أتت ولا يبقى من كل ما عمل

ص: 3

شيء! لا أثر في النفوس! ولا ذكرى في القلوب!

أما هم فقد كان احتفاؤهم به وإجلالهم له يتجلى باهراً لا في كل عام، ولا في كل شهر، ولا في كل يوم، بل في كل لحظة. فهم معه أينما ساروا وكيفما توجهوا، يتبعونه في كل طريق الى الخير، ويستضيئون بنوره في كل عمل صالح.

كيف نحتفي بذكرى مولده (ص)

لقد عرف السلف الصالح من تعاليمه (ص) أن أهم شيء يرضيه هو أن يحملوا رسالته ليؤدوها كما يجب أن تؤدى فجعلوا ول همهم إصلاح نفوسهم وتأديبها بالأدب الإلهي حتى يصبح هذا الأدب ملكة راسخة تعصم صاحبها ثم تعتصم مع غيرها بحبل الله لحمل أعباء الرسالة والقيام بما جاءت به وهي إصلاح المجتمع الإنساني كله، في أخلاقه وآدابه ومعيشته فلا يكون بين الناس إلا أدب القرآن وإلا هدى القرآن، ذلك بأن دين الإسلام ليس دين شخصيات، ولا مبادئه بأقوال وكلمات. وإنما هو دين أخلاق وأعمال.

دعوة الحق

علموا أن المسلم بحكم دينه يجب أن يكون عزيزاً قوياً والعزة لا تكون إلا بقوة وغلبة وشوكة فنهضوا نهضة الأسود يحملون النور في إحدى أيديهم ليشقوا به ظلمت الجهالة ويهدون بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الطريق المستقيم في هذه الحياة، ويحملون السيف في اليد الأخرى لا ليمدوا ولكن ليذودوا به عن حوض الحق حتى لا يعتدي عليه باغ أو ظالم وكانوا لا يهابون شيئاً في جهادهم ليقينهم أن الله ناصرهم - كما قال تعالى (إنما ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا) وقال:(ولينصرن الله من ينصره) وقال: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).

بماذا بلغوا مكان السيادة؟

وعلموا أنهم خلقوا سادة عادلين فكانوا كذلك يراعون الفضائل، من الحق والعدل والأمانة والصدق والرحمة والمحبة والعفة والمواساة والبر والإحسان والوفاء بالعهود والعقود واجتناب الرذائل من الظلم والغدر والكذب والخيانة والغش وأكل أموال الناس بالباطل والرشوة والسحت وغير ذلك مما يطول القول فيه

ص: 4

كانوا يعرفون أن شريعتهم عمود الإصلاح وقطب الفلاح ومرقاة السعادة فكانوا لا يفتئون يعملون لرفع شأنها وإعلاء كلمتها، وبذلك كانوا كما وصفهم الله (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وكانوا يستأهلون ما نعتهم الله به في قوله، (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) والشاهد لا بد أن يكون عدلاً صالحاً.

حالنا اليوم!!

هذه كانت حالهم وما كانوا يهتمون به ويعملون له، أما ما عدا ذلك من الأمور العرضية لا تنفع الناس فما كانوا يلتفتون إليها ولا يعنون بها لأنهم كانوا أهل عمل وجد، لا أصحاب كلام باللسان وتصفيق باليد!! - كما هي حالنا اليوم، تلك الحال التي دعت إمام الشعراء شوقي بك رحمه الله إلى أن يناجي رسول الله بقوله في مسلمي هذا العصر:

أدرى رسول الله أن نفوسهم

ركبت هواها والقلوب هواء

متفككون فما تضم نفوسهم

ثقة ولا جمع القلوب صفاء

رقدوا وغرهمو نعيم باطل

ونعيم قوم في القيود بلاء

أقطعتهم غرر البلاد فضيعوا

وغدوا وهم في أرضهم غرباء

ظلموا شريعتك التي نلنا بها

ما لم ينل في رومة الفقهاء

وقال كذلك يناجي الرسول (ص):

شعوبك في شرق البلاد وغربها

كأصحاب كهف في عميق سبات

بأيمانهم نوران - ذكر وسنة

فما بالهم في حالك الظلمات

وذلك ماضي مجدهم وفخارهم

فما ضرهم لو يعلمون لآت

وهذا زمان أرضه وسماؤه

مجال لمقدام كبير حياة

فقل رب وفق في العظائم أمتي

وزين لها الأفعال والعزمات

كيف يكون التكريم للعظيم؟

إن التعظيم الحقيقي للرسول أو المصلح أو الزعيم إنما يكون بطاعته والنصح له والنهوض بالأعمال التي يقوم بها أمره وكذلك كان تعظيم الصدر الأول لرسولهم، عمل وجهاد ونصح وكفاح. فالذي علينا أن لا نجعل همنا الأول من احتفالنا هو هذه المصابيح التي تنير

ص: 5

الحفلات ثم تنطفئ قبل انفضاضها وإلقاء الأقوال التي تذهب في الهواء بعد إلقاءها، ورفع الأعلام التي تطوى قبل انطواء ليلها، وإنما يجب علينا أن نجعل من يوم مولده السعيد في كل عام موسماً لعمل نافع يعود على البلاد بالخير والرفعة والسعادة فتنفتح فيه معاهد للعلم أو مصحات للمرضى أو مصانع للعمل أو مبرات للرحمة، أو ننشر في البر فصائل من الدبابات أو ترسل إلى الجو أسراباً من الطائرات أو ننزل الى البحر أساطيل من المدمرات أو الطرادات أو الغواصات، أو ما إلى ذلك مما يؤدي إلى العزة والقوة ويعلو بالأمم إلى مراقي السؤدد والمجد، وهذا كله وسواه مما يدعو الإسلام أليه ويحث عليه وبذلك نصبح صالحين حقاً لوراثة الأرض واستعمار الدنيا وتحقق فينا قول الله تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) والصالحون هنا هم الصالحون لعمارة الأرض وامتلاك ناحيتها.

الإسلام قول وعمل

إن الإسلام قول وعمل، عقائد وعبادات، آداب وكفاح فلا يكفي المسلم أن يظهر إسلامه أو يؤدي فروضه كما تمثل الأمور الروائية ولكن المسلم من أحتمل تكاليف الدين وتكيف بهدايته - على التعبير الجديد - وتربى عنده ملكة دينه تصدر عنها أقواله وأعماله ينظر بها ويسمع بها ويمشي بها، ومن كان كذلك فإنه لا ريب يكون قد هدى إلى الصراط المستقيم وكان مع النبي (ص) في كل حين.

كلمة ختامية

لازلت أجأر بالدعوة فأقول: إن الكلام لا يفيد وإن الإسلام قائم على العمل (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) وهو ما يرضى الله والرسول فانهضوا جادين لتتخذوا مقامكم عزيزاً بين الأمم إن لم يكن فوقها والعزة لله ولرسوله والمؤمنين، وكافحوا حتى تكون كلمة الله هي العليا.

كنت أريد أن تحدث عن علة عدم اتخاذ الصحابة من مولده (ص) مبدأ للتاريخ الإسلامي وكذلك كنت أتمنى أن أبين سبب عدم إقامة قبة لقبر النبي (ص) في الصدر الأول ولكن القول في ذلك يطول. على أني اختم قولي بالضراعة إلى الله سبحانه أن تكون هذه الليلة

ص: 6

التي انبثق فيها نور من اصطفاه الله لهداية من في الأرض جميعاً مبدأ لجهاد لنا جديد فيكون كل مسلم جندياً دينياً بآدابه وأخلاقه وأعماله وأحكامه وليكن خلقنا جميعاً (القرآن) - وهدينا الحنيفية السمحة التي تركها لنا النبي بيضاء، ليلها كنهارها ليعود إلينا مجدنا، وينتشر بين أرجاء الأرض نور ديننا ونأتي في مثل هذه الليلة إن شاء الله، ورسول الله (ص) راض عنا مشرف ببهائه علينا.

هذا ما أرجوه وأتمناه، واليقين إنكم وانتم مسلمون حقاً ستلبون دعوتي وتحققون رجائي وأمنيتي، وما رجائي إلا رجاؤكم جميعاً وما أمنيتي إلا أمانيكم جميعاً.

هذه كلمة خالصة صادرة من قلبي فأضرع إلى الله تعالى أن يكتب لها التوفيق والقبول حتى تتخطى هذه المظاهر الزائلة وتنفذ إلى قلوبكم فتمس شغافها ليقدح فيها نور الإيمان الصحيح فتتجلى في أعمالكم الصالحة ومن ثم تبدو الرسالة المحمدية لأمم الأرض جميعاً على وجهها وتظهر في غير خفاء عظمة من أتى بها فيسجدون له سجود الإكبار ويعلمون حقاً إنه صلوات الله عليه مصلح الإنسانية الأعظم وأن ما يقام له من حفلات لم يكن لهواً ولا لعباً وأن ما يقال في وصفه لم يكن منياً ولا كذباً.

هذا ما ابتهل به من الله، والسلام عليكم ورحمة الله

المنصورة

محمود أبو رية

ص: 7

‌مشكلة جامعية

للأستاذ كامل محمود حبيب

كتبت في العدد (906) من الرسالة الغراء نداء إلى حضرت الأساتذة الأجلاء عمداء الكليات بالجامعات المصرية وهيئة التدريس بها، أستفتيهم في أمر رجل ليس مغموراً ولا نكرة ولا متخلفاً في ركب الحياة، تخرج في مدرسة المعلمين العليا حين تخرج فلم يدع العلم ولا الصرف عن الكتاب ولا اطمأن إلى فتور النفس، فأصاب ثقافة عالية أخرى نالها في طول ما قرأ ومن طول ما أطلع. وعاش حيناً من الدهر يرسف في قيود الوظيفة، ثم ضاق بالوظيفة أو ضاقت هي به، ولكنه لم يرد أن يبطل ترفعاً منه وأنفة، ولا أن يسكن إلى حياة الريف خشية أن يصيبه الجمود الذي يقتل العقل أو أن يعصف به الفتور الذي يمسح على الذكاء، فتقدم إلى كلية عملية من كليات جامعة فؤاد الأول، يطمح أن يكون طالباً بين شبابه على حين قد طوى عمر الشباب، وعلى حين إنه يعلم طول الشقة وبعد الغاية وصعوبة المرتقى، غير أن في النفوس الكبيرة الوثابة طمعاً ما يهدأ أبدا، وان فيها أملاً مشبوباً ما يفتر. وجاء - بعد أيام - رد (المسجل) يقول الرجل (. . ونأسف لعدم إمكان قبولكم بالقسم المذكور إذ أن القبول به قاصر على الطلاب الحاصلين على شهادة التوجيه (كذا).

وخيل للرجل إن (المسجل) لا يملك أن يرد طلبه، فالمسجل في ظن الرجل - موظف يغله قانون وتقيده لائحة، فهو لا يستطيع أن يبت في أمر برأي إلا أن تسنده مادة من قانون، أو يدعمه بند من لائحة، فكتب الى عميد الكلية ينشر امامه الخبر كله عله يجد الرأي الذي غرب عن (المسجل) أولاً فيسمع حكم مجلس الكلية. . كتب الرجل الى العميد وفي رأيه أن عميد كلية من كليات الجامعة ليس سوى رجل علم وأدب واجتماع: يبذل من عقله للعلم ويبذل من قلبه للأدب ويبذل من نفسه للجماعة، وأنه ليس موظفاً كبيراً في ديوان من دواوين الحكومة تبطره النعمة ويغره المنصب كلما ذكر تاريخه يوم أن كان موظفاً حقيراً، يوم أن كان ملقى في ناحية من الديوان ولكنه تسم إلى ذرى المنصب العلمي الخطير يوم أن تسنه بقوة العلم الذي يرفع النفس عن الصغار ويسمو بالروح عن الإسفاف ويصفى الخاطر من الخبث، فهو رجل ارتفع بكبرياء العلم الذي لا تستر له زينة الحياة ولا يستهويه ألق النجاح ولا يفته بهرج المنصب. كتب الرجل الذي تعلم العلم والأدب إلى (صاحب

ص: 8

السعادة) عميد الكلية. . . كتب وإن زيف اللقب لا يكاد أن يسمو إلى موطئ قدميه، وإن طنين الرتبة لا يكاد يبلغ مسمعيه، ثم هو رجل يترفع بنفسه أبدا عن أن يتطامن للجاه أو يتصاغر أمام المال. . . كتب إلى عميد الكلية وفي خياله أن عالماً يتحدث الى عالم، أو أن أدبياً يكتب الى أديب، أو أن عقلاً يحدث عقلاً، أو أن رأياً يخاطب رأياً. . . ولكن. . .

ولبث الرجل أياماً ينتظر رأي العميد، ولكن العميد كان قد أخذته روعة المنصب فعز عليه أن يتنزل الى مستوى الناس، وغره جاه الوظيفة فاصم أذنيه، وصرفته رئات اللقب فلم يلق بالا لأمر، ونسى العميد أنه رجل علم أدب واجتماع، يجب أن يبذل من عقله للعلم وأن يبذل من قلبه للأدب وأن يبذل من نفسه للجماعة. لقد امسك العميد عن أن يقول كلمة واحدة في أمر ذي بال. ولست أدري أكان ذلك سهواً منه أم إغفالا أم امتهاناً لشأن الرجل الذي لم يعرفه بعد. . . أو أمله تلبث طويلاً ينتظر أن يتوسل إليه الرجل بواحد من العظماء كرأيه - أو من ذوي الجاه والسلطان ليكون له على الرجل فضلان، ولكنه غاب عنه أن في العلم ترفعاً يأبى أن ينحط وأن به كبرياء لا يتصاغر أبدا.

وجاءني الرجل يشكو الكلية التي أغفلت رسالتها الجامعية ونسيت روحها العلمية.

قال الرجل (ولبثت أياماً أنتظر رأي العميد، ولكن العميد كان ذا مال وثراء فشغله بريق المادة على أن يخلص للعلم وحده)

قلت (إنك تتجنى على أساتذتنا وهم قادتنا إن حزب الأمر وهم منارتنا إن غرب الرأي).

قال الرجل (حاشا أن أفتت أو أتجنى. وأعجب العجب أن يتراءى العميد العالم نفسه موظفاً كبيراً ذا خطر وشأن فتأخذه - من ناحية - غطرسة المنصب وعزة الرتبة، وأن تشغله من ناحية أخرى دواعي الحياة وترف العيش على أن يصبر على مشقة العلم).

