المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 915 - بتاريخ: 15 - 01 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩١٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 915

- بتاريخ: 15 - 01 - 1951

ص: -1

‌ثوروا على الفقر قبل أن يثور

سادتي وزراء الشؤون الاجتماعية والاقتصادية الوطني والتموين والتجارة والأوقاف! نصيحة خالصة لوجه الله يدفعني الإشفاق عليكم أن أقدمها إليكم:

ثوروا على الفقر أن بثور، واستعدوا للدائرة قبل أن تدور! إن زميلكم وزير المعارف يؤلب عليكم الأمة! لقد صمم على أن يعلم الشعب. وتعليم الشعب معناه أن تزول الغشاوة عن عينه فيبصر، وأن تنجلي الغشاوة عن قلبه فيفقه، وأن تذهب البلادة عن عصبه فيحس. ومتى يبصر الشعب ويفقه ويحس، يدرك الاختلاف بين حال وحال، ويميز الفرق بين طبقة وطبقة، ويقرأ العدد الأخير من مجلة (آخر ساعة) مثلاً فلا يكتفي منه بالصور تلهيه، بالأخبار تسليه؛ وإنما موازنة الواعي المفكر بين ما صورته من عيد رأس السنة الميلادية وما أقيم فيه من مآدب ومراقص بالنعيم، وتلألأت بالجواهر، وازدهت بالحلل، والتحمت بالرقص، وطفحت بالخمر، وضجت بالحجاز، والتهبت بالقبل، وعرضت على الأنظار الطامحة ألوفاً مؤلفة من الجنيهات المصرية تمثلت على الأجساد المترفة البضة حللا وفراء وعقوداً ومشابك وخواتم مما يجلبه الغنى الفاحش من كنوز أوربا! يوازن بين هذا وبين ما صورت المجلة في العدد نفسه من بؤس الفلاح في قرية (مناوهلة) بالمنوفية وما يكابده من كرب العيش وغصص الفاقة، ومض الأمراض، وعنت الملاك، وهبوط دنياه إلى دنيا البهيم، فيأكل أخشب الطعام ولا يتغذى، ويلبس أخشن الثياب ولا يستتر، ويعمل أشق الأعمال ولا يكافأ، وينتج أعظم الإنتاج ولا يشارك، فتصدمه الموازنة لأنه علم، وتؤلمه النتيجة لأنه أحس. ويؤمئذ يسألكم يا أصحاب المعالي هذا السؤال:(ماذا تصنعون على الكراسي التي وضعتكم عليها بيدي، وكافأتكم على الحركة فيها بمالي؟)

ولعلكم تدركون يا أصحاب الجاه والسلطان، أن الجواب عن سؤال الشعب غير الجواب عن سؤال البرلمان!

أعداؤنا الثلاثة يا أصحاب المعالي لا يعرفون هوادة ولا يقبلون هدنة. فأما الجهل فالصراع بينه وبين وزير المعارف شديد. والعالم كل رقب هذه المعركة الشعواء بعين الإعجاب والثقة والنصر ولا ريب مكفول لزميلكم العظيم لأنه لا يقبل النكوص ولا يرضى الهزيمة. وأما الفقر والمرض فقد تركتموهما يعيثان في القرى والمدن، يبذران الشقاء والوباء، ويسخران من وعودكم التي تعلن ولا تنجر، ومن مشروعاتكم التي توضع ولا تنفذ. وإذا

ص: 1

أنجر منها وعد أو أنفذ مشروع، كان لمصلحة الأغنياء ومنفعة الأصحاء على حساب الفقراء والمرضى!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌الفارابي في الشرق والغرب ومكانته في الفلسفة

‌الإسلامية

بمناسبة مرور ألف عام على وفاته

- 1 -

الأستاذ ضياء الدخيلي

نشرت جريدة (العالم العربي) البغدادية بتاريخ 13121950

تحت عنوان الدعوة للاحتفال بذكرى الفيلسوف الفارابي: تقول

صحف الشام إن السيد فخري البارودي أحد المعروفين

بالاشتغال بالقضايا العامة، والذي انصرف مؤخراً إلى رعاية

الجمعيات لخدمة الموسيقى العربية قد رفع إلى وزارة

المعارف السورية كتاباً يقترح فيه أن تدعو ممثلي الدول

العربية للاشتراك في مهرجان لتخليد ذكرى الفيلسوف

الموسيقار أبي نصر الفارابي بمناسبة مرور ألف سنة على

وفاته ودفنه في دمشق أسوة بالمهرجان الذي قررت الجامعة

العربية إقامته في بغداد خلال الربيع لذكرى لبن سينا. وقد

أخبرني الدكتور جواد علي سكرتير المجمع العلمي العراقي

عندما عرضت عليه هذا الخبر أن أول من احتفل بذكرى

الفارابي الألفية إحدى جامعات النمسا، وقد شهد الاحتفال أحد

ص: 3

العرب فتحمس وتألم لنسيان بلاده هذا الفيلسوف العظيم الذي

أنتجته المدرسة العربية في بغداد على حين يبعث الوفاء

لعبقرية الأوربيين للاحتفال بعيدة الألفي. وأردف سكرتير

المجتمع العلمي العراقي حديثه بقوله لماذا لا يحتفل العرب

بالفيلسوف العربي يعقوب الكندي وهو عربي أصيل؟ وبعد

مفارقتي الدكتور جواد علي راجعت كتاب أخبار الحكماء

للقفطي وكتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة وكتاب

فهرست ابن النديم وقد ذكر هؤلاء ترجمة الكندي إلا أن

الغريب أنهم لم يذكروا تاريخ وفاته غير أني وجدت الأستاذ

الزيات يذكرني في كتابه القيم تاريخ الأدب العربي أن وفاة

يعقوب بن إسحاق الكندي سنة 246هـ ومعنى هذا أنه قد

مضى على عيده الألفي حوالي 124 سنة ولكن لا يمنع ذلك

من إقامة احتفال فخم لإحياء ذكرى أول فيلسوف عربي

أصيل؛ ذلك لأن الشعور القومي العربي كان قبل قرن يرزخ

وينوه بأعباء الاضطهاد التركي واليوم قد تنفس العرب

الصعداء بعض الشيء وتحرروا قليلاً من ربقة استعمار ليخلفه

آخر. ولقد فهموا قيمة الاعتزاز بالأمجاد وتقديس الذكريات في

ص: 4

بعث الحياة واليقظة في الجيل الجديد، وها هي تركيا الحديثة

قد احتفلت بالفيلسوف الفارابي لادعائها تركيته فقد قرأت في

مجلة (الرسالة) الغراء أن الأتراك قرروا الاحتفال بذكراه

الألفية في نوفمبر من هذا العام. ولكن الفارابي إن كان تركيا

في قوميته فهو عربي في دراسته وثقافته ولغته العلمية فمن

واجب العرب أن يحتفلوا بأحد كبار معلمي مدرستهم الفلسفية

ومن كان قبل من عباقرة طلابها وها أني أول من يلبي دعوة

ابن الشام للاحتفال بالفارابي على صفحات مجلة (الرسالة)

الغراء ومن أولى من (الرسالة) بالاحتفال بذكرى فيلسوف

إسلامي كالفارابي، فالرسالة هي المجلة التي حملت في بلاد

العرب والإسلام مشعل اليقظة وأنارت السبيل للجيل الجديد

إلى كنوز الثقافة العربية وبعثت في النفوس الراكدة نهضة

وحياة خليقتين بالإجلال والإكبار وأقبلت على تراث العرب

والإسلام تتلمسه لتظهر معالمه للضالين؛ فأشرقت أنوار

ذكريات ذلك المجد الزاهر الذي أضعناه نحن أبناؤه واحتفظ

بتقديسه الغربيون الذين بقوا يجلون ويكبرون الفارابي وابن

سينا وابن رشد والكندي وإخوانهم ويحيطونهم بهالة من

ص: 5

الإكبار كموقف الفكر العربي اليوم تجاه أفلاطون وأرسطو

وسقراط اليونانيين. من أولى من (الرسالة) في أن تخصص

الصفحات المشرقة من أعدادها الغراء للاحتفال بذكرى المعلم

الثاني و (الرسالة) هي التي علمت شباب العرب والإسلام

اليوم كيف يقدسون تراث السلف الصالح. . . فلتحتفل هي

بالفارابي أسوة بجامعتي النمسا واستنبول.

فقد نشرت جريدة (العزة) البغدادية بتاريخ 18 كانون الأول سنة 1950 أن وزارة المعارف العراقية تلقت أمس دعوة من جامعة استنبول لاشتراك الحكومة العراقية في الاحتفال بذكرى الفارابي التي ستقوم بها الجامعة المذكورة يوم 29 من الشهر الحالي بمناسبة مرور ألف عام على وفاته؛ فما هو صدى ذلك في جامعتي فؤاد وفاروق المصريتين؟ وما هو موقف الجامعة السورية؟ أما العراق فإنه مع الأسف بالرغم من كثرة ادعاءات حكومته لا توجد فيه جامعة ذات طابع عراقي خاص.

يحدثنا مؤلف (تاريخ فلاسفة الإسلام) أن حكماء العرب انشقوا في أواخر الفرن الثالث الهجري إلى فريقين: الأولى فرقة المتكلمين، وكان للكندي الفضل الأكبر في تمهيد سبيلها واختصت بالإلهيات وما وراء الطبيعة وكان ظهورها في مرو (خراسان من بلاد إيران) وكانت قبل ذلك الانفصال تتبع فيثاغورس ثم تنحت عنه وعن أتباعه وتعلقت بأرسطو بعد أن لبست تعاليمه ثوب مبادئ الأفلاطونية الحديثة (نيوبلاتونيزم) وكانت هذه الفرقة تبحث الأشياء في مبادئها وتتحرى المعنى والفكرة والروح ولا تصف الله بالحكمة في الخلق أو بالعلة الأولى ولكن بأنه واجب الوجود. وكانت تقدر الأشياء بوجودها فتسمى في إثبات ذلك أولاً وكان الفارابي رئيس هذه الفرقة وزعيمها والمقدم فيها وإليه المرجع وعليه الاعتماد (راجع تاريخ العرب لنيولسن). أما الفرقة الثانية فهي فلاسفة الطبيعة وكان ظهورها بحران والبصرة وقصرت بحثها على ظواهر الطبيعة المادية المحسوسة مثل تخطيط

ص: 6

البلدان وأحوال الشعوب، ثم ترقت في البحث فلم تتعد النظر في الأثر الذي تحدثه الأشياء في عالم الحس، ثم تجاوزت البحث في ذلك إلى النفس والروح فالقوة الإلهية فعرفها بالعلة الأولى أو الخالق الحكيم الظاهرة حكمته في مخلوقاته. وكان أبو بكر محمد زكريا الرازي زعيمها، وكان طبيباً حاذقاً وفيلسوفاً طبيباً.

فالفرق ظاهر بين الفرقين؟ فالفرقة الثانية التي زعيمها الرازي كانت تبحث فيما ظاهر للعيان وملموس بالحس وتقنع بصفاته وقوة أثره في غيره من الموجودات. أما الفرقة الأولى فرقة المتكلمين التي كان رئيسها الفارابي فكانت تقدر الأشياء بوجودها فتسمى في إثبات ذلك الوجود أولاً، فالفارابي كان إذن زعيم أكبر فرقة فلسفية في عصره. لقد قال الأستاذ محمد لطفي جمعة مقال له عن الفارابي في المجلد من المقتطف ونشر مضامينه كتابه (تاريخ فلاسفة الإسلام) - أن مبدأ انشقاق فلاسفة المسلمين كان في أواخر القرن الثالث الهجري لكن دي بوير في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) خالفه في تحديد زمن ذلك الانقسام فحدثنا أنه كان في القرن الرابع الهجري والحقيقة أنه من الصعب تقسيم الحركات الفكرية إلى فصول زمنية؛ فليس هنالك حدود فاصلة دقيقة تقطع التيار الفكري إلى قطع متمايزة، فهي كلها تؤلف أحجاراً متلازمة وأجزاء مترابطة في هيكل الحياة الفكرية. فكثير من الأفكار والمبادئ الشائعة اليوم والمهيمنة على القسم المعمور من الأرض تجد جذوره إلى أقدم العهود التاريخية، فلو تصفحت (جمهورية أفلاطون) مثلا لوجدت فيها طائفة من الأفكار الحديثة التي يعتقد الناس خطأ أنها وليدة العصر الحديث وأنها من نتاج أبناء اليوم؛ وكذلك القول في (رسائل إخوان الصفا)

على أن هناك من ينكر هذا الانشقاق في تجاه الفلاسفة. وإني عند ما درست شرح إشارات لبن سينا للطوسي والشوارق للاهجي وشرح منظومة السبروارى في الفلسفة ودرست حاشية الملا عبد الله وشرح الشمسية وشرح منظومة الشيخ هادي شليلة في علم المنطق وغيرها من كتب الفلسفة الإسلامية ودرست في علم الكلام شرح تجريد الطوسي للعلامة الحلي؛ أقول عندما درست هذه الكتب الفلسفية في مدارس النجف الأشرف الإسلامية لم أجد أستاذننا يقسمون فلاسفة المسلمين إلى هاتين الطائفين، وكانوا رحمهم الله يخلطون بين أقولهم جميعاً في مزيج واحد؛ ولكن دي بوير يصر هذا التقسيم فيقول في كتابه (تاريخ

ص: 7

الفلسفة في الإسلام) أخذ أصحاب المنطق أو أصحاب ما بعد الطبيعة يتميزون في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) عن الفلاسفة الطبيعيين. والأولون يسلكون في أبحاثهم منهجاً أكثر دقة وصراحة من منهج المتكلمين (ومنهجهم يقوم على استنباط الأشياء من أصولها على طريقة برهانية دقيقة) وقد رغبوا عن مذهب فيثاغورس وانقادوا لأر سطو الذي وصلت إليهم فلسفته في ثوب من المذاهب الأفلاطوني الجديد. وهنا نجد أمام اتجاهين في العلم عني بكل منهما فريق، فالفلاسفة الطبيعيون عنوا - على تفاوت فيما بينهم - بدراسة ما في الطبيعة من ظواهر مادية كثيرة كما هو الحال في علم الجغرافيا وشأن الأمر الجزئي في نظرهم ثانوي وهو لا يزيد عن كونه مندرجا تحت كلي ويمكن استنباطه من هذا الكلي. وعلى حين أن الفلاسفة الطبيعيين يجعلون دراسة آثار الأشياء أساساً لأبحاثهم فإن أصحاب المنطق يحاولون إدراك الأشياء باستنباطها من أصول وهم في كل أبحاثهم يتلمسون ما هيأت الأشياء وحقائقها. وقد جاء أهل المنطق بعد الطبيعيين في الزمان كما أن متكلمي المعتزلة نظروا أولا في المخلوقات ثم نظروا في ذات الخالق بعد ذلك. وقد عرفنا أن الرازي الطبيب المشهور المتوفى عام 320 كان أكبر ممثل للفلسفة الطبيعة التي يستعمل فيها المنهج المنطقي والتي مهد الكندي وغيره إليها السبيل فهي تبلغ أوجها ممثلة في رجل معاصر للرازي وأصغر منه سنا هو الفارابي

وقد كان الفارابي أبي رجلاً ممن يخلدون إلى السكينة والهدوء؛ وقد وقف حباته على التأمل الفلسفي يظله الملوك بسلطانهم؛ ثم ظهر في آخر الأمر في زي أهل التصوف ويقول إن والد الفارابي كان قائد جيش وأصله فارسي وإن الفارابي نفسه ولد في وسيج وهي قرية حصينة تقع ولاية قاراب من بلاد الترك فيما وراء النهر. هذا ما يقوله ذي بوير فهو يعتبر الفارابي ممن يمثل مباحث ما بعد الطبيعة في أوجها، وتجد قد اعتبر فيلسوفنا فارسيافي قومية لكن كارادفو في البحث الذي كتبه لدائرة المعارف الإسلامية عن الفارابي يقول: كان الفارابي أعظم فلاسفة الإسلام قبل ابن سينا. ولد في عائلة تركية في أواخر القرن السابع الميلادي في وسيج وهي مدينة صغيرة محصنة في مقاطعة فاراب. فترة يعتبره في الأتراك، وهذا ما حدا بحكومة الأناضول التركية أن تحتفل بعيده الألفي في جامعة استنبول في 29 كانون الأول سنة 1950.

ص: 8

وقال كارادفو في دائرة المعارف الإسلامية (المجلد الثاني ص53) إن الفارابي درس في بغداد على طبيب مسيحي اسمه بوحنا ابن حبلان واشتغل أيضاً عند أبي بشر متى وهو مسيحي نسطورى أشهر بكونه معرباً لكتب اليونان. وقد ذهب الفارابي إلى حلب بعد ذلك واتصل ببلاط سيف الدولة الحمداني وعاش في ظله في حياة الصوفية.

