المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 914 - بتاريخ: 08 - 01 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩١٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 914

- بتاريخ: 08 - 01 - 1951

ص: -1

‌طه حسين باشا

رجلان مصر في مصر كلها جاءتهم الباشوية بعد أن أكبر عليها وضاقت عليهما: طلعت حرب وطه حسين!

رفع طلعت حرب قواعد الاقتصادي المصري على أربعة عشر أساً من بنك مصر وشركاته، فارتفعت مكانته في نفوس الناس حتى تهيبوه في اللقاء والخطاب، ورأوا لقب (البك) قد نزل عن قدره فاختالوا على تعظيمه بشتى الألقاب فقالوا: منقذ مصر العظيم، وزعيم الاستقلال الاقتصادي، وبطل النهضة القومية فلما أتته الباشوية آخر الأمر كانت أشبه بثوب الصبي الناشئ على جسم الرجل المكتمل.

ووثب طه حسين بالتعليم في مختلف درجاته وثبة وجد كل مصري أثرها، في نفسه إن كان معلماً أو تلميذاً، وفي أسرته أن كان أباً أو أولياء، وفي بيئته أن كان جاراً أو صديقاً. ثم رحل إلى أوربا رحلة في سبيل الوطن، ومن أقوال أكثر السفارات في الخارج! كان في تنقله المبارك الموفق من بلد إلى قطر، ومن معهد إلى جامعة، ومن عالم إلى وزير، ومن حديث إلى خطبة، ومن خطبة إلى محاضرة، دعاية لمصر من نوع فريد صحت ما افتراه على كفايتها العدو، وأصلحت ما جناه على كرامتها الصديق، وسمت بحكومتها القائمة من الأفق المنخفض للمفاوضة في الأرصدة الإسترلينية والمطالب القومية، إلى الأفق المرتفع للمعاونة على توثيق العلائق الإنسانية، وتعميم الثقافة العالمية؛ فرأى الناس في الوزير الذي جعل وزارته مبدأ تاريخ، وفي الجامعي الذي خلق لنا من مهرجان الجامعة أوسع دعاية، وفي الأديب الذي هيأ للأدب أعظم نهضة، رجلاً لا يسامت قدره لقب (البك)، فتوجوا أسمه الغني عن التتويج بالألقاب المختلفة فقالوا: عميد الأدب العربي، وأبو التعليم، وحامي المعلمين، وبطل الثورة الفكرية. فلما أتته الباشوية آخر الأمر كانت أشبه بطوق عمرو وحين شب عنه وربا عليه!

لم يكتسب طه حسين من لرتبة ما يكتسبه عادة فقير المجد أو غنى الحرب من ورم في المعنى وانتفاخ في الذات؛ وإنما أكتسب منها دلالتها السامية على تكريم ملكه وتقدير أمته. وتكريم صاحب الجلالة الفاروق لذوي الفضل شيمة من شيمه، وفيض من كرمه، فلا غرابة فيه ولا عجب منه. ولكن تقدير الأمة لرجل من رجالها على هذه الصورة الرائعة وبهذا الإجماع النادر أمر فيه الغرابة ومنه العجب.

ص: 1

لقد كان الأنعام السامي على صاحب المعالي طه حسين باشا لفته كريمة من صاحب الجلالة أعلن بها رضا عن وزير من وزارته نفذ أمره في خطاب العرش، وأمضى رأيه في سياسة الدولة؛ كما كان فرصة مواتية لهذا الشعب الكريم عبر فيها عن اعترافه بالجميل لرجل من رجاله عمل فأخلص العمل، ووعد فأبحر الوعد، وقاد فأحسن القيادة!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌عميد الأدب العربي منذ أربعين سنة

طه حسين الشاعر

للأستاذ محمد سيد كيلاني

عرف الناس طه حسين كاتباً وقصاصاً وعالماً وباحثاً وإسناداً ومربياً ووزيراً، ولكنهم لم يعرفوه شاعراً، ومن هذا المقال سيعلمون أنه عالج الشعر في صباه ثم انصرف عنه في شبابه. فلو ظل يعالجه لظفر بالأولية فيه كما ظفر في كل شيء.

بدأ معالي الدكتور طه حسين باشا حياته الأدبية شاعراً لا كاتباً. فلهج بالشعر وهو صبي وكان الدافع على ذلك وفاة أخيه في وباء الكوليرا في صيف عام 1902 وقد ذكر ذلك في الجزء الأول من كتاب الأيام فقال أنه كان ينفق وقتاً طويلاً في نظم القصائد يرثي بها أخاه ويختم كل قصيدة بالصلاة على النبي واهباً ثواب هذه الصلاة إلى أخيه. ولم يدون لنا هذا الشعر فلا نعرف عنه شيئاً.

ولما جاء القاهرة ظل ينظم القصائد من حين إلى حين. وقد حدث ذات مرة أن الشيخ المرصفي كلف تلاميذه بالكتابة في موضوع من الموضوعات شعراً ونثراً. قال الشيخ أحمد حسن الزيات أستاذ الآداب العربية بكلية الفرير بالقاهرة من خطبة ألقاها في حفل تكريم الدكتور طه نبيل الدكتوراه من الجامعة المصرية القديمة ونشرت بصحيفة الجريرة في 26مايو سنة 1914ما نصه (. . . فأخذنا نعمل موقنين أن الفتى (يعني الدكتور طه حسين) أن يبزنا في نثر الكلام ونظمه، وأن بزنا في حفظه وفهمه. ولكن ما تقولون وقد فدا على الشيخ بقصيدة حماسية الموضوع جاهلية الأسلوب تمثل ما انطبع في خاطرة من صور الشعر القديم؟

(سمعنا تلك القصيدة فازدرينا أنفسنا وسترنا ما قلنا وشعرنا بالضعف أمام تلك القوة النادرة. فأحلنا منا محل الإنسان من العين والسواد من القلب ومضينا على أثره نخوض بحور الشعر فتارة نطفو وأخرى نرسب وهو في السباحة ماهر وبالطريق خبير. . . الخ)

والظاهر أن هذه القصيدة التي يحدثنا عنها الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات قد ضاعت وذلك لأن الشاعر لم يكن متصلاً بالصحف في الوقت فلم تنتشر.

وأول قصيدة نشرها كانت في رثاء حسن باشا عبد الرازق وقد ظهرت في صحيفة الجريدة

ص: 3

بتاريخ أول يناير 1908ومطلعها.

أفي الحق ما أسمعتنا أم توهما

تبين فقد بدلت أدمعنا دما

والحب بين الشاعر وبين آل عبد الرازق قديم. وقد توثقت أواصر المودة والإخاء بينه وبينهم على ممر الأيام. ولما وقف منذ أعوام يرثي المغفور له مصطفى باشا عبد الرازق كان رثاؤه مؤثرا إلى حد بعيد.

وفي عام 1909 رأينا الشاعر قد مال إلى جانب الحزب الوطني وأخذ ينشر في صحيفة مصر الفتاة قصائد حماسية تارة تحب عنوان (حديث مع النيل) وتارة تحت عنوان (في القاهرة) وفي بعض هذه القصائد يظهر في مظهر رجل الدين الذي ملئ قلبه يقينا وإيماناً فتراه يعظ ويرشد، ويذكر ويحذر، ويبصر وينذر، ويدعو الناس إلى التمسك بأهداب الدين وأحكام الشريعة الغراء، انظر إليه حين يقول من قصيدة نشرت في صحيفة مصر الفتاة بتاريخ 26أغسطس1909.

أنفذوا حكمة على كل جان

لا ينلكم من دون هذا فتور

أرجو واجلدوا كما أمر الل

هـ يجانبكمو الخنا والفجور

إن من يهدر الفضيلة يهدر

ليس كفأ لذنبه التعزير

طرب النيل ثم قال لعمر الل - هـ قد كان يزدهيني السرور

أمحب للدين من أهل مصر

أنت والله للنجاة بشير

نسيت مصر دينها فعداها

كل خير وجللتها الشرور

أهملت فيكم الفضيلة من أه

مل فيكم كتابها المسطور

لن ترى بين أهل مصر وفيا

يقتضيه الوفاء إلا البدور

عهدنا بالوفاء أيام كان الد

ين غضا تلين منه الصدور

وكان يكتب مقالات تدور حول هذه. المعاني. ومن أمثلة ذلك ما نشره في صحيفة مصر الفتاة تحت عنوان (ويحي من غد بمناسبة حلول شهر رمضان. ومما جاء في هذا المقال قوله: (. . . فستطلع علينا شمس الغد لا محالة ونحن بين رجلين، مذعن لأمر ربه، وخارج عليه. فأما الذين أمنوا وعملوا الصالحات فقلوبهم خاشعة لربهم، وأفواههم ملجمة إلا عن ذكره، ناطقة إلا بلغو الحديث. وما الجاهلون لأمر ربهم فمغررون يتبعون أئمة من

ص: 4

شياطين الإنس ينهجون بهم مناهج ألغى قد ضربوا في الفلسفة حتى خرجوا منها أصفار الأكف خفاف العيان. وإذا سألت أحدهم ما خطبك أهذا وأهجر، وتشدق وتفيهق، لا تأخذه رهبة من الله، ولا يردعه حياء من نفسه، ليس بدعا من أعمال الناس أن يزرع الإنسان نفسه عن الطعام والشراب ساعات معدودات فكثيراً ما نضطر إلى شيء من ذلك؛ وإنما المشقة في أن نؤدي حقا لله أو نقضي به له واجباً.

(ضعف في الإيمان وتزعزع في العقيدة. ولو كان هناك يقينا صادقاً أو قلوبا مطمئنة لهان علينا لإذعان لله والقيام بحقوقه وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين. ليصم من شاء وليفطر من شاء فلسنا من أمرهم في شيء. ولكن أقبل أبها الشهر الكريم فستلقاك وجوه باشة وصدور رحبة، ولئن كنت موسم نسك لقوم فإنك موسم لهو لآخرين)

والشيء الذي لا ريب فيه أن الشاعر حينما نظم هذه القصائد وكتب هذه المقالات لم يكن متكلفا ولا متصنعا، وإنما كان يرسل الفول شعراً أو نثراً - عقيدة ثابتة في قرارة نفسه، ممتزجة بدمه ولحمه لذلك انتفعت في دراستي لتطوره الفكري بما نظم ونثر في ذلك الوقت.

ومن قوله في هذه القصيدة:

حسبكم في الآداب ما قاله فل

تير أو ما أتى به فيكتور

نعم ما قال هذا

ونعما قال العليم الخمير

فخذوا من كلبهما بنصيب

وتوخوا هداهما تستنيروا

والظاهرة الغالبة على شاعرنا هي الدعوة إلى الجد وترك اللهو والخمول والكسل. وهو يدعو إلى العمل المتواصل المنتج على أن نقلل من الكلام ما أمكن. وكان ساخطا على المجتمع المصري لما فيه عيون كانت سببا في تخلف الأمة وتأخرها. ولكنه على سخطه وتبرمه لم يكن متشائما ولا يائسا. بل كان الأمل يحدو والرجاء في نهضة الأمة يملأ فؤاده. أنظر إليه حين يقول من القصيدة المتقدمة.

كثر المدعون في مصر حتى

كاد يقضي على البلاد الغرور

حسبكم يا بني الكنانة عجبا

كسل مخجل وفخر كثير

ليكن قولكم أقل من الفع

ل فلن يبلغ العلاء فخور

ص: 5

أجمعوا إن أردتم السير للسؤ

دد والمجد أمركم ثم سيروا

أو يقول من قصيدة أخرى نشرت في الصحيفة المذكورة بتاريخ 18مايو سنة 1909.

كاتب نائم وذو الشعر لاه

وأديب سبته كأس الشمول

شاعر النيل لا عدتك العوادي

هل لهذا السكوت من تأويل

أسلموا دارهم وعقوك يا ني

ل فما إن لهم سوى التنكيل

فض فأغرقهمو فإنت حليم

غض فأهلكهمو وغير بخيل

فظاهرة السخط الشديد هذه لن تجدها عند أحد من شعراء ذلك العصر فمما لا ريب فيه أن الطالب طه حسين قد انفرد بها دون سواه. لا يزال محتفظاً بها.

والدكتور طه حسين لا يعرف القناعة بل يعتبرها ضعفاً وخوراً. وقد نشأ على تلك العقيدة كما ترى من شعره فهو من غير شك صاحب روح قد بلغ الأوج في السمو والرفعة. فجدير بنا أن نسلك سبيله ونهتدي بهديه. وإني بهذا أقرر حقيقة من الحقائق.

قلنا إن الطالب طه حسين انضم إلى الحزب الوطني وأصبح داعياً من دعاته. وقد ظهر أثر ذلك في شعره فتراه يحمل على المحتلين حملة شعواء ويهاجمهم هجوماً عنيفاً، ويدعو إلى كفاحهم وجهادهم، ويظهر مقته وحقده على الأجانب الذين يمتصون دماء المصريين ويستنزفون أموالهم. ومما نظمه في ذلك قصيدة قيمة نشرت بمصر الفتاة بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1909 تحت عنوان (هم جائش).

تيمموا غير وادي النيل وانتجعوا

فليس في مصر للأطماع

كفوا مطامعكم عنا أليس لكم

مما جنيتم وما تجنونه شبع

يا للكنانة من منكود طالعها

ماذا يجر عليها النوم والطمع

من مثل أبنائها في سوء صفتهم

منها إذا ما اجتنوا من غرسهم وزعوا

هم الذين ابتنوا بالأمس واحتفروا

فما لهم إن أرادوا حقهم دفعوا

لا يصنع الله للمستعمرين فكم

يلقى بنوا النيل من جراء ما صنعوا

أكلما جاع غربي تيممنا

حتى إذا اكتظ أغراه بنا الجشع

لا جاد مصرحياً. لا أخضب أبداً

فحظ أبنائها من خصبها الضرع

يا نيل إن سغت للمستعمرين ولم

تطب لأبنائك العلات والجرع

ص: 6

فلا جرت ولا رويت ذا ظمأ

ولا أمدك غيث واكف همع

ومنها:

الذنب ذنب بني مصر فإنهم

الذين إذا ما استخضموا واخضعوا

هم الذين استبدت في حقوقهم

يد الدخيل فما ذادوا ولا منعوا

هم الذين يقول الناس إنهم

إن صادفوا ملهيا عن جوعهم قنعوا

لا أكذب الله كم فينا ذوو شمم

إذا أريدت بهم مكروهة فزعوا

هذه القصيدة قيلت في أيام الوزارة البطرسية، وقد كان شعور السخط عليها شديداً. ولما كانت هي مجرد آلة في يد المحتلين كانت حملات الشعراء والكتاب موجهة في الحقيقة إلى السياسة البريطانية وإلى الأجانب الذين يسندون هذه السياسة ويشدون أزرها ولا شك في أن روح الشاعر قد بدأ سامياً. ومما لا شك في محيط الحزب الوطن قد أثر فيه وطبعه بهذا الطابع.

وقد هنأ الشيخ عبد العزيز جاويس حينما خرج من السجن بقصيدة نشرت في مصر الفتاة بتاريخ 23 نوفمبر سنة 1909 نذكر منها:

الآن حق لك الثناء

فلتحي فلتحني وليحي اللواء

ولتحي مصر وحقها

شاء العدى أو لم يشاءوا

تعلو بها أصواتها

حتى ترددها السماء

ومنها:

إن كان ذكرك للجلا

ء يسوء فليكن الجلاء

أو كان صوت الشعب عن

دهم هو الداء العياء

فليعل صوت الشعب حتى

يرجعوا من حيث جاءوا

سيرون أن الحق يأ

بى أن يدوم له خفاء

سيرون أن الحق مه

ما يهتظم فله العلاء

لم يسجنوك وإنما

ردوا الأمور كما تشاء

ما إن أصابتك الإساءة

بل لأنفسهم أساءوا

هذا هو الجانب السياسي في شعر الطالب الشاب طه حسين. وهو جانب مشرق، ترى فيه

ص: 7

الشجاعة والإقدام والدعوة إلى التضحية بالمال والروح في سبيل الوطن والذود عن حياضه.

ولما عاد الخديوي عباس من الحجاز نظم الشاعر قصيدة نشرت في الجريدة بتاريخ 26 يناير سنة 1910 تحت عنوان (رجاء الدستور بعد الحج المبرور) ومما جاء فيها قوله:

أنت والدستور في الح

ب لديها أخوان

ونرى حجك باليم

ن لها نعم البشير

كن لوادي النيل حصنا

من عوادي الحدثان

وامنح الدستور مصراً

أنت إن شئت قدير

هل سمعت الصوت يدعو

ك من القبر الكريم

إنما أنت على النا

س وصي وأمين

لا تذدهم عن صراط ال

حق والنهج القويم

أرض بالدستور مصراً

ترض رب العالمين

وقد حاول الشاعر أن يخاطب الخديوي عن طريق العاطفة الدينية، فذكر القبر النبوي الكريم وأن النبي دعا الخديوي أئلا له إنما أنت وصي وأمين على الناس فاجعلهم يسلكون الصراط المستقيم ولا يكون هذا بغير الحكم الدستوري. فإن أنت منحت شعبك الدستور فقد رضى الله عنك، وإن حلت بينهم وبين ما يشتهون فقد عرضت نفسك لغضب الله ولا ينفعك حج ولا صلاة.