قلت (إن في نفسك - يا صاحبي - ثورة جارفة فهدئ من روعك).

قال (فماذا تقول أنت إن عرفت أن العميد قد بلغ أكبر منصب علمي في الشرق دون أن يشارك في النهضة العلمية ببحث علمي عالمي واحد يشفع له؟ وأنه قد فاز بأكبر لقب في الدولة دون أن يشاطر في النهضة الوطنية الكبرى بعمل واحد كبير يشهد له؟).

قلت (إن عبقريته السامية هي التي دفعته ليتسم الذروة التي تقصر دونها همة العباقرة الأفذاذ).

ص: 9

قال (أما الكلية نفسها فقد تخلفت عن كليات العالم كله فلم تخرج على العالم، في ثورة العلم وتقدمه بشيء ذي خطر على حين قد سلخت نيفا ومائة سنة من عمرها المديد).

قلت (لا عليك، فسأنشر قضيتك أمام أساتذة الجامعة وهم قضاتنا وفيهم الرأي السديد والعقل الحر).

وكتبت الى حضرت الأساتذة الجامعيين استفتيتهم في أمر الرجل، وانتظرت الرأي الذي ينير والفتوى التي تهدي. . . ثم انتظرت أسابيع فلم أظفر من واحد منهم بكلمة.

وقلت لنفسي: (لعل واحداً من حضرت الأساتذة الأجلاء لم يقرأ نداء له نشرته أكبر مجلة أدبية في الشرق. ولا عليه من بأس إن لم يكن قد قرأ ما كتب، فشوا غل الحياة كثيرة تصرف الناس عن القراءة ومطالب العيش ثقيلة تضن بالمال على دواعي المطالعة. وليس للعقل أن يتكلم حين تلج حاجات العيش.

أو لعل واحداً منهم لم يجد الرأي الذي يشفي ولم يعثر - في خاطره - على الصواب الذي ينفع، فأمسك على ضيق وحصر خيفة أن يكلف نفسه شططاً.

أو لعل واحداً منهم لم يشأ أن يقذف بالرأي الحر الجريء فيتخطى بذلك تقاليد الوظيفة التي تفيد المرءوس برغبة الرئيس فيجلب على نفسه همة غضب العميد والخروج على التقاليد فآثروا جميعا العافية في الصمت

أو لعله الترف العقلي الذي يصيب الرجل فيقعد به عن الكد حين يخيل إليه إنه بلغ الغاية التي دونها كل غاية أو أنه أصاب الهدف الذي يتضاءل أمامه كل هدف.

والآن، ما رأي الجامعة. . . الجامعة التي أصبحت توصد الباب من دون كل طالب علم في غير تحرج لتذكرنا بأيام الجهالة الأولى حين كان الاستعباد يقوم سداً منيعاً يحجب النور عن البلاد، حين كان العلم حراماً على كثير من الناس استصغارا لشانهم وامتهانا لأقدارهم، حين كان الجهل يغمر آفاق البلاد، عن عمد وإصرار ليستبد ظالم أو يستبعد غاشم. . . ما رأي الجامعة التي هي اكبر جامعة عربية في العالم والتي أنشأها عاهل كبير لتنجلي غمة أو تنكشف ظلمة.

ما رأي الجامعة التي تعلم المنطق والعقل، ما رأيها في المنطق المختل الذي يتذرع بأسباب واهية ليست من المنطق ولا من العقل ليوهم الناس بأن شهادة عليا يعترف قانون الدولة

ص: 10

فيخول حاملها حقوقاً علمية وحقوقاً مادية وحقوقاً دستورية. . . ليوهم الناس بأن شهادة عليا هذا شأنها هي في نظر الجامعة التي تعلم المنطق والعقل أقل من شهادة التوجيه. ولا عجب فمنطق الجامعة إذن - يعترف بالسمو إلى أسفل أو يؤمن بالتقدم الى الوراء.

وما رأي الجامعة - وهي أخت الجامع - وفي الجامع الذي لا يرد قاصداً ولا يصد طالباً حين ينادي المنادي أن: حي على العلم، حي على الفلاح.

وإذا تنكبت الجامعة عن القصد أو حادث عن الجادة فمن عسى أن يكون الحكم سوى الأساتذة الإجلاء؟ وإذا أغلقت الجماعة رسالتها الجامعية ونسيت روحها العلمية فمن عسى أن يكون الناصح سوى الأساتذة الإجلاء؟ وإذا ضاقت الجامعة بمبادئها السامية أو تنكرت لهدفها العالي فمن عسى أن يكون الهادي سوى الأساتذة الأجلاء؟

إن القضاة الذين ينشرون روح العدل على الأرض هم أبناء الجامعة البررة، وإن أعضاء مجلس الدولة الذين يردون إلى كل ذي حق حقه ويدفعون عن كل مظلوم التعسف هم أبناء الجامعة البررة، ولكننا نخشى أن تكون روح أمثال دنلوب ما تزال تعيش بيننا فتتغلغل في ستر إلى أعماق النفوس فتنفث فيها روح الظلم والعنت، أشياء نحاول أن نمحوها من نفوس عاشت في ظلام الاستبداد فاستنامت إليه زماناً.

ولكن، أيتها الجامعة، كوني كدأبك أبداً فأضيئي النور في غمرت الظلام، وابعثي الحرية في ظلمت الاستعباد، واخلقي العقول الحرة الجريئة لتبلغي الهدف السامي الذي من اجله نافحت عنه منذ سنوات وسنوات. وكوني كدأبك أبداً أخت الجامع.

كامل محمود

ص: 11

‌الخمر بين الطب والإسلام

للدكتور حامد الغوابى

يقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل انتم منّهون) صدق الله العظيم.

ما هي الخمر؟ هي كل شراب يغطي العقل ويضع عليه ستراً فيجعله لا يدرك حقائق الأمور ولا تستضيء بصيرته بنوره، أي أن كل ما أسكر فهو خمر وهو حرام.

وقد سمي الشراب المخصوص خمراً لأنه كالخمار في تغطية المحاسن وسترها، فمتعاطيها قد طبع الله على بصيرته وختم على قلبه فلا يدرك المحاسن، ولا يعرف المضار والمساوئ، ويعمى عن رؤية ما يحيط به من الأشياء، إذ أنها تسلب العقل وهو النعمة الكبرى من الله تعالى لعبده، والناس قبل الإسلام كانوا على تناول الخمر كفين، فلو أمرهم الله بتركها بادئ ذي بدء فقد يكون ذلك باعثاً لكثير منهم على الإعراض عن الإسلام ونبذه، فقد أختلط حبها بقلوبهم اختلاط الدم بجسمهم، لذلك لم يفاجئهم بالتحريم فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) فترك الخمر قوم ولم يزل يعاقرها آخرون

ثم نزل بعد ذلك قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) فتركها الجميع عند الصلاة.

ولما قوي الإسلام في نفوسهم، وزالت أسباب تناول الخمر، وأزداد اليقين والحرص على الطاعة بين الله لهم حكمه بياناً شافياً فقال (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) فاجتنبوه اجتناباً تاماً في الصلاة وفي غيرها.

نرى من ذلك كيف تدرج الله سبحانه وتعالى في تحريم الخمر خطوة خطوة، حتى لا يكون في تحريمها على مدمنيها عنت ومشقة، هذا وإن في هذا التدرج لحكمة طبية أخرى، يعلمها الخبير اللطيف بعباده، فإن منع الخمر عن مدمنيها مرة واحدة يسبب مرضاً خطيراً، هو هذاء السكارى، فتراه يصبح ضائق الصدر، قلق النفس، لا يطمئن جنبه إلى مضجع، وقد

ص: 12

استعصت على الكرى جفونه، ترتجف منه اليدان، ويتلعثم اللسان، ويزداد نبضه، ويضطرب قلبه، وتذوى نضرته، ثم يصاب بتخيلات وأوهام، فتراه كمن يتلمس شيئاً، أو يتوجس صوتاً، فتارة يتخيل عدوا أمامه مهاجماً، وطور يتخيل سماع أصوات مزعجات مما يؤثر ذلك على عقله ويشوش فكره، فيعتريه مس من الخيال وقد يجري من أمام هذه المرئيات، أو يفر من سماع هذه الأصوات، وقد يقفز بنفسه من شباك، ثم تزداد بعد ذلك حالته سوءاً وضعفاً حتى تنتهي بإغماء وموت. فالله الرحيم بعباده لم يشأ يعرضهم لهذا الخطر، فأنتقل معهم من دور الى دور

علاج رباني حكيم، وقى الناس شر هذه السموم

والآن نتكلم عن الخمر من الوجهة الطبية.

أولا: تأثير الخمر في الجهاز الهضمي، بملامسة الخمر لسطح الفم، تهيج إفراز عدد اللعاب ويزيد ذلك من إفراز عصير المعدة مثل تأثير الطعام إذ لامس اللسان. ولكن هناك فارقاً كبيراً بين تأثير الطعام وتأثير الخمر، فالخمر تزيد في تدفق العصير ولا تؤثر في إفراز خميرته التي تساعد على الهضم، وهذا العصير الناشئ من تأثير الخمر يعجز عن تحليل المواد الزلالية وهضمها كما أنه يسبب تهيجاً للمعدة.

ثانياً: تأثيرها في الجهاز الدموي: تزيد الخمر من سرعة النبض وتسبب اتساع أوعية الدم السطحية، وهذا يفسر لنا سبب احمرار وجزه متعاطي الخمر، فليس هذا الاحمرار إذاً علامة للصحة ولا دليلاً على قوة، إن هو إلا دم اتسعت أوعيته الخارجية فوضح، في حين إن الأوعية الداخلية انقبضت، أي أن مقدار الدم في الجسم واحد لم يتغير ثم أن الخمر تسبب ارتفاعاً في ضغط الدم وبذلك تعرض مرتفعي الضغط للخطر.

ثالثاً: الخمر والجهاز العصبي: إن أكبر تأثير للخمر في الجهاز العصبي، فليس غريبا عنا من نشاهدهم في الطرقات وقد غاض عنهم ماء الحياة، وحلوا عقد التحفظ، فأصبحوا لا يستطيعون كبح جماحهم، فهم يتخبطون ذات اليمين وذات الشمال، يرسلون كلامهم على عواهنه دون وجل.

فالخمر تأثيرها تخميل وإرداء للأعصاب، وما الأعراض السابقة التي نشهدها فيمن يشرب فيهرف بما لا يعرف، إن هو إلا تخميل للمراكز المسكنة، فالتخميل يبدأ في مراكز المخ

ص: 13

بحسب نموها، فهو يبدأ في المراكز التي تنمو أخيراً وهذه هي مراكز التحكيم والحس.

هذا هو تأثير الخمر في خلايا الأعصاب، تتلفها ثم ترديها فيصاب المدمنون بالشلل ثم عدم التمييز فالجنون.

رابعاً: تأثير الخمر في حرارة الجسم: قد ثبت طبياً أن كأساً من الخمر إلى ثلاث كؤوس تسبب انخفاضاً في درجة حرارة الجسم بمقدار نصف درجة سنتراد تقريباً، وذلك سببه اتساع أوعية الدم السطحية التي تكلمنا عليها، وعلى ذلك تزيد في تشمع الحرارة فينشأ عن ذلك فقد حرارة من الجسم أكثر - وهذا الفقد للحرارة ضار بالإنسان، فكم من سكير شرب الخمر ثم خرج في البرد فأصابته النزلات الشعبية وغيرها من الأمراض.

خامساً: تأثير الخمر في الكبد: الخمر تتلف الكبد وتسبب خموداً في نسيجها وفي خلاياها، ويزيد بها مقدار النسيج الضام الوتري حتى لقد سمى الطب مرضاً خاصاً بالخمر من تأثيرها في الكبد، وإذا مرضت الكبد نعرض الإنسان لأمراض أخرى.

سادساً: مقاومة الجسم المرض: أثبت الطب أن الأشخاص الذين يتعاطون الخمر أكثر استعداداً للمرض، وأقل مقاومة له من الذين لا يتعاطونها، وكذلك يكون أقل تحملاً لأن تجرى في أجسادهم العمليات، وإذا اطلعتم علة إحصائيات شركات التأمين على الحياة وجدتم أن استعمال الخمر ولو بمقدار متوسط يقصر الحياة.

سابعاً: الخمر والحوادث: كثيراً ما تحدث الحوادث تحت تأثير الخمر كحوادث السيارات وغيرها فنقرأ في الجرائد مثلاً أن سائق سيارة كان ثملا فأودى بحياة انفس بريئة.

وقد ثبت من الإحصائيات أن أكثر من 13 % من الحوادث سببها الخمر.

(ثامناً) الخمر والفقر: شارب الخمر إذا أنفق أتلف وإن سخا إسراف.

وما احسن قول الشاعر

لعمرك إن الخمر ما دمت شارباً

لسالبة مالي ومذهبة عقلي

وقد وجد أن 25 في المائة من الذين يتكففون في الطرقات ويستجدون كانوا للخمر يشربون.

(تاسعاً) الخمر والأخلاق: الخمر أس الشر، فتعود الموبقات وتزين للمرء السيئات، قال أحد العرب ذات يوم لرجل جالس يشرب الخمر. (ما تصنع الخمر؟) قال (أنها تهضم طعامي)

ص: 14

فقال له (أنها تهضم من دينك وعقلك، أكثر مما تهضم من أكلك.

وحقاً كلما زاد الشارب الخمر شرباً زاده الله رعالا وحمقا، فتجده أصبح نزق القطاه، خفيف الحصاة، يخاصم في صغار الأمور، وينساق بلا ترو، وقد عميت عن الخير عيناه، وقد صمت عن الفضيلة أذناه، فيقدم على أية جريمة دون وازع يزع أو عقل يزن.

(عاشراً) الخمر والنسل: ينشأ أولاد السكيرين ممتلئ الأجسام، ناقصي العقول، ذوي ميول إلى الأجرام ودافع إلى الشر وتهافت على الخطيئة.

وإن ولد جنين ولم تجهضه أمه أثناء حملها فإن الخمر سبب من أسباب الإجهاض، نزل معرضاً للتشوهات الخلقية فضلاً عن العاهات الخلقية التي تنتقل إليه من نطفة أبيه (كما سبق أن ذكرنا في مقالنا عن الإرث التناسلي).

