الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 913
- بتاريخ: 01 - 01 - 1951
كيف أعلن محمد حقوق الإنسان
في شهر ديسمبر من عام 1949، وفي فوره من فورات النفاق الدولي، أعلن الساسة في (هيئة الأمم المتحدة) حقوق الإنسان؛ ثم احتفلوا واحتفل معهم الناس بالذكرى الأولى لهذا الإعلان منذ عشرين يوما، فبشروا بالنعيم المقيم والخير العميم والسلام الدائم. ومن وقبل هؤلاء الساسة (الإنسانيين) أعلن قادة الثورة الفرنسية هذه الحقوق عام 1789 وصاغوها في عشرة مادة جعلوها ديباجة لدستور سنة 1791.
ومن السهل على الذهن الاجتماعي أن يعلل صيحة الثوار الفرنسيين بحقوق الإنسان بعد أن كابدوا ما كابدوا من استعباد النبلاء واستبداد القسس، وان يفسر احتضان هيئة الأمم المتحدة لهذه الحقوق بعد أن رأت الحوت الشيوعي معترضاً في خضم الحياة وقد فغر فاه الهائل المروع ليلتقم الديمقراطية الرأسمالية وما تسيطر عليه من أرزاق الناس وأسواق العالم بالاستعمار أو بالنفوذ. ولكن من الصعب على الذهن المنطقي أن يدرك ما يريده الأوربيون والأمريكيون من لفظ (الإنسان) الذي أعلنوا له هذه الحقوق وظاهروا عليه هذا العطف. اغلب الظن أنهم يريدون بإنسان هذه الحقوق ذلك الإنسان الأبيض المترف الذي تحدر من أصلاب اللانين أو السكسون أو التوتون؛ أما الإنسان الأحمر في أمريكا فهو في رأي أبناء العم سام ضرب مهين من الخلق عليه كل واجب وليس له أي حق؛ ولكن وجوده المعدوم في بلاد الديمقراطيين الأحرار لا يزال في رأي المسلمين أغلظ كذبة في دستور الديمقراطية بواشنطون، وأكبر لعنة على تمثال الحرية بنيويورك! وأما الإنسان الأسمر والأسود في أفريقيا، أو الأخضر والأصفر في آسيا، فهو في نظر الفرنسيين والإنجليز نوع من بهيمة الأنعام، وجنس من المواد الخام، يولد ليسخر، ويروض ليستثمر، وينتج ليستهلك؛ وهو موضوع الخصومة في السلم، ومادة الغنيمة في الحرب؛ ولكن حقه المهضوم بين أمم العلم والدستور لا يزال في نظر السلمون اتهاماً لصحة الثقافة في جامعات فرنسا، وإنكار الحقيقة العدل في برلمان إنجلترا! ومن هذا التفسير المزور لمعنى الإنسان في القديم والحديث اضطرب الأساس وفسد القياس واختلف التقدير؛ فلكل جنس وزنه، ولكل لون قيمته، ولكل دين حسابه. ومدار الوزن والتقويم والحساب على قدرة الإنسان وعجزه، لا على إنسانيته وفضله. فالعلم والغنى والقوة سبيل السيادة، والجهل والفقر والضعف سبيل العبودية. والسيادة حق ليس بازائه واجب، والعبودية واجب ليس بازائه حق.
المسلمون وحدهم هم الذين يفهمون الإنسان بمعناه الصحيح لأنهم اتباع محمد. ومحمد وحده هو الذي أعلن حقوق الإنسان بهذا المعنى لأنه رسول الله. والله وحده هو الذي الهم رسوله هذه الحقوق لأنه أرسله رحمة للعاملين كافة.
أرسله رحمة للذين استضعفوا في الأرضلقلة المال كالمساكين، أو لفقد العشير كالموالي، أو لضعف النصير كالأرقاء، أو لطبيعة الخلقة كالنساء، فكفل الرزق للفقير بالزكاة، وضمن العز للذليل بالعدل، ويسر الحرية للرقيق بالعتق، وأعطى الحق للمرأة بالمساواة.
والمستضعفين الذين رحمهم الله برسالة محمد لم يكونوا من جنس مبين ولا من وطن معين؛ إنما كانوا أمة من أشتات الخلق وأنحاء الأرض اجتمع فيها العربي والفارسي والرومي والتركي والهندي والصيني والبربري والحبشي على شرع واحد هو الإسلام، وتحت تاج واحد هو الخلافة. والإسلام الذي يقول شارعه العظيم (ولقد كرمنا بني أدم) لم يخص بالتكريم لوناً دون لون، ولا طبقة دون طبقة. إنما ربأ ببني أدم جميعاً أن يسجدوا لحجر أو شجر أو حيوان، وأن يخضعوا مكرهين لجبروت كاهن أو سلطان.
كان اليهود يزعمون انهم أبناء الله وأحباؤه وسائر الناس سواء والعدم! وكان الرومان يدعون انهم حكام الأرض وما سواهم خدم! وكان العرب يقولون انهم أهل البيان وماعداهم عجم! وكان الهنود يعتقدون أن الله خلق البراهمة من فمه والراجيوت من عضده والمنبوذين من رجله ولا يستوي الأمر بين راس وكتف وقدم! وكان النظام الاجتماعي كله قائمة على الامتياز بالجنس أو بالدين، وعلى السيادة بالنسب أو بالمال، حتى جاء محمد اليتيم الفقير الأمي بالهدى ودين الحق ليظهر على الدين كله؛ فأعلن المساواة بقول الله عز اسمه:(إنما المؤمنون أخوة)(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، أن أكرمكم عند الله اتقاكم) وأكدها بقوله صلوات الله عليه: (الناس سواسية كأسنان المشط)(لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب).
ثم كان الرقيق والمرأة شيئين من الأشياء لا يملكان ولا يتصرفان، فضيق الإسلام حدود الرق، وجعل كفارة الذنوب على الصدقة والعتق، وسوى بين الرجال والنساء في الحق والواجب.
ثم أعلن حرية العقيدة بقول الله تعالى: (لا إكراه في الدين وقد تبين الرشد من ألغى) (ولو
شاء ربك لا من فيالأرضكلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟) واحترام عقائد أهل الكتاب، وضمن لهم حرية العبادة وأمان العيش وعدل القضاء، وأمر الولاة أن يرعوهم ويعطفوا عليهم، وأوصى المسلمون أن يبروهم ويقسط إليهم ثم أعلن الإسلام حرية الفكر والرأي فلم يقبل إيمان المقلد ولا حكم المستبد، وأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، ووسع صدره لأهل السياسة حتى تعددت الأحزاب، ولأهل الجدل حتى كثرت الفرق، والرجال الفقه حتى تنوعت المذاهب. وسمح لأهل الذمة وأصحاب النحل أن يدعوا إلى أديانهم ويدفعوا عنها في المدارس والمجالس والبيع، ونهانا ألا نجادلهم إلا بالتي هي أحسن.
ثم احترام الملكية وثبت لها الأصول، ونظم المواريث ورتب عليها التعامل. وهذه هي جماع الحقوق الطبيعية التي كفلها الإسلام للإنسان على اختلاف ألوانه وأوطانه وألسنته. أعلنها محمد بن عبد الله منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن، والأمر يومئذ للجهالة، والرأي للضلالة، والحكم للطغيان، فأنقذ بها الإنسانية من إسار المادية والعصبية والأثرة، ثم أكرمها ونعمها وهداها الطريق المستقيم إلى نظام أكمل وعالم أفضل وحياة أسعد. ولكن الإنسانية وا أسفاه أضلت هذا السبيل! أضلها أولئك المنافقون الذين يعلنون لها اليوم هذه الحقوق، وهم يسرون في أنفسهم تأكيد الامتيازات وتأييد الفروق!
أحمد حسن الزيات
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت
(وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فنفرق
بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).
يقاسى العالم اليوم ألواناً من الشرور والمفاسد، ويكابد أصنافا من الآلام والمتعب، تقض عليه مضاجع الأمن والاستقرار، وتزلزل كيان الطمأنينة والسعادة في الأفراد والجماعة. وما مثل الناس في هذا الزمان إلا كمثل قوم في سفينة أخذتها الأعاصير من كل جانب، واضطربت في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، يكاد اليم يبتلعها بمن فيها؛ أو كمثل قوم حوصروا بالنار ذات الوقود في بيت مغلق النوافذ وقد تقطعت بهم الأسباب، وجمدوا في أماكنهم شاخصة أبصارهم يشهدون الهام النار لمتاعهم ونفائسهم وأموالهم وأبنائهم وأنفسهم، ثم لا يستطيعون أن يحركوا ساكناً، ولا يلتمسوا طريقاً للخلاص، سوى الصياح والعويل والاستغاثة من الخطر الذي داهمهم وحل بدارهم!!
وليس لهذه النكبة فيما يرى عقلاء العالم من سر سوى انسياق الناس في حياتهم مع نظم وضعها الإنسان وأملتها عليه الشهوات والنزعات، لم تبن على مصالح البشر ولم يلاحظ فيها مقتضى الطبيعة الإنسانية التي تفترض المساواة في الحقوق والواجبات، فجاءت مختلفة باختلاف بواعثها، مضطربة باضطراب ألوانها وغاياتها، متنازعة بالعصبية لها، والتناحر عليها، كل أمة تعمل جاهدة على أن يسود نظامها، وتعلو كلمتها، ويستقر في العالم سلطانها، وتصبح ذات السيادة المطلقة، والكلمة النافذة، فمن نازية إلى فاشية إلى شيوعية إلى رأسمالية إلى ديمقراطية، إلى اشتراكية، إلى غير ذلك من ألوان ما أنزل الله بها من سلطان.
فمن الطبيعي وهذا شأنها وشأن واضعيها والمتعصبين لها ان تقضى بالعالم إلى هذا الشر المتفاقم، وأن توقد نيران الحروب في جميع أرجائه، ما بين حرب تصلى الشعوب نيرانها، وتدمر البلاد والديار أسلحتها، وحرب باردة تأتي على الهدوء والسكينة، فتزلزل الأمن
والقرار من القلوب، وتثير الخوف والفزع في النفوس، وتهيج في المجتمع ألوان النفاق والأخلاق الفاسدة، وتحل عرى الجماعة؛ فيصبح الأخ عدوا لأخيه، والأمة شيعاً وأحزاباً يتربص كل بالآخرين دوائر السوء، ويقدر كل منهم ان خيره كله في نجاته هو، وشر الآخرين. وانه ليس عليه لوطنه، ولا لمواطنيه وبني جنسه شئ من الحقوق ينبعث بها الشعور من قلبه، ويتحقق بها معنى التعاطف والتراحم.
ولعمري أن العالم سيظل في هذه الحيرة، وهذا الاضطراب بل في هذا البحر اللجي من الشرور والمفاسد، لا يجد راحة مادية، ولا يحس راحة روحية، ولا يتنسم شيئاً من النسيم الذي يبشر بالخلاص والنجاة، سيظل كذلك ما ظل متمسكاً بأهداب هذه النظم التي أفتحرها الإنسان، واتخذها أساساً لحياته فما ذاق منها إلإ الخوف والجوع، والظلم والطغيان.
طريق الخلاص:
وقد أقلقت هذه الحالة كثيراً من مفكري الأمم في الشرق والغرب ومدعى حب السلام والأمن في العالم، ولم يبق أحد له فكر سليم وقلب رحيم إلا أشفق على الإنسانية من عواقب ما تتخبط فيه من ظلمات، وأخذوا يفكرون في طريق الخلاص فتفتقت بعض الأذهان عن وسائل زعموها طريقاً للسلم العالمي المنشود، وما هي في واقعها إلا تلبية لنزعات الطغيان الكامن في النفوس الذي يدين بالأثرة ولا يعبأ بمصالح الأمم، ولا يكترث بما يصيب الإنسانية من ويلات.
وهذا هو سلامهم لا يزال بعد اتخاذ هذه الصور يتعثر في خطواته، ويلتوي في مشيته، والشر يتكون ويقوى في خلال خطواته: تنطلق أبواق الدعاية وتعقد المؤتمرات، وتوضع المبادئ وتعقد المجالس، ثم لا تلبث الدعاية أن تخفق، والمؤتمرات أن تنفض، والمبادئ أن تتبخر، والمجالس أن تنحل، وتصبح ردهات هذه المنشآت ميداناً للارعاد، والإبراق. وتتطاير شرر الطغيان على الضعفاء. والويل كل الويل لمن لا تحميه قوة، أو يرمى بنفسه في أحضان قوى مستعبد. ولا عجب فإن الطغيان الذي تندلع به نيران الحروب الفتاكة هو الذي يتسلط على تلك الرءوس التي حاولت أن تستر طغيانها باسم التفكير في وسائل السلم العالمي؛ فهو سلم تذوق الإنسانية من مرارته مثل ما ذاقت وتذوق من مرارة الحرب، فكلاهما وليد الطغيان، وكلاهما وسيلة من وسائل التخريب والتدمير والقلق والاضطراب.
وبحال أن تجد الإنسانية علاج هذا الطغيان فيما وضعه الإنسان أو يضعه بروح الأثرة والزهور والغرور؛ إنما العلاج الحق في الرجوع إلى ذلك العلاج الإلهي الخالد الذي يستند في صدوره وتنظيمه وإبداعه إلى العليم بخفيات النفوس، الخبير باتجاهات القلوب، وذلك هو الإسلام وحده الذي مهما تعددت مبادئه وتنوعت إرشاداته يرجع إلى كلمتين اثنتين: إيمان، وعمل صالح (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
(والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
لقد مرت على الإنسانية حقب انتابها فيها مثل ما انتابها في هذه الحقبة من شرور وآثام وطغيان، وما أنقذها من شر تلك الويلات إلا هذا العلاج الإلهي، زكاها وطهرها وعلمها الكتاب والحكمة، وحولها من مجاري الشر والشقاء إلى سبيل الخير والفلاح، والإنسانية هي الإنسانية، والويلات هي الويلات، والعلاج هو العلاج؛ فليكن علاج الآخرين هو علاج الأولين.
لهذا وبمناسبة ذكرى ميلاد مسدد هذا العلاج، محمد بن عبد الله رأيت أن أتقدم على صفحات الرسالة بموجز بين واضح عن جملة العقاقير التي تألف منها ذلك العلاج رجاء أن يتعرفه الناس ويقبلوا عليه فيكون في تناوله الشفاء والإنقاذ، والصحة والعافية. (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا).
الإسلام:
ليس الإسلام - كما يظن الذين يجهلون حقيقته - دين نسك وعبادة فقط، تقتصر مهمته على تنظيم علاقة الإنسان بربه، وإنما هو - كما ينطق كتابه - دين عملي، عام، خالد. ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بمواطنيه وبني جنسه، ويرسم للجميع طريق السعادة في الدارين: الدنيا والآخرة (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم أجراً كبيراً، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذاباً أليما)(9، 10) الإسراء.
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (24 الأنفال.
(ولو انهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم)(66 المائدة).
(فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) (123 - 127 سورة طه.
أساس التنظيم الإسلامي للحياة
شرع الله الإسلام، وجعل منه نظاما يكفل سعادة الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة، لم يترك عنصرا من عناصر الخير والفلاح، عناصر الحياة الطيبة والسعادة الخالدة إلا أمر به ودعا أليه، وحث عليه، ولم يترك عنصرا من عناصر الشر والفساد، عناصر الحياة الذليلة والشقاء المقيم إلا نهى عنه، وحذر ونفر منه.
ذلك أن الإسلام بني تنظيمه للعالم على الواقع وهو: إن الإنسان جسم وروح، وان للجسم حظا ومتعة، وان للروح حظا ومتعة، وان للإنسان شخصية مستقلة عن بني جنسه، وشخصية يكون بها لبنة في المجتمع الوطني والإنساني، وأن له بكل من هاتين الشخصيتين حقوقا وعليه واجبات.
ولا تتحقق سعادة الإنسان إلا باستكماله حظ الجسم والروح، وتنظيم حقوقه وواجباته في نفسه وفي مجتمعه دون إفراط ولا تفريط.
وكل ما جاء به الإسلام من عقائد وعبادات وآداب وتشريعات لا يخرج عن هذه الدائرة، دائرة رعاية حظ الجسم وحظ الروح للإنسان منفردا ومجتمعا.
المبادئ العامة للإسلام
وفي ظل هذا المبدأ العام الواقعي، وفي سبيل الوصول إلى غايته السامية، وضح الإسلام المبادئ الآتية:
أولا: طلب الإيمان بمصدر الوجود والخير، والرجوع إليه في كل شئ، وإفراده بالعبادة
والتقديس، والدعاء والاستغاثة، حتى لا يذل مخلوق لمخلوق، وحتى يشعر الإنسان بعزة نفسه، ولا يضل باتخاذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب الإيمان بيوم الحساب والجزاء، والإيمان بمعرفة طريق الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وربط به سعادتهم في الدنيا والآخرة. ذلك الطريق هو: ملائكة الله الذين يتلقون عنه الشرائع والأحكام، وأنبياؤه الذين يتلقون عن الملائكة ويبلغون الناس ما أمروا بتبليغه، والكتب السماوية التي هي رسالة الله لعباده. وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين) صدر الآية (177) سورة البقرة.
ثانياً: رسم طرق العبادة وفرض منها جملة أنواع ما بين بدنية ومالية، جعلها مددا للإيمان بالخالق، وسبيلا لمراقبته، واعترافا بشكره فرض خمس صلوات في اليوم والليلة يتكرر بها وقوف الإنسان بين يدي خالقه ومولاه يناجيه، ويستشعر عظمته، ويخلص بها من سلطان الحياة المادية المظلمة.
وفرض صوم شهر في السنة - وهو شهر رمضان - شكرا على نعمة نزول القرآن، وتدريبا على خلق الصبر الذي لابد منه في احتمال الحياة.
وفرض الزكاة وهي إخراج جزء معين من ماله سبيل الله شكرا على نعمة المال وقياما بحق الجماعة.
وفرض الحج إظهار الشعار الإيمان العام وهو الالتجاء إلى الله مع جماعة المؤمنين متجردين عن المال والأهل والولد والمساكن الطيبة ابتغاء مرضاة الله وتذكر اليوم المعاد، وجمعاً لكلمة الموحدين وإحياء لذكرى المصلحين الأولين الذين اصطفاهم الله لإنقاذ عباده من هوة الظلال والمآثم.
فرض هذه العبادات وبين على لسان رسوله كيفياتها ومقاديرها وأوقاتها، ووحد بين الناس في كل ذلك حتى لا تتشعب أهواؤهم ولا تختلف أنظارهم، وحتى يكون ذلك سبيلا لجمع القلوب وائتلاف الأرواح، والشعور بوحدة الغاية والمقصد.
الثالث: حث على العلم والمعرفة، وفك عن العقل البشري أغلال التقليد والجمود، ودفع به إلى معرفة أسرار الله في خلقه: أرضه وسمائه، مائه وهوائه، وذلك ليقوى الإيمان بالله،
وليسعد الناس باستخدام ما يدركون من أسرار هذا الكون الذي أخضعه الله للإنسان وسخره له في حياته، ومن هنا علا شأن العلماء الذين خاضوا غمار هذا الكون وانتفع الناس بما أدركوا.
(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
(يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات)(إنما يخشى الله من عباده العلماء).
الرابع: أمر الإسلام بتحصيل الأموال وقرر أنها قوام الناس، وعصب حياتهم، وجعل السعي في تحصيلها من الطرق المشروعة، وهي الزراعة، والصناعة، والتجارة؛ عديلا لعبادة الله (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)(10) سورة الجمعة.
(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)15. سورة الملك.
وأمر بحفظها، ونهى عن تبذيرها واغتيالها. وجعل فيها حقا للفقير الذي لا يستطيع العمل وللمصالح العامة (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا نبذر تبذير، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) 26 - 29 سورة الإسراء.
(وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) 195 سورة البقرة.