واشهر الفارابي كشارح لفلسفة أرسطو وأكسبه جهوده في ذلك لقلب (المعلم الثاني) باعتباره ثانيا للمعلم الأول أرسطو وقد شرح كتبا لليونان في ما وراء الطبيعية والفلسفة والعلم ولم يقتصر على شرح كتب اليونان بل إنه ألف كتبا كثيرة مستقلة وقد طبع له تسع رسائل صغيرة من أشهرها (فصول الحكمة) وهذه الرسالة تحوى أراه عديدة بشكل مختصر. وقد تدو ولت في كل مدارس الشرق وشرحها الحسيني الفارابي (من القرن الخامس وطبعت في المطبعة الأميرية. وطبع له أيضاً رسالته المثالية (رسالة في آراء أهل المدينة الفاضلة) وهي رسالة مهمة في 34 فضلا وفيها أوضح ذلك الفيلسوف المسلم المشبع بفلسفة أفلاطون ما يتصوره في تنظيم المدينة الكاملة التي يجب أن يحكمها عقلاؤها، وأن يكون هدفها أن تقتدي في العلم السفلي الأرضي بمدن الفردوس في كمالها، وأن تهيئ سكانها الغبطة وسعادة سكان مدن الجنة المثالية

يقول كارادفو إن هذه النظرية ضئيلة المنفعة من الوجهة العملية ولكن فيها بعض الأهمية من وجهه علم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) وكانت غاية الفارابي ومراميه كبائر فلاسفة المدرسة التي ينتمي إليها - أن يحيط بدائرة جميع العلوم. ويظهر أنه كان رياضياً وطبيباً فاضلاً. وألف في علوم السحر والتنجيم، وكان موسيقياً. هذا رأى كارادفو في الفارابي.

ويحدثناصاعد الأندلسي المتوفى سنة 462 هـ لا عن إعجابه بمؤلفات الفارابي فيقول: ألف الفارابي كتاباً في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها وله كتاب في أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطو طاليس اطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علماً وبين كيفية التدرج من بعضها إلى بعض شيئاً فشيئاً ثم بدأ بفلسفة أفلاطون فعرف بغرضه منها وسمى تأليفه فيها، ثم أتبع ذلك بفلسفة أر سطا طاليس فقدم له مقدمة جليلة عرف فيها بتدرجه إلى فلسفته ثم بدأ بوصف أغراضه في تأليفه المنطقية والطبيعية كتاباً كتاباً. قال صاعد فلا أعلم كتاباً أجدى على طالب الفلسفة منه؛ قال وللفارابي في ما وراء الطبيعة وفي العلم المدني كتابان

ص: 9

لا نظير لهما، أحدهما المعروف بالسياسة المدنية، والثاني المعروف بالسيرة الفاضلة، كتبهما وفق مذهب أر سطا طاليس اليوناني. وقد عقد أستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت هو الدكتور أمين أسعد - مقارنة في كتابه (الطب العربي) بين الكندي والفارابي وابن سينا فقال ' ن أساس الفلسفة العربية مأخوذ من اليونانية بعد تعديله ليوافق تعاليم الإسلام وذوق الشرقيين وقد اعتبر العرب أن تعاليم أر سطا طاليس تمثل الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي. وكانت طريقة الكندي في بحثه انتخابية غايتها التوفيق بين فلسفة أفلاطون وأر سطا طاليس من جهة وبين التعاليم الإسلامية من جهة أخرى أما الفارابي فقد جمع بين الفلسفة الأفلاطونية والأرسطو طاليسية والتعاليم الصوفية معاً وفي كتابه (السياسة المدنية) صور الفاضلة مقتدياً بجمهورية أفلاطون وسياسة أرسطا طاليس. وقد تأثراً بالغاً بفلسفة الفارابي ووضع قانوناً للفلسفة اليونانية كما وضع قانوناً للطب اليوناني وإهداء إلى العالم في قالب بسيط ومقبول. وتجد هذا الأستاذ يعتبر الفارابي متبعاً ومتأثراً بخطى أر سطا طاليس في كتابيهما (الجمهورية) و (السياسة) والحق أن الفارابي قد اتسع خياله فبنى مجتمعاً ودولة كما يريدها على وجه الأرض لا كما تريده البيعة، فإن الواقع كثيراً ما كان بجانب الدجال المراوغ على جهلة وكان ضد العاقل الحكيم. وعليه فإن أحلام الفارابي لن تتحقق في هذا العالم الدنيوي وإن بقيت شهوة لذيذة تصببو لتحقيقها نفوس الحكماء. وقد ذكره الأستاذ سلامة موسى في كتابه (أحلام الفلاسفة) واستعرض كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة إلى جنب جمهورية أفلاطون. ولا نجرأ أن نرمي الفارابي بتقليد أفلاطون فإنه من المبتكرين ولكنه حاكي الفيلسوف اليوناني القديم بطريقة التأليف.

وقد درج القدماء والمتأخرون على اعتبار ابن سينا تلميذاً للفارابي في حين أن هذا قد توفي عام 339 هـ أما لبن سينا فقد مات علم 428 هـ وكان عمره إذ ذاك (58) سنة. وعليه فإن ولادته كانت حوالي سنة 370 هـ أي أن ابن سينا ولد بعد وفاة الفارابي بواحد وثلاثين (31) عاماً فما معنى اعتباره تلميذاً للفارابي؟ الجواب أنهم اعتبره تلميذاً له لأنه فهم الفلسفة من كتب الفارابي، فهذا ابن خلكان يقول في وفيات الأعيان (إن الفارابي كان أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه وأن الشيخ الرئيس لبن سينا بكتبه تخرج وبكلامه في تصنيفه انتفع)

ص: 10

وقد اعترف ابن سينا نفسه بفضل الفارابي عليه فقال في ترجمة حياته التي أملاها على أحد تلاميذه (الجوزجاني) لما سأله (حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي ثم عدت إلى العلم الإلهي وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه والتبس على غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا أعرف المقصود به وأيست في نفسي وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوارقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه فعرضه على فرددته معتقد أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي أشتر مني هذا فإنه رخيص أبيعه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة فرجعت إلى بيتي وأسرعت في قراءته فانفتح على في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه صار لي على ظهر القلب وفرحت بذلك وتصدقت ثاني يوم بشيء كثير على ظهر الفقراء شكراً لله تعالى)

ولكن بعض المؤلفين يسرف في تحدثه عن هذه العلاقة الفكرية بين الفارابي وابن يسنا فهل سمعت بالتهمة الشنعاء التي يفهم منها ضمنا أن ابن سينا سرق أتعاب الفارابي الفكرية وانتحلها وادعاها؟ قال حاجي خليفة في كشف الظنون (ج3ص98 - 99 طبعة ليبتزك) نقلا عن كتاب حاشية المطالع (وقد نقل هذا أيضاً الأستاذ مصطفى عبد الرزاق في رسالته عن الفارابي (المعلم الثاني) - نقلا عن كتاب أيجد العلوم لحسن صديق خان عن حاسة المطالع) أن مترجمي المأمون أتوا بتراجم مخلوقة أحدهم ترجمة الآخر فبقيت تلك التراجم هكذا غير محررة بل أشرف أن عفت رسومها إلى زمن الحكيم الفارابي ثم إنه التمس منه ملك زمانه منصور بن نوح الساماني أن يجمع تلك التراجم ويجعل من بينها ترجمة ملخصة محررة مهذبة مطابقة لما عليه الحكمة فأجاب الفارابي وفعل كما أراد وسمى كتابه (التعليم الثاني)

فلذلك لقب (المعلم الثاني) ثم يذكر حاجي خليفة أن هذا الكتاب ظل مسوداً بخط الفارابي في خزانة المنصور (أضاف إلى هذه العبارة كتاب أبجد العلوم الفقرة التالية: - إلى زمان السلطان مسعود من أحفاد المنصور وكان غير مخرج إلى البياض إذ الفارابي ملتف إلى جميع تصانيفه، وكان غالب عليه السياحة على زي القلندرية. وكانت تلك الخزانة بأصفهان

ص: 11

وتسنى (صوان الحكمة) وكان الشيخ أبو علي بن سينا وزيراً لمسعود وتقرب اله بسبب الطب حنى استوزره وسلم إليه الكتب فأخذ الشيخ الحكمة من هذه الكتب ووجد فيما بينها التعليم الثاني ولخص منه كتاب (الشفاء) ثم أخذ الخزانة أصابتها آفة فاحترقت تلك الكتب فاتهم أبو علي بأنه أخذ من تلك الخزانة الحكمة ومصنفاته ثم أحرقها لئلا تنشر ويطلع عليه) حنى اطلع عليه ابن سينا ولخص منه كتاب (الشفا) قال صاحب كشف الظنون ويفهم في كثير مواضع الشفاء أنه تلخيص للتعليم الثاني انتهى كلام حاجي خليفة. وقد عرضنا عليك الزيادة على الخبر التي وردت في أبجد العلوم. وعلى كل حال إذا صح ما ذكر لبن خلدون في مقدمته من أن أرسطو سمى بالمعلم الأول لأنه هذب وجمع ما تفرق من مباحث المنطق ومسائله فأقام بناءه متماسكا وجعله أول العلوم الحكمة وفاتحها وفاتحتها فإن ما قام به الفارابي من تأليف كتاب يجمع وهذب ما ترجم قبله يجعله مشبها لأر سطو ولذلك سمى المعلم الثاني.

للكلام بقية.

ضياء الدجيلي.

ص: 12

‌بمناسبة انتصاف القرن العشرين:

حياة العلم بين منهجين

للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي

كان أرسطو الفيلسوف اليوناني أول من انتزع العلوم من الفلسفة. وهو وإن لم يخرجها عن إطارها القديم فقد نزل بها من عالم المثل الذي لا يحس إلى عالم الواقع. وهكذا أخرج أرسطو العلوم من دائرة الوهمية عند أفلاطون إلى دائرة الواقع المحس. رأى أرسطو وأن كل علم يشبه مجموعة خاصة من الأفكار، يربط بين أجرائها وجوه شبه معينة. فهدته الأجزاء وأوجه الشبه وأوجه الاختلاف إلى ربط كل مجموعة في دائرة معينة فنشأت فكرة العلوم المختلفة التي أخذ يسلخها الواحدة تلو الأخرى من سديم الفلسفة الواسع وهيولا الأفكار. فلما تم له ذلك سمى هذه البديهيات التي اصطنعها في التفرقة بين علم وآخر (المنطق) أو المدخل إلى العلوم.

وقد ظل منطق أرسطو مقياس العلماء في العصور الوسطى يكشفون بفضله عن مكنون العلوم ويربطون بين الأفكار المتشابه. وهم في ذلك يصدقون ما صدقه المنطق ويكذبون ما كذبه.

ولم يحرم رجال الدين في هذه الآونة من اتخاذه في البرهنة على قضايا الدين والاستدلال على وحدانية الله ووجوه. وقالوا كل صنعة لا بد لها من صانع. أعظم وهو الله سبحانه وتعالى.

وفي أوائل القرن السابع عشر تبدل وجه الفلسفة مسفراً عن فلسفة حديثة حمل مشغلها فرنسيس بيكون المتوفى سنة (1626م) وأتباعه. وقد كان بيكون أشدهم ثورة على فلسفة أرسطو، فالفكرة في نظر بيكون أيا كان نوعها لا تصدق إلا إذا برهنت له عليها واقتنع بصحتها. وجعل (التجربة) شرطا في التصديق

وهكذا ضيق بيكون مجرى العلم بعد أن كان واسعاً لأن الكون مليء بالأفكار التي لم تخضع للتجربة، ويتعسر إجراء التجربة على أكبرها. وسرعان ما اصطدم المذهب التجريبي الذي استنه بيكون بالأفكار. وهي أفكار نقلية عقيدية لا يجيز رجال الدين البحث فيها. كما أنها لا تجرب كما تجرب المواد الخام في المعمل. وكانت صدمة عنيفة صدم بها

ص: 13

بيكون وصدم بها منهجه التجريبي الذي عجز عن تفسير قضايا الدين وأخفق إخفاقاً تاماً في تناولها.

إذاً لم يستطع مذهب بيكون أن ينهض للقيام بخدمة العلوم الدينية كما نهض بخدمة العلوم الطبيعية.

وعند ذلك انبرى بعض الوسطاء من الفلاسفة ليوافقوا بين منهج أستاذهم بيكون وبين قضايا الدين التي استعصت على التجربة وكان توماس هوبز المتوفى سنة (1679) أشدهم حماساً، فاعتبر أن هناك شعبيتين هما (المادة) و (الوحي) وذكر أن القوانين الطبيعية تصح عليها التجربة لأنها (مادة) وأن قضايا الدين وكل ما وصل إلينا بالنقل عن رجال الدين إنما هو (وحي) أو من قبيل الوحي؛ ويجب تصديقه لأنه وحي، ولكنه لم يعلل ذلك

وهكذا أخفق وسطاء بيكون كما أخفق بيكون لما في منهجهم من ضعف وضيق حال بينه وبين الاتساع لشمول المساءل الدينية النقلية، فلم يستطيع تفسيرها

وكان هذا الإخفاق سبباً في تشكك الفلاسفة. فمنهم من ترك فلسفة المادة والروح جانباً كجون لوك. ومنهم من أنكر المادة أصالة ليتقي شرها ويصدق بالوحي كما فعل: بركلي وهيوم وأذكر أني ناقشت أستاذنا بود الأمريكي عام 1945 م بمعهد التربية العالي للمعلمين، في فكرة الأخلاق والتربية الدينية، وكيف نوفق بين الأهداف الدينية والأهداف الدنيوية، فكان مما أجاب به قوله:(إن الأخلاق نسبية لا مطلقة، وإن الفلسفة تتعارض مع الدين) وهكذا أبي الفيلسوف التربوي إلا أن يعطيني صورة عن الفلاسفة المعاصرين في مناهجهم.

هذه حيرة!!!

فكيف نوفق بين قضايا المادة التي تخضع للتجربة وقضايا الروح التي يعسر علينا إقامة التجربة عليها؟

فكرت طويلا وقد هداني البحث إلى منهج يستطع أن يحل مشاكل المادة والروح.

وقد قلت: نعم إن طبيعة (المادة) تخالف طبيعة (الروح) ونستطيع أن نصدق بمظاهر (المادة) بإقامة التجربة عليها في المعمل فنعرف - مثلاً - تمدد المعادن بالحرارة وتقلصها بالبرودة

ص: 14

ثم قلت: وحيث أن (الروح) والمسائل الدينية النقلية: كحساب القبر وسؤال منكر ونكر وغيرها لا تدخل تحت دائرة حسنا ولا يمكن وضعها في معملنا - أعتبرها صادقة ما لم تقم التجربة يوماً - على إثبات ضدها، وبمعنى أوضح: إن حساب القبر صحيح ما لم يثبت بالتجربة ضده.

وهكذا نستغني عن إقامة التجربة على الأمور الروحية بقولنا للمنكر أو المكابر: أقم التجربة على ضدها أو أثبت ضدها.

وهكذا تكون تجربة الأمور الروحية صحيحة بطريق عكسي يتفق مع طبيعتها. وحيث أن المنكرين للأمور الروحية والمسائل العقلية يعجزون عن إقامة التجربة على ضدها، فإني أعتبر إبكارهم لها من قبيل إنكار الفروض العلمية. ومن أنكر الفروض العلمية فقد أنكر العلم كله. لأن الأصول الأولى للتجربة أيا كان نوعها هو الفرض الذي يسبق التجربة.

وهذا هو (المنهج العلمي الحديث) الذي وصت، واستطعت أن أوفق فيه بين قوانين (المادة) وقوانين (الوحي) حيث أخفق الفلاسفة في التوفيق بينهما.

ولعل هذا المنهج الذي رأيت أنفع لحياة العلم، لأنه لا يجعل من الدين والفلسفة عدوين يحارب أحدهما الآخر. وشعره:(يجب التصديق بالقضايا العلمية المروية عن أسلافنا ما لم يقم الدليل المادي على بطلانها سواء بالنص العارض، أو تمحيض عدم تقبل العقل المنصف لها. (أما منهج فيكون ففضلا عن عجزه وعجز أتباعه عن التوفيق بين قضايا لمادة والوحي، يضيق دائرة العلم حيث يقول: (يجب إبطال كل شيء ما لم يقم الدليل التجريبي على صحة المبطل) وهو قانون خطأ لأن التجربة غير ميسورة في كل وقت

وأنت ترى بعد هذا. أن (المنهج العلمي الحديث) الذي رأيته يوسع دائرة العلم ويرفع الشك عن الإنسان، بينما ترى منهج بيكون يضيق دائرة العلم ويقف بك موقف بك موقف الشاك المرتاب. وشتان ما بين المنهجين. فالفرق بينهما - كما ترى - كالفرق بين من يبني ومن يهدم.

حامد حفني داود الجرجاوي

دبلوم معهد الدراسات العليا

ص: 15

وأستاذ التربية بمدرسة المعلمات الراقية بباب اللوق

ص: 16

‌الغزل عند الصوفية

للأستاذ محمد منصور خضر

للكلام الموزون المقفى سيطرة كبيرة على النفوس، تنفعل له وتترنح تحت تأثيره وتطرب له، يحس بذلك كل ذي حس مرهف وذوق سليم ونفس فياضة بالعواطف، فتتردد في جنبات الفكر روح اللفظ والمعنى، فتنبعث النفس المتثاقلة ويبسم الوجه العبوس، وتتفاعل موجات الفكر صاخبة مدوية، فيتولد عن إحساس رقيق يهب الصفا ونقاء السريرة. ويذهب بالنفس إلى عالمها السماوي الأعلى.