هذا وان الخمر ليست دواء كما كان الاعتقاد الشائع عنها بأن الكحول به تأثير تنبيهي على القلب، فإن الكحول لم يصل إلى مرتبة الأدوية المنبهة كالا ستركنين وغيرها.

قد يعترض على معترض قائلاً إن الله سبحانه ليقول (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعها).

أي أن الله قال فيهما منافع للناس فما هذه المنافع ومن هم هؤلاء الناس؟ إن الله سبحانه وتعالى لم يقل منافع للشاربين واللاعبين، إذإنه لا مراء أن الشارب يذهب منه دينه ويذوي منه عقله وتنقضي ثروته وتفنى صحته، ولكن المنافع هي منافع مادية لتكون غيره من تجار الخمر وصاحب الخان والخدم والأعوان.

وقد أردف الله تعالى قوله (وإثمهما أكبر من نفعهما) لأن أثمهما عظيم فهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقعان العداوة والبغضاء بين الإخوان والأصدقاء كما هو مشاهد في مجتمعات الخمور ونوادي القمار.

وذكر الله تعالى هو مادة حياة النفوس وهو ترياق المؤمنين وأنس المنقطعين وبساط المؤمنين فيه جلاء البصائر الكليلة وشفاء الصدور العليلة، يفتح إغلاق القلوب ويذهب وقر الأسماع وذكر الله أصله صفاء وفرعه وفاء وشرطه اتصال وبساطه عمل صالح وثمرته فتح مبين فهو يقرب المرء من ربه فتفيض عليه الأنوار والمنح الإلهية وما اجلها من منح

والصلاة عماد الدين وسراج المؤمنين وأصل القربات وعزة الطاعات فهي تجلو القلوب

ص: 15

وتهذب النفوس وتنمي فيها شجرة الإيمان وما أرسخها من شجرة اصلها ثابت وفرعها في السماء.

فنرى أن الذكر والصلاة هما سبب القرب من الله عز وجل وتجليه على عبده بالمنح والخيرات فكفى بالخمر شراً أنها تمنع عن شاربها الخير الإلهي وتسبب له غضب ربه

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (الخمر مفتاح كل شر وإن خطيئتها تعلو كل الخطايا كما أن شجرتها تعلو كل الشجر) وحقاً ما كان مفتاحاً للشر كله كان مغلقا للخير كله

الخمر منظار مكبر، يكبر المحسوس في النفوس، ويجسم الأخيلة للعيون، وهي سم تودي بجؤجؤ العقول، وتسم شاربها بميسم العار والهون، فإن سرته يوماً ففي أعقابها ترحه، وإن تبسمت لآلئُ ثغره حيناً أدمى شفته ندماً أحايين، فهي لذة ممزوجة بألم، وشرب مخلوط بسم، ما شربه أحد وهو اثبت الجمة ريان من الصحة والقوة إلا تركها أو تركته وهو مخدد الوجه متداع الجسم، عميد الوسادة، قد استعز به الداء، كم غني أذهبت الخمر غناه، وكم من صحيح الجسم هدت من قواه.

أفترضون أن يقود لكم طائرة تعتلونها أو سيارة تركبونها مخمور، أترضون أن يجري لأحدكم عملية جراحية طبيب مدمن خمور؟ أتريدون أن تسلموا فتياتكم وأولادكم لمعلم سوار أو سكير، كم رجل كان له في يومه خمر، فأصبح له في غده أمر وأي أمر، إنها الورد الآسن والغذاء العفن - كم ترنح منها شارب فضل، وكم تمايح بها سكير فزل!

أرأيتم إلى الدين كيف عالج مدمني الخمور ونقلهم من ثورة الإدمان إلى ساحة الأيمان، وكيف نهى الإسلام عن الخمور لما فيها من أضرار وشرور، وهاهو الطب حلى لكم أخبارها وبين لكم أضرارها.

سبحانك اللهم إنك ما نهيت عن شيء إلا وفيه ضرر محقق وبلاء عظيم وذلك رحمة منك بالمصلين فإصرفنا عن مذاهب الشهوات وأرشدنا في غياهب الشبهات، وأملأ نفوسنا تقوى واستقامة، وجهنا الى الخير والسلامة

حامد الغوابي

طبيب أول مستشفى رعاية الأطفال بالجيزة

ص: 16

‌نفسية الشعب المصري من أمثاله

للأستاذ عبد الجليل السيد حسن

من المعروف أن الأمثال خير معبر عن نفسية الأمة وأصدق مصور لروحها وأبلغ شيء في الدلالة على ما يجيش في صدور أبنائها وسبب ذلك واضح وهو أن الأمثال تنبع من صميم الأمة وتقتطع من روحها وإلا لما كان لها بقاء ولما استمر لها وجود ولما قدر لها أن تبقى حية على ممر الدهور كأنها بنت ساعتها وبدع زمانها وحده. وإن المثل ليقال ليعبر عن حالة من الحالات أو رأي من الآراء فإن لم تكن تلك حالة الشعوب وذلك الرأي رأيه لما سار المثل بين بنيه مسير النار في الهشيم، وإن مجموعة الأمثال لتكون نظرة الشعب الفلسفية للحياة وتبين على أي نحو من الأنحاء يتقبل الشعب الحياة وبأي منظار ينظر الى الوجود، ويؤيد ذلك أنا لا نعرف قائل المثل، والمثل لا يشيع لأن فلاناً قاله بل لأنه يصور حالة يرونها صادقة. أو يكفيهم مئونة تعليل ما يريدون أن يكون.

إنك إن أعطيتني أمثال أمة من الأمم أعطيتك صورة صادقة ترى فيها حالتها وحالة أبنائها ومقدار درجة رقيها أو انحطاطها، وتلمس فيها حضارتها ومبلغ حظها من الحياة أو الموت. ولو أعطيتني صورة أمة من الأمم وكشفت لي عن حضارتها، فأنا زعيم لك لم أخبرك ما هي أمثال هذه الأمة بالضبط فلن أخطئ على الأقل، في تبيين المعاني والأفكار التي تدور حولها أمثال هذه الأمة. فالأمثال مرآة الأمة التي تنعكس عليها حالتها وحضارتها.

والشعب المصري عرف بحبه للفكاهة أو أمتاز بالفكاهة والنكتة وبرز ف ي هذا المضمار حتى أصبح ذلك الصق الأشياء به وأدلها عليه، ومثل هذا الشعب لا بد أن يكون حظه من الأمثال موفورا فإن الجو الذي تقال فيه النكات أنسب الأجواء لضرب الأمثال ولعل في ذلك ما يفسر لنا ما نلحظه في الأمثال المصرية من روح الفكاهة.

لن نتكلم عن الأمثال من ناحيتها البلاغية فقيمتها البلاغية معروفة، وهناك من يعدها أم البلاغة ونهايتها، كما قال إبراهيم النظام (يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة)، بل سنتكلم عن قيمة المثل النفسية ومقدار دلالته على روح الشعب والى أي مدى يوصلنا الى أغوار نفوس الشعوب. والأمثال العربية قديمة قدم اللغة العربية، ولكن العامية لم تدخل

ص: 18

مصر إلا بعد ذيوع العربية بين المصريين وتحولها لغة الشعب، وحينئذ بدت بعض الحكم العربية تدخل - متخذة قالباً سهلاً - العامية، ثم تهضم ويتمثل بها. ولسنا الآن في مجال بحث نشأة المثال العامية في مصر، بل إننا لنكتفي بالقول بأن الأمثال التي سنقولها بعد والتي سنعرف منها جانباً من نفسية الشعب المصري قد نشأت وتطورت في عصور الظلام، عصور الاستبداد التي نشبت أظفارها في جسد المصري فأقصته عن الحكم، وألصقته بالأرض يفلحها وبالماشية يسيمها ثم انتزعت من بين يديه ثمار غرسه ونتاج تربيته، ولم نترك له ألا قشر ثمرته التي جناها وعظام ذبيحته التي رباها، هذه العصور المظلمة منذ المماليك ولأتراك إلى ما قبل يومنا هذا بقليل.

ولنأخذ الآن في تحليل نفسية الشعب المصري من أمثاله، ولن نتناول الآن إلا ناحية واحدة هي (الميل إلى الاستكانة والشعور بالدونية، وسريان روح اليأس والدعوة الى الخنوع وعدم الرغبة في الكفاح) ولست أدري هل هي فطرية - وأعوذ بالله أن تكون كذلك وإن التاريخ لينفي أن تكون فطرية، أو مكتسبة؟ واكثر الظن أو الأسلم أن نقول (إنها مكتسبة اكتسبها الشعب نتيجة لعصور الطغيان والاستبداد بالأمر وإقصاء الحاكم الأجنبي عن الحكم أهل البلاد ووسمهم بأنهم فلاحون ولا يصلحون إلا لذلك فقط).

(اقعد يا أخي واسكت، هي الميه بتطلع العالي) إن هذا المثل قد اتخذ من هذه الحقيقة الطبيعية برهانا يؤيد به ما يريد أن يقوله من أن الكفاح والجهد لا يجدي. فإذا كان كذلك فلماذا لا تريح نفسك وتدع الأمور تجري في مجاريها؟ ألا تجهد نفسك في تغييرها فإنك لن تستطيع أن تبلغ ما تريد ولن تستطيع أن تغير من حالك أو نظام الكون شيئا، (ده ملك منظمه صاحبه)(ودع الأمور تجري في أعنتها) وبت ليلك راضي النفس مطمئن الفؤاد، يا له من غر أحمق هذا الذي يحاول أن يقنع عاميا أن عليه أن لا ييئس وان لا يقنط من روح الله، أن يكد حتى يبلغ مراتب العظماء، فإنه لن يكون عنده إلا جاهلا لا يعلن أن (المية لا تطلع إلى العالي) نعم إن الماء لا يطلع العالي وحده، ولكنه يطلعه برافعات لا تحتاج إلا إلى جهد قليل، وإن الماء لا بد أن يطلع العالي إذا استطاع ماء قبله طلوعه وإن العظيم ما دام إنسانا وهو إنسان أيضا فلا مستحيل هناك في أن يصل إلى ما وصل إليه.

(إن لقيت بلد يتعبد عجل حش وارمي له)، (اللي يجوز أمي، أقول له يا عمي). في هذين

ص: 19

المثلين يتجلى الخنوع والخضوع والرضا بالمركز السافل والوضع الدنيء والحكم الظالم والسكوت على الذل. وإن رائحة الدم والشحم الذي حرقه الظلم لتفوح من هذين المثلين حتى تزكم الأنوف. . . فلا تحاول أن تبدل وضعاً من الأوضاع أو حتى تنتقد النظام الذي تحي في كنفه بل اعمل دأبك وابذل جهدك حتى لا تغيره، وليس هذا فقط بل عاون على تثبيت بنيانه وتدعيم أركانه، وساعد على ذلك أيضا حتى ولو كان يخالف عقيدتك. . . حتى ولو كفرت! فإن كنت مسلماً ورأيت قوماً يعبدون العجل، فلا تنههم عن المنكر أو الكفر ولا تأمرهم بالمعروف بل اعبد العجل معهم وأطعمه مبالغة منك في عبادتك. وأنت لاشك لا تحب أن تتزوج أمك غير أبيك وتأبى ذلك أشد الإباء وتنكره غاية الإنكار، ولكن إذا تزوجت فأرض بهذه الحال ولا تثر ولا تضق بل قر عينا وقل لزوج أمك، هذا الذي تبغضه من أعماق قلبك (عماه).

(حط رأسك بين الروس واسكت)، إذا ما دعا داع إلى تغيير وضع من الأوضاع أو أمر من الأمور السياسية، جوبه بهذا المثل وسخر منه وقيل له (صه. فأنت لا ناقة لك فيها أي الدولة ولا جمل)(تروح فين يا صعلوك بين الملوك) وهذا المثل كله يأس وكله شعور بالدونية والصغار وبأن الدولة التي هي دولته شيء غريب عنه، لا حق له للتدخل في شؤونها، وعليه أن يستنيم وان يرضخ للحكم كما استنام ورضخ إخوانه من. . . النعاج.

وهناك مثل آخر يكاد يدل على تقديس الحاكم ومشروعية الظلم وسموه! وهو (ضرب الحاكم شرف) وهم يقصدون ضربه حتى ولو كان ظلماً، فإن الذل والخضوع للحكام بلغ بهم أن يعدوا ضربهم شرفاً، أو إنه لما عمهم ضرب الحاكم وأذاه وهو شيء يسوئهم بلا شك، أرادوا أن يخففوا من وطأة الظلم بأن أقروه وجعلوه مشروعاً وبرروه، وهذه حالة نفسية فإن الإنسان إذا لم يجد إلا السيئ رضى به وحسنه حتى يخفف من سوئه، كالفقير يتمادح بفقره وينسب إليه كل خير ويلصق بالغنى كل نقيصة لأنه قد فاته. وكذلك الإنسان مضطر الى التكيف مع ما يكره حتى ينقص من وطأة ألمه، فهؤلاء جعلوا الظلم مشروعاً حتى يلطفوا من حدته.

وليست كل الأمثال العامية تظهرنا على نواح سيئة من نفسية الشعب - بل إن هناك نواحي مشرقة مشرفة تطلعنا عليها هذه الأمثال أرجو أن نوفق إلى إبرازها إن شاء الله.

ص: 20

عبد الجليل السيد حسن

ص: 21

‌بين حافظ وإمام العبد

للأستاذ خليل الخوري

كان المغفور له حافظ بك إبراهيم شاعرا عظيما وأحد الثلاثة الذين رفعوا اسم الشعر عاليا في الجيل الماضي. ومن يجهل أولئك الأدباء الذين لن يمحو مرور الأيام والأيام ولا مرور الأحقاب ذكراهم الخالدة - بل من لا يعرف شوقي وحافظا والمطران أولئك الأبطال الثلاثة الذين قد يكونون ولدوا في سنة واحدة فهم من فلتات الزمان. وقد تمر الأجيال بل القرون ولا تلد النساء أمثال هؤلاء العباقرة.