(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) 188 البقرة
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) 278 - 280 البقرة.
وبجانب هذا قرر الإسلام أن الترف منبع شر يقضي على أخضر العالم ويابسة.
(وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتهم به كافرون، وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) 34، 35سورة سبأ
وبذلك حارب في القائمين على أموال، والذين لهم فيها حق التصرف - مالكين أو مشرفين. حارب فيهم الترف والبذخ والتبذير فيما لا يعود بخير على الأمة، وجعل للحاكمين الحق في أن يقفوا للمسرفين المبذرين بالمرصاد حتى يحتفظوا بأموال التي استخلفهم فيها، والتي هي الحياة للفرد والجماعة، وحتى تسلم صدور المقلين من الحقد الذي تولده وتنميه مظاهر الترف والإسراف التي تحيط بهم وتقع عليها أبصارهم وهم محرمون من حاجتهم الضرورية، والمعيشة المطمئنة المريحة.
وبهذا المبدأ الذي قرره الإسلام إزاء المال تحل المشكلة المالية التي ولدها الجشع فهددت العالم في حياته وأمنه، فهو يقضي على الطغيان المالي، ويصوم المجتمع من الشيوعية الهدامة، ويحتفظ بالحقوق والجهود، ويوفر ثمرة العمل، ويفتح باب التنافس في عمارة الكون وتقديم الحياة والفضائل الإنسانية السامية.
أمر الإسلام بحفظ العرض احتفاظا بعنوان الشرف والكرامة، واقتلاعا لبذور الفوضى الجنسية التي تقضي على نظام الأسر والأنساب، وتجعل الأفراد لبنات مبعثرة لا يجمعها رباط ولا يظللها قبيل. وقرر أن الاختصاص في الحياة الجنسية كالاختصاص في الملكية الشخصية كلاهما عنصر من عناصر الحياة الآمنة الشريفة، وبفقدها أو إحداهما تنفصم العرى وتنقطع الروابط، ويصير الإنسان إلى إباحة مطلقة أو قسوة وحشية، وجدير به حين إذ أن يرحل من قصور الحضارة إلى غابات الوحوش وفلوات الذئاب.
أمر الإسلام بحفظ الصحة وحارب المرض، فأمر بالوقاية، وحذر من العدوى، وحث على التداوي، وأباح للمريض والخائف من المرض إذا توضأ - أن يتيمم - واكتفي به طهارة له. وأباح الفطر في المرض والسفر، والحيض والنفاس، والحمل والإرضاع والشيخوخة؛ كل ذلك عناية بالصحة ووقاية من المرض. والإسلام يبني أمره كما قلنا على الواقع، والواقع أنه لا علم إلا بالصحة، ولا جهاد إلا بالصحة، ولا عمل إلا بالصحة، فالصحة هي رأس مال الإنسان وأساس سعادته، وقد استقر ذلك في نفوس المسلمين حتى اشهر على ألسنتهم: إن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان.
السابع: أمر بحفظ العقل الذي هو ميزان الخير والشر في هذه الحياة، فحرم كل ما يفسده أو يضعفه (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) 90 المائدة
جاء على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام.
الثامن: أمر الإسلام حفظاً لكيان الدولة وردا لغائلة المعتدين بتحصيل القوة واتخاذ العدة التي يكافح بها الأعداء.
(واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) 60 سورة الأنفال.
وقد أرشدت الآية الكريمة إلى القوة ليست في نظر الإسلام إلا طريقا من طرق الإصلاح وسبيلا من سبل السلم بإرهاب المفسدين، ورد المغيرين، وتقوية جانب الخير بشد أزر المصلحين، وأنه لا يقرها طريقا للإذلال والتخريب، وإخراج الناس من ديارهم وسلب أموالهم والتضييق عليهم في الحياة، ولا يريدها إكراهاً للناس على اعتناق الدين (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغنى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم. 256 سورة البقرة).
(ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)99. سورة يونس.
التاسع: قرر الإسلام المساواة بين الناس، وقضى في الحقوق والواجبات على الفوارق بين بني الإنسان، وأعلنهم في الصراحة لا تعرف الموارية أنهم جميعا من نفس واحدة، وأنهم ما جعلوا شعوباً وقبائل للتفاضل أو للتناحر والتقاتل؛ ولكن للتعارف والتعاون.
يا أيُها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) 13 الحجرات.
العاشر: وضع الإسلام الأحكام وأصول التشريعات لحياة الناس، وكان سبيله في ذلك أنه لم يترك الناس يشرعون لأنفسهم في كل شيء، ولم يقيدهم بتشريع معين في كل شيء، وإنما نص وفوض: نص على أحكام ملا تستقل العقول بإدراك الخير فيه وما لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وفوض فيما وراء ذلك معرفة ما تقضي به المصلحة لأرباب النظر والاجتهاد في حدود أصوله العمة، وبذلك حفظ الإسلام للعقل الإنساني كرامته،
وحياته في الوقت نفسه من الاضطراب للأهواء والنزعات.
الحادي عشر: مكن الإنسان من حظ الجسم وأرباح له التمتع بالطيبات، في مأكله ومشربه، في ملبسة ومسكنه بحسب وسعه وقدرته دون إسراف أو تبذير، وأرباح له التمتع بحاجة نفسه من الزوجة والمال والولد، ومكنه من متعة الروح بالعلم عن طريق التصفية والرياضة، وعن طريق الفكر والتدبر في جلال الله وجماله وما خلق الله من آيات وعجاب.
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا أن الله لا يحب المسرفين - قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق - قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) 31 - 33 سورة الأعراف.
(يا أيها الذين لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتقدون إن الله لا يحب المعتدين، وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي انتم به مؤمنون. 87، 88 المائدة)
الثاني عشر: منح الإنسان باعتباره فرداً - شخصية مستقلة وجعله في الوقت نفسه - لبنة في ناء المجتمع، والاعتبار الأول اثبت له حق الملكية لما له ودمه، وحق الهيمنة على نفسه وولده، ومنحه في هذه الدائرة حق التصرف بما يكون مصلحة له وسبيلا مقوماً لحياته دون مساس بحق الغير.
وباعتبار الثاني أوجب عليه للمجتمع حقا في نفسه يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويخرج للغزو والجهاد في سبيل رد العودان، ويساهم في كل ما يستطيع في مرافق الحياة ووسائل رفاهيتها، وأوجب عليه حقا في ماله بالبذل والإنفاق في سبيل الله بما بفضل عن حاجته وحاجة من يمونهم وبلى عليهم ولاية خاصة، كما حثه على أن يعمل - لو كان قادراً - على إيجاد النسل القوى الصالح الذي يرفع بقوته وصلاحيته صرح المجتمع على كاهله.
وفي مقاله هذه الواجبات التي فرضها الإسلام على الفرد للمجتمع فكلف المجتمع الممثل في الحاكم الأمر بحفظ دمه وماله وعرضه، وشرع لحماية ذلك العقوبة من قصاص وحد وتعزيز. وبذلك تبادل الفرد مع المجتمع - في الوضع الإسلامي - الحقوق والوجبات،
وجعلت سعادة الحياة منوطة بالتعادل بين الجانبين دون طغيان من أحدهما على الآخر؛ فلو ضمن الفرد بنفسه أو ماله، أو بلسانه أو بامتناعه عن الزواج والنسل مع قدرته - ساءت حالة الأمة وانقلبت حياتها جحيما واستوجب الفرد عذاب الله وغضبه. وكذا لو ضن المجتمع بقوته وسلطانه عن حماية الفرد وكفالته ساءت الحال وانقلبت جحيما واستوجب الحاكم وولاة الأمر الممثلين للأمة سخط الله وغضبه.
شد الإسلام أزر هذه المبادئ التي لا بد منها في أصل الحياة، وحفظها بجملة من الآداب الفردية والاجتماعية تخلع على الإنسان في شخصه ومجتمعه حلة البهاء الإنساني والجمال النفسي، وتقية شر التدهور والانحلال.
ففي أدب التواضع والمشية والنداء واشتغال الإنسان بما لا يعنيه وجريه وراء الظنون الفاسدة والخواطر السيئة يقول الله تعالى (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرضمرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك). سورة لقمان.
ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا، ولا تمش في الأرضمرحاً إنك لن تخرق لأرضولن تبلغ الجبال طولا، كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها) 36 - 83الإسراء.
(يا أيُها الذين لآمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا) 12 الحجرات.
وفي أدب الزيارة للبيوت: (يا أيُها الذين لآمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير للكم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعلمون عليم) 28 سورة النور.
وفي سد أبواب الفتنة الجنسية (قل للمؤمنين بغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلكم أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات بغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منه وليضربن بخمرهن على جيوبهن) 30، 31 سورة النور.
وفي أدب المجالس (يا أيُها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فأفسحوا يفسح الله
لكم وإذا قيل انتشروا فانتشروا،) 11سورة المجادلة.
وفيأدبتلقى الأخبار وإذاعته: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) 6سورة الحجرات.
وفي أدب اجتماعي خطير (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلزموا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الآثم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) 11 الحجرات.
وفي معاملة المسالمين المخالفين في الدين (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) 8 الممتحنة.
الرابع عشر: هذه جملة المبادئ الأصلية، وقد صانتها الإسلام فوضع العدل والشورى أساسين للحكم فيها وبين مصادر التشريع التي يتجه إليها المشروع فيما يحتاجون إليه من أحكام (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا)، (وشاورهم في الأمر)(وأمرهم شورى بينهم)(وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ويعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تتذكرون)(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وفي بيان مصادر التشريع يقول (يا أيُها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) 58، 59 النساء.
ثم أمر الناس يتقوى الله فيها والتزم حدوده منها وحذرهم مخالفتها إلى الاعتصام بحبلها، والتضامن فيها، والتواصي بها حاكمين ومحكومين، رعاة ورعايا.
وفي ذلك يقول الله تعالى (يا أيُها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
(والعصر إن الإنسان لفي خصر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
أما بعد: فهذا هو الإسلام وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، ينظمون به حياتهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد بعث بأصوله الرسل، وبينها في الكتب ثم أكملها بما يناسب رقي الإنسانية في آخر الكتب المنزلة وهو القرآن، وعلى لسان خاتم الأنبياء والمرسلين وهو محمد عليه الصلاة والسلام. أجملناه في هذه العجالة ليكونوا مناراً يسترشد به المسترشدون وليكونوا تبصرة وذكرى لأولى الألباب، وليكون حدا فاصلا بين الحقيقة التي أنزلها الله ودعا الناس إليها، وربط بها سعادتهم، وبين الانحراف الذي وقع فيه العالم، وتفكك به المسلمون.
والسلام على من اتبع الهدى.
محمود شلتوت
ابتهال إلى الله
يا محمد
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
يا هادم ظلم الأيام
…
ومذل جباه الأصنام
ومبدد أكون ركعت
…
لسياط قوى ظلام
يغريه سراب للباس
فيقول أنا رب الناس
ويظل يتيه بما عزفت
…
لخطاه أكف الأوهام
حتى أقبلت بإلهام
لا سيف ولا حد حسام
ولطمت علاه بما حملت
…
يمناك من الألق السامي
فأندك إله الأرجاس
بشعاع من نور محمد
يا مطفئ نار عجمية
…
في الموقد لاحت أبديه
عجماء لها نغم سكبت
…
بيديه صلاة الوثنية
فجثا لقداستها كسرى
والناس لها ظلوا أسرى
حتى أشرقت. . فما سمعت
…
إلا برياح أزليه
تحدوها شهب قدسيه
زأرت بسماء عربيه
فإن صعق لظاها واحتضرت
…
أم الأرباب الهمجية
ورماد الشرك غدا عطراً
يتسابق شوقاً (لمحمد). .
يا حامل شرع للأمم
…
سوىّ القيعان مع القمم
الأرض بمن فيها سلكت
…
ليلا بتراشق بالظلم
فالعدل بها عشيت سبله
والحق بها شقيت حيلة
والمجد لركاع صلبت
…
كتفاء بذل في قدم
والظلم قرير بالصمم
والعهد نعوش للذمم
ونفاق الوجه كما اختلجت=حولاء بضوء منقسم
والكون يناديه خجلة
يا رب أجرنا (بمحمد).
يا راقئ دمع الباكينا
…
ومشفع ذنب العاصينا
جئناك حيارى قد نفرت
…
أعماق الجرح بوادينا
حدنا عن نور الإيمان
فغدونا عبر الأزمان
وطن الإسلام به فتكت
…
أطماع القوم الطاغينا
قد مزقناه بأيدينا
وجبهنا الغرب مساكينا
فرقنا الأنفس، واختلفت
…
حتى في الروع أمانينا
يا رب أعدنا لكيان
أبدى في ظل (محمد). .
محمود حسن إسماعيل
دين ودولة
للأستاذ محمود تيمور بك
يخوض الناس في حديث الدين متنازعين يتساءلون: هل هو عقيدة روحانية وشريعة عمرانية معاً؟
أيضم الدين علاقة المرء بربه، وينظم كذلك علاقة الناس بعضهم ببعض فيما يضربون فيه من وسائل العيش وشون الاجتماع؟
والناس قاطبة مؤمنون بأن الدين عقيدة تسمو بالنفوس إلى الله، ولكنهم مختلفون في أنه مع ذلك قانون للمجتمع ودستور للدولة.
والهاتفون بأن الدين شريعة ودستور يلتمسون برهان ذلك فيما سن الدين من أوضاع تحكم مرافق الناس ومصالحهم جميعاً، ويرون في هذه الأوضاع قواعد جامعة صالحة لكل زمان ومكان، خليقة أن تقوم عليها سائر القوانين والأحكام.
والقائلون بقصر الدين على معاني التعبد، يريدون للناس أن يكونوا أحراراً فيما يتخذون من أنظمة للتعايش، مستهدين في ذلك حاجة العصر، وطابع الزمن؛ مسايرين موكب المجتمع البشري في تطوره الفكري.
والرأي عندي أن مثل النزاع لا يقوم فيأمةإلا إذا كانت من أمر نفسها على قلق. . . لا هي متدينة موصلة بدينها فتسكن إليه، وتهتدي في عامة شأنها به؛ ولا هي قد تخلت عن الدين جملة، فثركن إلى أن تتخذ لعلاقاتها الاجتماعية ضوابط من قانون مصنوع.
لا خلاف على أن الأمة المثالية هي التي تكون مصدر السلطات، وهي التي تحكم نفسها بقانون مستمد من خصائصها ملائم لما يشيع فيها من عادة وعرف، محقق لرغبة مجموعها فيما يعتقدون أنه خير وبر وصلاح. فإذا لم يكن قانون الأمة على هذا النحو من موافقته لنفسها، ومطابقته لمصلحتها، فهو قانون مفترى عليها، لا بقاء له فيها.
وإذن فالقانون لا منبع له إلا الأمة فيما يكون لها من مستوى فكري واقتصادي واجتماعي، وفيما يكون لها من صبغة نفسية وطابع شخصي، وفي هذا القانون الذي يحكمها تتجمع صفوة ما تتميز به من أخلاق وعادات وتقاليد، فإذا هو مرآة لها، تجلو وجهه نظرها في الحياة، ومبلغ فهمها لما هو خير وحق وعدل
ومما لا مريه فيه أن الإيمان إذا استبطن النفوس، لم يلبث أن يوطنها على هداه، ومتى رسخ الاعتقاد انقادت العقول طوعا له. وليست مظاهر الحياة في كلأمةإلا ميزانا أمينا لما يعمر جوانبها من إيمان، ومقياساً دقيقاً لما يرسخ فيها من اعتقاد.
وما دام الدين إيماناً عميقاً وعقيدة روحانية تأخذ الناس بألوان من تقاليد وأوضاع، وما دامت هذه الأوضاع والتقاليد ذات أثر بالغ في سلوك الناس أفراداً وجماعات، فلا منجاة للقانون من التأثر بالدين، والاصطباغ بصبغته؛ فإن قانونا يتشكل بروح الآمة لا بد أن يسرى إليه ما يسري في جوانب تلك الأمة من خصائص التدين، فبقدر ما يسكن في النفوس من هذه الخصائص يظهر الأثر واضحاً في روح القانون.
فإذا نقم الناقمون من قوانيننا التي يجرى بها العمل في المجتمع الحاضر أنها تجانب تعاليم الدين بقدر يسير أو بقدر جسيم، وإذا طمح الطامحون إلى تضييق دائرة الفروق بين الدولة والدين فلينظروا بادئ بدء:
أفي هذه القوانين تمثل صحيح لحاجات البيئة التي يندرج فيها مجموع الأمة؟ وهل هي تطبيق سليم للمبادئ العامة التي يزكيها أهل الرأي، وتنزل من موافقتهم منزلة الإجماع؟
فإن استبان لهم أن القوانين منقوصة الحظ من صحة التمثيل، وسلامة التطبيق، فليعمدوا إلى تعديلها وإصلاحها بالوسائل المشروعة التي يجرى بها التعديل ولإصلاح.
وأما إن وجدوها سليمة صحيحة، من حيث مسايرتها لحاجات الأمة، وطبائع المجتمع الحاضر، فليعلموا إذن أن هذه القوانين لا تجانب تعاليم الدين بغيا وعدوانا، ولكنلأنالأمة هي التي بضعف استشعارها لهذه التعاليم، فهي تجانبها على عمد أو على غير عمد.
فليقولوا في غير مواربة إننا تحن الذين أخذنا من الدين قشوراً وظواهر، وإننا نحن الذين آمنا به رسوما وأسماء، فأما أغلب مبادئ الدين وتعاليمه الوثيقة الصلة بنواميس العيش وحقائق الاجتماع، فقد ظلت بعيدة عنا، أو خافية علينا، فلم نشعر لها في مجموعنا بذلك الأثر الذي ينفض صبغته على حياتنا العملية، ولم يكن لنا إلهام منها فيما نتخذ من دستور، وما نصطنع من قانون.
ولعل السر في ذلك أن أغلب المبادئ والتعليم التي رسمها الدين، لينتظم بها المجتمع في أسواق الحياة، يستأثر بعلمها نفر من رجال الشرع، ويتخذونها موضوع درس وتلقين في
حلقات الدرس والتلقين، فهي محجوزة لهم، مخصوصة بهم، يتعلمونها فيما بينهم لأغراض دراسية محضة لا صلة بينها وبين دنيا الواقع ومشهود الناس. فكأن هذا الدين قسمة بين أهليه: فهو للجمهور عقيدة يتعبدون بها وحسب، وهو لبعض الناس شريعة دراسية يتلقاها تلميذ عن أستاذ في مقام التعليم.
فمن شاء أن يكون للدين سلطان على القانون، فليجعل للدين سلطاناً على الأمة في مجموعها، وليبث في نفسيتها العامة مبادئ الشريعة وتعاليمها، حتى يستشعر الناس أن هذا الدستور الديني أنظمة حيوية عملية يقوم على دعائمها صرح المجتمع، وحتى تطمئن العقول والقلوب إلى أن اصطناع هذه الأنظمة لا يصد عن مسايرة الحضارة في ركبها السيار. ويومئذ لا تكون القوانين إلاّ ظلاً لهذا الإيمان والاطمئنان على نحو طبيعي لا تكلف فيه ولا افتئات ولا استكراه.
والدولة في جوهرها يتمثل كيانها في قوانينها التي هي نابعة من عرف الأمة وروحها وخصائصها، والتي هي صورة صادقة لمبلغ ما تنطوي عليه نفسية الأمة من إيمان بالدين، وفهم لمبادئه، واستشعر لتعاليمه، ولكل أمة مقدار كبير أو صغير من ذلك الإيمان والفهم والاستشعار. وإذن لابد أن تتأثر الدولة بقدر ما تتأثر به تلك القوانين، فإنه لا دين بلا دولة، ولا دولة بلا دين.
محمود تيمور
-
عُمَرُ وكبرياء قريش!