ننتقل بعد ذلك إلى الشعر الوجداني الذي نظمه الشاعر وصور فيه خلجات نفسه وما يتردد بين جوانحه من مشاعر مختلفة وأحاسيس متباينة كالرضى والسخط، والحزن والفرح، والتفائل والتشائم، والحب والبغض. فمن ذلك قصيدة نشرت في مصر الفتاة في 15 يناير سنة 1910 تحت عنوان (يوم القرآن) وقد قدم لها بقوله:(دعيت إلى حفل أقامه صديقي الأديب الأستاذ الشيخ أحمد حسن الزيات مساء الخميس الماضي لعقد قرائه. فلما أجبت الدعوة راقني ما كان في الحفل من جمال ولا سيما ذلك النوع من الغناء القديم الذي طالما اشتقت إلى سماعة)

قال:

ص: 8

يا خليلي سلامي

حبذا يوم القران

حبذا أمس فقد أد

نى نوالا غير دان

حبذا ليلة أمس

راق لي فيها زماني

ليلة قد نلت فيها

من حظوظي ما شفاني

أنا لا أحمد منها

حسن توقيع الأغاني

إنما أحمد منها

حسن أنسى بفلان

لم أزل أقصف حتى

خلت أني في الجنان

بينما نحن على ذ

لك زف القمران

آه يا زيات ما أج

مل ساعات الأماني

هن قد هجن لنفسي

ذكر سحر وعنان

أنا لولا سوء حظي

لم أكن إلا ابن هاني

يا شقيق النفس ضاق

الشعر عن نظم التهاني

لا تلمني إن دعوت

الشعر والشعر عصاني

جل حبي لك يا زيات

عن وصف البيان

ومن الظواهر التي نقف عليها في شعره الشكوى من البؤس وهذا النوع من الشكوى كان مألوفا بين الشعراء في تلك الأيام. ومما في هذا الصدد قصيدة نشرت في مصر الفتاة بتاريخ 27 نوفمبر سنة 1909 تحت عنوان (شكاة الأديب) وقد جاء فيها:

إذا شكا البؤس كل ندب

فقد نجا منه شاعران

بيننا نعانيه كان شوقي

يقصف في كرمة لبن هاني

وحافظ في قطار يلهو

مشرود الهم غير عاني

أذاك أم مسه شقاء

فانتجع الوصل المداني

ثم أنثى وهو بالصفايا

من صلف الدهر في ضمان

فليطلب الشاعران نفسا

إنا رضينا بما نعاني

ما سرني ساعة كبؤسي

والأدب الغض صاحبان

ويقول في قصيدة أخرى نشرت بمصر الفتاة بتأريخ أول أكتوبر سنة 1909.

ص: 9

علم الله أن حظي في البؤ

س كبير لكنني غير عاني

كل حظي من السعادة أني

رضت نفسي على خطوب الزمان

وغشى الشاعر أحد الملاهي مرة فكتب في الجريدة بتاريخ 31 يوليو سنة 1911 فقال (كنت منذ أيام في ملهى من الملاهي العامة التي يجب أن تتخذ مثالاً صادقاً لذوق الجمهور، وقد يكون هذا التصريح خطراً جداً، فإن الجمهور لا يقبل من كاتب مثلي أن يزج نفسه بين صفوفه في المراقص وأندية الغناء، بل إن أسرتي نفسها قد تنكر على ذلك أشد الإنكار لأنها لا ترضى مني إلا أن أسلك سبيلاً واحدا هو ما بيت البيت والمدرسة.)

وله شعر في الغزل يغلب على الظن أنه من وحي الخيال كقوله من قصيدة نشرت في مصر الفتاة في 27نوفنبر سنة1909.

كم حمد الغيد من بلائي

مذ كان لي بالهوى يدان

تحكم الغيد في دهراً

ثم انثنى عنهم عناني

لا أكذب الله إن عاماً

مضى حثيثاً بلا تواني

إذا تذكرته استهلت

دموع عيني كالجمان

إذ أنا في لذة وأمن

أباكر اللهو غير وأني

أرضيت بالطيبات نفسي

في غير إثم ولا افتنان

ما أخذ الكاتبان سوءا

يذودني عن ربي الجنان

إن كان في قبلة جناح

فإنني منه في أمان

لم أستبح نيلها فجوراً

بل قل بالحل (مفتيان)

قد نلتها واستزدت منها

لو بعض مل نلته كفاني

ثم طوى الدهر ذاك عنا

ليت الردى قبلها طواني

وهو حتى في هذه القصائد التي يتغنى فيها بالحب والجمال ويتحدث عن الحسان كان يدعو إلى التمسك بأهداب للفضيلة انظر إليه حين يقول من قصيدة نشرت بالجريدة في 14 فبراير سنة 1910 تحت عنوان (زلة في الحياة).

أي هذا العاشق المد

نف حب الحق أولى

دونك العشق إذا ش

ئت ولكن للفضيلة

ص: 10

أنا أنهاك من الأه

واء عما كان جهلا

إنما أربأ بابن الني

ل عن حب الرذيلة

وكثيراً ما دعا في شعره إلى هذا النوع من الغرام وتراه يدافع ويناضل عن مذهبه الغرامي ويرد على من ينكر عليه ذلك مسفهاً رأيه، ومثال ذلك قولة من قصيدة نشرت في مصر الفتاة بتاريخ 7 يناير 1910 تحت عنوان (ليت للحب قضاة)

سيقولون حرام

قلت ليست بحرام

إنما حرم ربي

في الهوى ما كان رجسا

أي دين أو كتاب

لم يبح ورد الغرام

لا شفى الله لأهل الم

ين والتضليل نفسا

ثم يستمر الشاعر في قصيدته فيبين لنا الحب الطاهر والحب المدنس؛ فالأول لا يحرمه دين من الأديان، أما الثاني فمحرم قطعا. وهو إن تعني بالحب فإنما يقصد ذلك الحلال المباح. ثم أحذ يحذرنا من خداع النساء تحذيراً زعم أنه صادر عن تجربة واختبار قال:

إن للغيد خداعا

ربما فات الفطن

أنا قد جربت منه

إن تصدقني صوفا

ليس يكفي غدرات

الغيد قوال لسن

إنما بأمن مكر الغي

د من كان شريفا

ولم أر لصاحبنا شعراً في غير الأغراض المتقدمة، اللهم إلا قصيدة واحدة في الهجاء نشرت في الجريدة بتاريخ 28نوفمبر سنة 1911 تحت عنوان (إلى عبد الرحمن شكري) وهي:

قل لشكري فقد غلا وتمادى

بعض ما أنت فيه يشفي الفؤادا

بعض هذا فأنت في الشعر والن

ثر أديب لا يعجز النقادا

لو تفهمت قولنا لم يكلف

ك هوى نقدنا الضنى والسهادا

عد إليه تجد شفاءك فيه

إنما نمقت الحديث المعادا

واقتصد في الغلو إن لدينا

إن تسائل بنا نصالا حدادا

خل عنك القريض إذ لست أمضي

فيه سهما ولا بأوري زنادا

ص: 11

إن تكن مكثراً فرب مقل

حاول القول مرة فأجادا

كن إذا شئت آمناً مطمئنا

لم نحاول لما تقول انتقادا

ذلك شعر طه حسين أيام كان طالباً بالأزهر منذ أربعين سنة وهو يدل على أنه نشا شاعراً بالفطرة وقال الشعر وهو صبي، وأخذت شاعريته تنمو نمواً مطرداً سريعاً يصاحبها إحساس فياض وعواطف حارة وشعور متدفق. وقد شهد له إخوانه في الأزهر بذلك وأقروا له بالسبق واعترفوا بفضله وتفوقه عليهم. وكثيراً ما تجد في نثره سمات الشعر.

أما شهره فقد كان فيه مجداً مبتكراً. قال الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات في خطبته المتقدمة (بعد عامين من هذا التاريخ (يقصد بعد عام 1905) استطاع بطلنا أن ينزل الشعر، على حكمه ويروضه لذوقه فصاغ الشعر الحضري العصري في مختلف الأوضاع، لأنه وإن كان محافظاً في اللغة فإنه حرفي الشعر؛ رأى ما يثقل الشعر العربي من قيود القافية فوقع في نفسه أن ينفس عنه فاخترع له الأضرب المختلفة والقوافي المتنوعة على نحو ما يصنع الإفرنج في شعرهم، إلا أن شعره أجمل وأكمل لاحتفاظه بالذوق العربي والطابع الشرقي.) وهكذا أراد الشاعر الناشئ أن يخفف من قيود الشعر العربي وأن يجعله سهلا مرنا لا يحتاج إلى عناء وتعب. وقد شاع هذا المذهب عند بعض الشعراء في تلك الأيام.

وشعر الطالب طه حسين يفيض رقة وعذوبة، وقصائد الغرامية أسبه بالأدوار الموسيقية والمقطوعات الغنائية، عليها مسحة فنية جميلة، فكأنها قيلت للغناء. أنظر إلى قوله:

شادن عطف

عطفه الحبيب

بعد أن صدف

صدفة الملول

كم سبي

قوله الخلوب

يملك القلوب

ثم لا ينيل

كل ذي السهود

منه بالنوال

إن في الجمال

عثرة الجدود

فأنت ترى شعراً غنائياً جميلاً، ينبعث منه صوت حنون نكاد نرقص منه طرباً. وقد ظهر الشاعر أمامنا ممسكا بقيثارته ليحرك مشاعر ويهز عواطفنا ويملك قلوبنا بهذه الأنغام العذبة

ص: 12

والشيء الذي نأسف له هو أن الشاعر قد اضطرته الحياة الجامعية إلى التخلي عن صوغ الشعر. فبعد عام 1910 لا نجد له من القصائد إلا النادرة. ولكنه ظل محتفظا بشهرته كشاعر إلى عام 1914 وهو العام الذي سافر فيه إلى أوربا. وقد رأينا الأستاذ الزيات يقول في خطبته التي ألقاها في صيف ذلك العام ما نصه.

(. . ولولا أن شعره مشهور مذكور لأوردت منه المعجب المطرب. .)

ولكن الشاعر منذ سافر إلى أوروبا في عام 1914 لم نر له ولا بيتا واحدا. فقد هجر القريض هجرا تاما. ونسي الناس هذا الشاعر الموهوب، بل ربما يكون هو نفسه قد نسي شعره.

محمد سيد الكيلاني

ص: 13

‌الجامعة في ربع قرن

للأستاذ محمد محمد علي

تحتفل جامعة فؤاد الأول بمرور ربع قرن على مولدها الرسمي السعيد. وربع قرن أمد بعيد في عمر الأفراد، ولكنه ليس كذلك في حياة الجامعات. فقد احتفلت جامعة مونبلييه بعيدها الألفي ولماذا نذهب بعيداً وأمامنا الأزهر الشريف؟

وليس من شك في أن الجامعة عنوان تقدم المجتمع، وأن أثرها بعيد في إعداد الشباب لخدمة الوطن والمساهمة في حل مشكلاته والتحمس لإصلاحه.

وقد اتخذت الجامعة لها مقرا على الضفة الغربية للنيل. وفي ذلكم - كما رأى الدكتور زكي مبارك - رمز لما تسمو إليه من نقل عقل الغرب إلى روح الشرق.

أنشئت الجامعة (الأميرية) في عام 1925 بلا أهداف واضحة ومن غير رسالة محددة. وهنا يواجهنا أستاذنا الدكتور عباس عمار بتلك الحقيقة المرة؛ وهي أن النظام الجامعي يبدو أنه فرض علينا فرضا، فلم يأت كما حدث في كثير من بلدان العالم الغربي نتيجة تطور طبيعي، وما دعت إليه وقتئذ حاجة ماسة. (وليس أدل على ذلك من غموض النص على اختصاص الجامعة في اللائحة التأسيسية لها. فمن اختصاصها مهمة تشجيع البحوث العلمية والعمل على ترقية الآداب والعلوم في البلاد.

ذلك أن النظام الجامعي - ككل نظام اجتماعي - لكي يؤتى أكله ويستسيغه الأفراد، لا بد أن يعبر عن الاتجاهات الحديثة التي يتجه إليها المجتمع، وأن ينسجم مع النظام الاجتماعية الأخرى ويتفق مع وجهة المجتمع. ولقد أثار الأستاذ الكبير فريد يك أبو حديد مشكلة على جانب كبير من الأهمية، وهي: هل كان نشر التعليم حقا هو العمل علة نهضة الأمم في الماضي؟ وهل كان تطور التعليم في البلاد، أم أن تطورهكان نتيجة تطور الحياة في المجتمع.

وانتهى الأستاذ في بحثه إلى أن تطور الحياة في المجتمع هو الباعث على نشر التعليم. بيد أنه كان الكثير من مظاهر نهضتنا الحديثة لم يكن نتيجة تطور طبيعي، فإن التعرض لهذه الناحية فيه زعزعة لأركان هذه النهضة. فهل كان ينبغي أن نعيش بمعزل عن التيارات العالمية ونتخلف عن الركب؟ إننا لا نستطيع، فالعالم وحده متشابكة المصالح معقدة

ص: 14

الروابط. والرأي السليم هو أن يوفق أولو الأمر بين الجامعة (الجديدة) وبين ما تتطلبه الحياة المصرية، وألا يغفلوا عن مكانة الجامعة في المجتمع، وما تؤديه من رسالة خطيرة.

حلت كليات الجامعة محل المدارس العليا القديمة وسارت في عملها. ومع ذلك فقد ظهرت لها مآثر جليلة وآثار عظيمة. وقد كان في مقدمة ما قامت به من جلائل الأعمال هو إيقاظ الوعي القومي وشحذ العزائم والهمم. كما كانت الجامعة - ولا زال - مبعث النور والعرفان، ومصدر أصوات الحرية والاستقلال، فحملت ألوية الجهاد في سبيل مصر العزيزة، ولم تبخل في كفاحها فروت أرض الوطن بدماء الشهداء الأبرار من أبنائها الأطهار.

وما ينبغي أن ينكر الباحث صولات الجامعة وجولاتها في النهضة الأدبية والعلمية والفنية؛ إذا ازدهرت الدراسات العليا في مختلف النواحي والشؤون، فلم تعد مصر تعيش عالة على ما تجود به الحضارة الغربية بل نبغ من بين جدران الجامعة من بزوا رجال الغرب ونافسوا؛ فئة تعتز بهم الجامعة وتفخر، ويكفي أن نذكر اسم العالم الأشهر (المرحوم) مشرفة باشا، والوزير الأديب طه حسين باشا، والبروفسير الأثرى سليمان حزين، والأنثروبولوجي الاجتماعي عباس عمار، لتخر أشهر الجامعات ساجدة تشيد بفضل صاحبة أقدم حضارة نقلت العالم من الظلمات إلى النور، وتعترف بأنه يصعب عليها أن تخرج أمثال هؤلاء الرجال. . .

ومما لوحظ على الجامعة خروجها من عزلتها، فظهرت ثمار النشاط الشعبي للجامعين والجامعيات في إقبال الطبقات المختلفة على طلب العلم، وفي نشر الآداب وتبسيط العلوم والفنون. ولعل من أروع ما صحب الجامعة من ظاهرات: ظاهرتين خطيرتين هما: اختلاط الجنسين وما نتج عنه من تدعيم أركان النهضة النسائية، ثم تطور الصحافة وتنوير الرأي العام

أما اختلاط الجنسين فأن كلية الآداب قد سبقت الكليات في إباحته، وذلك بحكم إن دراساتها من أكثر الدراسات الجامعية ملاءمة للفتيات. . .

والاختلاط قد يرضي عنه قوم ويسخط عليه آخرون. وفي الواقع أن الاختلاط - كأي ظاهرة اجتماعية - له فوائد ومضار ولم يكن في الإمكان تفادي حدوثه تلبية لدعوى

ص: 15

المحافظين، مادمنا قد وافقنا على أنه ليس في استطاعة أمة أن تعيش بمعزل عن العالم، بل لابد من التأثير والتأثر. فمن مزايا الاختلاط أنه يقلل من (خشونة) الجنس الخشن (إن جاز أن نكون كذلك) ثم أهم من ذلك وهو الحد من سيطرة الغريزة الجنسية وتخفيف وطأتها عند كل من الجنسين. وقد دلت الأبحاث النفسية على أن الجنسية المثلية الجنسين، وكراهية المرأة الذكور، وكثيرا من الأمراض النفسية والعصبية سببها الحيلولة اختلاط الجنسين ووقوف كل منهما بمنأى عن الآخر. ونجد أحيانا أن الاختلاط يهدف إلى أغراض شريفة أو ينتهي الأمر بإقامة دعائم الأسرة. . ومهما قيل عن الاختلاط فإن الجامعة ليست هي المكان الوحيد الذي يسمح بالاختلاط، ثم إن ظروفها قلما تساعد على التفكير في الفساد. . . على أن الاختلاط لا يخلو من مضار، لا مندوحة عن تلافيها أول الأمر كما قدمنا. . وينبغي أن نعترف بوجودها

وقد كان فتح الجامعة أبوابها للفتيات عاملا هاما في تدعيم أركان النهضة النسائية والعناية بتعليم الفتاة، وانتشال المرأة المصرية مهما كانت تغط فيه من جهالة جهلاء وضلالة عمياء. . . حتى رأينا المصرية المتعلمة تشغل مناصب الدولة الرفيعة وتصل إلى (الدرجة الأولى)، وتخوض غمار الحياة الاجتماعية والسياسية وتؤلف أحزاباً ثلاثة: بنت النيل والحزب النسائي والاتحاد النسائي، إلى جانب الجمعيات والمنظمات النسائية

أما الصحافة فإنا نسجل لكلية الآداب مأثرة كبيرة، إذ أفادت صاحبة الجلالة فائدة عظيمة، وغذتها بغذاء دسم سمين، بإنشائها معهد التحرير والترجمة والصحافة. فظهرت آثار ذلك في تنوير الرأي العام وإيقاظ الوعي القومي. وقد خطت الصحافة خطوة واسعة في خدمة الوطن وتعددت أنواعها ومما هو جدير بالذكر ظهور الصحافة النسائية كعامل فعال في النهضة الحديثة.