وإني أذكر أن في مقهى (سبلنددبار)(مقهى السبت فاير اليوم) المجاور لنزل شبرد المشهور والمقابل لحديقة الازبكية في القاهرة كان يجلس أدباء الجيل الماضي في خلال الحرب العظمى الأولى وقبلها، ومن أولئك الأدباء - الشعراء الثلاثة الذين خفقت أعلامهم في الإفطار والشيخ طاهر الجزائري والشيخ رشيد رضا والشيخ عبد الحميد الزهراوى ومحمد إمام العبد الشاعر الأسود ورفيق بك بركات والشيخ عبد القادر المغربي ومحمد كرد علي_العالم الدكتور شبلي الشميل الذي كان أعلم رجال زمانه في العلوم الطبيعية وانطوان الجميل بك؛ وكان ينتاب ذلك المجلس الفينة بعد الفينة سليمان البستاني والدكتوران يعقوب صروف وفارس نمر باشا.

ذلك كان مقهى العلماء والأدباء يجلسون فيه طوال الساعات يتجاذبون فيه الأحاديث من قديم ومن حديث فكان بمثابة سوق عكاظ، والذي تتاح له مجالسة أولئك الأبطال كان يتعلم منهم الجم مما جهل فقد كانوا معلمين طوراً وتارة متعلمين.

ولم يبق من الأحباء ممن ذكرت سوى الدكتور فارس نمر والشيخ عبد القادر المغربي ومحمد بك كرد علي الذين مازالوا يعملون في العلم والأدب والصحافة واللغة أطال الله أعمارهم وصان صحتهم ورحم الله أولئك الأبطال الخالدين.

ووقع مرة أن حافظا كان في المقهى ومنه بعض صحبه فأقبل عليهم محمد إمام العبد والكآبة تلو محيا الأسود فيزيده حلكا؛ وبعد أن سلم على الإخوان الغطاريف جلس إلى جانب حافظ فذعر حافظ من ذلك المنظر وكربه أن يرى إمام العبد يعاني ذلك الغم_وقال له ويحك! قل ما أصابك. هل ماتت زوجتك أم مات ابنك وأنت لا زوج لك ولا ابن ولن ويكون لك لا

ص: 22

تلك ولا هذا - ويحك ألا تضحك قليلاً بل ألا تبتسم حتى يبدو اليسير الجميل من الدميم الكثير منك - فتظهر أسنانك البيضاء الناصعة فتشفع ولو قليلاً لسواد وجهك الحالك؟ فانهمرت العبرات من مآقي الشاعر البائس وقال لحافظ كيف اضحك وقد بت ليلة أمس كلها أعان الكرى من وطأة الطوى - اعطني اليسير مما رزقك الله - فبكى حافظ واستبكى سائر الجلساء وكانوا كلهم أولى المتربة والإملاق وجيوبهم من النضار بل من اللجين افرغ من البيداء من الماء - وقد كان حافظ اقلهم شقاء وبؤساً على رغم شهرته في الشقاء والبؤس.

بكى حافظ على إمام العبد وعلى نفسه وعلى سائر أصحابه ومد يده الى أحد جيوبه واخرج قطعتين من النقد قطعة من الذهب وقطعة الفضة أما قطعة الذهب فكانت جنيهاً إنكليزيا، وقطعة الذهب قرشاً صاغاً مصرياً؛ ألقى القطعتين على المائدة التي كانت بين الجلساء وقال لإمام العبد خذ القطعة التي تشاء من هاتين القطعتين. فتناول الإمام القرش وتلك الجنيه المتألق على وولى وهو يبكي؛ فلحق به حافظ واستحلفه أن يأخذ الجنيه وشدد عليه في ذلك وهو يأبى وكان بين المحسن والمستجدي البائس صراع عنيف؛ هذا يرفض الاستئثار بالجنيه ويكتفي بالقرش وذاك يصر على إعطاءه الذهب واستبقاء الفضة حتى تغلب بعد طول الصراع حافظ على الإمام ومضى هذا بالجنيه وتلك القرش لحافظ.

طرابلس الغرب

خليل الخوري

ص: 23

‌تاريخ ثوكيديدس

للأستاذ سيد محمد سيد

ثوكيديدس. . وأعني به ذلك المؤرخ المعروف الذي أرخ لنا الحروب البلوبونيزية التي نشبت بين إسبرطة وأحلافها من جهة وبين الإمبراطورية الأثينية من جهة أخرى وذلك في النصف الثاني من القرن الخامس قبل ميلاد المسيح.

والتاريخ في حد ذاته فن يحتاج إلى عدة عناصر يجب أن تتوافر في المؤرخ، منها مثلا معرفة الحقائق والاستعداد لتسجيلها بأمانة وإخلاص، وكذلك الاستعانة بالخيال - إلى حد ما - لتصوير الشخصيات وإبراز النتائج.

ونحن نعلم تماماً أن المعرفة ليست من السهولة بمكان، كما أنه يصعب التوفيق بين الدراسة العميقة والخيال الخصب، ومع ذلك فقد تجمعت لثوكيديدس من هذه العناصر ما ترفعه إلى مصاف أعظم المؤرخين، وربما كان هذا رأى (ما كولي) المؤرخ المعروف الذي كتب في مذكراته: لقد انتهيت اليوم من قراءة ثوكيديدس وتاريخه بكل شغف وإعجاب، وأستطيع أن أقرر أعظم مؤرخ ظهر إلى اليوم.

ولا أرى بأسا من أن أشير إلى سيرة هذا المؤرخ إشارة وجيزة تمهيداً للكلام عن تاريخه.

ولد ما بين سنتي 47، 46 قبل الميلاد في أثينا ضد الإسبرطيين خلال حروب البلوبونيز، وقد قصَّ علينا في (كتابه الرابع) فشله في هذه المهمة بإيجاز وخشي أن يعود الى وطنه يجر أذيال الخيبة والخسران، فولى وجه شطر بعض الولايات المعادية لا أثينا في البلوبونيز. ثم بدء يكتب تاريخه.

وقد استغرقت الحوادث التي دونها الربع لأخير من القرن الخامس ق. م وعنى بذكر حرب البلوبونيز بصفة خاصة فلم يشر في كتاباته إلى الإمبراطوريات القائمة وقتئذ مثل إمبراطورية الفرس ومصر إلا بقدر ما تؤثر في مجرى الأمور في ولايات الإغريق.

وعلى الرغم من أنه في هذه الفترة من التاريخ القديم عاش فطاحل الأدب والفلسفة والفن أمثال هردود وايسوخلوس وقيدياس واوبربيرس وسقراط فإن ثوكيديدس لم يذكر في كتاباته اسم أحد من هؤلاء كما لم يشر إلى أعمالهم بشيء الآن كل ما وجه إليه عنايته في تاريخ الحروب البلوبونيزية مما جعل البعض يطلق عليه أنه مؤرخ هذه الحروب.

ص: 24

وإن الباحث المدقق في تاريخ هذا الرجل يبدو له لأول وهلة إن كتاباته ليست سوى صورة باهتة جرت بها يد شخص ليست لديه ملكة قياسية، هذا في الوقت الذي اعتبر فيه (ما كولي) أعظم المؤرخين!

ويرى السير رتشردلفنجستون في مقدمته عن تاريخ ثوكيديدس الذي نقله عن اليونانية إنه ليس في الحيات الأدبية لأنه أمة ثلاثة تشابهت أو تساوت عبقريتهم مثل أفلاطون وأر سطو وثوكيديدس في أثينا. . . ويقول أيضاً. . . لقد كنت لدى ثوكيديدس هذه الروح العلمية التي نجدها عند المؤرخين في أيامنا.

وقد شرح لنا ثوكيديدس على صفحات كتبه النظريات عن كيفية التحقق من الروايات التاريخية، وعلى ذلك نستطيع أن نقول - ولا حرج - إنه واضع الأساس لهذا العلم الناشئ. ولنستعرض آرائه إذ يقول (لكي تبحث عن الحقيقة يجب أن لا تعبئ بأول ما يصل المتناول يدك، وعلى المؤرخ أن لا يتنكب الوصول إلى الحقيقة عن طريق أخيلة الشعراء وأساطير الأولين الذين يحاولون اجتذاب القلوب إلى أحاديثهم المشوقة عن طريق التهويل والمبالغة دون العناية بذكر الحقيقة.

ثم يعرج ثوكيديدس إلى الإشارة عن طريق تدوينه الوقائع الحربية فيقول (لا أذكر أني دونت معلومات استقيتها مصادفة، فإني لم أذكر سوى ما رأيته بعين رأسي أو قمت بتحقيقه شخصياً وتضح لي في النهاية أنه وقع فعلاً. ومع ذلك فقد أخطأه التوفيق في الحكم على بعض الحوادث، فالبعض يرى أنه كان متجنباً على الزعيم الديماجوجى (كليون) في الوقت الذي أغرق فيه في مدح الزعيم (بر كابس)، لا بأس! فأين هو المؤرخ الذي يسرد الحوادث التاريخية دون أن يتأثر بالعاطفة والتحيز؟

وقصارى القول،، أن ثوكيديدس كان يفهم تماماً الطريقة الصحيحة لتدوين الحوادث،، وكانت لديه عدة ميزات تعينه على ذلك! حقيقة كانت تنقصه العناصر المتوافرة لدى مؤرخي العصور الحديثة،، فهو لم يذهب إلى المدرسة أو الجامعة ولم يتعلم طرق البحث العلمي الصحيح،، إلا أنه تعلم طريقة الحياة وسط المفكرين الذين تبدو آراؤهم في الانعكاسات السيكولوجية لأحاديثه،، فقد كان يقص الحوادث التي وقعت في زمانه ويصور العواطف والأحاسيس التي أحس بها شخصيا واستطاع بذلك أن يمتاز بأن تصويره للحوادث جاء عن

ص: 25

اتصالاته الشخصية بها لا عن طريق المستندات والمدونات. وهو لم يقف حياته متفرجاً بل أندمج بنفسه في كثير من الحوادث وساهم فيها،، فكان سياسيا خدم في الجيش وعمل في الأسطول وتلقى جانباً من الثقافة من اتصالاته بالمفكرين والشعراء في هذه الساعات التي كان يقضيها معهم في مجالسهم حيث كانوا على اتصال دائم بالطبيعة الإنسانية التي اتخذوا منها مادة لكتاباتهم ونضمهم.

وكان لاشتراك بلاده (أثينا) في الحرب ميزة لعلها الفريدة من نوعها لتدوين حوادث هذه الحرب وخاصة بعد أن قضا شطراً من حياته في صفوف العدو وهو يقول في ذلك:

(لقد كان من حسن حضي أن امضي عشرين عاماً في المنفى فوجدت بذلك الفراغ الكافي لأن ارقب الحوادث عن كثب).

هذه العناصر،، عنصر المساهمة في الحوادث والنظر إليها خلال منظار بلاده تارة ومن منظار أعدائه تارة أخرى كانت كافية لأن تجعل منه مؤرخاً منقطع النظير.

وقد أطلق البعض عليه لقب (مؤرخ سياسي) وقد دفعهم إلى ذلك أنه عنا عناية فائقة بمسلك الأمم والرجال في الأمور السياسية،، وإن من يقرأ تاريخه عن الحرب البلوبونيزية يدخل في روعة أنها حروب نشبت بين إمبراطوريات عظام،، وأوضح أنا المؤلف سبب قيام هذه الحرب ويستطيع القارئ الكريم أن يرجع إلى كتابه الذي نقله عن اليونانية أخيراً وتشرد لفنجستون عميد إحدى كليات أكسفورد.

وقد أشار هذا المؤرخ الكبير إلى حقيقتين عن الديمقراطية جديرتين بالتسجيل،، الأولى هي أن الديمقراطية الناجحة في حاجة ماسة إلى زعماء مهرة بارعين إذ أن أثينا لم تحطمها وتودي بها سوى الزعامة الفاسدة. والحقيقة الثانية هي معنى الديمقراطية فهي - كما يرى التي تترك لكل فرد الحرية في أن يعنى بشؤون نفسه بطريقته الخاصة وعلى الأفراد واجب احترام قوانين الولاية وأن يقدموا لها الخدمات بمطلق حريتهم.

وكان الرجل واقعيا في تفكيره لا يجري وراء النظريات المثالية التي نادى بها مفكرون اليونان في القرنين الخامس والرابع قبل ميلاد المسيح ومنهم أفلاطون الذي قال (إن الدولة قامت لتنشر العدل) بل قال صاحبنا (إن الدولة هي القوة وأنه لا دخل للأمور الأخلاقية في العلاقات السياسية بين الدول وأن على الضعيف دائماً أن يستسلم!) وليست هذه المبادئ

ص: 26

صادرة عن ثوكيديدس نفسه بل هي صدرت عن الحقائق،، فإن أفلاطون رأى ما ينبغي أن تكون عليه الدولة في حين صور لنا مؤرخنا حالة الدولة في الواقع.

وهكذا فإننا لا نرى إشارة إلى العدالة أو الرحمة في تاريخه،، فقد عبر عن آراء الزعماء والقادة. وهذا صاحبه برك ليس يقول (عليك أن تذكر أن عظمة بلادك ترجع إلى أنها كرست حياتها للحرب،، ولو سرت عليها سنة التطور وأخذت في الانهيار فيكفي أنها حكمت أكبر عدد من الولايات لم تحكمه دولة أخرى).

وقد يبدو لنا تاريخ ثوكيديدس لأول وهلة سرداً للوقائع لعبور دراماتيكية مملة دون أن نشارك الفريقين المتحاربين عواطفه؛ بيد أن (فرديث) يقول: كما تبدو فكرة المواطن الصالح في (كوميديات اريستوفان) تظهر الروح الوطنية في تاريخ ثوكيديدس فهو لم يغرم بشيء قدر غرامه بأثينا) كان صاحبنا ينظر نظرة خاصة إلى الوطنية فلا يكتفي بأن يكرس الفرد جهوده لوطنه بل عليه أن يعشقه عشقاً!

وقد تحدث ثوكيديدس في تاريخه عن أثر الحرب في الأخلاق فقال: (إن المبادئ السامية تؤثر على الدول والأفراد في وقت السلم تأثيرا لا شك في أنه يبعدهم عن حقيقتهم بينما تستطيع الحرب أن تظهر الأخلاق على حقيقتها).

وقد تأثر في كتابه بالطريقة التي ابتدعها (جور جياس) السفسطائي المعروف فلم يستطيع أسلوبه أن يبلغ قيمة أساليب كتاب الجيل الذين أتوا من بعده أمثال ليسياس وديمو ستنيس،، بل لقد بلغ الأمر أن غلق على شيشرون (كيكرو) فهم بعض تعبيراته أحيانا.