للأستاذ أنور المعداوي
فيلسوف من فلاسفة الحكم. . ولا نعني أنه كان من أصحاب المذاهب والنظريات، أولئك الذين يضعون للدولة نظاماً فلسفياً تعمل به، ومنهجاً مدروساً تسير عليه، وفقاً لميولهم الفكرية الخاصة في محيط السياسة والإدارة والاقتصاد.
لم يكن عمر بن الخطاب واحداً من فلاسفة الحكم بمعنى هذه الفلسفة في العصر الحديث، حين تفهم على أنها طريقة معينة لنظم الإدارة لا تصلح بغيرها الإدارة، وخطة مفصلة لإقامة نوع من الحكومة لا تنجح بغيره الحكومة، على نحو ما يفكر الفلاسفة الإداريون من أشياع الفاشية أو الشيوعية أو الاشتراكية في هذه الأيام. . لم يكن واحداً من هؤلاء بهذا المعنى المفهوم، وإنما كان واحداً من فلاسفة الحكم حين تكون الفلسفة خبرة بدخائل النفوس، ودراية بأحوال الناس، وبصراً بما تتجه إليه منهم شتى العواطف والنزعات، وعلى هذه الأسس جميعاً قامت فلسفة عمر الإدارية حين يرجى صلاح الأمور بين الحاكم والمحكوم.
هو فيلسوف بهذا المعنى الأخير إذا كانت الفلسفة فكراً صائباً يلمس مواطن الضعف في أخلاق الرعية، ونظرا ثاقباً يلمح مواضع العلل في كيان الدولة، ورأيا نافذا يقرن الصرامة بالعدل وهو يواجه المرض وملء جمعيته فنون من العلاج
ولا نريد هنا أن نعرض لمختلف الجوانب في فلسفة عمر الحكومية فهي متعددة المعالم متنوعة الأهداف، ولكن الذي نريده من هذه الكلمة هو جانب واحد يدل به المثل الفرد على غيره من الأمثل. . هذا الجانب الواحد الذي يصور لنا الطبيعة العمرية في تصريف الأمور، بما عرف عنها من عبقرية القائد وحنكة الحاكم وكياسة المدير. هناك في موافقة الحازمة من كبرياء قريش، أو من تلك الأرستقراطية القرشية التي لم يهذب من جموحها إنسانية محمد ولا سماحة الصديق!!
لقد كان عمر يعلم من أمر قريش ما قد يعلمه غيره من الناس. وليس في هذا العلم بطبيعة الظواهر النفسية ما يبهر أو يروع حين يقف العقل بعلمه عند هذا الحد ولا يزيد، لأنه قسط مشترك من المعرفة قد يتساوى فيه كل صاحب حظ من الألمعية أو كل صاحب قدر من
الذكاء. . ولكن امتياز عمر في هذا المجال يتمثل في نخطي المنظور إلى ما وراء المنظور، وانتقال الوعي من رؤية العيش إلى رؤية الفكر، واحتشاد العقل لتفسير الظواهر النفسية في ضوء ما يصحبها من أعمال وما يعقبها من أحداث!
هنا يتركز امتياز عمر؛ فهو يعرف عن قريش أمورا لا تخفى على أمثاله البصراء: يعرف عنها تلك الكبرياء الموروثة عن مكانتها في الجاهلية، ويعرف عنها هذا الصلف المكتسب من سيادتها في الإسلام، ومن هاتين الزاويتين قدر كل ما يمكن أن تتسم به الأرستقراطية القرشية من أسباب الزهو ومظاهر الخيلاء. لقد كان هذا الحي من أحياء العرب هو صاحب الكلمة الأولى قبل أن يظهر في الأفق محمد. كان له المجد الذي يأتيه من عزة الدنيا وزعامة الدين: فهو القائم على مناسك الحج يستأثر بها من العرب جميعاً، ويتسلط بها من دون العرب جميعاً، على القبائل كافة، ويستمد من هذه السلطة الدينية كل منابع القوة والرفعة والتفوق على غيره من الأحياء. وهو صاحب التجارة الضخمة والمال الوفير، وما يتبعهما من سعة الشهرة ونفاذ الكلمة ودافع السيطرة والغلبة والاقتحام. كان له هذا كله قبل أن تسطع أضواء الرسالة المحمدية في سماء الجزيرة العربية، وحين سطعت هذه الأضواء كان لقريش حق آخر لا يزاحمها فيه مزاحم ولا يجادلها فيه إنسان، وهو شرف الانتساب إلى محمد الزعيم وشرف القرابة من محمد الرسول. .
وحسبها من هاتين الناحيتين أن تغلو، وأن تطمع وتسرف في الطمع، وأن تطمح وتغرق في الطموح؛ ولا عجب إن تمادت الأرستقراطية القرشية فيما ورثته من معاني الصلف ومعالم الكبرياء، ولا عجبأيضاًإن مضت في طريقها جامحة لا يكاد يهذب من جموحها إنسانية محمد ولا سماحة الصديق!
نعم، لم يهذب من جموحها هذا الذي قلناه. وإننا لنرمز للأرستقراطية القرشية في عهد النبي وأبي بكر بمثل واحد هو خالد بن الوليد. . لقد كان خالد مثلاً صادقاً ووجهاً سافرا لتلك الأرستقراطية المتميزة بالألوان من الغطرسة والاستعلاء، ولعل ما كان يثير من غلوائه أنه كان واحدا من قريش، يقبس من أمجادها مجده ثم يضيف إليه مجد القائد المظفر لجيوش المسلمين. وكل هذا قد دفع لبن الوليد إلى شيء من الازدراء للغير وإلى أشياء من الزهو عليه، كأن يكون هذا المزدري رجلا كعمار بن ياسر على سبيل المثال. . عمار الذي لقي
في سبيل الدعوة من صنوف الذل وضروب الهوان ما لم يلقه إنسان، عمار الذي عاش مجاهدا ومات شهيدا وعطر صفحات التاريخ بمداد التضحية وسطور الفداء؛ عمار هذا يخاصمه خالد في حياة محمد ثم ينسى جهاده في سبيل الله وفضله في نصرة الإسلام، ولا يذكر له غير شيء واحد وهي يغلظ في القول ويشتد في الخصومة، وأن أباه (ياسر) كان عتيقا من عتقاء مخزوم، وهي حي من أحياء قريش كان من فتيانه خالد بن الوليد. . ومعنى هذا كله في منطق الأرستقراطية القرشية أن العبيد لا يحق لهم أن يرفعوا الرءوس أمام السادة!!
وينطلق عمار إلى الرسول ليحتكم إليه شاكيا ابن الوليد، ويقبل خالد في موكب من كبريائه القريشية ليوجه عمارا أمامالنبي يمثل ما واجهه به، فيصمت عمار ويطرق محمد. . وحين تنهى الأرستقراطية المتعالية من تهجمها على ابن ياسر وابن سمية، يرفع رأسه الرسول الكريم وينطق الإنسان العظيم، ينطق بعبارته الخالدة خلود الحق، الباقية بقاء العدل، الراسخة رسوخ اليقين:(من عادى عمارا فقد عادني)!. . قالها محمد ولم يزد، ولكن العبارة الموجزة كان فيها من الزجر، وكان فيها من الردع، وكان فيها من التأنيب والتثريب، وكان فيها من هذا كله ما أشعر خالدا بالخجل وما جعله يطلب الصفح من الرسول ويلتمس العفو من عمار!
ولكن هل رجع خالد عن طبعه وهل عدل عن سيرته بعد وفاة الرسول؟ إن سماحة الصديق بعد إنسانيته محمد، لم تستطع أن تخفف من حدة تلك الغلواء القرشية أو توقف من اندفاعها في طريق. . وها هو التاريخ ينقل إلينا موقف خالد بن الوليد من مالك بن نويرة حين قتله بغير حق ليتزوج من امرأته الحسناء. وها هو ينقل إلينا مرة أخرى كيف ثار عمر من أعماقه على هذا العمل الذي لا يقره العدل ولا يرضاه الضمير، وكيف خذله أبو بكر حين طلب إليه أن يعزل ابن الوليد حتى لا يكون قدوة سيئة لمن هم تحت إمرته من قواد المسلمين. لقد كان أبو بكر رجلاً سمح النفس لين العريكة موطأ الأكناف يعمل بهدي محمد، وما دام محمد قد وضع خالد في رأس الجيش ثقة بقدرته واعترفا بمكانة، فلا يحق لابنأبيقحافة أن يخرج على تلك الثقة الغالية فيعزل قائداً رضى عنه الرسول. . ويسكت ابن الخطاب على مضض ويسرها في نفسه إلى حين!
كان عمر كما قلت لك يعرف من أمر قريش ما قد يعرفه غيره من الناس، ولكنه كحاكم فيلسوف خبر طبائع النفوس، كان يدرك أن قريشاً كالطفل المدلل لا تنفع معه كلمات الزجر ولا تحول دون رغباته ألفاظ التأنيب، وإنما يصلح أمره بالحكم الحازم واللقاء الصارم، و (الدرة) التي لا تفرق حين تعلو الرءوس وبين كبير وصغير. وكان يخشى الفتنة التي يخشاها هي ما يعرفه عن قريش من حب للسيطرة ورغبة في الاعتلاء، وطموح لا يقف عند حد في سبيل فرض الكلمة على غيرها من الناس. وأي فتنة أشد خطرا وأبعد أثرا من أن نلغي الأرستقراطية القرشية شعار الدعوة ودستور الإسلام: وهما لا فضل لعربي عجمي إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم؟ إن الإسلام لم يعترف بفضل غير فضل الجهاد ولا بمنزلة غير منزلة التقوى، ولا بجاه غير جاه الدين، ولا بسلطان غير سلطان العدل والمساواة. . فإذا كانت قريش لا تريد أن تعترف إلا بعزها في الجاهلية ومكانتها في الإسلام وقرابتها من الرسول، فهذه هي الفتنة التي كان يخشاها ويقدر عواقبها في تشتيت الشمل وتفريق الكلمة وتصدع البناء. ومن هنا وقف ابن الخطاب في وجهها بكل ما أوتى من حزم الحاكم وحكمة الفيلسوف: الدرة في يمينه تأديب وتهذيب، والكلمة على لسانه تشريع وقانون!!
بهذه الفلسفة الحاكمة وبعد وفاةأبيبكر، واجه عمر كبرياء السادة من قريش. . عزل خالدا من القيادة والمعركة دائرة ليضع في مكانة أبا عبيده بن الجراح، لأنه لم ينس لابن الوليد تلك الهفوة التي أقدم عليها يوما مطمئنا إلى سماحة الصديق، وحتى لا يكون كما سبق أن قلت قدوة سيئة لمن هم تحت إمرته من قواد المسلمين، ولعله قد أراد أن يكبح جماعة ليكون عبرة لأمثاله من الجامحين. ولم يكتف بهذا بل أخذ يراقبه ليقضى على البقية الباقية فيه من زهو الكبرياء القرشية، وليجعل منها آخر الأمر قوة منهوكة لا تكاد تؤمر حتى تطيع. ويقص علينا التاريخ أن عمر دخل المسجد ذات يوم فوقعت عيناه على خالد وقد رشق في قلنسوته عددا من السهام، مختالا كما يختال بريشة المنقوش كل طاووس من الطواويس. . وتمتد بين عمر بالدرة ليعلو بها رأس هذا الطائر المختال، وتمتد شماله لنزع السهام ملقية بها إلى خارج المسجد وأن يسمع كلمة اعتراض، ويهتف الجبار العادل في صرخة خالدة: إن الله لا يحب كل مختال فخور، ولن تزهي قريش وفي ابن الخطاب عرق
ينبض!!
ويقص علينا التاريخ مرة أخرى أن عمر كان قد حدد يوما ليقسم فيه الغنائم على المسلمين، وحين أقبل اليوم المرتقب تجمع الناس من حوله وازدحموا عليه، حتى لم يبق مكان لقدم. ونظر عمر إلى رجل يدفع الناس بمنكبيه ويشق طريقه في عنف حنى بلغ موضعه من الطليعة، وكان هذا الرجل هو سعد بنأبيوقاص، سعد الذي كان أول من رمى بسهم ي سبيل الله، والذي فداه النبي بأبويه يوم أحد، والذي رآه مقبلات ذات يم فأشار وقال لمن حوله: هذا خالي. سعد هذا رآه عمر يزاحم الناس يوم تقسيم الغنائم فلم يكن منه إلا أن علاه بالدرة وهو يصرخ في وجهه: لم تهب سلطان الله فيالأرضفأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك!!
ويقص علينا التاريخ مرة ثالثة وما أكثر ما يروى لنا التاريخ من أبناء عمر، يقص علينا أن عبد الرحمن بن عوف قد أقبل يوما على الجبار العادل ومعه فتى من بنية قد لبس قميصاً من حرير، فينظر إليه عمر غاضباً ويقول له: ما هذا الذي أراه يا ابن عوف؟ لباس من حرير وابن الخطاب قائم على أمر هذه الأمة؟ ثم يدخل يده في جيب القميص فيشقه إلى أسفل. . ويقول له عبد الرحمن وقد أذهلته المفاجأة: ألم تعلم أن رسول الله (ص) قد أذن لي في لبس الحرير؟ فيجيب عمر مصدقاً منكر لمن عداه: بلى! لحلكة شكوتها. . أما لبنيك فلا!!
وهكذا كان عمر حيال الأرستقراطية القرشية. يريد أن يسوى بين قريش وبين غيرها من العرب في كل شأن من شؤون الحياة، فلا فضل ولا تفوق ولا امتياز، ولا شيء يمكن أن يفرق بين الناس في مظهر من المظاهر ولا في قيمة من القيم ولا في حق من الحقوق. ولهذا أدار دفة الحكم كما سبق أن قلت، بما عرف عنه عبقرية القائد وحنكة الحاكم وكياسة المدير. . وبقيت حقيقة نقف من هذه المقدمات المادية موقف النتيجة النفسية، وهي أن تلك الكبرياء المقهورة في نفوس قريش قد تنفست الصعداء بعد موت عمر، فانطلقت في عهد عثمان كما تنطلق الأسود السجينة قد أفلتت من قبضة السجان. ووقعت الفتنة التي كان يخشاها الحاكم الفيلسوف، وهي أن يخلى بين قريش وبين ما تطمع فيه من سيطرة على العرب، وما تطمح إليه من تحكم في رقاب الناس؛ وقعت الفتنة التي أودت بعثمان فيما
أودت به من استقرار الأمور في جيل من بعه أجيال. ويالها من نتيجة طبيعة تلك التي ترتيب على انقضاء عهد كان فيه ابن الخطاب كما صورتاه: الدرة في بيمينه تأديب وتهذيب، والكلمة على لسانه تشريع وقانون.
يا درة عمر، إن لك مكانا في التاريخ. . ويا عدل عمر، إن لك مكانا عند الله!!
أنور المعداوي
دين الفطرة
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
عدت إلى الشرق الإسلامي عدوى من الغرب في أمر الدين لم تكن لتنتقل إليه لو كان يدري ما الدين الذي بيده، أو كان يدري فرق ما بين الدين في الغرب وبين الإسلام
لقد حاول الغرب كثيراً يوفق بين دينه وبين العلم فلم يستطع، لا لجمود رجال الدين فيه هذه المرة، ولكن لنصوص في كتابه ناقضت ما أثبته العلم واستعصت على التأويل، كالنص على عمر للدنيا محدود لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين في حين أن العلم اليقيني يقدر عمرها بالملايين. وكان من شأن ذلك أن حمل بعض كتابه مثل أرنولد وبعض قسيسيه على أن ظنوا أن الدين قد خذله الواقع فلم يبق ما يستند إليه إلا الشعر، أي إلا ما يتمثل في ذلك الدين من معان شعرية وقيم أخلاقية لا غنى للإنسانية عنها بحال. وقرأ ذلك وشبه بعض مقلدة الغرب من المسلمين الذين يحتبطون في حبل الغرب كيفما احتطب، فظنوا أن ما ينطبق على الدين هناك ينطبق على الدين هنا من غير أن يكلفوا أنفسهم مؤونة البحث عن الدينين هل هما مشتركان في مخالفة اليقيني من العلم حنى يشتركاأيضاًفيما يترتب على تلك المخالفة من حكم. ومن هنا نجمت هذه الناجمة التي تحاول أن تطفئ نور الله بأفواهها حين تدعو من ناحية إلى اعتبار القصص القرآن فنا يرمز إلى قيم أخلاقية من غير أن يقوم على حقيقة تاريخية، ومن ناحية أخرى إلى تأويل نصوص الدين وأحكامه وتقييدها بما لم يقيدها أو يخصصها به الله ولا رسوله ولا جماعة المسلمين من لدن أن نزل القرآن إلى هذا العصر الذي فقد الشرق فيه اتزانه، وكاد أن يبيع بأبخس الثمن إيمانه.
ومن العجيب أن الإسلام الذي يرمونه بداء غيره فينسبون إليه معادة العلم أحياناً ومنافاة العقل أحياناً ومجافاة الفطر أحياناً، هو وحده من بين الأديان السماوية الذي احتضن العلم وتحاكم إلى العقل وميز الحق بخصائصه. وما عليك إلا أن تردد النظر في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة لترى الدليل تلو الدليل على أن الإسلام هو الدين العلم والعقل والحق. وهو وحده بين الأديان السماوية الذي عرف الفطرة وسماها باسمها ووصفها بأوصافها وشهد لنفسه أنه دين الفطرة، بل أنه نفس الفطرة التي فطر الله عليها الناس. وآية ذلك قوله تعالى من سورة الروم
(فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
وقد غفل المسلمون عن هذه الآية بأقطارها غفلة يعجب منها كل ذي لب حتى يضرب كفا بكف! فلا هم أطاعوا أولها، ولا هم استمدوا التثبيت من آخرها، ولا هم فقهوا ما بين ذلك منها ليتخذوا منه هادياً ودليلاً وحجة تقوم وتدحض كل ما افترى أو يفتري الخصوم:
(فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله): كلمات كل منها حجة قائمة وقوة قاصمة تصدع وتدفع كل من يرمى الإسلام بما لا يليق بدين الله.
إن فكرة الفطرة وحدها لا يمكن أن تخطو ببال بشر من عند نفسه الذي نزلت فيه الآية الكريمة ولا في القرون الكثيرة بعده، لأنها لم تنشأ بعد الإسلام إلا بنشوء العلم الحديث في الغرب. ومن يدري! لعل الغرب استوحاها مما نقل إليه في القرون الوسطى من كتب الإسلام.
ونسبة الفطرة إلى الله الحق جل جلالة تشريف أي تشريف وإكبار أي إكبار للفطرة كلها ولفطرة الإنسان على الأخص عليها المقصودة هنا بالذات. وهي كفكرة الفطرة لا يمكن أن تخطو ببال بشر من عند نفسه، لا في عصر نزول الآية الكريمة ولا فيما بعدها من العصور؛ فإن الإنسانية حتى في عصر العلم الحديث هذا لم تهتد بعد إلى الفطرة عامة لها حكمها وإحكامها. فكما أن الكون قد فطره فاطره على سنن وقوانين لا تتخالف ولا تتخلف كشف عن بعضها العلم الطبيعي الحديث، كذلك الإنسان فطرة فاطر الكون على سنن وقوانين لا تتخلف ولا تتخالف لا مع نفسها ولا مع غيرها من سنن الله في الخلق. وفي نسبة فطرة الإنسان إلى فاطرها سبحانه يتمثل الفرق بين الإنسان وبين دين الغرب الذي يقول بأن الإنسان مفطور على الإثم. فالإسلام بتلك النسبة الكريمة يرفع الإنسانية وفطرتها إلى الأوج، ويفتح أمامها الباب واسعاً إلى السعادة والترقي الذاتي، في حين أن نسبة الفطرة الإنسانية وتنزل بفطرته إلى الحضيض.