ويمكن إرجاع ظهور الصحافة إلى عام 1892 حين أصدرت (هند بنت نوفل) صحيفة (الفتاة) على أن الجامعة هي صاحبة الفضل في نصرتها ونموها، وهنا ينبغي أن نشيد بجهود الدكتورة درية شفيق في هذا الميدان.

بيد أن الجامعة - مع قيامها بهذه الجلائل من الأعمال - فإنها قد أخفقت في تأدية رسالات كثيرة، وفي هذا الإخفاق مآخذ يحق لأبنائها أن يأخذوها عليها.

ص: 16

فلم تنجح الجامعة في تعميم الدراسة باللغة العربية في جميع الكليات، وما كان لها أن تتغافل عن العمل ونحن في مستهل نهضتها القومية.

ثم مسألة الصلة بين الجامعة والخريجين لم تعمل الجامعة شيئاً في هذا الاتجاه، واقتصرت على الصلة بينها وبين طلبتها. بل أنه أحياناً نجد الصلة بين الأستاذ والطالب لا تتعدى ساعة المحاضرة لكن لا ينبغي أن ننكر ما في قسم الجغرافيا بكلية الآداب من نظم الحياة الجامعية الحقة، إذ ساعدت قلة العدد على توثيق عرى الروابط بين الطلبة والطالبات والأساتذة، هذا إلى جانب الرحلات أدى إلى تكوين (الأسرة الجغرافية).

ولا تزال ظاهرة الحفظ والتقيد (ببعض) ما جاء في كتب معينة، واضحة في بعض الكليات، مما جعل شبه استمرار للمدرسة الثانوية، ويبلد الذهن ويزيد من أمية المتعلمين.

والنقطة الهامة هي تأثير الجامعة بالسياسة الحزبية، فقد فشلت الجامعة فشلا ذريعا في تحصين أبنائها وبناتها ضد عبث الأحزاب المختلفة، فأصبح من السهل على قلة من المهرجين وفئة من الديماجوجيين أن يسمموا أفكار الشباب وأن يجرفوهم في تياراتهم، لم تخط الجامعة خطوات حاسمة في تعويد أبنائها التفكير الحر، ولم تبث فيهم روح التحمس الجدي للإصلاح، ولا يغرب عن بال ما دسته هذه الأحزاب من أفكار سامة لوث التعليم الجامعي إذ تدور حول الحقد والطمع والطعن في الغير بالحق وبالباطل.

ومع ذلك فقد لاح في الأفق بصيص من الأمل بتولي الدكتور طه حسين باشا أمور التعليم، وأصبح لجامعة فؤاد الأول أخوات ثلاث، نرجو أن تعمل كلها على تحقيق رسالة الجامعة في المجتمع، وأن توجه عنايتها للكيف لا للكم.

فإنا نعلق على همة الوزير الأديب آمالا كبارا ونرجو على يديه خيرا كثيراً.

محمد محمد علي

مدرس بمدرسة مفاغة الثانوية

ص: 17

‌غزو بدر بين القرآن والشعر

بين الشعر

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 2 -

أما موقف الشعر من هذه الغزوة فلم يستطع شعراء المسلمين أن يصوروا جلالها، وما امتلأت به نفوس المسلمين من غبطة وابتهاج إزاء هذا النصر المؤزر، فما روى لنا من شعر قيل في تلك الغزوة لا يناسب مالها من جلال؛ وإن المرء ليحار في تعليل هذه الظاهرة:

فقد يكون من أسبابها أن الفخر والتباهي والزهو مما كان مألوفا عند العرب، قد حد الدين الجديد منه، فلم يستطع الشعراء أن ينطلقوا على سجيتهم الأولى في حرية غير محدودة.

وقد يكون من أسبابها عقيدتهم بأن هذا النصر إنما أمدهم به الله، فلم يكن من نوع هذه الانتصارات التي كانوا يحرزونها في الجاهلية، يعتقدون أن شجاعتهم هي التي أحرزتها.

وقد يكون من أسباب ذلك النصر المؤزر ربما كان وراءه في قرارة نفوسهم ألم عميق على ما أصاب بعض لأقاربهم في هذه المعركة من القتل أو الأسر، فإنه مهما تغلغلت العقيدة في النفس لا يسلم المرء من تذكر هذه الصلة الطبيعية، ورحم الله البحتري إذ يقول:

وإذا احترت يوما ففاضت دمائها

تذكرت القرى ففاضت دموعها

شعر المسلمين في هذه المعركة ليس بقوى في جملته، وقد انتحى فيه الشعراء مناحي شتى: فحيناً يتجهون على العقيدة المشركين، يعيرنهم بها، كما قال حسان بن ثابت:

جمحت بنو جمح بشقوة جدهم

أن الذليل موكل بذليل

جحدوا الكتاب وكذبوا بمحمد

والله يظهر دين كل رسول

وتأثر بعض الشعراء بالقرآن الذي نزل في تلك الغزوة، فتحدث عن الشيطان الذي غر المشركين وأغرهم، حتى إذا وجد الدائرة قد دارت عليهم، تاركا جنده للهزيمة والأسر، وتحدث عن الملائكة الذين أمد الله بهم جند المسلمين، قال حمزة:

أولئك قوم قتلوا في ضلالهم

وخلوا لواء غير محتضر النصر

ص: 18

لواء ظلال قاد إبليس أهله

فخافس بهم، إن الخبيث إلى غدر

فقال لهم، إذ عاين الأمر واضحاً

برئت إليكم، ما بي اليوم من صبر

فإني أرى مالا ترون، وإنني

أخاف عقاب الله، والله ذو قسر

فقدمهم للحين، حتى تورطوا

وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر

وفينا جنود الله حين يمدنا

بهم في مقام ثم مستوضح الذكر

فشد بهم جبريل تحت لوائنا

لدى مأزق فيه مناياهمو تجري

وألم ببعض هذا المعنى حسان بن ثابت فقال:

سرنا وساروا إلى بدر لحينهمو

لو يعلمون بعين العلم ما ساروا

دلاهمو بغرور، ثم أسلمهم

إن الخبيث لمن والاه غرار

وقال: إني لكم جار، فأوردهم

شر الموارد، فيه الخزي والعار

كما سجل حسان ما قاله الرسول الكريم، يوم وقف على القليب، وقد طرح فيه قتلى المشركين، فقال:(يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً) فقال له أصحابه: (يا رسول الله، أتكلم قوما موتى؟! فقال لهم: (لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق) سجل ذلك حسان في قصيدة يقول فيها:

يناديهم رسول الله لما

قذفناهم كباكب في القليب

ألم تجدوا حديثي كان حقا

وأمر الله يأخذ بالقلوب

فما نطقوا، ولو لقالوا

صدقت، وكنت ذا رأي مصيب

ومضى شعر المسلمين يسجل على قريش بغيها، وبطرها الذي سجله القرآن من قبل، فقال كعب بن مالك:

عجبت لأمر الله، والله قادر

على ما أراد ليس لله قاهر

قضى يوم بدر أن نلاقي معشراً

بغوا، وسبيل البغي بالناس جائر

وقد حشدوا واستنفروا من بليهم

من الناس، حتى جمعهم متكاثر

وقال حمزة:

ألم تر أمراً كان من عجب الدهر

وللحين أسباب مبينة الأمر

وما ذلك إلا أن قوماً أفادهم

فحانوا - تواص بالعقوق وبالكفر

ص: 19

ويسخر بهم وبدعاويهم التي يبعثها الرياء والغرور، قال أحد شعراء المسلمين:

وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم

وماء بدر، غير مورود

وقد وردنا ولم نسمع لقولكم

حتى شربنا رواء غير تصريد

وقال حمزة ساخراً:

عيشة راحوا نحو بدر بجمعهم

فكانوا رهونا للركية من بدر

أما من فر من المشركين يوم بدر فقد أشتفي منه شعر المسلمين بالتعيير والهزاء والزراية، ومن أوجع ما قيل ي ذلك ما أنشأه حسان بن ثابت في قصيدة تعد من أقوى ما قيل من الشعر في غزوة بدر، وسجل فيها فرار الحارث بن هشام، وتركه أخاه عمرا (أبا جهل) يقتل في ميدان القتال، فبعد غزل بدأه حسان بقوله:

تبلت فؤادك في المنام خريدة

تسقي الضجيع ببارد بسام

وتخلص من الغزل قائلا:

إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فنجوت الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرة ولجام

وبنو أبيه ورهطه في معرك

نصر الإله به ذوى الإسلام

لولا الإله وجريها لتركنه

جزر السباع، ودسنه بحوامي

ولم يحتمل الحارث بن هشام هذا التعيير وأوجعه، واضطر أن يبرر فراره أمام القوم، فقال:

الله يعلم ما تركت قتالهم

حتى علوا فرسي بأشقر مزبد

وشممت ريح الموت من تلقائهم

في مأزق والخيل لم تتبد

وعلمت أني إن أقاتل واحداً

أقتل، ولا بضرر عدوي مشهدي

فصددت عنهم، والأحبة فيهم

طعماً لهم بعقاب يوم مرصا

وكان لهذا الحادث أثره ولا ريب في نفسي الحارث، فأكثرها من الشعر يتهدد به المسلمين ويتوعد، كأنما ينفس به عن نفسه ومن أكثر ما وردده شعراء المسلمين يومئذ تعديدهم عظما صرعى قريش ووصف هوانهم، ملقين على أرض المعركة، ينتظروهم مصير مؤلم في نار جهنم، ووصفهم الأسرى وقد شدوا بالأغلال وقيدوا بالأصفاد وها هو ذا حسان دائرة

ص: 20

المعركة التي دارت على المشركين، فيقول:

طحنتهمو والله ينفذ أمره

حرب يشب سعيرها بضراء

من كل مأسور يشد صفاده

صقر إذا لاقى الكتيبة حامي

ومجدل، لا يستجيب لدعوة

حتى تزول شوامخ الأعلاء

بالعار والذل المبين إذ رأوا

بيض السيوف تسق كل هماء

ويقول كعب بن مالك:

بهن أبدنا جمعهم، فتبددوا

وكان يلاقي الحين من هو فاجر

فخر أبو جهل صريعاً لوجهه

وعتبة قد غادرنه وهو عاثر

وشيبة والتيمي غادرن في الوغى

وما منهم إلا بذي العرش كافر

فأمسكوا وقود النار في مستقرها

وكل كفور في جهنم صائر

تلظى عليهم، وهي قد شب حميها

بزبر الحديد والحجارة ساجر

وأشد حسان وكعب بن مالك بموقف الأوس والخزرج من نصرة الرسول، ولم يشيروا إلى بلاء المهاجرين في تلك المعركة على عكس القرآن، فإنه مدح المهاجرين والأنصار معاً، كما ذكرنا: ولعل ذلك راجع إلى جمهرة الجيش كانت من الأنصار، قال كعب بن مالك:

وفينا رسول الله، والأوس حوله

له معقل منهم عزيز وناصر

وجمع بنى النجار تحت لوائه

يمشون (المأذي) والنقع ثائر

وصمت الشعر عن دور المهاجرين، الذين فضلوا العقيدة على المال والأهل، بل حاربوا الأهل عن رضا، في سبيل هذه العقيدة، ولكن القرآن سجل لهم أيمانهم الحق ، ووعدهم وظهرت روح الإسلام في شعر المسلمين، فرأينا فخراً بالالتفاف حول الرسول وطاعته والإئتمار بأمره، وتصديق دينه، قال شاعرهم

مستعصمين بحبل غير منجدم

مستحكم من حبال الله ممدود

فينا الرسول، وفينا الحق نتبعه

حتى الممات ونصر غير محدود

واف وماض شهاب يستضاء به

بدر أنار على كل الأماجيد

ورأينا اعتماداً على الله واستناداً إلى قوته في قول حسان:

فما نخشى بحول الله قوماً

وإن كثروا، وأجمعت الزحوف

ص: 21

إذا ما ألبوا جمعاً علينا

كفانا حدهم رب رؤوف

ولم ينس المسلمون ما هددهم به المشركون من الإغارة عليهم والأخذ بالثأر، فهون شعراء من ذلك، بل أكدوا أن سيأتي يوم يغزون فيه مكة، ويستولون عليها، وقال كعب ابن مالك:

فلا تعجل أبا سفيان، وارقب

جياد الخيل تطلع من كداء

أما موقف شعراء المشركين من تلك الغزوة، فيظهر أن قريشا توصلت على أن تخفى حزنها في صدرها، وألا تبوح بآلامها، روى أن قريشاً ناحت على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا، فيبلغ محمداً وأصحابه، فيشمتوا بكم، فكف الشعراء عن البكاء، برغم ما كان يعتلج في صدورهم من الهم والأسى.

يروي أن الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة وعقيل والحارث؛ وكان يجب أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له: أنظر، هل أحل النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على ابن حكيمة (يعني زمعة)، فإن جوفي قد احترق، فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فعند ذلك قال الأسود:

أتبكي أن يضل لها بعير

ويمنعها البكاء من الهجود

فلا تبكي على بكر، ولكن

على بدر تقاصرت الجدود

وبكي إن بكيت على عقيل

وبكى حارثاً أسد الأسود

وبكيهم، ولا تسمى جميعاً

فما لأبي حكيمة من نديد

ألا قد ساد بعدهم رجال

ولولا يوم بدر لم يسودوا

ولكن لم يلبث الشعر أن انطلق من عقاله، ومضى الشعراء يتحدثون عما يجيش في صدورهم من الألم والغيظ معاً، فمضى بعض الشعراء يبكي في حزن ومرارة من لقي مصرعه في وادي بدر، ويعدد عظماء هؤلاء القتلى، ويصف ما نال مكة من الأسى لقتالهم، فهذا شداد بن أوس يقول:

تحيى بالسلامة أم بكر

وهل لي بعد قومي من سلام

فماذا بالقليب قليب بدر

من القينات والشرب الكرام

وماذا بالقليب قليب بدر

من الشيزي تكلل بالسنام

ص: 22

وهذا أمية بن أبي الصلت يبكيهم، ويثنى عليهم، ويصف هم مكة بهم، فيقول:

ألا بكيت على الكرا

م بني الكرام أولى الممادح

ماذا ببدر فالعقن

قل من مرازية جحاجح

شمط وشبان بها

ليل مغاوير وحاوح

ألا ترون كما أرى

ولقد أبان لكل لامح

أن قد تغير بطن مكة،

فهي موحشة الأباطح

ومضى بعض الشعراء مصابهم الخاص، أو يندبون بني قبيلهم، أو يرثون بعض عظامهم، ومن أمثلة ذلك رثاء الحارث بن هشام لأخيه أبي جهل، إذ يقول فيه:

ألا يا لقومي للصبابة والهجر

وللحزن مني والحرارة في الصدر

وللدمع من عيني جواداً، كأنه

فريد هوى من سلك ناظمه يجري

على البطل الحلو الشمائل إذ ثوى

رهين مقام للركية من بدر

ورثاء أمية بن أبي الصلت لصراعي بني أسد، وهو يمثل الحزن الدفين في صدورهم:

فبنو عمهم إذا حضر البأ

س عليهم أكبادهم وجعة

ولم يبك أبا جهل أخوه الحارث فحسب، ولكن بكاه غيره من الشعراء، فقد كان رأساً من رؤوس قريش، فرثاء بعضهم بشعره كهذه القصيدة التي تنسب إلى ضرار بن الخطاب الفهري، والتي يقول فيها:

فآليت لا تنفك عيني بعبرة

على هالك بعد الرئيس أبي الحكم

على هالك أشجى لؤي بن غالب

أتته المنايا يوم بدر، فلم ترم

وأخذ بعضهم يتوعد، وينذر الأوس والخزرج بالانتقام والأخذ بالثأر، ويخفف من غلواء الأنصار فيما ملأ قلوبهم من الابتهاج بالنصر، ويدعو المكيين دعوة حارة إلى ألا يناموا على الضيم، وأن يجمعوا أمرهم على أن يأخذوا بثأرهم، وتسمع النزعة القلبية صارخة، والفخر بالنسب قويا، حين يوازنون بينهم وبين الأوس والخزرج، ويدعون إلى الدفاع عن معتقداتهم وألهتهم التي ورثوا عباداتهم عن آبائهم، وامتلأ بذلك كله شعر المشركين من أهل مكة، فترى الحارث بن هشام يقول:

