المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 916 - بتاريخ: 22 - 01 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩١٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 916

- بتاريخ: 22 - 01 - 1951

ص: -1

‌الدين والسلوك الإنساني

للأستاذ عمر حليق

- 1 -

توطئة:

يواجه الدين في العالم المعاصر موجتين من التحدي: أحدهما الحادية لا ترى في الدين إلا (تخلصا من الواقع) ولجوءاً إلى التحذيرات الروحية التي أبرز فيها أنها توجه السلوك الإنساني توجيها سلبياً إزاء مشاكل الحياة، ومن ثم إزاء عناصر التقدم والسعادة البشرية. هذه الموجة هي محور الهجوم الماركسي على الحياة الدينية.

والموجة الأخرى لا تمت إلى الفلسفة الماركسية إلا بصلة غير مباشرة ولكنها تماثلها في الابتعاد عن الحقيقية الدينية. أعنى بها موجة التحلل من القيم تتزعمها الآن الحضارة الأمريكية وتنقلها إلى سائر بقاع الأرض مواصلات فكرية أتقن الأمريكيون وسائلها إتقانا بارعا في السينمائية والصور الفوتوغرافية والصحافة ومؤسسات الإعلان والدعاية والقصص الحديثة، وألف نوع ونوع من وسائل الاتصال الفكري الذي يهيمن الآن على القسم الأعظم من صحافة العالم وإنتاجه الأدبي والفني.

ووجه الخطورة في الموجة الثانية أنها في حل من أن تتهم بالدعوة إلى التفسير المادي للتاريخ على النحو الذي يدعو إليه الشيوعيون. ولكنها في الواقع تفعل ذلك، وفوقه عنصر من أخطر العناصر في السلوك الإنساني وهو تركيز النشاط الفكري في حرية الغريرة والعاطفة والأهواء.

ومن أوجه الخطورة كذلك في هذه الموجة التي تنزعها الحضارة الأمريكية المعاصرة إحاطتها بهالة من التقدير والإعجاب بدعوى أنها من الشواهد الأصلية على التقديم الحضري وتوجيه السلوك الإنساني نحو قسط وافر من السعادة والهناء.

فحرية الغريزة والطلاق الشهوات والأهواء التي تمخضت عنها حضارة فرنسا اللاتينية في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر والتي تحمل الآن الدعوة الحضارة الأنجلو سكسونية، هذه الحرية أصبحت الآن جزءا جوهريا من مبادئ التحرر السياسي والفكري

ص: 1

الذي هو بحق؛ أفضل ما في الحضارة الغربية من تراث.

فالتحرير (ليبيرالزم) في ثقافة الغرب المعاصرة عامة والأنجلو سكسونية منها على وجه الخصوص علم على الإصلاح في مجالات الاقتصاد والسياسة والصلات الاجتماعية ولانطلاق الفكري. وهذا يشمل الدين والحياة الروحية والنفسية، واتجاهات الثقافية الأنجلو سكسونية في هذه الآونة تقف التحدي لجوهر العناصر التي تضمن التكافل الاجتماعي. فالصراع الفكري في أوربا وأمريكا الآن يكاد ينحصر في توجيه السلوك الإنساني لا على أساس العقل كما شرحه فلاسفة القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عسر ولكن على أساس الغريزة والانطلاق النفساني (الفيزيولوجي والسيكولوجي) كما بشر به (ريجموند فرويد) وأتباعه من علماء التحليل النفساني والمدارس الفكرية والأدبية والفنية العديدة التي تأثرت به وتفرعت عنه، وكما تدعو إليه (هوليوود) وكتاب القصة الحديثة وبعض أئمة الفن في أوربا وأمريكا.

فإذا حق لحضارة الغرب أن تفتخر بأنها خلال القرون الأخيرة الماضية قد أسدت إلى تراث الفكر وانطلاقه من قيود الجمود والبلادة العقلية فإن هذه المثل الآن تواجه حملة عاصفة تدفع بالسلوك الإنساني نحو فلسفة بدائية في جوهرها ومضمونها تمجد الغريزة النظرية وتناقض العقل وهدوءه وحكمته فتستهوى بذلك الجماعات التي تعيش على الصحف السيارة ووسائل التسلية الرخيصة واللهو والمتعة ممثلة الأفلام والقصص الحديثة. هذه الألوان من الفنون والآداب التي تجد سبيلها إلى صميم العلم ومعاقله الراقية في كثير من بقاع الأرض منها العالم العربي؛ وذلك لأن هذه الدكتاتورية الفكرية التي تفرضها الحضارات الأخرى لا تقتصر على أنصاف المتعلمين، بل إن سلطانها يمتد فيؤثر تأثيراً فعالاً في الاتجاهات الفكرية والعاطفية لكثير من المثقفين الممتازين الذين يخلفون حضارات جديدة كما هو الحال في حاضر الثقافة العربية.

أحب ألا يساء الفهم في هذا الصدد. فالتعاون الفكري أمر لا مفر منه، بل في الواقع من الدعائم الجوهرية بناء الحضارات الحديثة أو إحيائها والنهوض بها. ولكن المشكلة ليست في مبدأ التعاون الفكري ولكنها في تفهم العناصر الجوهرية في الحضارات التي تفرض نفسها - خيراً أم شرا - على حاضر الثقافة العربية.

ص: 2

ويخيل إلى أن الذين يوجهون الثقافة العربية الآن لم يفطنوا بعد جدية إلى إصلاح الأسلوب الذي اتخذه بناة الثقافة الجديدة في الباكستان مثلا، والباكستان مثل فريد.

فقادة الفكر في الباكستان جماعة استدعوا استيعاباً غير قليل العناصر الجوهرية التي تكون حضارات أوربا وأمريكا فاستبانوا في نباهة وحكمة عناصر القوة والضعف فيها فنتج عن ذلك هذه النهضة الفكرية والأسس الإيديولوجية التي لم يتأثر بها بعد - مع الأسف الشديد - قادة الفكر في الشرق العربي فلإيديولوجية في الباكستان ليست (رجعية) تعيش في من القرون الوسطى كما يصمها بذلك بعض المغرضين من أعداء الشرق وبعض أبنائه. وإنما هي أسلوب في الحياة الفكر استوحى التوجيه من تراث الإسلام ومبادئه ومن روح الشرق ونظمه الاجتماعي والمتأصل من الاتجاهات العاطفية والتكوين النفسي. فحين تبين لمحمد إقبال وغير من جهابذة الفكر من القارة الهندية أن الإسلام كمذهب وكنظام للحياة الدنيوية برئ من هذا الجمود وهذا التفسيرات المغالطة وهذا السلوك الشائن الذي كاد يؤدي بالمسلمين إلى المذلة والانحطاط ويثقافهم إلى الانحلال والموت - حين يبين لمسلمي الهند والباكستان ذلك يقفوا عند حد الوعد والإرشاد والنفخ في أبواق لا نؤثر دعوتها في صميم النظم السياسي والاقتصادية والاجتماعية والإحياء الفكري والعلمي، وإنما استعار من الغرب مناهجه في البحث والتوجيه واقتبسوا عنه أساليب العمل والإنتاج وصاغوا تعاليم الدين الإسلامي في قالب لا يجب عن جوهر العقيدة المحمدية، وإنما يتميز بأنه لا يختلف عن القوالب التي ولدت حضارات عصور النهضة من إيطاليا وفرنسا واليابان الأنجلوسكسونية. وتبين لمسلمي الهند والباكستان كذلك بأن إنتاج الفكر الأوربي في الحياة الدستورية وفي التنظيم الاقتصادي وفي التكافل الاجتماعي لا يمكن أن يكون مناقضا للنظم التي شره الإسلام، وإنما هو في الواقع متمم له. وجاء ميلاد الدولة الباكستانية فدمج الفكر بالعمل وحقق الأسس الهجر للإيديولوجية الإسلامية الحديثة على النحو أثار إعجاب العارفين به.

وليس من أهداف كاتب هذه السطور أن يستعرض هنا أسس الإيديولوجية الإسلامية في الباكستان وإنما استشهد بها في معرض الحديث عن البلبلة التي تعتري الحضارة الإنسانية وأزمتها إزراء صراع العقل والروح من جهة، والغريزة البدائية من جهة أخرى، هذا

ص: 3

الصراع الذي أوجد تشويشا فكريا واجتماعيا في كثير من بقاع منها الأرض منها عالم الغرب.

ولنعد إلى قضية الدين والسلوك الإنساني لنقرر حتما في المستهل أن هذا الصراع الفكري يشغل الآن أذهان المثقفين في الغرب وفي أمريكا على وجه الخصوص.

فقد نشأ العالم الجديد أول ما نشأ على مذهب التحرير من القيود الثقيلة التي فرضت على العقيدة والسلوك الديني في أوربا. فحملت سفينة (مايلفور) في القرن السادس عشر هؤلاء المضطهدين من القارة الأوربية إلى أرض كولومبوس لتدفع عنهم شر هذه القيود. فالحضارة الأمريكية إذن أسس روحية للدين فيها شأن كبير لا تزال عناصره الأصيلة تناضل موجات الإلحاد والانطلاق الغريزي الذي ولده نشوة النظم الاقتصادية الحديثة على النحو الذي شرحه في عمق وبلاغة الكاتب الألماني الكبير (ماكس ويجر) وكذلك تسرب الأيدلوجية اليهودية وتركها في صميم الحضارة الأمريكية وعبثها فيه فسادا.

وحري بالذين استخفوا واستهجنوا دفاع رجال الأزهر الشريف وعلمائه ورجال الدين في نصر عن الفضيلة والقيم الدينية في حملتهم الأخيرة بأن مثل هذا الدفاع هو من أهم ما يشغل العلماء وقادة الفكر في معاقل الغربية التي يتطلع إليها المستخفون من المثقفين العرب ليستمدوا منها الوحي والإلهام والذخيرة لمناوأة الإحياء الذي له رجال الدين في مصر والشرق العربي.

قلت إن أهل الفكر في لأوربا وأمريكا يشغلون الآن بهذا النزاع الحاد بين العقل والروح من جهة؛ والانطلاق الغريزي البدائي من جهة أخرى وعلاقة السلوك الديني بهما.

فبعض أتباع في إنتاجهم الفني العلمي يرون في السلوك الديني شاهداً على الجهل والخوف والتفكك النفساني، وعلما على الجمود الفكري والشخصية الضعيفة المنطوية التي لا تستطيع ولا تود مواجهة الواقع.

ثم هناك وبليام جيمس البروتستانتي وغيره من فلاسفة الكنيسة الكاثوليكية الذين يقولون بأن السلوك الديني القويم ليس رمز لهذه العقد النفسية؛ وذلك لأن في الفرد غريزة دينية متأصلة تشوب سلوكه المطمئنة والشخصية الكاملة الناجحة (بمعناها الكسيولوحي) لم يتوفر لها هذه الطمأنينة وهذا الكمال إلا لأنها لمست مبلغ القوة في غريزتها الدينية فهذبتها بالتروي

ص: 4

والتبصر، وأنتما سليمة مستقرة آمنة لا تزعزعها هذه المشاكل الدنيوية النفسية التي لا يخلو منها مجتمع ما بدائيا كان أم حضريا. وتقول مدرسة وبليام جيمس - ولها اتباع من أئمة علماء النفس المعاصرين - إن الخوف والبلبلة النفسانية ومشكلة السلوك السيكوباتي ليست إلا وليدة إنكار الفرد على غريزته الدينية حقها ووظيفتها لأهميتها والدور الذي تلعبه في السلوك الإنساني ونفوره من إنمائها ورعايتها خالصة مطهرة.

ولنقف هنيهة هنا ولنحاول في أعداد الرسالة القادمة إن شاء الله أن ندرس مسألة الدين الإنساني على أضواء هذا النزاع لعلنا بذلك نساهم في تفهم هذه المشكلة الاجتماعية التي أخذت حدتها تتخذ طورا مخيفاً في حاضر الأمة العربية.

ص: 5

‌الألفاظ الأيوبية

في كتاب تقويم النديم

لصاحب المعالي الدكتور محمد رضا الشبيبي

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

كتاب (تقويم النديم، وعقبى النعيم المقيم)، وبهذا الاسم ورد ذكره في كشف الظنون وفي غيره من فهارس الكتب، كتاب غير غريب عن المؤتمر، فقد ورد ذكره في معرض البحث عن المصطلحات الحرفية، في مؤتمر السنة الماضية، وهو البحث الذي عالجه الأستاذ ماسينيون في محاضرة لطيفة أشار فيها إلى عناية بعض علماء الشرق بوضع معجم في ألفاظ الحرف والصناعات، وكانت لي كلمة في التعقيب على المحاضرة قلت فيها إن أول من طريق هذا الباب أديب مصري من أعلام القرن السابع ومن وزراء الدولة الأيوبية في عصر الكامل بن الملك الصالح أيوب، وهو الأمير فخر الدين يوسف بن حمويه الجوبني، في كتاب له سماء (تقويم النديم وعقبى النعيم المقيم) ضمنه جملة صالحة من المصطلحات الحرفية الشائعة في عصره. وما من شك أن الشربيني في كتاب هز الفحوف، والشيخ قاسم الدمشقي في معجمه نسجا على منوال فخر الدين بن حمويه، فهو أقدم أديب عالج هذا الموضوع على كل حال. وقد قلت فيما قلت في تلك الجلسة إني لعلي استعداد لإهداء نسختي التي ظفرت بها من الكتاب إلى مكتبة المجمع أو إلى وزارة المعارف المصرية لأن مصر بهذا الكتاب أولى من العراق. هذا ولما قفلت إلى لدى بعد انفضاض المؤتمر الماضي بعثت بالنسخة المذكورة فوراً إلى الوزارة المشار إليها ضمن كتاب أرسلت نسخة منه إلى كتب المراقب الإداري في هذا المجمع، فوزارة المعارف هي التي تملك حق التصرف في الكتاب الآن.

إلى هذا الحين كنت وكان غير واحد من المعنيين بالبحث عن الأصول القديمة يرون أن نسختنا العراقية هي النسخة الوحيدة من هذا الكتاب، بيد أني ما زلت منذ نزلت القاهرة في نتصف الشهر الماضي حتى الأيام الأخيرة، في سبيل التنقيب عن لأصول الكتاب في دور الكتب هنا وهناك، إلى أن ظفرت بنسختين جديدتين، توجد إحداهما في دار الكتب، والثانية

ص: 6

وهي أقد خطا وأدق ضبطاً في المكتبة الأزهرية، وإن كانت ناقصة قليلا ولعلها نسخت في عصر المؤلف، أو قريباً منه، فهي أصل يعتمد عليه، لأن كلا من النسختين العراقية، ونسخة دار الكتب سقيمة لا يوثق بكل ما جاء فيها، وفيهما ما فيهما من المسح والتحريف والتصحيف.

مؤلف الكتاب:

مؤلف كتاب تقويم النديم وعقبي النعيم المقيم، هو الأمير الصاحب فخر الدين يوسف بن صدر الدين محمد شيخ الشيوخ بن حمويه الجويني، من أعلام مصر في صدر القرن السابع، ووزير بني أيوب، ومقدم جيوشهم في عصر الملك الكامل. وآل حنويه بيت مشهور يمت إليه عدد من الأعلام. وحمل التاريخ والطبقات بين أواخر القرن السادس وصدر القرن السابع وممن ترجم لمنشئ هذا الكتاب السبكي في طبقاته وترجمته ضافت مستوفاة، وابن تغري بردى في النجوم الزاهرة وابن أبي شاء في الذيل على الروضتين. وجل المؤرخين المصريين والشاميين الذين عنوا بتاريخ الحروب التي دارت رحاها في مصر بين الأيوبيين والفرنسيين في منتصف القرن السابع وهي حروب طاحنة بعض وقائعها أسر ملك فرنسة، وفي واقعة منها سنة47 قتل مؤلف هذا الكتاب.

قال لبن أبي شامة في حوادث السنة المذكورة ما نصه: (في قتل فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ وهو آخر أخوته موت) وفي حوادث السنة عينها من النجوم الزاهرة ما نصه: (تؤثر الصاحب فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أبي الحسن محمد حمويه الجوبني كان عاقلا جواداً ممدحا خليقا بالملك محبوبا إلى الناس ولما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب على دمياط، ندب إلى الملك فامتنع ولو أجاب لما خالفوه، واستشهد على دمياط) وقال أيد (ومن الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، الأمير مقدم الجيوش فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ صدر الدين الجوبني في ذي القعدة شهيداً يوم وقعة المنصورة) وفي تاريخ أبي الفد وابن الوردي مثل هذا ذلك.