وقد دون ثوكيديدس مأساة من أروع مآسي التاريخ القديم وهي انهيار أمة بأسرها وأعني بذلك (أثينا) التي عاصرها وهي في أوج عظمتها تحت قيادة قائدها العظيم نركليس،، ثم رآها وقد أمسك بزمامها قواد أوردوها موارد الهلاك تحت ستار من الديمقراطية المتطرفة (الديماجوجية)، هذا إلى أن قضى عشرين عاماً في المنفى وسط أعداء بلاده. ولعل السر في عظمة تاريخه هو أنه كان يدون مأساة حياته في الوقت الذي دون فيه مأساة أثينا.

محمد سيد محمد

ص: 27

‌رسالة الشعر

أختي

للآنسة إلهام يوسف

إلى الزهرة التي ذوت قبل الأوان إلى الشاعرة المرحومة (ن.

ط. ع.) التي عرفتها بالروح عن طريق (الرسالة) الغراء.

أختي إذا انتحر الشباب

ومات في ثغري وغاب

ورأيتني أمضي على

درب الحياة بلا إياب:

قولي: لقد ماتت هناك

هناك في حضن الرصيف

كانت هناك تمد كفيها

فلا تجد الرغيف

وإذا سئلت متى وكيف. .

تحسري. . لا تنطقي

ثم انظري نحو السماء

بلوعة أو فاطرقي

قولي: هناك رأيتها

تذوي على شفة المغيب

وعلى يديها. . حيرة. .

تستنجد الصبر الغريب

وإذا سئلت متى وكيف

تحطمت أحلامها

ولأي درب في الحياة

تدحرجت أيامها

قولي: لقد أبصرتها

مذهولة عند المساء

تلج الطريق وقبلها

متوثب نحو السماء

وتصيح: أبصرت الضعيف

يعيش مقصوص الجناح

حتى يموت على الطريق

ولا تجف له جراح

أختي. . وإن قالوا. .

وأين. دفنت شلو شبابها

وتساءلوا: ومن الذين

مشوا وراء ركابها

قولي: أناس. . شاحبون

على الطريق تجمعوا

ساروا. . أنينا. . صامتاً

منه القلوب تقطع

حملوا الرفات عن الرصيف

إلى مكان مظلم

ص: 28

واروه فيه بالدموع

وبالأنين المؤلم

أختي،، وإن يوما مررت

هناك من قرب الرصيف

قولي: وكم عذراء

حطمها على الدرب الرغيف

غزة

الهام يوسف

ص: 29

‌بين الأعاصير

للأستاذ إبراهيم الوائلي

سواجع الروض - لو تصغي سوأجعه

خذي من اللحن ما تشجي مقاطعه

إني وقفت فلا طير يساجلني

على الغصون وتهفو لي مسامعه

قلب يذوب وأنفاس يضيق بها

صدر تعج ببلواه أضالعه

أني اتجهت رأيت الشوك يرصدني

وعاصف التيه تطويني زعازعه

مالي وللنهر قد رقت مساربه

لكل وحش وضاقت بي منابعه؟

أكلّما جئت ألقاه على ظمأ

تجهمت دون ما أبغي مشارعه؟

والحقل ينضح عطراً من نسائمه

فإن مررت تلقتني زوابعه!

كأنني لست من أطيار دوحته

أشدو وتبعث أنغامي بدائعه

ودعت (دجلة) لا طيف يعاودني

إلا الحنين ولا لحن أطاوعه

وخلتها أنها تصغي، وشر أسنا

ألا يهز متون الروض ساجعه

وخلت أن (الفرات) العذب مذكر

عهداً من الشعر ما جفت مطالعه

هناك غنت بجنب النخل صادحة

شبا بتي واستشارتني مرا بعه

أستقبل الموج منساباً ولي كبد

تظل من فرحة ألقيا تتابعه

نهر تغنى بأمجاد وطاف على

دنيا الأعاجيب وامتدت رواضعه

كبابل و (سمير أميس) شامخة

تقول للدهر: ماذا أنت صانعه؟

وموكب الشعر لا الأصفاد لاهثة

تكف منه ولا الدنيا تقارعه

من (ابن دبيان) كم هزت قصائده

(رب الخورنق) واهتاجت روائعه

ومجد بغداد والتاريخ شاهده

إن قيل: هات تحدثنا مجامعه

حتى إذا بات في الظلماء رائدها

يطوي المتيه وتحويه شوا سعه

تجاذبتها أعاصير ومزقها

عصر من الظلم لا تنسى فظائعه

عصر (الولاة) وشعب يشتري علنا

في كل يوم و (ظل الله) بائعه!

وزمرة من عبيد (الكرج) ساغ لهم

من الفراتين عذب الماء مانعه

والمستعز على (البسفور) تحضنه

مواكب الغيد والدنيا توا رعه

ص: 30

يستنزف الدم لا الأقدار ترهبه

فيستفيق ولا خلق ينازعه

ثم انطوى العهد (عثمان) لا رجعت

به السنون ولا عادت فجائعه

وقيل جاء (حليف) الشرق منتصراً

تحرر الشرق من رق مدافعه

وسار في كل واد فيلق ومشى

ظل من الأمل الكابي يخادعه

فلم نجد غير أشلاء مبعثرة

وأمة عبثت فيها مطامعه

وهب شعب فهز الظلم ثائرته

وخضبت بالدم الذاكي مقال عه

وارتد فاتح دنيا الشرق ما نفعت

منه (الأكاذيب) أو أجدت مواقعه

ثم انجلى الليل عن (سر) ولست أرى

إلا السكوت وإن لم يخف ذائعه

و (سادة) إن مشى التيار مصطخباً

ألفيتهم مثلما تطفو فواقعه

من كل محتضن كرسيه صنما

وشيخ (سائمة) تزهى قطائعه

وبين هذين جمهور يبيت على

ذل ويصرخ عارية وجائعة

آمنت بالظلم يذكى النار في كبدي

وتلهب الشعر في روحي دوافعه

وكلما لوحت بالسوط عانيه

كف (الأجير) استفزتني مقارعه

لا الكبت يقوى على صوتي فيسكته

إذا هتفت ولا الطاغي يمانعه

أأستجيب لصمتي بين قافلة

قد بعثرها من الوادي بلاقعه؟

ورائد الركب سكران الخطى ثمل

جنت فهامت على شوك أصابعه

وغره أن هذا الليل ما فتئت

تمتد في مشرق الدنيا سوافعه

وما درى أن فجرا لا يرمقنا

من كوة الأفق المكدود ساطعه

وشاعر كلما أوفى على أمل

ذابت على مسرح الذكرى طلائعه

مستوفز القلب لم يجنح على دعة

من الحياة ولم تهدأ نوازعه

يشقي ودون أماني النفس مهزلة

من السياسة ما انفكت تصارعه

و (نزعة) من بقايا الذاهبين أبت

أن نستريح، وشر السم ناقعه

مدت أحابيلها في كل زاوية

كما تعهد شوك القلب زارعه

سياسة باسم حكام يحرمها

دين تجل عن الفوضى شرائعه

لكنه الحكم كم هدت معاوله

شعبا وكم شردت جيلا مقامعه

ص: 31

عهد من الظلم يا دنيا أرقى أملاً

فسوف تطوى وإن جلت فواجعه

القاهرة

إبراهيم الوائلي

ص: 32

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

قصة أدبية سورية:

لا أخفي أن شخصية (الآنسة) هجران شوقي كانت موضع شك لدى فريق من الأدباء، ولولا أن أديباً واحداً بقي على شكله ويريد أن يسبقني إلى الكتابة حول هذا الموضوع، لما تناولت القلم لأحدث قراء الرسالة عن هذه الشخصية (الأنثوية) التي لم أشأ أن أغلق في وجهها الباب حتى اليوم لغرض مقصود!

هذا الأدب الصديق يريد أن يقول للقراء: إن (الآنسة) هجران شوقي ما هي إلا أديب سوري يخاطبني بلسان فتاة؛ يريد أن يقول هذا ويكتفي به، لأنه لا يملك دلائل الإثبات. . حسبه أنه مطمئن إلى هذا الطن، مقتنع به، عازم على أن يذكره على صفحات الرسالة، معرباً عن عجبه من أن أسمح لذكائي المتواضع بأن يتقبل الخديعة!

وقلت للأديب الصديق: إنك لا تستطيع أن تثبت صحة هذه الظنون، ومع ذلك فإنني أقدر ذكاءك. ذكاءك الذي صمد حيث لم يصمد ذكاء الآخرين، وأعني بهم هؤلاء الذين قرءوا رسالة (الآنسة) هجران الأخيرة فتبخرت شكوكهم حين لفحتهم لوعة الشعور من خلال السطور؛ لوعة الشعور (الأنثوي) الصارخ من وطأة القيد وظلمة السجن وقسوة السجان. . لقد آمنوا بأن الصرخة صادقة كل الصدق، بريئة كل البراءة، وأن من ورائها حقاً شهيدة المجتمع وحبيسة الدار!!

إنني أهنئك يا صديقي على هذا الذكاء وأو أكد لك أن ذكائي المتواضع لم يتقبل الخديعة في يوم من الأيام. . هذه حقيقة أفضيت بها إلى بعض الناس منذ اشهر، كما أفضيت بها إلى هؤلاء الذين تبخرت شكوكهم بعد أن قرءوا رسالة هجران الأخيرة. . كل ما دفعني إلى أن أظهر بمظهر المخدوع أمام الكثيرين وأمامها (هي) بوجه أخص، هو أنني كنت أريد ألا أغلق في وجهها الباب لغرض مقصود، هذا الغرض هو أن يخونها الذكاء يوماً فتطل من فرجة الباب بوجهها الحقيقي الذي لم تغيره الألوان والمساحيق. . ولم يخب ظني فقد أقبل اليوم المنتظر، اليوم الذي خانها فيه الذكاء أو خانتها الذاكرة، فنسيت أن تضع على وجهها قليلا من الطلاء قبل أن تطل برأسها من فرجة الباب المفتوح!!

ص: 33

هذا هو دليل الإثبات الأول الذي يعوزك يا صديقي أن تقدمه، والذي يجعل ذكاءك محصورا ً في دائرة ضيقة محورها الظن الذي تحس به النفس ويفتقر معه العقل إلى برهان. هذا البرهان الذي كان يمكن أن تضع عليه يدك في رسالة هجرن الأخيرة وهي تشكو وطأة القيد وظلمة السجن وقسوة السجان! عد إلى رسائلها الأولى ثم قف طويلا عند هذه الرسالة الأخيرة، وقارن بين بعض الظواهر هنا وبعض الظواهر هناك، وأنا واثق من أنك ستجد المفتاح الضخم الذي يمكنك أن تضعه في ثقب الباب ليفتح، ويكشف لك عما وراءه من حجرات يسطع فيها الضياء. . بعد هذا دعني أقدم لك عدداً من المفاتيح بدلا من مفتاح واحد، ولك أنت أن تضع النقط فوق الحروف كما يقول الصحفيون!

لقد قلت في ردي على أول رسالة من (الآنسة) هجران إنني اعتقد أنها أديب سوري يخاطبني من وراء قناع. . وحين تلقيت رسالتها الثانية التي ظهرت فيها بمظهر الغاضبة والعاتبة على هذا الاعتقاد الذي لا أساس له من الصحة كما تعبر البلاغات الرسمية رحت أعتذر إليها من هذا الاعتقاد (الخاطئ) الذي كان مصدره أنني لم أقرأ لها شيئاً من قبل في الصحف والمجلات. . قلت هذا وأنا باق على يقيني الأول لم يشغلني عنه أنها عازمة على الحضور إلى مصر في المؤتمر الثقافي لتثبت لي شخصيتها الأنثوية، ولا أنها بعثت إلي بعنوانها في دمشق كوسيلة من وسائل هذا الإثبات. . قلته وأنا واثق من أنها لن تحضر، ولم أحاول أن أكتب إليها على ذلك العنوان لثقتي مرة أخرى من أنه عنوان لا وجود له، وقد أثبتت الأيام في الحالين صدق هذا اليقين!!

وقالت الأديبة السورية المعروفة السيدة وداد سكاكيني وهي تزورني في وزارة المعارف عقب إنهاء المؤتمر الثقافي: أود أن أقول لك إن شخصية (الآنسة) هجران شوقي شخصية خيالية. . وقلت لها رداً على الفتة البارعة: وأود أن أؤكد لك أنها كذلك! وارتسمت على وجهها صورة من الدهشة وهي تقول مرة ثانية: ولماذا إذن تنشر لها قصائدها ورسائلها ما دمت تعتقد أنها شخصية مستعارة؟! وأجبت وقد علت شفتي ابتسامة ذات معان: لسببين. الأول لأنني لا أريد أن أغلق في وجهها الباب لتبرهن (هي) على شخصيتها الأنثوية تحتاج إلى إثبات، وقد برهنت على ذلك حتى الآن بتخلفها عن الحضور في المؤتمر الثقافي! أما السبب الأخير فهو أنني راض عن إنتاجها الأدبي فهو من هذه الناحية جدير

ص: 34

بالنشر حري بالتشجيع، وأنا لا أهتم بمن قال قدر اهتمامي بما قال. . وانقضت بعد ذلك أيام وأشرت إلى هذا الحديث إشارة ذات مغزى على صفحات الرسالة، حين قلت (للآنسة) هجران أن تحملي إليها خالص التحية!!

وحدث بعد ذلك أن عاد الصديق الأديب الأستاذ حبيب الزحلاوي من رحلته الموفقة إلى سورية ولبنان لينقل إلى بعض ما سمعه هناك، وليطالعني بمثل ما طالعتني به السيدة الفاضلة وداد سكاكيني. وقلت للأستاذ حبيب في معرض الحديث الذي وامقته فيه على صدق ظنونه، هون عليك يا صديقي فسأكتب يوماً عن هذا الموضوع! ولعل قارئاً يسألني: على أية دعامة من الدعائم أقمت يقينك بأن (الآنسة). هجران شوقي ما هي إلا أديب يخاطبك من وراء قناع؟ والجواب عن هذا السؤال هو أن أسأله: أتظن أن هناك أديبة تملك كل هذا النضج في تعبيرها النثري، وكل هذه الأصالة في صياغتها الشعرية، ثم لا تحاول مرة واحدة أن تظهر في ميدان الأدب لولا هذه المناسبة العابرة التي دفعتها إلى الظهور، يوم أن تحدثت عن قصيدة الشاعر يوسف حداد؟! ثم هل تظن مرة أخرى أن هناك من يزهد في المجد الأدبي كل هذا الزهد، وهو يعلم أن كلا من شعره ونثره يمكن أن يطرق الأبواب في كثير من الثقة والاطمئنان؟!. . ضع النقط فوق الحروف كما يقول الصحفيون!!