فإن لا أمت يا عمر وأتركك ثائراً

ولا أبق بقيا في إخاء ولا صهر

ص: 23

وأقطع ظهرا من رجال بمعشر

كرام عليهم مثل ما قطعوا ظهري

أغرهم ما جمعوا من وشيظة

ونحن الصميم في القبائل من فهر

فيال لؤي، ذببوا عن حريمكم

وآلهة لا تتركوها

توارثها آباؤكم، وورثتمو

أواسيها والبيت ذا السقف والستر

وجدوا لمن عاديتم، وتوازروا

وكونوا جميعاً في التأسي وفي الصبر

ويقول ضرار بن الخطاب:

عجبت لفخر الأوس، والحين دائر

عليهم غداً، والدهر فيه بصائر

وفخر بني النجار أن كان معشر

أصيبوا ببدر، كلهم ثم صابر

فإن يك غورت من رجالنا

فإن رجالا بعدهم سنغادر

ونترك صرعى تعصب الطير حولهم

وليس لهم إلا الأماني ناصر

وتبكيهم من أهل يثرب نسوة

لهن بها ليل عن النوم ساهر

ولم ينس بعضهم أن يفتخر بما أبلى في ذلك اليوم من دفاع عن الصحب، وإقدام في هذا الموطن الذي اعترف الشاعر بقسوته عليهم وشدته، ونرى ذلك في شعرهم أبي شعر أبي أسامة معاوية بن زهير إذ يقول معترفا بفرارهم، وقتل الكثير من رجالاتهم:

ولما أن رأيت القوم خفوا

وأن شالت نعامتهم لنفر

وأن تركت سراة القوم صرعى

كأن خيارهم أذباح عتر

وكانت جمة وافت حماما

ولقينا المنايا يوم بدر

نصعد عن طريق وأركونا=كأن زهاءهم غيطان بحر

وقال القائلون: من ابن قيس

فقلت: أبو أسامة غير فخر

فأبلغ مالكا لما غشينا

وعندك مال، إن نبثت، خبري

بأني إذ دعيت إلى أفيد

كررت، ولم يضيق بالكر صدري

عشية لا يكر على مضاف

ولا ذي نعمة منهم وصهر

وشاركت المرأة المشركة الرجل في البكاء على صرعى بدر، وروى ابن هشام بعض شعر شاعراتهم، كهند بنت عتبة، وصفية بنت مسافر، وهند بنت أثاثه، فما يروي لأولادهن قولها:

ص: 24

أعيني جودا بدمع سرب

على خير خندق لم ينقلب

تداعى له رهطه غدوة

بنو هاشم وبنو المطلب

يذيقونه حد أسيافهم

يعلونه بعد ما قد عطب

يجرونه وعفير التراب

على وجهه عاريا قد سلب

ومن أجمل ما قالته المرأة من الشعر في هذه الغزاة ما أنشأته قتيلة بنت الحارث، تبكي أخاها النضر، وتعاتب الرسول:

يا راكبا، إن الأثيل مظنة

من صبح خامسة وأنت موافق

أبلغ بها ميتاً بأن تحية

ما أن تزال بها النجائب تخفق

مني إليك وعبرة مسفوحة

جادت بواكفها، وأخرى تخنق

هل يسمعني النضر إن ناديته

أم كيف يسمع ميت لا ينطق

أمحمد، يا خير ضنء كريمة

في قوامها، والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما

من الفتى وهو المغيظ المحنق

والنصر أقرب من أسرت وسيلة

وأحقهم إن كان عتق يعتق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه

لله أرحام هناك تشقق

ويروي أن رسول الله لما بلغه هذا الشعر قال: (لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه).

كان شعر المشركين في جملته أقوى في تلك الغزوة من شعر المسلمين ولا غرو فإنهم كانوا موتورين، وكانت ريح الانتقام والغضب تفوح من شعرهم، حتى ليخيل إليك أنهم قد مضوا إلى الأخذ بثأرهم:

ويلاق قرن قرنه

مشى المصافح للمصافح

وبعد فقد صور القرآن الغزوة تصويراً ألهيا، يتخذ منها دروساً وعظات لهداية البشر وإصلاح أمورهم، أما الشعر فقد تحدث عن عواطفه شخصية ليس لها طابع إنساني عام.

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم جامعة فؤاد الأول

ص: 25

‌رسالة الشعر

صلوات روح

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

سموت بالروح إلى خالقي

في ليلة نشوى بخمر الضياء

ذابت بها الظلمة حتى غدت

أسطورة طال عليها العفاء

ورق فيها النور مسترسلا

كهمس ناي هاشم في فضاء

ما زلت أسموا، والمنى في يدي

رفاقه مثل النجوم الوضاء

وفي شعوري نشوة حلوة

تسكب في نفسي أرق الغناء

وملء نفسي فتنة ترنوي

من روعة الليل، وسحر المساء

حتى انتهت روحي بأشواقها

لمنهل الغيب الذي في سماء

كما انتهي للنبع بعد السري

في البيد ركب الحائرين الظماء

فانتفضت فيها ضراعتها

وأطلقت في الصمت هذا النداء:

يا منهل الغيب. . . اسقني قطرة

من ذلك النور، وهذا الصفاء

تجعل حياتي نغما شادياً

في عالم يهفو إليه الرجاء

أحسه صوتاً عميق الصدى

يهز أعماق بسحر الدعاء

وصورة طال عليها المدى

وما خبا فيها رفيف الرواء

يا منهل الغيب. . . وبي حيرة

قد صيرتني أستحق الرثاء

كطائر أبعد عن عشه

فهام في إحدى ليالي الشتاء

وبي حنين يتحدى الثرى

ويرتقي بي طائراً حيث شاء

ولي قيود تتمنى سدى

لو أنني سبيل العلاء

حتى يحين الأجل المرتجى

فأنزع القيد، وألقى الرداء

يا منهل الغيب. . . وبي غربة

تنبت في عمري هموم البقاء!

لا الأرضداري، لا، ولا أهلها

أهلي، فكيف الصبر؟ كيف العزاء

غريبة بالحب في عالم

الحب فيه خدعة أو رياء

نسخته ظلا به يحتمي

وصغته نوراً به يستضاء

ص: 26

وطفت في دنياي مسحورة

تغمرني إشراقة وانتشاء

أبحث عن روح أرى طيفه

يفتن أيامي بحلو اللقاء

فلم أجده، فالفت المنى

حتى جفتني، فألفت البكاء!

غريبة بالصمت. . . من نايه

يثير إلهامي أرق الحداء

أراه ظلا سابحاً في السنا

كطيف عطر سابح في الهواء

وأحتسيه حمرة عتقت

في الغيب. . . يدري سرها الأنبياء

والصمت سر هائم في الدجى

يهفو إلى الغيب، ويبغي الخفاء

صاغت حياتي منه أسرارها

فاستغرقت في عزلة وانطواء

والصمت سحر همت في جوه

على جناحي لهفة واشتهاء

والصمت بحر موجة نائم

يحلم بالعودة من حيث جاء

عبرته وحي على زورق

يود لو يسري لغير انتهاء

وعدت منه بشهي الرؤى

وفي الرؤى ري، وفيها غذاء

غريبة بالحزن. . . نيرانه

تلقى على ضوئي ظلال الفناء

وسره في داخلي كامن

محجب بالصمت والكبرياء

يدري أساه من زماني به

ومن تولاني بطول العناء

إليه أشكو وحده غربتي

وحيرتي في الأرض أرض الشقاء

ولهفتي الكبرى إلى موطني

في عالم يهفوا إليه الرجاء

أبعدت عنه، فعرفت الأسى

ولست أدري سر هذا الجزاء!

خطيئة الجنة من آدم

علام تكوى نارها الأبرياء؟

وأطرقت روحي بأشجانها

لعلها نسمع صوت القضاء

فاهتزت في أعماقها هاتف

يشع مثل البارق المستضاء

وقال في صوت عميق الصدى

نماذج الرقة فيه المضاء:

يا هذا الروح الذي تشتكي

من دائها، والداء فيه الدواء!

من يحمل الآلام يقعد بها

إن لم يجمعها بروح الفداء

فلتحملي الآم في قوة

فإنها تخشع بروح الفداء

ص: 27

ولا تضيقي بحياة الورى

وتهربي مما بها من بلاء

وجاهدي الليل بهذا السنا

وكافحي الشر بهذا النقاء

قالبدر لا تظهر أنواره

إن لم يرقها في ظلام المساء

والخير ما جدواه؟ إن لم يكن

قد ألجأ الشر إلى الاهتداء

ورقرقي نورك من نبعه

لكل ظمآن إلى الاهتداء

فالدر في الأصداف مثل الحصا

ما دام لا يكشف عنه الغطاء

والبقلة الخضراء في أرضها

خير من البستان بين العراء

حتى إذا ناداك رب الورى

وكنت قد أبليت خير البلاء

دخلت دنيا ناداك رب الورى

وكنت قد أبليت خير البلاء

دخت دنيا الغيب مزهوة

اتغنمي فيها دوام البقاء

هذا قضاء الله في خلقه

لكل شيء محنة وابتلاء

وخيم الصمت سوى نبأة

من الصدى قد آنت باختفاء

فأذعنت روحي، وعادت إلى

دنيا الشقاء البكر والأشقياء

ولم تزل تعجب مما رأت

في ليلة نشوى بخمر الضياء

أكان وهما شاعري الرؤى

أم كان حلماً ساحري البهاء؟

إبراهيم محمد نجا

ص: 28

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

صرخة أخرى من العراق

ما أطيب قلبك، وما أكرم معدن نفسك. . لشد ما يعجبني فيك إخلاصك للفن، ونمسكك بالمثل العليا، وتفانيك في سبيل أنبل الغايات. . تخال الدنيا خلقت كما تشتهيها: نبل في الطبع، وحب للخير، وعبادة للجمال!

لقد أثارت في كلمتك عن (الفن الشهيد في العراق) عواطف كثيرة. . وكنت في كل لقاء لي معك أهم بأن أقول لك أنت صرخت صرختك المدوية لإنصاف شاعر واحد، في حين أن هناك عشرات من الأبناء والشعراء يتصارعون مع الحياة القاسية، ويكافحون في سبيل الحرية المسلوبة، ويلاقون في سبيل ذلك أشد العنت وأفظع التنكيل والاضطهاد!

يا أخي: إن المسألة ليست إنصاف شاعر أو ترضيه أديب.

بل هي أعم من ذلك وأوسع شمولا. إنها مسألة الحق المهدود، والمقاييس الخاطئة، والضمائر التي أصابها الفساد فلم تشعر بالتبعية، ولم تعبأ بالمسئولية! أنها قصة كل بلد عربي، المحسوبية فيه فوق كل قانون، والعدالة في أرضه ضرب من الأفلاطونية التي لا تطبق، ومواطنوه درجات ورتب كعهود الرقيق!!.

وحين تكون ذا ضمير نقي ونفس أبية، فقد حكمت على نفسك بالإعدام في أرض غريب عنها نقاء الضمير، عزيز فيها إباء النفس. . إن نقاء الضمير، وإباء النفس، ووفاء القلب، والإخلاص للمثيل العليا، عملة زائفة في سوق أثمن بضاعة فيه أخس صفات الإنسان!

ولا بد من أنك تعرف قصة الإله الذين يريدون أن يمسخوه عبداً، أو العملاق الذي يريدون أن يصيروه قزما. . أنه صاحب القلم!! وذلك الذي يقف في بدء حياته في مفترق طريقين: إحداهما قصيرة مليئة بالرياحين، وأرقة الظلال غنية بالعطور. . إنها الطريق التي يصل فيها الحمقى وفقراء الذمة والمدقعين في الشرف إلى قمة المجد الزائف، حين تدفعهم الجرأة إلى أن يسموا الأبيض أسود، والحق باطلا، والظلم عدالة، والنخاسة ديمقراطية، والرذيلة فضيلة، إلى غير ذلك من قلب للأوضاع وعبث بالقيم. . ولا شك في أنك تجد في كل بلد عربي جمهرة كبيرة من أولئك المهرجين الذين استبدلوا حياءهم بوقاحة، ووضعوا مكان

ص: 29

قلوبهم قطعة من النقود!! وإنك لن تجد أديبا مرفها تقبل عليه الحياة مبتسمة، وتظله السعادة بجناحيها النورانيين إلا من هذه الطبقة. . .

أما الطريق الثانية فتلك التي تقود سالكها شيئاً فشيئاً إلى الموت البطيء. . تلك التي تجعله دائماً في عداء مع الحياة! تلك التي تحرمه مما تحل الرأفة للحيوان الأعجم من قوت ومأوى. . وما تستوجبه الطبيعة من رعاية! آه ما أقسى الظروف. . لقد عاهدت نفسي ألا أتحدث عن نفسي. . وأراني اليوم مرغماً على نقض العهد لأن الإناء قد فاض، وامتلأ صدري بما يشبه القيح!

أغلب الظن أنك تعرف قصة حياتي في مصر. . أو قل طرفا منها. وأغلب الظن كذلك أنك تعرف كيف كنت أكافح وحيداً قسوة الحياة الجارفة ومرارة الدنيا العبوس. . وكيف كنت أجهد جهدي لا لأستمتع بنعيم الحياة أو لأنال وطراً من عهد الشباب، بل أقنع بالكفاف لمواصلة دراستي الجامعية. . وكنت دائماً تتهمني بالنشاط. . عجيب أمرك والله!. . كأنك لا تعرف أن القلم مهما خط وسطر وملأ الصفحات فلا يفي بخط يسير من أعباء الحياة!! إذا تنزه القلم عن أن يكون مأجوراً، وأبى الضمير إلا أن يكون أبيض الجبين، وأخلص القلب للثالوث المقدس: الحق والعدالة والحرية!!

إنني لأذكر تلك الأيام والدموع تملأ قلبي؛ فقد كانت شديدة القسوة، ثقيلة الوطأة، عظيمة التكاليف. . وفي سماء حياتي الحالكة تسطع مصر الكريمة كنجم منور: فإنني مهما كنت قليل الحظ من الوفاء فستظل لمصر منزلة أعظم بها من منزلة، فقد أخذت بيدي من حيث نبذني وطني، وأشفقت عليّ من حيث لم أعرف من وطني إلا غلظة القلب، وخشونة الجانب!

وطني!. . تلك الأغنية الحبيبة التي كنت أرددها في ليالي السهاد. . وتلك الكأس التي تنعش روحي كلما أصابها جفاف الحياة. . لقد كنت أذكر وطني دائماً، وأجاهد لأرفع سمعته، وأعرف الناس بالشعب الذي أنا منه. . ومع ذلك فوطني شحيح عليّ، ضنين بكل ما يثبت أن العراقيين متساوون في الحقوق!!

وفي كل سنة أذهب إلى بغداد لأنال ما يقره القانون لي من حق كطالب علم، غير أن الأبواب تغلق في وجهي، ويحال بيني وبين حكم القانون، وأرجع إلى مصر خاوي الوفاض

ص: 30

إلا من تلك العزيمة على مجابهة الحياة ومجالدة الأيام!

إن الحيرة لتشدد عليّ الخناق! أأنا لا أستحق مقداراً ضئيلاً من المال أستعين به على طلب العلم، في الوقت الذي تغدق فيه الأموال من غير حساب لغير وجه الحق؟!. . وهل أنا دون أولئك الذين تغدق عليهم الأموال باسم العلم وهم بين كؤوس الطلي ومهرجان الرذيلة؟! أحق أنني لا أستحق بعض ما يناله أصحاب الكروش والذين يحسبون الحياة امتلاء معدة حتى التخمة، وإراقة الأموال على أقدام الغانيات وتفريغ الجيوب على الموائد الخضراء؟!

لا يا صديقي. . لقد أثرت شجني وملأت صدري بكوامن الهموم، أنا الذي أحاول دائماً إن أنظر إلى الحياة على أنها فصل قصير من رواية ساخرة. . لا أطيق اليوم أن ابتسم وقلبي يشرق بالدمع، وصدري يعصف فيه الألم الحاد، ونفسي فريسة للأحزان!

إنني أكتب إليك هذه الرسالة لا لترفعها إلى معالي وزير المعارف في العراق. . بل هي هزة ألم اعترت كياني فسطرتها لك. لأن المرء قد يجد نفسه في بعض الأحيان أمام قوة هائلة تدفعه من الداخل إلى أن القول. . إلى أن ينشد لحناً حزيناً. . إلى أن يفضي ببعض ما في نفسه!

إنني جئت إليك لا لأتظلم عن نفسي. . فغدا سوف أدخل المستشفى، ومن يدري؟!. . فقد أشهد خاتمة المهزلة. . . مهزلة الحياة. . وأنا معلق بين السماء والأرض. . ولكن جئت لأتظلم عن كثير ممن يقضون حياتهم على مضض، بعيداً عن رحمة الحكومة وحماية القانون!!

يا صديقي. إنها قصة الظلم وليست شكاة التأثر، لأن النقمة تتحول في نفسي إلى معدن كريم. . هو الجهاد! ذلك الغذاء الروحي لنفوس حرمها الناس من الغذاء المادي. . وهو أدنى درجات الحياة!!