موضوع الكتاب:

موضوع الكتاب أدبي هو سلس طويلة من المنظوم والمنثور، ولك أم تقول أنه مقامة واحدة

ص: 7

من هذه المقامات الأدبية، لم يراع فيها التنوع والتقسيم، فلا عجب إذا اعترى قارئ الكتاب ضرب من السأم، وإنما قلنا (مقامة) لأن المؤلف استهل الكتاب بقوله (حكى السرور ابن اللذة قال: كنت وشعبه جنون شبابي في عنفوانها، وصحيفة عمري لم أقرأ منها غير عنوانها) وهذه العبارة شبيهة ببعض عبارات الحريري وغيره من أصحاب المقامات، والمقامة طافحة من أولها إلى آخرها، بضروب من الأحماض والفحش والمجون الذي لا يستساغ نشره فيما أرى وإن نشر الناشرون ما هو أسوأ منه. وقد حاول المؤلف في مواضع عدة من الكتاب تأكيد سلامة نيته، وحسن قصده في مجونه وعبثه الفاحش، وأن ذلك مجرد أقوال لم تقترن بأعمال وأفراد فصولا أخرى في أول الكتاب وآخره للدفاع عن نفسه والاعتذار عن شطحاته وبداوته، وعرض ببعض خصوصه الذين نسبوا إليه الجد، ورموه بسوء القصد وزعم أنه نسج على منوال البلغاء، فيما وضعوه من الكلام منسوبا إلى الجمادات أو ما عزوه من الحكم إلى الحيوانات مثل ما جاء في كتاب كليله ودمنه وكثير من المقامات؛ وقد يكون هذا العذر مقبولا لولا أن الجوبني أسرف والحق يقال وإفراط في تماجنه وخلاعته من هذا القبيل، ومع ذلك فإن وجه الانتفاع بنشر جانب من هذا الكتاب ظاهر لعناية المؤلف بتدوين المصطلحات الحرفية الشائعة في عصره على وجه لم يسبق له مثيل.

في مطاوي كتاب تقويم النديم مجموعة ألفاظ ومصطلحات كانت تدور على ألسنة المصريين في عصر الدولة الأيوبية، وقد عنى المؤلف عناية خاصة بتدوين هذه الألفاظ أو المصطلحات الأيوبية وإنما قلنا (ألفاظ أيوبية) مع أنها لا تخلو من ألفاظ عباسية أو فاطمية من باب التغليب، أو أنها أوضاع شاع استعمالها في العصر المذكور بطريقة الاشتقاق أو التوليد أو التغليب أو بطريق من طرق المجاز أو الاستعارة.

وقد يكون حظ هذه المصطلحات وإضافتها إلى تراثها اللغوي إحدى غايات هذا الأديب من إنشاء هذه المقامة، كما كان حفظ أوابد العربية إحدى غايات الحريري من إنشاء المقامات، وبعض هذه الألفاظ أو المصطلحات من أوضاع المصريين في اللغة أو من مصطلحاتهم المولدة.

والقريض في هذا الكتاب كثير وأكثر من إنشاء المؤلف وهو مدمج في النثر. فالجويني

ص: 8

شاعر وشعره في طبقه نثره. وله طريقة خاصة في اختيار شواهده الشعرية شرحها في آخر كتابه ولا يخلو أسلوبه من تصنع في المنظوم والمنثور.

المصطلحات الحرفية في الكتاب:

تصفحت الكتاب فعثرت فيه على مجموعة من المصطلحات والألفاظ الحرفية التي استعمالها ي دواوين الدولة الأيوبية، وعلى ألسنة الجمهور والكتاب في مصر وما إليها من البلاد. وقد وجدت أن أصول كثير منها فصيحة بل عريقة في الفصاحة في تلك العصور، ولم أجد لبعض ألفاظه ذكراً في المعجمات، وإما لأنها ألفاظ مولدة، أو أوضاع حادثه في العصور الأيوبية، ولم أنقل كل الألفاظ أو المصطلحات الواردة في الكتاب، لكثيرة المسخ والتحريف في نسختي منه، وليس في الآن متسع للمقابلة والتحقيق، ولذلك عنيت بنقل نموذج من ألفاظ الكتاب مع شرح موجز وإيضاح لمعانيها أحياناً، وأما البحث في أصول تلك الكلمات ونقل مذاهب اللغويين وأحكام فيها وفي جوار استعمالها فإن له وقتاً مذاهب آخر والأمور مرهونة بأوقاتها، وهذه هي مصطلحات الكتاب.

الفلاحة والزراعة وما يتصل بالملاحة:

جران، مشاق، قلفاط، جسار، مرابع، فلاح يس قرقورة، طراح، مغرك ودقاق، قفاص، قفاف، خواص، تبان، علاف، ناخوذاه ربان

جران - صانع الأجران

مشتاق وقنفاط - من الألفاظ الداخلة في صناعة السفن

جسار - القيم على الجسر، وهي شائعة إلى اليوم في العراق فيقولون، جسار للقيم على الجسر أي (الكوبرى) باصطلاح المصريين اليوم، والكوبرى تركية ولا تستعمل في العراق والشام. ومرابع وفلاح: الفلاح معلوم وأما المرابع فالغالب أنه الفلاح أو الأجير الذي يأخذ ربع الغلة ولا أدري هل هي شائعة في مصر اليوم أم لا.

ريس قرقورة وطراح: قال الخفاجي في شفاء الغليل قرقور ضرب من السفن تكملوا به قديماً. هذا كل ما ورد في شفاء الغليل. وقال الجواليقي في المغرب من كلام العجم، القرقور ضرب من السفن أعجمي وقد تكلمت به العرب، وزاد ابن دريد أنه ضرب من

ص: 9

السفن كبار، وفي اللسان، قيل هي السفينة العظيمة الطويلة. والقرقور أطول السفن وجمعه قراقير. أما الطراح فالأغلب أنهم كانوا يستعملونها في العصر الأيوبي بمعنى الملاح وما إلى ذلك

مفرك دقائق. والفرك هو الذي يفرك الحب، وقال في القاموس أفرك الحب آن له أن يفرك، واستفرك في السنبلة سمن واشتد، وفرك السنبل دلكه فانفرك. وأما الدقائق فهو بائع الدقيق قال الفيروز ابادى: الدقيق الطحين وبائعه دقائق، ومن ذلك يعلم أن أفصح الألفاظ والمصطلحات كانت تدور على ألسنة جمهور المصريين في عصر الدولة الأيوبية.

قفاص. قفاف. خواص صانع الأقفاص والواحد قفص وهو الذي يحفظ به الطير وغيره. والقفص أيضاً أداة زراعية ينقل بها البر إلى الكدس، والقفاف صانع القاف أو بائعها واحدتها قفة بالضم وهي معرفة كهيئة القرعة تتخذ من الخوض. قال المجد الفيروزابادى: الخوض بالضم ورق النخل، والخواص بائعة. ومما يستدرك عليه إناء مخوص فيه على أشكال الخوص

تبان وعلاف: التبان بائع التبن والعلاف بائع العلف قاله في القاموس وهما لفظان في مصر الآن.

ناخوذاه وربان: فاريسة معربة استعمالها شائع في العراق من القديم إلى اليوم بمعنى ربان السفينة ولكنهم يقولون الآن (نوخذه) والظاهر أنها كانت معرفة في مصر أيضاً بالمعنى المذكور على عهد الأيوبيين، قال المجد الفيروزابادى في مادة (نخذ) ملاك سفن البحر أو وكلاؤهم معربة الواحدة (ناخذاه) اشتقوا منها الفعل وقالوا تنخذ كترأس

الفاكهة والمأكول والمشروب:

من ألفاظ الكتاب في هذا الباب مواز وقماح وتمارون لباعة الموز والقمح والتمر والرز ومن ذلك لبان وسماك وجبان وسمان وهراش وشواء وقلاء والألفاظ الأخيرة شائعة في أقصى الشرق العربي إلى اليوم.

قراب: الغالب أنه صانع القرب جمع أو من يتمن الماء من القربة وهي صيغة مولدة؛ أن يكون المقصود به صاحب الغمد أو القراب.

مزار: بائع المزر نبيذ الذرة أو الشعر.

ص: 10

عكار: لبائع العكر وهو الحثالة.

بداد: العامل في البد وهي معصره الزيت قيل إنها مصر

البناؤوق وما يتصل بالبناء

طواب. عجان خراط جباس. مبلط. مزخم. مصور. دهان.

طواب: صانع والطوبة لغة شامية أو مصر

بمعنى البن عندنا في العراق وهو هذا الطين المضروب للبناء

عجان: ورد في الكتاب مرادفا لكلمة طواب وقد يرد من يعجن الطين أو غيره من مواد البناء.

خراط: من خرط العود إذا قشره ويواه وحرفيته الخراطة وهم معروفة بهذا المعنى الآن.

جباس وجبال: الجباس هو العامل بالجيش أي الجص والجبال في العراق هو الذي يجبل الجص ويحمله إلى البناء والكلمة شائعة على ألسنة العراقيين اليوم.

المبلط: عامل حرفته فرش الدار بالبلاط؛ والبلاط الحجار التي تفرش بالدار وكل أرض فرشت بها أو بالآخر، يقال بلط الدار وأبطلها وبطلها فرشها به. والكلمة معروفة الآن في البلاد المصرية.

المرخم: وزان المبلط وهو الذي يعمل في البناء بالرخام ولا يوجد في المعجمات، وفي مصر الآن يقولون المرخماني - للمعنى المذكور مصور ودهان معروفان.

حرف الجوهريين والمعدنيين.

ذهبي مداد. سكاكيني. براد. مبيض. نحاس. صيرفي. نقاد. مرصص. سباك. حجار. طلاع. نشار. حكاك. قفال

الذهبي: بائع الذهب أو الحلي الذهبية.

مداد: هو الذي يمد الذهب أو يبسطه ويسويه، من الأوضاع اللغوية المولدة في عصر الأيوبيين.

فقال: صانع الأقفال أو بائعها

البراد: من حرفته برد المعادن من الذهب وفضة وحديد، ويردها عن قشرها أو نحتها،

ص: 11

والنبرد آلته والبرادة هي سحالة المعادن المبرودة.

صيرفي ونقاد: معروفان

مرصص: عامل حرفته طلي الأشياء بالرصاص، قال المجد الفيروز ابادى شيء مرصص مطلي بالرصاص.

سباك: أصله من سبك المعدن أذابه وأفرغه وهي معروفة الآن

مبيض: أصله من بيض ضد سود والمراد به على الأكثر مبيض المساكن والبيوت بالجص والبورق. وفي العراق يطلقون هذه الكلمة الآن على الماهن الذي يبيض الأواني بالقصدير.

الحكاك: يطلق في العراق على من يسوي فصوص الخواتم والقلائد وما إلى ذلك، ولا يعلم المراد منه في هذا الكتاب.

الحرب سلاح:

رماح. زراد. نشابي. قواس. تراس. سياف. صقيل. مشاعي. نقاط.

رماح: الرماح متخذ الرمح وحرته الرماحة قاله المجد الفيروز ابادى في القاموس؛ والرماحة أيضاً فرقة عسكرية تحمل الرماح.

زراد: الزراد صانع الزرد والزرد هي الدرع المزرودة.

النشابي: نسبة إلى النشاب، والنشاب النبل والنشاب بالفتح متخذه وقوم نشابة يرمون به.

القواس: صانع القوس أو الذي يتخذ القوس سلاحاً له

تراس: صاحب الترس أو صانعه والتراسة صنعته

الحيوان.

فهاد. دباب. قراد. لسائس الفهود والدببة والقرود

كباش. حمار: صاحبا الكباش والحمير. قال في القاموس الحمارة أصحاب الحمير كالحامرة وهي شائعة في أقطار الشرق العربي اليوم.

المطير طيوري: الذي يلعب بالطيور والصيغة الأولى شائعة في العراق اليوم.

البراج: القيم على الأبراج. والمقصود بها هنا الأبراج التي تتخذ للطيور.

كلا بزي: قال في شفاء الغليل الكلبزة هي معرفة حال الكلاب السلوقية منسوبة إلى سلوق

ص: 12

بأرض اليمن. . قيل إن الكلمة مصرية.

بزدار: صاحب الباري أو الخبير بطباعة وإعداده للصيد معرب كما في الصحاح؛ ويقال بيرار وجمعه بيازره. قال في الشفاء تصرف فيه المولدون حتى قالوا لصناعته (بيزة) أو (بزدرة) كما فعلوا في البيطرة وقد وضعت في هذا الفن كتب يعضها يسمى (كتاب البيزرة) وعندي شيء منها؛ ويراجع عن هذه المادة كتاب المعرب للجواليقي والتذكرة للانطاكي.

ألقاب الخدم

البلان: أصل هذه الكلمة من مادة البلبل وكانت شائعة قديماً بمعنى الحمام ذكرت مرتين في القاموس ففي حرف اللام وفي مادة (البلل) قال المجد الفيروزابادي: البلان كشداد الحمام جمعه بلانات، وقال أيضاً في حرف النون البلان كشداد الحمام وذكر في اللام. ومجمل القول أن أصل هذه المادة من البلل ولكن المجد الفيروز ابادي لم يخلص إلى رأى معين في أصالة النون أو زيادتها؛ بيد أن الشارح تدارك ما أهمله الماتن. وهاك ما قاله الزبيدي في التاج (البلان) كشداد الحمام جمعه بلانات والألف والنون زائدتان وإنما يقال دخلنا البلانات أبي الأزهر ولأنه يبل بمائة أو بعرقه من دخله ولا فعل له. وفي حديث ابن عمر ستفتحون أرض العجم وستجدون فيها بيوتاً يقال لها البلانات من دخلها ولم يستتر فليس مناه قلت والقول للزبيدي - وأطلق لأن البلان على من يخدم في الحمام وهي عامية.

وعاد الزبيدي شارح القاموس إلى شرح الكلمة مرة أخرى في باب النون فقال: (البلان) كشداد أهمله الجوهري. وقال ابن الأثير وهو الحمام ومنه الحديث: ستفتحون بلاداً فيها بلانات أي حمامات قال والأصل بلالات فأبدلت الأم نوناً)

هذا وفي عصر أيوب شاع استعمال هذه الكلمة بمعنى خادم الحمام أو الدلاك. ومن رأى بعضهم أن أصل الكلمة من اليونان وإلى هذا ذهب اللغوي الغراقي انستاس الكرمني وليس بشيء؛ إذ لا يحامرني أدنى شك في عروبة هذه الكلمة. وفي مصر اليوم يقال للماشطة التي تزين العروس ليلة البناء (بلانة) على ما رواه لي بعض أدباء القاهرة.

الوقاف: تطلق هذه الكلمة في العراق اليوم على الرقيب الذي يقف مع الأجير وهو معناها على الظاهر في عصر مؤلف الكتاب فهي كلمة مولدة وكلمة (الوهين) في الفصحى تسد مسد هذه الكلمة. قال الفيروزابادي: الوهين وجل يكون مع الأجير في العمل يحثه عليه.

ص: 13

هذا طرف من الألفاظ والمصطلحات اللغوية التي وجدتها في كتاب تقويم النديم ولم آت على كل ما يوجد في تضاعيف الكتاب من هذا القبيل أو من الأوضاع اللغوية التي كانت شائعا في عصر الدولة الأيوبية. فالكتاب مفيد كل الفائدة لمن يعني بالبحث عن المصطلحات والألفاظ الحرفية في العربية الفصحى أو في اللهجات العربية الشائعة في أقطار الشرق العربي الآن؛ يستفيد منه مضافاً إلى ذلك من يعني بتاريخ العمران والحضارة في مصر الإسلامية.

هنا ومن رأيي أن وزارة المعارف تحسن صنعاً إذا عهدت بنشر هذا الكتاب بعد تحقيقه وتهذيبه إلى لجنة من اللجان المعنية بنشر المخطوطات النادرة. والغالب أن الوزارة المشار إليهم تعني الآن بالنظر في وجوه الاستفادة من هذا الكتاب.