نعم يشعر بذلك كل من سمع لفظاً دقيقاً رقيقاً ومعنى سامياً، ولذا نحا أدباء التصوف تلك الناحية وهي ناحية القلب وما يحسه في أداء العبارات من رضا وشوق وصفاء ونور! ضرب شعراء التصوف على هذا الوتر الحساس فأقبل الناس عليهم يشبعون رغبتهم، ويحيون نفوسهم، وقد أمانتها أماني الحياة وآمالها، فنراهم ملكوا زمام القيادة، وبهرهم منزلتهم السامية عامة الناس وخاصتهم، وتألقت منزلتهم في حب الله ورسوله من أقصر طريق؛ حتى أصبحوا منارات هدى يهتدي بهم الضال والحائر، إذ أن قصائدهم الفريدة الفائقة تفصح عن تبحر في اللغة وسعة في الملكة، وإيضاح تام عما في الخاطر، وإحاطة تامة في معارج الطريق.

ولشعراء التصوف طابع خاص يمتازون به في منظومهم، فهم زيادة عن ولعهم الشديد بالغزل الذي يحيدون عنه يستعملون الرمز والتوبة كثيراً، فهم بحق ينظمون نظما دقيقا فيه عاطفة رقيقة وإن خرجوا على الأساليب المألوفة ففيه القوة والحرارة والإيمان!

ومنظوم المتصوفة في مجموعة يرمي إلى أغراض علوية في أساليب غزلية ليسهل قبوله، فتنفعل له النفوس والمشاعر، ولذا نراهم يقدمون لنا ألونا من أذواقهم على تفاوت درجاتهم في الطريق، فمنهم سافر يظهر على لسانه بعض ما يجده من وجد يريد أن يبوح به فيأتي بألفاظ بوهم ظاهرها معنى غير مراد، وهذا من أسباب القوية التي ساعدت بعض الفقهاء على الوقوف ضدهم، ومنهم محجب أراح نفسه وغيره، وهذا الصنف قليل عندهم.

وأثناء عرضنا لمنظوم هؤلاء الصوفية تبدوا لنا ظواهر طيبة من صادق الألفاظ والمعاني، وترك المغالاة في الوصف وحبكة التعبير وقوته وسهولته معاً؛ حتى ليحار الباحث في قوة

ص: 17

هذا الشعر وحرارته مما يدل دلالة صادقة على تفجره من قلوب هائمة في بحار المعاني وأنهار المباني غير مقيدة بقيود الشعر الهزيل الكاذب الذي نراه في العصور المختلفة. وما أحسن قول محيى الدين بن عربي:

إذا حل ذكركم خاطري

فرشت خدودي مكان التراب

وأقعد ذلا على بابكم

قعود الأساري لضرب الرقاب

فهل تجد أيها القارئ العزيز أسهل وأصدق من هذا النظم الخارج من القلب ليعمل عمله في القلوب الميسرة لقبول الأنوار الإلهية؟

ولشعراء التصوف ذوق خاص، فهم يجعلون نصب أعينهم موافقة أشعارهم لروح الشرع الحكيم. ومن دقتهم في هذا السبيل إنكارهم الخروج عن المألوف شرعا وذوقا مثل قول القائل.

تمازجت الحقائق بالمعاني

فصرنا واحداً روحاً ومعنى!

وأنشد ابن عربي الشاعر:

يا من يراني ولا أراه=كم ذا أراه ولا يراني

فقال له بعض إخوانه: كيف تقول إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال مرجلا:

يا من يراني مجرما

ولا أراه آخذا

كم ذا أراه منعما

ولا يراني لائذا

ويدخل في إنكارهم تحريمهم سماع قول المتنبي:

لو كان ذو القرنين أعمل رأيه

لما أتى الظلمات صرن شموسا

أو كان لج البحر مثل يمينه

ما أنشق جاز فيه موسى

أو كان للنيران ضوء جبينه

عبدت فصار العالمون مجوسا

وقوله أيضاً:

أنا في أمة تداركها الله

غريب كصالح في ثمود

أو أقول ابن هانئ الأندلسي:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

وقد حكى أن سبب توبة أبي العتاهية عن الشعر أنه أنشد مرة:

ص: 18

الله بيني وبين مولاني

أبدت لي الصد والملالات فقال له في المنام أما وجدت من تجعل

بينك وبين امرأة في الحرام إلا الله تعالى؟ فاستيقظ وتاب فلم ينظم بعد ذلك بيتا إلا في الزهد والترغيب في الطاعات!.

وفي رأينا أن القصيدة التي ينظمها الصوفي تعتبر كوحدة تامة آخذ بعضها بزمام بعض يكمل آخرها أولها، وربما تكلم في نظمه على لسان الحق سبحانه وتعالى، وربما تكلم على لسان رسول الله، فيظن بعض الباحثين أن ذلك على لسان هو فيبادر إلى الإنكار وقد لقى شعراء التصوف في كل عصرنا عنتا ومشقة في سبيل تأويل أشعارهم على وضوحها لمن درس حياتهم بإمعان وأحكم التعبير عنه، فطالما رموا بالكفر والزندقة، وما يتبع ذلك من المذاهب الباطلة كالاتحاد والحلول، وقد دافعنا عنهم دفاعاً حارا وكان بحمد الله النصر حليفنا.

ومن أنفس القصائد الغزلية تائية عمر بن الفارض رضى الله عنه وهي تزيد على سبعمائة على بيت، مطلعها:

يقتني حميا الحب راحة مقلتي

وكأس محيا من عن الحسن جلت

فأزهمت صحبي أن شرب شرابهم

به سرسري في انتشائي

وبالحدق استغنيت عن قدحي ومن

شمائلها لا من شمائل نشوتي

وقصيدة السيد إبراهيم الدسوقي صاحب المقام المشهور:

تجلى لي المحبوب في كل وجهة

فشاهدته في كل معنى وصورة

وخاطبني مني بكشف سرائري

فقال أتدري من أنا؟ قلت منيتي

خبأت له في جنة القلب منزلا

ترفع عن دعد وهند وعلوا

وقصيدة الشاعر الصوفي عبد الغني النابلسي:

أطوف على ذاتي بكاسات جامتي

وأستمع الألحان في حان حضرتي

وأنفخ مزماري وأصغي لصوته

وأضرب دفي حين ترقص قينتي

وأنشق من روضي نسيم حقائقي

ويسرح طرفي في حدائق نشأتي

وقصيدة (البردة) للإمام البوصيري وقد بدأها بالغزل:

أمن تذكر جيران بذى سلم

مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم

ص: 19

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة

وأومض البرق الظلماء من إضم

فما لعينيك إن قلت اكففاهمتا

وما لقلبك إن قلت استفق بهم!

وقصيدة أمير الشعراء شوقي (نهج البردة) وقد بدأها بالغزل:

ريم على القاع بين البانو العلم

أحل سفك دمى في الأشهر الحرم

رمى الفضاء بعيني جؤذر أسدا

يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم

لما رنا حدثني النفس قائلة

يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي!

ويدخل في هذا السبيل قصائد أخرى قصيرة نقتطف من أزاهير روضها بعض أبيات تدل على ما لها من آثار بليغة في طريق الفوم، فطالما يستعملونها إنشاداً في حلقات الذكر، إذ أنها تؤثر في القلوب تأثيراً قوياً يجعل الروح تحن إلى عالمها السماوي وتقتفي آثار من مضى من الأولياء والصالحين!

ومن القصائد:

نسيم الوصل هب على الندامى

فأسكرهم وما شربوا مداما

ومالت منهم الأعناق شوقاً

لأن قلوبهم ملئت غراما

ولما شاهدوا الساقي تجلى

وأيقظ في الدجى من كان ناما

وقصيدة الرفاعي رضى الله عنه:

إذا جن ليلى هام قلبي بذكركم

أنوح كما ناح الحمام المطوق

وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى

وتحتي بحار بالأسى تتدفق

وقول القائل:

سلبت ليلى

مني العقلا

قلت يا ليلى

ارحمي القتلا

ولا يفوتنا بأن الغزل الرقيق سمعه الرسول عليه السلام من الشاعر كعب بن زهير بعد أن بهذا الغزل اللطيف:

بانت سعاد فقلبي اليوم

متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غدا البين إذ رحلوا

إلا أغن غضيض الطرف مكحول

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

لا يشتكي قصر منها ولا طول

ص: 20

هذا وللغزل العنيف سيطرة كبيرة على النفس يسمو بها في سماء المعاني بما يحويه من نصائح غالية وتوجيهات سديدة في قالب من الألفاظ العذبة القوية:

على أن استجابة القلوب للغزل شيء قديم كقدم دواعيه، وليس من سبيل إلى إنكار آثاره الأدبية في حياتنا بل في معالجة القلوب المريضة والأفكار البعيدة عن طريق الحق والحياة.

شطانوف

محمد منصور خضر

ص: 21

‌بجانب مدينة تنجر

عصر الحرية

للأستاذ إبراهيم البطراوي

التحرر نزعة فطرية تلازم الإنسان والحيوان في مختلف أطوار حياته بدرجات تتفاوت قوة وضعفاً تبعاً لتفاوت مداركه ونوع سلوكه بالنسبة للبيئة التي يعيش فيها الولد هذه النزعة مع الطفل وتبدأ في التعبير عن وجودها بالقدر الذي تستطيعه أعضاؤه من تلبية: فهو حين يمتنع عن ثدي أمه لحظات ألنه أو عدم انسجامه رغم جوعه، وهو حين يركل الغطاء برجلة ويحاول التخلص من ملابسه ومن كل حاجز يكنه أو يحد من حركنه ونشاطه، فإنما يستجيب بهذا السلوك لنزعة الحرية فيه والحيوان حين يفلت من القفص أو الربقة وينطلق مسرعاً في طيرانه أنه أو جريانه، والوحش حين يفترس مريضه إنما يستجيب بهذا السلوك لنزعة الحرية فيه كذلك.

تبلغ هذه النزعة أشدها في أوقات نضوج القوى الجسمية والعقلية بالنسبة للأفراد، وفي أوقات نضوج العمران والمدينة بالنسبة للأمم؛ ولذا تجد دعاة الحرية ومعتنقيها والمتحمسين لها بين الشباب والكهول أكثرها ما يكونون، وتجد أن هذه النزعة في الأمم الراقية المتدينة أظهر ما تكون أيضاً.

ولكن شيئاً واحداً قد فات دعاة الحرية ومعتنقيها على مر العصور منذ طفولته التاريخ إلى يومنا هذا وأقصد به الفهم الصحيح لمعنى الحرية، ولهذا كان وجودهم في كل عهد وجدوا فيه مظهراً من مظاهر التفكك والفوضى، ومقدمة لنهاية عهد وبداية عهد جديد.

الحرية حريتان: حرية طبيعية وحرية ترفيهية؛ فالحرية الطبيعية هي تلك التي تدفع الإنسان دفعاً قويا لالتزام كل سلوك من شأنه أن يحفظ لذلك الإنسان ذاته ودينه وتقاليد وعاداته وكل متعلقات من تحكم الأجنبي واستعباده؛ فهي نوع من الحفاظ أو لدفاع عن الذات لا أكثر.

أما الحرية الترفيهية فعلى النقيض من ذلك، إذ هي مغالاة في سلوك المحافظة على الذات وانحراف بهذا السلوك بقصد النيل من الغير واستباحة ذاته وانتهاك حرمنه والتحكم في تقاليده وعاداته، فهي نوع من الهجوم واسترقاق الآخرين كما يبدو، أو هي نوع من ترف

ص: 22

الأقوياء بعبارة أخرى.

والناس على اختلاف الأزمنة والأمكنة - يخلطون بين هذين النوعين من الحرية خلطاً يدلنا على جهل تام بمعنى الحرية، ولهذا كانت (الحرية) مرادفة للفوضى والإباحية والثورات والانقربات على نحو ما قدمنا. ولم تجد الحرية الطبيعية سبيلها للظهور إلا نادراً وبين قوم أقوياء سرعان ما نعصف برؤوسهم حميا القوة فتنزو بهم نحو الحرية الترفية، ومن هنا - كما يغلب الظن - جاء حكم ابن خلدون يرم قرر في مقدمة تاريخه أن ازدهار المدينة وزيادة الترف في أمة من الأمم أو عصر من العصور - إيذان بانهيار تلك الأمة ونهاية ذلك العصر. ومن هنا أيضاً كانت مصلحة المغلوبين في الاستقامة الخلفية والتمسك بما لديهم من تقاليد ونظم، وتقديس ما ورثه من دين ومثل. وبعبارة أخرى في العمل علة تحقيق الحرية الطبيعية. ومصلحة الغالبين تجيء على العكس من ذلك بالنسبة للمغلوبين وحدهم، أما بالنسبة للغالبين أنفسهم فلا بد لهم من تقديس نظمهم وتقاليدهم وأديانهم إذا أرادوا لذاتهم بقاء، ولهذا رأينا ساسة الدول الديمقراطية الكبرى - على اختلاف نزعاتهم - في هذه الأيام يكررون نداءاتهم بوجوب المحافظة على الفضيلة والتمسك بالأديان حتى تتحقق لهم بذلك القوة تتمكن من مواجهة الشيوعية والصمود أمام طغيانها.

وفي هذه الأيام أيضاً نجد الصهيونيين يبذرون بذور الفساد والإباحة والإلحاد باسم الحرية في مختلف البقاع حتى يكتسبوا من ضعف الناس قوة يعيشون بها ومدداً ويحقق لهم أمانيهم في أرض الميعاد؛ وما هذه الأرض إلا العالم أجمع كما يفهم من (تلمودهم) المقدس. ونظرة واحدة إلى تحكمهم في سياسة دولة كأمريكا، وإلى نوع حياة أبناء صيهود وبناتهم فيها، وكيف يغرون الأمريكان ويرونهم إلى ما يشاءون، ونظرة أخرى إلى الأدوار المماثلة التي يقوم بها بناتهم وأبناؤهم في فرنسا إيطاليا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا بل وفي إنجلترا نفسها وغيرها من الدول ترينا خطر سياستهم على العالم أجمع ومقدار أثرها السيئ في توجيه السياسة العالمية وفي التأثير على كثير من النفوس.

وقد اتخذ هؤلاء الصهاينة لأنفسهم في الأيام الأخيرة اسما تنكريا آخر ظهروا به في عالم الفكر والفلسفة وصارت لهم دولة في هذه العالم عرفت باسم (الوجودية) ونعني بها الوجودية السارترية في فرنسا تلك التي تعد أخطر مذهب صهيوني ظهر إلى الوجود في

ص: 23

فرنسا تلك تعد أخطر مذهب صهيوني ظهر إلى الوجود حتى الآن وأية خطوة على المجتمع الإنساني بل وأي جنون أدهى من الحرية في (وجوده وعدمه)، وفي مواضع عدة من مؤلفاته بأنها (التلبية المطلقة التي يتلاشى عندها كل شعور بالأثم).

كل شخص يصادفك في هذه الأيام لا تجد له حديثا سوى (الحرية) وضرورة الحرب من أجل هذه الحرية سواء أكان هذا الشخص موظفا أم تاجر أم صانع أم صحفيا أم مزارع أو سياسيا أم رجل دين؛ لأن لكل كائن حي رغباته وأطماعه وحاجاته التي لا تنقضي كما يقول الشاعر العربي القديم، ولكل فهمه الخاص لهذه الحرية، ولكل شرعته الخاصة في تحقيقها. حتى المرأة النوكاء بلغ بها هوس طنطنة التحرر المعاصرة حدا أو همها أن الأمومة والتدبير وشؤون الزوجية والبيت كلها قيود وعبودية فرضتها عليها قوة الرجال، وأن الحرية في أن تنبذ هذه القيود ليحملها الرجل طوعاً أو كرهاً كي تتزيا وتتفرع عي للأحداث الدولية والشؤون العالمية ووضع القانون الذي به تلي القضاء والإفتاء، وتسوس الرعية وتعل ما تشاء. . .

كل شيء يفعل باسم الحرية في هذا العصر: فاللص يسرق باسم الحرية، والفجور الدعارة بروج لها باسم الحرية، والتاجر يطفف ويغش باسم الحرية، والموظف يدلس ويهمل ويضرب باسم الحرية، والطالب يخرج معهد ويتسكع في الطرقات باسم الحرية، والفتاة تغشى الندوات وتتخذ الآخذان وتفعل المجون باسم الحرية، ورجل الدين يسكت عن المنكر أو يلحد هو في الدين باسم الحرية، والصحفي يستبيح الحرمات ويهدم التقاليد باسم الحرية، وهكذا كل محرم يوتى باسم الحرية، والأمر في حقيقة لا يعدو كونه انحلالا واستباحة وهدما، وفي كلمة واحدة لا يعدوا كونه (انتحارا).