إن الذكاء كما قلت لك كثيراً ما يخون، ولو لم تتماد (الآنسة) هجران في ذكائها لما تعثرت قدماها في هذا الطريق الذي تعمدت أن تسير فيه. . لقد حدث أن تعثرت قدماها فسقطت، وحين سقطت اصطدم وجهها بصخور الطريق، فتمزق النقاب الذي كان يخفي وجهها فظهر على حقيقته للعيون! معذرة يا (آنستي) فقد حرصت من جهتي على أن أرسم لك خط السير ولكنك كنت تسيرين مسرعة، لا تكادين تلتفتين لحظة إلى الوراء. . لو أنك مددت عينيك مرة واحدة إلى الخلف لما تعثرت قدماك، ولما أصطدم وجهك بصخور الطريق، ولما تمزق النقاب! أقصد لو أنك تذكرت ما جاء برسائلك الماضية من إنك حرة طليقة تملكين من هذه الحرية التي لا تحد ما يهيئ لك الحضور إلى القاهرة لتجلسي إلى هذا وتتحدثي إلى ذاك، وتغشى المجتمعات الأدبية في بلد غريب لتشاركي في أمور الأدب والفن؛ لو تذكرت هذا كله لما شكوت في رسالتك الأخيرة ظلم المجتمع وقسوة التقاليد، ذلك

ص: 35

المجتمع الذي فرض عليك أن تكوني شهيدة القيد وهذه التقاليد الذي ضربت من حولك نطاقاً من الأسر جعلك حبيسة الدار رهينة الجدران. . أي منطق هذا الذي يؤكد لنا اليوم أنك سجينة مقيدة، بعد أن أكد لنا بالأمس أنك حرة طليقة؟ إنها هفوة من هفوات الذكاء. . الذكاء الخائن في أحرج الأوقات! وهذا هو المفتاح الضخم الذي قدمته منذ أسابيع لهؤلاء الذين تبخرت ظنونهم حول شخصية (الآنسة) هجران المفتاح الذي يستطيعون أن يضعوه في ثقب الباب لينفتح، ويكشف لهم عما وراءه من حجرات يسطع فيها الضياء!!

ورب سائل يسألني وقد تجمعت بين يدي شتى الخيوط التي تنسج أثواب اليقين: لقد كنت تعتقد أن عنوانها الذي بعثت به إليك منذ أشهر ليس له وجود في دمشق، فلماذا بعثت إليها آخر الأمر بتلك الرسالة الخاصة التي أشرت إليها منذ قريب في (التعقيبات)؟ لقد أقدمت على ذلك لألقى بآخر سهم في جعبة الاعتقاد، الاعتقاد الراسخ بأن الذي يكتب إلي فتى لا فتات. . . وكنت واثقاً كل الثقة من أن رسالتي الخاصة سترد إلي مرة أخرى وعليها إشارة مصلحة البريد في دمشق بأن هذا العنوان لا وجود له، وقد كان!. وبقى هناك غرض مقصود من وراء هذه الرسالة التي كنت أتوقع أن ترد إلي وهو أن أقدم الدليل المادي القاطع لمن يهمهم أن يطلعوا عليه، ومن بينهم (الآنسة) هجران شوقي إذا حاولت أن تكتب إلي غاضبة وعاتبة!!

ومع ذلك فأنا أود أن أقول (للآنسة) الفاضلة وللكثيرين إنني لا أهتم بمن قال قدر اهتمامي بما قال. . والدليل هو أن (الرسالة) قد نشرت لها في العدد الماضي قصيدة (القمر)، ولا يزال لها عندي قصيدتان سأنشرهما في الأعداد المقبلة. . كل ما أرجوه هو أن تعتقد (الآنسة) هجران بأنني حتى هذه اللحظة صديق، وليس عليها من بأس إذا هي كشفت للقراء عن اسمها الصريح. . اسمها الذي أعتقد أنني أعرفه، والذي تحدثت عنه إلى عدد من الأصدقاء!!

بيتان لجميل بثينة:

كنت أستذكر بعض محفوظاتي من الشعر لجميل بن معمر العذري. وفجأة استوقفني بيتان لم أستطع أن أمر عليهما مر الكرام، وهذان هما البيتان:

وإني لأرضى من بثينة بالذي

لو أبصره الواشي لقرت بلابله

ص: 36

بلا، وبأ لا أستطيع، وبالمنى

وبالأمل المرجو قد خاب أمله!

والذي استوقفني في هذين البيتين هو الشطر الثاني من البيت الأول، أي قول جميل: لو أبصره الواشي لفرت بلابله. . وقد رأيت في معنى قوله هذا غمطا لحق الواشي وتغييرا لطبيعته. فالواشي المتلصص على هناء حبيبين لن تقر بلابله عندما يرى الحب قانعا من حبيبته بلا، وبأ لا أستطيع، وبالمنى. . بل سينفجر غيظه وتثور مراجله. فهو لم يتلصص ليراهما على هذه الحال فليس فيها لوم ولا تثريب. . وإنما ليراهما في حالة مريبة تقر بلابله!

وإني أرى أن يكون قول جميل، وربما كان هو الأصح:

وإني لأرضى من بثينة بالذي

لو أبصره الواشي لثارت مراجله!

فأرجو من حضرة الأستاذ الكريم إفادتي على صفحات الرسالة الغراء: أنظرتي خاطئة؟ أم الخطأ من الشاعر، أم من الرواة؟ ولكم خالص الشكر والتحية.

محمد تركي الرجبي

الشيء الذي أود أن يطمئن إليه الأديب الفاضل هو أن هذين البيتين من شعر جميل بثينة، لا غبار عليهما من ناحية النقل الأمين للشعر القديم. . أما الشطر الثاني من البيت الأول فلا غبار عليه أيضا من ناحية الصدق الفني أو من ناحية السلامة التعبيرية.

إن جميل بثينة يريد أن يعبر عن حقيقة هواه ويريد في نفس الوقت أن يفصح عن سر أساه. فحقيقة الحب عند جميل أنه عذري لم تدنسه شهوة، ولم يعبث بطهره إثم، ولم تذهب بصفائه نزوات الجسد أو سقطات الغواية. وسر الأسى عند جميل أن الوشاة لم يتقوا العدل ولم يراعوا الضمير، حين أطلقوا لخيالهم العنان حول هذه العلاقة البريئة الطاهرة بمن يحب! إنهم أصحاب شكوك وأوهام، لأنهم لم (يبصروا) الواقع الذي لا يخرج منه بغير الأماني الكاذبة والوعود الباطلة!

بلا، وبأ لا أستطيع، وبالمنى

وبالأمل المرجو قد خاب أمله!

هذا الواشي الذي يعنيه جميل، لم (يبصر) هذا الذي يقنع به دائما من حبه لبثينة ولو أبصر لما (تخيل). لما تخيل أن كل محظور قد وقع في عالم المنظور! وهنا تبدو (الرؤية الشعرية) واضحة كل الوضوح صافية كل الصفاء، لأن هذا الواشي الذي يجور على الحق

ص: 37

وينأى عن الإنصاف، قد اتخذ الخيال الآثم معبره إلى الظنون، ومن طبيعة الظنون أن تثير الخواطر حين تفترض وجود الشبهات. . فلو أن الوشاة قد رأوا بعين الحقيقة لا بعين الخيال، لفرت بلابلهم، وهدأت مراجلهم، وأنصفوا الحقيقة المظلومة ورحموا الواقع الشهيد. ولكنهم للأسف لا يبصرون. . ولهذا يتقولون!!

وإذن فالمعنى الذي يهدف إليه الشاعر مستقيم لا التواء به واضح لا غموض فيه. ولو رجع الأديب الفاضل إلى الشطر الثاني من البيت الأول، لأدرك أن (الحركة النفسية) في قول جميل:(لقرأت) بلابله، مرتبطة كل الارتباط (بالحركة المادية) في قوله: لو (أبصره) الواشي. . وهذه هي (الرؤية الشعرية) الصادقة التي تعتمد أكثر ما تعتمد على دقة (العلاقة النفسية) بين حركتين: تعمل إحداهما في حدود الواقع المحس وتعمل الأخرى في حدود الواقع المنظور.

مع الفن الشهيد في العراق:

يصر حضرت الذين بعثوا إلى برسائلهم حول محنة الشاعر العراقي المطبوع الأستاذ عبد القادر الناصري على أن أفسح المجال لمشاعرهم الفياضة بالعطف عليه ليطمئن إلى أنه لا يقف وحيدا بلا نصراء. هذا المعنى الكبير الذي يسمون إليه قد سجلته لهم شاكرا على صفحات الرسالة، وأكتفي اليوم باختيار قصيدة للنشر في العدد القادم للأستاذ جعفر حامد البشير، معتقدا أنها يمكن أن تنوب عن هذه المشاعر الكريمة فيما تزخر به من نبل العاطفة وصدق الوفاء.

أنور المعداوي

ص: 38

‌رسالة الفن

مسرحية ابن جلا

للأستاذ إسماعيل رسلان

ما كنت أحب أن يتصدى ناقد لمسرحية ابن جلا دون أن يكون ملما بحوادث المسرحية التي ينقدها، ويخيل إلى أن الناقد لم يكلف نفسه عناء مراجعة مقالة بل مراجعة نقده على الأصل، فنراه ينتقد حوادث الرواية فيقول (وعندما تعلم برغبته (أي الحجاج) في الزواج من هند بنت أسماء تلقي بنفسها في النهر) والله يعلم أنه ما دار في خلد المؤلف أن يصور الأهوازية باعثة نفسها. ولكن ناقدنا البصير خيل إليه أن الأمر كذلك مع أنه يدبج الصفحات الطوال في انتقاد البواعث الخفية للأشخاص، وهذا مثل يدل على قدرته في تفهم البواعث والحركات، فالأهوازية كما رآها من شاهد المسرحية إنما احتفظت بقوة شخصيتها وإيمانها بنفسها إلى أخر مراحل الرواية فهي لم تلق بنفسها في النهر تخلصاً من الحياة أو من حب مزدري به، وإنما ألقت بنفسها أولا ثم من عقاب صارم كان ينتظرها على يد الحجاج، وشتان بين هرب متحدي ومقصود، وبين محاولة للانتحار في استسلام واستخذاء!!

ويحسب صاحبنا أن المسرحية ينبغي (أن تصور الواقع التاريخي) فلا يجوز لها أن تخلق شخصية ليس لها سند من التاريخ المحفوظ ومن هنا كانت شدة نقده للمؤلف إذ خلق شخصية الأهوازية، وقد حسب صاحبنا أنه وقع على اكتشاف خطير إذ نراه يقترح على المؤلف أن يضع (هند بنت أسماء) بدلا من الأهوازية، وهو في كلا الحالين واهم، فإن المسرحية التاريخية من حقها أن تسجل ما أهمل التاريخ من صلات إنسانية لم يكن لها أن تجد طريقها إلى سجل التاريخ كما كان يعرفه الناس وقتئذ. ومما لاشك فيه أن الحجاج كان يحيا حياة عاطفية ما، ولاشك أيضاً أن المؤلف قد أصاب إذ خلق شخصية تسد تلك الفجوة التي أهملها مؤرخو العرب، ولو أن صاحبنا قد أنصف لعرف ما ينطوي عليه اقتراحه من تعسف وشطط. فلو أن الأستاذ محمود تيمور بك قد أخذ باقتراح الناقد البصير ونحفف في استعمال أسانيده التاريخية لما وسعه أن يجعل من هند بنت أسماء إلا شخصية ثانوية لا تحل من حياة الحجاج إلا سنة أو بعض سنة ثم لا يلبث أن يسلوها.

ص: 39

أين هذا مما وفق إليه المؤلف من ابتداع شخصية الأهوازية التي لا زمت الحجاج على المسرح من ضحي حياته إلى مغربها، وكانت مثار الحس فيه وباعثه على أن يظهر ألوانا متعددة.

وما احسبني كنت في حاجة في يوم من الأيام أن أقرر بديهية من بديهيات التأليف المسرحي، تلك أن الشخصية المسرحية يشترط فيها أن تكون متساوقة مطردة، ولكن ناقدا أحوجني إلى ذلك إذ شكا وأستنكر أن يكون الحجاج صخري القلب مشغولا بنفسه وأطمحها لا تلين له قناة إلى آخر المسرحية، ولو أنه استخذى للحب ولان للأهوازية وتنكر لطبيعة قلبه الصلد، كما يريد ناقدنا، لأنكرنا من المؤلف صورة شو هاء للحجاج لا تمثل شخصية الحجاج التاريخية، وكذلك الحال بالنسبة للأهوازية إذ صورها المؤلف مندفعة طائشة تلقي نفسها إلى التهلكة من أجل الحب، لا تعيش إلا له ولا تحي إلا به، فإن لم يبادلها الحجاج حبا بحب عاشت من أجل هذا الحب وقد انقلب في وهمها كرها، ولكنها لا تفطن إلى ما يعتمل في فؤادها الجياش من العواطف والأهواء.

فأين ناقدنا من هذا الغور السحيق من مكنونات القلب البشري، وهو يحاول أن يستبطنها ليدرك كنهها؟ إنه مشغول عن كل هذا بما ظنه الخروج على قواعد التأليف الصحيح من جعل شخصية الأهوازية ثائرة مهددة على الدوام إذ يقول (فموقف الأهوازية من الحجاج عندما سمعت أنه سيتزوج من عفراء، هو نفس موقفها منه فيما يختص بأم كلثوم، وكذلك فيما يختص بهند، فهي تثور ثم تهدد ثم تعود لتقف نفس الموقف) وهذا الذي يعده الناقد عيباً هو أسمى ما يصل إليه المؤلف المسرحي من تصوير الشخصية المتماسكة المستقيمة المطردة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن المؤلف قد صورها من واقع الحياة كامرأة حائرة بين حبها الشديد وبين كبريائها فطوراً تنصاع لحبها وطوراً تنصاع لكبريائها لما ترددنا في الحكم بأن المؤلف قد بلغ غاية التوفيق في تصويره للأهوازية.