ص: 14

‌تحقيقات تاريخية

الأمير سيف الدين

تغري بردى الاتابكي

والد الأمير جمال يوسف المعروف بإبن تغري بردى المؤرخ

المصري

للأستاذ أحمد رمزي بك

حينما قدمت دار الكتب الجزء الأول من كتاب (النجوم الزاهرة)، وضعت للمؤرخ ثلاث تراجم نقلا عن القدماء. الأولى من وضع تلميذة أحمد بن حسين التركماني المعروف بالمرجى، والثانية عن الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع للسخاوي، والثالثة عن شذرات الذهب لأبن العماد الحنبلي وهو عن ذلك العصر وقد جاء في الأولى:

(هو يوسف بن تغري بردى الأمير جمال أبو المحاسن بن الأمير الكبير سيف الدين تغي بردى اليشبغاوي الظاهري أتابك العساكر تل مصرية ثم كافل الممالك الشامية).

وجاء في الثانية:

(يوسف بن تغري بردى الأمير جمال أبو المحاسن الأتابكي بالديار المصرية ثم نائب الشام اليشبغاوي الظاهري الحنفي)

وجاء تغري الثالثة:

(جمال الدين أبو المحاسن يوسف ابن الأمير الكبير سيف الدين تغري بردى).

فيفهم من هذا أن والده كان أميراً معروفاً من كبار أمراء الدولتا المصرية، والمطلع، على تاريخه يستخلص منه أنه شغل أعلى وظائف الدولة، من يوم أن عين على رأس نوبة الجمدارية ثم نقل منها إلى نيابة حلب، ثم على رتبة أمير مائة فأمير مجلس فأمير سلاح ومنها عين واليا أو نائبا للسلطنة في دمشق، ثم رفع إلى رتبة الاتابكية ومات وهو على نيابة السلطة بالشام.

وأسم (تغري يردي) عريق في تركيبته. ومعناها (الله أعطى) أو (عطية الله) وهو مأخوذ

ص: 15

من طاتري فيردى.

وقول المؤرخين الظهري نسبة إلى أستاذة العظيم الملك الظاهري برقوق.

وجاء في الضوء اللامع نقلا عن ابن خطيب الناصري أنه (كان عنده عقل وحياء وسكون) ثم ذكر السخاوي أنه نظم إلى الأمير ايتمش) في خروجه بالشام، وأرجع أنه انظم إليه بحكم الجنسية التركية على رغم قرابته لبيت الظاهر برقوق.

ولقد دهشت لما قرأت في ترجمة ابنه صاحب النهل الصافي والنجوم الزاهرة، وفي كتاب الإفرنج والمشتغلين التاريخ الإسلامي من المتأخرين، تفسيرهم لكلمة الرومي باليوناني.

1 -

فقد ورد في كتاب تاريخ المماليك لسير وليم موير في مقدمة المؤلف صفحة 7 ما يأتي:

(أما أبو المحاسن فقد عاش بعد المقريزي ثلاثين سنة وهو ابن الأمير تغري بردى الذي كان مملوكا يونانيا للسلطان برقوق)

2 -

وذكر الأستاذ أنور زقلمة في كتابه عن تاريخ المماليك (أن الأمير تغزى بردي كان مملوكا يونانيا)

3 -

كما جاء في الصفحة 26من كتاب الدكتور محمد مصطفى زيادة عن مؤرخي القرن الخامس عشر عند كلامه عن صاحب النجوم الزاهرة لفظ يوناني بين قوسين.

وتكلم عن بعض سلاطين دولة الأمراء الجر الجراكسة في محاضرة له بجمعية الدراسات التاريخية فنسب بعضهم إلى لا أصل يوناني.

وتحميل لفظ الرومي على أنه يوناني لا يتفق مع ما هو متداول في ذلك العصر لأن أرض الروم هي آسيا الصغرى، وكان يطلق على سلطان المسلمين هناك ملك الروم، هكذا ورد في أيام السلاجقة وآل عثمان.

ويظهر لنا جليا أن آسيا الصغرى كانت منذ القدم موطنا للشعوب الأسيوية لا الروم، وفي العهود التي عاش فيها تغري بردى، كانت آهلة بالعناصر التركية والتركمانية، حتى قبل مجيء العثمانيون واستيلائهم على ربوعها وأقطارها، وكان يطلق على المسلمين من سكانها أهل الروم وهم ليسوا بروم، وإلا كان جلال الدين الرومي بمجرد نسبته يونانيا، وآباؤنا وأجداده في أواسط آسيا ومكانته في الشعر الصوفي وأثره في العالم معروفان.

ص: 16

أما تغري بردى فيكفي استعراض تاريخه واسمه للحكم على تركيته الصافية، ولا صلة له بالإغريق واليونان.

ويظهر من نتبع أحواله أنه كان على صلة وثيقة بالملك الظاهر برقوق، لأن المؤرخين ذكروا أن برقوق تروج الأميرة شيرين الطويلة الرومية، وهي ابنة عم تغري بردى، وقد ولدت له والده الذي أسماه (بلغق) ومعناه كما فهمت بالتركية (فتنة) ويظهر أنه ولد في إبان محنة ألمت بوالده فلما زالت اسماه (فرجاً) بالعربية وهو الذي تولى السلطنة بعده تحت اسم السلطان فرج.

وقد صاهر السلطان فرج ابن عم والدته أي الأمير تغري بردى على ابنته الكبرى، أما بناته الأخر فقد صاهره عليهن الأمير آقبغا التمرازي الذي جمع بين الأتاكية ونيابة السلطنة، وصاهره الأمير يشبك بن أزدمر الظاهري على إحدى بناته الصغار، والذي وصل إلينا عن زوجاته اثنتان.

الأولى ابنة الأمير تمر باي الحسني الذي تولى نيابة سيس ثم حجوبته الحجاب وتوفي 792 والثانية ابنة الملك المنصور ناصر الدين أبي المعالي محمد بن حاجي الناصر محمد حاجي بن ناصر المنصور قلاوون.

فأنت ترى علاقات المصاهرة والقوابة والنسب بين الأتابكي تغري بردى وكبار البيوتات التي في عصره، لتحكم على منزلته العالية وأن مكانته في الصفوف الأمامية، ولا يمكن أن تسلم أتابكية العساكر الإسلامية لمن يكن في أرومته، والكلام عنه لا ينفي أن تذكر كلمة عن ابنة عمه الأميرة شيرين زوجة السلطان برقوق، وهي التي اشتهرت بجمالها وعنفتها وكانت الخوند الكبرى في عصرها ولذلك أسكنها السلطان قاعة العواميد بقلعة مصر، كما اتفق أصحاب السير على أنها سارت في حياتها سيرة محمودة مقترنة بالحشمة والرياسة والكرم مع التواضع الزائد والخير والتمسك بالدين، وهي ذكرى تعلمنا الكثيرة عن طيب عنصر أصلها وأصل الأمير تغري بردى والد صاحب النجوم الزاهرة.

ولا يشبع الباحث من سيرة هذه الأميرة الجليلة، بل أن الحديث عن مآثرها وأياديها على الفقراء وما قامت به من أعمال البر وتجديد الرباطات على طريق مكة وما وقفته من الأوقاف وما أصلحته من المباني، طويلا لا يتسع له المجال.

ص: 17

أما تشعب عائلته بردي واتصالها بالناس فأمر طويل يحتاج إلى تابعها وقيد الكثير من السير في مختلف المراجع، وأهمها الضوء اللامع إليَّ أرخ لبعض أفراد العائلة حتى عهد قايتاباني إذ ذكر محمد بن سنقر القادري ابن عمة أبي أخت المؤرخ.

ويظهر من كلام الشخاوي أن جاع السلطان برقوق بالصاغة يحتوي على رفات عدد من أولاده وأحفاده غير أولئك الذين دفنوا بمدرسته المشهورة بالصحراء بجوار تربته: كما تبين لنا صلة بيت برقوق بعائلته تغري بردى وإن كانت أسرة برقوق تنحدر من أصل جركسي عريق والثانية من أصل تركي في آسيا الصغرى.

والذي أقلقني في ترمة الأمير سيف الدين تغري بردى النسمة الآتية التي جاءت على ثلاثة أوجه: اليشغاوي الكمشبغاوي والقشبغاوي.

والذي أعرفه أنه لم يرد تحت كمش بغا ومعناها (الثور الفضي) غير الأمير سيف الدين يعقوب شاه الكمشبغاوي الظاهري وترجمته في المنهل الصافي وكان أمير ألف وقتل سنة 802 كما له ترجمة في الضوء اللامع وكان تركي الأصل مقداما جميل الصورة، حسن القامة، انظم إلى (ايتمش) وآل أمره إلى أن قتل بقلمه دمشق، أي بعد أن نظم إلى الحزب الذي كان فيه تغري بردى ولولا علاقة الأخيرة بالبيت المالك لكان نصيبه هذا الأمير أي القتل. ولذا استبعد موضوع النسبة إلى كمشبغا هذا. ولكن ابن الفرات الذي استعمل أولا لفظ كمشبغا عاد فاستعمل لفظ قشبغا وإليك النصوص:

عند خروج السلطان برقوق إلى الريدانية ترك بالقلعة من مماليكه نحو الستمائة مملوك عندهم الأمير تغري بردى من كمشبغا رأس نوبة. صفحة 249 جزء 8.

أنعم الملك الظاهر على الأمير على تغري بردى من قشبغا ص 306 أحد أمراء الطلبخانات بتقدمه ألف.

جاءت الأخبار في ذي الحجة سنة196 إلى الديار المصرية الظاهر خلع على الأمير سيف الدين تغري بردى من قشبغا واستقر في السلطنة بحلب عوضا عن الأمير سيف الدين الكمشبغاوي صفحة 378 جزء.

فاشترك الأميرين الكبيرين تحت اسم سيف الدين جعل المؤرخين يخلطون بينهما وينسبون كلا منهما إلى أنه الكمبشغاوي.

ص: 18

ويستمر ابن الفرات على الأمير سيف الدين نوروزز الحافظي واستقر رأس نوبة صفير ثاني عوضا عن الأمير سيف الدين تغري بردى من قشبغا.

وإلى أن نجد اسم كمش بغا الذي نسب إليه أو يشبعا تبقي هذه الشخصية غامضة.

أحمد رمزي

المدير العام

لمصلحة الاقتصاد الدولي

ص: 19

‌الفارابي في الشرق والغرب

ومكانته في الفلسفة الإسلامية

بمناسبة مرور ألف عام على وفاته

للأستاذ ضياء الدخيلي

بقيت هذه التهمة الشنعاء التي ألصقت بابن سيناء؛ فإن الناقدين يرتابون في صحتها وينزهون ابن سينا عنها. والظاهرة أنها من نسيج خصومه وحساده، وقد علق على الخير ناقله وأظنه صاحب أبجد العلوم - بأنه بهتان وإفك لأن الشيخ مر لأخذه الحكمة من تلك الخزانة كما صرح به في نعض رسائله، وأيضا يفهم في كثير من مواضع الشفاء أنه تلخيص التعليم الثاني. وعلق الأستاذ مصطفى عبد الرزاق بأن في هذا الخير خطأ تاريخيا؛ فإن منصور ابن نوح الساماني إنما ولى أمر خرسان بعد سنة 343 هـ بعد موت الفارابي درس في بغداد وعاش في سورية وزار مصر ولم يعرف أنه أقام في أصفهان وشرق المملكة الإسلامية بعد نبوغه وتألق نجمه في الفلسفة وإن قال العقاد في رسالته عن الفارابي (على أنه يبدو من كتاب الموسيقى أن فيلسوفنا جاس أيضاً خلال خراسان قبل أن يهبط العراق) فإن الظاهر أن ذلك قبل بزوغ شمس الفلسفة. أما ما رواه البيهقي ونقله عنه الشهرزوري من أن الفارابي ذهب إلى الري استقدمه إليها كافي الكفاة الصاحب بن عباد وبعث إليه هدايا وصلات واستحضره واشتاق إلى ارتباطه وأبو نصر يتعفف وينقبض ولا يقبل منه شيئاً حتى ضرب الدهر ضرباته ووصل أبو نصر إلى الري وعليه قباء وسخ وقلنسوة بلقاء ودخل مجلس الصاحب متنكراً وكان المجلس غاصاً بالندامى والظرفاء وأرباب اللهو فأضافوا الجرم إلى البواب ورموا إليه أسهم العتاب واستهزأ بأبي نصر كل من كان في ذلك المجلس وهو يحتمي أذى الأيدي وبغضى على قذى الأذى والاستهزاء حتى اطمأنت أنفسهم لمجالسته وأنساهم الشراب ذكره ودارت الكؤوس ومالت الرؤوس وطربت النفوس وحمل أبو نصر مزهراً واستخرج لحناً مع وزن نوم المستمعين وصار كل واحد كالذي يغشى عليه من الموت وكتب على البربط زاركم أبو نصر الفارابي واستهزأتم به فنومكم، ثم خرج من الري متنكراً مع رفقة متوجهاً إلى بغداد) فهذه

ص: 20

الأقصوصة إن صحت فإنها تدل على أنه لم يمكث في تلك الجهات مكث تأليف وكتابه، وقد علق العقاد في رسالته عن الفارابي - على القصة بأن ابن خلكان يروي قصة قريبة من هذه على أنها حدثت بين الفارابي وسيف الدولة، ثم قال ولا شبهة لدينا في أن قصة البيهقي أسطورة تمثل خيال الكاتب وفنه دون أن تمت إلى الحقيقة بنسب، ودليلنا على هذا أن الصاحب إسماعيل بن عباد ولد سنة 306هـ فهو عند موت الفارابي في سنة 339هـ كان صبياً صغيراً ولم يكن له بعد مجلس يضم الندامى والظرفاء.

وجاء الأستاذ (أبو ريده) من جامعة فؤاد الأول بمصر معلنا ارتيابه وشكه في صحة هذه الطعنة النجلاء الموجهة من خصوم ابن سينا إلى مقامه الجليل - فقال ولا شك أن ما يقوله حاجي خليفة كلام ينبغي أن نتلقاه بالتردد والحذر

وقد نقل القصة السابقة أيضاً المولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده المتوفى سنة 962هـ على الصورة التالية إذ قال (ج1 ص241) في مفتاح السعادة -: إن أرسطو يعد ما دون المنطق صارت كتبه مخزونة في أثنه (أثينا) من ولاية موره (شبه جزيرة الموره من بلاد اليونان) من بلاد الروم عند ملك من ملوك اليونان، ولما رغب الخليفة في علوم الأوائل أرسل المأمون إلى الملك المذكور وطلب الكتب فلم يرسلها فغضب المأمون وجمع العساكر وبلغ الخبر الملك فجمع البطاريق والرهابين وشاورهم في الأمر فقالوا إن أردت الكسر في دين المسلمين زلزلة عقائدهم فلا تمنعهم عن الكتب. فاستحسن الملك ذلك وأرسلها إلى المأمون فجمع المأمون مترجمي مملكته كحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة وغيرهما وترجموها بتراجم متخالفة لا توافق ترجمة أحدهم ترجمة الآخر فبقيت التراجم غير محررة إلى أن التمس منصور بن نوح الساماني من أبي نصر الفارابي أن يحررها ويلخصها ففعل كما أراد ولهذا لقب بالمعلم الثاني وكانت كتبه في خزانة الكتب المبنية بأصبهان المسماة بصوان الحكمة إلى زمان السلطان مسعود، لكن كانت غير مبيضة لأن الفارابي كان غير ملتفت إلى جمع التصانيف ونشرها بل غلب عليه السياحة. ثم إن الشيخ أبا علي تقرب عند السلطان مسعود بسبب الطب حتى استوزره واستولى على تلك الخزانة وأخذ ما في تلك الكتب ولخص منها كتاب الشفاء وغير ذلك من تصانيفه. وقد اتفق أن احترقت تلك الكتب فاتهم من يتعصب على أبي علي بأنه أحرقها لينقطع انتساب تلك

ص: 21

العلوم على أربابها ويختص بنفسه، لكن هذا الكلام للحساد الذين ليس لهم هاد. . انتهى كلام طاش كبرى زاده وقد اختتمه بارتيابه في هذه التهمة أعنى إحراق ابن سينا للمكتبة ليحتكر علومها ولم ينفِ أخذ ابن سينا من كتاب التعليم الثاني. قال العقاد في رسالته عن الفارابي، أما طاشكبرى زاده فلا يصدق هذه الرواية ويقرر أن منشأها حسد الحاسدين لأبي علي وينفى حاج خليفة أيضاً عن ابن سينا تهمة حرق الخزانة لأن الشيخ أي ابن سينا مقر بأخذه الحكمة من تلك الخزانة كما صرح في بعض رسائله؛ وأيضاً يفهم من مواضع في كتابه الشفاء أنه تلخيص التعليم الثاني.