ومن عجائب تلك الآية الكريمة ودلائلها الباهرة وصفها الفطرة بأخص أوصافها وهي الاطراد والثبوت وعدم التخلف: (لا تبديل لخلق الله) ووصف فطرة الإنسان خاصة بأخص خصائص فطرة الكون عامة من الاتساق والاطراد والثبوت، هو برهان أن القرآن من عند
فاطر الفطرة سبحانه؛ فإن الإنسانية بعلومها الطبيعية الحديثة إذا كانت قد اهتدت إلى اطراد الفطرة في المادة والطاقة، فإنها لما تهتد إلى الفطرة ولا إلى اطرادها في الاجتماعيات. فهي في فلسفاتها ومذاهبها الاجتماعية في البلبلة والاضطراب الذي ترى، والذي لا ترى له مثيلا في الطبيعي من العلوم.
وقاله تعالى (لا تبديل لخلق الله) في موضعها من الآية ليس فقط وصفا للفطرة التي فطر الحق سبحانه عليها الإنسان وغير الإنسان من حيث اطراد السنن وثبوتها، ولكنهأيضاًأمر وتشريع ألا يبدل الإنسان دين الله بتشريع من عنده كما فعل المسلمون ويفعلون منذ اتصالهم بأوروبا في القرن التاسع عشر حين اتخذوا ويتخذون منها إماما، ومن قوانينها ونظمها الاجتماعية بديلا من أحكام الله. ثم هوأيضاًتوكيد، أي توكيد لما أمر الله به في صدر الآية الكريمة من إقامة الوجه للدين في تصميم وعزم، وانصراف كلي إليه، وميل عن كل ما سواه، وإلا تعرض في روحه واجتماعياته لكل ما يتعرض له ممن يخالف قوانين الفطرة وسننها في المادة وما إليها. ومن العجيب أن الإنسان مقبل كل الإقبال على الانصياع لما يعلم من قوانين الفطرة في المادة والطاقة لا يجترئ على مخالفها في معامله ولا في مصانعه، فنال بذلك ما نال من القوة المادية الهائلة التي حملته وتحمله على الغرور والاعتزاز، ثم هو منصرف انصرافاً كبيراً عن الانصياع لقوانين الفطرة في الروح والاجتماع بانصرافه عن الإسلام دين الفطرة: دين الله، واجترائه عليه بالشك ولتشكيك، والإهمال والتجريح، أو بالتأويل والتبديل، والتحريف والتعديل، كيفما شاء هواه فكان عاقبته أن صار قزمًا في الروح عملاقاً في المادة، أو قزماً الناحيتين الروحية والمادة كلتيهما وكان عاقبة المسلمين بتركهم الدين وانخداعهم عنه ما نرى من الضعف والمهانة حتى اجترأ عليهم من لم يكن يدفع عن نفسه، وكان عاقبة الغرب حين لم تجد قوته المادية قوة روحية تكبح جماحها أن تعاورته الخطوب ودمرته الحروب وفرقته المذاهب والأهواء شيعاً لا اتفاق لها ولا أمل في اتفاق.
ومن أعجب عجائب تلك الآية الكريمة وأكبرها وأبهرها وصفها الإسلام بأنه نفس الفطرة التي فطر الله عليها الناس وهذا شيء فوق العق البشري أن يتصوره، فضلاً عن أن يسبق إليه في القديم وفي الحديث. والإنسانية إلىالآنلا تعقل إمكان تحقيقه؛ فلا فلاسفتها ولا
مشرعوها يحدثون أنفسهم بالوصول يوما إلى نظام ينطبق على الفطرة من جميع الوجوه. والمسلمون في شغل بما ينبذ إليهم الغرب من الآراء والمذاهب، غافلين عن الكنز الذي في أيديهم والنور لذي فوق أبصارهم، وعن النعمة الكبرى التي من الله عليهم بها في الإسلام.
وليس وصف الإسلام بأنه نفس الفطرة التي فطر الله عليها الناس من باب المبالغة كما قد يظن بعض الناس، فليس في الآية الكريمة من أدوات المبالغة ولا من قرأتها شيء. بل هو وصف دقيق للدين الذي أنزله وكمله وأمر الناس بإقامة الوجه له مائلين عما سواه فهو وصف محيط شامل لتمام انطباق دين الله على الفطرة التي فطر عليها الناس حتى كأنما هو هي، لا تخالفه في شيء ولا يند عنه منها شيء وفرق بين المبالغة وبين هذا التعبير الدقيق عن تمام تطابق الإسلام والفطرة. إن المبالغة فيها دائماً تزيد عن الواقع ولو قليلا، لكن الوصف هنا طبق الواقع من غير زيادة ولا نقصان مادام الواصف هو الله الحق سبحانه الذي فطر الفطرة وأنزل الإسلام لا سعاد الناس.
ويمنع أيضاً من احتمال المبالغة في ذلك الوصف الإلهي المعجز أن مجرد القول بها يجعل الدين مقصراً تقصيرا ما عن حاجة الإنسان بفطرته، وعندئذ ينفتح باب من جواز تطلب سد تلك الحاجة في غير ما شرع الله للإنسان من دين. وهو باب إن انفتح أوشك لما يحيط به من إبهام أن يؤدي إلى التحلل حتى من أساسيات الدين وأصوله كما يحاول بعض الأفاكين أن يلقي قي روع المسلمين اليوم. لكن الله برحمته وحكمته، وهو أعلم بما خلق وأعلم بما نزل وشرع، قد سد هذا الباب من الاحتمال إلى الأبد حين وصف الإسلام لتمام التطابق بينه وبين فطرة الإنسان بأنه هو نفس الفطرة. وأرقى ما يمكن أن يطمح إليه الإنسان من الرقي الروحي أن يحقق لنفسه فطرتها، وأن يبلغ في الترقي أقصى ما تسمح به فطرته. وليس إلى هذا سبيل إتمام الاستمساك بين الفطرة الذي وصفه منزلة بأنه هو نفس الفطرة: الإسلام.
محمد أحمد الغمراوي
نجوى الرسول الأعظم
للأستاذ جورج سلستي
أقبلت كالفجر وضاح الأسارير
…
يفيض وجهك بالنعماء والنور!
على جبينك فجر الحق منبلج
…
وفي يديك مقاليد المقادير!
فرحت، والليل الكفر معتكر
…
تفرى بهديك أصداف الدياجير!
وتمطر البيد آلاء، وتمرعها
…
يمنا يدوم إلى دهر الدهارير!
ما أنت بالمصطفى يا بيد مجدية
…
كلا! ولا أنت يا صحراء بالبور!
أبيت إلا سمو الحق حين أبي
…
سواك إلا سمو البطل والزور!
أطلعت من تاهت الدنيا بطلعته
…
ونافست فيه حتى موئل الحور!
أطلعت أكرم خلق الله كلهم
…
وخاتم الرسل الصيد المغاوير!
بوركت أرضاً تبث الطهر تربتها
…
كالطيب بثته أفواه القوارير،
الدين ما زال يزكو في مرابعها
…
والنبل ما انفك فيها جد موفور،
والفضل والحلم والأخلاق ما فتئت
…
تخطى لديها بإجلال وتوقير!
قدك افتخاراً على الأكوان قاطبة
…
بما حبوت الورى يا بيد نور!
فليس كالدين نور يستضاء به
…
في عالم بظلام الجهل مغمور،
ينزو بنوه هوى، إلا أقلهمو،
…
نزو البغايا بأكناف المواخير،
ضلوا، فما إن أرى فيهم أخا بصر
…
إلا نكبت بآلاف من العور!
يا سيدي، يا رسول الله، معذرة
…
إذا كبا فيك تبياني وتعبيري
ماذا أوفيك من حق وتكرمة
…
وأنت تعلو مدى ظني وتقديري؟!
وأنت رب لأداء الفذ في لغة
…
تشأوا اللغى حسن تنميق وتصوير
على لسانك، ما جن البيان به،
…
وأقصد الشعر يرنو شبه مسحور!
آي من الله، ما ينفك معجزها
…
يعيى على الدهر أعلام التحارير!
تلونها فسرت كالنور مؤتلقا
…
يطوي الدنى بين مأهول ومهجور!
ولفت الناس من بدو ومن حضر
…
كما تلف الثرى هوج الأعاصير
فلان من كان فظا، واستكان لها
…
مستكبر، وعنا طاغوت شرير!
وكنت عفا رقيق القلب متسماً
…
بكل زاه من الأخلاق منظور
تستل بالحلم حقد الحاقدين وتحتل القلوب بلطف عنك مأثور،
الله أكبر! كم في اللين من عظة
…
لعلق شر غليظ القلب مغرور
فاللين مقدرة، والحلم مأثرة،
…
والعطف مكرمة تنبيك عن خير
وأنت من أنت في دنيا الخصال ألا
…
بوركت من مرسل بالطهر مفطور
تنهى وتأمر بالحسنى، ورائدك الدين
…
الحنيف بما ألهمت من سور!
يا ممرع البيد بالإيمان، مرحمة
…
فقد تناءى الهدى من صفوة الدور
وجامع الشمل بالتقوى لقد صفرت
…
منها النفوس فتاهت كاليحامير
أشكو إليك دياراً كنت مرشدها،
…
ومرشدوها استكانوا اليوم للنير!
وأصبحوا تبعاً للأجنبي، فما
…
زادوا وحقك إلا سوء تدبير!
وكان بالأمس حب الله يجمعهم،
…
فبات يجمعهم حب الدنانير!
وذي فلسطين أولى القبلتين، لقد
…
بيعت على يدهم بيع الجآذير!
والشعب - وا حربا للشعب سائمة
…
تقودها في الفيافي كف مأجور
قد باع تقواه بالدنيا، وقال لها:
…
سيري كما شئت عمياء الهوى سيري
يا سيدي، يا نجى الله، روعنا
…
صرف الزمان بشر منه مسعور
وامتد بالعرب ليل النائبات، أما
…
للفجر بعد الدياجي من تباشير؟!
وطال منا السري في مهمة درست
…
فيه الصوى قاتم الأرجاء مسجور
فاشفع فإنك أدنى المرسلين إلى
…
البارئ، فنسلم من ذل وتعيير
ويرجع العز معقود اللواء لنا
…
وحقنا مستحير غير منزور
وأكلا عليك صلاة الله، أمتنا
…
حيال ربك حتى نفخة الصور
بيروت
جورج سلستي
الإسلام نظام عالمي
للأستاذ عباس خضر
شاع بيننا - منذ غزتنا أوربا بجيوشها وحضارتها - أن الحياة الدينية شيء آخر غير الحياة العلمية، وحرص الغزاة على أن يقروا هذا الوهم في نفوسنا، وأردنا نحن ذلك وسعينا إليه وعملنا له، عند ما رأينا الحياة الأوربية نفسها قائمة على ذلك الوضع، إذا بدا لنا أن ننهض كما نهضت أوربا، وقد قامت النهضة الأوربية بمعزل عن الحياة الدينية بعد أن اجتازت دور الصراع بينها وبين الكنيسة، ذلك الصراع الذي انتهى إلى جعل الدين في وضع صلاحي يتفق مع مبادئ المسيحية التي تنحصر في شعائر العبادة والتهذيب الروحي وتدع ما ليقصر لقيصر وما لله لله، ولم تهتم بأن نلائم بين نهضتنا الحديثة وبين شريعتنا الإسلامية، وساعد على ذلك جمود علما الإسلام ونفورهم أو توجسهم الشر من دخول الحضارة الأوربية إلى حياتنا، وكان التيار - ولا يزال - جارفا، ولم تكن مقاومته مستطاعة ولم تكن من الخير لتقدمنا، وكان الخير كله، أن نتقبله ونحيله إلى ما يوافقنا، وكان هذا يقتضي نشاطاً عقلياً متجدداً، وكان أيضاً يقتضي جواً من الحرية خالصاً من أعراض الاستعمار.
ولندع ما كان وما كان أن يكون، لنعود إلى ما جرنا إليه، وهو تقليد الأوربيين في التفرقة بين الدين والمجتمع. الحقيقة التي يعرفها كل متبصر في الإسلام أن هذا الدين نظام كامل للحياة من نواحيها المختلفة، وهو ينظر إليها على أنها (مركب) - كما يعبر الكيمائيون - فليس هناك ناحية روحية منفصلة عن سبيل التبرك به، وليس الدين رجال معنيون دون سائر المسلمين، فكل مسلم رجل دين، وقد جرى المجتمع الإسلامي - قبل تقليد الأوربيين - على تسمية الدارسين للشريعة الإسلامية بأسماء مختلفة ليس من بينها (رجال الدين) كانوا: أئمة، علماء، فقهاء، الخ وكان لفظ (الإسلام) لا (الدين) هو الذي يطلق غالباً على هذه الشريعة الكاملة التي تشمل نواحي الحياة جميعاً، كما تطلقالآنكلمة (الديمقراطية) أو (الاشتراكية) أو (الشيوعية) لتدل على مبادئها ووسائلها في تنظيم الحياة.
كنا إذن (إسلاميين) ثم تحولنا عن (إسلامية) في أكثر نظمنا السياسة والاجتماعية والاقتصادية، وأرضينا ضميرنا الديني أو خدعناه بأنه يكفي لإسلامنا أن نؤدي بعض
الشعائر ونخضع للكثير من الأباطيل والخرافات التي تلتبس بشعائر الدين، وضربنا سوراً حول المشتغلين بالدراسات الإسلامية وعرفناهم بزي خاص وسيماء معينة وسميناهم روحانيين. ثم سمينا أنفسنا (ديمقراطيين) وأخيراً حلا لنا لفظ (الاشتراكية) فاتخذناه أو ادعيناه كما ادعينا الديمقراطية من قبل.
ولنفرض أننا الآن أردنا أن نعود إلى الإسلام بمعناه الحقيقي الكامل، مع استمرار سيرنا في ركب الحضارة العالمي، فهل يمكن ذلك؟ وماذا ينبغي أن نفعل؟
اعتقد أولا أنه لا يقف في سبيل ذلك إلا فهمنا المخطئ لحقيقة الإسلام، وأول شئ أن نصلح هذا الخطأ في عقولنا، ثم نعمل بمقتضى هذا الإصلاح.
والعجيب أن كثيراً منا يدافعون عن الإسلام بما لا يجعله صالحاً لمسايرة التقدم الإنساني، فيثلبون النظم الغربية لأنها مادية وأما نحن فقد صفت قلوبنا من المادية لأننا روحانيون. .! فهل نحن كذلك، أو هل ينبغي لما أن نكون كذلك؟ لقد أشرت قيما تقدم إلى أن لإسلام ينظر إلى الحياة كوحدة كاملة، حياة تسودها الضرورات المادية ويحكمها الضمير أو الوازع الذي ينظم التكامل الاجتماعي ويربطه برباط مكين.
إن الإسلام لم يهمل الجانب العملي في الحياة، بل حث عليه ودعا إليه، قال الله تعالى:(يا أيُها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسمعوا إلى ذكر الله وذروا البيع. ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده).
بل أن الإسلام قدم الجانب العملي في الحياة على الجانب التعبدي، ورفع الأول على الثاني في بعض المواطن. روى أنس: كنا مع النبي في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلا في يوم حار، أكثرنا ظلا صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال الرسول صلوات الله عليه وسلامه: ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله.
وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجل كثير العبادة فقال: من يقوم به؟ قالوا: أخوه. قال: أخوه أعبد منه.
وشهد شاهد عند عمر ين الخطاب، فقال: اثنتي بمن يعرفك، فاتاه برجل، فإنني عليه خيراً، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، كنت رفيقه في السفر الذي يستدل به مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: أظنك رأيته قائماً في المسجد يهمهم بالقرآن، يخفض رأسه تارة ويرفعه أخرى؟ قال: نعم. فقال: اذهب فلست تعرفه. وقال للرجل: اذهب فائتني بمن يعرفك.
هذا هو الإسلام في حقيقته، يحض على العمل، ويقدر القيم بالنتائج العملية، ويعرف أقدار الناس بأعمالهم وسلوكهم في المجتمع لا بمظاهر النسك والعبادة. وهو يقيس هذه الأقدار أيضاً بكفايات أصحابها وما يحسنون من أعمال. كتب أبو بكر إلى أبي عبيدة ما يلي:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بنأبيقحافة إلىأبيعبيده بن الجراح. سلام الله عليك، أما بعد فقد وليت خالاً قتال العدو في الشام، فلا تخالفه وأسمع له وأطع، فإني فقد وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه وأفضل دينا، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست ذلك، أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد).
وهكذا فرق أبو بكر بين الورع والتقوى وبين الكفاية الحربية، وهو في ذلك بصدر عن روح الإسلام العلمية، فهو مع إكباره لأبي عبيده وتقديره لديانته وتقواه، يسند العمل لمن يراه أهلاً له وأقدر على القيام به، وهذا يدل على أن رجال الحكومة في الإسلام لا يصطبغون بالصبغة الدينية المقدسة، فإن الإسلام يقضي بأن يتولى الأمر من يحسنه لا من هو أعلم وأتقى، ومن هنا تبطل دعوى من يصف الحكومات الإسلامية بأنها دينية لا تصلح للقيام بالأمور، لأنها تتسلح بالقداسة الدينية وتمتنع بها على النقد.
وذلك لأن الحكومة التي تسير على نهج الإسلام لا تتصف بالصفة الدينية على النحو الذي يصفونه، وإنما هي حكومة تستمد سلطتها من الأمة لا من حق إلهي، وتعمل بمرقبة من الأمة، وكلنا يعلم ما قاله عمر بن الخطاب، وهو واقف على المنبر: من رأي في اعوجاجاً فليقومه، ورد أحد المسلمين عليه بقوله، والله يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا.
أما التكافل الاجتماعي بين الناس فقد بلغ فيه الإسلام الغاية حتى أنه جعل الأمة الإسلامية كلها جسماً واحداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس
من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس) والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة مستفيضة. وقد محت الرابطة الإسلامية الفوارق بين الناس، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى فلا جنسية ولا لون ولا إقليمية ولا شيء مما إلى ذلك يفرق بين الناس، وقف سلمان الفارسي يقسم الغنائم بين المسلمين في إحدى الوقائع بين المسلمين والفرس، وفي الغنائم جواهر فارس وتيجان كسرى، فنظر إليه أحد زعماء الفرس مغيظاً وقال: يا سلمان إنها أمجاد قومك تسلمها لهؤلاء العرب! فقال سلمان: لست من أبناء الفرس، وإنما أنا ابن الإسلام.
وقد كفلت المبادئ الإسلامية السعادة لجميع أفراد المجتمع، وإن كانت هذه المبادئ تحتاج في هذا العصر إلى اجتهاد وتنظيم لتوافق روح العصر وتساير الركب؛ وهي حافلة بالذخائر التي يجب أن نكد في استخراجها ونحسن تطبيقها. هذا هو الضمان الاجتماعي التي تقوم بهالآن وزارة الشؤون الاجتماعية، ليس جديداً على الإسلام، فقد كان يعمل به العصور الإسلامية المتقدمة. ومما يتصل بذلك ما حكى عن عمر أنه يشيخ كبير يسأل الناس فسأله حاله، فلما عرف ضعفه وحاجته، قال له: لقد ظلمناك، أخذنا منك الجزية في شبابك ولم ننصفك في كهولتك وأمر له بدينارين كل شهر من بيت المال.
وأحب أن أنبه إلى نقطة مهمة في هذا الموضوع، وهي أن الإسلام لا يقصد بتشريعه المسلمين وحدهم، وإنما هو يعتبر المواطنين من أهل الأديان الكتابية الأخرى كالمسلمين، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم فهم أفراد من الأمة يظلمهم النظام الإسلامي كما يظل المسلمين، وهم أحرار في عباداتهم، ولكنهم يشاركون المسلمين في الحقوق والواجبات، فكل نظام إسلامي يشمل من يعايش المسلمين في بلادهم من أهل الكتاب، فهو يعتبرهم (إسلاميين) فالإسلام يجمعهم والمسلمين، وإن كان لكل عبادته، وهذه نقطة أخرى تدحض من يصف الدولة الإسلامية بأنها دينية على معنى أنها تقوم على صالح من ينتمي إلى الدين الإسلامي فقط.