وإنك حين تدقق النظر ي هذه الحرية الترفيه تجد لها جانبين في غاية الخطورة: إحداهما سلبي يقوم به صنع الاستعمار في الأمم التي يراد القضاء عليها بترويج تلك المفاسد وتزييف هذه الأثناء مما يفت في عضد هذه الأمم ويقوض أركان تقاليدها ومجتمعاتها، والآخر إيجاد فيه ينقض المستعمر على هذه الأمم بحجة تقويمها وإصلاحها أو الذود عن الهيئة الحاكمة فيها. وما إلى ذلك من مبررات لا حصر لها، ولكل منهم عذره أو كذبة الجميل المستساغ. فلإنجليزية يحتلون مصر دفاع عن الخديوي، ويظلون في الهند حماية

ص: 24

للطوائف، ويستأثرون بالسودان رحمة بأهله، ويستعبدون مع الفرنسيس أفريقيا لنشر العلم والمدينة، والأمريكان يقحمون أنفسهم في كوريا احتلال العالم كله لنشر الحضارة والسلم في ربوعه. . وهكذا كل أمة تجد أن تسود العالم وتتحكم في أزقة وأنفاسه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا باسم الحرية ولا شيء غير الحرية، حتى تلك الشر ذمة المستخذية من اليهود تحاول ذلك وتعمل له في كل بقعة توجد فيها بشتى الوسائل والأساليب الملتوية في السر والعلن باسم الحرية أيضاً، ولكل منهم عذره أو كذبة الجميل المستساغ لانه لا يقدم على شيء إلا (تضحية) من أجل السلام والعرفان والحرية.

لقد استعبدت الأمم الضعيفة لأنها لم تفهم من الحرية إلا أضدادا التي أراد لها السادة من خيانة وفجور وفساد وفوضى والتي أدت بهم إلى هذه الدركات الدنيئة من العبودية، فهل تراها تستفيد من الماضي وتعمل على تحقيق نصيبها من الحرية الطبيعية الصحيحة التي يحرص عليها السادة المستعمرين كل الحرص ويقيمونها فيما بينهم؟ أم تراها تؤثر دعة الخنوع والفقر والعبودية على مرارة الكفاح الصادق من أجل الخلاص والحرية عملا بالخرافة القائلة (أن للأقدار وحدها أن تجعل من تشاء سيدا وتجعل من شاء مسودا؟

والآن يلوح أن العصر الحديث بمديناته وعلومه وفلسفاته لم يرق بالإنسانية درجة واحدة نحو الكمال المنشود والفهم الصحيح لحقيقة الحياة، فالإنسان في كل زمان ومكان لم تستطع المدنيات المتعاقبة ولا المعارف المتعددة أن تهذب من طباعه أو غرائزه شيئاً وإنما زاده هذا الشعاع الضئيل من سراب المعرفة تيهاً وعجباً وأنانية ووحشية ورجع القهقري نحو عصور الهمجية الأولى. فهو لا يكاد يفرغ من ظلم إلا ليبدأ ظلمات، وهو لا يكاد يشبع شهوة إلا لتصرخ في شهوات، وهو لا يكاد يستجيب لأنانية حتى تستبد به أطماع وأحقاد وأنانيات تؤوه إزاء نحو الحرب تفضي إلى حروب تفضي به إلى فناء.

ترى هل هنالك من عناية تنقذ هذا العصر من شره وتشعر الإنسان بقيمته فيدرك أنه روح وقلب قبل أن يكون جسداً وشهوة، ويعرف أنه خلق لغاية وحياة أعقل من جهالة الشهوات وأسمى من ظلام الفناء؟ أم تراه عصر قد مات ضميره وفقد إنسانيته وتخلى عن دينه فركبه الهوى ومكن من أزمة قياده الشهوات فهو - في جهله وعماه - لا يرى الحرية في غير شهوته ولا يرى العالم قد خلق إلا لتلبية هذه الشهوة أو (الحرية) كما يشاء أن يضلل

ص: 25

نفسه النعامية بتسميتها، وليس يرى هذا المسكين شيئاً يعادل إخفاقه غير الانتحار والفناء. لهذا تجد ذرة وإيدروجين قائلاً (أنا! أنا! أنا! إما أن أكون مالك كل شيء، وسيد كل شيء ورب كل شيء، وإلا فويل مني لكل شيء)! ولا يستحي هؤلاء (العقلاء) أن التاريخ سيؤنبهم يوما فيقول فيهم (يا له من عصر مجنون، عصر الشهوة ذلك الذي كان يعيشه آخرون!).

إبراهيم البطراوي

ص: 26

‌قتيبة بن مسلم

للأستاذ حمدي الحسيني

دهم شبيب بن يزيد الكوفة فهب الحجاج لدفعه. وعقد مجلسا حربيا من قواد الجيش أبطال حرب وأركان الإدارة واخذ يشاورهم فيما يجب أن يعمل لدفع جيوش شبيب المجتاحة للكوفة والمهددة للسلطة الأموية في العراق وإيران بأشد الأخطار وأفتك الأضرار، فقام من بين الصفوف رجل عليه جلال ووقار وفيه صيد وخيلاء، أخذ كرسيه ووضعه أمام الحجاج وقال له: أن الأمير والله مل راقب الله، ولا حفظ أمير ولا نصح المرعية. فغضب الحجاج وقال من المتكلم؟ فقام قتيبة بن مسلم وأعاد كلامه فقال الحجاج فما الرأي؟ قال قتيبة: الرأي أن تخرج أنت إلى شبيب فتقاتل حتى يرتد. قال الحجاج فارتد لي معسراً واغد إلى. ولما أصبح القوم غدوا الحجاج فجعل رسوله يخرج ساعة بعد ساعة يسأل عن وقتيبة لما يأت بعد.

جاء قتيبة عليه قباء هروي أصفر وعمامة خز أحمر متقلداً سيفاً عريضاً ففتح له الباب فخل بغير استئذان، ولبث الحجاج طويلا ثم خرج وأخرج معه لواء منشورا. وركب فرساً أغر محجلاً كميتاً. وركب الحجاج على بلغته وسار الاثنان وسار الناس وراءهما إلى السبخة حيث يعسكر شبيب وهناك دارت المعركة الحاسمة فانهزمت الخوارج ورجع الحجاج وقتيبة ومن معها من أبطال الدفاع ظافرين منتصرين.

وخشى الحجاج على سلطانه من يزيد بن المهلب وإلى خرسان ومن آل المهلب الكرماء الشجعان فعزم على التخلص منهم وانقاء ما قد يحدث عن عرامهم. ولكن من يدخل خرسان بعد يزيد ابن المهلب وخرسان عرين يزبد ومسبعه آل الملهب؟

ليس لهذا الأمر الخطير إلا قتيبة، فقتيبة إلى الملهب عن خراسان فعزله وولى مكانة قتيبة بن مسلم؛ فطار قتيبة إلى خراسان فوجد المفضل بن الملهب (الوالي الموقت) يعرض الجند لغزوة يريد أن يغزوها فإزاحة عن موقفه وحل مكانة واستعرض الجند وخطب فيهم حاثا على الجهاد. ثم رتب شؤون الإدارة والحكم واستعرض الجند في السلاح وطار بهم إلى غزو أعدائه وفتح بلادهم للإسلام والمسلمين فكان التوفيق يحفه في روحانا وغدواته، والنصر يرافقه في وثباته وغزواته.

ص: 27

ولنتبع الآن خطوات هذا الفاتح العربي العظيم الواسعة في الأقطار الشرقية الشاسعة، لنرى خطوات ثابتة متزنة في تسير الجيوش وتوجيهها، ووثبات قوية سريعة في ساحات الكر والإقدام وغزوات موفقة ظافرة في ميادين الغزو والفتح مما يذكرنا بخطوات الإسكندر ووثبات خالد وغزوات نابليون.

تحرك قتيبة لنشر دين الله في الأرض رحمة للعالمين، وكانت هيبته قد سبقته إلى قلوب أعدائه فخرجت إليه ملوك الترك والصغد يسلمون إليه مفاتيح بلادهم ومقاليد أمورهم، تارة يصالحهم على فدية. ويقفون في وجهه يقاومون تارة أخرى فيدخل بلادهم في حرب. عشر سنين قضاها قتيبة غازياً فاتحاً تقف له حركة ولم تبرد له ولم تطفأ لحربه نار.

لم يعجب الحجاج من قتيبة خطة المصالحة التي اتبعها في بعض الممالك فلامه لأنه ليس القصد من الفتح أخذ الفدية وتكديس المال بل الغرض من الفتح نشر الدين وأنقاد المشركين من عماية الضلال. فأخذ قتيبة يستعد لفتح بخاري رغم ما يكلف فتحها من تضحية فاستنصرت بمن حولها من ملوك الترك والصغد فتأهبوا لنصرتها ولكن عين قتيبة اليقظة لمحت إباء بخاري وامتناعها ونصرة جيرانها لها فوئب القوية السريعة فوصل قبل أن يصل أنصارها فألقى عليها الحصار وكانت بين المسلمين وأهل بخاري وأنصارهم معركة حامية الوطيس كان موقف المسلمين فيها غير موقف في أول الأمر فانتفض قتيبة في جيشه انتفاضة الأسد وأخذ يصب ما في نفسه من جرأة وشجاعة وثبات في نفوس أصحابه حتى ذكت الحماسة في الصدور فاندفع المسلمون على خصومهم اندفاع السيل الجارف غير آبهين بالأخطار المدمرة التي تقف أمامهم، فلاح لهم النصر بغرته الجميلة فدخلوا بخاري ظافرين غانمين.

اشتدت شوكة الجيش الإسلامي بهذا النصر المبين وازداد شعور قتيبة بقوته ازدياداً عظيماً وأحس بأن هذه الليونة التي يظهرها له هؤلاء الملوك الذين صالحهم ويصالحهم على الفدية إنما هي فرص يغتنمونها ليتكتلوا ضده وينتقضوا عليه. ولهذا فقد سلك سلوكاً آخر فأخذ يغزو ويفتح ولا يصالح إلا إذا قضت الضرورة الحربية بالصلح. ولذا رأيناه يلتفت إلى هؤلاء المصالحين الذين انتقضوا عليه في غيابه ورموه في ظهره فيكتسح بلادهم ويقتل ملوكهم جزاء خيانتهم وغدرهم ويثبت سلطانه في تلك البلاد تثبيتاً لا مجال للخيانة والغدر.

ص: 28

وقف قتيبة أمام سمرقند يناجي نفسه قائلا: يعشش فيك الشيطان؛ أما والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقضي غاية، سمع هذا القول أحد خاصة قتيبة فقال لبعض أصحابه كم من نفس أبيه ستموت غداً منا ومنهم! أجل لقد أصبح قتيبة والحمد لله سليما معافى، ولابد من البر باليمين فأصدر أمره للجيش بالتقدم نحو سمرقند فسار الجيش للظفر المنصور نحو المدينة والله يعلم كم من النفوس الأبية قد ذهبت على أبواب سمرقند، ولكن على كل حال فقد فتحت سمر قند، ولكن على كل حال فقد فتحت سمر قند، فتحت سمر قند فدخلها قتيبة والسيف في يده يقطر دماً فوقف على جبل سمر قند ونظر إلى الناس متفرقين في المروج فتمثل قول طرفه: -

وأرتع أقوام ولولا محلنا

بمخشية ردوا الجمال فقوضوا

ارتحل قتيبة عن سمر قند بعد أن استحلف عليها أخاه عبد الله وترك له جنداً وعتاداً حربيا وقال له: لا تدعن مشركاً يدخل باباً من أبواب سمر قند إلا مختوم اليد، وأن جفت الطينة قبل أن يخرج فاقتله. وإن وجدت معه سلاحاً فاقتله وإن أغلقت أبواب المدينة فوجدت فيها أحداً منهم فاقتله.

غزا قتيبة كل هذه المغازي وفتح كل هذه الفتوح فلم تقف به همته عند هذا الحد بل دفعة الإيمان بالله والرغبة في نشر دين الله في أوسع بقعة من الأرض ما دام ذلك في إمكانه. إذاً لا بد لقتيبة من فتح كشعر تمهيداً لفتح الصين، ولكنه فوجئ بموت الوليد هما الوليد ابن عبد الملك بعد موت الحجاج. والحجاج والوليد هما اللذان يثق بهما قتيبة ويعتمد عليهما ويستمد قوته منهما. إذاً فقد تغير الموقف وأصبح قتيبة يخشى سليمان بن عند الملك، لأن قتيبة كان قد سعى في بيعة عمر بن عبد العزيز بن الوليد مع الحجاج، ولأن سلمان كان صديقاً ليزيد بن المهلب خصم قتيبة الألد. وما دام قتيبة يخشى سلمان فعليه أن يحتاط للأمر فينقل أهله إلى سمر قند ليكونوا بالقرب منه، حتى إذا بدا سلمان ما يريب اعتصم دونه بهذه البلاد التي فتحها بسيفه. ولكن مع كل هذا ر بد من غزو الصين ما دام قد احتل كشعر وأصبح من الصين على الحدود.

علم ملك الصين بعزم قتيبة على فتح بلاده فلم ير أمامه إلا المطاولة والمصابرة بالمفاوضة والمخابرة على أمل أن يكون في حادث الدهر ما يغني عن قتال. فأرسل ملك الصين إلى

ص: 29

قتيبة أن لبعث إلينا رجلاً من أشرف من معكم يخبرنا عنكم ونسائله عن دينكم. فانتخب قتيبة من عسكرة أثنى عشر رجلاً لهم جمال وأجسام وألسنة وبأس، وجهز لهم أحسن جهاز وقال لهم إذا دخلتم عليه فأعلموه إنني حلفت أن لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي إخراجهم. وصل الوفد إلى الصين فدعاهم الملك فلبوا الدعوة ودخلوا عليه وهم في ثياب بيض تحتها الغلال تنبعث من أردانهم رائحة الطيب فلم يكلمهم الملك، فنهضوا، فقال لمن حضر كيف رأيتم هؤلاء قالوا رأينا قوماً ما هم إلا نساء ولما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز. فلما دخلوا قيل لهم ارجعوا، فقال لأصحابه كيف رأيتم؟ قالوا هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال. فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر وتقلد السيوف وأخذوا الرماح وتنكبوا القسي وركبوا خيولهم وغدوا، فنظر إليهم الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم ثم أقبلوا مشمرين فقيل لهم ارجعوا، فركبوا خيولهم واختلجوا رماحهم ثم رفعوا خيولهم كأنهم يطاردون بها. فقال الملك لأصحابه كيف ترون؟ قالوا ما رأينا مثل هؤلاء قط. فلما أمسى الملك طلب زعيم الوفد فدخل عليه فقال له الملك. لم صنعتم ما صنعتم في الأيام الثلاثة؟ فقال له أما زينا في اليوم الأول فلباسنا في أهالينا، وأما اليوم الثاني فزينا إذا أتينا أمراءنا وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا. قال ما أحسن ما دبر تم؛ انصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف. إني عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه. قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا وراءه قادراً عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل. قال فما الذي يرضى صاحبك؟ قال إنه حلف أن لا ينصرف حنى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطي الجزية. قال فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب أرضنا فيطأها ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم ثم أجاز الوفد وسرحه إلى قتيبة الجزية وختم الغلمة وردهم ووطئ التراب.

رجع قتيبة إلى خراسان وكان سليمان قد ولي الخلافة فما لبث سليمان حتى عزل قتيبة عدوة وصديقه يزيد بن الملهب، ولكن هيهات أن يذعن قتيبة لأمر سليمان دون أن تشرق

ص: 30

هذه الأقطار بالقنا والصوارم والدماه فخلع قتيبة سليمان وأراد أن يملأها عليه خيلا ورجالا؛ ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه فقد حدثت فتنة عمياء صماء ذهب قتيبة وأهل بيته ضحيتها. قال رجل من عجم خراسان: يا معشر العرب قتلتم قتيبة؛ والله لو كان قتيبة منا فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا. والله ما صنع أحد قط بخرا سان ما صنع قتيبة. وقال آخر: يا معشر العرب قتلتم ويزيد بن المهلب وهما سيد العرب. فقال له أحدهم أيهما كان أعظم عندهم وأهيب؟ قال: - لو كان قتيبة بالغرب بأقصى حجر بالأرض مكبلاً بالحديد ويزيد معنا في بلادنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد.

رحم الله بن مسلم الباهلي وإلى خراسان، وقاهر الشرك في إيران والأفغان والتركستان، ومرغم ملوك الصين على التسليم والإذعان، وجزاه عن العروبة والعرب والإسلام والمسلمين خير الجزاء وجعل الجنة مأواه.

حمدي الحسيني

ص: 31

‌في الرحلة إلى الحجاز

الوميض

للآنسة عزيزة توفيق

هناك لحظات لامعة تومض في الحياة المرء وقد أحلكتها ظروف الحدثان. وفي فيض من نور تلك اللحظة التي لمعت في حياتي وقفت أرقب الجموع المحتشدة المودعة لقطار الحجاج الذي يقلهم إلى السويس. ابتعد القطار رويداً واستلقت على مقعد من ورائي أنظر إلى الباكيات أمامي، وأدير عيني في اللوحين بمناديلهم وقد اغرورقت أعينهم بدموع بدت من ورائها لهفة الفراق: كنت أشعر بفيض من سعادة شاملة لا تؤثر فيها تلك المناظر الحزينة: فعجبت لنفسي اليوم وكم رثيت من قبل للباكي وشاركت المخزون الملتاع!