يقول العقاد وفي الحق أن ابن سينا إلى نوح بن منصور وطببه واستأذنه في الاطلاع على دار كتبه فأذن له. وابن سينا يصرح أيضاً بأنه كان يقرأ كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو دون أن يفهم ما فيه حتى ألقت المقادير بين يديه كتاب الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة فاستطاع حين ذاك أن يفهم كتاب أرسطو. وهو يصرح أيضاً في كتاب الشفاء بأنه يلخص آراء القدماء. ولكنا مع هذا نجد في رواتبي مفتاح السعادة وكشف الظنون كثيراً من الأغلاط؛ فمنصور بن نوح لم يكن ملكاً قبل سنة 350هـ أي بعد وفاة الفارابي بإحدى عشرة سنة ولم يكن السلطان مسعود من أحفاده ولم يستوزر ابن سينا وإنما استوزره شمس الدولة في همذان، ولم تكن خزانة الكتب في أصفهان وإنما كانت في بخاري. ومما يرجع الشك في صحة هذه الرواية أيضاً أننا لا نجد عند المؤرخين المتقدمين كتاباً للفارابي باسم التعليم الثاني.

والذي يهمنا من كل ما تقدم هو الحقيقة الثابتة التالية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وهي أن ابن سينا تخرج بكتب الفارابي والظاهر أن آثار المعلم الثاني بقيت المعين الصافي الذي ورد منه جمع غفير من رواد الفلسفة، فقد جاء في كتاب (دروس في تاريخ الفلسفة) عرض لأثر الفارابي في رواد المعرفة في الأجيال الإسلامية، قال المؤلفان فيه (وهناك تلاميذ آخرون اهتدوا بهدى الفارابي واستمسكوا بتعاليمه دون أن يروه أو يعاصروه وعلى رأس هؤلاء الأستاذ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة 1037م.

ولا غرابة فابن سينا نفسه يعترف بتأثره به وفضله عليه ولقد بلغ من تعلقه بنظرياته أن

ص: 22

بذل كل مجهود في تفهمها وأفاض في شرحها وتوضيحها بحيث منحها نفوذاً وسلطاناً لم تنله على يد واضعها ومبتكرها، ولئن كان للفارابي فضل السبق فلتلميذة فضل البيان والإيضاح الإسلامية) في القسم الثاني الباحث عن الإمبراطورية الإسلامية وانحلالها لم يرض أن يقصر ما دونه ابن سينا على مهمة البيان والإيضاح لأفكار الفارابي بل أعطى كتاباته من المكانة العليا ما سوق دفعه لأن يدعى وجرفت مؤلفات الفارابي من سوق الفكري فقال (ولم تقتصر الحركة الفكرية في بلاط سيف الدولة على الشعر والأدب بل عدتهما إلى العلم أيضاً بروح ملؤها التفهم والإدراك فلمع في سمائه أحد تلامذة أرسطو الكبار أبو نصر الفارابي التركي الأصل الذي أتم دروسه في بغداد. ومع أن مؤلفات ابن سينا استطاعت أن تخطى بسلطان دائم في العالم الإسلامي فالواقع أن هذا الرجل (الفارابي) ليمثل بوصفه أحد تلامذة الفلسفة اليونانية الأكثر استقلالا - ظاهرة بارزة جدا في تاريخ الحضارة الإسلامية) ولا ننكر أن انسحار ابن سينا بآراء الفارابي واجتدابها له خلفا أثراً شيئاً على مؤلفات الفارابي إذ أن ابن سينا شرح أفكار الفارابي بإسهاب وعرضها للناس بثوب جذاب ومظهر أخاذ فأدى ذلك إلى نسيان الناس مؤلفات الفارابي نفسها وانذاهالهم عنها بما كتبه ابن سينا حتى قال العقاد في رسالته عن الفارابي أن جاء بعده الرئيس ابن سينا أو الشيخ الرئيس وتألق نجمه في ميدان الفلسفة كما سطع في سماء السياسة وأفاض الشيخ الرئيس في التأليف وصنف كتباً مطولة اشتملت على مذهب الفارابي في الفلسفة، وأعنت الناس عن رسائل الفارابي الموجزة وألقت على تاريخه ظلالا من النسيان)

وقد قدمت أن ابن سينا ولد بعد وفاة الفارابي ب 31 عاماً ولكن من الغريب أني وجدت في (الوافي بالوفيات) يقول مؤلفة صلاح الدين بن أبيك الصفدى قال ابن سينا (سافرت في طلب الشيخ أبي نصر وما وجدته وليتني وجدته فكانت حصلت فادة) وإني أعلق على هذا الخبر الذي أرتاب في صحته بأن ابن سينا تعلم الفلسفة وهو شاب يافع فقد كان عمره حين تعلمها حوالي الستة عشر عاماً؟ قال الأستاذ محمد لطفي في (تاريخ فلاسفة الإسلام) ولم يبلغ أبو على - السادسة أو السابعة عشرة من عمره حتى طبقت شهرته الخافقين لخدمة في الطب، وقد دعاء نوح بن منصور أمير بخاري لعيادته في مرض ألم به وأعيا حيل

ص: 23

الأطباء فعالجه إلى أن عوفي فانبسط له وأسبغ عليه ذيل الرضى وأسبل عليه ثوب النعمة وفتح له خزانة كتبه فوجد بها الطبيب الحكيم خير مجال لرغبة الدرس وأرحب ميدان لطلب العلم واستقى من تلك الينابيع العذبة ما شاء إقباله عليها. وقد حدث أن احترقت خزانة الكتب فإنهم ابن سينا بأنه حرقها رغبة في أن يتفرد بما وعته من الحكمة وخشية أن ينتفع بما حوته سواه. وقد مات الأمير نوح بعد ذلك بقليل عام 387 هـ وفي هذا العهد كان قد مضى على وفاة الفارابي حوالي (48) عاماً فكيف يسعى ابن سينا للقيا؟ وهل موت الفارابي حادثة طفيفة يتوقع أن لا تصل إلى مسامع ابن سينا وهو عاشق الفلسفة لدؤوب لتحصيلها؟ ومع ذلك فإننا لا تنغلق باب الاحتمال ونجوز صدق الرواية ولا نكذب احتمال عدم اطلاع ابن سينا على وفاة الفارابي الأمر، الذي حمله على أن يعقد عزمه على الاتصال به؛ ذلك لأن ابن سينا في هذا العهد كان يعيش في شرقي البلاد الإسلامية في بخاري، أما الفارابي فقد توفي في دمشق، فإذا أضفنا إلى بعد المسافة تقطع الأسفار لوعورة الطرق ووحشتها مضافاً إلى ذلك أنه لم يكن الفارابي الفيلسوف المتصوف المنقطع عن الناس بذائع الصيت حينئذ - كل ذلك مما يجوز صدق أقصوصة عزم ابن سينا على الاستمتاع بفضل الفارابي عن كثب وسفره في طلب الشيخ العميق التفكير والقصة على كل حال وحتى مع تقدير كذبها تدل على سمو مكانه الفارابي في أذهان المؤلفين في تلك العصور فهم ينقلون خبر عزم ابن سينا على شد الرحال أو قيامه بالسفر حقيقة للاستفادة من علمه ولا يجدون في ذلك غرابة؛ بل إن فضل الفارابي في رأيهم يستحق أن يقصده رواد العلم من أمثال ابن سينا من أقاصي البلاد فضلاً عن أدناها.

للكلام بقية

ضياء الدخيلي

ص: 24

‌بمناسبة المولد النبوي:

نشأة البديعيات في مدح الرسول

للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي

لم ينعم نبي في أمته بمثل ما نعم به صلى الله عليه وسلم. ولم ينل نبي من الرضا عنه والثناء ما ناله النبي الأعظم من الثناء والإجلال، وليس ذلك بعجيب أو مستعظم بعد أن سجل الله له ذلك في محكم كتابه (وإنك لعلي خلق عظيم).

ومدائح النبي الأعظم لا يحصيها عُد ولا يشتملها كتاب فرد كائناً ما كان: وقد حاول العلامة الشيخ يوسف النبهاني أن يحصيها في كتابه (المدائح النبوية) - فجر - مشكوراً - عن إدراك غايته.

ولو تتبعنا فن (مديح الرسول الأعظم) منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا لوجدناه نوعين: مديح تقيد فيه ناظموه ببحر معين وقافية خاصة ونمط مصطلح عليه. وقد سمى النوع الأول (البديعيات) أما النوع الثاني فهو من (المدائح النبوية) العامة.

ولو تتبعنا تاريخ (البديعيات) لوجدناها كلها نوعاً واحداً. التزم فيها ناظموها بحر (البسيط) وقافية (الميم) واشترطوا في كل بيت من أبياتها محسناً من المحسنات البديعية المعروفة على عهدهم، وقصدوا بذلك تطريز هذا الصنف من المدائح بجميع الصور البلاغية.

ولعل أول بديعية استكملت هذه الشروط كلها (بديعية صفي الدين الحلي) المتوفى عام 750هـ. وقد استهلها بقوله:

إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم

وافر السلام على عرب بذي سلم

فقد ضمنت وجود الدمع من عدم

لهم ولم أستطع من ذاك منع دمى

وهي بديعية طويلة تقع في مائة وخمسة وأربعين بيتاً.

ومن ثم جرى الشعراء على منواله منذ القرن الثامن وهم لا يزالون كذلك إلى اليوم الذي أنشأ فيه أمير الشعراء أحمد شوقي بك (بديعية نهج البردة) التي أولها:

ريم على القاع بين البان والعم

أحل سفك دمى في الأشهر الحرم

فكل ما قيل في مدح الرسول - منذ القرن الثامن إلى اليوم - من قصائد منظومة في هذا البحر والقافية، يسمى (البديعيات) وواحدتها (بديعية). ولعلهم لم يختاروا لها هذا الاسم إلا

ص: 25

لاستخدام المحسنات البديعية في كل بيت من أبياتها.

فكيف نشأت البديعيات في تاريخ الأدب؟ الحق أن صفي الدين الحلي لم يكن أمة وحده في اختراع (البديعيات) وإن كان له فضل اختراع النسمية واشترط قافية الميم واصطناع البديع فيها.

ولو أنك استعرضت معي المدائح النبوية كلها لرأيت الجذور الأولى للبديعيات واضحة في جميع المدائح النبوية القديمة التي نظمها أصحابها من بحر البسيط.

ولعل (قصيدة كعب بن زهير) المتوفى عام 26هـ هي أول قصيدة كلاسيكية من هذا النوع أنشدها صاحبها وبين يدي الرسول الأعظم.

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم إثرها لم يجز مكبول

وما سعاد غداة البين إذ برزت

إلا أغن غضيض الطرف مكحول

وفي القرن الخامس نظم العارف بالله عبد الرحيم بن أحمد البرعي اليمني المتوفى عام 480هـ قصيدة من هذا النوع أولها:

خل الغرام لصب دمعه دمه

حيران توجده الذكرى وتعدمه

وامنح له بعلاقات علقن به

لو اطلعت عليه كنت ترحمه

واختتمها بقوله مصلياً:

عليك منى صلاة أكملها

يا ما جداً عمت الدارين أنعمه

تبدي عبيراً ومسكا صوب عارضها

ويبدأ الذكر ذاكرها ويختمه

ما رنح الريح أغصان الأراك وما

حامت على أبرق الحنان حومه

وينثني فيعم الآل جانبه

بكل عارض فضل فاض مسجمه

وفي القرن السادس نظم جمال الدين بن يحيى الصرصري المتوفى 656هـ قصيدته، ولو تأملتها لوجدتها عين ما قاله البرعي بحراً وقافية وروبا وافتتاحاً واختتاماً. وقد أثبت المنهج العلمي بعد البحث والاستقراء أنه عارضه بها، حيث افتتحها بما اختتم به البرعي قصيدته:

أغرب المحب بذات الستر لومه

فبان سر غرام كان يكتمه

أني يلام على التذكار ذو شغف

متيم بسهام القلب مغرمه

واختتمها بما اختتم بها البرعي قصيدته:

ص: 26

عليك مني صلاة الله أطيبها

ومن سلام إله العرش أدومه

وعم بالفضل من واساك في عسر

وذب عنك غداة الروح مخدمه

من آلك الغر والأصحاب إنهم

أفلاك دين الهدى فينا وأنجمه

ومن تلاهم بإحسان فأنت له

ذخراً بجاهك رب العرش يرحمه

فلما كان أواخر القرن السابع نظم الإمام شرف الدين محمد ابن سعيد الضنهاجي الدلاصي المشهور البوصيري المتوفي عام 694 هـ قصيدة الخالدة المشهورة باسم (البردة) فلم يزد على ما سبقه إليه كعب بن زهير والربعي والصرصري سوى (قافية الميم) كما ترى:

أمن تذكر جيران بذي يلم

مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم

أم هبت الريح من تلقاه كاضمة

وأومض البرق في الظلماء من إضم

وقد كان لسقوط بغداد في منتصف هذا القرن (عام 656هـ هزة عنيفة، كانت من أكبر الهزات التي انتابت جوانب الإسلام فكان لها أكبر الأثر في الحياة الأدبية. والنفوس دائماً تأبى إلا أن تنتهي إلى قوة قادرة مدبرة تدبرها وتدير شؤونها وترعى حقوقها. وهي لم ترضى في ذلك العصر بهذا الفاتح الغاشم ولا بهذا السلطان الجديد - التتار - الذي كان مخالفاً للكثير من تعاليم الإسلام وتقاليد الراسخة في النفوس المظلومة على أمرها من أن تسلك دوراً جديداً، يحقق لها معاني الاتزان النفسي، وليس لتلك النفوس بد من أن تجدد عهودها مع القوة الروحية القديمة لتأنس إليها وتستمد منها قواها الدنيوبة وآمالها الأخروبة.

وهكذا كان هذا الأثر أسبق إلى نفوس الشعراء قبل غيرهم، وهم أولى الناس بإظهار أحاسيسهم وإبداء عواطفهم والتعبير عن مشاعرهم المرهفة القوية. ولم يكن هناك بد من أن يهرعوا إلى مدح المصلح الأول فنظم الصرصري (656هـ) والوتري (662هـ) والبوصري (694هـ) والعزاوي (710هـ) مدائحهم الخالدة. فلما جاء الشعراء من بعدهم نسجوا على منوالهم قصائد تشبهها في الوزن والقافية مراعاة لهذا التقليد الكريم.

ثم جاء صفي الدين الحلي في منتصف الحلي في منتصف القرن الثامن ودفعه ما في (بردة البوصري) من محسنات بديعية أن يجعل قصيدته ذاخرة بالبديع فسمى ما نظمه (بديعة) واختار لها هذا الإسم، فأصبح علماً تقليدا على القصيدة ينظمها صاحبها في مدح الرسول الأعظم مجتذباً الوزن والقافية والمحسنات البديعة.

ص: 27

حامد حفتي داود الجرجاوي

دبلوم معهد الدراسات العليا

وأستاذ العربية والتربية بمدرسته الراقية بباب اللوق

ص: 28

‌أنطون الجميل باشا

بمناسبة الذكرى الثالثة لوفاة

للأستاذ منصور جاب الله

كانت المرزأة في المغفور الأستاذ أنطوان الجميل باشا أليمة، إذ قضى نحبه فجر اليوم الثالث عشر من يناير علم1948 ولم يكن بين منصرفه من عمله ووجيعته إلا ساعة وعض ساعة، ولم يكن بين وجيعته واحتضاره إلا دقيقة وبعض دقيقة، وكذلك لم يشأ القدر لهذا الرجل المتزن الرزين العامل الناصب أن يشكو دنفاً أو يضيق به أحد من أهله ومريديه، فمضى في صمت إلى دنيا غير هذه الدنيا، ووجد الله فلقاه حسابه.

ولقد وصف أنطوان الجميل في حياته وبعد موته بأنه رجل رزين متزن، واللذين لم تكن لهم خلطة بالفقيد يحسبون أن رزانة الرجل إنما كانت مصروفة في زم اللسان والهدوء، فلا يتكلم إلا بمقدار، وأنه تجوز به الأحداث الجسام فلا يتحرك لها ولا ينبض ل عرق وما هكذا كان أنطوان الجميل الذي عرفنا وسعدنا بعشرته وتتلذنا عليه، وإني لأشهد أني عرفت منه رجلا ثائراً لا يهدأ إلا على مضض، ويهدر كالفجل إذا مست كرامته أو نال أحد من نزاهته ، وسيأتي الكلام بعد عن موقفه من أحد رؤساء الوزارة ليدرك الناس أي رجل كان هذا الرجل بين الرجال.