الإسلام ذخيرتنا وفيه كل ما نحتاج إليه، وهو نظام عالمي يكفل للناس الحرية والإخاء والمساواة ويجب أن نحرص عليه وندعو إليه لا أن نتركه ونستجيب لدعوات النظم الأخرى.
عباس خضر
غزوة بدر بين القرآن والشعر
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
بين القرآن
لغزوة بدر أثر كبير في حياة الدولة الإسلامية الناشئة ففيها جمع المكيون أمرهم، وحشدوا قوتهم، وأقبلوا بجموعهم، يريدون القضاء على هذه الجماعة التي عابت دينهم، وسفهت أحلامهم، ووجدوا أن الفرصة التي طالما تمنوها في هذه واتتهم بمهاجمة محمد وصحبه، فيمضي دينه معه، ويعودون إلى ما كانوا عليه من قبل، لا ينغص عليهم حياتهم دعوة إلى نبذ ما ألفوه، وطرح ما ورثوه عن آبائهم من عقائد وعادات.
ولكن الدائرة دارت عليهم، على غير ما كانوا يؤملون، وانتصر المسلمون انتصاراً مؤزراً، قتلوا فيه جمعاً من رجالات قريش، وأسروا طائفة أخرى، وعاد الرسول وصحبه فرحين بانتصارهم، مبتهجين بما أفاء الله عليهم، ورجع المكيون يحرقون الأرم على ما نزل من القرآن الكريم في هذه الغزوة المباركة سورة كاملة، هي سورة الأنفال، تنوع فيها القول بين حديث عن المؤمنين، وحديث عن المشركين، وسن أحكام جديدة يقتضيها هذا العهد الجديد من عهود الجهاد.
تحدثت السورة عن هذه الغزوة، فتغلغلت إلى أعماق نفسية المؤمنين، فحدثتنا عن كراهة بعضهم للخروج إلى القتال كراهة مليئة بالخوف والجزع، وقد دفعهم ذلك إلى جدال الرسول جدالاً عنيفاً، برغم ما يسوقه الرسول من حجج، يؤيد بها ما يريده من الخروج إلى حرب القرشيين، ويصور القرآن في صراحة جزع هؤلاء إذ يقول:(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ولعل قلة المسلمين يومئذ هي التي دفعت هذا الفريق إلى الجدال، وإلى الرغبة في أن يستولوا على أموال المكيين، ويعودوا المدينة بلا قتال. وهنا يذكر القرآن أن الله لم يخرجهم من ديارهم رغبة في مغنم يحصلون عليه، ولكن يريد أن يثبت بهم دعائم هذا الدين الجديد، وينصر الحق (ويقطع دابر الكافرين).
وتصور السورة المؤمنين، وقد وصلوا إلى ميدان المعركة، شاعرين بضعفهم، لاجئين إلى الله أن يمدهم بقوة من عنده، فيمضي الرسول مقوياً من روحهم المعنوية، ويعدهم بأن الله سيمدهم بالملائكة ينصرونهم، حتى تطمئن قلوبهم، ويملأ التفاؤل أنفسهم، وكان لذلك أثره، فثبتوا في المعركة ثابتاً أذهل أعداءهم، وملأ قلبهم بالوهن والرعب، حتى تمكن المسلمون من ضرب أعناقهم وبتر أعضائهم، (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أتى معكم، فثبتوا الذين آمنوا، سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان).
ويرسم القتال ميدان القتال، وقد اتخذ فيه المسلمون أماكنهم بالعدوة الدنيا من وادي بدر، واتخذ الأعداء أماكنهم بالعدوة القصوى منه، وكأنما يريد القرآن ألا ينسوا هذا الموقف، وأن يذكروا ما كان يخالطهم فيه من مشاعر واحساسات، ويسجل شعور الطائفتين عندما تراءى الجمعان، فقد خيل للمسلمين أن أعداءهم قلة فأقبلوا مستميتين في القتال حتى هزموهم، وخيل للمشركين أن أصحاب محمد قلة، فخاضوا غمار المعركة مستهينين، وقد ألقى في نفس الطائفتين هذا الشعور، ليتم ما أراده الله من انتهاء المعركة بما انتهت به، انتهاء أوحى إلى نفوس المسلمين الشعور بقوتهم ما داموا ينصرون الحق، ويذودون عن الدين الصحيح، حتى لكأن الله يدافع عنهم، ويذود دونهم، (إذ أنتم بالعدوة الدنيا، وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لا اختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، إذ يريكم الله في منامك قليلاً، ولو أراكهم كثيراً فشلتم، ولتنازعتم في الأمر، ولكن الله سلم، أنه عليم بذات الصدور، وإذ يريكم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، ويقلكم في أعينهم، ليقضي الله أمراً كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور). وهو عندما يذكرهم بالله وقوته، حين يقول:(فلم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى) - يملأ قلوبهم ثقة بالله، واطمئناناً إلى نصره لهم، فتقوى روحهم المعنوية، ويقدمون على القتال بلا خوف ولا رهبة.
وتحدثت السورة عن المؤمنين، وأخذت تحثهم على طاعة الرسول، بعد أن تبينوا يمن رأيه، والنجاح فيما دعاهم إليه، وهنا ينفر من العصيان، مخرجا العاصين من عداد بني
الإنسان، مذكراً إياهم بهذه النعمة الشاملة التي أسبغها عليهم، وهي نعمة أمنهم بعد الخوف، ونصرهم بعد الضعف، فجدير بهم أن استجيبوا لله وللرسول وألا يخونوهما، وألا يدعوا أموالهم وأولادهم تحول بينهم وبين هذه الطاعة، (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم،. . . واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض، تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم، وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات، لعلكم تشكرون، يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول، وتخونوا أماناتكم، وأنتم تعلمون واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم). وإذا كانت السورة قد عنيت بصفة الطاعة هنا، فحثت المؤمنين عليها، فلأن صفة الطاعة أهم صفات الجندي، وأول خلة تطلب فيه، وبدونها لا يمكن كسب معركة، ولا الانتصار في قتال، والسورة تعدهم للجندية، فلا غزو أن دعتهم إلى الاستمساك بأهم صفاتها.
كما تحدثت حديثاً طويلاً عن المشركين، وصفت فيه موقفهم من الرسول، وموقفهم من القرآن، وموقفهم من الدين الجديد وتعاليمه:
أما موقفهم من رسول الله، فقد دبروا له المكايد، يريدون أن يحبسوه، أو يقتلوه أو يخرجوه، وكان موقفهم من هذا الدين الجديد موقف السفهاء الذين يدفعهم سوء تفكيرهم إلى أن يطلبوا آية تؤذيهم. وكان موقفهم من الصلاة سخرية واستهزاء، ويصف القرآن بذلهم الأموال لهدم هذا الدين الجديد، ويسخر من ضياعها سدى، قال سبحانه. (وإذ يمكر بك الذين كفروا، ليثبتوك، أو يقتلوك، أو يخرجوك، ويمكرون، ويمكر الله والله خير الماكرين، وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا، لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم،. . . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصديه، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، إن الذين كفروا ينفقون أموالهم، ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون).
والقرآن في هذه السورة بصور نفسيتهم عندما جاءوا إلى المعركة، فقد كان يملأ أفئدتهم، وكانوا يرغبون رغبة ملحة في أن يطير ذكر خروجهم في العرب، وأن يخنقوا هذا الدين الجديد، وقد أصغوا إلى ما غرهم به الشيطان وعدهم من النصر ولكنه لم يلبث أن تركهم
وحدهم في ميدان المعركة لمصيرهم المشئوم. لقد طار غرورهم تحت شدة وطأة الضربات القوية التي كآلها المسلمون لهم، والقرآن يصور ذلك في أسلوب أخاذ، فيقول (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط، وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإنيجار لكم، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه، وقال إني برئ منكم، إني أرى مالا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب)
ومع تهديد القران للمشركين، وتوعده لهم قائلا:(إن تستفحوا فقد جاءكم الفتح، وإن تنتهوا فهو خير لكم، وإن تعودوا، نعد، ولن تغنى عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت، وأن الله مع المؤمنين) - يفتح أمامهم باب الأمل، ويمهد أمامهم السبيل للعودة إلى الحق وتركوا اللجاج في الطغيان، (قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) وذكرهم القرآن بآل فرعون ومصيرهم عندما (كفروا بآيات الله، فأخذهم الله بذنوبهم، إن الله قوى شديد العقاب)؛ وصور لهم المصير المؤلم الذي ينتظرهم، إذا هم أصروا على عنادهم، وتمادوا في كفرهم، فإن الملائكة يستقبلونهم شر استقبال، ويدفعونهم إلى عذاب أليم، (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديهم، وأن الله ليس بظلام للعبيد)؛ وكل ذلك يدفعهم إلى التفكير العميق، ويثير فيهم غريزة المحافظة على الذات كي لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، وكي يعدوا منذ اليوم عدتهم للنجاة من هذا المصير.
ولما كانت معركة بدر أولى المعارك الكبرى، فقد ضمت سورتها تعاليم عليها في حروبهم المقبلة.
وأول هذه التعاليم الثبات المستميت في الجهاد، وهو يتوعد شديد الإبعاد من يفر من المعركة، لما للفرار من الأثر في تحطيم وحدة الجيش والذهاب بماله من قوة معنوية، فقال سبحانه:(يا أيها الذين آمنوا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم، وبئس المصير)
ومن تلك التعاليم ألا يسمحوا للنزاع بأن يدب بينهم، وأن تكون الطاعة لله وللرسول
شعارهم، (يا أيها الذين آمنوا، إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا والله كثيرا لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا، إن الله مع الصابرين)
ومنها أن تكون العقيدة هي التي تدفعهم إلى الجهاد، لا محبة الاعتداء، ولا الغرور والرياء، وقد سبق أن بيتنا كيف نعى على المشركين غرورهم وبطرهم. وللعقيدة أثرها في الروح المعنوية، حتى لقد جعل القرآن الرجل المؤمن ذا العقيدة يساوي عشرة من المسلمين في الميدان القتال، ثم خفف الله عنهم وجعله يضارب رجلين.
ومنها الحزم في معاملة العدو، وعدم الظهور بمظهر الضعف، لئلا يظن العدو فيهم وهنا، فهؤلاء الذين لا يحترمون عهودهم إذا عقدوا عهدا - جدير، أن يكونوا عظة لغيرهم، وأولئك الذين يضمرون الخيانة حريون بأن ينبذ إليهم عهدهم؛ ويوصي القرآن بإعداد القوة والعناية بأمرها، لما طبعت عليه النفوس البشرية من خوف القوة والجدير منها، فقال:(واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرون من دونهم، لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم، وأنتم لا تظلمون)
وتحدثت السورة كذلك عن تقسيم الغنائم ومعاملة الأسرى، وختمت بالثناء على هؤلاء الذين جاهدوا في تلك الغزوة، وأبلوا فيها أحسن البلاء من المهاجرين والأنصار، ووعدهم بأكرم الوعود، قال سبحانه:(والذين آمنوا، وهاجروا، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا، أولئك هم المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم)
أرأيت كيف تنوعت أغراض السورة، بين وصف لنفسه الفريقين المتقاتلين، وعمل على تقوية الروح المعنوية في نفوس المؤمنين، وتحطيم هذه القوة عند المشركين، وكيف يقف الدين الجديد إزراء هؤلاء المشركين موقف الحزم المشوب بالرحمة وفتح باب الأمل، وكيف كانت الغزاة سببا في سن تعاليم جديدة توطد للدين الناشئ أقدامه، وتهدم ما بناه المشركون من أوهام وخرافات المهاجرين والأنصار، ويؤلف بين قلوبهم
أحمد أحمد بدوي
من شئون المساكين وتخطيط البلدان
في النظم الإسلامية
للأستاذ لبيب السعيد
لما انعقدت بالقاهرة أخيراً الدراسات الاجتماعية للدول العربية ناقشت المساكن وتخطيط القرى في الريف، وفي رأينا أنه كان يجمل بالمؤتمرين - وهم مندوبو دول عربية إسلامية - يلتفتوا إلى آراء النظم الإسلامية في هذا الشأن، ولكنهم لم يفعلوا، والظن أنهم في غمرة التقدير المسرف لنظم الغرب وأفكاره وتشريعاته شغلوا عن الإفادة من النظر في تضاعيف التاريخ الإسلامي ما يحوى من ثروات اجتماعية فكرية وتشريعية، وهي ثروات يمكن الانتفاع منها في الطلب للمشكلة والملاءمة عند الاقتضاء بين بعضها وبين الزمن. وربما كان من دواعي هذا الإغفال أن الإسلامية لم يستخرج بع الكثير من غرائب نصوصها، ولم تدرس بعد على نحو علمي عميق يجلوها نصوصاً وروحاً ومعقولاً.
وفي موضوع المساكن، تسبق النظم الإسلامية إلى مبدأ بالغ لأهمية هو إلزام الدولة بتدبير مساكن للفقراء، ذلك أن الشريعة تقتضي أغنياء كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، وأن يجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم. والقيام بالفقراء لا يكون بتدبير القوت وكسوة الشتاء والصيف فحسب، ولكنأيضاًبتجهيز مساكن لهم يصفها ابن حزم بأنها (تكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة)
وتوفير المساكن أمر عمرانيتستهدفه النظم الإسلامية، فليس لمالك دار أن يهدمها إذا كان في ذلك - كما يعبر المفتون - (ضرر لأهل السكة بخراب المحلة)
والمسلمون في سياستهم المسكنية يعنون بقوانين الصحة الوقائية، فهم مثلا لا يغفلون عن وجوب نقاء ماء الشرب، ويعرفون للماء خطرة في توفير النظافة، ولذلك فهم حين تواتيهم الفرصة بفضل الظروف الطبيعية يزيدون البيوت كبيرها وصغيرها بالمياه النقية. يتحدث المرحوم الأستاذ أمير على عن مياه الشرب في دمشق أيام فيقول:(ومع أن نهر (بردي) كان يجهز المدينة ولا شك بالمياه الكافية إلا أن الأمويين أبدوا مهارة منقطعة النظير في تجهيز حتى أحقر دور المدينة بأحواض خاصة تنبثق منها المياه الصافية، كما حفروا سبعة جداول رئيسية تنساب في أنحاء المدينة، وعلاوة على المجاري العديدة الأخرى التي كانت
تربط كل منزل بالمجرى الرئيسي.) ولقد زار ناصر خسروا المسجد الأقصى فرأى هناك (ميازيب من الرصاص ينزل منها الماء إلى أحواض حجرية تحتها هذه الأحواض ليخرج منها الماء وبصب ي الصهاريج قنوات بينها غير ملوث أو عفن)
ويبدو أن العناية بالمرافق العامة كانت مبذولة في مختلف البلاد الإسلامية صغيرها وكبيرها، فمن وصف ناصر خسروا لمسجد (ميافارقين) في فارس أن (لميضأته أربعين مرحاضا تمر أمامنا قناتان كبيرتان: الأولى ظاهرة ليستعمل ماؤها، والثانية نحن الأرض لحمل الثقل والصرف) ومن صفة لمسجد (آمد)(أن به ميضأة عظيمة جميلة الصنع بحيث لا يوجد أحسن منها) وكذلك من وصفة لسوق طرابلس الشام أن فيها مشرعة ذات خمسة صنابير يخرج منها ماء كثير، ويأخذ منه الناس حاجتهم) ويذكر ابن دقماق عن وزير لآل طولون أنه (عمل المجاري في سنة 304 أو 303 هـ. وكشفت حفريات الفسطاط عن كثرة المعدات الصحية وانتشارها فيها؛ يقول صاحبا هذه الحفريات المرحوم علي بك بهجت والمسيو ألبير جبرييل في هذا الشأن:(يستدل من كثرة المعدات الصحية وانتشارها على زيادة العناية بأمور الصحة العمومية لأنا لم نر داراً خلت من وجود مجارير للمراجعة حيض متسلطة على بيارة تنصرف إليها مياه الدار) وقد وصف هذان الأثريان تفضلاً نظم بناء المراحيض والمجاري بالفسطاط ونظم توزيع الماء في هذا البلد، سواء بالآبار أو بالقنوات والأنابيب أو بالفساقي وأحواض غسل الأيدي فنستدل من هذا الوصف على تقدم في الهندسة الصحية. ونقل المؤلفان عن مخطوطات في الحسبة بمكتبة الجامعة الفرنسية ببيروت نصا مؤداه أنه لا يجوز لأحد إخراج كل ما فيه أذية وأضرار على السالكين في الشوارع كمجاري الأوساخ الخارجة من الدار في زمن الصيف إلى وسط الطريق، كما نقلاأيضاًنصا يفيد أن على من ينقلون السماد إلى ظاهر البلدان أن يحفروا له حفائر، فإذا نقل إليها يطم عليه حتى تنقطع رائحته، فلا يتأذى منه أحد، ويمنعون من نقل ذلك إلى الماء وطرحه فيه أو ما حوله.
ومن القواعد الشرعية الإسلامية أنه كان لدار مسيل قذر في الطريق العام، وكان مضرا بالعامة، أو حتى الطريق الخاص وكان ضرره ولو كان قديماً ولا يعتبر قدمه.
وهكذا تتظاهر أدلة التاريخ الآثار والشريعة في الشهادة بأن النظم الإسلامية أولت الصحة
الوقائية عناية تامة.
وتلتفت النظم الإسلامية إلى الأماكن الموصوفة في مصطلح وزارة الصحةالآنبأنها (مقلقة للراحة أو ضارة بالصحة) وتتصرف تلقاءها على نحو يشبهه ما تجري عليه اللوائح المتعارفة حالياً فلا يجوز مثلاً إقامة مخبز أو مطحن أو مدق في (الحيطان) التي كانت وقتئذ بمثابة مرافق صحية. ويمنع نصب المنوال لاستخراج الحرير من دود القز إذا تضرر الجيران بالدخان ورائحة الديدان. بل أن حق الجيران منع يتخذ داره حماماً إذا تأذوا من دخانه. ويمنع دقائق الذهب من دقة بعد العشاء إلى طلوع الفجر إذا تضرر الجيران من ذلك. ليس لأحد أن ينشئ بستاناً في أرض يتعدى ضررها إلى جدار الجيران، وكذا يمنع من يجعل دكانه طاحونة أو معصرة أو حماماً أو إسطبلا، وليس لأحد أن يقيم تنوراً في وسط تجار الأقمشة إذا كان يضرهم دخانه.
وقد كان المسلمون أول الأمر يكرهون المغالاة في البيان والإسراف فيه، ولكنهم بعد سايروا مقتضيات الزمن. كتب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن مروان وأصحابه بالبصرة لنا بنوا باللبن: فقد كنت أكره لكم ذلك، فإذا ما فعلتم فعرضوا الحيطان وارفعوا السمك وقاربوا بين الخشب).
والاجتماع الإسلامي يعرف راشداً ما تحب مراعاته في أوضاع البلدان. فقول لبن خلدون: (ومما يراعي في ذلك للحماية على الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض، فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً للمياه الفاسدة أو منافع متعفنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من تجاوزها، فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محاولة. . والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب) ويمضي لبن خلدون فيتحدث عن المرافق العامة التي يستلزمها نفع البلد ودفع الشقة عن أهله، فيشير إلى أهمية قرب الماء وطيب المرعى للساعة.