وصلنا إلى ميناء السويس وانشغلت بملاحظة الحمال وهو يحمل حقائبي وأمتعتي وأسرعت وراءه أعتلي يلم الباخرة وتركته لأبحث عن قمري، حتى إذا اهتت إليها تركت حاجاتي وخرجت إلى ظهر الباخرة لأراقب الجموع من جديد وأسمع للتنهدات وأرى الإشارات ولأبتسم في سكون. ترى لم كل هذا الحزن؟ أولا يعلم القوم أنهم ذاهبون إلى حيث السعادة الكبرى؛ يصلون ويبتهلون لله في أوقات معلومة، وقد ابتعدوا عن زيف الحياة وأغراضها المتعبة، فيغسلهم من أدرانها ويغفر لهم ما تقدم من ذنبهم؟ لقد تركت أهلي وعشيرتي وعلى رأسهم أمي في بلدتي وحضرت القاهرة وحيدة لأستقل القطار إلى الباخرة وكلي فرح وابتهاج: روح تسيرها السعاة تسبح وراء شعاعها الذي برق في حياتي فحقق أمنية طالما خفق بها وترنمت بها روحي في صلاتي.

ودوى البوق واهتزت الباخرة لتسير في تؤدة، وارتفع بجانبي صوت شجي حنون من حاجة ريفية:

يا بحر يا رائي (رائق)

لا موج يعوق ولا ريح يضايق

يا بحر يا كبير

لا موج يغرق ولا ريح يغير

وزادت نشوتي ووقفت أطيل النظر إلى تموجات البحر الزرقاء وقد بدت منتشرة على صفحة الماء، وظهرت وهي نتسابق وتتلاحق كوشى براق خلاب. وكأنما اجتذب هذا المنظر الساحر الأسماك فقفزت لاهية لاعبة مع الموج وقد بدا لونها الأحمر المزركش

ص: 32

مكملاً للمجموعة اللونية المكونة من انسجام ألوان المياه الزرقاء البنفسجية وقد علاها وشى الموج الأبيض. وتحركت شهوة الإنسان في صبى طباخ الباخرة فأسرع بشصه ليصطاد من جموع السمك ما سوف يجهز لنا به وجبة العشاء. وأيقظني من تأملي صوت أجش متسائلاً: (لم لم تغادري الباخرة حتى الآن؟ لقد تحركت في تؤدة وعما قليل ستسرع ولن تتمكني من النزول) فتطلعت إلى صاحب الصوت في استغراب كأنما أوقظت من حلم بعيد، وللمرة الثانية يكرر قوله وأخبرته بأنني (حاجة)، وسرى هذا اللفظ (حاجة) في روحي متعة ولذة. وإذ دخلت قمرتي وطالعني وجهي في المرآة ولاحظت شعري المصفف ألهمت أن الشرطي كان على حق؛ فما ينبغي أن أذهب عارية الرأس إلى البيت الحرام. ومن ثم أسرعت بخلع ملابس المدينة وارتديت الجلباب الأبيض الفضفاض وأسدلت خماري على جيبي. وشعرت إذ ذاك كأن وجهي قد ازداد نورا، وروحي قد اكتسب صفاء، وخرجت إلى ظهر الباخرة من جديد، لأمتزج بالحجاج فوجدت أن أغلبهم لم يخلع بعد ملابسه.

ووافاني الشرطي معتذراً بأنه ما كان يظن أن صغيرة مثلي تقدم على الحج. وللمرة الثانية نظرت إليه في تعجب وذهول، وتركته لأجلس مع صاحباتي وكلمته ما زالت تدور في فكري. كيف ينظر الناس إلى الحج على أنه واجب الشيوخ وقد أثقلتهم ذنوب أعمالهم التي سطرتها سنو حياتهم ليتطهروا منها؟ أو كانت الفريضة وتأديتها وفقاً على الشيوخ دون الشباب؟ - وكأنما كان ينتظرني عجب آخر إذ سمعتهن وسنتهم في أحاديثهم وهي تعلو على هدير الموج يتذاكرون فيما تركوه من شؤون، وبدت في أحاديثهم الشجون؛ فمن شاكية زوجها وما تركتها إلا من ساعات، ومن باك على حبيب فقده، وحاقد على أخ اغتصب حقه من الميراث، وأنا أطل عليهم من تفكيري الشارد.

أو هؤلاء الحجاج يا رب: الناس هم الناس في كل مكان حتى في الطريق إلى بيتك المعظم!

ومر يوم وكاد الثاني ينقضي، وشاء الله أن يريح فكري، فدوى البوق واختلطت بدوية الزغاريد، واستيقظت على نغمات القطعة الموسيقية التي كونتها المقاطع المتوافقة ممتزجة بتصفيق الأمواج، ونظرت إلى ساعتي فإذا بها تشير إلى الثانية عشرة مساء، ومر في أدنى صوت يتحدث قائلاً بأننا قد وصلنا (رابغ) وأن علينا أن نبدأ الإحرام، وأسرع الجميع إلى

ص: 33

الحمام وأنا فيهم لنستحم على ترانيم الزغاريد ونلبس ثياب الإحرام. واجتمعنا على ظهر الباخرة، وكانت تلك هي اللحظة الخالدة التي تبعث الرهبة في القلوب، وتحرك أقسى النفوس صلابة. الجميع في ابتهال وخشوع (لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك) وقد بدا الرجال عراة إلا من مئزر أبيض (بشكير) يدور حول وسطهم وآخر يغطي كتفهم الأيسر. وارتدت النساء الملابس البيضاء الواسعة، والخمر وقد بدت مثل هالات جميلة حول وجوههن، وضربنها على صدورهن فظهرن في أبدع زي وأكمل زينة. عمت الفرحة واشتركنا في التلبية؛ السيدات في صوت اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، وإن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك) هانحن قد وفقنا ملبين وجئنا ساعين، نلبي نداءك أيها الإله العظيم. هذا النداء الذي يسري في رو كل مؤمن، ويحرك قلبه في كل حين حتى إذا ما وافي ميقات الحج بعث فيه شوقاً ينطق ناراً ونوراً بمن استطاع إليه سبيلاً حيث يلبي النداء، وفاء بوعدك الذي وعدته لإبراهيم؛ فلقد رددت الجبال والوديان آذانه في الناس بالحج، وحملته للأثير ووجد مجالاً في قلوب المؤمنين ممن استنشقوه من البشر.

ورحت معالم (جدة) من بعيد فزاد التهليل والتكبير.

عزيزة توفيق

كلية الآداب

ص: 34

‌رسالة الشعر

في الشعر المطلق

التوبة الكبرى

للأستاذ عبد اللطيف الشهابي

(مهداه إلى أخي الأستاذ أنور المعداوي)

هو:

لا تفرعي. . أختاه فالفجر لاح

على نثار من بقايا الجراح

غسلها العطر

كفنها الزهر

قبلها الطل بثغر الصباح

ساخرة. . تزري بهوج الرياح

هي:

طافت بنا الأرواح في أسرها

مخبولة تندب في سرها!

مغلولة اليد

في قسوة القيد

لتغرق الآلام في خمرها

وتدفن الآمال في قبرها

هو:

لا تجزعي. . أختاه لا تجزعي

هيا معي. سيري ولا ترجعي

نجتاز وادي الشقاء

إلى نروح الرجاء

ص: 35

نعيد ذكرى حبنا الممرع!!

ونغسل الآثام بالأدمع!

هي:

عدت وفي قلبي صدى العاثر

كالحلم، عند الشفق الساحر

في توبتي الكبرى

وأدمعي الحرى

فاغفر لي الآثام يا شاعري

ولا تكن كالغاضب الثائر!

هو:

لا ترهبي. فالشمس عند المغيب

تحدث الأفق بسر الغيوب،

سر الهوى والأنين

فصدقي عن يقين:

إني بهذا الكون طيف ريب

كآهة عبر الفضاء الرحيب

هي:

هيا معي، نعب صفو الرحيق

نعطر الموج بمسك فتيق

ننشد في المزهر

أنشودة الأعصر:

لم يسمع الكون صراخ الغريق

فامتدت الأيدي لغل وثيق!

هو:

ومن وراء الأفق الأزرق!

ص: 36

رفت طيوف الأمل المونق

على سني الضياء

ما بين ظل وماء

فهدهدت بالسعد قلب الشقي

في غفوة (عذراء) لم تخلق!

العراق - الحلة

عبد اللطيف الشهابي

الشعر والطفولة:

صديقي الصغير

للأستاذ محمد علي مخلوف

غداً سيتيه بك المنصب

وتلك النبوءة لا تكذب

هو القول يلهمه شاعر

إلى الوحي في صدقه أقرب

كأني أراك بلحظ الغيوب

يحف بك الجند والمواكب

فهذا يحي الرئيس العظيم

وذاك بمظهره يعجب!

نماك التقي وغذاك العفاف

فلله منبتك الطيب!!

فما مثل أمك في الطهر

ولا كأبيك لعمري أب

ستوفد يوماً إلى معهد

رحيق العلوم به يسكب

فتلقي لداتك في ظله

وذاك يثور وذا يصخب

وثمت راع غريب العصا

يهش عليهم ولا يضرب

يسوق القطيع إلى مورد

عذاب الهوى عنده يعذب

وحلم الطفولة إن خف لا

ملام هناك ولا معتب

أهازيج صوتك حول الربي

بغام الطلا شاقه الربرب

ومن مقلتيك يشع الذكاء

كما شع في الظلمة الكوكب

ص: 37

وأسنانك المرهفات الحدا

دخير سلاحك إذ تغضب

فيا لاعباً بحسان الدمى

نراك بألبابنا تلعب. .

وكم ذا تطارد من هرة

وما من يديك لها مهرب

فآونة ممسكا ذيلها. .

وآوانة رجلها تسحب

وليس يردك عنها المواء

ولم يحمها الناب والمخلب

وكم مزقت من كتاب يداك

وما نالك اللوم إذ تذنب

ولو علم الكاتبون الكرا

م ما سوف تأتيه لم يكتبوا

حكيم لعمري فيما فعلت

وإن لم تجرب كما جربوا

فما ينفع الناس يبقي وما

يضر فأولى به يذهب

أخالد يا ابن الحسيب الكريم

وضنء النجيبة إذ تنسب

لأنت هلال بدا طالعاً

ونبع من الظرف لا ينضب

دار الأهرام

محمد علي مخلوف

ص: 38

‌تعقيبات

للأستاذ أمور الإقليمية: أنت أدرى بخلجات الأديب، وبهذه التيارات

العجيبة من الأحاسيس الغامضة التي تدفعه ليمسك بالقلم ويكتب. . أي

شيء! وما قرأتك مرة من المرات إلا هاجت النفس، وثارت بي شهوة

الكتابة، الكتابة إليك، لأني أدرك تماماً أن مكانك من أدبنا العربي، هو

مكان (سانت بيف) من أدب الفرنسي. وحتى تعلم أني شخصي

الضعيف هذه التهمة حتى نعلم ذلك قولك: إني لم أمراك - وهذا

يؤسفني - إلا في تعقيبات التي انتظرها كما ينتظرها الكثيرون. . أما

(أداؤك النفسي) ورفاك لشاعر مصر العظيم فلم أقرأ منه إلا مقالا

ونصف مقال، إي وربئ مقالا ونصف مقال. . وهذا يبدو عجيبا ممن

أخذ بك و (تيم) بآرائك ولكن يا سيدي إذا عرف السبب بطل العجب

كما يقولون!.

قبل أن تطلع علينا بهذا المذهب النفسي الجليل، كنت أتوق وأتمنى لو أن في أدبنا العربي مثل هذا المنهج في دراسة الأدب ونقد الشعر، هذا المنهج الذي أراه في بعض الأحيان - متناثراً - عند هذا الشعر، هذا أو ذاك من الكتاب. فلما قرأت مقالك الأول، وأخذت في قراءة الثاني، أمسكت عن القراءة وعزمت على أمر. عزمت على أن انتظرك حتى تتم هذه المقالات أو هذا المنهج في مقالات النفيسة، فتضع بذلك حجر الزاوية في بناء النقد العربي الحديث، لأني أردتها قراءة مترابطة آخذا بعضها بعري بعض. ولا احلني بحاجة إلى أن أصف شعري يوم كففت عن نشر مقالات، واعداً بنشرها في كتاب يظهر في المستقبل، ويعلم الله متى يظهر!! إلى هنا يا سيدي وأنا وافقك على كل ما ترى، وأذهب معك إلى أن (الأداء النفسي) هو المنظار الأفضل الذي يجب أن ننظر منه إلى نتاج القرائح وفيض العقول. ولكن يظهر - واسمح لي بهذه - أني أخالفك فيمن طبق عليه هذا المذهب ذلك التطبيق الواسع، أو فيمن يجوز أن نجده في شعره بصورة واضحة. ومن يقرأ تعقيبات

ص: 39

ورودك، ودمعة الذكرى على الشاعر الراحل، ويضيف إلى ذلك (المقال ونصف المقال)، ويعرف أنك تقصر هذا المذهب على نابغة المنصورة، وإن اضطررت - لسبب ما - إلا تغفل بعض من يسكنون الشام!.

وأستطيع أن أخرج من هذا بأن العنصرية في الأدب ما زال لها مكان مرموق وصوت مسموع وصوت مسموع، حتى عند أئمة النقد وحاملي لولئه. . حقاً إن راية الشعر ظلت مرفوعة في مصر ردحا من الزمن: بدأت عند البارودي ولكنها انتهت عند شوقي، ثم حدث ما يحدث في كل العصور، فإن الشمس لا تشرق دائماً على مكان واحد، وهي الآن تعم أرجاء الشام نوراً وبهجة، ونحلق في سما حلب ومصدرها الشاعر الفحل: عمر أبو ريشة.

ولست أحب في هذا المجال القصير أن أتحدث عن عمر شاعر عبقرياً، وهبة الله سعة في الخيال وامتياز في (النفس) ورفاه في الشعور، مما جعله شاعراً بكل ما في الكلمة من حياة وروح وشعر. . . ولعل من الفصول أن أسألك قبل أن أودعك، عما إذ كنت يا سيدي قد نظرت إلى شعر عمر العين ونفس الاهتمام الذي نظرت به إلى شعر على محمود طه، ويقيني أن الأستاذ المعداوي سيغير من (قلة الاهتمام) بهذا الشاعر العظيم لو أعاد النظر ديوانه الأخير وقرأ: طلل، امرأة وتمثال، مصرع الفنان الروضة الجائعة، كان لي، فراق نسر، شاعر وشاعر

لو قرأ هذه القصائد الممتازة لغير من نظرته، ولطلع علينا بكتاب عظيم يكون درة يضمها إلى تاجه الأدبي. . وبعد، فله يسعدك أنك أسعدت إنسانا: لكتابه إليك.

القاهرة

محمد بدر الدين الحاضري

الشيء الوحيد الذي لم أكن أنتظره أو أفكر فيه، هو يتهمني قارئ فاضل بالعصبية الإقليمية، أنا الذي حاربت هو العصبية بكل ما أملك من جهد على صفحات الرسالة، كلما أطل برأسها من قلم كاتب أو لسان أديب. ومع ذلك فقد فوجد بالقارئ الذي اتهمني على غير ترقب وانتظار!

وأعود إلى هذا الاتهام السافر فأجده قد خلا من (الحيثيات)، وظهرت فيه النتائج واحتفت

ص: 40

المقدمات. . إن الأديب الفاضل بدر الدين الحاضري أشبه بوكيل النيابة الذي يوجه التهمه وهو لم يقرأ من (ملف) الفضية غير صفحتين. . أما تراه يخالفني فيمن طبق عليه الأداء النفسي هذا التطبيق الواسع، منهيا إلى أن هذا الأداء لا يتمثل في شعره بصورة واضحة، وهو لم يقرأ من تطبيق مذهبنا على شعر علي محمود طه غير مقال؟! ما هذا أيها القارئ الصديق؟. . لقد كنت أرجو أن نفسك بعد أن تكون قد رجعت إلى التطبيق في صورته الكاملة، حتى تستطيع أن تهيأ لحكمك من الأدلة ما يقف به على قدميه!

إن تلك النماذج الفنية التي استشهدت بها من شعر على محمود طه، هي الحكم الفاضل بيني وبين كل معترض على أمانة النقد وسلامة التطبيق. . ولن أضيق أبداً بأي قارئ يجادلني فيما كتبت، أما أن يعترف الأديب الفاضل بأنه أرجأ النظر في بقية الفصول طلبا للوحدة الموضوعية، فقد كان يجدر به خضوعاً لهذا المنطق أن ترجي اتهامه لنا بالعصبية الإقليمية!!.

أن أيليا أبا ماضي الذي في الطبقة الأولى من الشعراء ليس شاعراً مصربا، ولعل القراء يذكرون أن أول تطبيق لمذهب الأداء النفسي على صفحات الرسالة كان منصباً على هذا الشاعر، حتى لقد دفعته الدهشة من أن يحتفل ناقد (مصري) بشعره، إلى أن يبعث إلينا بتحية الصادقة وشكره الخالص، على لسان صديقنا وصديقه الأستاذ محمد على الحوماني. . ماذا أقول بعد هذه اللفتة التي أذكرها لأول مرة حين دعت إليها المناسبة واقتضاها المقام؟!.