وتقبل من أخيك كل احترام وتقدير

(القاهرة)

غائب طعمة فرمان

أنا من الذين يتقبلون الظلم راضين عنه مطمئنين إليه، إذا كان فيه شيء من المساواة بين

ص: 31

الناس. إنك حين تظلمني وتظلم سواي ولو بغير حق، فظلمك للجميع إن لم يكن في منطق الفكر عدلاً فهو عدل في منطق الشعور والوجدان! وفي مثل هذه اللحظات التي تروع بأسر القيد وتلوح بوخز الجراح، تكون المشاعر الإنسانية هي صاحبة الحكم الأول على رواسب الظلم في قرار النفوس. . أريد أن أقول لك إننا نحتكم في مثل هذه اللحظات إلى العقل أقل مما نحتكم إلى العاطفة، ولنا الكثير من العذر إذا نحن خضعنا لمنطق الشعور وسرنا حسب هواه، وفهمنا الظلم على أنه عدل مطلق ما دام مقترناً بالمساواة!

أتقبل الظلم على هذا الأساس راضياً عنه مطمئناً إليه، ما دمت أنظر إلى من حولي على أنهم أقران لي ونظراء. . كلنا في الضيم قلب إلى قلب، وكلنا في الظلم روح إلى روح. . أما أن تفرق بيننا في الحقوق فتعطى باليمين حين تسلب بالشمال، فهذه هي اللحظات الأخرى التي تنحدر فيها الضمائر وتنطمس المشاعر، وتنمحي من سفر الإنسانية أجمل ما فيه من سطور وأفضل ما فيه من كلمات!!

أقول هذا وأنا أقدم إليك هذه الرسالة التي أوقدت بين جنبي شعلة الأسى وألهبت بين يدي شباة القلم. . وتترنح الألفاظ على فمي وأنا أستعرض مرحلة أخرى من مراحل الكفاح، الكفاح المقدس في سبيل العلم. نعم، مرحلة أخرى. . فقد كانت المرحلة الأولى هي تلك التي حدثتك عنها على صفحات الرسالة: إنها محنة تتبعها محنة، وصرخة تعقبها صرخة، ومأساة تلحق بها مأساة. . ويارنة الأسف للعراق الشقيق ويا رحمة الله للشباب الشهيد!

بالأمس عاش (الناصري) غريباً في وطنه وغريباً في باريس، واليوم يستشعر (غائب) لدغ الغربة في القاهرة بعد أن لفحته بنارها في بغداد. . وذنب الأديب والشاعر أن كليهما آثر العلم وآمن به، وأحب العراق وأخلص له، وأراد أن يقبس من وهج المعرفة ليعكسها على وطنه فنوناً من الضياء. ولكن رياح الظلم قد أطفأت مصباح الأديب فبقي في الظلام، وطوت جناح الشاعر فكف عن التحليق. . وذلك هو حكم العراق العادل حين يتطلع المخلصون إلى عدالة الأوطان!

وبعد هذا تسمع من يقول لك إن الشباب قد كفروا بالقيم، وسخروا من المثل، وانحرفوا عن الطريق. . وماذا يفعل الشباب وهم يرون القيم الفاضلة تداس بالإقدام، والمثل العالية تمرغ في التراب، والطريق القويم والأشواك؟ ماذا يفعلون وقد عصفت الأهواء بكل ما بقي في

ص: 32

نفوسهم من أمن وبكل ما استقر بين جوانحهم من إيمان! هذا الشاعر المكافح يحال بينه وبين العلم لأنه ليس من أصحاب الثراء، وهذا الأديب المجاهد تغلق في وجهه الأبواب لأنه ليس من أقارب الوزراء. . ويصل الذين قد عمرت منهم الجيوب واقفرت العقول، وقضوا حياتهم وهم ضيوف على موائد الملق والجهل والنفاق!!

وأنا والله أكاد أكفر بالضمير الإنساني لولا بقية من أمل. . بقية أحتفظ بها للغد القريب أو الغد البعيد، الغد الذي قلت عنه من قبل أنه قد يرف الربيع إلى جفاف الغصون، ويطلق الأحرار من زوايا السجون، ويحمل خمرة السلوان إلى ندامى الشجن. . الغد الذي قد يأتي بقلوب غير القلوب، وعقول غير العقول، وقادرة غير الفادة، وعندئذ يجد الشباب المحيرون ذلك الظل الوريف الذي يحميهم من وقدة القيظ ولفح الهجير!

ماذا أقول لهذا الصديق الذي كنت أرقب خطواته في طريق العلم، وجهاده في ميدان الأدب، وصبره على تحبهم الأيام؟ ماذا أقول له وقد ترك الجامعة إلى المستشفى، وحرم رؤية الأستاذ ليشقي برؤية الطبيب، وهجر دنيا القلم ليصبح وهو طريح الفراش يا أخي صبرا. . صبرا ولو كان هناك إنصاف وإجحاف، ورعاية وإهمال، وإغداق وحرمان! حسبك أن النقمة تتحول في نفسك إلى معدن كريم هو الجهاد وحسبي أن أسمع منك هذه الكلمة وهي صادقة وهي درع الأمان لكل محارب يتلقى الضربات، وهي شاطئ النجاة لكل زورق يواجه العاصفة!!

عودة إلى مشكلة القراء:

تتبعت تعقيباتك عن أزمة القراء وأنها - والصدق يقال - لعين القين. إن قراء الكتاب في هذه الأيام فئة قابلة للنقصان لا للزيادة، ولن يمر عدد من السنين - مع بقاء الأحوال الأخرى ثابتة كما يقول الاقتصاديون - إلا ويصبحون في خبر كان. . وأما عن قراء المقالة المحترمة يا سيدي فنظرتي إليهم أيضاً سوداء، والفئة الوافرة العدد هم قراء المقالة التافهة التي تنشر مذكرات فلانة الممثلة بقلم الكاتب التافه فلان، وكأن مثل هذه السفاسف ومثل هذا المجون خليق بأن ينشر يقرأ!

إن ذلك الذي هجر تجارة عصير الأذهان إلى تجارة الفواكه لرجل بعيد النظر، لأنه لم يجد الجو بارقة أمل لاستصلاح القراء في مصر، وإلا فما رأيك أنني لم أر في كلية التجارة

ص: 33

بجامعة فاروق طالبا يحمل كتاباً أدبياً طوال ثلاث سنوات قضيتها في هذه الكلية وكأن حرمها على الكتاب؟! وقد يقول قائل إن أبحاث الاقتصاد قد سدت من دونه المسالك، ولكن الأسف فهي الأخرى في المكتبة لا تجد المخلص الذي يزورها إلا ما قد ندر!

الطلبة يا سيدي يريدون الحصول على الشهادة بأقصر طريق مشروع، فالكتب تختصر، والمذكرات تختزل، وهكذا دواليك إلى تنتهي إلى البرشامة الشهيرة،. . إن رؤيتي أحمل كتابا أدبياً لكفيل باسترعاء أنظار الطلبة، ما بين ساخر مني وبين مشفق على لإضاعة الوقت في هذا الهراء بدلا من التمتع به متسكعا في محطة الرمل على سبيل المثال. . وإني لأعرف من الجامعين من لا يشتري حتى الجريدة اليومية، فبأي سلاح يتوجه هؤلاء إلى الحياة؟!

ولكن لا أحملهم وحدهم عبء الاتهام، بل أشرك معهم المدرس الابتدائي والثانوي في تحمل التبعة، فأغلب المدرسين ولا أقول كلهم قد هجروا الكتاب وتركوه ظهريا وكرسوا وقتهم وجهدهم في إعطاء الدروس الخصوصية التي هي كارثة التعليم بلا مراء. إن الطالب مرآة أستاذه وما تلقاء من الطالب فهو إرث انتهى إليه من الأستاذ!

أي مستقبل حالك السواد ينتظر الثقافة عموما في مصر، ولكن ما ذنب عشاق العلم والأدب الذين يحرمون دون ما ذنب اقترفوه من مؤلفات كاتب مثلك، يعلم الله مكانته في قلبي وقلوب قرائه؟! إنك لا تتصور يا سيدي لهفتي ليوم الأحد من كل أسبوع كي أحصل على الرسالة ويكون أول باب أقرؤه هو (التعقيبات)!

ولكن يا سيدي ألا تضيف إلى فئة القراء فئة متعهدي النشر في تعقيد هذا المشكل؟ وما رأيك في أنني ذهبت لشراء (رسائل الرافعي) للأستاذ محمود أبو ربه فوجدته بأربعين قرشا، مع العلم بأن ثمنه المعروف في كل مكان هو ثلاثون قرشا؟!. . أروى لك هذا منتظرا منك التعليق.

الإسكندرية

كمال عبد المنياوي

هذه الظواهر العجيبة التي يذكرها الأديب يذكرها الأديب الفاضل حول مشكلة القراء قد

ص: 34

عرضت لها بالبحث والمراجعة فيما كتبته قبل ذلك من فصول، وبخاصة عندما تحدث عن ثقافة الطلبة الجامعين في هذه الأيام. . وإذا كان الأديب الفاضل يقص علينا بعض مشاهداته في جامعة فاروق، فأراد أن أقول له إن الحال لا تختل كثيرا في جامعة فؤاد. ولا في جامعة إبراهيم، ولن تختلف في جامعة محمد علي إن شاء الله!

إن ثقافة الجيل بوجه عام أمر يدعو إلى الأسف ويبعث على الرثاء، وليست أدري ما هي المعجزة التي يمكن أن تحدث حتى يقرأ الناس في نصر، سواء كانوا جامعيين أم غير جامعيين. . أشهد أن لي صديق يشتغل بمهنة التدريس في الجامعة فؤاد، لا يكاد يكف عن الشكوى مما يلقاه من جهل الطلبة بفنون العلم وشئون الحياة، ولا يكاد ينتهي من سرد الأدلة وضرب الأمثال وهو يحدثني عن طلبة الجامعة، هؤلاء الذين صدموه بالواقع المر بعد أن عاد إليهم دكتورا من جامعة باريس. . ويخبط الصديق كفا يكف وهو ينظر إلى ثائرا ويقول: يا أخي أقسم لك أنني كنت أعرف أسرة فرنسية صديقة، وما من أزور فيها هذه الأسرة إلا وتقع عيناي على منظر فريد، منظر الخادمة وبين يديها كتاب مفتوح، لا تكاد تلقي به إلا إذا دعيت لمطلب من مطالب البيت أو أمر من أمور المائدة. . وإذا حدثتك عن شغف الخادمة بالقراءة وولعها بالاطلاع، فلست بحاجة إلى أن أحدثك عن ثقافة السادة فهي في غنى عن كل حديث الخادمات في فرنسا يقرأن، وطلبة الجامعة في مصر لا يقرئون. . ألا تعذرني إذا ما ضقت ذرعا بمكاني في كلية الآداب؟!

لقد عذرته بالطبع. . ويقي أن يعذرني الأديب الفاضل إذا ما أرجأت طبع كتبي حتى تحدث المعجزة الثانية، وهي أن نرفع وزارة المالية هذه الحواجز السخيفة التي تحول بين الكتاب المصري وبين البلاد العربية. . إن الكاتب الذي يعتمد على مصر وحدها في توزيع كتبه يجب أن يكون من الأثرياء، ليستطيع أن يتحمل الخسارة المادية وهو يواجه أزمة القراء! أما عن بعض الكتب التي تباع بأكثر من ثمنها المحدد فهي ظاهرة لم أسمع بها من قبل. لقد كنت أفهم مثلاً أن يسلك الناشرون هذا الطريق إذا ما ساعدهم الجمهور القارئ وأقبل على آثار الكتاب، أما لن يلجأ إلى هذه الوسيلة وقراؤنا (الأفاضل) يؤثرون عصير البرتقال على عصارة الأذهان، فهذا هو الغباء الذي يفوق كل غباء!!

وللأديب المناوي أصدق الشكر على كريم تقديره، وأخلص التهنئة على أن دراسة الأدب

ص: 35

في حياته لم تشغله عنها دراسته الاقتصاد!

من حقيبة البريد:

بين يدي كثير من الشعر، وكثبر من النثر، وكثير من الأسئلة التي تدور في محيط الأدب والفن وأستعرض هذا الفيض من الرسائل لأقول لحضرات الشعراء والكتاب والسائلين، إن (الرسالة) لن تحجم عن نشر ما يستحق أن ينشر، وإذا كان هناك شئ من الإرجاء فمرده إلى كثيرة ما يصلنا من نفحات الأقلام، ولن تغلق الرسالة أبوابها يوما في وجه أصحاب المواهب والملكات. . أما هؤلاء الذين يبعثون إلى بأسئلتهم الأدبية، فموعدي معهم في الأعداد المقبلة إن شاء الله.

أنور المعداوي.

ص: 36

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

معالي الدكتور طه حسين باشا:

أبدأ بتهنئتكم بالإنعام السامي الذي شمل به جلالة الملك الأدب والفضل والهمة في شخصكم الكريم، إذ منحكم رتبة الباشوية، فقدر بذلك أعمالكم الجليلة ونشاطكم الدائب في خدمة هذا الوطن المحبوب، وتوج به ما نلتموه من محبة أهل هذه البلاد وتقدير البلاد الأجنبية لشخصكم المتفرد، لما تملئون به الدنيا وتشغلون الناس من سعى مثمر في خير الإنسانية ونشر العلم والثقافة.

وقد اعتدت - يا معالي الباشا - أن أقصر في السعي مع الساعين إليكم في المناسبات المختلفة، مؤثراً أن ألقاكم وأتحدث إليكم في هذا الركن الهادئ من (الرسالة) على أن أزحم ساحتكم مع الزاحمين، أبتغي بذلك لنفسي تجنب الزحام وما يلابسه من أذى والبعد عمن يستأذنون عليكم وما يبدونه من جفوة لأمثالي غير ذوي النفوذ والسلطان! وأبتغي أيضاً لكم الراحة من واحد، وإن كان واحداً من آلاف. أقول هذا لاعتذار من تقصيري، ثم أخلص إلى ما أحببت أن أحدثكم به في هذا الكتاب الذي أوجهه إليكم على صفحات الرسالة كي أشرك قراءها في الموضوع، وأزعم أني أتكلم باسمهم فيه، فهم إما أدباء يهمهم الأمر أو محبون للأدباء لما يطالعون من إنتاجهم فيودون لهم الجزاء الحسن على ما يسكبون من أرواحهم على الصفحات

نذكر يا معالي الباشا، وأنتم تذكرون، بلاءكم الحسن في المحنة التي وقعت فيها أسرة الأديب الكبير المرحوم الأستاذ المازني، فقد كتبتم وعاودتم الكتابة، مطالبين - قبل أن تلوا الوزارة - بتقرير معاش الأسرة الكريمة يكفل لها حياة كريمة، وتوجهتم إلى الأدباء أن يتضامنوا (ويجمعوا أمرهم على أن ينغصوا على رئيس الوزارة ووزير المعارف أمرهما كله وأن يؤرقوا ليلها ويجعلوا يومهما عسيرا، حتى يفرغا من هذه القصة، ويفرغا منها على النحو الذي نريده لا على غيره من الأنحاء) وشددتم في ذلك وألححتم فيه حتى قلتم: إن لم تهتم الحكومة بهذا الأمر فإني أتوجه به إلى جلالة الملك. ثم توليتم وزارة المعارف بعد قليل وحققتم ما ناديتم به، إذ تقدمتم إلى مجلس الوزارة، فقرر لولدي المازني وزوجته

ص: 37

معاشاً شهرياً قدره ثلاثون جنيها. وقد حمدنا لك اهتمامك كاتبا ناقداً، وشكرنا لك همتك وزيراً عاملاً.

ولا شك أن عملكم في ذلك، كان له أطيب الأثر، لا لأنه خاص بأسرة أديب بعينه، وإنما لما يقرره من مبدأ وما يهدف إليه من خير لسائر الأدباء ولأسرهم من بعيد العمر الطويل الذي يثمر أدبا ينفع ويمتع، ولكنه لا يغني من جوع.

هذا مثل آخر يا معالي الباشا وعميد الأدباء، أسرة الشاعر الرواية والأديب المحقق المرحوم الأستاذ أحمد الزين، لست بحاجة إلى أن أعرفكم بشعره وجهده في خدمة الأدب بإخراج مراجعة وتحقيق روائعه، غادر هذه منذ أكثر من ثلاث سنوات وترك وليداً تكفله أيم، وهما منذ ذلك الحين يعيشان في كفالة الضياع والإهمال. .! كان الرجل قانعاً بكفاف العيش وبصيانة كرامته وأدبه عما يمس الكرامة ويشين الأدب ولو جلب نفعاً ومالً كثيرا. ولكن الأسرة الآن بعد فقد عائلها لا تجد غير العقوق والحرمان.

خدم الزين الحكومة نحو خمس وعشرين سنة، قضاها في دار الكتب المصرية، يكد ويشقى في إخراج نفائس الكتب، ويجازي بالأجر البخس يحسب له قريشاً في اليوم. . . لم ينصفه أحد حتى جاء (الإنصاف) فأنصف شهادته. .! إذ وضعه من أجلها في الدرجة السادسة!.