ولقد كان فقيدنا أديبا رقيقا قبل أن يكون صحفيا بعيد الصوت والشهرة، والذين علت بهم السن من أمثال كاتب هذه السطور يدركون المكانة الأدبية التي كانت عيها مجلة (الزهور) لمنشئتها (أنطوان أفندي الجميل) كما كان يدعي في ذياك الحين.

ولعل أشهر كتبه وأخطاها عند القارئ كتابه عن شوقي، فقد كان الجميل أثير عند أمير الشعراء، وكان من جلساته الذين يأنس بهم ويصطفيهم، إذ كان بالرجل وحشة فلا يأنس بكثير من الأناسي، وإنما خلاله وجه صديق أو صديقين كما حدثنا بذلك فقيد البيان المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري.

وكان له باع في الترجمة من الفرنسية خاصة إلى اللغة العربية ومنذ ثلاثين عاما نقل إلى العربية كتاب (الفتاة والبيت) ووضع له مقدمة شيخ الشعراء المغفور له إسماعيل صبري باشا، وكتب مؤخرته شيخ الأدباء السيد مصطفى لطفي المنفلوطي وعرفت وزارة المعارف

ص: 29

لهذا الكتاب قدرته لمدارس البنات.

والأدب عند أنطوان الجميل غاية لا وسيلة فما كان يدور بخلده يوما من الأيام أن يتكسب منه، وكذلك أن يكون من الأيام أن يتكسب منه، وكذلك قنع أن يكون مترجما في وزارة المالية لقاء أجر صغير، ثم سما به المنصب حتى استقال من خدمة الحكومة وهو (سكرتيرة) للجنة المالية.

ولتركه خدمة الحكومة قصة طريفة لا بأس من إيرادها فقد قصها علينا بنفسه في مجلس المونقة إذ غدا عليه ضحى يوم من الأيام المغفور له جبريل تقلا باشا وطلب إليه أن يستقبل من وزارة المالية ليعمل لتحرير صحيفة الأهرام خلفا للمرحوم داود بركات. فأجاب الجميل. وأبن أنا من داود بركات؟ دعني في عملي هذا ولا تحاول أن (تكشفني) ولا تفضحني بين! ودام الجدل بينها ساعة وبعض ساعة بغير إقناع ولا اقتناع، وإذ سقط في يد تقلا باشا قال لصاحبه؛ اعطني ورقة بيضاء. ثم مضى يكتب فيها شيئا لم يتبينه أنطوان، وبعدئذ استأذنه في الانصراف فلما سأله عن غايته أجاب بأنه يريد لقاء وزير الملية، وألحف عليه في الرجاء عن الغاية التي يريد من أجلها لقيا الوزير، فأجاب تقلا في انفعال شديد أريد أن أقدم إليه استقالة (أنطوان بك الجميل) فذعر أنطوان بك وقال لصاحبه بقوله: لقد كتبت الاستقالة ووقعتها باسم (أنطوان) الجميل وسأرفعها بنفسي إلى الوزير، وما عليك إلا أن تطعن بالتزوير وتطلب محاكمي لأني مزور!.

وبكى عندها أنطوان الجميل كما لم يبك في حياته ومضى مع صاحبه إلى الوزير المالية حيث رفع إليه استقالته ليتولى من غده العمل في الصحافة حتى أودت به الصحافة!.

والحق أن أنطوان الجميل سما بالصحافة وأحدث بها تقاليد بقيت ما بقى حيا، فلما انتقل إلى الدار الآخرة انتقلت معه - وا أسفاه - إلى الدار الآخرة!.

ومن هذه التقاليد إلا نتعرض صحيفة لما كتبه صحيفة أخرى بالتكذيب أو التنفيد، وأن ينشر الخبر على علاته دون تذييل أو تعليق وللقارئ أن يفهم منه ما يشاء، وأن تقدم لمصلحة العامة على السبق الصحفي فما يضير الصحيفة المتزنة التي تحترم نفسها أن تروج يوما وتبور يوما مادامت المصلحة العامة لم تمس في قليل ولا كثير. وأذكر في هذا السبيل أني أزوره في ليلة من الليالي أزمة سياسية حادة وجئ له ببرقية مطولة أرسلها مراسل

ص: 30

الصحيفة من لندن، فتصحفها طويلا، ثم ألقاها إلى قائلا: اقرأ، فلما أتممت تلاوتها سألني رأيي فيها فقلت (برقية خطيرة جدا) فسألني: أنرى من المصلحة نشرها؟ قلت: لا. فألقى بها جانبا ولم تنشر، وعلمت فيما بعد أن نفقات هذه البرقية جاوزت مئة جنيه، وأنها لو نشرت لكان لها شأن أي شأن.

ومن هذه التقاليد ألا تستغني صحيفة من الصحف عن محور يعمل بها وإن أمسك عن العمل أياما فقد يكون له عذر، ولكن هذه التقاليد جميعاً صارت مع الحسرة والألم في خير كان!

واختير أنطون الجميل عضوا في المجمع اللغوي، فتهيب الاختيار بادئ الرأي، ثم لم يلبث أن خب في أعمال المجمع ووضع، وكان من أشد الأعضاء مواظبة ومن أشدهم جلداً على العمل وأكثرهم إنجازاً لما يطلب منه.

ولما عين عضواً لمجلس الشيوخ رأى فيه أعضاء (المجلس الأعلى) لونا جديداً من البرلمانيين، فهو رجل لا يسف ولا يهاتر ولا يعمد إلى المناورة أو المداورة ثم هو يحلط الأدب بالسياسة فيرتل الشعر في أثناء مناقشة الاستجوابات والبحث في الميزانيات، يدعو الوزراء إلى التشبه بأبي الدوانيق أو أبي جعفر المنصور!

بيد أن أنطون الجميل لم يطق البقاء في مجلس الشيوخ زمنا طويلا، فقد رأى أن عمله البرلماني يتعارض وعمله الصحفي، وإذ تضارب العملان وتناقضا، كان لا مناص له من ترك أحدهما، ولو كان جبرائيل تقلا باشا حيا وقتئذ لترك العمل الصحفي غير آسف، ولكن صاحبه مات وترك الأمانة في يده، فلا مندوحة له من الاستقالة من الشيوخ، وارتج المجلس الأعلى لاستقالة الرجل وأبي عليه قبولها وبذل عنده الشفاعات والوساطات، وذهب إليه رئيس الشيوخ يسعى كي يعدل عن استقالته ورجاء - مع هذا - أن يريح نفسه فلا يحضر كل جلسة ولكن الرجل العظيم أبي هذا قائلا: أما أن أؤدي العمل على وجهه وإما أن أدعه لغيري.

وأنعم عليه بالباشوية إثر استقالته من مجلس الشيوخ، قال خصومه أنه استقال لينعم عليه بالباشوية وأحدث هذا القول موجدة في نفسه، وأحسب أنه حدثني في ذلك فقلت له: لا عليك من كلام الناس. فلو لم يكن رجلا ذا شأن ما تحدث عنك أحد!

ص: 31

أما الموقف الذي أذكره له مع أحد رؤساء الوزارة، فقد مضى عليه أكثر من عشر سنين، وغيب الذين شهدوه في عالم غير هذا العالم، ونحن اليوم في حل من إيراده بشيء من الإيجاز

فقد جاء أحد (المخبرين) لأنطون (بك) الجميل بنبأ في شهر سبتمبر عام 1940 مؤداه أن الجيش الإيطالي اقتحم الحدود المصرية من جهة الغرب، وتريث الجميل كعادته، فلم يشأ نشر الخبر لوقته وإنما أرجاه يوما أو يومين، ثم عرضه على وزير الحربية، وأجازته الرقابة فنشره، وإذ بصر به رئيس الوزارة حينئذ - وهو المغفور له حسن صبري باشا - هاج هائجه ونسى الصداقة الوثيقة التي تربطه بأنطوان الجميل وكتب بلاغا (رسميا) قاسى اللهجة لاذع الأسلوب يرمى فيه كاتب الخبر بالتزيد وإثارة الخواطر.

ولم يفعل أنطون الجميل شيئاً إزاء هذا التحدي إلا أن أشهد وزير الحربية على صحة الخبر، ثم بدأ تحديه لرئيس الوزارة فمنع نشر أبناء مقابلاته وحفلاته، وكان ينشر اجتماع مجلس الوزراء مجرداً من ذكر اسم رئيس الوزراء، ويطوف رئيس الحكومة في البلاد فلا يذكر عنه شيئاً، وتنشر صور الوزراء جميعاً وتحذف صورة كبيرهم!

وهكذا، وهكذا، حتى ضاق المغفور له حسن صبري باشا ذرعا، وبذل الوساطات والشفاعات لدى أنطون الجميل، حتى أنه أرسل إليه يقول: أرجو أن تشتمني في جريدتك وتقول في ما قال مالك في الخمر، أما أن تمهل ذكر اسني مرة واحدة فهذا ما لا طاقة لي باحتماله.

وتدخل المرحوم عبد الحميد سليمان في المصالحة، وشرط أنطون الجميل باشا أن يعد بنفسه بلاغا (رسميا) يدحض فيه البلاغ الأول، وكان، وأعاد أنطون الجميل نشر اسم حسن صبري باشا رئيس الوزارة بعد أن أهمله ثمانية عشر يوما!

ومات أنطون الجميل في حدود الخامسة والستين عزبا لم يتزوج، وقيل أنه كان مبخلا، أو هكذا رماه خصومه، وقال لنا واحد ممن تجمعه به آصرة القربى أنه خلف ثروة تتجاوز مئتي ألف جنيه، ولا نعلم مبلغ الصندوق في ذلك فقد كنا نعرف في أنطون الجميل أنه يعيش كما كان يعيش المتصوفة الأولى يأكل بمقدار ويشرب بمقدار، ولا لا يسرف، إنما يضيق عليها.

ص: 32

وكان هذا سر احتفاظه بصحته، وسر احتفاظه باتزانه، ذلك الاتزان الذي جعله يوجه الطعنة النجلاء فلا يخطئ الهدف ويضرب الضربة فتصمي الخصوم.

ففي ذمة الأدب والصحافة، وفي ذمة التاريخ.

منصور جاب الله.

ص: 33

‌لا يهم

للأستاذ ثروت أباظة

جلف غليظ النفس غليظ الجسم. . حقير ساقط الأصل ساقط التفكير. . ولكنه عظيم يجثو له من يراه، وينحني لمقدمة من يقدم عليه. . فهو غني واسع الغنى، وليس لمن يعرفونه عقل ذاكر يذكرهم ما كان عليه وما صار إليه. . هو غني، وهو ذو مكان وجاه، وهو يجرؤ فيمد إليه طرفا من عداوة. أو من يرمقه بنظرة لا ترضيه.

إن رأيته رأيت وجها كالحا تعاهدت قسمات الإجرام أن تتخذ منه مسكنا؛ وهي في هذا المسكن أو في هذا الوجه تنمو مع الزمن وتتكاثر، لا تترك البيت ولا تريم، تملأ النفس الحقيرة من الرائين رعبا وذا النفس الكبيرة احتقارا واشمئزازا. . . وما تلازم الرعب والحقارة في وجه قذر تلازمها في وجه ذلك الرجل. يعلو ذلك رأس خلا من الشعر حتى لا تكاد تبن جبهته من رأسه ولا أحب أن يثب من أنه أصيب بالصلع فإن تفكيره الإجرامي لم يكن من العمق بحيث يساقط الشعر كما يقول علماء الجلد من الأطباء. لم يكن صلعا ما بالرجل ولكنه مرض آخر أصابه وهو لم يزل بعد جرثومة لم تكبر لتصبح مرضاً. . وقد حاول بماله الدنس أن يتغلب على ما أروع الله في رأسه من شر. . كان المرض أشبه بالعنوان للكتاب المصادر من حكومة عادلة تحافظ على الآداب العامة هو يغطى رأسه بالطربوش إذا أصبح وبالأغطية الكثيفة إذا أمسى؛ ولكن الأغطية جميعاً عاجزة عن ستر ما يريد ستره.

هذا هو رأسه إن شئت أن تسمى هذا الشيء رأساً، ولا لك أن تعرف علام ركب هذا الرأس. . لنتجاوز العنق يبدو لي أنه لا يريد أن يبديه لعله يخفى بعض الشيء من رأسه الحقير، أيا كان الأمر ليس لهذا الشيء ولكن انبعاجاً ضخما شاء الله أن يكون جسماً فكان. والعجب أن هو الانبعاج يزداد في غير انتقاص وما يضنيه وصاحبه مجبول على الشر. . . إن ضايقه شخص قتله؛ وما ينقصه وصاحبه خلق وهو ضمير له.

تلك هي صورته اليوم فلندع القلم بقذف به ما وراء تلك السنين لندعه يقذف به إلى تلك الأيام التي كان لم يزل بها جرثومة صغيرة لم تصل بعد إلى تلك الخطورة التي صارت إليها. . . ماذا كان جربوع أجرب يلهث وراء حمار أبيه بعد أن خاب في كل شيء، في

ص: 34

زار الوالد قريباً له بقيت الجرثومة خارج المنزل لا تجسر الاقتراب إلا ساحبة المطية ثم تنطلق فلفها فكان الركب ليس والدا وكأن اللاهث ليس ولده. . وكان الأقارب ذاك يألفون منه ويزورون عنه بجانبهم إذا أتيح له أن يراه وكان من في طوره أولاد عمومته يكادون لا يعرفون من أمره شيئاً وعرفوا فهو لهم لا يصلح لشيء إلا يعدوا وراء الحمار بتشديد تخفيف كما تشأ كان الغلام أولاد العم أو من بني قرابته يعني هذا إذا عرفه فيخفيه ولا ينبس بطرف منه إلى أحد فإذا للجرثومة حظ سعيد وذكرت في مجلس لهم فالفكر والاستنكار والهزء الذي ليس مثله هزؤ ثم يتعجل أحدهم فينقل موضوع الحديث قبل أن يدخل غريب فينكشف من أمر أسرتهم ما يرجون له الستر. لقد كان منذ ذلك اليوم لصاً في ذكره مجلبة للعار. فليس أبشع من سارق على شبع. لقد كان ذكره مفسدة للخلق، فترى الأمهات إذا ما ذكره أمامهن أحد الخدم قد رفعن أيديهن إلى أفواهن حذرا من أن يسمع الولد الحديث فيفسد حلقة ويشذ عن طريقه. . كان يذكر إذا ذكر خفية فكأنه كلمة لا تقال أمام كبير خشية أن يظن بقائلها سوء الأدب.

كان كذلك. . ثم نمت الجرثومة كالداء يترك بغير علاج. . نمت فإذا هي المرض لا يشفيه تطيب. . نمت فأصبح اللص الصغير سفاكا لا قبل للمجتمع به. . . ومات أبوه قبل أن يعرف ما انضمت عليه ضلوع الابن من الشر الكبير. . . مات الأب فخلا الابن بالحمار واعتسف ما كان لأبيه من أبيه وجمع من حوليه المجرمين من كل ضعيف النفس جائع الشهوة يريد أن يحتمي بالسفاك الأكبر. . . وهكذا انقلب الحمار سيارة، وأصبحت تقاد له بعد أن كان يشتهي أن يقود.