وما احسبني في حاجة بعد ذلك إلى بيان فساد رأي الناقد في الأهوازية إذ يقول (كان موقفاً سلبيا في كل موقف التحمت به) يعني الحجاج، وهو يعلم أنها لم تلاق الحجاج مصادفة بل احتالت للقائه وأنها استخفت لتعصي له أمراً، إذ أمرها بالذهاب إلى مكة (فعادت إليه متخفية في صحبة عبد الله بن جعفر في اللحظة التي كان يخطب فيها أم كلثوم لتفسد عليه

ص: 40

خطته ثم فرت منه لتعود إليه متخفية في ثياب فتى أعرابي لتقتله) هذه هي المواقف السلبية التي يعزوها الناقد إلى الأهوازية فما هي يا ترى المواقف الإيجابية التي كان الناقد يريدها من المؤلف؟ أو بعد هذا الصراع الذي صوره المؤلف بين الاثنين يصر الناقد على أن الأهوازية كانت سلبية الموقف؟

ويظهر أن ناقدنا قد غاب عنه أن الحجاج كان جدب الحياة العاطفية الغرامية وأن المؤلف قد نجح في تصوير ذلك، فكان الحجاج يتخذ الحب دائماً وسيلة إلى مطمع من مطامعه السياسية كما فعل مع بنت عبد الله بن جعفر وغيرها، وكما أعرض عن رفيقة صباه عفراء مع شدة جمالها وذكريات صباه معها فقد رفضها إذ لا مطمع من ورائها، وكانت الأهوازية هي المرأة الوحيدة التي نالت شيئا من اهتمامه إذ لازمته ملازمة الظل وكانت تهاجمه في كل مكان، فلو لم تفعل ذلك لما اهتم بها أصلاً، وحتى هذه الأهوازية قد استخدمها في مآربه السياسية إلى جانب أنه أعزها لأن في طموحها هي الأخرى ما يجعله يتجاوب معها في هذا السبيل.

بقي بعد ذلك أني أشير إلى أنه يخيل لصاحبي أن المسرحية يجب أن تقوم على الصراع العاطفي وهو عنده (الأساس الأول في التأثير على المشاهد في مثل هذه المسرحية التاريخية) والمشاهد العاطفة عنده هي المشاهد التي تجري نين الحجاج والأهوازية كما كرر ذلك مراراً، وهذا وهم كان يشيع في أواخر القرن الماضي، وأحب أن يعرف حضرة الناقد البصير أن المسرحية اليوم قد تقوم على صراع ذهني تضطرم فيه شهوات الغلبة والسيطرة وتنزوي فيه العواطف الساذجة من حب وهيام.

إسماعيل رسلان

مسرحية (ابن جلا)

للأستاذ عبد الفتاح البارودي

طالعتنا الرسالة الغراء بثلاث مقالات مختلفة عن هذه المسرحية؛ الأولى للأستاذ عباس خضر، والثانية للأستاذ حبيب الزحلاوي ضمنها رأيه ورأي الأستاذ أحمد رمزي بك في الإخراج، والثالثة للأستاذ أنور فتح الله.

ص: 41

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى اهتمامهم المشكور بهذه المسرحية ومؤلفها ومخرجها وبفرقة المسرح المصري الحديث التي افتتحت بها موسمها.

غير أن التفاوت الكبير بين أراء حضر اتهم لدرجة غير معهودة أمر يدعو إلى النظر بالرغم من دقة بعض الموضوعات التي تناولوها واختلاف نقاد الغرب أنفسهم فيها.

فبينما يرى الأستاذ خضر مثلا أن هذه المسرحية قد بلغت غايتها من حيث معالجة الحجاج، ويرى الأستاذ الزحلاوي أن مؤلفها تيمور بك قد فتح فتحا جديدا في الفن الروائي العربي، يرى الأستاذ فتح الله أنها قد فقدت القدرة على بعث الحياة والإثارة إلى آخر ما قاله محاولا الحط من قيمتها استنادا إلى رأي الدكتور مندور في كتابه (في الأدب والنقد). ولست أزعم أن رأي الدكتور مندور خطأ ولكن لعل الناقد أخطأ في تطبيقه من جهة وفي اعتباره الرأي الوحيد الذي (يحدد الفرق بين التاريخ والمسرحية التاريخية) من جهة أخرى. فهناك كما نعلم آراء شتى في هذا الموضوع. فرأي يقول بأن التزام التاريخ يفسد المسرحية من الناحية الفنية لأن الفن تقليد بارع للأشياء، والبراعة شرط أساسي. ونحن إذا قلدنا التاريخ كما هو لسلبنا الفن براعته. ونتيجة لذلك يصبح عبثا لا طائل وراءه إذ أنه في هذه الحالة لا يعطينا شيئا خلاف ما يعطينا إياه التاريخ.

ورأي آخر يقول بأن التزام المؤلف المسرحي للتاريخ لا يقلل فينا من شأن إنتاجه أنه مادام يتغلغل في بواطن شخصياته ويستنطقها بما يعين على تفسير الحوادث.

ورأي ثالث يقول بأن هناك لحظات نادرة تكون فيها الحقائق التاريخية واغرب أروع وأكثر إرضاء للنفس وأوثق صلة بالفن من أي قصة من القصص. ولئن أقبلت لحظة من هذه اللحظات النادرة على فنان مسرحي ممتاز فإن الفن والتاريخ يسيران معا بين يديه في توافق تام.

ورأي رابع يقول بأن المسرحية التاريخية إن هي إلا معيار للإنسان لا باعتباره حيوانا اجتماعيا كما في الملهاة ولا باعتباره طامحا للخلود كما في المأساة ولكن باعتباره أداة سياسية في المجتمع أي باعتباره خادماً ساهراً على مصلحة الجماعة التي يعيش فيها. ومن ثم يجب على الفنان المسرحي أن يصور بطله التاريخي بحيث تمحي الفردية فيه أمام عنصره السياسي الذي يمت إلى الجماعة بصفة عامة. . . الخ.

ص: 42

ولا اتفاق بين نقاد المسرح إلى على أن طبيعة حوادث التاريخ تغاير طبيعة الموضوع المسرحي، وأن التاريخ وإن كان - فرضا - سجلا واقعيا إلا أنه لا يعنى بغير الجزئي من الأمور، في حين أن المسرح يعنى بالكل منها طبقاً لتاريخ الاحتمال أو الضرورة. التاريخ يصور ما حدث فعلا - إن صدق المؤرخون - بينما المسرح يصور النماذج العليا التي يخلقها الانتخاب والتخيل. التاريخ يحدد واقعاً معيناً بينما المسرح يبتدع المثال الكامل.

وإذن فلا محل لمؤاخذة تيمور بك على تصوير شخصية الأهوازية من مخيلته دون تصوير امرأة (حقيقية). وكنت أرجو أن يقرأ الأستاذ فتح الله مسرحيات برنادشو التاريخية ليرى كيف يبتدع هذا الفنان الجبار من مخيلته شخصيات لا وجود لها في التاريخ.

كذلك كنت أرجو أن يدرك أن الصراع لا يكون حتما بين شخصيتي البطلين وأن الصراع المسرحي ليس (خناقة) تدور بينهما. فلو أنه أدرك هذا لأعفانا من كلام طويل ترتب على ذلك.

كذلك قوله عن تكرار المشاهد العاطفية يحتاج إلى مراجعة لأن كبار المؤلفين أمثال شكسبير كثيراً ما لجئوا إلى ما يشبه التكرار إما أو بالمطابقة تفسيراً للفكرة الأساسية في التمثيلية وتوضيحاً لشخصيتهم

كذلك رمى تيمور بك بالإساءة إلى صورة الحجاج التاريخية عند ما صوره متسامحا مثلا بحجة أن الحجاج (لا يتسامح أبدا) ونسى الناقد الفاضل أن الحجاج إنسان يجوز عليه ما يجوز على بني البشر وأن المسرح لا يعبأ بسيرته الواردة في كتب المدارس الثانوية وإنما يتغلغل وينفذ إلى الصميم، وربما كانت أهم مزايا تيمور أنه استطاع فهم ذلك واستثماره.

أترك هذا وأغفل ما كتبه عن بناء المسرحية وعن (العقدة) لأناقش ما هو أجدى من ذلك وهو رأي العالم الفاضل أحمد رمزي بك بصدد الإخراج:

وأبادر فأقول إني أوافقه تمام الموافقة على أن المخرج يجب أن يكون ذا ثقافة وافرة واطلاع عميق على النصوص التاريخية وعلى علم الآثار الإسلامية والخطوط، ويفهم الملابس والإشارات والأسلحة والأثاث والمعمار الذي يسود كل عصر.

وأوافقه أيضاً على أن كل عصر إسلامي يمتاز عن الآخر بميزة خاصة تميزه من هذه النواحي.

ص: 43

لكن هل معنى ذلك أن المخرج يكون (بدائيا) حتما إذا لم يستطع مراعاة مطابقة مناظره وملابسه للحقيقة التاريخية حتى ولو لم يكن في وسعه - ماديا مثلا - تحقيق ذلك؟

وهل يصدقني عزته إذا قلت إن الروايات التاريخية يجوز إخراجها بملابس ومناظر عصرية؛ وإذن فإخراج الجند الشامي بملابس القرن العشرين ليس أمراً مضحكا؟!

وهل يصدقني إذا قلت إن الإخراج الواقعي أي محاولة تمثيل الواقع حرفيا هو من أسوء مذاهب الإخراج؛ وإذن فكتابة الأعلام بالخط النسخ بدلا من الخط الكوفي مثلا لا تضير كثيرا، ولا سيما إذا لم يقصد المؤلف تصوير الحجاج بن يوسف الثقفي بقدر ما قصد تصوير (الإنسان) و (المثال) و (الرمز)؟!

لقد كنت أرجو أن يتحدث النقاد الأفاضل عن الإخراج في صميمة وموضعية ويقدروا الجهد الذي بذله المخرج في إبراز المعاني الكامنة والغامضة التي قصد إلى استجلائها المؤلف. كنت أرجو أن ينهوا بما توخاه من تضخيم قطع الأثاث ورفعها على قواعد عالية وما تشاكل ذلك في كل ما يتصل بالحجاج ليطابق هذا ما كان يعتمل ويحتدم في باطنه من استعلاء

والتمثيل. . . إن أقصى ما قيل أن زكي طليمات قد بلغ الذروة. . . ولكن ما هي هذه الذروة وأين مكانها وكيف تقلب بين مراحل دوره المتفاوتة وكيف أعطى لكل مرحلة ما يناسبها من نفسه وجهده وأعصابه وذاته، وكيف تمكن من إخفاء شخصيته الحقيقية وإبراز شخصيته التمثيلية لدرجة أننا لم نعرفه على خشبه المسرح لأول وهلة، وكيف صمد لمختلف المواقف والانفعالات بالرغم من دوران الرواية كلها حوله نحو أربع ساعات تكاد تكون بغير انقطاع

وبعد فبقدر ما الأستاذ عباس خضر في كلمته المعتدلة التي أعلتها روح التشجيع الواجب - فيما أرى_إزاء مؤلف أخلص للفن لمحض الفن حتى صار في مقدمة مؤلفينا، ومخرج وطد العزم على أن يجعل من فرقته نواة لمسرح الغد. . وبقدر ما وفق الأستاذان رمزي بك والزحلاوي في توخي الصراحة والنزاهة والقصد حتى في قسوتهما أحيانا. . لم يستطع الزميل أنور فتح الله إخفاء تحامله بين سطور كلماته الغاضبة

ولولا تعقيب (الرسالة) عليه بما استحقه لصارحته جهراً بالأسف على ما انساق إليه بلا

ص: 44

مسوغ.

عبد الفتاح البارودي

ص: 45

‌البريد الأدبي

ألفاظ ف أبياتي

في هذا الركن من (البريد الأدبي) للرسالة الغراء التقيت مع الأستاذ الفاضل عبد الوهاب حمودة في معنا لفظة (الفرقان) واليوم يسرني أن التقي معه مرة أخرى في ألفاظ أخرى وردت في مقاله (همزية شوقي) المنشور في مجلة (لواء الإسلام) عدد ربيع الأول فأقول:

بعقب الأستاذ على بيت شوقي من همزيته:

والوحي يقطر سلسلا من سلسل

واللوح والقلم البديع رواء

بأن لفظة (البديع) قلقة في موضعها نازلة عن درر عقدها لأن (وصف القلم البديع) وصف عادي نازل، لا يقوم بتصوير ما للقلم من جلالة وقدسية وخطر وخصوصية).

وبالرد أقول: لفظة (البديع) في البيت ليس المقصود منها الجمال على وجه الصفة. . وإنما هي بمعنى (المبدع) وهل ثم جلالة وقدسية وراء الآية (الله بديع السماوات. .) وإذا فاللفظة (غير قلقة في موضعها) وإنما هي نازلة في منزلها حالة في محلها ثابتة لا تريم.

ولست أدري كيف ينتقد الأستاذ بيت البوصيري:

رق لفضاً وراق معنا وجاءت

في حلاها وحليها الخنساء

بأن (التشبيه بالخنساء في هذا المقام غير لائق ولا مناسب، وليس فيه أي شيء من الجمال الفني) بينما نراه يمر على بيت شوقي:

أنت الجمال بها وأنت المجتلي

والكف والمرآة والحسناء

وبيته:

أنت الدهور على سلافته ولم

تفن السلاف ولا سلا الندماء

مر الكرام وفيهما ما فيهما من ألفاظ (المرأة والحسناء، والسلافة والندماء،) وهي من أخوات (الخنساء) في بيت البوصيري منزلا ومقاماً.

وفي بيت شوقي:

يا من له الأخلاق ما تهوى العلا

منها وما يعشق الكبراء

يقول الأستاذ حمودة: إن لفظ القافية (الكبراء) قلقة ضعيفة. وأقول: لا قلق في لفظة القافية ولا ضعف؛ لأن المقصود (بالكبراء) كبراء النفوس بالأخلاق والفضائل وكل محمود من

ص: 46

الصفات التي ترفع قيمة الإنسان والإنسانية، وليس المعنى هو ما تفهمه العامة من قولهم (فلان من الكبراء. .) أي من أصحاب الراغي والثاغي والصامت والناطق. . وفرق كبير بين هذا الكبير وذاك الكبير. . وفي المأثور: ليس الغنى في كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس.