وليت أسرته تلقي الآن مثل ذلك! كل ما كافأتها به الدولة (مكافأة) لم تبلغ مائة جنيه قاسمتها الحكومة إياها. . وتركها تعاني ما تعاني من الحزن والبؤس والحرمان.

هذه محنة أخرى يا معالي الباشا وعميد الأدباء، ليس أمرها الآن عسيراً عليكم، ولست أنا في حاجة إلى أن أدعو الأدباء إلى التضامن وإجماع الأمر على التنغيص عليكم وتأريق ليلكم وجعل يومكم عسيراً. . . ولو احتجنا إلى أن نفعل لما ترددنا. . . ولكن الأدباء مطمئنون لأن واحداً منهم، وهو طه حسين بالذات، يلي الأمر، وأنا واثق من أن هذه المحنة ستنال عنايتكم، فأنتم ولا شك لم تعلوا بها حتى الساعة.

ذلك يا عميد الأدباء، وللأدباء، عندك حقوق أخرى سكنوا عنها إلى الآن، لأنهم كمن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. . . ويؤثرون أن تفرغوا لمسائل التعليم وتيسيره وإنصاف أهله، ولكنهم يتوقعون من عميدهم عملا يذكى الأدب ويشجع المشتغلين به، وأنتم من أعلم الناس بما يلاقي الأدباء الذين لا يستظلون بحماية أحد، من عنت وعقوق

ص: 38

في هذا البلد.

وتفضلوا معاليكم بقبول فائق التحية ووافر الاحترام.

الشعر المعاصر

في رأي الدكتور ناجي:

قيل أن الدكتور إبراهيم ناجي سيلقي محاضرة عن (الشعر العربي المعاصر) بنادي الخريجين المصري. وذهبنا نستمع إليه هناك، فألقي علينا محاضرة، أو - بتعبير أوفق - حدثنا حديثاً، لا يصح أن نعتبره في (الشعر العربي المعاصر) إلا إذا اعتبرنا أن هذا الشعر هو الدكتور إبراهيم ناجي وشعره لا غير. .

فقد بدأ بأن النقاد لا يحفلون بشعر المعاصرين، إذ لا يكتبون إلا عمن فارقوا الحياة، وهو يرى أن الشعر المعاصر ما قيل منذ عشرين سنة إلى الآن بخلاف الحديث الذي يرجع إلى خمسين سنة. . وأن الشعراء الأحياء (المعاصرين) لا يهتم بهم نقادنا. . . بخلاف المستشرقين الذين عنوا بدارستهم. . وذلك أن أحد الناشرين الإنجليز أخرج كتابا جمع فيه مختارات من أشعار هؤلاء الشعراء، والذي يهمنا مما احتواه هذا الكتاب - في حديث الدكتور ناجي - هو قصيدته (العودة) التي ترجمت إلى الإنجليزية وإلى الفرنسية فجاءت في الترجمة أحسن منها في الأصل العربي! كما قال الدكتور. . لماذا؟ لأن الشعر الإنساني هو الذي يصلح للترجمة، وليس كذلك سائر الشعر، فمثلا: دعت جريدة (الأهرام) في وقت ما الأدباء إلى ترجمة قصيدة (يا نائح الطلح أشباه عوادينا) لشوقي، فلم يستطع أحد أن يترجمها، والدكتور ناجي ممن حاولوا ذلك، لأنها - كما قال - لا تصلح للترجمة!

وهكذا سقط أمير الشعراء في الميدان أمام الدكتور ناجي في الجولة الأولى! وبقي أن يجول جولات أخرى يسقط فيها الباقين.

هناك أولا شعراء تنشر لهم (الرسالة) فيجب التخلص منهم، قال: لكي نعرف قيمة ما ينشر من الشعر (المعاصر) ننظر في المجلات الأدبية التي هي أهم ما يهتم به، وأهم هذه المجلات (الرسالة) في مصر و (الأديب) في لبنان، فلنقارن بين هاتين المجلتين من حيث ما ينشر بهما من شعر، قال ذلك ولم يقارن. . إذ بدا له أن يقصر المقارنة على (الرسالة)

ص: 39

من حيث ما كان ينشر فيها من قبل وما ينشر الآن، وكل ما قاله في ذلك، أن الرسالة كانت فيما مضى تنشر بها! ولم يعن الدكتور يذكر أسماء من أنت تنشر لهم الرسالة، فليس هو منهم. . أما الذين ينشرون بها الآن فهم في طريق الغارة التي يشنها بهذا الحديث على (الشعر المعاصر) والرسالة نفسها عقدة في نفس الدكتور. . ولذلك فإنه ليس في البلد نقد. . ألم يخرج ديوان ناجي فلم تكتب عنه الرسالة! ولعلة لا يذكر سبب ذلك، فقد أتى إلى دار الرسالة يحمل نسخة من هذا الديوان مشترطا ألا يطلع عليها نقاد الرسالة. وشكرنا له هذا الفضل! وليست الرسالة وحدها - فالحق يقال - هي التي أهملت ديوان ناجي (عملا بوصيته!) بل كذلك جميع الصحف والمجلات، خلا (عمود فقري) في إحدى الصحف. . و (العامود الفقري) من لفظة على سبيل النكتة. . ونذكر أن الدكتورة بنت الشاطئ هي التي كتبت عنه (عمودا) في الأهرام. ولم يفت الدكتور - في هذه النقطة - أن ينبه على أن العباقرة لا يلتفت إليهم في زمانهم، فشكسبير مثلا لم يعبأ به الإنجليز في حياته، ثم كشف عنه الألمان ولكنا نرى أن الدكتور إبراهيم ناجي ليس كذلك. . فالناس يلتفتون إليه ويهتم كثير منهم بشعره، حتى لقد استنفذ ما يستحق من ذلك.

ويتابع الدكتور إبراهيم ناجي حديثة عن (الشعر المعاصر) أو حملته عليه ليقضي على البقية الباقية، وليثبت في النهاية أنه هو الشعر المعاصر. . . فيقول: يتجه الشعر العربي الآن اتجاهين رئيسيين، يسير في الاتجاه الأول طبقا للمذاهب الأدبية المعروفة، والثاني يتمثل في محاولة خلق شعر حديث اجتماعي يوافق العصر الجديدة ويتصل بالجماهير. فالمذاهب التي يسلكها الاتجاه الأول هي التقليدية اللفظية (الكلاسيكية) التي تعني بالألفاظ (القاموسية) والدلالة المباشرة للكلمات دون التفات إلى روح الكلمة وظلالها، ويمثل هذه (الكلاسيكية) الآن في مصر، الأسمر، وأتى ببعض شعره الذي لا تجد فيه إلا (الكليشهات) المرددة التي لا روح فيها.

ثم المذهب الخيالي (الرومانسية) المشبع بروح المراهقة ولم يذكر لهذا المذهب أحداً من شعراء مصر، بل قال أنه يتمثل في شعراء الشام لتأثرهم بالأدب الفرنسي.

ثم الرمزية (السمبولزم) التي يمثلها في مصر الدكتور بشر فارس، وقال إن الدكتور نقل غموض الرمزية إلى مصر ولم ينقل جوهرها.

ص: 40

ثم الواقعية (الريالزم) التي جرى عليها العقاد فأخرج الشعر عن طبيعة، إذ جرده من الانفعال وجنح به إلى الفكر والمنطق.

وأخيراً (السريالزم) الذي يقوم على إستيحاء العقل الباطن في غيبة الشعور الواعي، فتظهر فيه البدائيات الإنسانية مختلفة، كما في شعره محمود حسن إسماعيل الذي يذخر بما كان يملأ عقل الإنسان الأول، من مثل الكوخ والراهب والنادي والمزمار. . الخ.

وهكذا جبر الدكتور جبر الدكتور ناجي خاطر (الشعر المعاصر) المسكين الذي لا يجد أحداً يتحدث عنه. . فتحدث هو عنه بذلك الأسلوب، ولم يفته أن ينبه الأذهان - تلميحا وتصريحا - إلى أنه (الدكتور ناجي) هو الذي يقول (الشعر المعاصر) الذي فسره بأنه؟ إنساني خالد. . وهو يصف الشعر الإنساني بأنه معاصر كيلا يشركه فيه القدماء، وقد فرغ من الأحياء! وقد قال أنه يتجه في شعره إلى الجمع بين المذاهب المعروفة كلها، ومرة أخرى قال أنه هو صاحب الاتجاه الاجتماعي الجديد الذي يعني بالجماهير، وكأنه ترك من يمثل من يمثل (الرومانسية) في مصر (على بياض) لأضعه أنا في هذا البياض. . ومما يدك على (رومانسيته) أن المراهقة وخيالتها تبدو واضحة في شعره رغم كبره، ولعله يوافقني - وهو من المشتغلين بالدراسات النفسية - على أن المراهقة - على أن المراهقة ليست خاصة بالشباب؛ فهي فيهم بالفعل، وهي أيضاً في الشيوخ بالقوة. .

الضمان الاجتماعي في الإسلام:

ألفت الدكتورة بنت الشاطئ محاضرة في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية يوم السبت الماضي، موضوعها (تطبيق الضمان الاجتماعي في الإسلامي) قالت فيها: لا ازعم أن تشريع الضمان الاجتماعي؟ الذي تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية كان موجودا في الإسلام بصورة الحالية، وإنما أقول إن الإسلام وضع مبادئه وترك تفصيلاته للمجتهدين بما يوافق الأحوال والأزمان، وذلك أن الإسلام خصص جزءاً مما يتجمع في بيت المال المسلمين من الأوجه المختلفة كخمس الغنائم والتركات التي لا وارث لها - خصص جزءاً من ذلك للفقراء والعجزة والمحتاجين، وجعل ذلك حقاً لهم، كما حث الأغنياء على التطوع بالصدقات. وذلك كله تحقيق للوحدة الاجتماعية التي يحث عليها الإسلام. وقد اختلف الأئمة فيما عدا الأموال المنصوص على وجوبها، كإعانة المحتاجين والإحسان إلى المعوزين،

ص: 41

فقال بعضهم إنها صدقة تطوع، وذهب آخرون منهم ابن حزم إلى أنها واجبة وأن على كل من عند فضلة مال أن يعين بها من هو في حاجة إليها، ويجب على أغنياء البلد أن يعولوا كل من فيها من الفقراء العاجزين عن الكسب.

وعرضت بعد ذلك لتطبيق تلك المبادئ في الحياة الإسلامية فذكرت بعض ما جاء في تاريخ الخلفاء كالوليد بن عبد الملك، من اهتمامهم بأمر العاجزين عن الكسب وترتيب الأرزاق لهم ثم تحدثت عن قضية وقعت في صعيد مصر سنة 1920، تتلخص في أن امرأة غاب زوجها غيبة منقطعة وتركها هي ووليدها الصغير دون مال أو عقار، فتقدمت إلى محكمة نجع حمادي الشرعية طالبة الحكم لها ولابنها بنفقة على زوجها الغائب والحكم لها بالاستدانة، على أن تدفع وزارة المالية باعتبارها بيت مال المسلمين النفقة المطلوبة وتعتبرها ديناً على المحكوم عليه تستقضيه إياه حينما يظهر. . وحكم لها القاضي بذلك، وكان القاضي هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري. وجاء في حيثيات الحكم أن وزارة المالية في بيت مال المسلمين الذي تجب فيه نفقة هذه المرة الضعيفة وولدها الصغير العاجز عن الكسب، لو لم يكن لها عائل، وجزعت وزارة المالية من هذا الحكم لأنه يفتح بابا ينقذ منه جميع من في القطر المصري من أرامل وعجزة وأيتام وغيرهم من المحتاجين العاجزين، واهتمت وزارة الحقانية بالأمر فعهدت إلى تفتيش المحاكم الشرعية أن يبحثه. . وبحث (التفتيش) المسألة وأصدر منشوراً إلى المحاكم الشرعية ألا تنظر في أمثال هذه الدعوى لأن القضاء غير مختص لها، وأمر (التفتيش) بعدم تنفيذ ذلك الحكم لأن تنفيذه، مع ما يستجد، يؤدي إلى إفلاس بيت مال المسلمين.

وبعد انتهاء المحاضرة أجابت الدكتورة على عدة أسئلة وجهت إليه منها هذا السؤال: ألا يعتبر الإحسان إلى الفقير إذلالاً له؟ قالت: أنه حق، وليس معنى الإحسان الإذلال، قال الله تعالى (وبالوالدين إحسانا) وقال:(فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بإحسان).

عباس خضر

ص: 42

‌رسالة الفن

إخراج رواية (ابن جلا)

تعليق علي تعقيب

للأستاذ أحمد رمزي بك

المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي

أشكر للأستاذ البارودي الكلمة التي تفضل بالتعليق بها على كلمتي حول إخراج رواية (ابن جلا).

وأبادر بأن أعلمه أن قصدي من النقد هو إبداء الرأي رغبة في الإصلاح لا في الهدم، ثم أعلمه بأنني أعد عمل عزيز أباظة باشا وعمل محمود تيمور بك في كتابة (شجرة الدر) نظماً وتأليف (ابن جلا) نثراً، فتحاً جديداً للمسرح العربي، لا يقل بحال عن الفتح الذي بدأ به أمير الشعراء، رحمة الله. ولذا أطلب المزيد من إخراج حوادث وأيام ومظاهر تاريخنا العظيم. .

وليسمح لي الأستاذ بأن أصارحه أنني أجل الصديق العزيز زكي طليمات بك وأقدر علمه وفنه وأعرف تماماً ما بذل من جهد في التمثيل والتخجيج والإخراج، وأنا على يقين من المصاعب والعقبات التي واجهته في كل ذلك، ولذا أهنئه من كل قلبي.

ولي الحق بعد أن أقول بإخلاص: إن أخبار الحجاج معروفة في كتب الأدب والتاريخ وأعماله مشهورة ومشهودة، وقد كنت أنتظر منه ومن تلامذته وطلابه الرجوع إلى أمهات الكتب العربية لا إلى كتب المدارس الثانوية لكي يتعرفوا على روح العصر ولكن يتصلوا بالحجاج وأقواله وشخصيته وزمنه اتصالاً وثيقاً.

وما أقوله عن رواية (ابن خلا) ينطبق على رواية (شجرة الدر) كنت أؤمل في أن يتدل الممثلون ورجال الفن بالعصر الذي دارت فيه ظروف هذه الرواية وأن يعيشوا حقبة وسط أدواره وأيامه.

أقول هذه لأن الصورة التي ظهر بها صديقي زكي طليمات بك في دور الحجاج ليست صورة الحجاج (رغم ما كان يعتمل ويحتد في باطنه من استعلاء).

ص: 43

ثم أقول إن الصورة التي ظهر بها بيبرس في (شجرة الدر) لا تمت بصلة إلى شخصية بيبرس.

إنني لن أتكلم عن التأليف التاريخي في المسرح العربي، لأن الكتاب والشعراء لا يزالون يجاهدون في الخطوات الأولى وهي ليست هنية، ويصعب على إبداء رأي قاطع وأن كنت أقرر أن التأليف التاريخي بختم الاستعانة بأهل الخبرة والاطلاع، ولا يسعنا أن نطلب من المؤلف أن يلم بكل تفاصيل التاريخ ولكن لا ندع هذه الفرصة تمر دون أن نشير عليه بأن يلم بروح العصر وبالعوامل النفسية التي كانت تختلج في صدور أبطاله.

وأعود إلى الإخراج فأقرر بأنني أعد الإخراج بدائياً، إذا لم يكن منطبقاً على أصول الإخراج المعروفة، بصرف النظر عن فكرة هل في وسع المخرج مادياً مراعاة هذه الأصول أم لا. . .

لأننا تطلب من المخرج حينما يتعرض لإخراج الروايات التاريخية شرائط يلزم نفسه باتباعها، فأما أن تكون بين يديه فيحصل على تحقيق نهاية ما يمكنه من الإخراج الصحيح أو ما يقرب من الصحيح، وإما أن يعتذر عن الإخراج الذي لم تستعد له البلاد بعد.

ولا أزال على رأيي من أن الإخراج التاريخي لا يزال بدائياً في مصر، وهذه حقيقة ثابتة ملموسة واضحة منذ أيام الشيخ سلامة حجازي إلى اليوم. والأدلة على ما أقول كثيرة ولا محل لتكرارها.

أما الإخراج في غير هذه الروايات التاريخية، وأقصد بالتاريخية ما تمس تاريخنا وعصورنا، أقول أنه حيثما وجدنا المشق أمامنا، في التمثيل والتخريج والإخراج، جاء تقليدنا موفقاً بقدر يقظتنا واهتمامنا بالنقل عن المسرح الأوربي والتأثر بمناظره وحركاته وإشاراته.

وكلنا نشعر بأن تخرج شخصية لويس الحادي عشر بواسطة الأستاذ الجليل جورج أبيض بك كان موفقاً جداً، بل أنني لا أجد شائبة واحدة على إخراج الملابس والأثاث والمناظر لهذه الرواية لا من الناحية التاريخية ولا من جهة مطابقة المناظر والأثاث والملابس للحقيقة التي كانت سائدة في عصر لويس الحادي عشر.

لماذا لازم المسرح العربي هذا التوفيق؟

ص: 44

لأن القائمين بالتمثيل والإخراج في مثل هذه الروايات وجدوا المشق والصورة والنموذج أمامهم في كل شيء، فلم يكن أمامهم سوى التقليد في إخراج الرواية وتخريج الشخصية ومحاكاة التمثيل في الإلقاء والإشارة.