إنني أقول للأديب الفاضل رداً على تلك التعريجة في منعطف الطريق: صدقني أنه لا يضيرنا أن راية الشعر فوق أرض سورية لو لبنانية لو عراقية، ما دامت هذه الأرض قطعة عزيزة من هذا الثرى الحبيب، ثرى البلاد العربية حين تجمع بينها حدود واحدة هي حدود الوطن الكبير. . ولكن القول بأن رأيه الشعر ظلت مرفوعة في مصر فترة من الزمن انتهت بانتهاء أمير الشعراء، يع في رأينا شاطحة من شاطحات الرأي العابر والحكم الطائر حين يعوزهما قوة الدليل والبرهان. . لقد نودي بمثل هذا الرأي في مصر بعد أن مات شوقي، وحين ظهر في الأفق الشاعر الذي ملأ المكان الشاعر، تريثت موازين النقد في إصدار الأحكام النهائية على النهائية علة إنتاج المعاصرين!.

ص: 41

أما عن إشارة الأديب الحاضري إلى شعر أبي ريشة، فلا أذكر أنه قد أخرج ديوانا دون أن أقف عند كل قصيدة من قصائد، بل دون أن أرسل الذوق وراء كل بيت من أبياته.

ويا طالما وضعت ديوانه الأهل (شعر)، وديوانه الثاني الذي أخرجنه مجلة (الأديب) وضم بين دفتيه كل ما قال، يا طالما وضعتهما في بوتقة النقد وكفة الميزان. تريد رأيي في شعره؟ إن كل قصيدة من قصائده تذكرني بروعة الجمال الأسر في (جاليتيا) تمثال بجماليون. لقد أدرك بجماليون الفنان أن تمثاله الجميل تنقصه الحركة، تنقصه الروح، تنقصه الحياة. . ومن هنا راح يتوسل إلى الآلهة أن تحيل الرخام الصامت إلى كيان ناطق، أو الجسد الهامد إلى حياة نابضة. واستجابت الآلهة لبجماليون المثال، ولكنها حتى الآن تستجيب لأبي ريشة الشاعر. إن شعره يا صديقي يزخر بالجمال والخيال، ولكنه يفتقر إلى الروح والعاطفة!!.

كلمة إلى صديقي:

تلقيت رسالتك الأولى كما تلقيت من بعدها رسالتك الثانية. ترى هل تبلغ من الثراء هذا الحد الذي يتيح لك أن تطيع ديواناً من الشعر لتوزعه على الناس بالمجان؟! أنه ليسعدني أن تكون صادقاً فيما اعتزمت، لأن في ذلك حلاً لأزمة القراء. . ولقد طلبت إلى أن أقوم بطبع هذا الديوان والتقديم له، ثم رأيت أن تحتار له عنوانا هو (منعطف النهر). . عنوان جميل من غير شك، ولكن لم تؤثر أن يظهر الديوان وهو يحمل اسماً مستعاراً بدلاً من اسمك الصريح؟ صدقني أنني أضيق بكل شيء مستعار، لأنني تعودت أن أعيش في وضح النهار. . ثم لا تنسى أن النقاد سيسألني عن أسمك الحقيقي إذا ما كتبت مقدمة ديوانك، وأنا لا أحب أن أتعرض لمثل هذا الإخراج!.

أنور المعداوي

-

ص: 42

‌للأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

أشرت في عدد مضى من (الرسالة) إلى المحاضرة التي ألقاها الدكتور أحمد أمين بك في حفلة افتتاح مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وموضوعها (جمع اللغة العربية) ووعدت بتلخيصها تلخيصاً يتضمن فكرتها كاملة. واليوم أذكر هذه الخلاصة، ثم أعقب عليها ببعض الملاحظات.

بدأ الدكتور بأن المثقفين كانوا في العهد الأول وصدر من الدولة العباسية يأخذون اللغة من لأفواه العرب، وكان بعضهم يذهب إلى البادية ويقيم فيها يتعلم فصيح اللغة من أهلها، فلما جاءت موجة التدوين أهتم قوة بجمع اللغة، فجمعوها أولا من لغة القرآن الكريم والأحاديث التي صبحت عندهم، ثم تنقلوا بين القبائل العربية يجمعون كال ما يسمعون. ثم جد المؤلفون بعد ذلك في حذوهم أهل الحديث، فقسموا اللغة إلى متواتر وآحاد. وبين المحاضر معنى كل من المتواتر والآحاد، وعنى خاصة بالاعتراض على طريق المختلفة لجمع اللغة، ووصل من ذلك إلى أنها كانت بدائية غير منتظمة، إذ قال: إنما كان عملهم في الجمع بائيا غير منظم، إذ قال: إنما كانوا يلتقطون ما يسمعون من الألفاظ ويدونها ولم ينصوا في الأعم الأغلب على القبيلة الواحدة التي جمعوا منها ألفاظهم.

وأعبر تلك المقدمة عبراً، فالمحاضر - فيما يبدوا لي - يبغي من عرض طرق جمع اللغة وما أدت إليه من الكثرة وتضخم المعاجم، الوصول إلى (الترادف) ليفنذه وببسط فيه رأيه. فالترادف أصله جمع الألفاظ من القبائل المختلفة لتكون كلها لغة عربية ويقع فيها تعدد الكلمات لمعنى واحد آتياً من استعمال كل قبيلة لكلمة منها، يقول الدكتور: والقبائل كانت أعقل من أن تضع كل قبيلة لفظين لمسمى واحد، فالقبيلة التي تستعمل كلمة (السكين) لا تستعمل كلمة (المدية) والقبيلة التي كانت تستعمل كلمة (البئر) لا تستعمل كلمة (الفليب) فلما كان الجمع بدائيا، وجدت ألفاظ كثيرة مترادفة، ومن ثم كانت المعاجم مملوءة بالمترادفات. وفي رأيي أن المترادفات مع إعادتها للشاعر خصوصاً في الشعر العربي الذي يلتزم القافية وخصوصاً في الملاحم الطويلة التي تشمل على أبيات كثيرة يحتاج معها إلى مترادفات كثيرة. وقد أنكرها ابن فارس وثعلب، فقد روى أن ابن خالويه قال أفي

ص: 43

حضرة سيف الدولة بن حمدون: إني أعرف للسيف خمسين اسماً، فقال ابن فارس إني لا أعرف له إلا اسماً واحداً وهو السيف. فقال ابن خالويه: وماذا تقول في المهند والصمصام والمتار؟ قال إنها صفات. يعني بذلك أنها اختلفت لدلالاتها على صفات غير الاسم، وذلك كأسماء الله الحسنى فإنها تدل على صفات أكثر مما تدل على الذوات. والترادف في نظري ليس مزية من مزايا اللغات، بل هو عيب من عيوبها، فإن كان موجوداً في اللغات القديمة. والمثل الأعلى للغة: لفظ واحد لكل مسمى، فلا ترادف ولا اشتراك، ولذلك كانت المترادفات في اللغات القديمة أكثر منها في اللغات الحديثة. ومع أن ألفاظ كثيرة عدت مترادفات وإن لم تكن مترادفة لدقة الفروق بينها مما أدى إلى عناية بعض العلماء من المستشرقين وعرب إلى تأليف كتب في الفروق، كما فعل أبو هلال العسكري وكما فعل بعض الآباء اليسوعيين - إلا أنها مع ذلك من غير شك كثيرة في اللغة العربية، مما ملأ المعاجم بالمترادفات وضخمها ضخامة كاذبة.

وأخيراً قال الدكتور: ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج منه أن اللغة قد تضخمت تضخماً مزيفاً كثيراً، وكانت نتيجة ذلك تضخم المعاجم تضخماً أيضاً مزيفاً، وقد كان يقبل هذا لو تدهمنا الحضارة الغربية بكثير من المسميات والمعاني نحتاج لها إلى ألفاظ كثيرة، وهي تغمرنا كل يوم بمئات المصطلحات التي كثيراً ما نعجز عن مسايرتها، فكان المعقول أن نتخفف من كثير من الكلمات، لنفسح مكاناً لها في المعاجم. وقد فعلت قريش خيراً مما فعله جامعو اللغة العربية ومؤلفو معاجمها، فإنهم صفوا اللغات المختلفة ونقوا خيرها واستعملوه لغة لهم وبها نزل القرآن، فلم يجمعوا كل ما قيل عن القبائل بل نخلوه واقتصروا على ما حسن وقعه في أسماعهم وراق في أذواقهم. بقى سؤالان عامان، وهما: ألم يرد في القرآن الكريم مترادفات لنثبت أن قريشاً اختارت من اللغات أحسنها، والسؤال الثاني: أيهما خير، أنضحي بوحدة القافية في الشعر لتنقية اللغة من المترادفات، أم نبقى عليها للإبقاء على الشعر العربي في شكله القديم؟ ومن رأينا في الإجابة عن السؤال الأول أن ليس في القرآن مترادفات، وإنما كلمات باختلاف موضعها، فقد تكون كلمة أوقع في محلها، وتكون الأخرى أوقع في محلها الآخر، وقد أدرك الجرجاني في دلائل الإعجاز ذلك إذ قال إن كلمة أيضاً ليست من الكلمات التي تستحسن في الشعر ولكن وردت جميلة في بيت شعر وهو:

ص: 44

غير أني بالجوى أعرفها

وهي أيضاً بالجوى تعرفني

وأما عن السؤال الثاني فيمكننا أن نهدر المترادفات ونهدر معها ورود القصيدة على قافية واحدة، ويمكن في الملاحم وأمثالها أن نغير القافية في كل عدة أبيات كل اضطر البستاني أن يفعل في ترجمة الإلياذة، وبذلك كله نفسح مكاناً واسعاً في المعاجم للكلمات الحديثة والمصطلحات الحديثة. وإذا لم تتح لنا فرصة الإجادة في الشعر المرسل كما حدث في بعض اللغات، فليس أقل من أن نغير القافية بين جملة من الأبيات وأخرى، وليست وحدة القافية بالأمر المقدس الذي لا يصح أن نخرج عنه، ولكنه أمر اعتيادي وتقليدي، مرده كله إلى الأذن الموسيقية.

تعقيب

نرى أن النتيجة العملية التي يستخلصها الدكتور أحمد أمين بك من ذلك البحث الذي يعتبر حلقة في سلسلة بحوثه اللغوية التجديدية التي يلقيها في مؤثرات المجتمع - هي إعادة النظر في ذلك التراث المتضخم دون فائدة لنحذف منه المترادفات كي تحل محلها في المعاجم الكلمات والمصطلحات الحديثة، ويرى الأستاذ أن المثل الأعلى للغة أن يستعمل فيها لفظ واحد للمعنى الواحد وأن لا حاجة إلى المترادفات إلا في قافية الشعر التي يمكن أن نستغني عنها. وأنا أوافق الأستاذ الكبير على أن قافية الشعر ليست مقدسة وأنها لا تبرر ذلك التضخم الذي وصفه، بل إنني أذهب إلى أبعد من ذلك، فأعجب كيف ثرنا على القافية في النثر المسجوع وأقررنا في الشعر، والأمر فيهما واحد من حيث القيد الصناعي الذي يرجع إلى الأذن الموسيقية.

ولكن هل الغرض من الترادف الإعانة على القافية؟ لقد جاء في تعبير الدكتور بالمحاضرة قوله: (فإنهم صفوا اللغات ونقوا خيرها) ترى لماذا استعمل (نقوا) بدل (اختاروا)؟ إنه فعل ذلك لأن عبارة (اختاروا خيرها) يثقلها اجتماع الخاءين وهنا أسفه الترادف بالفعل (نقي) الذي لا يثقل في النطق والسمع مع (خيرها) وقال أيضاً: (واقتصروا على حسن وقعة في أسماعهم وراق في أذواقهم) ولو كرر (حسن) مكان (راق) لما حسن وقع الكلام في الأسماع وراق في الأذواق. . ولو أنه أخذ باقتراحه في صياغة المحاضرة فقرر الاكتفاء بالفعلين اختار وحسن دون مرادفاتهما لوقع في حرج من ثقل التعبير. ومثل هذا ما قاله الأستاذ

ص: 45

نفسه عند نفي الترادفات في القرآن، فقد رأى أن ما فيه كلمات تختلف باختلاف موضعها فقد تكون كلمة أوقع في محلها وتكون أخرى أوقع في محلها الآخر والمتأمل في هذا لا يراه خارجاً عن الترادف وإنما هو استعانة به على استعمال الشيء في موضعه.

وقد تعرض الأستاذ لرأى ابن فارس في الترادف إذ أنكر ابن فارس وجوده في اللغة ووجه الكلمات المتعددة التي تطلق على شيء واحد بأن واحداً منها هو الاسم والباقي صفات كأسماء الله الحسنى، ولم يعن الأستاذ بتنفيذ هذا الرأي مع أنه يتفق وفكرته من حيث رأى أن اللغة تثقلها مترادفات كثيرة يجب التخلص منها. وفي نظري أن تلك الكلمات وإن كان قد لوحظ في استعمالها الأول ما بينها من فروق إلا أن هذه الفروق قد ذهبت مع الزمن وصارت الكلمات ذات دلالة واحدة، فالشاعر - مثلاً - إنما يأتي بكلمة (مهند) لأن القصيدة دالية، ولو كانت ميمية لأني بلفظ (صمصام) من غير شك.

ولو فرضنا أن هناك لغة ينطبق عليها المثل الأعلى الذي ذكره الأستاذ، فإن الإنسان لا يتصور لهذه اللغة أدبا، فقد كفى بحاجة التعبير العلمي واليومي، ولكنها تكون بعيدة جداً عن الاعتبارات التي تلاحظ في حسن وقع الكلام، وفضل كلمة على أخرى في موضعها، وفي الظلال التي يضيفها لفظ دون آخر. . . إلى آخر هذا الذي يحتاج إلى بحث وحده.

على أنني أوافق أستاذنا الكبير الدكتور أحمد أمين بك إذا كانت خلاصة موضوعه: الضيق بالكثرة المتضخمة من المترادفات في لغتنا وأكثرها ألفاظ حوشيه وكلمات ميتة، والدعوة إلى تصفية اللغة منها مع الإبقاء على المترادفات الحية المأنوسة وذلك كما فعلت قريش، فإنهم لم يهدروا المترادفات كلها، وما أظن الأستاذ يقول بذلك، وإنا نراه يحتاط في التعبير إذ قال إنهم اختاروا من اللغات أحسنها، وهذا ما نريد.

شكر الاستعمار:

أعلنت نقابة الصحفيين - يوم الخميس الماضي - عن محاضرة تلقيها زوجه أحد الزملاء موضوعها (أسرار المهنة في رحلتي بشمال إفريقية) وامتلأت قاعة فاروق الأول للمحاضرات في نادي النقابة بجمهور من الجنسين وقدمت السيدة على أنها صحيفة، ولذلك سنتحدث عن (أسرار المهنة) وتحدث السيدة فقالت إنها ليست صحيفة ثم أبدت هذا القول بعدم تعرضها للمهنة وأسرارها. . .

ص: 46

كثيراً ما سمعت محاضرات أو (شربها) كما يقوون في اللغة الدراجة عما يقع فيه المرء وهو غافل. . فلم أراد أن أشرك قراء (الأديب والفن) في بلوته!

وكنت أغضى على هذه المحاضرة، لو اقتصر الأمر فيها على فراغها من شيء ذي بال، أو اقتصر على اللغة التي تحدث بها السيدة إذ جانب الفضيحة وكسرت العامية. . وكنت أستطيع أن أغضى أيضاً عن تهاون نقابة الصحفيين في اختار ما تجمع من أجله الناس في قاعتها الفخمة.

ولكن الذي لم أستطع له كتاناً، وهو الذي حدا بي إلى كتابة هذا، أن السيدة الفاضلة، وهي نتحدث عن رحلتها بشمال إفريقية، شكرت فرنسا. . لا على ما قام به الحكام الفرنسيون هناك من تسهيلات أو حفارة بالزملاء في رحلتهم. . وإنما شكرت (المحاضرة) فرنسا على ما قامت وتقوم به من أعمال لتقدم أهل شمال إفريقية ورقيهم. .! أي أنها تشكرها على الاستعمار!

وقد علمت أن في النقابة برنامجاً لأحاديث في سلسلة أسرار المهنة في رحلات ببلاد مختلفة، وكل الذي أرجوه ألا يحدثنا أحد عن رحلة في مصر يشكر فيها إنجلترا. . .

الموسيقى والدين:

يول الأديب (حافظ عبد السميع عمران) في رسالة إلى:

(قرأت كلمة طريقة بجريدة المصري مؤداها أن نستعين بالموسيقى في جميع تراتيلنا الدينية. ويسأل صاحب المقال ويسأل معه مؤيده: لماذا لا ترتل القرآن والأذان وخطبنا الدينية على نغمات الموسيقى؟ إن الموسيقى تنقلنا إلى عالم الانتشاء الحسي والاستمتاع الروحي فلماذا لا نتخذها وسيلة لتذوق ديننا؟!) ثم يقول: (ونحن لا نرتاب في أن الموسيقى تحرك الغرائز وتثير الشهوات وتبعثها على الهوى وتدفعها إلى السيطرة على العقول والإرادة الإنسانية، فما فائدتها إذن للدين؟) ويمضي هكذا حاملاً على الموسيقى لأنها - في رأيه - تثير الغرائز والرغبات الشهوانية إلى أن يتساءل: وأين قداسة الدين في جو تسوده الإباحية والتحلل الخلقي. . . في جو يسيطر عليه المجون والخلاعة؟ أيريدون أن نهبط بالدين إلى الهاوية التي صرنا إليها ونجعله أداة لهو إشباعاً لرغباتنا الشهوانية الوضيعة؟

ولاشك أننا لا نرى الموسيقى بتلك المثابة، فالموسيقى فن رفيع، وقد اصبح بيان أميته

ص: 47

وأثره في الإمتاع الروحي وترقية النفوس وما إلى ذلك، من الكلام المقرر المعاد. أما استخدام الموسيقى في اللهو الرخيص من حيث ما يصاحبها من غناء مبتذل ورقص مثير، فهو أمر آخر لا ينبغي أن نخلط بينه وبين الفن الموسيقي العالي.