ازداد المال لديه. وأصبح (بيكا) وهو الجربوع. واشهر من أمر اللص ما حاول أقرباؤه أن يخفوه؛ ولكن سرعان ما تبين الأقرباء أنهم جانبوا العدل في معاملتهم لبن عمهم. هاهو ذا اسمه يجري بينهم جريئاً لا أحد ينقل الحديث إلى غيره ولا أحد يرفع يده إلى فمه: لقد أصبح الخفاء صريحاً وجهر بما كان يهمس به: هاهو ذا أحدهم يقول (والله أنه لخفيف الظل! لم لا نذهب إليه نسلم ونهنئ بيته الجديد) ولم يكن المنزل جديداً ولكنهم ذهبوا ها هم أولاد في منزلة وها هو ذا يرحب بهم فرحاً أن قصد إليه من كان يزور عن لقائه، ولكن الأقرباء لم يجدوا أنفسهم منفردين بل وجدوا معهم البلاد وأعيانها من حكام وأقطاب باسم

ص: 35

الله ما شاء الله! وغمز أحدهم الآخر (قم فعجل بالقهوة) فأجابه الآخر (وأنت معي قم فعجل بالطعام) وقام: وما لهما لا يقومان؟ لقد أصبح الفقير غنياً! أما كيف كان الغني فإنه لا يهم. . . لا يهم

ثروت أباظة

ص: 36

‌رسالة الشعر

خواطر لاجئة

للآنسة إلهام يوسف

تحت حرارة الشمس. . ورحمة الرياح. . مرت بي. . وأنا

أنتظر، وأنظر في صحيفة السيارة لأعود في معسكر

المهاجرين. . إلى البلدة (غزة) وكان بيننا حديث. فإليها وإلى

طفلها الرضيع. هذه الإناث. . .

إلهام

قالت. تسائلني. . وفي

ألحاظها ما يؤلم

ترنو إلى بنظرة

وكأنها تتكلم

وعلى يديها قطعة. . .

منها بصمت تحلم

قالت: أنرجع. . أخب

ريني. . إنني أتضرم

والشوق يحرقني إلى

وطني الحبيب. . ويسقم

والذكريات تهزني

بحنينها. . وترنم

أمسى هناك. . وهل سوى

أمسى الذي يبتسم؟

ألمرج هناك يدعوني إليه

والذرا. . والأنجم

والشاطئ الباكي على

صخر الأسى بتحطيم

والمنزل المهجور. . غ

ير رؤى الخيال تهوم

كل يناديني. . يقول

متى نعود. . وننعم؟

قالت: ولم أسمع لها. .

وكأنني لا أفهم

وزرت إلى. . بلهفة

وعيونها تستفهم

ومضت. . وملء مسامعي

منها. . صراخ مبهم

غزة

ص: 37

إلهام يوسف

ص: 38

‌أغنية جركسية

بلاد الأديجة. . . بلادنا الجميلة

// لا تتخلى عنا. . . يل أمنا المحبوبة

بلادنا الأديجة تقدمت البلدان. . .

نظامها يفوق كل الأنظمة. . .

جبالها البيضاء معممة. . .

أهلها رقاق الأجسام - رشقيو القوام. . .

غاباتها كالبحار غزيرة. . .

أنهارها صافية تروق العيون. . .

سماؤها وأرضها في الجود متساويان. . .

ذكورنا وإنائنا يتعلمون بالتقاليد. . .

يأخذون الآداب عن الطاعنين في السن. . .

هكذا كانت حياتنا بعضنا بعضا ويحترمنا الغير

وهكذا كان عصرنا مثاليا في - الأخلاق. . .

من ينزل عندنا ضيفاً نبالغ في إكرامه. . .

ومن يؤلمنا نشهر السيف في وجهه. . .

ولقد حاربنا عدونا الأكبر مائة عام. . .

آباؤنا لما هاجروا. . .

تركوا وراءهم وجاقات (مدافىء) البيوت. . .

ولما أبقونا صفر الأيدي. . .

أصبحنا تنخبط على وجه الأرض. . .

لما كنا في بلاد الأدبحة. . .

ولما كنا متجمعين غير موزعين. . .

بقاؤنا فيها بهذه الكيفية كان جل فخارنا. . .

نظامنا كان يسمو على العالمين. . .

نورز باكير

ص: 39

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

مشكلتي مع الأستاذ الزيات:

في لأسبوع الماضي ظهرت تعقيبات في صفحتين، وكان من المقرر أن تظهر في صفحات ثلاث، ومعنى هذا أن الصفي الثالثة قد تعرضت لقلم الرقيب، والرقيب هنا ليس إدار المطبوعات. . ولكنه الصديق الكريم الأستاذ الزيات!

كانت الكلمة التي حذفها قلم الرقيب هجوماً عنيفاً على أحد الوزراء. ومن الطرائف التي تدخل في باب المفارقات، أن الأستاذ الجليل صاحب الرسالة قد أنكر على أن أهاجم وزير واحداً، في وقت الذي لنفسه أن يهاجم خمسة وزراء. خبطة واحدة!!

لماذا أباح لنفسه أن يحاسب عدداً وافراً من أصحاب المعالي ثم حال بيني وبين صاحب معال واحد؟! هنا تكمن المشكلة مشكلتي مع الأستاذ الزيات، أو مشكلة وضعه الذي يفترق عن وضعي في محيط الأدب أو محيط الحياة. . إن الصديق الكريم رجل آثر الحية فابتعد عن الوظائف الحكومية، مثل هذا المجال الحر يستطيع الأديب أن يقول ما يشاء، وأن يهاجم من يشاء، وهو مطمئن إلى أن مركزه الاجتماعي لن يتعرض يوم لعصف الرياح. . أما أنا، أنا الموظف الرسمي في الدولة، فيا طالما أشفق على الصديق الكريم من حماسة الشباب وفورة الشباب وما يترتب عليهما من عنف القلم وجيشان العاطفة. يا طالما أشفق على من قيد الوظيفة حين أكافحه بجرأة القول وحرية الرأي وثورة الضمير. . ناسياً أن صداقته الغالية، تلك التي تحرص على التقاط الشوك من جوانب الطريق، طريقي الذي أفضل أن أسير فيه، هي وحدها الذي يحد في قوة التحفز وحرارة التوثب ومتعة الانطلاق!

إنها مشكلة لم تحل. . وكيف تحل والأستاذ الزيات نشفق مما قد يحدث لي وأنا مشفق منه، حريص على مستقبلي الرسمي وأنا غير حريص عليه؟! إن كل موظف يقرأ الرسالة سيسمح لألف علامة من علامات الدهشة أن ترتسم على وجه، وهو يسمع هذا التصريح العجيب من موظف مثله يقاسمه حظاً من حظوظ الحياة. . وليس من شك في أنه سيقول لنفسه بلغة الواثق المطمئن: لو كان صاحب التعقيبات محتاجاً إلى الوظيفة لما جهر بهذا الذي جهر به، لما أذن لقلمه في أن يعبر كما يريد. . ومن يدري، فقد يحلق الزميل القارئ

ص: 41

في كل أفق من آفاق الظنون بكل جناح من أجنحة الخيال، ثم يتصورني واحداً من أصحاب الضياع والقصور. لبست والله صديقي واحداً من هؤلاء. . ولكن إذا اتفقت معي على الفكر ثروة، فلا ضير من أن تسلكني في عداد الأثرياء!!

لقد حدثتك بالأمس عن مشكلة الأداء النفسي في الشعر، وحدثتك عن مشكلة الفن والحياة، وحدثتك عن مشكلة الفن والقيود، وبقي أن أحدثك اليوم عن مشكلتي مع الأستاذ الزيات. . ولست أدري أي خاطر طريف هذا الذي يلح على كمقدمة تسعى إلى نتيجة، أو كبداية ترمي إلى نهاية: ماذا يحدث مثلا لو تركت أصحاب المعالي وهاجمت الأستاذ الزيات، مدافعاً عن حريتي التي ظلمتها ودافع الود وأواصر الصداقة وروابط الوفاء؟ ماذا يحدث؟ ترى هل سيشفق الصديق الكريم على مستقبلي كمحرر في الرسالة، بعد أن أشفق عليه وعلى كموظف في الحكومة؟! هذا هو السؤال الذي ينتظر الجواب. ومع ذلك تبقي النهاية المتخيلة التي لم تخطر ببال الزيات، وهي أن إشفاقه على سيدفعني يوماً إلى أن أتحرر من أسر الوظيفة، وما كان أجراه أن يفكر طويلا قبل أن يشفق على، على أن يفكر طويلا في عواقب هذا الإشفاق!

هذه لفتة أرجو ألا تغيب عن فطنة الأستاذ الزيات. . ولا احسبني غالياً إذا قلت له إن مسلكه هذا سيرغمني يوما على أن أروع مكتبي في وزارة المعارف لأحل مكتبه في إدارة الرسالة؛ أن أروع مكتبي في وزارة المعارف لأحتل مكتبه في إدارة الرسالة؛ وأستطيع إذا ما قيل هذا اليوم المنتظر أن أفعل كما فعل فأهاجم خمسة وزراء خبطة واحدة، وليس بعيداً أن تلهمني الحرية أكثر مما ألهمته فأهاجم من أصحاب المعالي بدلا من خمسة. ويا ويل الوزراء من الأدباء الأحرار!!

نحن والديمقراطية الأدبية:

أنتم معشر الأدباء لستم إلا السراج الذي يقود الأجيال نحو الحياة الروحية الرفيعة، وأنتم حداة القافلة في كل عصر، تجبنونها مواطن الزلل، وتباعدون بينها وبين موارد الفتن ومزالق الأقدام.

هذه هي رسالة الأدباء في كل جيل، حتى أننا نقرأ في الأدب القديم فنجد أن كل أديب كانت له مدرسة تجمع حوله هواة أدبه الجم ويغدق عليهم من علمه الخصب، ويغرس فيهم طريقه

ص: 42

في الكتابة واتجاهه في الرأي هكذا كان أجدادنا رحمهم الله. . . أما أدباء اليوم فيكفيهم أن يطل الواحد منهم من خلال سطور يكتبها بين الحين والحين، أما أن يتحدث إلى الناس، أما أن يجمع حوله الشباب أمر دونه فرط القتاد!

لقد انصرف الشباب يا سيدي إلى ما نسميه بالحربية، يشغلون بذلك فراغ أوقاتهم، ويملئون به جدب أذهانهم، حتى أنك لو جلت جولة قصيرة في حرم الجامعة لوجدت هذا التطاحن العجيب، ولشاهدت ذلك الجدل البغيض. وليته كان حول مسألة علمية أو مشكلة فنية أو حقيقة فلسفية. . كلا، بل هو حول الأحزاب والحزبية!!

لم لا تجمعون الشباب حولهم يا سيدي، فيكون لكل أديب ناد ولكل عالم قاعة؟ لم لا يكون لكل أديب تلامذة في الأدب يتعدهم بنفسه لا بكتبه، وبرعاهم بعنايته لا بمقالته؟ ويأخذون عن شفيته لا عن قلمه؟ لم لا يكون هذا حتى ينرح إليكم الشباب من كل بيئة، ويقبلون عليكم من كل مكان؟ وحتى نرى بجانب هذا النقاش الحربي نقاشاً آخر من نوع جديد نقاشاً يدور حول الأدب ومذاهبه أو حول النقد واتجاهاته؟!

لم لا تعقدون اجتماعات أسبوعية أو شهرية يا سيدي، تجمعون فيها هواة الأدب من الشباب؟ إنكم لو فعلتم ذلك لقدمتم للشباب أجل الخدمات، لأن الناس لا يقنعون منكم بالتأليف فحسب، بل هم متشوقون إلى مجالستكم والاستمتاع إليكم والأخذ عنكم. . نريد منكم أن تفتحوا أبوابكم وصدوركم حتى تخلقوا شباباً يتعصب الأدب كما يتعصب للمبدأ، ويشرد من أجل الفكرة كما يشرد من أجل الحزبية، ويؤمن برسالة الأديب كما يؤمن برسالة الزعيم؛ أما أن تكتبوا لنا وبينكم وبين الناس حجب وأستار، فسيان عندهم قراءتهم للحديث وقراءتهم للقديم. . ولا عجب أن تكون شكواكم حارة من قلة القراء!

محمد محجوب عمر

كلية دار العلوم

نريد منكم أن تفتحوا أبوابكم وصدوركم حتى تخلفوا شبابا يتعصب للأدب كما يتعصب للمبدأ، ويشرد من أجل الفكرة كما يشرد من أجل الحربية، ويؤمن برسالة الأديب كما يؤمن برسالة الزعيم. . بهذه الكلمات الصادقة يختم الأديب الفاضل رسالته، وينتظر من هذا القلم

ص: 43

رداً يقوم مقام التعقيب.

إن ردى على الأديب الفاضل هو أن أقول له: إنني أومن بهذا الذي تؤمن به، وأدعو الله أن يملأ بمثل هذا الإيمان نفس كل أديب. . إن الأدب الحق يا صديقي لا يعرف الأبراج العاجية، تلك التي تقطع كل صلة بين صاحبها وبين الناس. وما هي رسالة الفن إذا لم تكن مشاركة وجدانية بين الفكر وبين مشاهد الحياة، وبين النفس وبين مشاعر الأحياء؟ وما هي قيمته إذا عجز عن أن يربط بين القلوب بتلك الخيوط الإلهية غير المنظور، تلك الخيوط التي تنسج أثوب الحق والخير والجمال؟! إن الأدب ديمقراطي عند الذين يحسنون فهم الديمقراطية، ويقدرونها على أنها لون فريد من الألفة والتعاطف والإيثار. وهكذا أفهم الأدب وهكذا أقدر رسالته، وما تعودت يوما أن أغلق منافذ السمع والشعور في وجه كل صيحة تهز فجاج النفس وتزحم مسارب العاطفة.

إن لي في (الرسالة) بابا هو باب التعقيبات، كم فتحته على مصراعيه لكل قارئ وكل أديب ولي في (وزارة المعارف) باب آخر كم فتحته لكل طارق وكل غريب، ولي في (الجيزة) ندوة أدبية يقصدها هواة الفن وعشاق الأدب من هنا وهناك. . وما أكثر زوار الندوة وطراق البابين من القراء والأدباء! أنا يا صديقي لست من أصحاب الأرستقراطية الأدبية حين ألقى الناس وجهاً لوجه أو حين ألقاهم بين السطور والكلمات، وإذا كان غيري يميل إلى هذه النزعة فهو ميل مركب النقص حين يسعى وراء شيء من مركب التعويض. . ولست من متصنعي الأستاذية المظهرية حين يجلس إلى أديب زائر دون معرفة بيننا ولا سابق لقاء، لأن الأستاذية لا تكتسب بالمظهر المتكلف ولا بالسمت المزيف ولا بالوقار المصنوع، وإنما تكتسب باللمحة الواعية والفكرة الخالقة والذهن اللماح!

على الأديب الفاضل أن يطمئن إلى هذه الحقيقة، وهي أن ديمقراطية الأدب بعيدة كل البعد عن تلك الحجب الصفيقة وما يشبهها من أستار، وأنها إذا تقبلت الأستاذية فإنما تتقبلها مدثرة بوشاح التواضع العلمي حين يكون هدفه البعث الصادق والتوجيه الأمين. . أما عن تساؤله لماذا لا يكون لكل أديب ندوة ولكل عالم قاعة، فلعل الحياة الأدبية والعلمية في مصر لم يبلغ من النضج واكتمال الأداة بلغته في بعض البلاد الأوربية، سواء أكان ذلك في ميدان الأديب أو العلم من ناحية أقصابه أم من ناحية طلابه، وليس من شك في أن تعادل

ص: 44

الكفتين هو الكفيل بتحقيق هذا الأمل الذي يداعب خيال الأدباء، والذي نرجو مخلصين أن يتحقق في مقبل الأيام!.

شكا من الأزهر:

إن أحزن على شيء فلا إلا على نفسي كأزهري يحل بمستقبل بسام، ويرنو إلى مدارج العزة التي يريد الوصول إليها بوسيلة مفيدة!.

وكيف لا أحزان يا صديقي وأنا صديان لا أجد المورد العذب الذي يشفي غلتي، وأنا ناقص البناء أبحث عن اللبنة التي تتم هيئتي فلا أجدها، وأنا حائر بين مفترق الطرق وعواطف الآراء لا أدري إلى أبن المفر؟!.

نعم، لا تعجب يا صديقي. فإنا طالب بكلية أصول الدين أدرس العقيدة دراسة أشد تعقداً من ذنب الضب. . لا أكاد أصل إلى نتيجة في بحث إلا وأجدها مهددة باعتراضات بيزنطية أشد فتكا بالعقول من القنابل الذرية! ثم ماذا؟ لا شيء، لا ذخيرة لا علم يساير العصر ولا فكرة تستطيع أن تقف على قدميها لترى كيد الطوائف، تلك التي وجدت لتنخر في عظام الإسلام. فهناك طائفة الوهابية الإسماعيلية وطوائف أخر، تتحدى وتنذر وتبذر بذور الشك في عقيدة المسلمين على مرأى ومسمع من علماء الإسلام الذين أطالبهم معي آلاف الشباب الأزهريين بأن يضعوا حداً لهذه المهزلة العلمية، وأن ينتخبوا إنتاجا يتحصن به أبناؤهم الأزهريين وغيرهم ضد هذه التيارات المتباينة والآراء الخطيرة!.