وبعد: فالشكر أزجيه إلى الأستاذ العالم الأديب على مقاله (التشريحي) القيم. هدانا الله جميعاً إلى سواء السبيل، والسلام

(الزيتون)

عدنان

الكتب السامة

قالت الصحف في تفاصيل حادث سفاح كرموز إن المحققين عثروا أثناء تفتيش منزل هذا السفاك على مجلة بوليسية، تدور إحدى قصصها حول طريقة القتل، وإخفاء الجثة.

ولعل الكثيرين مروا بهذه الأسطر مر الكرام. . أما أنا فقد وقفت طويلا عندها. . لا نأمل مدى تأثير المطالعة في نفس الشباب، وهو في هذا السن المبكر من العمر. . وكيف تخلق هذه الكتب السامة من الشباب الطاهر شياطين، يوولعون بالجريمة، تحت تأثير ما طالعوه من مطالعات سامة، نفثت في نفوسهم سمومها.

وهناك روايات غرامية، تتأثر بها الفتيات. . . تصور لهن الحياة على غير حقيقتها. وتزين لهن الطريق الشائك. وهذه لا يقل أثرها في نفس الفتاة الساذجة عن أثر الروايات البوليسية في نفس الشباب!

وما يقال في الكتب يقال عن الأفلام. . . فالأفلام البوليسية لها تأثيرها كذلك في نفوس الشباب. . . والمفروض أن الأفلام والأقلام كلها وسائل ثقافية، يستعان بها على توجيه النشء الوجهة القومية، فإذا انحرفت هذه الوسائل عن غايتها، انحرف الشباب بتأثيرها. . . وكان عاقبة أمره حسرا.

ولقد شاهدت في الأسبوع الماضي قصة على الشاشة البيضاء تزين للفتاة طريق الهرب من بيت الأب، إلى بيت الخليل. . . فهربت بطلة القصة من بيت أبيها مع ابن البقال الذي يقع

ص: 47

حانوته بنفس العمارة التي تسكنها. . . ومن أسف أن معظم أفلامنا المصرية تدور حول الحب. . ولا شيء غير الحب!

إن الأفلام الأجنبية لا تخلو من نقد اجتماعي، أو تحليل لمشكلة من المشاكل، أما أفلامنا فلا تعالج موضوعا غير موضوع الهيام. . والخيانة. . والهجران!

أن التربية الصحيحة تحتم على كل والد أن يتخير لأبنائه وبناته الكتب التي يقرئونها، والأفلام التي يشاهدونها، تجنبا لما تجره علينا الكتب السامة والأفلام الخليعة من ويلات اجتماعية. . نشفق على أبنائنا وبناتنا من شرورها وآثامها!

عيسى متولي

انصر أخاك ظالما أو مظلوماً:

جاء في مقال الأستاذ أحمد حسن عبد الرحيم (شعر الحماسة عند العرب) المنشور في العدد 909 من مجلة الرسالة الزاهرة قوله:

(ولقد تمكن حب الحرب من نفس العربي، وساد نظام (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما). وأصبحت الحرب عندهم من الأماني الثلاثة العزيزة التي لولاها لا يحفل الإنسان بحياته). ولست أرى معنى لإبراز هذا الحديث الشريف في هذا المقام اللهم إلا أن يعني الأستاذ منه أن يكون الإنسان بجانب أخيه ناصراً ومعيناً، ومشايعاً ومدافعاً ظالماً كان أو مظلوماً وفي هذا خروج بالحديث الشريف عن معناه، وانحراف عن مقصده ومرماه. وحسبنا أن نروي الحديث بنصه دون تعليق: -

روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه).

عبد العظيم عطية هاشم

ناظر مدرسة سرابيوم الأولية

(الرسالة)

ص: 48

أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً مبدأ جاهلي مقرر كان يراد به ما ذكره الأستاذ صاحب المقال فلما جاء الإسلام نسخ ما كان يريده الجاهليون من هذه العبارة وفسرها الرسول الكريم بما يتفق مع مبادئ الدين

سلطان العلماء: مسرحية للأستاذ كامل عجلان:

محاولة تستحق التشجيع لا لنضجها الفني واكتمالها المسرحي فحسب؛ بل لأنها تشق طريقها بين مختلف المعوقات البيئية والذوقية؛ فالبيئة الأزهرية بحكم تقاليدها لا تهش لهذا اللون الأدبي ولا تفسح له بين تلك الفنون الأدبية التي تعالجها، بل ربما ساقتها بعض التيارات إلى أن تأخذ على هذا اللون من الإنتاج الأدبي الطريق: ذاهبة مذاهبها المختلفة لتسوغ مسلكها مع ما لهذا اللون من الثر العميق من الناحية السيكولوجية والاجتماعية والأدبية؛ فمن الناحية السيكولوجية يأتي تأثيره من تغذيته أكثر من جانب في الشخصية الإنسانية. فهو يخاطب خيالها؛ ويؤثر على حسها فيكون أثره أقوى وسحره أشد؛ وق استعانت به التربية في صقل الجانب الوجداني فاتخذته وسيلة ناجمة في - إقرار الخير في النفوس. واقتلاع الشر من الرؤوس. وتغذية القلوب المريضة بالعواطف النبيلة بتصوير مثلها العليا كما في المأساة؛ أو إصلاح الفاسد؛ وتقويم المعوج من العادات والأخلاق باتخاذه لها مضحكة للناس كما في الملهاة -

ومن الناحية الأدبية فهي الآن تكاد تكون محور النشاط الأدبي. من الناحية الاجتماعية فمنذ أن أصبحت الطبقة الوسطى والدنيا تحتل مكانتها بفضل التضامن الاجتماعي والوعي الطبقي وتخلص المسرح من طغيان أهل النبالة؛ وانتقل من الخيالية إلى الواقعية وأصبح المسرح مسؤولاً عن تزويد المشاهد بالأفكار السليمة والأخذ بيده في كثير من مشكلاته النفسية والاجتماعية صارت له رسالته البليغة في هذا العصر. وليس أقتل لأمثال تلك ألبوا كير من الإشاحة ومحاولة الغض أمام النفوس الأزهرية الناشئة من رسالتها. وقد اتقى المؤلف بكثير من الدواعي المثبطة. ولكنه قد ظهر عليها وتخطاها؛ وأخرج هذه المسرحية التي تصور فترة تعرض فيها الشرق لأعاصير التتار والصليبين والدور الذي اضطلع به العلماء. وقد اصطنع المؤلف في إخراج هذه المسرحية أصدق الأحداث التاريخية ومأثور

ص: 49

الأقوال على لسان الأبطال وقد أعتمد في تصوير شخصيات مسرحيته على ما حفظه التاريخ من سماتهم النفسية والفكرية. وقد وفق في إبراز ذلك الصراع النبيل الذي قام به العلماء والذي يشهد لهؤلاء العلماء بما لهم من أيادي على الشرق والشرقيين

محمد عبد الحليم أبو زيد

دبلوم في التربية وعلم النفس

ومدرس اللغة العربية بالمدارس الأميرية

ص: 50

‌القصص

الشعر

للأسباني أنطونيو دي ثروبيا

للأستاذ م. أمين (البندقي)

لصاحبي يوسف أرض غير واسعة، فيلا فيتزبوزا بناحية من نواحي أيدونا، فهو يقضي فيها من زمان الربيع أياماً، ومن الصيف أياماً، ويصب جهده على الزرع، يحدو به شديد الميل أكثر مما تحدو به الحاجة.

وقد جرى على حنة امرأة يوسف، وهي أفضل الأزواج والأمهات شيء كالذي جرى على شخص من الشخوص في قصة من القصص المسرحي طوى الحياة كلها وهو يمثل، وما أحس قط أن له على التمثيل قدرة رائعة، قل أن يكون لها شبيه. ذلك أن حنة كانت مدى العمر شاعرة، وهي لا تعلم، بينا الكثيرات غيرها قد لبسن لبوس الشعر وليس بينهن وبين الشعر أوهى سبب.

كان النهار قد انتصف بيوم أضوء من أيام يوناو صاف أغر حين بلغت إلى بيت صاحبي يوسف. وإذ رآني ليون كلبه وكان هو الأخر من صحبي بادر إلى يلقاني وأنا مازلت على مبعدة من الدار، وراح يحييني بالوثب واللعب. ومالت شجرة من أشجار الكريز كانت تراءى على حائط البستان تستهوي بأثمارها قلوب الصغار، فضربتني على قبعتي حتى أذكر أنها هناك قد أطلت. . ولما أن صعدت السلم بدا لي أني سمعت قراءة، إلا أن خطاي قد جعلتها تنقطع.

وكانت ثم حجرة رائعة الجمال يهبط منها الهابط إلى البستان على سلم صغير من الخشب، فوقه كرمة مصفوفة تلقى عليها الظلال،

وقد ضمت الحجرة حنة ومريم وليجني ويبينو معاً. وكانت حنة عندئذ تخيط ثوباً. وكانت مريم وهي صبية في الخامسة عشر وجهها الوضاح تمنيت لو أراه أمامي في كل نائبة، وقد أمسكت بكتاب أغلقته قليلاً وأما لو يجي وبيينو، وهما طفلان بين الرابعة والسادسة، فقد كانا يعالجان رأس تمثال من الطباشير ليفصلاه عن سائر الجسد.

ورآني الطفلان فبادرا إلى لقائي، وسألتهما أكانا من الطيبين الهادئين؟ فكان جوابهما أن

ص: 51

راحا يسألاني هل جئت أليهما بالحلوى؟ ألقيت بالتحيات ألقت علي التحيات. ثم قالت لحنة إن زوجها قد ذهب إلى السوق في مكان لا اعرفه - غير انهم ينتظرون عودته في نفس الليلة.

- أكنتم تقرءون؟

- أجل

- وماذا كنت تقرئين يا مريم؟

- كتاباً من الشعر ألفه شاعر في مدريد

- ومن هذا الشاعر؟

- شاعر يأتي كل عام لينصب المراوح يوم عيد الثيران

- أشاعر ينصب المراوح؟ لقد أصلبك الخبل

- نعم ينصبها. وما ذاك إلا إنه مولع بمصارعة الثور

- أذن فما هو بالشاعر

- بلى إنه لشاعر

- وكيف علمت إنه شاعر؟

- إنه إذ يتحدث فحديثه النظم، وإذ يكتب لا يكتب شيئاً سوى النظم

فأخذت الكتاب الذي كان في يد مريم فقرأت فيه بعض الأبيات. ولما كان القليل يدل على الكثير فقد قلت لها:

- إني لا أراه شاعراً ولا أرى في هذا الكتاب شعراً

- وماذا فيه إذن؟

- فيه النظم

- وهل كان الشعر والنظم إلا شيئا واحدا؟

- ليسا بالشيء الواحد

- إني أراك تسخر مني يا انطون. أليس الشعر والنظم شيئاً واحداً؟

- كلا فقد يكون في الكتاب نظم ولا يكون فيه شعر. وقد يكون فيه الشعر دون النظم

- رويدك فما النظم إذن؟

ص: 52

- إني أود أن أسألك سؤالا قبل أن أجيب. مريم كم عندها من الثياب؟

- عندها من الجديد ثوبان. أحدهما أخضر لونه والأخر أزرق

- وأي الثوبين انسب إليها؟

- الأزرق. والمحتالة التائهة لا تغفل عن ذلك. فهي تؤثر أن تلبس الأزرق دون الأخضر

- إذن فاعلمي أن الشعر ليس له غير ثوبين يناسبانه. أحدهما النثر والأخر النظم. ولما كان النظم أنسب له من النثر فهو يؤثر الأول على الآخر

- وإذا لم يكن النظم هو الشعر، وإنما هو الشكل الذي يناسبه أكثر مما يناسبه سواه، فما الشعر إذن؟

وإن حنة لتطرح علي هذا السؤال إذ نسمع صوتاً ضعيفاً ناحية السلم يهتف:

- حسنة لله. فمالي أب ولا لي أم.

فيبادر لويجي وبيينو إلى السلم:

أماه! إنها طفلة تأكل رأس كرنبة. ألا ما أقبحها!

- أدخلاها

وما هو إلا أن دخلت الحجرة طفلة في السادسة أو نحوها تكاد أن تكون عارية، وهي تنحت بأسنانها حقاً في رأس كرنبة فقالت حنة وهي تنزع من يد الطفلة ذلك الرأس وتمضي بها نحو الحقل:

- لم تأكلين هذا القذر؟

فأجابتها الطفلة وعيناها نديتان بالدمع:

- إني جائعة

فهتفت مريم وهتفت حنة، في آن معاً:

- الله للمسكينة!

ثم سألتها حنة:

- من أين أقبلت؟

- من نافلشا نيرو

- وأبواك؟

ص: 53

- ليس لي أب ولا أم. فقد ماتا من الكوليرا

فهتفت حنة:

- أواه يا بنية!

وجادت بالدموع السواجم عيناها وهي تقبل الطفلة، دون أن تبالي بأقذار كستها وقالت:

- ليت الله كان أخذ الضعيفة حين أخذ أبويها! ألا يا بؤسي لها!

وأسرعت حنة إلى المطبخ وهي تزفر الزفرات الحرى، فما لبثت أن أعدت طبقاً من الثريد بأحسن ما كان عندها من الحساء. وجاءت تسعى به إلى الطفلة، ومعه قطعة من اللحم ضخمة، وعنقود من العنب.

ثم انطلقت، والطفلة مقبلة على الطعام، فراحت تبحث عن رداء وثياب أخرى كانت مريم وهي في سن الثامنة قد كفت عن لبسها وهي لم تزل جديدة، وما ذاك إلا أنها كانت ضيقة.

فلما فرغت اليتيمة من طعامها غسلت لها وجهها وبدلت لها أطمارها بتلك الثياب ثم شيعتها بالدعابة والرفق الجميل العذب وعادت تصل ما انقطع فهتفت:

- لنستأنف حديثنا، ما الشعر؟

فأجبتها:

- الشعر هو هذى الدموع التي لا تزال تندى بها عيناك، وهذى الزفرات التي تصاعد ألان في صدرك، وكل ما يختلج في قلبك هذه الساعة

فقالت:

آه!

نطقت بها همساً، وقد بدأت تدرك شيئاً مما كنت أحاول أن أشرحه

م. أمين

(البندقي)

ص: 54