أما ما كتب عن اتخاذ الموسيقى في ترتيل القرآن والخطب الدينية والأذان فهو كلام يعمد إليه بعض زملائنا الصحفيين لإطراف القراء وإتحاقهم بما يلفت الأنظار ويجدد النشاط للقراءة. . وإذا كان الكاتبون الداعون إلى ذلك جادين في دعوتهم فإنهم ولا شك بعيدون كل البعد عن روح الإسلام وثقافته، وليس كل ما يعمل في الأديان الأخرى يلائم ديننا، وإن آفتنا الكبرى هي التقليد. . . وكما جانب الأديب صاحب الرسالة الصواب في طعنه على الموسيقى، كذلك بعد عنه أولئك الدعاة كل البعد، فإن النصوص الإسلامية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأذان وخطب وغيرها - لا يقصد الانتشاء والاستمتاع، كما يقولون؛ إنما هو كلام موجه إلى العقول والإفهام لتعي ما يرمي إليه وتعمل بمقتضاه، فإذا صاحبته الموسيقى تحيف الانتباه إليه وشغلت عن مراميه. ولعل شيئاً من ذلك واقع بالفعل إزاء ما يصنعه الآن أكثر قراء القرآن من تكسر وتطريب باسم التجويد، حتى أصبحت غاية الناس مع سماع القرآن أن يطربوا لأنغام القارئين. وأما أبشع الأصوات المنكرة التي نسمعها من الحفلات المذاعة، تلك الأصوات لتي تتعالى بالاستحسان فتنطق بعبارات عجيبة ولهجات غير لائقة، كذلك الذي يجأر في خطاب القارئ: يا حلو يا حلو!

وما ذلك إلا للاتجاه بالقراء نحو التنغيم والتطريب، فما بالك إذا صحبها العزف والطرب. . إن القرآن لم ينزل لمثل هذا، إنما أنزل لإبلاغ ما تضمنه إلى الإفهام، فهل نحيد به إلى الأنغام و (الانسجام)؟

عباس خضر

ص: 48

‌البريد الأدبي

كتاب كريم

أرسل صاحب المعالي الدكتور طه حسين باشا هذا الكتاب الكريم إلى الأستاذ محمد سيد كيلاني يشكره على مقاله طه حسين الشاعر الذي نشر في العدد الماضي من الرسالة.

سيدي الكريم:

قرأت الآن في القناطر الخيرية مقالك الممتع الذي نشرته الرسالة، فأشكر لك أجمل ذكرتني شيئاً كنت أنسيته حتى كنت أشعر أثناء قراءة هذا المقال أنك تتحدث عن شخص غيري.

وعفا الله عما سلف، فقد كانت تلك المحاولات في آخر الصبا وأول الشباب فجراً كاذباً لم يمح شكاً ولم يجل يقيناً.

والحمد لله على الخير والشر والبراءة إليه من الكذب والغرور. أما بعد فإني أرجو أن يقبل تحيتي وشكري مجدداً.

طه حسين

حول نقد مسرحية ابن جلا:

نشرت في الرسالة نقداً لمسرحية (ابن جلا)، وتعرض للتعقيب على هذا النقد معقبان. . . وقد لمحت في ردي على التعقيبين إلى الدافع لأحدهما إلى التعقيب على ردي في العدد الماضي من الرسالة. . . وأبي إلا أن يبتعد عن الموضوع، بعد أن أثبت تناقضه، وتخبطه. . . وراح يتحدث في غرور عن الشرف الذي أضفاه علينا بتعقيبه على نقدنا. . . ونحمد الله على أننا تخرجنا في قسم النقد بمعهد التمثيل قبل أن يدخله الأستاذ إسماعيل رسلان تلميذاً. . . فلم نتشرف حتى بزمالته. . . ولعل في ولعل في تحمسه للرد على نقدنا وفي تطاوله علينا، ما يفصح عن الوسيلة التي وصل بها إلى هذه الأستاذية. على أننا لا ننكر أن المعقب معيد في المعهد منذ شهرين، وقد تخرج فيه هذا العام، وثار حول نجاحه جدل، ى أريد إكراماً لهذا المعهد أن أسرد تفصيله. . وأريد زيادة في التعريف به أن اذكر أن ما نشرته الرسالة له من تعقيبات هو كل ما جادت به قريحة في حياته للفنية.

وليس من الغريب أن ينكر المعقب بمؤلف المسرحية، فهذا هو المنتظر؛ ولكنه لا يستطيع

ص: 49

أن ينكر علاقته بالمسؤول عن اختيارنا.

وليعلم المعقب أن قارئ الرسالة ممتاز، ومن المتعذر تضليله. فهو يعرف من التحامل ومن المأجور ومن الذي هرب من الموضوع، ومن الذي كتب بأذنه ى يعقله هذا. . . وللمعقب أن يحتفظ لنفسه بنصائحه التي ألبس فيها الضلال ثوب الحق، والإثم ثوب الطهر. . ولست أدري متى عرف الأستاذ ما يليق حتى ينهى عما لا يليق، ومتى عرف الحق حتى يتضح بالتزامه؟. . وإذا كان النقد المنرة عن الهوى يعد في نظرة تسفيها لأعمال الكتاب. . . فهل ينبغي منا أن نسير معه في الركاب؟!. . وهل من ينقد أعمال الكبار، في هذا العصر الذي ينبغي الوصل؟

وبعد. . فأحب أن أقول للسيد رسلان إنه قد حقق الكثير من آماله. . ولكن النقد أسمي من أن يكون في متناول هذه الوسائل، لارتباطه بالمثل والقيم التي لا تستجيب لغير الحق!

وإذا كان الأستاذ يريد أن يذكر كل الحق فقد كان حريا به أن يشير إلى ما كتبه الأستاذ أنور المعداوي في هذا الصدد حيث قال معقباً على نقدنا للمسرحية، وعلى ما كتبه هو وزميله:(لقد كنت أوثر للناقدين اللذين تعرضا للأستاذ فتح الله أن يبتعدا عن مواطن الاتهام، اتهام القراء لهما بأن حماسهما في نفي المآخذ الفنية عن مسرحية الأستاذ تيمور، قد زادت كثيراً عن الحد المألوف!. . لقد كان يجدر بكل منهما أن يسمو بقلمه فوق مستوى الاتهام الموجة إليه، بدلا من توجه مثل هذا الاتهام إلى الأستاذ تيمور علاقة من العلاقات، لقد حاول الأستاذ أن يكتب نقداً نزيهاً لا أثر فيه للمصانعة، فكان جزاؤه أن رمي بالتحامل، لأنه لا يجامل! لفته أخيرة أود أن أختم بها هذه الكلمة، وهي أنني أقدر فن الأستاذ تيمور. . . وأحترم نقد الأستاذ فتح الله)

. . . وأعتقد أن هذا التعقيب، أكرم تعويض للناقد الحر في هذا البلد.

أنور فتح الله

كلمة غريبة حق مقال:

اطلعت مؤخراً - بسبب تعطيل المواصلات في السودان - على مجلة الرسالة، فقرأت كلمة لأديب عراقي يعقب فيها على بعض ما جاء في كلمتي (دم الحسين) ويقول إن فيما

ص: 50

كتبته خزعبلات وأباطيل، وأن نخبة من الشباب المثقف - على ما زعم - استهجنوا بعض ما سطرت.

ونصيحتي للأديب أن يكون عف اللسان، مطلعاً، مميزاً بين ما يجوز وما لا يجوز. استبعد المعترض أن يكون الرجل الذي منع الحسين الماء قد أصيب بداء يشرب معه ولا يروى لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أن تكون الشمس كسفت لموت إبراهيم. فمن ناحية الوقوع ما أظن أن أحداً ينكر أن يبتلى الله من شاء بمرض لا يرويه الماء معه، ومن ناحية القياس فهو قياس غريب عجيب، فانكساف الشمس أو القمر آية كونية، ونحن مؤمنون بته هذه الآيات الكونية لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن هل يمنع العقل أو المشاهدة أن ينتقم الله من معتد فيصيبه ببعض الأمراض، أما أنا فقد شاهدت ذلك كثيراً في قرانا الريفية، وقرأت وسمعت.

وأما أن هذا الكلام تكذبه الرواية فحسبي أن أقول لحضرة (العلامة) إنني نقلت هذه الروايات من تاريخ الطبري، وناهيك به تاريخاً، ويصاحبه شيخاً.

(وبعد) فالمثقف لا يعترض حتى يعلم، ولا يستهجن حتى يبلغ في العقل مبلغ من يفرق بين ما يقع وما لا يقع.

علي العماري

كلمة طيبة لنائب محترم:

كان للكلمة الكريمة التي نشرها المصري لحضرة النائب المحترم حسين بك بدراوي حول الخلاف المتشعب الأطراف بين علمين من أعلام السياسة والأدب، وما كان لهما أن يسلكا هذا الطريق والبلد في أشد الحاجة إلى اتفاق الرءوس وصفاء النفوس وتوحيد الكلمة.

إن ما نحن فيه من محن ومشكلات، وما تنذر به الحالة الدولية من خطوب وصعوبات، ليدعو بالعقول المدبرة والرؤوس المفكرة والأفلام المعبرة البريئة أن تقف من هذا كله موقف الداعي الناصح والمرشد الموجه.

اتقوا الله يا سادة وانتقلوا إلى جدول الأعمال فالدول جميعاً لا هم لها الآن غير التفكير والتدبير والعمل.

ص: 51

(فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنون).

حسن عبد العزيز الدالي

سؤال:

يقول الله تعالى في كتابه العزيز (وما كان لنفس أن يموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً). وقال جل شأنه (فإذا جاء أجلهم لا يتأخرون ساعة ولا يستقدمون). وكتب الدكتور الأستاذ حامد الغوابي مقالا في الرسالة الغراء عدد (911) بعنوان (الخمر بين الطب والإسلام) جاء فيه (وإذا أطلعتم على إحصائيات شركات التأمين على الحياة وجدتم أن استعمال الخمر ولو بمقدار متوسط يقصر العمر)! قلت: كيف يمكن التوفيق بين ما قررته الآيات البينات، وبين إحصائيات شركات التأمين على الحياة؟! أما أنا فلا أفهم إلا لغة القرآن، وأفهم أن العمر لا يقصر ولا يطول ولا يمكن أن يقصر أن يطول لسبب أو لآخر، فالنباتين والفيتامين لا يطيلان العمر كما لا يقصره الزرنيخ والنفتالين. .

فما قول الدكتور الغوابي صاحب المقال في الجواب على صاحب السؤال؟

لو كان في الخمر أعمار يعجلها

لقصر الموت أعماراً يؤجلها!

عدنان

(الزيتون)

(الرسالة)

قال الله تعالى: (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب)

حذف وتحريف

نشرت مجلة (الألواح) البيروتية ي عددها الثامن الصادر في منتصف الشهر الماضي قصيدة لي بعنوان (بين الأعاصير) وهي القصيدة التي نشرتها الرسالة قبل ثلاثة أسابيع. وقد أتيح لهذه القصيدة أن تخرج بها الألواح عن التقاليد الصحيفة فحذفت منها وحرفت فيها. وقد تناول الحذف بعض الأبيات في أول القصيدة وفي آخرها فأساء هذا الحذف إلى التسلسل بين أجزائها والترابط في موضوعها وفكرتها، كما أدى التحريف إلى الخروج عن

ص: 52

المعاني المقصودة وقواعد اللغة، وإذا كان الحذف قد يفسر بغفلة طارئة من المنضد أو المصطلح، أو بضيق الصفحة الواحدة عن استيعاب القصيدة كلها فإن تحريف (كبابل) إلى (أي بابل) في البيت الآتي:

كبابل وسميراميس شامخة

تقول للدهر: ماذا أنت صانعه

وتحريف (مدافعه) إلى (يدافعه) في البيت:

وقيل جاء حليف الشرق منتصرا

تحرر الشرق من رق مدافعه

وتحريف (في) إلى (من) في البيت:

وغره أن هذا الليل ما فتئت

تمتد في مشرق الدنيا سوافه

كل هذا يؤدي إلى مسخ المعنى وتشويه القصد، وقد يفسر هذا أيضاً بغفلة المصحح ولكن الذي يدعو إلى الدهشة أن تأتي كلمة (الدروب) بدل (المتيه) في البيت:

حتى إذا بات في الظلماء رائدها

يطوي المتيه وتحويه شواسعه

لأن ضمير (شواسعه) لا يقصد به إلا المتيه فكيف يعود إلى الدروب وهي جمع؛ يضاف إلى هذا أن كلمة (المتيه) لا تنكرها اللغة وإن أنكرتها فلا ينكرها القياس الصرفي، على أن هذه القصيدة قد نشرها الأستاذ الزيات ولم يقل فيها شيئاً وهو من أئمة اللغة والأدب.

لقد كنت أود أن تمتد يد التصحيح إلى القصائد والقطع الأخرى لتي نشرت في العدد نفسه فتعيدها إلى حظيرة النحو والصرف والعروض قبل أن تمتد إلى قصيدتي فتحرف وتحذف بدون مسوغ.

وإذا كان هناك شيء أقوله لصاحب الألواح فهو أن اللقب الجامعي لا يضاف إلى الشاعر في قصيدة أو مقطوعة إذ لم يكن من التقاليد الصحيفة أن يضاف هذا اللقب ما لم يكن صفة ملازمة للشاعر كلقب (الدكتور). إن اللقب الجامعي لا يذكر عادة إلا في البحوث التي تتناول تربية الطفل وعلم النفس وما شابه ذلك؛ أما الشعر فهو بعيد كل البعد عن الألقاب.

حقاً أن صاحب (الألواح) صديق قديم وصحفي أثير المكانة ولكن الصداقة شيء والدفاع عن كرامة الشعر شيء آخر.

القاهرة

إبراهيم الوائلي

ص: 53

‌الكتب

من بلاغة القرآن

تأليف الأستاذ أحمد أحمد بدوي المدرس بكلية دار العلوم

للأستاذ الظاهر أحمد مكي

بمن الجزئية صدر الأستاذ أحمد أحمد بدوي عنوان كتابه وكان موقفاً، فإن التصدي لبلاغة قرآن كلا شيء فوق طاقة الفرد وجهد العقل. ولهذا الكتاب قصة بدأت في يوم من العام الماضي بدار العلوم، حين أختط الأستاذ لنفسه منهجاً جديداً في تدريس البلاغة لطلابه، فقد آثر الناحية التطبيقية، على تدريس القواعد البلاغية، كما تركها لنا القدامى، ممزوجة بالفلسفة، أو متأثرة بالمنطق، وقد أصاب فيما أرتاى وما ابتدع، فإن البلاغة ذوق وفن، ومران وصقل، وملكة وحاسة، وهي عدد تنمها القراءة الرشيدة، والدراسة الحرة، والاطلاع والواسع، والعزوف عما فتن لها من القواعد ونظم لا يتصل أغلبها بالذوق السلم.

فالأستاذ أحمد بدوي إذن أراد أن يدرس لطلابه البلاغة في القرآن، ولم يفرضه عليهم، وإنما استشارهم فيه، وكان لكاتب هذه السطور رأى يخالفه، مؤثراً دراسته شاعر أو نتاج أديب، ليكون مجال العقل أوسع، وميدان النقد أرحب، وتطبيقاً لمناهج البحث الحديثة، من تناول الموضوع خلوا عن أي فكرة سابقة، وما في استطاعة مسلم أن يجرد نفسه من العطفة، ومن ظلال القدسية، حين يعرض لدراسة القرآن الكريم!

وثمت أمر آخر أشد خطورة، هو أن القرآن ليس نتاجاً عادياً، فيخضع لقوانا وأبحاثنا، فمن الخير أن ندمه في عليانه، نمسة بعواطفنا ووجداننا، ونغدي به حواسنا وشعورنا. ونستلهم فيما نكتب أو تفكر، دون أن نحاول البحث عن السبل التي سلكنا أو القواعد التي نهجها، ولكن أستاذنا الفاضل، رأى غير ما ارتأينا، فدرس لنا الموضوع فعلا، وأخرج نتائج بحثه مؤلفاته ضخما، يذل فيه مجهوداً كبيراً كنا نشفق عليه منه، فقد تصدى لحمل رسالة بنوء بها أعظم الناس عقلا، وأكثرهم تفرغا لذات الموضوع، فما بالك وهو يشارك في أكثر من ميدان علمي، دارسي أو مؤلفاً أو محقفاً، وله أكثر من كتاب صدر في نفس العام تحمل دراسات قيمة، توج واجداً منها مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وهو دراسة عن (رفاعة بك

ص: 55

الطهطاوي) فنال عنه الجائر الأولى في المسابقة الأدبية التي أقامها لعام 1950.