ولست بأول من جهر بهذا الرأي فقد سبقني إليه أساتذة إجلاء أذكر من بيتهم أستاذي الدكتور محمد يوسف موسى، ولكني أجهر به ونار الواقع تلهمني، ويكاد الأمل البسام أن يفلت مني!.

ولقد حظيت بقراءة من وضع الأستاذ الكبير الشيخ أبو زهرة في قسم وهو بكلية الحقوق، فعجب أيما عجب، وقلت في نفسي المكلومة أمام شباب جامعي، أيدرس هذا لشباب الجامعة المدنيين؟!. . وكلية الشريعة تدرس الدماء الثلاثة، وتضيع وقتها في باب العتق والطهارة، والقواعد التي لا قبل لها بتطبيقها على مسائل الظروف الحاضرة؟!.

وقلت في نفسي أيضاً وهي تنفطر: لماذا لا يجتمع علماؤنا على خير؟ لماذا لا يحققون المسائل العلمية ويطبقونها على مقتضيات العصر؟ لماذا لا يسيرون في موكب الحياة؟ ثم

ص: 45

لماذا هم لا يقدمون! ترى هل يطالعنا الأستاذ المعداوي برأي في هذه المشكلة؟ إننا لمنتظرون.

محمد إبراهيم الخطيب

(كلية أصول الدين)

يريد مني الأديب الفاضل رأيا في هذه المشكلة. . أشهد أن لدى بدلا من الرأي الواحد مجموعة من الآراء. وحين أمسك بالقلم لأسجل لآرائي حول هاتين الناحيتين. لماذا تعثر الأزهر وكيف ينهض الأزهر، توقفت. توقفت لأنني رجعت إلى نفسي ورجعت إلى الواقع، وتذكرت أن هناك مشكلتين لا جدوى من الكتابة فيهما بعد أن بحت الحناجر وجفت المحابر وضجت الأقلام. . الأولى هي مشكلة القراء والثانية هي مشكلة الأزهر!

أريد أن أقول إننا لو كتبنا ألف مقال لنحث الناس على القراء فلن الناس على القراء فلن يقرأ الناس، وإننا لو كتبنا هذا العدد أو زدنا عليه لنلفت المسؤولين إلى إصلاح الأزهر فلن يصلح الأزهر. .

حسبنا إذن أن نترقب معجزة من السماء تنهي المشكاتين بعد أن أخفقت جهود البشر. وياله من أمل ذلك الذي نتطلع إليه وقد انقضى زمن المعجزات!!.

أنور المعداوي

ص: 46

‌البريد الأدبي

طه حسين الشاعر

أتاح لنا حضرة الباحث المطلع الأستاذ محمد سيد كيلاني فرصة التعرف على جانب هام في أدب معالي الدكتور طه حسين باشا في العدد الماضي من الرسالة الزهراء فشرح كيف قرض الدكتور الشعر في الصبا والشباب، ودلنا على ما كان يفيض به ذلك الشعر من بدوات وأحاسيس إلى آخر المقال القيم.

ويختتم الأستاذ كيلاني بحثه بقوله: (ولكن الشاعر منذ سافر إلى أوربا في عام 1914 لم ولا بيتاً واحداً. فقد هجر القريض هجرا تاما. ونسى الناس هذا الشاعر الموهوب، بل ربما يكون هو نفسه قد نسى شعره).

والذي أفهمه جيداً أن معالي الدكتور طه حسين باشا لم يهجر القصيد هجراً تاما عام 1914، فالناضر في كتابه الرائع (على هامش السيرة) لا بد واجد شيئا غير فليل من شعره الجميل منبثا بين ثنايا النثر، وهو أمر لا يلمحه غير شاعر أو عروضي. . .

وأذكر أن الأستاذ دريني خشبة أول من لفت الأنظار إلى تلك الناحية في أثناء كتابته عن الشعر المرسل، ولولا وجودي الآن بعيدا عن القاهرة لأوردت البرهان القاطع، وفي الذاكرة من شعر الكتاب المذكور هذا الكتاب:

أقبلت تسعى رويدا

مثلما يسعى النسيم

هذا والأستاذ كيلاني تحياتي وإعجابي

كلية الآداب

محمد سلامة مصطفى

طهروا الأزهر من الحزبية:

يا أولي الرأي في الأزهر ويا أصحاب الفضيلة، هبوا فأنقذوا الأزهر من هذه الواهدة المترعة بقذارة الرغبات إلا وهي الحزبية العمياء التي بذرت في نفوس أبنائه الشقاق، فتشتتت صفوفهم كلمتهم، وصاروا لا يعلمون إلا بوحي القادة ولا يسيرون إلا على هدى الزعماء، وأسدلت هذه من ظلماتها الحالكة، فنسوا أنهم رجال الدين وأن عليهم واجبا نحو

ص: 47

وطنهم وأنفسهم، وأن ما يجري بينهم ليس خلقيا بهم ولا جديراً بأمثالهم، وأنهم بذلك قد فقدوا وازع الخلق، ومزقوا دستور النظام ووطئوا بأقدامهم قداسة الدين وحومة العلم.

أليس عجيبا - أيها الأزهريون - أن يصير الطالب خصما لدودا لأخيه إذا أبصر به الطريق ازور عنه ونفر منه، فهل بهذا الوضع يرجى من أمثالهم عدة للوطن، ورجالا يعملون إعزاز مكانته ورفع لوائه. وأعجب من ذلك أن تتعدى هذه الشحناء إلى معارك يتبادل الطلاب فيها ضرب الهراوات التي يتخذونها من مقاعد العلم التي طالعها السيئ وحظها المنكود.

وأنها لمأساة كبرى أن تنقلب معاهد العلم ومنابع والعرفان إلى أمكنة يسرى فيها لهيب العداء وتصطلي بنار الفوضى والاضطراب، ولا تلقي من أبنائها إلا بعدا عن العلم وفرارا من الجد وجريان وراء الرغبات الحزبية والمنافع الشخصية، وحبا في إحداث المشاغبات وعدم سير الدراسة في هدوء حتى أننا - وأيم الله - من ابتداء هذا العام إلى الآن لم نحضر أسبوعا كاملا بدون إضراب. فيا قام (لن يستقيم الظل والعود أعوج) فيها طهورا الأزهر من هذا الوباء وقوموا هذه النفوس الحاسدة عن سواء السبيل وألجموا هذه النزعات الكاذبة فهي بلاء مستطير وشر خطير. وليس من الواجب أن يترك هذا الجيش الأزهري يتخبط في دياجي هذه الحزبية وغيابها فمغبة ذلك لا يحمد أثرها ولا يستطلب ثمرها.

وانتم أيُها الشباب قيئوا إلى أنفسهم وحاسبوا ضمائرهم، وانتقوا بكم وثقوا أن مطالبهم لن تحقق إلا باتحاد قوتهم وعزيمتكم وترك هذه الحزبية وراءكم فهي قد باينت رغباتكم وفرقت قلوبهم ونفوسهم، وإن كانت مطالبكم لم تحط من الأداة الحكومية إلا بنسيان والوعود والإهمال.

وجاهدوا فالله ولن يتركم أعمالكم.

م. ع. الدسوقي

معهد طنطا الثانوي

لنصر أخاك ظالماً لو مظلوما

جاء في البريد الأدبي من الرسالة الغراء (911) الصادر في 18 ديسمبر كلمة موجزة

ص: 48

للأستاذ عبد العظيم هاشم اعترض فيها على جزء من كلمتي: (شعر الحماسة عند العرب) المنشورة في الجزء (909) من الرسالة الغراء.

فقد ورد في كلامي بصدد العصبية الجاهلية ذكر المبدأ الجاهلي: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فقال عن ذلك (ولا أرى معنى لإيراد هذا الحديث الشريف في هذا المقام. . . وأضاف أن ذكره (خروج بالحديث الشريف عن معناه وانحراف عن قصده ومرماه) ثم عزز قوله برواية الحديث عن البخاري ولم تفته الاستفادة من بلاغة الصمت فذكر الحديث من غير تعليق.

إن عبارة: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) كلمة جاهلية بمعناها السافر قبل أن نروي حديثاً بعد تخريجاً سليماً يلائم نظم الإسلام. قال الأستاذ صاحب الرسالة في بحثه أحوال العرب الاجتماعية: (أما علاقة أبناء الأسرة بأبناء القبيلة فجماعها (بضم الجيم وتشديد الميم) مدلول هذه الكلمة الجاهلية: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً).

وذكر الميدان هذه الكلمة هذه الكلمة فقال: (يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ فقال (ص) ترده عن الظلم. قال أبو عبيدة أما عبيدة أما الحديث فهكذا. وأما العرب فكان مذهبها في المثل نصرته على كل حال. قال المفضل أول من قال ذلك جندب العنبر من تميم ثم ذكر قصة ارتجال ولا حاجة لذكرها وأحسب أن الدكتور أحمد أمين يشير إلى الكلمة الجاهلية في بحثه عن حالة العرب الاجتماعية بقوله. (وأفراد القبيلة متضامنون أشد ما يكون التضامن ينصرون أخاهم ظالماً أو مظلوماً).

والظاهر أن هذه الكلمة من منحول الحديث فمن الصعب أن نصدق أن الرسول الكريم وهو سيد البلغاء يستعير كلمة جاهلية. أما ما يبعث الشك في صحنها فهو اختلاف رواية الميدان عن رواية البخاري فقد ذكر الميداني (نرده عن الظلم) وذكر البخاري: (تأخذ فوق يديه) ولم أجد فيما راجعت عن المعاجم (يأخذ فوق يده) وإنما المذكور (يأخذ على يده أي يمينه). ثم ما حاجة المسلمين إلى مثل جاهلي لا يلائم نظم الدين الحنيف إلا بعد التخرج والتوجيه وعندهم قول القرآن الكريم: (وتعالوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)؟

والظاهر أن نسبة الحديث إلى أنس وهو صاحبي كريم استدرج لتصديق الناس. قال الدكتور محمد حسين هيكل: (ومع ما أبداه جامعوا الحديث من حرص على الدقة لا ريب

ص: 49

فيه فقد جرح بعض العلماء كثيراً من الأحاديث أثبتها جامعوا على أنها صحيحة. قال النووي في شرح مسلم (قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشر طهما فيها ونزلت عن درجة ما النزماه) يقول النووي في كلامه السابق قد استدرك (جماعة) على البخاري ومسلم واستدراك هؤلاء الجماعة شيء معقول فقد روى البخاري سبعة آلاف حيث فإذا أسقطنا المقدار المكرر وهو ما يقرب من ثلاثة آلاف حديث فإن الباقي أربعة آلاف حديث وهو رقم بعيد لا يصله البخاري ولا غيره قبول كثير من منحول الحديث.

وقد عارض القرآن الكريم روح العصبية التي أشار المثل وخفض منها بالتدرج إلا أنها لم تستأصل فقد بدأت أن تنتعش منذ أيام عثمان وظهر أثرها واضحاً في معركة مرج راهط فقد كان أغلب جيش الضحاك بن قيس الفهري قائد ابن الزبير من عرب الشمال وكان الكلبيون جنود بني أمية من عرب الجنوب فثأرت الحزازات المستورة وصرح عن عصبية كامة امتد أثرها حتى جعلها المؤخرون من أسبا هزيمة الجيش العربي في فرنسا.

وذكر الدكتور فليب حتى (أن هذه الخلافات العصبي ظلت حتى الأيام قائمة في لبنان وفلسطين إذ روى لنا التاريخ أن معارك قامت بين الحزبين: (الشماليين والجنوب) في أوائل القرن الثامن من عشر).

وليست هذه العصبية وقفاً على العرب دون سواهم وليست هي خاصة بعصر من عصور أو قطر من أقطار دون غيره فقد رأينا كثيراً من الغ ربيين في الشرق يجعلون التعصب الأعمى لأبناء وطنهم على غيرهم دستوراً في حياتهم ومعاملاتهم.

وأضاف الأستاذ عبد العظيم إلى الكلمة الأخيرة من أسمى الكامل كلمة (عبد) فصيرها (عبد الرحيم) وهذه الإضافة أما من استبداد السهو بالقلم أو أن الأخ يرى كلمة (رحيم) من الأسماء الحسنى لا يجوز أن يسمى بها شخص من غيره تعبيد. وعلى الاحتمال الثاني أقول أن (رحيم) بمعنى الفاعل من أسماء الله الحسنى وبمعنى المفعول من غيره فإنتفى الحرج. وقد ورد في مختار الصحاح وغيره: و (الرحيم) قد يكون بمعنى المرحوم كما يكون بمعنى الراحم)

وأحمد للأستاذ هذا الاهتمام وأشكره.

الحلة (العراق)

ص: 50

أحمد حسن الرحيم

ص: 51

‌القَصَصُ

دمعة فاجر!

للأستاذ عبد اللطيف الشهابي

(. . . إلى الذين تاهوا في فلوات الغي والضلال. إلى الذين

ابتعدوا عن المورد العذب. إلى فرسان الضباب. . أقدم هذه

الأقصوصة!!).

يالي من عربيد فاجر!.

كنت أجري وراء اللذات، أينما حلت وحيثما ارتحلت، كنت أشتريها بأي ثمن كان، فأندفع إليها اندفاع الطائش المغرور، وأنا غائص في الأوحال. أعمى من رماد الزمن. . تصرعني الجذوة الحمراء وهي تلح ذروة سعيرها!

رافقت الشيطان في رحلته، ورقصت معه على أشلاء الفضيلة ونحن نردد أغانينا المحبوبة: في رقصتي عطر وكأس وجسد!.

كنت أقصى الساعات والليالي بين صخب وعربدة ومجون بين قصف ورشف وأنعام. . تبهرني الأضواء الساطعة، وترسل صداها في نفسي، فتركني مغموراً بدنيا أسراري، بدنيا لذاتي متطلعاً بلهفة قائلة، لعلي أفهم كنه ذلك السر المجهول!

كنت أسير عواطفي، أتقلب بين الشك ويقين، بين الكفر وإيمان، بين حيرة ورشاد. . أندفع بكياني رغم كل شيء، فتتراءى لي من بعيد، من هنالك أخيلة وهواجس، رؤى وأحلام، أنوار وسراب. . فأنسرب في المجهول وأنا غير هياب، أفتش عن سر دفين، عن تلك القوة الهائلة التي تجذبني قسراً إليها، فتحطم أغلال إرادتي. . فأندفع اندفاعه طائشة، وأنا أرتجي الخطوة، أرتجي الأمل الذي يتراءى لي من بعيد - كما أتصور ذلك - فبقيت في حيرتي هذه بين مد وجزر، أفتش عن كل شيء، أريد كل شيء. . . ماذا أريد؟! أريد طريقي!. وأي طريق؟! طريقي القهقري، طريقي الوعر اليابس!! أريد مواكبي! وأي مواكبي؟! موكب الذكرى، مواكب الشباب المضر، موكب التوبة. . ولكني كيف؟! وقد فاتني الشباب،

ص: 52

وقد غصت في الأوحال، واندفعت في الخطيئة إلى أبعد مراميها!.

أجل كنت هكذا. . لا أعرف سبيل التوبة ولا طريق الغفران. . قل عني ما تشاء أيُها القارئ. . قل إني فاسق حقير سافل! ولكني تمهل قليلا حتى أسرد لك هذه القصة التي بدلت وجه حياتي. هذه القصة الفاضلة بين لذتي وزهدي بين غوايتي وهدايتي!. بين أغنية الشيطان وبين تسابيح وغفران. . . هي قصة حياتي أقصها كما هي.

(. . . حثثت خطاي الحمر. والجذوة الصارمة تفتك بي وتدفعني بقوة هائلة. . إلى هناك، إلى أحد تلك البيوت السرية المنتشرة في الجانب الغربي من بغداد. وكان معي صديق عزيز، يشاركني وأشاركه في كل شيء لا يتركني في أي لحظة. . . سار. . . من هو؟. . . أنه. . . الشيطان، ذلك الدليل الخبير!.

أجل سار معي إلى هناك في طرف بعيد منعزل، في محلة حقيرة من المحلات، يطلقون عليها اسم (محلة الذهب)، ولا أدري أسماها بهذا الاسم؟! ولم أطلق عليها هذا النعت؟! الآن الذهب يسيل من أصابع روادها، فيغور ويختفي في خزائن أهلها؟.

