المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 917 - بتاريخ: 29 - 01 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩١٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 917

- بتاريخ: 29 - 01 - 1951

ص: -1

‌الدين والسلوك الإنساني

للأستاذ عمر حليق

- 2 -

دراسة الدين والسلوك الديني موضوع لن يطمح كاتب هذه السطور أن يستنبط له منهجاً جديداً؛ إنما هو يستوحي لذلك ما انتهجه بعض أئمة البحث الغربيين من مناهج، وذلك لأن هذه الدراسة قصد بها التعرف على مشكلة الدين والسلوك الإنساني في المحيطين الأوروبي والأمريكي اللذين تغزو موجاتهما دعائم الفكر العربي في هذه الآونة مما أوجد بين بعض المثقفين العرب اتجاهاً سلبيا إزاء وظيفة الدين الروحية والاجتماعية. وهذا ما يدفعني إلى اتخاذ هذا النهج على أساس الحكمة التي تقول (من فمك أدينك).

ويجب ألا يغرب عن البال أن البحث في وظيفة الدين الاجتماعية لا يعني الانكباب على دراسة (اللاهوت)؛ فاللاهوت يختص بالتعرف على التطور الفكري والتاريخي للمذاهب الروحية، بينما ينطوي علم الدين الاجتماعي على استعراض علاقة الغريزة الدينية بالحياة اليومية وما يعرف الآن بعلم الاجتماع الديني.

فالناحية اللاهوتية في الدين تعالج العقيدة من حيث أنها إيمان وذلك عن طريق الدراسة لفلسفة الوجود والتعبير الديني ممثلاً في الصلوات والعبادات. وعلم الدين الاجتماعي يتطرق إلى الظواهر الاجتماعية وصلتها بالحياة الروحية. وهذا في الواقع صلب الإشكال بين المفكرين في الغرب وانقسام الرأي فيهم بين أنصار العقل والقيم الروحية من جهة، وأنصار الغريزة البدائية من جهة أخرى.

ولا ريب أن العلاقة وثيقة بين اللاهوت وعلم الاجتماع الديني، ولكنها ليست ضرورية دائماً. ويخيل إلى أن الإسلام في بساطته ووضوح تعاليمه لا يتطلب دفاعاً لاهوتياً على النحو الذي تتطلبه الأديان السماوية الأخرى.

ولقد كثرت في الآونة الأخيرة أبحاث بعض المفكرين المسلمين في الشرق العربي عن علاقة الإسلام بالمذاهب السياسية والاقتصادية والفكرية المعاصرة. والجدل الذي أثير مؤخراً حول هذه البحوث لا يتطرق إلى صلب الدين الإسلامي ولا يجادل جوهره ومبادئه، وإنما يطوف حول الناحية الاجتماعية في التعاليم الإسلامية.

ص: 1

والواقع أنه هذا الظمأ إلى دراسة هذه الناحية الاجتماعية في العقيدة الدينية قد ألهم الكثير من رجال الفكر الأوربي والأمريكي لكتابة بحوث مماثلة لهذه التي صدرت مؤخراً في العالم الإسلامي.

ولكن الفارق الرئيسي بين بحوث هؤلاء الغربيين وبين معالجات المسلمين هو افتقار الأديان السماوية الأخرى إلى التعاليم الدنيوية التي تنظم الحياة الاجتماعية. هذه التعاليم التي يزخر بها القرآن الكريم والحديث الشريف واجتهاد الأئمة المسلمين. وهذا فارق يبسط دراسة الناحية الاجتماعية في الإسلام لا على أساس من الاقتباس والاستعارة ولكن بالمقارنة وإعادة تفسير التعاليم الإسلامية وتطهيرها من الباطل الذي علق بها زوراً وبهتاناً دون مساس بالعقيدة والجوهر، وفي لغة يفهمها أهل هذا العصر.

إذن فهدفنا الرئيسي هو التعرف على علاقة الدين بالظواهر الاجتماعية. ولعل في ذلك ما يساعدنا على تفهم المغزى الجليل النفع في السلوك الديني ويوفر لنا أضواء نلقيها على عظمة الروحانية التي يحمل لواءها الدين والتي تواجه هذا التحدي من عناصر المجتمع العربي هذه الأيام.

ويجب أن نقرر في هذه المرحلة من الحديث أن الدين لم يمت ولن يموت، لسبب بسيط وهو أن السلوك الديني تعبير عن الغريزة الدينية الكامنة في أنفسنا جميعاً. والغريزة لا تموت دائماً بل تنطمر في بعض الحالات تحت ركام من العقد النفسانية والمشاكل الدنيوية. فإذا توفر لها من يزيل عنها هذا الركام برزت صافية جلية تبعث في الفرد وفي المجتمع الطمأنينة الحقة وهي سر السعادة والهناء في عالم قلق مضطرب.