وعناية النظم الإسلامية باتساع الطرق عناية بالغة. بذكر الماوردي - وهو بسبيل تعداد مواضع ولاية القاضي - أن منها (النظر في مصارع عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية) ويذكر أن للقاضي أن ينفرد بالنظر فيها وإن لم يحضره خصم لأنها من حقوق الله تعالى التي يستوي وغير المستعدي،
فكان تفرد الولاية بها أخص)
وآية نضج ذوقي وتقدم حضاري أن من أوقاف المسلمين ما كان على تعدل الطرق، (ويأخذهم بهدم ما بنوة ولو كان المبنى مسجداً، لأن مرافق الطرق للسلوك لا للأبنية)
والفقه يحرص حرصاً المثالية على حق الجمهور في الانتفاع بالطرق العامة، فليس لأهل سكة أن يسدوا رأسها، ولا أن يبيعوها ولو كانوا أصحابها وأنفقوا عليها، ولا أن يقتسموها فيما بينهم، ذلك أن الطريق الأعظم - كما يقول أبو حنيفة - (إذا كثر فيه الناس كان لهم أن يدخلوا هذه السكة حتى يخف الزحام) وإخراج مصاطب الدكاكين إلى الجمهور عدوان على المارة يجب على المحتسب وإزالة والمنع من فعله. ولا يجوز لأحد أن بيني ظله تضر الطريق، (ومن خاصة من المسلمين قبل البناء فله أن يمنعه، وبعد البناء له أن يهدمه.
وتمضي الحسبة الإسلامية في النهوض بما تنهض بهالآنمصلحة التنظيم والمجالس البلدية، فالميازيب الظاهرة من الحيطان في زمن الشتاء يأمر المحتسب أصحابها (أن يجعلوا عوضها مسيلاً محفوراً في الحائط مكلساً يجري فيه ماء السطح؛ وكل من كان في داره مخرج للرسخ إلى الطريق فإنه يكلف سدة)
وعلى المحتسب أن يأمر الأسواق بكنسها وتنظيفها من الأوساخ والطين والمجتمع وغير ذلك مما يضر بالناس.
ومن قول الرسول: إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وهو - صلوات الله عليه - يقرر أن من قضى حاجته تحت شجرة مثمرة أو على طريق للسير أو على حافة النهر فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. والمسلمون بعده يتناهون عن توسيع الطرقات، فالسمر قندي مثلا يقول:(ولا ينبغي للعاقل أن يتمخط أو يبزق في ممر الناس كيلا يصيب أقدامهم).
لذلك، كانت نظافة الطرقات لافتة، وقد رأى ناصر خسروا شوارع طرابلس الشام وأسواقها من الجمال والنظافة بحيث ظن أن كل سوق قصر مزين. وفي صيدا رأى سوقا جميلة نظيفة ظن أنها زينب لمقدم السلطان أو بمناسبة بشرى سعيدة، ثم ما لبث أن عرف أنها عادة المدينة دائماً.
ومن اللفتات الفقهية الكبيرة الدلالة أن شغل البائع للطريق الضيق على نحو يتضرر منه
الماس يوجب عدم الشراء منه (لأن القعود على الطريق بغير عذر مكروه. ولهذا لو عثر به إنسان وهلك كان ضامنا، فالشراء منه يكون حملاً له على المعصية وإعانة له على ذلك).
والمرور في الطريق له قواعده، فيستحب للراجل مشيه في جانب الطريق، وللركب في وسطه إذا كان في مصر، وإن كان في الفضاء فوسط الطريق للراجل وحافتاه للراكب. ويستحب للمتنقل أن يوسع للحافي عن سهل الطريق. وقد أشار لبن بطوطة إلى أن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليها المترجلون ويمر الركبان بين ذلك.
وترى الشريعة الإسلامية أن المنافع العامة كالقناطر والطرق النافذة والشوارع العامة التي ليست بملك لعين لا يجوز لأحد أن يختص بها ولا أن يمنع غيره الانتفاع بها بل تبقى لمنفعة عامة.
ولا شك أن الشريعة تستهدف من هذا أن يكون نفع الشطوط ومتعتها مشاعاً بين الأهلين غنيهم وفقيرهم. وقد ذكر ابن إياس في أخبار ستة 866هـ أن الشيخ جلال الدين الأسيوطي أفتى بأنه لا يجوز البناء على ساحل الروضة بناء على ذلك الإجماع، وأن ما ذكر من جواز ذلك في مذهب الشافعي باطل وليس له صحة في كتب الشافعية قاطبة.
والبيوت لا تترك الحرية المطلقة لأصحابها في تعليقات على حساب مصلحة الجيران. قيل: يا رسول الله، ما حق الجار على الجار؟ قال: - وعدا أموراً -. . وأن لا تطيل بناءك عليه إلا بطيبة من نفسه.
ولا يفوت النظم الإسلامية أن تهتم بمطارح الحصائد أو ما نسميه الأجران، فهي تقر حاجة القرية إليها وتعدها (بمنزلة الطريق والنهر، ولذلك لا تعتبر مواتا، بل تعتبر للعامر لأنها من مرافقه).
بقى أن نسأل استيفاء للبحث: كيف كانت حال المساكن وتخطيط البلدان في حواضر أوربا بل في ريعها؟ سندع العلامة
هنا نقص
عهود الظلام
للأستاذ إبراهيم الوائلي
من قصور رحيبة الأفياء
…
وليال مجنونة حمراء
فتنة الحالمين والنماء
…
نهزة العابثين في الظلماء
من كؤوس تعج بالصهباء
…
وثغور تموغت بالدماء
من ثياب ترف بالأشذاء
…
تتحدى النجوم بالأضواء
من صدور محمومة الأهواء
…
ونحور تموج باللألاء
ونهود عربيدة خرساء
…
تتنزى على رؤى الخيلاء
كان هزء الطبيعة الحمقاء
بالجماهير من بنى الإنسان
من بقايا هياكل كل جوفاء
…
نحتت من حجارة صماء
في حياة مجنونة رعناء
…
تحسب المجد في فتون المرائي
في وسام مذهب ورداء
…
وضروب النعوت والأسماء
من صروح منيعة شماء
…
ساخرات بالبؤس والبؤساء
من نفوس حقيرة سوداء
…
ورؤوس مريضة بلهاء
خلقها سياسة الدخلاء
…
من هباء وذاك شر بلاء
لم يعد في الحياة أي رجاء
لشعوب تعيش كالديدان
من بروج تشاد فوق الجماجم
…
حافلات بكل غض وباسم
غرف كالخيال في رأس حالم
…
وأفانين من حصيد المغانم
هي في موكب الحسان الكرائم
…
وهج الشمس ذوبته النسائم
تتحلى به (العذارى) النواعم
…
في نحور رقيقة ومعاصم
وأكف ندية ومباسم
…
كزهور ترف بين الكمائم
تحسب الطهر من بقايا المآثم
…
وتخال النهى خرافات واهم
عصفت بالضعاف شتى المظالم
كالأعاصير في بقايا دخان
من قوانين شرعت ومحاكم
…
وحدود تنوعت وعواصم
وزعامات مستبد وآثم
…
سابح في قرارة الشر هائم
فإذا الحق أن تداس المحارم
…
بين مستضعف على الذل جاثم
ومقيم على استلاب الغنائم
…
من عراة على الرمال سوائم
أثقلتهم حياتهم بالمغارم
…
بالتي لا يردها سخط ناقم
من شيوخ تدثروا بالعمائم
…
لم يهيموا بغير حل الطلاسم
كان أفق الحياة أسود قائم
في شعوب تنوء بالحرمان
من وحوش مجنونة الخطوات
…
تتشهى حتى بقايا الرفات
لم تدع في الخرائب الموحشات
…
غير أشباح أعظم نخرات
من جياع على الصخور حفاة
…
كقبور تعج بالأموات
فإذا بالجنان كالفوات
…
وإذا بالحياة مثل الممات
من جناة مدمرين غزاة
…
وطغاة مخربين قساة
سلطتم سياسية الفلتات
…
في عهود الظلام والكبوات
قد ركسنا فكان عهد سبات
…
وأفقنا فكان عهد هوان
من ضلالات أحمق مأفون
…
مستهين بكل شرع ودين
وضراعات أبله مسكين
…
يتخطى السنين بعد السنين
وهو في صمته الطويل المهين
…
من سياط تنث فوق المتون
وسجون تقام حول سجون
…
ليس فيها سوى الظلام الحزين
وانطلاقات زفرة وأنين
…
يتلاقى بها دخان الجفون
من قوى ببطشه مفتون
…
وأسير مكبل موهون
جن ظلم الحياة شر جنون
…
بالألى يركعون للأوثان
من أراجيف عالم محموم
…
يتغنى بنافثات الجحيم
حامل في يد قوى التحطيم
…
وبكف مخدرات السموم
بين وغد مزيف موهوم
…
وغد غامض الخطا مزعوم
من مدل بطيشه المذموم
…
تزدهيه مواكب التفخيم
فهو في نشوة الأثيم
…
يحسب الشمس من صغار النجوم
من شقي معذب محروم
…
مستغيث بصمته المكلوم
مزق العدل كل عات غشوم
…
فتلاشى كضحكة النشوان
أيها الركب طال عهد الحداء
…
والسرى والطريق والظلمات
أنت تطوى مجاهل الصحراء
…
بين عصف الرياح والأنواء
أترى تستريح بعد عناء
…
ونضال مكلل بالدماء
فلقد طال منك في البيداء
…
تعب لم يزدك غير بلاء
أيها الركب رب ليل شقاء
…
يتواري بلحمة من ضياء
فترقب لعل في الأجواء
…
قبسا يستجيب للحيران
إبراهيم الوائلي
القاهرة
صلواتي
للأستاذ كامل محمود حبيب
من أعماق قلبي أناديك يا ربي!
فهل يستطيع صوتي الضعيف أن يبلغ موطئ عرشك؟ إنني أخشى أن يتلاشى صوتي في ظلمات ذنوبي فلا تنفتح له أبواب رحمتك.
ولكن عظمة أسمك الكريم تزلزل قوتي وتعصف بجلدي فأخر ساجداً وقد أخذتني وغمرني الخشوع واغرورقت عيناي بالدموع في توسل علىأستطيعبضمفي أن ألج بابك. باب الرحمة والغفران.
فلا تغلق من دوني باب رحمتك وأنا أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!
إن حبي لك، يا إلهي - يتغلغل، أبداً، في أغوار روحي فتصفو من كدر.
وإن روحي تصفو أبداً لأنني لا أتعبد إلا لك أنت وحدك، يا إلهي وحين تصفو روحي تسمو فوق هذا العالم الأرضي.
فأرى من خلال حبي عظمتك الخالدة نوراً يسطع فيضئ العالم كله.
وأتنشقها أنفاساً ندية عطرة تنتشي لها خواطري وأسمها لحناً موسيقياً سماوياً يتطرب له فؤادي وأحسها حياة طاهرة نقية تتدفق في دمي وأشعر بها تضمني إليها في رفق فأخر ساجداً في خشوع وقد اغرورقت عيناي بالدموع في توسل وأنا أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!
يا إلهي لا تدع شواغل الحياة الأرضية تجذبني إليها بأمراس غلاظ، فأنا أطمع أن أكون إلى جانبك أبداً.
واصرفني عن الأمل الخلاب الزائل الذي لا يجذب إلا النفوس المتداعية ليسمها بميسم التراب. . . اصرفني عنه إلى الفكر السامية التي تخلق الخلود.
ولا تدع نفسي تدنسها الخواطر الوضعية أو تلطخها الأكاذيب التافهة.
ولا تدع قلبي يخطفه ألق الرذيلة أو يشغله بريق المتعة ولا تدع روحي تسيطر عليها شيطانية المارة فتنزعها من صفاء السماء.
فأنا أطمع أن أكون إلى جانبك أبداً لأنني أخشى أن يتلاشى صوتي الضعيف في ظلمات
ذنوبي فلا تنفتح له أبوب رحمتك حين أناديك من أعماق قلبي: يا ربي
أنا - يا سيدي - لا أخشى البطشة الكبرى لأنني أطمع في رحمتك العظمى.
ولا أخاف الثورة العاتية لأنني أرنو إلى بسمتك الرقيقة ولا أتهيب العاصفة الهوجاء لأنني أهفو إلى صفائك الرقراق ولا أفرق من كسف الظلام لأنني أنظر في شغف إلى فلق الإصباح.
فأنت علمتني أن القوى لا يعبأ بالضعيف، وأن العظيم لا يتحدى الضئيل.
وأنت علمتني أنني شعاع من فيض نورك الذي يغمر العالم وأنني نغمة من اللحن الساحر الذي ينبعث - دائماً - من بابك الخالد.
وأنت لم تعلمني الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينبث في الروح الخوف ويقيد بالاستسلام بل علمتني الدين الذي يبذر في القلب الجرأة ويغرس في النفس العظمة وينفث في الروح الشجاعة ويدفع الهمة إلى القمة فدعني أحس من عطفك في أوتار قلبي حين أجلس إليك في خلوة.
فأنا أخشى ألا يبلغ صوتي الضعيف موطئ عرشك حين أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!
أزح عني خبث الطمع الذي يستلب الإنسان من الإنسانية ونقني من شوائب الأماني الزائفة التي تطفئ من النفس الأنوار الروحانية.
وادفع عني الكبرياء التي تسم الروح بالغرور ونجني من الخديعة التي تنحط بالرجل عن معاني الرجولة واجعلني - في أخلاقي - طفلا لم تدنسه الحياة فالطفل لا يعرف المعاني الشيطانية في العداوة والبغضاء والغيظ، ولا يعرف الأحقاد التي تحيل الحياة الناعمة إلى جحيم يتلظى اجعلني - في أخلاق - طفلا لم تدنسه الحياة ثم لا تثقلني بأعباء الرجل الذي يتمرغ دائماً في الثرى الأرضي.
فأنا أطمع أن أكون إلى جانبك أبداً ليرقي إليك صوتي الضعيف حين أناديك من أعماق قلبي يا ربي!
لقد قضيت عمراً طويلاً على نفسي، وأخلو إلى عبادي وأسكن إلى تسابيحي وانطوت سنوات وصوت السماء يناديني: يا عبد؛ إن الألوهية لا تعيش بين الجدران، فانطلق في فجاج الأرض لترى العظمة وتلمس القوة وتسمع الألحان العذبة. . ولتجد الحقيقة.
ولكن ذنوبي كانت قد طمت على روحي فلم أعد أسمع الحق فلما صفت روحي من الخبث وتطهرت نفسي من الرجس، طرت من خلوتي لأراك - يا إلهي - وألمسك وأسمعك
حينذاك، عرفت أنني ضيعت عمري في شيء لا غناء فيه، فاغفر لي - يا إلهي - جهلي وغفلتي.
آه، يا قلبي، إن إيمان الراهب هو إيمان شيطاني أبله فدعني يا إلهي أكفر عن رهبانيتي الحمقاء بالكد والجهاد في لظى الحر وزمهرير البدر، لأكون إلى جانبك أبداً فيرقي إليك صوتي الضعيف حين أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!
امنحني - يا إلهي - القوة لأحمل آلاءك العظام وامنحني الهدوء الذي يسع حماقة أهلي وجهل أخي وامنحني العقل الذي يغفر زلات أقاربي وبغضي عن أخطاء رفاقي.
وامنحني القدرة على أن أقيل عثرات جارى
وامنحني العزة التي تترفع عن تفاهات الحياة
وامنحني الكبرياء التي تسمو النزوات الطائشة
وامنحني الخضوع الذي لا أتعبد به إلا لك أنت وحدك فأعيش فوق الناس جميعاً، ثم امنحني العطف الذي يتدفق من لدنك ليمس أوتار قلبي في رقة وأنا أناديك من أعماق قلبي: يا ربي
كلما ذكرتك يا إلهي - أحسست بالراحة والهدوء والسعادة فعلمني كيف أناديك نداء رقيقاً تنفتح له أبواب رحمتك وعلمني كيف أنطلق في هدوء إلى محرابك أتنظر فيض نورك وألهمني النشيد الإلهي العذب لأوقعه على أوتار قلبي في خشوع فيملأ حياتي بالسعادة ويفعم روحي بالطمأنينة.
ثم احبني بالقيثارة السماوية لأعزف عليها النشيد الإلهي العذب كما ذكرتك عسى أن نغماتي موطئ عرشك كلما ناديتك من أعماق قلبي: يا ربي!
وإذا شئت - يا إلهي - أن تقطف هذه الزهرة الغضة النضيرة - حياتي - لتطهرها من الدنس الأرضي وتضمها إلى أزاهير جنتك الوارفة، فلا تقطفها حين تعصف بها لإواء الحياة وشدة الأسى وغلظة اليأس؛ ولكن أقطفها وهي غضه تمرح بين ندى الصباح وبسمات الفجر، وقد هزها الطرب وأفعمها النشاط وتأريج منها العطر وتألق فيها النور،
لتعيش في جنتك فتية زاهية تقوى على أن تناديك من أعماق قلبها: يا ربي!
كامل محمود حبيب
الغزالي أعجب شخصية في تاريخ الإسلام
للأستاذ قدري حافظ طوقان
الغزالي حجة الإسلام وزين الدين ومن أكبر أعلام الفكر الذين يعتز بهم الإسلام ويفخر. ظهر في القرن الخامس للهجرة في عصر سادت فيه آراء الشك والاختلافات وعمت أوساطه الفوضى في المعتقدات والمذاهب. وكان لهذا أثر على حياة الغزالي كما كان لنشأته الصوفية والروحية أثر كبير عليها. فنزع إلى الانتصار للدين وسلك في ذلك مسلكاً جديداً لم يسلكه أحد من قبله، حتى قال (رينان):(إن الغزالي هو الوحيد بين الفلاسفة المسلمين الذي انتهج لنفسه طريقاً خاصاً في التفكير. . .).
واجه الغزالي في أول حياته مذاهب مختلفة من كلام وباطنية وفلسفة وتصوف وساورته نزعات التشكيك والتحليل المنطقي، واحتار في أمره ولم يدر أيها يتبع. وقد لجأ إلى دراسة هذه المذاهب واختبار حسناتها وسيئاتها رائدة في ذلك الوصول إلى الحقيقة التي تروي النفس وتنير العقل، فخاض بحار التفكير وتوغل في كل مظلمة واقتحم كل مشكلة وورطة، وتفحص الفرق والعقائد ليميز بين محق ومبطل ومتسنن ومبتدع. درس الفلسفة ليقف على كنهها، ودرس علم الكلام ليطلع على غايات المتكلمين ومحاولاتهم، ودرس الصوفية ليعثر على سرها. وكان في دراساته واسع الصدر سما بتفكيره وحلق، وقد أدرك أنه لا يمكن للمحقق أو الباحث عن الحقيقة المتعطش لها أن يستوعب سلبها بغير الجمع بين سائر مظاهرها مما يقال للشيء أو عليه.
إن هذه الطريق الذي سار عليه الغزالي يدلل على قوة شخصيته وعلى إيمانه بنفسه وثقته بمواهبه ومزاياه مما ساعده في الانتصار على خصومه وعلى الفلسفة.
والغزالي يمتاز على غيره من علماء الكلام في كونه قرب الدين من العقل الاعتيادي وكشف دقائقه أمام أذهان العامة، في حين أن الكثيرين من الفقهاء، ورجال الدين في عصره والعصور التي سبقته ساروا في تفكيرهم على أساس من الغموض وفي بحار من المعميات والأسرار، وذلك مخافة على شخصياتهم من بروزها على حقيقتها ضعيفة واهية، وخشية من نفوذهم أن يتلاشى إذا وضحت الأمور وزال الغموض.
والغزالي حين قرب الدين لم ينزل به، بل استطاع بما أوتى من قوة العارضة وصفاء
التفكير وسعة الاطلاع؛ أن يرفع الإيمان من (حضيض السذاجة إلى قوة التفكير العالي مما جعل المفكرين في الشرق والغرب يرون فيه المثل الأعلى للتفكير الإلهي والنور المبدد لروح الشك والتشاؤم. . .) وقد قال سارطون في هذا الشأن: (إن أثر الغزالي في العلم الإلهي أعظم من أثر القديس توما. . .).