ولذا أعد مهمة المخرج العربي ورسالته محصورة مؤقتاً في الأخذ بالروايات الكلاسيكية أو الأوربية المشهورة التي سبق للمسارح العالية إخراجها، وذلك حرصاً مني على الخطوات التي سار فيها المسرح المصري، ولكي لا نتعثر في الأخطاء الكثيرة التي وقعنا فيها في رواية (شجرة الدر) و (ابن جلا).

وليس ذلك من قبل تثبيط الهمم أو الدعوة إلى إهمال الروايات التي تمثل أزهى عصورنا التاريخية ولكني أقولها بصراحة وفي مواجهة المسؤولين والمختصين أنني أحرص على تراثنا التاريخي حرصا لا مزيد عليه، وأريد أعيش لأرى هذا التراث على المسرح، بمظهر القوة والعظمة في التمثيل والإخراج، الذي يرتاح إليه ضميري ويطمئن له قلبي وبرضى عنه شعوري وإحساسي بقدسية هذا الماضي الذي يملأ كل جوانب نفسي.

وإني كرجل بقدر رسالة المسرح العربي وأثره في يقظة الشعور القومي والوعي التاريخي لا يسعني إلا أن أشير إلى ما يصاحب هذه الفكرة من عقبات تتعلق بالبحث والدرس والتدقيق وما يلزم كل ذلك من ابتكار وابتدع وخيال وصناعة، فنحن الذين نقلب صفحات كتب التاريخ القديمة لا تعطى لأنفسنا أكثر مما نستحق أو أبعد مما نعلم إذ لكل جهد غاية ونهاية، وقد تقف بنا الجهود عند رأي أو فكرة وقد نعلم أشياء عن عصر معين، ونجهل أشياء كثيرة عن عصور أخرى، فمقدار علمنا في كثير من هذه الأمور محدود، ومقدار تشبعنا بأي عصر من العصور قاصر عليه قد لا يتعداه.

فإذا طلب إلى المسرح بفرقة المختلفة إخراج بعض الروايات التي تمثل عصر الحجاج أو شجرة الدر أو صلاح الدين أو العصر العباسي يجب أن نتدبر الأمر وأن تفكر فيه، حتى لا نقع في المتناقضات والأخطاء التي يصح أن تكون موضع انتقاد الغير وانتقاصه لسمعتنا.

وعليه أعتقد - ولا جناح عليّ في ذلك - إن جهود المسرح العربي يجب أن تتوافر على إخراج رواية تاريخية في العام الواحد، وأن يكون الاستعداد لها - ماديا - بعد درستها دراسة علمية: تستند على ثقافة وافرة واطلاع عميق على النصوص التاريخية وعلى على

ص: 45

الآثار، وعلى تفهم ميزات كل عصر في كل ما يتعلق بالملابس وشارات الملك والأسلحة والأثاث والمعمار، ولا يسع عالماً واحداً أن يقوم بكل ذلك بل أن هذا العمل يستلزم تعاون طائفة من أهل الفن والعلم والاختصاص.

وأظن أن الأستاذ البارودي لا يخالفني في هذا الرأي. . . أم قوله إن الروايات التاريخية بجور إخراجها بملابس ومناظر عصرية فرأي له أنصاره وهو تمكين الجمهور من الاستماع إلى رنين الألفاظ وأداء المعنى المقصود من عبارات المؤلف، ولو أخذنا في إخراج (شجرة الدر)(والحجاج) بهذا الرأي لم يكن لمثلي أن يتكلم منتقداً ملابس العصر وشواهده. . .

أما وقد أخذنا المسرح بالإخراج التاريخي لا العصري فإنا عند رأيي الأول من أن إخراج الجند الشامي في رواية الحجاج بملابس القرن العشرين جاء مضحكاً، وأكثر منه إمعاناً في التسلية إلباس أحد قواد الحجاج ملابس القائد الإيراني لعهد مظفر شاه. . .

وحيث أننا انتقلنا من المذهب العصري إلى الإخراج التاريخي وجب علينا التقيد بالرأي القائل بأن يكون الإخراج مطابقاً في مناظره وملابسه للحقيقة التاريخية.

وإلا جاز إخراج رواية لويس الحادي عشر بملابس نابليون، وإلباس لويس الرابع عشر ملابس عهد الثورة الفرنسية. أؤكد للقارئ أن أي مسرح أوربي يقدم على هذا الخلط والمزج الغريب يسقط في فرنسا سقوطاً فاحشاً. . .

ولقد استشهد الأستاذ البارودي ببعض روايات برناردشو في كلامه، ولكن ما رأيه في أن برناردشو حينما أشرف على كتابة محاورات رواية كيلو بطرة، اهتم اهتماماً بالغاً، فتتبع حياة يوليوس قيصر، وعكف على دراسة مختلف ملابس العصر والألوان التي كان يلبسها ويعجب بها قيصر، وأن تدقيقه في أسلحة ذلك الزمن، دفعه إلى استعراض كل ما كتب عنها وتصفح صور المجموعات العالمية لها، حتى وفق إلى لون الدروع المحببة إلى قيصر والتي كان يحملها في الحفلات.

ولقد حاولت ومعي غيري أن أجد في الرواية منظراً نابياً أو أجد خطأ في ملابس القواد والجند والخدم والحاشية، أو تساهلاً في الأثاث والمباني، أو شيئاً يمت إلى عصر لا حق لعصر قيصر فلم أجد شيئاً من ذلك، فعرفت حقاً أن الإخراج التاريخي أمانة. . .

ص: 46

إنني أصدقه، في أن الإخراج الواقعي أي محاولة تمثيل الواقع حرفياً أمر صعب، بل إذا قصد به إخراج الواقع في الحياة وما يلازمها تماماً كصورة طبق الأصل، أصبح الإخراج أدعى إلى ضجر الجمهور، لأن التمثيل والإخراج يحتاجان إلى الخروج عن قاعدة مجاراة الحقيقة التي يعيشها الإنسان في حياته العادية.

ولكن الأمر هنا يتعلق بمعرفة القدر اللازم إدخاله من المغالاة في التعبير والإشارة، ثم إلى حسن الاختيار. وهنا يبرز خيال المخرج ليلتقي مع صناعته وذوقه في صعيد واحد وهذا هو الفن، ولكن أتساءل هل هذا المذهب يبرر القول بأن استعمال الخط النسخ بدل الكوفي مسألة ثانوية، إذ ما ذنب الجمهور الذي يتلقى درساً خاطئاً في حقيقة تاريخية ثابتة كان يسهل جداً على المخرج تلافيها؟ وما أسهل ذلك عليه، بوضع الكتابة على الإعلام كوفية في رواية (ابن جلا) وبالنسخ في (شجرة الدر).

إن المجهود الذي بذله الأستاذ زكي طليمات بك في التمثيل رائع حقاً، وفي الإخراج عظيم. وقد شرح لي عزته المصاعب التي كانت أمامه، ولكني كرجل حريص على تاريخنا الإسلامي الذي ننحدر من أيامه وتتكون شخصيتنا من مواقفه وعظمته الخالدة، أقول إن الشخصية التي ظهر بها على المسرح ليست شخصية الحجاج، إنها أقرب ما تكون إلى تيمور لنك أو شخصية (أورسون ويلز) في روايته السينمائية لما فعل بورجيا أو القائد الأسيوي بايان في (الوردة السوداء).

الحجاج وهو سيف بني مروان يحتاج إلى دراسة أعمق من هذا لكي نظهره كما قال الأستاذ البارودي (أداة سياسية في المجتمع أو خادماً ساهراً على مصلحة الجماعة) أو لكي يظهر (بطلا تاريخياً تنمحي فرديته أمام عنصره السياسي التي عني إلى الجماعة بصفة عامة).

إن تقمص شخصية الحجاج تحتم أولاً تفهم عصر الحجاج، كما أن إبراز المعاني الكامنة والغامضة تستدعي تكشف الدوافع النفسية، وكل هذا يتطلب أن يعيش الإنسان في عصر الحجاج ولو فترة بين المراجع. كنت أنتظر أكثر من هذا ولكني لا أزال ا (مل وأنتظر من الصديق زكي طليمات بك ما هو أعظم وما يتفق مع (ما يعتمل ويحتدم) بين جنبين من آمال كبيرة ورغبة للوصول إلى آفاق بعيدة. . .

أحمد رمزي

ص: 47

مسرحية ابن جلا

لما نشرت الرسالة الغراء نقد مسرحية (ابن جلا) للأستاذ أنو فتح الله، رأيت في نقده تحاملاً ظاهراً على المؤلف لا يستند إلى حقيقة ولا يرمي إلى غاية بريئة وهو نفس الأمر الذي لا حظه أستاذنا الزيات فعلق عليه بقوله (إن الناقد قد نظر إلى المسرحية بعين السخط فرأي المساوئ).

والأستاذ الناقد من خريجي قسم النقد بمعهد التمثيل الذي أقوم بالتدريس فيه، وهو من نفس الوقت ناقد ناشئ مجتهد، ومن هنا وجدت تشجيعاً له وتكريماً أن أعقب على نقده وليس بيني وبينه سوى هذا، فلم يكن هناك داع أن يجأر الناقد في مقاله بأني تعديت الناحية الموضوعية للنقد إلى التعريض بشخص الناقد الذي لم أذكره بخير أو بشر إلا في حدود ما خطه قلمه، فإذا أضفنا إلى ذلك أن معرفتي بصاحب المسرحية أستاذنا تيمور بك هي عن طريق مؤلفاته إذ أني لم أتشرف بمعرفته أو لقائه حتى اليوم لظهر أن تعقيبي على مقال الناقد كان بريئاً خالصاً لوجه الفن والحقيقة وأنه لم يكن مستساغاً هذا الغمز.

ويأتي اليوم ناقداً البصير ويردد ما قاله في نقده الأول ويهرب من مآخذي بتصوير دوافع شخصية خيالية تحويلها، وهذا أمر لا يليق بناقد في مستهل حياته أفسحت له مجلة كبيرة صدرها. وإني لأنصح له مخلصاً أن يلتزم جانب الحق وأن يرجع إليه دائماً وليس بضاره هذا بل أنه لأكرم وأجدى. أما إذا كان يرى أن في تسفيه أعمال كبار الكتاب سبيلا إلى التقدم نحو الصفوف الأولى فهو لا شك يخطئ خطأ جسيما في حق نفسه وفي حق قرائه. وأخيراً فإني أعتبر عجزه الواضح في تعقيبه إقراراً منه بأنه قد أساء فهم المسرحية التي نقدها واكتفى بهذا إذ ليس من شيمتي أن أجادل في غير طائل.

إسماعيل رسلان

ص: 48

‌البريد الأدبي

أمنية كبرى تحققت

كنت وإخواني المصريون، في السنوات التي قضيناها نطلب العلم بباريس، نلاقي من كثير ممن نتصل بهم، من الفرنسيين وغير الفرنسيين الذين تجمعنا بهم صلة الدرس أو السكن، جهلاً عجيباً بالإسلام وتقاليده. وكذلك وجدت الأمر بالنسبة لمن اتصلت بهم وتحدثت إليهم من المسلمين بإنجلترا وأسبانيا في رحلتي إليهما عام 1948. وحين زرنا ألمانيا صيف ذلك العام نفسه، باعتبارنا أعضاء بمؤتمرات الشباب العالمي الذي انعقد بموينخ في شهر يونية، وجدنا نفس الشيء في شباب ألمانيا، وربما على نسبة أكثر ومدى أوسع.

وفي هذا المؤتمر كان من حظي وحظ أخي وصديقي الدكتور أحمد مسلم المدرس الآن بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول. أن وقع علينا عبء البحث والنقاش في اللجنة التي عهد إليها بحث مشكلة زيادة عدد النساء وعدد الرجال في ألمانيا بعد الحرب التي أكلت الشبان. وكان أن عرض كثير من المؤتمرون، وهم من أجناس وأمم ودول مختلفة من جميع أقطار الأرض، حلولا غير ناجعة لهذه المشكلة، وحسبنا أن نذكر أنه كان منها إباحة (المخالة) رسميا وجعلها في منزلة الزواج ومنزلة واعتبار!!

وكان أن عرضنا، زميلي وأنا، الحل الوحيد الذي يعالج هذه المشكلة علاجاً طبيعياً شريفاً دائماً، نعني به إباحة تعدد الزوجات في التشريع الألماني وغيره من تشاريع البلاد الأخرى التي تعاني نفس المشكلة. وهنا وجدت كثيراً من العيون تسلفنا بنظرات حداد. وكثيراً من الشفاه تتفرج عن كلمات عدم الموافقة بل استهجان الاقتراح، وحين طلبنا السبب في كل هذا، عرفنا أن جمهور المؤتمرين لا يعرفون عن الإسلام شيئاً طيباً يجعلهم يقبلون بعض تقاليده، وبخاصة مسألة تعدد الزوجات. وبعد لأي، وبعد شرح منا لوجهة نظر الإسلام في هذه المسألة وأن الحل الذي يراه هو الوحيد الذي يمكن معالجة هذه المشكلة به هذه الأيام، ابتدأت الأسارير تتفرج، وابتدأ المؤتمرون يقبلون بجد على تقليب وجوه الرأي فيه.

ثم عدنا إلى الوطن، وشرعت ألمانيا الغريبة تعد دستورها الجديد. وإذا بمدينة (بون) العاصمة يقترح أهلها - كما نشرت الصحف هنا - يقترحون أن ينص في الدستور على إباحة تعدد الزوجات علاجاً للمشكلة التي يحسها كل ألماني إحساساً شديد!

ص: 49

كان من أماني إذا، وقد عدت للوطن، واستقررت فيه من جديد، أن يكتب كتاب عن الإسلام عقيدة، وأخلاقاً، وتشريعاً، ونظاماً اجتماعياً، ومذهباً اقتصادياً، إلى سائر نواحيه المختلفة حتى الدولي منها موقناً أن هذا العمل يجعل التفاهم بيننا وبين المسيحيين غير الشرقيين أمراً سهلاً ميسوراً، ما دام كل منا سيصح وقد فهم غيره حق الفهم. وقد قدمت في ذلك أكثر من تقرير لمشيخة الأزهر. وكتبت فيه أكثر من مقال في مجلة الرسالة الغراء وغيرها. وكان مما ذكرته في الرسالة في عدد يناير سنة 1950 ما يأتي:

(علينا إذا أن نقرب هذا الدين، وأن نجلوه للطالبين: عقيدة وأخلاقاً ونظاماً اجتماعياً، في كتاب قريب التناول نترجمه للغات جميعاً في الغرب والشرق، ثم نوزعه في أقطار الأرض كلها. بهذا وحده يستطيع أن يعرف الإسلام من يريد، وبهذا نكون أدينا واجباً لهؤلاء الحائرين وما أكثرهم، وللإنسانية كلها، لأن أكثر ما كتب عن الإسلام تعوزه الدقة والإنصاف). وكانت هذه الكلمة موجهة لفضيلة الأستاذ الأكبر، الشيخ الشناوي حينذاك.

وفي العدد الصادر بتاريخ 13111950م كتبت كلمة أخرى

عن الأزهر ووجوه الإصلاح فيه ليؤدي رسالته ي مصر

وغير مصر، وقلت في آخرها: لماذا لا يعمل الأزهر على

تقريب الإسلام يوضع كتاب عنه في نواحيه المختلفة، ثم

يترجم هذا الكتاب بكل لغات العالم ويوزع في أقطار الأرض

كلها؟).

ولم أكتف بما قدمت من تقارير وكتبت من مقالات، دعاوى لما أرى وتأييداً له، بل تحدثت بذلك إلى غير قليل من رجالات الأزهر مراراً عديدة، وشرعت في إعداد نفسي لهذا العمل بما أخذت أجمع من نصوص ووثائق وأسانيد، تمهيداً لوضع الكتاب المرجو بالعربية أولاً ثم لترجمته ثانياً.

لهذا كله، رأيت نفسي أشد الناس فرحاً بما نشرت الصحف من توفيق الله تعالى مولانا صاحب الجلالة الملك إلى الإشارة بوضع رسالة عن الإسلام تبين فضله ومزاياه، ثم تترجم

ص: 50

للغات الحية، ومن أن فضيلة أستاذنا الأكبر شيخ الأزهر شلتوت. حينئذ أحسست برد الراحة التي يحسها من يجد أنه وصل إلى ما كان يتمنى، من أكد الطرق وعلى أحسن الوجوه. ويقيننا أن الله قد كتب التوفيق لفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت في هذا المهم الجليل الذي له ما بعده والله الهادي إلى سواء السبيل.