ودخلنا أحد المواخير، أنا وليلى. . . دخلنا متلصصين، دخلنا نطلب المتعة ونغوص في الآثام!.

وفي غرفة حقيرة، تكاد تكون مظلمة، لولا ضوء خافت يتأرجح من مصباح زيتي معلق في ركن من أركانها: جلسنا هناك على أريكة متداعية، راحت تئن تحت ثقل أجسامنا! ورحت أنقل بصري في أرجاء هذا الخداع، إن جاز لنا أن نسميه مخدعاً. وإلا فهو أشبه ببيت أرملة فقيرة أتت على البقية الباقية من مخلفات زوجها؛ فلم يبق منها ما يستحق الذكر، أو ما يستحق أن تبيعه! هناك سرير قديم محطم الأوصال مزعزع الأركان، عليه فراش قذر تمزقت أطرافه، وأطلت منها بجزع شديد بقايا من صوف أدكن، وكأنه امتزج بحفنات من طين.

وربطت فوق هذا الفراش ستارة بالية مهلهلة، توارى لونها الأبيض وحل مكانه لون قاتم سقيم. . وتناثرت هنا وهناك بقع جامدة كأنها عيون فاجرة، أو كأنها بصقات الشيطان.

وعلى الجدار. . علقت حصير صغير عض عليها الزمن فسلب ألوانها، وكأنها شعرت بهذا الخزي الفاضح فراحت تتلاشى في الجدار، وتختفي وراء صور باهتة ممزقة انتزعت من

ص: 53

مجلات عديدة. وفي طرف آخر، وقرب نهاية السرير، علقت مرآة كبيرة قد تخر الدود إطارها الأسمر، فأصبحت كخلية نحل مهجورة فباتت الصراير فيها وتصفر.

جلسنا هناك، أنا وصديقي، تفضي ليلة حمراء، ليلة صاخبة رعناء. وبقينا هنيهة جالسين، تنتظر شريكتنا وهي فتاة ممشوقة القوام، ريانة العود. اخترتها حين دخولي في هذا الوكر.

وران علينا الصمت. . . فبقيت أتملى في أرجاء المخدع. . . ماذا؟! لا أدري ماذا اعتراني؟! كأن عيني في تلك اللحظة لم تألفا رؤية هذه الأشياء، وكأنني لم أتردد إلى مثل هذا المكان من قبل. . . تخيلت في تلك اللحظة أن عيوناً ترقبني وتترصد حركاتي، وكأنني أرى وجوها تتطلع إلى باحتقار واشمئزاز، فأخذت أضغط على نفسي وأعتصرها بقوة، لعلها تهرب من هذه اللجة الطاغية، من هذه السور العاتية. . . أردت أن أفر من تلك الكابوس المخيف الذي استولى على في تلك اللحظة. . . عند ذلك، وفجأة امتدت يدي إلى جنبي وأخرجت زجاجة صغيرة بيضاء، لأغسل جوفي بما فيها من سائل أبيض كالحليب!. . . وبعد لحظات قصار شعرت ببعض الهدوء يسيطر على نفسي، وببعض الاستقرار يدب في أحاسيسي وهي تحرر في عنف وجنون. . . ولم أشعر آخر الأمر، إلا أنني أستفيق من شروري على كف بضة تمتد إلى برفق ولين فتربت على كتفي!. فرفعت رأسي قليلا وكأنني قد نسيت تماما أين أنا؟! وماذا أريد؟! ومن جاء بي إلى هذا المكان؟! ولكن. . . تذكرت بعد أن ارتفعت ضحكة ماجنة في فضاء الغرفة وإذا بها غانيتي التي ستشاركني ليلتي هذه. . . وكانت قد أخفت قسمات وجهها وراء أصباغ ومساحيق. . . وراحت نحو السرير بخطوات متعثرة واهنة واستقلت عليه بإعياء شديد.

وبقيت في مكاني، كأنني قد سمرت على المقعد، أو كأن أغلالا قوية قد ربطت جميع أطرافي. . . يا للهول!! ماذا أحس؟! وماذا أرى؟! زاغت نظراتي، إلى هناك، إلى تلك المرآة المعلقة على الجدار، فتطلعت إلى صورتي، إلى قسماتي!! وحملقت فيها مشدوهاً وفتحت فمي كالمرعوب، وأردت أن أنطلق بشيء، أن أزعق، أن أصرخ. . . ولكن. . . ولكن الكلمات احتبست في عنقي، وغاض السخط في نفسي. . . أتلك هي صورتي؟! تنطلق بالرجس والخسة، تنطلق بالشر والجريمة. . لقد أنكرت كل شيء، ورحت التفت حولي، وأردت نظراتي فسقطت لاهثة متعبة على جسد تلك الأنثى، ذلك الجسد الذابل

ص: 54

المنهوك التي تفوح منه رائحة المعصية. . لقد تخيلته في تلك اللحظة - ولا أدري لماذا!؟ - جيفة نتنه تطفو على مستنقع آسن، تصورته أشلاء متناثرة وأعضاء آدمية مشوهة لطخت بالدماء والأوحال!!.

فثارت نفسي ثورة عاتية، ثورة صاخبة. . . ورأيتني وبدون أن أشعر، أتحفز الوثوب والانقضاض. . . على من؟! وتلفت حولي فلم أجد من أستحق عليه لعنات ثورتي، لم أجد هنا غير هذا الجسد المستباح، غير الفريسة المستسلمة الخانعة وهي لا تزال في ضجعتها على السرير. . . وكأنها اطمأنت لهدوئي وسكينتي فراحت تستريح من وصب الحياة، بل راحت تسترد قواها المنزوفة طيلة النهار.

ورحت أنظر إليها متهالكة تنظر إليَّ نظرة عطف وإشفاق. . . بل رحت أقارن بيني وبينها: إنها ضحية مجتمع فاسد ونظم بالية سقيمة!. لقد دفعتها الأوضاع الشاذة في طريق الإثم والجريمة، بعد أن امتدت إليها أصابع الزمن العاتية، فاستلت منها خيوط الرجاء والسعادة، فأصبحت مومساً فاجرة تعيش قسراً بهذا المحيط الموبوء، وهي موصومة ببصقات الاحتقار. . . إنها عرض مهدر وشرف مضيع يعبث به من يشاء، بثمن زهيد!

وأنا. . . عربيد فاجر. . . ولا أقول ضحية ثانية من ضحايا هذا المجتمع. . . أنا دفعت بيد هذه المسكينة وبأمثالها من بنات حواء، إلى مثل هذا الطريق الشائك، طريق الإثم والغواية! وجررتها إلى مثل هذه الحياة الملتوية القذرة. . . فالويل لي ولأمثالي من أبناء آدم، والويل كل الويل لأمة لا تستطيع أن تكفل لأبنائها لقمة العيش!

وفجأة، شعرت أن بركاناً ثائر الأنفاس كان قد انبثق في تلك اللحظة في أغواري، وأحسست أن جميع أدراني وأوزاري قد تساقطت على الأرض الواحدة تلو الأخرى، وكأنني شعرت بموجة من الندم تطغى على مشاعري، وأن شعاعاً لذيذاً تسرب إلى أوصالي، فراح ينير لي تلك الزوايا المظلمة من جوانب نفسي ونوع من الشعور لم أعرفه من قبل: هذا عجب! إن روحي تغتسل في هذا الفيض الإلهي الذي يغمرني. . . فأصبحت لساعتي - وبهذه السرعة - ثائراً على الأوضاع والتقاليد ساخطاً على أهل الصلف والعجرفة من الأغنياء، كارهاً لدهري الطاغي، ناقماً على المجتمع الذي احترف الخداع ودرجة على الشر والظلم، فراح يسدل على الحقائق ستاراً من العفة الكاذبة والورع المصطنع!

ص: 55

كل هذه الثورة قذفتها على العالم، على هذا الكون المائج بالخبائث والمنكر، وأنا لا أوال على المقعد لا أريم؛ عند ذاك قمت من مكاني وأنا في أشد حالات الهياج والسخط، قمت لأصب غضبي، لأقذف شتائمي ولعناتي. . . ولكن على من؟ وليس أمامي غير هذا الجسد النضو الطليح، غير هذه الضحية البريئة التي تحركت من مكانها ونهضت جالسة حين أحست بخطواتي تقترب منها. . . وجلست بقربها، وأخذت أحدق بعيونها، فوجدتها جميلة أخاذة، يشع منها بريق فيه ذل الوضيع، فيه ثورة المتكبر! وعلى قسماتها لاحت ومضات إنسان ثائر تلتمع من تحت رمادها جمرات من أنوثة ملتهبة!

وراحت تحدثني حديثاً عابراً لا شيء فيه، فكأنها اطمأنت إلى هدوئي ودعتي، وكأنها استقرت على رأي قاطع، تكهنت في أمره فلم أظفر بهذا القول الذي قطع على تصوراتي، قالت وهي تبتسم ابتسامة مغتصبة:

- بربك. . . خبرني ماذا تريد؟! لقد حيرتني. . .

فأجبتها وأنا على حيرة من موقفي هذا:

- جئت لأعرف قصتك!.

قلتها وأنا متهيب، فأجابت على الفور:

- قصتي؟!

وانفلتت منها ضحكة تخيلتها عواء مبحوحاً انطلق في جوف ذلك الليل المختنق الأنفاس، ثم أردفت وهي عابسة:

- قصتي. . . هذا بديع. . . إذن أنت لم تطلب مني لذة الجسد.

- لا. لا. . . أريد قصتك، الحقيقة أصارحك القول جئت أول الأمر في طلب اللذة، ولكنني الآن عدلت عن رأي، فلم أطلب منك شيئاً غير قصتك. . . وكفى.

وراحت تتفرس في وجهي. . . وكأنها تريد أن تنفذ إلى أعماقي لتستجلي السر الدفين الذي دفعني لأن أطلب منها هذا الطلب اليسير! ولما اطمأنت إليَّ وعرفت صدق قولي ونبل غايتي، ابتسمت قائلة:

- إذن سأكشف لك عن جراح قلب أدمته الأيام. . . قصتي أيُها الصديق تتلخص في سطور قليلة، ولا حاجة هناك للشرح الطويل والمقدمات المسهبة: تزوجت من شاب أحببته

ص: 56

وأحبني. . . وبقيت سعيدة هانئة في ظلال الزوجية. . . ومرت ثلاثة أعوام كلها صفاء وبلهنية!. ومن ثم ضحكت الأقدار هازئة ساخرة، وانقلبت الكأس الحلوة، فانثالت قطراتها على اليباب!. مات زوجي مصاباً بالتدرن الرئوي وتلفت حولي فلم أجد فسخة من الأمل المنتظر، لم أجد في هذه الحياة من أركن إليه وأستظل تحت جناح رحمته، لم أجد من ينقذني مما أنا فيه. وأظنك ستسألني عن أهلي. لقد مات أبي بعد زواجي بأيام قلائل، وتبعته أمي بعد عام واحد. . . أجل لقد بقيت وحدي ضالة شريدة، حتى التقطني رجل فاجر سكير، كان قد افتتح له محلاً في شارع (الرشيد)، وقد أطلق على محله (وسيط الخدم). . .

- وسيط الخدم!!

- أجل. . . وهذا الوسيط باعني بدوره إلى تلك السمسارة التي رأيتها عند دخولك هذا المكان وهي جالسة عند الباب الداخلي وتراني ملهاة لكل من ينهد الإثم والخطيئة، أغوص في هذا المستنقع العفن، هالكة مع رغبات الرجال، أمنح نفسي لطلاب اللذة والجسد، وللكلاب المنتشرة الحائمة على الجيف، أرافق فرسان الضباب في غزواتهم ونزواتهم!.

انتهت من قصتها وأنا أتطلع إلى وجهها الذابل وقد التهبت خلفت هذا الذبول تلك الشعلة التي اعتصرتها أصابع الزمن، وخنقتها أحضان الفجور. . . فأطرقت خجلاً وحياء. . . ممن؟! لا أدري!! ولكنني شعرت بأنني أغوص إلى أذني في العار والإثم، وأنا أسمع من بعيد ضحكات عريضة مجهولة تتجاوب في أنحاء الغرفة!. تلك كانت ضحكات الشيطان!

ونظرت مرة ثانية، إلى تلك المرآة المصدئة. . . فرأيتها. . . يا للعجب! قد انجلى الغبار عنها، وتساقطت تلك الأقذار التي كانت تغطي وجهها الصقيل، فإذا بها تتلألأ بأنوار ساطعة ولمعان غريب، ينفذان إلى الأعماق. وسقطت نظراتي هادئة رخية، ورحت أتفرس في قسمات وجهي. . . أحقاً ما أرى؟ أراها مشرقة لامعة، تشع بأنوار زاهية، ببريق ساحر أخاذ لم أعهده منذ زمن بعيد. . . منذ عشر سنوات، عندما كنت، في ذلك الزمن: أدرج في النور، وأتعشق الهدوء والاستقرار، كالطفل البريء ببسمتي الضاحكة وأساريري المشرقة. . أجل كنت هكذا قبل أن أخوض هذا الخضم المتلاطم، قبل أن تجتاحني أنواء الزمن العاصفة، قبل أن اشترك في معركة هائلة، أصبحت فيها حليف الشيطان وعبد شهواته،

ص: 57

أسير في موكبه طائعاً ذليلاً. . . قبل أن أكون سيد ضميري وعبد إرادتي، قبل أن أكون من راكبي الآثام والموبقات. . . قبل تنتصر جيوش الرذيلة الفاتكة على فلول الفضيلة المنحدرة. . .

والآن. . . وفي هذه اللحظات، وبعد هذا الانقلاب الفجائي، حلفت نفسي تفتيش عن طريق المتاب، تريد أن تحرق دموع الندم على عتبات المستقبل القريب.

وتلفت حولي في أرجاء المكان، وهناك امتدت نظراتي تفتش عن منفذ للخلاص، عن طريق مستقيم، عن منقذ جبار أفزع إليه بعد إخفاق الأماني. . . فرأيت صديقي، ذلك الشيطان قد نحر نفسه خائباً على عتبة هذا المخدع الذي ارتفعت في فضائه ألحان التوبة والغفران، من قلوب طهرتها الأيام وغسلتها دموع الندم والاعتراف.

وعاودت أنظر إلى صاحبتي، فرأيتها تبكي بدموع غزيرة راحت تتساقط كاللؤلؤ المنثور على خديها وتنساب على وسادتها. . . يا لها من دموع طاهرة نقية. يا لها من لحظة عصبية كشفت أمامي سر هذه الروح المعذبة الملتاعة، هذه الروح التي صفدتها أغلال الغواية، أغلال الإنسان الآثم الجاحد. . . هذه الروح التي هصرتها يد الطغاة الظالمين، فتركتها نفاية حقيرة ملقاة في زوايا النسيان.

وطغت على موجة من الإشفاق والحنان، موجة استحوذت على كيان وشغلت أحاسيسي، فصممت على أمر عظيم، أمر أقل ما يوصف به إنه عمل إنساني يثلج له صدري، وأستحق عليه مرضاة وجه ربي ومغفرته، لعله يمحو ما بذمتي من عقوق وكفران! فأمسكت بيدها ورفعتها إلى فمي لأطبع عليها قبلات حري، قبلات استفزت فيها عصى الدموع، تلك الدموع التي كنت أضن بها يضن الشحيح على كنزه. وتلفتت نحوي كأنها تستجير بي، كأنها تريد أن تقول لي: أهرب بي من هذا الأتون المتهب، من هذا الجحيم المسعور. . . هيا. . . هيا.

ولم أشعر بعد ذاك، إلا أنني أمسك بيدها وأخرج بها مسرعاً من الدار، كما لو كانت ترقبنا ألف عين، وتتسمع إلينا ألف أذن. . . وكان الليل يجود بأنفاسه الأخيرة، والشوارع توشك أن تقفر إلا من رواد الظلام، وعشاق الحانات، وفرسان الشهوات والآثام. . .

وغبنا في ثنايا الطريق، ورحنا نقطع الدروب على هدى ضوء باهر انبثق من قلبينا

ص: 58

المتفجرين بإيمان جديد. . . ومشت معي طائعة سلسة القياد: لأقضي معها بقية عمري، ولأدفن بين يديها بقية من عفة لا تزال تضج في القلب.

العراق - الحلة

عبد اللطيف الشهابي

ص: 59