درس الغزالي الفلسفة (. . . ولم يكن الذي حمله على دراستها مجرد شغف بالعلم بل كان يتطلع إلى مخرج من الشكوك التي كان يثيرها عقله. . .). ليطمئن قلبه ويتذوق الحقيقة العليا. وخرج من دراساته هذه وسياحاته وتنقلاته بكتب قيمة نفيسة أهمها كتاب تهافت الفلاسفة، وهو عمل عظيم لا يخلو من قيمة فلسفية إذ هو (ثمرة دراسة محكمة وتفكير طويل، يبين المسائل الكبرى التي كانت محل خلاف بين الدين والفلسفة. . .) مما يدل على طول نظر في الفلسفة ودراسة وافية لها. وقد بلغ فيه أقصى حدود الشك فسبق زعيم الشكيين (دافيد هيوم) بسبعة قرون في الرد على نظرية العلة والمعلول.
لقد وصل الغزالي من دراساته الفلسفية وغيرها إلى ما وصل إليه (كانت) فيما بعد، من أن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ولا كاشفاً الغطاء عن جميع المعضلات، وإنه لابد من الرجوع إلى القلب وهو الذي يستطيع أن يدرك الحقائق الإلهية بالذوق والكشف وذلك بعد تصفية النفس بالعبادات والرياضيات الصوفية. وهو بذلك حاول أن يخضع العلم والعقل للوحي والدين لكي يصل إلى الحقيقة العليا. وعلى الرغم من محاولاته إخضاع العلم والعقل للوحي والدين كان يمجد العقل ويرى فيه (كما جاء كتاب إحياء علوم الدين) منبع العلم ومطلعه وأساسه وإن العلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس وقد أتى بجملة أحاديث نبوية تشير إلى مقام العقل وشرفه.
والغزالي لم يأخذ بأقوال فلاسفة اليونان، بل كان يعرضها ويسلط عليها العقل فيخرج بنقد صائب ورأي عبقري. لقد اعترض على قول (جالينوس) اليوناني (. . . إن الشمس لا تقيل الانعدام) ويستدل على ذلك بأن الأرصاد لم تدل على أي تبدل في حرارة الشمس أو حجمها، وهنا يأخذ الغزالي هذا القول، ويرى فيه خطأ وخروجاً عن الصواب. فأرصاد القدماء ليست إلا على التقريب، والشمس قد تخف حرارتها وينقص حجمها دون أن يلاحظ الناس ذلك في مدة قصيرة، وعلى ذلك يخرج الغزالي برأي صحيح هو ما توصل علماء
الفلك الحديث. فلقد توصل العلم إلى أن الشمس تحتضر على حد تعبير السير جيمز جينز وأنها في تناقض. وقد حسبوا ما ينقص منها (على الرغم من القوى والذخيرة التي تصل إليها بعوامل شتى) فوجدوا أنها تفقد مادتها عن طريق الإشعاع (360) ألف مليون طن في كل يوم.
وللغزالي آراء تدل على حسن إيمانه بالبشرية وصفاء نظره إلى الخليقة الإنسانية وهو لم يأخذ بأقوال الذين يجعلون الشر مركباً في طبع الإنسان، بل أنه أحسن اعتقاده في النشأة فجعله خيراً. ويرى أن الفطرة الإنسانية قابلة لكل شيء فالخير يكتسب بالتربية وكذلك الشر. وفي رأيه أن الإنسان لا يميل بفطرته إلى إحدى الجهتين وإنما هو يسعد ويشقى تبعاً لعوامل عديدة تتعلق بالأبوين والمحيط غير حاسب أي حساب للوراثة وما إليها.
وأورد الغزالي في كتاب الأحياء قواعد ومبادئ ليسير عليها المعلم والمتعلم. ويجد المتصفح لها أنها سامية الغايات فيها تحليل نفسي دقيق يدل على النضج وخصب القريحة وعلى معرفته التامة بنفسية المعلم المتعلم. ويرى فيها المؤرخون أنها لا تقل عن النظريات الحديثة في علم التربية. وكذلك وضع الغزالي مبادئ جليلة فيآدابالمناظرة هي في الواقع الدستور الذي يجب أن يسلكه المتناظرون وأصحاب الجدل والبحث. وفي رأي الغزالي أن الخروج على هذه الآداب قد أشاع الخصومات وأنشأ العدواتلأنالغاية من الجدل والمناظرة لم تكن في الحقيقة كما يجب أن يكون، بل كانت التغلب على الخصم والتفوق على المناظر.
والغزالي لم يذهب مذهب المعتزلة في أن العمل يكون حسناً أو قبيحاً لأنه حسن أو قبيح بحكم العقل. كما أنه لم يقل أنه حسن أو قبيح بحكم الشرع، لكنه قال أن الحسن والقبيح يرجعان إلى العقل والشرع معاً. فالعمل خير إذا وافق العقل والشرع، وشر إذا خالف العقل والشرع. وهكذا قاس الخير والشر بمقياس العقل والشرع.
وتوفر الغزالي على بحث الأخلاق فأجاد في هذا الباب وترك أبقى الآثار وأرفعها شأناً ضمنها كتابه الشهير (أحياء علوم الدين) لقد نهج الغزالي في فلسفة الأخلاق الناحية الدينية من حيث النظر والتقدير والناحية التحليلية النفسية من حيث التناول والتفسير.
والغزالي يجعل للعلم منطقة وللدين منطقة. ولكل مزاياها وأحوالها الخاصة والنفس البشرية
تتصل بالمنطقتين، فهي تتصل بالعالم الحسي عن طريق المعرفة والبرهان وبالعالم الروحي عن طريق الاختبار الشخصي والكشف.
ويرى أن السعادة الروحية لا تأتي من الإيمان الفلسفي بل بالعمل المؤدي إلى الاتصال بالروح الأعلى. ومن هنا تبين أن الغزالي حين يتناول الدين فإنه يحررها من أطمار الكلاميين ثم (يمزج حيوية الأول بحيوية الثاني ويولد منهما مذهباً روحياً يقبله العقل ولا يدحضه البرهان. . .).
وقد أعرض الغزالي من معرفة هذا العالم عن طريق العقل (ولكنه أدرك المسألة الدينية إدراكاً أعمق من إدراك فلاسفة عصره. . .) فقد كان هؤلاء الفلاسفة عقليين شأن أسلافهم اليونان فاعتبروا أن أمور الدين ثمرة لتصور الشارع ووهمه، بل هو ثمرة لهواء. واعتبروا الدين انقياداً أعمى أو ضرباً من المعرفة فيه حقائق أدنى من حقائق الفلسفة. وقد عارض الغزالي هذا الرأي واعتبر الدين ذوقاً باطنياً لا مجرد أحكام شرعية أو عقائد، بل هو شيء أكثر من ذلك، وأنه شيء تتذوقه الروح. ويعلق (دي بور) على هذا فيقول (. . . ولا يتاح لكل إنسان أن يبلغ في هذا الأمر مبلغ الغزالي، والذين لا يستطيعون متابعته إذ يعرج في مدراج السالكين متخطياً المعارف المكتبية كلها، لا محيص لهم عن الإقرار بأن محاولاته في الوصول إلى الله ليست أقل شأناً في تاريخ العقل الإنساني من مذاهب فلاسفة عصره، وإن بدت هذه المذاهب أدنى إلى اليقين، لأن أصحابها إنما ساروا في بلاد قد كشفها غيرهم من قبل. . .).
وجاء في كتاب نهاية الميزان ما يشير إلى أن الشك هو طريق اليقينلأنالشكوك هي الموجبة للحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى في العمى والضلال. ولم يفت الغزالي أن ينبه في مواطن عديدة من كتبه إلى أنه:(. . . يجب على المعلم أن يتجنب كل ما يثير الشك في نفوس الضعفاء، وخص المرشد على الاقتصار مع العامة على المتداول المألوف. . .) فهو يرى أن يستعمل الشك بمقدار محدود وهذا المنهج (. . . يبين أن الغزالي يحرص على وحدة الهيئة الاجتماعية، وينفر من كل ما يقربها من الانحلال. . .).
والمجال لا يتسع لعرض الآراء المختلفة التي أوردها الغزالي في كتبه في الأخلاق
والآداب والحقوق والواجبات. ولكن يمكن القول أنه ترك تراثاً ضخماً في كتبه وتآليفه تجعله من الخالدين وهو يعد بحق إمام أهل البيان في الأسلوب العلمي والأسلوب الاجتماعي ومزاج من علوم شتى (. . . أنضجها البحث وصقلها التفكير وأضفتها تجاربه وشكوكه القاسية التي عاناها في نشأته. . .).
وأخيراً تعرض لمقام الغزالي عند الغربيين فنقول: كان للغزالي قيمة ومقام عند الغربيين وقد أحلوه المكان اللائق ودرسوا مؤلفاته ورسائله وكتبه وكتبوا عنه مؤلفات الطوال. ومنهم من يتعصب له يرى فيه أحداً من أربعة. يقول الدكتور (زويمر): (كل باحث في تاريخ الإسلام يلتقي بأربعة من أولئك الفطاحل العظام وهم: محمد نبي المسلمين والبخاري الأشعري والغزالي. .) ويرى (دي بور) أن الغزالي أعجب شخصية في تاريخ الإسلام. وكتب (كارادي فو) عن الغزالي وقد أنصفه بعض الإنصاف. وهناك رسائل كثيرة كتبت عن الغزالي بالإنكليزية والفرنسية والألمانية، وهي تدل على أنه شغل الباحثين والمستشرقين أمثال الدكتور مولتر، وماكدونالد، وستيفيلد وشمولدز ودي بور والأب بويج وماسينيون وجولدزيهر وغيرهم، فكان محل اهتمامهم وعنايتهم، كما تدلل على فضله وأثره الكبيرين في العلوم وخاصة في العلوم الإلهية والصوفية والأخلاق.
نابلس
قدري حافظ طوقان
الهجرة الكبرى في سبيل السلام
للأستاذ محمد محمود زيتون
(والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر
إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه
فأولئك هم المفلحون. .).
قرآن كريم
لم تكن هجرة النبي عليه السلام إلا مرحلة من مراحل الدعوة إلى السلام، فقد دعا العرب إلى الحق والخير، بالحكمة والموعظة الحسنة، فآذوه في شخصه وأهله وصحبه، وطوى الزمن ثلاثة عشر عاماً، وهم بين مضروب ومشجوج ومعذب بالرمضاء تارة، وبالحديد والنار تارة أخرى.
واحتل المعذبون مكانهم في التاريخ، وتلألأت صفحاته بآل ياسر وبلال وخباب وزنيرة، أولئك الذين ابتلوا فصبروا، وامتحنوا فشكروا، وهل الإيمان إلا الشكر والصبر.
وإنها لكبيرة على النفس أن تحتمل من العنت والرهق ما لا تطيق، وأكبر من ذلك أن يغير عشرات الرجال وقليل من النساء معهم، مجاهل الجزيرة في سنوات: فإذا الوجه العباس يرتد يساماً ضحوكاً، والقلب المتحجر يرفض بالرحمة والرقة، والعقل البليد يتفتح لنور الحق، ويستجيب لصوت السماء.
وكان طبيعياً أن يكون الجهر بالإسلام بمثابة إعلان الثورة على جميع الأوضاع المألوفة، ولكن يؤلف عن العربي سكوته على الضيم والهوان، فكيف بهؤلاء الصفوة يفتنون في دينهم، ويستضعفون في وطنهم!
تلك المشكلة التي تتطلب الحل المعقول، وإن كان الوقت يمطلها بالتردد والتخير كالمعهود في أشباهها ونظائرها، فقد تم إعداد الحل المسعف، وسرعان ما نزل من السماء على لسان محمد، ومضى أتباعه في الطريق المستقيم.
ذلك بأن دعوة الإسلام ليس لها أن تنحدر إلى مخلفات الجاهلية فتقاوم الإساءة بالإساءة، وتقابل العدوان بمثله، وإلا كان دين الإسلام متناقضاً مع نفسه: يتنزى الدم من يديه، وتتساقط الأشلاء من بين شدقيه.
والحل الذي يستقيم مع روح هذا الدين هو (الهجرة) المرسومة في بدئها وختامها المليئة بمدخراتها للتاريخ إذا أعوزه الكشف عن مواطن العبرة، ومظن الفخار، وليس بدعا من الأحداث أن يهاجر محمد، فقد سبقه لوط إذ هاجر بأهله ونزل بهم بالمؤتفكة. ولكن ما أصعب الهجرة من المواطن المضيم.
فما بال محمد وتابعيه تهون عليهم مكة، وفيها بيت الله الحرام وبها الأهل والوالد؟ ألم يقف محمد في وسط لمجلس يوم خرج مهاجراً، والتفت إلى الكعبة فقال:(إني لأعلم ما وضع الله بيتاً أحب إلى الله منك، وما في الأرضبلد أحب إليه منك، وما خرجت منك رغبة، ولكن الذين كفروا أخرجوني).
وتهامس الأغرار: أنه قرار، واستدرك الدهاة: بل استنصار حقا، أنه بالأمانة خشية الضياع، لهذا قال النبي الرسول (من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من أرض استوجب له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم خليل الله، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وحقا أنه استنصار للدعوة من أتباعها فيما وراء الحدود، ولكن هل سكنت ثائرة من قال أنه فرار، وهل أجدى دهاء القائلين بأنه استنصار.
وفر أبو بكر بدينه يعبد الله عليه بأرض اليمن، لولا أن أخذ ابن الدغنة له الجوار من (القارة) شارطين عليه أن يتعبد بداره ولا يستعلن، ولأن أبو بكر فقبل ورجع فإنني في داره مسجدا اخذ يصلى فيه ويقرأ القرآن وبرفع صوته، والبكاء يغالبه، والناس يتهافتون عليه مسلمين من كل صوب، فلما كلمه صاحب الجوار قال له: رددت عليك جوارك، ورضيت جوار ربي) وضربت قريش الحصار على شعب أبي طالب فلم يتمكن أهل النبي مع البيع والشراء والمصاهرة، وأضر الجوع بهم، ولا سيما بزوجته خديجة، وكادوا يهلكون من عند آخرهم، وبعد موت خديجة وأبي طالب اشتد الأذى، وأخذت المؤامرات تدبر في الظلام لاغتيال محمد.
هذا وهو ماض في سبيل الدعوة، لا يمل من لقاء الحجيج في المواسم، والاستكثار من
القبائل، بينما فراعنة قريش يحاربونه بكل ما يسعفهم به قلوب مريضة، ونفوس منحلة، ومفاسد مستحكمة، والأصنام أيما استبداد.
وما يكون لنبي السلام أن يهدم السلام، وما ينبغي لمنطق الغريزة المقاتلة أن تستثار فلا تستجيب، ولكن التسامي بها هو المطلب الكريم، والأمنية الكبرى، فما هو إلا أن تراكض المسلمون مهاجرين إلى يثرب تاركين المال والعيال، لم يجردوا سيفاً، ولم يتننكبوا رمحاً، بل تجردوا للسلام، إلى حين ينثلم السلاح في أيدي الخصوم، وحاشا لأهل الإيمان أن يطلبوا الثأر على نحو لا يشرف أقدارهم.
لهذا قال أبو أحمد بن جحش في هجرته:
فكم قد تركنا من صميم مناصح
…
وناصحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن وتراً نائياً عن بلادنا
…
ونحن نرى أن الرغاب تطلب
واجتمعت بدار الندوة نزعات إبليس بنزوات الجبت والطاغوت، وانطفأت في الحال جذوة التدبير، وأنقطع حبل التفكير، فما كان من أصحاب الفراغ، بل هو الشيء الذي لا تسعفهم الغريزة بما فوقه.
ولا أقل من أن يجد العدو مصرفاً للضغينة المكتومة فيما درن غرضه المأمول، أما إذا تركوا محمداً في وجهه إلى يثرب، فإن له بها أنصاراً، وإنهم لناصروه، وإنه لفاتح بهم مكة على أهلها عاجلاً أو آجلاً.
يا له من يوم! كلما تمكن من خيالهم وتحدى كيدهم، لا يستطيعون له صرفاً، ولا يزيدون معه إلا تضييقاً على محمد وتنكيلاً بمن سلك سبيله.
خرج صهيب الرومي بماله فخيره بين نفسه وماله، فهجر المال، وهاجر بالنفس، وربح صهيب على كل حال، وخسر هنالك المبطلون. وخرج أبو سلمة، ولما أرادت صاحبته أن تلحق به ومعها طفلها، خيروها بين ابنها ونفسها، فتركت فلذة من كبدها في أيديهم، وخرجت مؤمنة بأنه وديعة في يد الله، وفتنوا من فتنوا، وحبسوا من حبسوا، ولو لم يكونوا قد انشغلوا بهذا القليل لتبددت الهجرة تحت هاتيك الضغوط، ولفظت الدعوة آخر أنفاسها.
وأطلع الله رسوله على دار هجرته، فأخبر بها صاحبه أبا بكر الصديق الذي طالما كان يستأذنه فيستأجره النبي حتى أراد الله لهما (صحبة) في الهجرة الكبرى إلى الله، وأعد
أبوبكر ماله كله ليهاجر معه، وتواعد مع النبي على ساعة الخروج من ليلة الفارقة بين العدوان والأمان، الفاصلة بين الشر والخير المراد.
وتسجى على بالبردة الحضرمية الخضراء، ولزم حزب الضلال باب الدار، وسهدوا أجفانهم، وكدوا أذهانهم، فما هي إلا الخيبة التي لا بعدها، على الرغم من الصفوف والسيوف، وما هو إلا نصر السماء (وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
ولبثا ثلاثا بغار ثور، والطلب لا ينقطع، وكان أبو بكر يسمع القوم يتهامسون ويتخافتون، فيأخذ الخوف من كل سبيل، ولكن الذي أعمى بصائر الكفار عند خروج النبي من الدار هو الذي ضلل حدسهم وهو في الغار (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا).
وخرجا من غار الخفاء إلى نهار الجلاء، ومضيا على راحتيهما بين تصويب وتصعيد، وكلما رأى أهل البادية أبا بكر سألوه عن هذا الرجل الذي معه فيقول لهم في تورية صادقة (هذا الرجل يهديني السبيل)، فلما وصلا إلى الجحفة تحرك الحنين إلى مكة في جوانح نبي الوطنية، فتذكر ما كان من قريش معه وهو يدعوهما لربهم، ومن ثمة نزل عليه جبريل بقول ربه (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى نعاد).
ولم يمض على رحيلهما ثمانية أيام حتى أشرف النبي على المدينة فقابله أهلها، والبشر تندي به وجوه الرجال، وبالغناء تتجاوز دفوف الجواري، وبالشعر تتعالى الفتيان، وبالحراب تنوع ألعاب الأحباش.
والأنصار يتسابقون إلى خطام الناقة ويقول: (هلم يا رسول الله إلى المنعة والقوة) وهو يقول لهم (خلوا سبيلها فإنها مأمورة).
ولم تلبث إلا قليلا حتى أناخت، لا في (المنعة والقوة) ولكن في مبروك (الأمن) ومناخ (السلام) حيث المربد الذي لسهل وسهيل أبني عمرو والذي اختاره نبي السلام منذ الساعة الأولى له بالمدينة دار السلام.
وتفرق المهاجرون على دور الأنصار، ونزل النبي مع رحله عندأبي أيوب الأنصاري، واجتمع بهم جميعا بدار سعد بن خيثمه، وأعلن (دستور السلام) منذ اللحظة الأولى فقال:
(يا أيها الناس، أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام).
وأسرع إلى موادعة يهود المدينة ليستل السخيمة من نفوس فلا يعكروا صفوا السلام، وعقد معهم معاهدة كتب في ختامها (وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان له الأمان ولليهود التأمين، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.