الدكتور محمد يوسف موسى

أستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر

شكر لابد منه

قبل أن أقدم جزيل شكري وعظيم امتناني إلى إخواني أدباء العرب في كافة أقطارهم، على موقفهم النبيل الذي وقفوه تجاه محنتي من وزارة المعارف العراقية العمومية وتصلب وزيرها الصحفي معالي السيد خليل كنه، أود أن أتريث قليلاً لأزف أسمي آيات الإخلاص إلى أستاذنا الجليل أحمد حسن الزيات الذي فسح صدر (رسالته) الغراء لي، وأعمق عبارات الود والأخوة إلى كاتب التعقيبات الأستاذ الناقد الفذ أنور المعداوي على شعوره الطيب تجاه أخيه الشاعر، حيث قد وقف قلمه على نصرتي، وهذه رنة لا ينساها إلا من فقد معاني الوفاء وتنكر للجميل! كما أرجو أن أكون عند حسن ظن الجميع، وختاماً أود أن أرفع شكري أيضاً إلى الذين وصلتني منهم رسائل وبرقيات ولم أستطع أن أرد عليها في حينه لجهلي عناوينهم، وأن تكون هذه الكلمة بمثابة رد للجميع، وأسأل الله أن تبقى مصر أم الثقافة وزعيمة البلاد العربية، مناراً يهتدي بنوره الملجون. . .

بغداد - أمانة العاصمة

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 51

‌عودة

للأستاذ ثروت أباظة

عشر سنين أحمل الداء في هذه الزائدة التي أبقاها الله في الإنسان ليغض من كبره كلما تكبر، ويذل من عتوه حينما يعتو. . عشر سنين أحمل الداء وأتشبه بالقوم فأروح وأعدو لا يعلم أحد علام أقفل هذا الصندوق الآدمي، ويرونني فيرش المحب اللمح فوق رأسي خشبة الحسد، ويكتم الحقود الحقد في نفسه أو يبديه في ألفاظ مادحة وأنا أتلوى ساعات في اليوم لقد ظن الأهل أنني أبالغ ثم أقوم من تلك الأزمة اليومية لأشكر اللمح للصديق ولأتظاهر بالفرح للحسود.

عشر سنين ودعائي إلى الله كلما أقبل اليوم أن يخف فيه العذاب، ثم أفكر فيما أنا فيه فلا أجد لي غير الأطباء مخرجاً أزال بهم أو ما يزالون هم بي حتى أصبح صديقهم جميعاً وحتى أصبحت أفهم في مرضى أكثر مما يفهم بعضهم. لقد كنت مجتمع آرائهم وحقل ثقافتهم فمن حق هذا المكان الآدمي أن يفهم وأن يفهم كل ما يقولونه وقد فهمته فشقيت به وأسلمت أمري معهم إلى الله.

عشر سنين لا يضيع طبيب يده على مكان العلة بل هو دائماً في المكان الخاطئ وعلى الرأي اليأس وأنا أسلم أمري إلى الله وأشكر نعمته التي وهب فما أقل ما كنت فيه إذا نظرت إلى غيري، وما أهون ما لاقيته من شر إذا ذكرت ما يسكبه على سبحانه من خير.

عشر سنوات ثم يشاء الرب الكريم أن ينم النعمة ويكشف عن الطب الغشاوة عن تلك الزائدة التي أمر الله أن تظل في الإنسان بقية من حيوانيته. . ويشاء الله أن ينكشف الغشاء وأنا في أوج الخير الذي يسكبه على فأغض من كبر كاد أن يركبني وأذكر أنني ما زلت هذا الحيوان صاحب تلك الزائدة التي تألم لتذكر!.

سبحانك رب هل أنا أهل لكل هذا الخير الذي تحيطني به. . . تسكب على النعم حتى لتتلاني الخشية ويكاد المبر أن يدخلني، وحينئذ على النعم حتى لتتولاني الخشية الرحيمة أن تكشف عني علتي فيزول بها مرض الجسم ومرض النفس. . . سبحانك رب. . . وهل يملك هذا المخلوق الحقير إلا أن يسبح باسمك ويسبح، ثم يريد الغنى أن يشكر فإذا أنت سبحانك تسكب عليه الخير مرة أخرى فتهبي له رب! وهل الطيب إلا برك يسعى على

ص: 52

الأرض يستعين بك فتعينه، ويستلهم وحيك فتلهمه سبحانك.

ثروت أباظة

ص: 53

‌القصص

قلب الابن

للأستاذ كمال رستم

مهداة إلى سعادة الأستاذ محمد كامل البهنساوي بك صاحب

الأقاصيص المأثورة

. . رقى إبراهيم إلى العربة وقال مخاطباً الحوذي

- عيادة الدكتور رأفت

وساط الحوذي جواده فتحامل الحيوان الجاهد على نفسه وجرر أقدامه في تثاقل وبطئ وهو يكاد أن يتكفأ من التعب والأنين. . .

وتنهد إبراهيم تنهدة عميقة وهو يرقب العربة تتحرك في هينة ورفق كأنما قد خرج بها إلى نزهة وليس إلى أمر ذي بال. . وهمه أن رأى العربات تمضي بعربته سريعاً كأنما جيادها شياطين جن وأزمع أن يصرخ في الحوذي ليحدث جواده المتهالك على السير. ولكن الرجل كان قد برق في ذهنه نفس الخاطر وأهوى سوطه على ظهر الحيوان في قسوة وعنف فحث خطاه وأنفاسه حشرجة محتضر. . .

ولكن الجواد وقد حسره السير تباطأت خطاه مرة أخرى وتقاربت فعاد الحواذي يلهب بالسوط ظهره والسباب يطفح من فمه وانصرف إبراهيم بذهنه عن الرجل وجوده وأوى إلى أفكاره يعايشها. . أنه ترك أمه في البيت طريحة الفراش. . وقد تعناها المرض وتحلل بها حتى ليوشك أن يوردها موارد الموت. . .

وبدا له غريباً أن يحدث هذه لأمه. . وأن تفارق روحها بدنها الناحل وهي مسمرة به. . وومضت صورتها لحظة في ذهنه. . هذه الأم التي علت بها السن وهي بعد موثقة الخلق شديدة الأسر كفتاة في العشرين، فاستكثر أن تعنو هذه الحياة الكبيرة لمرض فموت. ولكن الحقيقة أن أمه كانت تعاني المرض. . وأنه أقعدها لأول مرة في حياتها عن أداء وأجبها. . وذكر أنها كانت وهي مدنفة تشرف على البيت مملكنها الصغيرة تناقش الزوجة وتراجع الخادم كما تفعل كل يوم. . دون أن تترك للمرض الوافد فرصة للتغلب عليها. . .

ص: 54

كان البيت بيتها، هي ربته تدبر حركته وتصرف أموره على النحو الذي ترضاه، وتأبى على الزوجة أن تطلق يدها في شأن من شؤونه. . كانت تنهض من فراشها في الصباح الواعد فتبعث بالخادم إلى السوق لشراء حاجات الطعام، فإذا عادت من السوق وقد امتلأت سلتها بالخضر والطماطم واللحم دار بينها بادئ الأمر حديث هادئ كان لا يلبث صوت أمه بعده أن يرتفع في ثورة وغضب، لأن الخادم - في وهمها - سرقت نصف قريش. . .

وحينما تتهيأ لطهو الطعام ويعلو صوت (وايور الغاز)

كانت تتمشى على شفتها الرضا والسعادة، فصوت الوابور يحكى عندما صوت الموسيقى تنتشي له وتطرب. . وعندما كان ابنها يعود من عمله مجهداً مكدوداً كانت تستقبله بابتسامة حلوة وتقول له.

- أعددت لك اليوم فاصوليا تأكل معها أصابعك. . .

وكان يجيبها وهو يربت على كتفها قائلا:

- نعم الطعام طعامك يا أمي! لا عندما يديك. . .

وتنثني راجعة إلى المطبخ وقد استغرقتها السعادة لمديحه وإطرائه. . بينما يدلف هو إلى غرفته ينضو عنه ثيابه. وكانوا يجلسون ثلاثتهم إلى المائدة يتنازلون الطعام ويشققون الأحاديث. . .

وعندما كانوا يفرغون من تنازل طعامهم كانوا يأوون إلى أسرتهم يغفون القيلولة ولا يبارحون إلا على أذان العصر فتجهز له أمه القهوة، وبعد أن يتنازلون لها كما يرتدي ملابسه وينطلق إلى الطريق. . .

ولكن هذا لم يكن يحدث في كل وقت. . . فالغالب ألا يمضي اليوم هكذا هادئاً دون أن يفكر صفوة نزاع أو شجار يقوم بين زوجه وبين أمه. . . ولقد اعتاد أن ينصت إلى شكايتهما. . ويحاول جهده أن يصلح بينهما دون أن يتحيز إلى أحدهما. . ولكن موقفه هذا كان لا ينجيه من غضب الاثنتين جميعاً. . فأمه ترميه بمحاباة الزوجة. . والزوجة تتهمه بمظاهرة الأم. . ويمضي به اليوم أبأس ما يكون اليوم. . . ولم يكن هذا النزاع بين زوجه وأمه لينتهي أبداً. . وأبهظت هذا الحال أعصابه. . وأمضته فكان ينفر من البيت وينطلق إلى الطريق يقتل وقته في المقاهي والمشارب يسلو ويتعزى. . وكان يعود متأخراً إلى

ص: 55

البيت فيجد في انتظاره زوجته غضبى. . تشكو له أمه وتنعى عليها أنها سبب شقائهما في حياتهما كزوجين. إنها تعرف أن أمه لا تحمل لها إلا البغض. وهي لا تنسى أنها عارضت في زواجه منها. . . لأنها كانت تأمل أن تزوجه من أبنة أختها. . . ولكن إبراهيم ركب رأسه وأصر على أن يتزوج منها هي لأنهما كانا متحابين. . . وأنها لذلك تسعى إلى تعكير ما ينهما من صفو لتحملها على مغادرة البيت. . . ولقد تبينت خطأها آخر الأمر. . . فما كان ينبغي أن تقبل على أن تبني به وأمه لا تبارك زواجهما. . . وكان ينهض من فراشه في الصباح خائراً مكدوداً فيمضي إلى أمه يقرئها تحية الصباح فتردها عليه فاترة. . . وتقول له إن زوجه أدارت رأسه. . . وأنها تعمل على إفساد ما بينهما. . . وتذكره بأنها أمه. . . أمة التي حملته في بطنها. . . وقامت على تربيته إلى أن غدا رجلا. . . إنها أعدته للزمن أمناً لها في شيخوختها. . ولكن امرأة لن تتعب في تربيته. . امرأة أجنبية. . تبعث في قلبه العقوق وتنفره منها وهو صامت لا يتكلم. . . إنها تعلم أن زوجة تريد أن تقسرها بعنادها على مبارحة البيت ليصبح لها على أتساعه. . . وستفعل هي ذلك يوماً ما دام أنه يظاهر زوجه عليها. . وستمضي إلى شقيقها عنده ما تبقى من أيامها وإنها لقلائل وتدعه لزوجه تهنأ به. . . وحينما ينطلق إلى الطريق محتضنا أفكاره كان يفكر في حياته الشقية هذه. . . أنه لا يذكر أنه شعر بالهدوء يوماً ولا بالراحة منذ أن تزوج. . . إن أمه كان يعز عليها أن يشرك في حبها زوجته. وكثيراً ما كان يهم بأن يطلب منها أن تعدل أسلوب معاملتها لزوجه، ولكنه كان لا يلبث أن يضعف ويستحذي ويقنع نفسه بأنها ستفعل ذلك من تلقاء نفسها حالما تدرك أن سلوكها هذا يتعسه ويشقيه. . . ولكنها لن تشأ أبداً أن تقدم على هذه الخطوة من جانبها. وبات النزاع بينها وبين زوجه لا ينفض إلا ريث أن يعود من جديد. . . وآخر مرة هددته زوجه بأنه إن لم يوقف أمه عند حدها فإنها ستغادر بيته إلى الأبد. . . ولكن ها هي ذي أمه - طريحة الفراش لا تقوى على حركة. . . واندس خاطر جري بين خواطره له همس حبيب. . . (لو أن أمه تموت!). نعم فإنه يود أن يتحرر من إسار بنوته ويخلص إلى زوجه التي لم ينعم بحبها لحظة واحدة. . . وومضت في خياله صورة زاهية لمستقبله الهانئ مع زوجته. . . إنهما يعيشان في البيت وحدهما. . . يتذاكران الماضي ويستعيدان مشاهده. . . ثم انتقلت خواطره إلى أن وقفت به

ص: 56

عند أمه. . . فأقنع نفسه بأنها أخذت حظها من الحياة، وأن الخير في أن تمضي عن الدنيا الآن وقبل أن يمتد بها المرض. . .

وأخرجه من تأملاته صوت الحوذي يقول

- عيادة الدكتور رأفت يابك. . .

فهبط معجلا. . .

ولما عاد إلى المنزل مع الطبيب تقدمتهما زوجه إلى غرفة المريضة. . .

هناك رأي أمه ممددة على الفراش منهوكة القوى مهدومة. . .

وكانت عيناها مغلقتين. . . وصدرها المسيح يخفق وأنفاسها الحارة تتلاحق. . .

وبدأ وجهها المعروق وقد زايلته حمرته. . . وشاعت فيه بدلا منها صفرة الموت. . .

وتقدم الطبيب من مهادها وأمسك بجمع يده. . . يدها المتقدة، ففتحت عينين أنهكهما المرض وكحلهما السهد. . . وفحصها. . . ووصف الدواء. . .

وخلا إلى الزوجين وقال لهما:

- لا معدي من إجراء جراحة فهي الأمل الوحيد لإنقاذها. . .

وليس من الأطباء من أضمن أن يقوم بإجرائها بنجاح إلا الجراح الكبير (محمود باشا سامي). . . فإذا أمكن أن ننقلاها غدا إلى مستشفاه بالقاهرة فلا تتردد. . . وإلا ضاع الأمل في إنقاذها إلى الأبد. . .

وصافحهما ومضى. . .

وقالت زوجه:

- لتحضر لها الدواء. . . وليفعل الله بعد ذلك ما يشاء. . . إنك لا طاقة لك بنفقات جراحة لا طائل تحتها. . . وأنت تعلم من محمود باشا سامي. . .

وأمن الزوج على قولها وقال:

- نعم ليفعل الله ما يشاء. . .

وخرج يحضر الدواء. . .

وراح ذهنه طول الطريق يبرق بشتى ألوان التفكير. . .

وفجأة. . . أحس بشعور جديد وافد. . . يطرق قلبه. . .

ص: 57

إنه الألم. . . الألم الذي راح يغلف روحه في غير هوادة. . .

بدا له أن أمه عزيزة عليه. . . وأنه يحبها كما لم يحبها من قبل. . .

وتراءت له صورتها الحبيبة. . . يوم أن كانت تملأ حركتها البيت. . .

وراح يقابلها بصورتها وهي مسجاة على الفراش. . . لا تقوى على حركة. . . فزخرت بالألم نفسه. . . وناش الحزن صدره، وخيل إليه لحظة أنه لا يطيق العيش بعدها. . . هذه الأم التي أحبته من أعمق قلبها. . .

وشعر بالخزي والعار لأنه تمنى لها الموت. . .

وكان قد بلغ الصيدلية فاتباع لها الدواء وانقلب عائداً إلى البيت محتضنا أفكاره. . .

ودخل غرفتها. . .

وكانت أمه مسترخية على الفراش وقد تآلف جفناها. . . وتباطأت دقات قلبها. . . ووهنت أنفاسها. . .

وكاد مشهدها أن يستل روحه من بين أضالعه

ووسد راحته جبينها الصلت. . . وقال في صوته الخفيض

- أماه! ألا تزالين نائمة. . .

وفتحت جفنيها المطبقين. . . وكما لو كانت الحياة دبت فيها من جديد. . . تمشت على شفتيها بسمة واهنة وهمست

- إبراهيم؟

- نعم يا أماه. . . لقد أحضرت لك الدواء. . . وسيمسح الله ما بك. . . وتعودين إلى طهو الطعام لأني لا أسيغه من غير يديك. . .

ووهنت ابتسامتها حتى كادت أن تتلاشى وقالت في صوتها الهامس. . .

- لقد ضعفت يا إبراهيم. . . لا تأس. . . إنني أحس بأن حياتي انتهت. . .

وخنقته العبرات وهو يقول

- لا تقول ذلك يا أماه. إنك في خير وعافية

. . . ولم تتكلم. . . وراح ابنها يحدق في وجهها الحبيب الذي طالما طالعنه ابتسامته. . . وخيل إليه في لحظة واحدة أنه على استعداد لأن يضحي كل شيء في سبيل أن تبقى. . .

ص: 58

أن تعيش. . . أن يراها مرة أخرى تملأ البيت. . . وأن تستقبله بابتسامتها العريضة. . . وأن تجلس إلى المائدة تطري الطعام الذي صنعته له. . .

وفكرت في غمرة ألمه وحزنه أن يفعل شيئاً سريعاً لإنقاذها. . .

إنه سيسحب في الغد من صندوق التوفير نقوده كلها ويوقفها على شفاء أمه. . . على برئها. . .

وانحنى فوق وجهها الناحل يقبله في حنين وهو يقول:

- أماه. . . سنسافر غداً إلى القاهرة. . . وسأقوم إلى جانبك إلى أن يتم إجراء الجراحة لك وتبرئي من مرضك. . .

وتمشت على شفتيها ظلال ابتسامة. . . وبدا له أنها متعبة مكدودة. . . إذ تآلف جفناها فجأة. . . فتراجع إلى غرفته. . . والدموع ملء عينيه. . .

كمال رستم

ص: 59