ولكن إلى حد نجح أستاذنا في محاولة؟. . . إنه عرض علينا صورا طيبة، لدراسة عالية أساليب (القرآن) تحمل العمق والجدة، والإحاطة والشمول، والإلمام الواسع باللغة في شتى مناهجها، أما النتائج التي قصدنا إليها فلم نبلغ منها إلا القليل، ذلك أن قاعدة واحدة من قواعد النقد الأدبي أو النحو أو البلاغة، أو حتى الصرف، تستطيع أن تطبقها على القرآن أو تستخرجها منه، دون أن تصطدم بما ينقصها في مكان آخر. لأن القرآن لا يلتزم في نهجه طريقاً واحداً، حين يغزو المشاعر والأحاسيس، مادحاً أو قادحاً، مهاجماً أو دافعاً، مرغباً أو مزهداً واعداً أو موعداً. ومن ثم فقد أضطر أستاذنا إلى نفس الطريقة التي لجأ إليها أسلافنا من التأويل والتخريج، وصرف الكلام عن ظاهره، وهي طريقة إن صحت في ميدان التشريع والتفسير فلا تحمد في ميدان البلاغة بحال.

على أن للكتاب أهمية قصوى، لا تتأنى من عرضة لصحائف من القرآن في صورة جديدة فحسب، وإنما لإثارته أكثر من قضية أدبية، فهو يحدثنا عن هدف الأدب (ص12) فيقول (والحق أننا نقف بهذا الهدف، عند حد الإثارة الوجدانية، فلا نطلب منه أن يمدنا بأفكار صادقة عن الحياة) وهو كلام يستدعى النظر طويلاً. أما أن الأدب إثارة وجدانية فأمر لأمراء فيه وأما عدم اشتراط الصدق، يرفضه الأدب بمعناه الحديث لأن البساطة والصدق هما أخص مميزاته، أما الأدب المنافق المرائي الذي شهدته العربية وتشهده، في عصور الضعف والاستعباد فمرهون بظروفه، وسينتهي فمرهون بظروفه، وسينتهي يوم تشيع الحرية والكرامة في أرجاء هذا الوطن العزيز. . .

ثم، ما هو التعبير الإباحي لا يعده الأستاذ من الأدب أو الفن الجميل (ص18) وما الفرق بين الإثارة الروحية والإثارة الجنسية؟ إن الكاتب قد يعرض لموضوع جنسي، محللاً في قصة، أو مبحوثاً في مقال، فيقرأ من سمت تربيته فلا يراه إلا روحيا خالصاً، ويقرأه من عاش في بيئة متحللة، فلا يلمس فيه إلا استفزازاً جنسياً، فليس هناك تعبير وتعبير روحي، وإنما هناك قابلية روحية وقابلية جنسية، وهو يحدثاً عن المنهج الأدبي في القرآن (ص37)(وأعني بالمنهج الأدبي هذا الذي يتجه إلى إثارة وجدان القارئ، إثارة روحية رفيعة) ثم يستشهد له بما يمت إلى الروحية إلا بسبب واهن ضعيف، في آية (ومن يطيع الله

ص: 56

والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. . .) لأن صحبة الأنبياء ورفقائهم هنا، ليست مرغوبة لذاتها، وإنما لأن هؤلاء مأواهم على درجات الجنة، فمن صحبهم كان معهم. والجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلإثارة هنا مادية لا روحية فيها. . .

والحق إن إثارة القرآن كلها من النوع الهادي، فقد نزل يخاطب قوما ماديين، ومن ثم فقد أصحب كل وعودة ومواعيد، الجنة بما فيها من خيرات، والنار بما فيها من عذاب، فهو يدعوهم إلى الخير لا لأنه فضيلة في ذاته، وينهاهم عن الشر لا لأنه رذيلة في ذاته، ولو فعل ذلك لما وجد سميعاً، وإنما يدعوهم إلى الخير لأنه يؤدي إلى الجنة، وينهاهم عن الشر لأنه يؤدي إلى النار، والقرآن حين يحدث مخاطبيه عن الجنة، لا يحدثهم عن أي جنة وكفى، وإنما يقول (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمرة لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات. . .) ثم بعد ذلك (. . . ومغفرة من ربهم) فهل هناك إثارة مادية أبلغ من هذا؟ ولم يفت أستاذنا هذا الوضع، فراح يستثنيه مع أنه الأصل، ويؤوله ليستقيم مع حكمة الأول، من أن إثارات القرآن كلها وجدانية روحية خالصة.

والقرآن معجز، وإخفاق العرب عن الآنيان بشبيه له أو ضريب - وإن قل - حديث مستفاض، ولكن وراء هذه القضية أكثر من علامة استفهام، فإن الذين وما هم القرآن نفسه بلدهم وشدة خصومتهم، لم يحفظ لنا التاريخ من حججهم شيئاً، ماذا كان ردهم على القرآن؟. . ما هي أنماط المحاولات التي فشلت؟ على أي أسلوب جرت؟. . من هم الذين قاموا بها؟. التاريخ يصمت، ونحن نتابعه في صمته مسوقين، وأستاذنا يخطئ مذهب الصرفة (ص49)(إنه لو عجز العرب عن المعارضة بالصرفة، لما استعظموا من بلاغة القرآن، وتعجبوا من فصاحته، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال: (إن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وإن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة) وقصة الوليد هذه تصطدم بها في كل كتاب وكل بحث، وقد تجد لها شبيهاً في قصة إسلام عمر، ولكنك لن تجد للقصتين ثالثة، ترى هل كان الوليد بن المغيرة كل شيء في مكة حتى يؤخذ سوادها برأي ارتآه؟ قضية علمية كانت تستلزم أكثر من هذا المرور السريع!

ص: 57

ثم هذه الآية التي عرض لها (ص62) ثم غفل عن المشكلة التي صحبها، من يوم أن قرأها المسلمون حتى اليوم، آية (إن هذان لساحران) ماذا وراء هذا الرفع المنصوب؟ أهي لغة أهي لهجة؟ إنها لم ترد في القرآن على هذه الصورة إلا مرة واحدة، وما كنت أريد بتعرضه لها أن يعيد على أسماعنا تأويلات النجاة الفجة، وإنما كنت أريد لها تفسيراً جديداً ي ظلال الإمكانيات الواسعة التي يتمتع بها العالم الآن!

وفي فصل (الفاضلة) بحث قيم مفيد، ونهج جديد مشكور، ولكن محاولة إخضاع الفواصل في طريقها لقاعدة، أجهدت الأستاذ كثيراً، ثم انتهينا إلى لا قاعدة، ففي (ص77)(وإن يريدوا خيانتك فقد خالوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم) فهو عليم بخيانتهم، حكيم في التمكن منهم. ترى لو استبدلنا العلم بالعزة، فقلنا (والله عزيز حكيم) عزيز لا ينال، حكيم في التمكن، هل يحدث ارتباك ما؟ هل يشعر القارئ أن هنا لفظاً مضطرباً؛ أو كلمة قلقة، أو معنى غير موائم؟. .

وفي فصل (الغريب) جملة تحتاج إلى شيء من التقدير (ص89)(فكان العرب في عصر نزول القرآن يمضون إلى كبار الصحابة، يسألونهم عن المعاني، مستشهدات بأبيات الشعر. والواقع أن قدرة الصحابة على فهم القرآن لم تكن في درجة واحدة: فكان منهم المثقف ثقافة أبية ممتازة، لم يكن ما نسميه الآن غريباً بغريب عند هؤلاء الذين تجداهم القرآن، فلم يكن استخدامه حينئذ معيباً ولا مستكرها، ومثال ذلك استعمال عباقرة الشعراء ألفاظاً يعرفها جمهور المتأدبين، ويتذوقون جمالها، وإن كانت دائرة على ألسنة العانة) فكيف كان بعض العرب يمضون إلى الصحابة يسألونهم عن الغريب، وكيف أن ما نسميه غريباً لم يكن بغريب عند هؤلاء الذين تحدهم القرآن؟ ويستشهد أستاذنا لقضيته بما يستعمله عباقرة الشعراء، وهو قياس مع الفارق الكبير، فلم تكن هناك فوارق شاسعة بين لغة الأدب ولغة المحادثة، ولم تكن هناك لغة خاصة وأخرى دراجة، وحين نفترض الشاسع بين اللغتين، تكون المشكلة التي تعرض لنا أضخم وأدق، هؤلاء العامة الذين لم يكونوا يلمون بالعربية حقا ليسوا أهلا لأن يتحداهم القرآن، لأنهم لا يملكون وسائلة.

وفصل (الزائد)(ص95)، ولكن، من الذي أوصل النجاة إلى ذلك؟ وضعوا قواعد، فلما اصطدمت هذه الكلمات بما قصدوا، فلم يعترفوا بعجز أو تقصر، وإنما نسبوا إلى القرآن ما

ص: 58

ليس فيه، ثم أتى البلاغيين يدفعون قولهم، قضية مفترضة لا تحتاج إلى جهد أو عناء. . . القرآن في ذروة البلاغة، هذه قضية نسلم جميعاً. فعلى النجاة يريدون أن يخضعوا القرآن لقواعدهم أن يعدلوها بما يسايره، دون أن يضطرونا إلى التأويل والتخريج، وإلا فهم الواهمون!. .

أما (التشبيه في القرآن (ص187) فأثمن ما في الكتاب وأجدر فصوله بالاطلاع فيما استنوه للتشبيه من قواعد، فمضى يهدمها في رفق وهدوء وأناة. ولكنه لم يذر لهم مما قننوا شيئاً. فليس صحيحاً أن أبلغ التشبيه على النفس وشعورها به سروراً أو ألماً، وهو كلام صحيح قوى إلى حد بعيد!

وشبيه بهذا (التصوير بالاستعارةص217)(ومجازات القرآن ص223) والأسلوب القرآني ص244) وفي كل منها دراسة قيمة وعرض جذاب لم يسبق إليه!. .

ثم تأتي (القصة في القرآن ص267) عرضها لنا الأستاذ الفاضل تفسيراً، لم يعرض لمشكلة القصة ذاتها من قريب أو بعيد، قصة صدقها حرفياً، هل هي وقائع حدثت كما صورها القرآن تماماً؛ فلم يتصرف فيها بحذف أو زيادة، وفقاً لما يهدف إليه من عظة واعتبار؟. .

وأخيراً يعرض (لبعض صور الحياة الجاهلية) في القرآن (ص379) ونحن نعلم أن الإسلام جاء فشوه وهدم كل ما هو عربي وثنى، وكان نقده وتقريعه منصبا على رءوس المسائل الكبرى وأصولها، أما جزئياتها، أما حسنات هؤلاء القوم، فقد سكت عنها القرآن سكوتاً تاما، لا. . . بل يبدو أن الإسلام كان عاملا في القضاء على التاريخ الجاهلي بحسناته وسيئاته على السواء، فلم يعرف عنه أي شيء، وظل العرب الأول والمعاصرين مولد الإسلام، شعباً بلا تاريخ والعقبة الكبرى هي الوصول إلى هذه الحقائق، وعلى ضوء ما يتكشف منها، يكون التفسير للآيات القرآنية التي عرضت للحياة الجاهلية، وتبين ما فيها من بلاغة وإعجاز، أما السماع للحجج من طرف واحد، فيجعلنا عاجزين عن فهم كل شيء.

وبعد. . . فقد تختلف في الرأي، ونتباعد في النظرة، ولكنا نلتقي دواماً عند هدف واحد، علمنا أستاذنا إياه، هو أن نقول كل ما نعتقد حين نعرض لشيء جديد، بالروح السمحة التي

ص: 59

كنا نلتقي بها الدرس، قد عرضت لمؤلفه الجديد، ولن يقعد بي مرض في الرأي، أو غرض في القصد عن الإشادة بهذا الكتاب، بهذا الكتاب فهو دراسة عميقة حديثة، لموضوع قد تعرض له الكتب القديمة، ولكنه لم يحط في دراستنا الحديثة بأي نصيب، وهو يتسم - ككل ما كتب الأستاذ أحمد بدوي - بالعبارة الرصينة، والأسلوب الجزل، والعرض البارع، والدرس العميق. . .

وإلى اللقاء مع أستاذنا في مؤلفه الجديد القادم، سيصدر عما قريب!

الطاهر أحمد مكي

كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول

ص: 60

‌الأسس المبتكرة لدراسة الأدب الجاهلي

تأليف الأستاذ عبد العزيز من روع الأزهري

هذا الكتاب من الكتب الأدبية العصرية التي تستحق أن يطلع عليها الأدباء، فهو محاولة موفقة لتحديد الأزمان الجاهلية عند العرب، وربط كل أثر من آثار الأدب الجاهلي يحيل معين محدود بالتاريخ الهجري والميلادي معاً.

وقد استطاع المؤلف بهذا أن يبرهن على أن من الآثار الأدبية عند العرب ما سبق الهجرة بأكثر من سبعة قرون، في الوقت الذي يكاد يجمع رواد الأدب العربي على أن أقدم الآثار العربية التي بين أيدينا لا تتجاوز الهجرة بأكثر من قرن ونصف قرن.

ومما يجعل لنظريته آثاراً خطيرة أن من الأدلة التي اعتمد عليها بعض النقوش الأثرية التي يرجع تاريخها إلى سنة 33ق هـ.

لقد اعتمد المؤلف على سلال الأنساب العربية، وتحيد المتوسط لعدد الأشخاص الذين أنظمتهم سلاسل النسب من عصر النبوة إلى (عدنان) عند العدنانيين وإلى (قحطان) عند القحطانيين؛ وقد وجد متوسط الأجيال العدنانية بين هذين الطرفين22 ، 650 جيلاً ومتوسط الأجيال القحطانية بينهما 31 جيلاً؛ ثم تابع البحث فرأى أن هذين المتوسطين لا جدوى منهما ما لم يقدر العمر المتوسط لكل جيل في تلك السلال، فظل يبحث وينقب أكثر من عشر سنوات، اطلع في خلالها على مئات من المراجع غريبة وشرقية حتى اهتدى بعد طول الغناء إلى أن أنسب عدد لعمر الجيل هو 40 سنة وقد ذكر من أدلته على هذا التحديد في كتابه 12 دليلا جعل آخرها مشتقاً من قوله تعالى في القرآن في سيرة بني إسرائيل الذين نزحوا من مصر مع موسى:

(فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) ورجع إلى المفسرين فوجدهم قد أجمعوا على أن السبب في تحديد هذا العدد هو انقراض الجيل السابق الذي طبع على الذلة والمسكنة في مصر؛ ورجع إلى التوراة فوجد مصدقا لما بين يديه من القرآن ونصه هذا:

وبدا صار في مكنته كل أديب - بعد اليوم - أن يعرف تاريخ أي أثر أدبي للجاهلين إذا نسبت إلى قائلة، وقد طبق نظريته على كثير جداً من الشخصيات البارزة في تلك الأحقاب، وكان من أمثلته التي سأكتفي بها هنا حكيم العرب المشهور (عامر بن الطرب العدواني

ص: 61

العدناني) وقد سار في تجديد زمانه هكذا:

(1)

من عامر إلى عدنان 12 جيلاً

(2)

ويطرحها من المتوسط العام لأجيال العدنانيين من عصر النبوة إلى عدنان تجد الباقي 9 أجيال.

(3)

و 9 و 40 يساوي 360 سنة هي التي تدل على عمر عامر ف سن الأربعين.

(4)

مكان ميلاده كان حوالي 400 ق. هـ (234م).

وقد قسم الكتاب إلى أربعة أقسام تطبيقاً لنظريته:

1 -

(القسم الأول) أثبت فيه أن الأمثال المنسوبة إلى أصحابها أقدم الآثار العربية؛ لأن البسيط أقدم من المركب؛ والأمثال أبسط من المقطوعات ومن القصائد، لهذا بسط القول فيها بهذا الترتيب وقد حقق في هذا القسم أن أقدم ما عثر عليه من الأمثال قول (الأفعى الجرهمي) إن العصا من العصية.

2 -

والقسم الثاني (المقطوعات الشعرية) وقد حقق فيه أن أقدم المقطوعات التي عثر عليها منسوبة لطي بن أدد القحطاني، فأتخذ من هذا وسيلة إلى تحديد الزمن الذي ذابت فيه لغة القحطانيين في لغة العدنايين أصحاب هذه اللهجة وقد أرجع تاريخ هذا الأثر حوالي سنة 700 ق. هـ (57ق. م).

3 -

والقسم الثالث شعراء القصائد في الجاهلية وآثارهم وقد أثبت فيه أن أقدمهم الشاعر النميمي (ذؤيب) وحقق أنه كان في سن الميلاد حوالي 435هـ ويليه (لغيط الابادي) صاحب أطول قصيدة وصلت إلينا وأقدمها وأن تاريخها يرتد إلى 306ق. هـ.

4 -

والقسم الرابع وهو الأخير أثبت فيه بأدلة ثمانية أن اللهجة التي نزل بها القرآن ليست لقريش! وقد توج أدلته (بنقش الثمارة) المشهور المنقوش سنة 303ق. هـ (328م) وهي السنة التي توفي فيها صاحب الملك امرؤ القيس بن عمرو، فيرى من هذا أن الكتاب ظريف ممتع، جديد في موضوعه، وفي أسلوبه، وفي الاستدلال على ما فيه من نظريات.

ولا يضير الكتاب بعد هذا أن بعض مباحثه مضغوط إلى درجة قريبة من الأحاجي.

م. ع

ص: 62