ثم التفت إلى الجماعة ينظم أمرها، ويجمع شملها، ويؤلف وحدتها، فابتنى (المسجد) ليكون بمثابة دار السلام لطلاب السلام، وكان بناؤه نقطة التقاء الهجرة والنصرة، فسرعان ما أصلح النبي فيه العلاقات بين الأوس والخزرج، وعجلان ما أنزل فيه التأييد من السماء (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين).
ودوى صوت بلال بالأذان للصلاة فكان دعاية لانتصار الهجرة وإذاعة لانتشار التوحيد، ومتى جلجلت البطاح بصوت (الله أكبر) وتجاوزت بصوت (لا إله إلا الله) عرف كل من لا يعرف أن هذه الهجرة الكبرى إنما جاءت لتوحيد الصفوف، ووحدانية المعبود، ووحدة الكلمة، وتلك هي العناصر الأساسية التي لا بد من أن يتألف منها السلام.
وتتابع المهاجرون أرسلا، والمسجد يغص بهم يوما بعد يوم والمسلمون والمؤمنون أخوين سواه في الهجرة أو النصرة وإنه ليوم خالد إذ يجتمع بهم نبيهم في هذا المسجد المبارك، ويسأل عنهم، فلم يزل يتفقدهم ويبعث إليهم حتى انتظم شملهم، ثم قال لهم:
- (إني محدثكم فاحفظوه وعده وحدثوه به من يعدكم، أن الله تعالى اصطفى من خلقه خلقا، ثم تلا (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) وإنياصطفي منكم من أحب أن أصطفيه، وأؤاخي بينكم كما آخى الله تعالى بين الملائكة. . قم يا أبا بكر. .)، وقام أبو بكر فجثا يديه فقال له.
- (إن لك عندي يدا الله يجزيك بها، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل، فأنت مني بمنزلة قميص من جسدي). وحرك النبي قميصه بيده. - (إذن يا عمر. .) فدنا، فقال له النبي:
(كنت شديد البأس علينا يا أبا حفص فدعوت الله أن يعز بك الدين أو بأبي جهل، ففعل الله ذلك بك، وكنت أحبهما إلى الله، فأنت معي في الجنة ثالث من هذه الأمة.)
وآخى بينه وبين أبى بكر في المسجد الذي أصبح بيت المحبة والتعارف، وصار المسلمون أرواحنا مجندة: إلى الله أسلمت الوجوه، وإلى الكعبة توجهت القلوب، وخلف رسول الله انتظمت الصفوف.
وأقبل سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف وقال له: يا أخي إني من أكثر الأنصار مالا، فأنا مقاسمك، وعندي امرأتان فأنا مطلق أحدهما، فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال عبد الرحمن وقد هاجر ولا مال ولا أهل: يا أخي بارك الله لك في أهلك ومالك.
كل ذلك من إشعاع الإيمان الذي انبثقت عنه الهجرة، ومن وحي المسجد الذي قال فيه النبي الكريم (من ألف المسجد ألفه الله)، وقال (إن للمساجد أوتادا: جلساؤهم، إن غابوا افتقدوا، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم، جليس المسجد على ثلاث خصال، أخ مستفاد، أو كلمة حكمة، أو رحمة منتظرة).
وتفيأ النبي ظلال السلام وأرفه منذ نزل بين الأنصار، لذلك قال في مقام الذكر والشكر (لولا الهجرة لكنت من الأنصار) الذين نصروه وأكرموا من معه (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. .).
ويتأكد هنا لكل منصف أن الهجرة الكبرى لم تكن إلا إسراء بالأرواح قبل أن تكون انتقالا بالأشباح، وبذلك تميزت (الهجرة الكبرى) إذ ارتفعت فيها الإنسانية من الهاوية إلى العلية، وخلفت فيما وراءها غريزة الوحش، وشريعة الغاب، ومضت في تصعيدها إلى القمة، وصدق الشاعر.
إذا ما علا المرء رام العلا
…
ويقنع بالدون من كان دونا
وسئل النبي: ما أفضل الإيمان؟ فقال: (الهجرة). فسئل وما الهجرة؟ قال: (أن يهاجروا من الضلال والعدوان في بلد أراد الله فيه للناس الأمن والسلام، وفيه البيت الحرام، (ومن دخله كان آمنا).
وظل النبي يحرس السلام، في يقظة وحكمة، فقد قتل قتيل بالمدينة ولم بعرف قاتله، فصعد
النبي المنبر وقال (يا أيُها الناس يقتل قتيل وأنا فيكم ولا يعم من قتله، لو اجتمع أهل السماء والأرض على قتل امرئ لعذبهم الله إلا أن يفعل ما يشاء).
ومر شاس بن قيس حبر اليهود بالأوس والخزرج وقد اجتمعت كلمتهم، فغاظه ذلك الائتلاف بينهم فقال: قد اجتمع بنو قيلة، والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، وأمر فتى من اليهود بالدس بين الأنصار، وظل بهم حتى تنازعوا وتوعدوا على الحرب، وخرجوا بالسلاح واصطفوه للقتال.
وعلم بذلك حارس الأمن السلام، فخرج إليهم فيمن كان معهم من المهاجرين وقال:(يا معشر المسلمين، الله الله، اتقوا الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم. .).
فعرفوا أنها من نزع الشيطان وكيد العدو، فبكوا وتعانقوا ثم انصرفوا مع النبي وقد نزل عليه (يا أيُها الذين آمنوا أن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى آيات الله عليكم وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى الصراط مستقيم، يا أيُها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) وإذ يقول نبي الرحمة (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم وجوه بعض) إنما يدل على أن الكفر هو العدوان وأن الإخاء هو السلام بل الإسلام الذي هو أن يسلم الله قلبك وأن يسلم الناس من لسانك ويدك).
ومضى على النبي عامان نشر فيهما لواء السلام على أهل المدينة واطمأنت فيه النفوس، وأصبحت آيات القرآن تخاطبهم (يا أيُها الذين آمنوا) وقد كان الخطاب بمكة (يا أيُها الناس) فما كان هذا التغير إلا عقب الهجرة التي تصافت فيها الصدور، وتوارت الشرور
فلما تألب اليهود والمنافقون والمشرقون على دعوة السلام، لم يكن بد من أن يتنزل على محمد الأذان بالجهاد (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. وإن الله على نصرهم لقدير) فكان الجهاد من لزوم ما يلزم السلام، شأنه الصفاء لا يرتجي إلا في غمرة العواصف والأعاصير، ولا بد دون الشهد من إبر النحل.
واليوم ونحن على باب سبعين عاما بعد ثلثمائة من الهجرة الكبرى، نرى أن للعالم كله العبرة كل العبرة، فما أحوج الإنسانية إلى هجرة السوء من كل لون، ونصرة الحق في كل حين، ودفع الشر والخصام بنشر الخير والسلام.
محمد محمود زيتوق
أبو دجّانة
للأستاذ محمد طلبه رزق
يطيب للمسلمين في ذكرى مولد الرسول أن يذكروا روائع أحداث الجهاد الأولى التي صاحب الدعوة للإسلام والمقرونة بآيات من العبقرية أو التضحية أو البطولة. ولعل حياة أبي دجانة البطل الفدائي من أخلد هذه الروائع وأبعدها أثراً في القلوب والنفوس.
وعلى أن تاريخ الجهاد الإسلامي ملئ بالبطولات الفذة والتضحيات العظمى والمواقف النبيلة، فإنني أشهد أن حياة أبيدجانة كانت من أعظم ما استهواني وملأ نفسي وقلبي روعة وتمجيدا لهذا البطل الذي اعتقد جازما - إن حقا أو غيره - أن التاريخ قد ظلمه وهضمه إلى درجة تكاد تكون دينهم، والذي لولاه ولولا فدائيته وبطولته لما تمت رسالة. ولرب قائل يقول: وكيف لأبي دجانة هذا أن يحفظ ذلك الدين العظيم ويكون سببا في إتمام رسالة الإسلام.؟ ولرب قائل يقول: وكيف لأبي دجانة هذا شريكا أكان أبودجانة هذا شريكا للرسول في نلقى تعاليم الدين؟ أكان ينزل عليه كما ينزل على الرسول؟ أكان الأمين الأوحد والنائب المفرد للرسول يؤثره بأسرار الدعوة ويأتمنه عليها؟
والواقع أن أبا دجانة كان مسلما من عامة المسلمين تفتح قلبه للدعوة الإسلامية وأشربت نفسه حبها، وتعلقت روحه بأهدابها. كان أنصاريا من أهل يثرب لي دعوة الحق ودخل في الدين بعد يقين صادق وأيما نعميق، وأحب الرسول حبا لا يوصف لفرط صدقه وشدته وإخلاصه. وهو قبل ذلك وبعد ذلك فارس بارع، خفيف الحركة، سريع الوثبة، يجيد المبارزة واللعب بالسيف والخنجر كما يجيد فنون الحرب الأخرى التي عرفها العرب آنذاك. وحين قرر النبي صلوات الله عليه. العمل على نشر الدعوة بقوة السيف ومقابلة عدوان جاحديها بمثله، كان أبودجانة من المسلمين نقص
ألفاً من الجنود تخذل من المنافقين والضعفاء ما يقرب من ثلثهم.
وينظم النبي جنوده ويجعل منهم رماة يحملون مؤخرة الجيش ويجعل مكانهم على الجبل ويقول لهم: (قوموا على مصافكم هذه، انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا قد هزمنا القوم وظهرنا عليهم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم). ثم يلتفت القائد الأعظم والزعيم المقدس إلى الآخرين يبثهم روح
الإقدام والتضحية، ويزودهم بنصائحه ويميل عليهم توجيهاته وإرشاداته ولا يدع سبيلا إلى حفرهم وتشجيعهم إلا سلكها؛ فهذا هو صلى الله عليه وسلم يرفع سيفه بيمينه ويعرضه على جنوده قائلاً: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ ويتهافت المؤمنون عليه، كل يبغي هذا الشرف الرفيع، حتى ينبري له أبو دجانة متحمساً مندفعاً فيقول عمر: هذا أبو دجانة الشجاع يقول إليه، فيقول أبو دجانة: نعم أنا أقوم إليه، ما حقه يا رسول الله؟. ويجيبه النبي العظيم: أن تضرب به حتى ينحني. فتزداد حماسة البطل ويردد أنا آخذه يا رسول الله بحقه. ويسر النبي لهذه الحماسة ولا يملك إلا أن ينوله السيف. وبتناول الفارس الشجاع السيف في فرح وثورة ويهزه في يده مردداً:
أنا الذي عاهدني خليلي
…
ونحن بالسفح لدى النخيل
إلا أقوام الدهر الكبول
…
أضرب بسيف الله والرسول
ويخرج من جيبه عصابة حمراء يعصب بها رأسه ويختال بين الصفوف كأنما هو ترقص، ويعجب المسلمون نشوة الفارس وفرحته بسيف الرسول.
وتبدأ المعركة بمبارزات فردية يكون صراعها جميعاً من قريش الباعية، ثم ما يلبث الجيشان أن يلتحما، وما تلبث قوات المسلمين أن تتقدم منتصرة مثخنة في جيوش العدو وأبودجاية في فرسان المؤمنين يتغنى بشعره، ويضرب الرسول يمنة ويسرة ما تنوله ضربة، ولا تخيب له طعنة، صرعاه يتجندلون ويخرجون عن يمين وشمال. . وتتراجع قوات قريش مروعة منهزمة متخاذلة وترى نساء المشركين وتراجع رجالهن وهزيمتهم فيصحن فيهم محمسات حافرات تتزعمهن هند بنت عتبة الموتورة في أبيها أحد قتلى بدر:
نحن بنات طارق نمشي على النمارق
أن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وأبو دجانة يصول ويجول في الصفوف يصرع المشركين ويروي بدمهم الأرض، وتعترضه هند هاتفه محرصة المشركين ويهاً بني عبد ويهاً حماة الأديار ضرباً بكل بتار
ولا يكاد يميزها أن كانت رجلا أو امرأة فيهم بقتلها، فتصيح مذعورة: ويلاه. وما إن يتميزها أبودجابة حتى ينحبها عن سبيله قائلا: أهي أن أنثى اذهبي قبحك الله. ويقول له
الزبير: بل اقتلها يا أبا دجانة فيرد أبو دجانة الفارس الباسل أو ترد رجولته الكريمة: إني أكرم سيف رسول الله أن أضرب به امرأة.
وتسير المعركة قوية ملتهبة نحو غايتها، ونكاد تنجلي عن نصر للمؤمنين مبين، وفوز لهم محقق، ولا يكاد يشك ذو عقل أو بصر في أن الهزيمة الساحقة الماحقة ستحل على جيوش الملحدين؛ وتؤيد جميع الشواهد والقرائن هذا المصر وتقرره، ويتضخم هذا الشعور بالنصر في قلوب المسلمين ويؤمنون به ويتأذى المشركين وتمتلئ قلوبهم بالحسرات واللوعات بعد أن رأوا معركتهم التي تأهبوا لها واتخذوا لها العدة ووطدوا عزائمهم على أن يجعلونها انتقاما ومحور للعار الذي لحقهم في بدر، تدور عليهم وتنقلب ضدهم.
ولكن. ولكن - ولعن الله لكن هذه - هاهي فصيلة الرماة المسلمين التي ناط بها قائد المسلمين وزعيهم الرسول حماية المؤخرة يرى أفرادها انتصار إخوانهم وتقهقر المشركين أمامهم تاركين متاعهم غنائم وأسلابا. وهاهي الغنائم والأسلاب تلمع في أعين هؤلاء الرماة فتسيل لعابهم وتجعلهم يفكرون فيها وفي موقفهم هذا الثابت، وفي تلك الأوامر الحاسمة الصارمة الموجهة إليهم بضرورة ثباتهم مها رأوا من انتصار جيشهم وتقهقر عدوهم. ولكن أية نفوس تلك التي ترى هذه الغنائم والأسلاب الكثيرة الوفيرة وترى أكثر من هذا وذاك إغراء الشيطان، وثراء الحياة يساق هينا لينا ليس بينهم وبينه إلا أن يتحركوا وينقضوا لتحفظ لهم حقوقهم وأنصبتهم من أن يغتالها رفاقهم المنتصرون أو أن يبخسوا بعضها. وما هي إلا أن تضعف نفوسهم وينتصر الشيطان وتبرق الدنيا في عيني أحدهم فيصيح من أعماقه: الغنيمة. . وتهز صيحته بقية الرماة. . وإذا هؤلاء الرماة حماة المؤخرة، يخالفون عن أمر قيادتهم، لا رغبة في العصيان والمخالفة، وإنما خاطئا بأن النصر قد صار في جانبهم ويندفعون جاعلين همهم جمع الغنائم والأسلاب من متروكات جيش المشركين المنهزم.
وفي المشركين يقظة وحسرة، وفي قلوبهم نار تأجج حقدا وحفاظا لأهليهم وعشيرتهم الذين ذهبوا في بدر، وإذا هذه اليقظة وذلك الحقد يبصر بالثغرة الجديدة التي انفتحت في مؤخرة المسلمين المنتصرين، وإذا فلولهم تتجمع وتحتشد وتتجه نحو الثغرة!
ويريد الله أن يمتحن المسلمين ويبلوهم، وأن يجزيهم جزاء مخالفتهم، ويريد عاقبة عصيانهم
لأوامر قائدهم ورسولهم، ويبصرهم بخطئهم وطمعهم في عرض الدنيا الذي رجوه، وهم المؤمنون الذين خرجوا من ديارهم وأهليهم قد بايعوا الله ورسوله أن ينصروا دينه وباعوه أرواحهم بأن لهم الجنة وليس أسلاب الحرب وغنائمها. . يريد الله ذلك، ويشاء الله إلا أن تكون إرادته تلك رائعة قاسية بعيدة الأثر في نفوس المسلمين جميعا، ويتمثل كل ذلك في أن يمكن لفلول قريش المتجمعة من أن تنفذ في جيوش المسلمين من الثغرة التي كشقها الرماة في المؤخرة، وأن تنال قريش الباغية المشركة منهم ونثخن فيهم.
ويرى النبي صلى الله عليه وسلم هجمة الأعداء المفاجئة من الخلف، فيدرك خطيئة الرماة ويعرف من ابن أتى الشر، وكيف انهارت الخطة الحكيمة التي رضعها وأمر بها. ويرتاع المسلمون ويأخذهم الروع والجزع ويظنون أن جيوشا أخرى جديدة للمشركين قد أخذتهم من خلف فيضعفون ويدب الفزع بينهم، فيفر منهم من يفر، ويتخاذل منهم من يتخاذل، والنبي العظيم يستنفرهم ويثبتهم ويعدهم النصر، وينادي فيهم أن اثبتوا وكافحوا، ولا يدع سبيلا لحفزهم ودفعهم للصمود والجلاء دون أن يسلكها!.
ويكثر عدد القتلى من المسلمين ويسقط فيهم أعلام من فرسانهم الصناديد ويشاء الله إلا أن تبلغ العظمة والعبرة أعظم مبلغ وأروعه حين يبقى الرسول في عشرة من صحبه ينافون معه وهو يرمي بسهمه حتى يصير شظايا. . ويقترب المشركون منه ودونه اثنان سعد بن أبي وقاص ومصعب بن عمير يذوبان عنه وأم عمارة لمسلمة المؤمنة تقبل فترى ذلك فترمي سقاءها وتنتزع سهم أحد القتلى وتنفح به الرسول العظيم. . ويقبل أبودجانة فأي إقبال البطل الذي حارب الرسول وأدى حقه فقاتل به حتى تقوس، وحتى امتلأ جسمه بالجراح والطعنات. . ويرى أبو دجانة النبي الكريم في هذا الموقف العسير ويرى أحد المشركين الأنذال وهو يضرب أم عمارة المرأة المسلمة على عاتقها فيرديها!. . ويهم أبودجانة لينافح عن الرسول، وكيف له ذلك وسيفه قد انحنى وتقوس، وجسمه قد تمزق وتجرح، ولكنه يرى النبي الكريم هدفا لنيل الكافرين الفاجرين، ولكنه يريد أن يسجل أروع أمثال التضحية والفدائية أعظم تسجيل وأدقه، فها هو يندفع نحو النبي العظيم وينكفئ عليه حاميا له بجسده متوسلا إليه بقوله: دعني يا رسول الله أترس دونك بنفسي، لقد ولى الناس عنك وهذا نبل العدو يصل إليك. ويقول له الرسول العظيم مشفقا: إن النبل يقع في ظهرك.
ولكن أبا دجانة المسلم الصادق الإيمان والفدائي الذي باع روحه ونفسه لله لا يحس ألما للرميات الكافرة المجنونة ويستعذبها ويرد على النبي العظيم بآخر ألفاظه: لا بأس. ويظل ظهرأبيدجانة يتلقى النبل حتى يمتلئ، وحتى لا تبقى فيه نقطة واحد دون إصابة قاتلة!. .
ويتأذن الله أن تمر المحنة القاسية والدارس الرادع، وتنجلي معركة أحد الخالدة وقد نجا النبي العظيم من القتل فسلم للمسلمين بنجاته دينهم، وتمت بذلك للمؤمنين رسالتهم، وكما دينهم، وبلغ الكتاب أجله بعد العظة الرهيبة العميقة التي كان من أعظم آثارها فدائية هذا الإنسان الفذ أبو دجانة. .
قلت لصاحبي وهو يتحدث كالسيل المنهمر وحديثه يفيض من أعماقه؛ حسبك يا صديقي فقد والله بلغت بحديثك هذا من نفسي ومن قلبي أعظم وأروع ما يمكن أن يبلغه أكبر الدروس وأخطر العظات، وما أرى إلا أنك محق في لومك للقائمين على شؤون التعليم والتثقيف والتجنيد أكبر اللوم لنسيانهم تخليد ذكر هذا البطل والمثل الحي الذي يظل حيا مدى الدهور. . .
محمد طلبه رزق