فاتجاه بعض المفكرين إذن إلى دراسة الإسلام على ضوء علم الدين الاجتماعي هو نتيجة حتمية لموجة الاضطراب الفكري التي تعتري بعض المسلمين من أصحاب الثقافة الغربية في هذه الآونة - وبعض هؤلاء ابتعدوا عن الدين لا بدافع التحامل الأعمى أو الإلحاد ولكن لمجرد افتقار برامج التعليم إلى المواد الدينية بقسط أوفر من القسط الذي تحظى به هذه البرامج الآن، وافتقار الحياة الفكرية كذلك إلى بحوث علمية تدرس الدين على أسس من المناهج المستحدثة.

فالمشكلة إذن مشكلة جهل وليست مشكلة إلحاد، وإن كان الجهل في بعض الحالات يكون

ص: 2

كفراً.

ولست أدعي أبداً أن دراسة الناحية الاجتماعية في الدين الإسلامي تغني عن متابعة الاجتهاد في علوم الفقه والشريعة وأصول الدين على النحو الذي تقوم به معاقل الإسلام في الأزهر وغير الأزهر. فالحقيقة أن علم الدين الاجتماعي متمم لعلوم الفقه والشريعة وأصول الدين. فالدراسة الدينية تبرز الجوهر وتشرب التفاصيل وتفسر ما استعصى على بعض الناس فهمه من ألوان الروحانية التي يحملها الدين، والدراسة الاجتماعية للدين تشرح صلاح هذا الجوهر وهذه الروحانية لاحتضان المستنجد المفيد من التفكير السياسي والاقتصادي المعاصر. والبارزة الفريدة في الإسلام أن كلتا الناحيتين متمازجتان في صورة متماسكة متشابكة الأمر الذي يورد بعض الكتاب موارد الزلل في معالجتهم لهم بالتماسك وهذا التمازج.

والخروج من هذا الإشكال يستوجب على الباحث أمرين:

1 -

اختيار صادق للعقيدة والإيمان وما يستتبع ذلك. طمأنينة وسمو نفساني ونزاهة في التفكير والمقصد.

2 -

إدراك للمشاكل الاقتصادية والسياسية التي تعيش نفسية رجل العصر الحاضر وفي مجتمعه.

وللباحث أن يدرك كذلك الفرق بين العقيدة والإيمان وفلسفة الحياة الروحية، وبين النظرة الواقعية لمجرى الشؤون الدنيوية والسلوك الإنساني.

فليس هناك صدق علمي فيما يحلو للبعض الكتابة عنه هذه الأيام (كالاشتراكية في الإسلام) و (الشيوعية في الإسلام) وغير ذلك من عناوين؛ وإنما هنالك مجال للبحث بين علاقة التعاليم الإسلامية بالمشكلة الاجتماعية أو الفكرة السياسية وما شابه ذلك من مظاهر النشاط الإنساني.

فالاشتراكية والشيوعية نظم سياسية واقتصادية، والدين عقيدة وإيمان فوق أية دستور للنشاط الإنساني. والخلط بين الاثنين قصور عن فهم العقيدة وافتقار إلى اختيار الإيمان وعجز عن تفهم ما انطوت عليه تلك النظم الاقتصادية من أسس قد لا تنطبق على كل مجتمع في كل صعيد.

ص: 3

فعلم الدين الاجتماعي لا يجوز أن يكون وسيلة لتنفيذ برنامج معين من برامج الإصلاح السياسي والاقتصادي؛ والترويج لها من مقتبسات القرآن والحديث والاجتهاد، وإلا فقد الدين مزيته الرئيسية وأصبح كبرامج الأحزاب السياسية يتجدد ويتبدل بتبدل الأوضاع والملابسات.

فقبل أن تنشأ الماركسية نشأت نظم سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة تحدى بعض مروجيها العقيدة الدينية واتهموها بأنها عائق في وجه الإصلاح. ثم اندثرت تلك النظم أو تطورت إلى نظم أخرى. وبقيت العقيدة الدينية كامنة في قرارة السلوك الإنساني تحفظ الحياة وقيمها الرفيعة في خضم القلق والثورات والحروب، وتلهم الناس أسباب الطمأنينة والثقة بالعدالة الإلهية وبالاستقرار النفساني والاجتماعي. ويحب كاتب هذه السطور أن يذكر على سبيل المثال أنه اشترك في جامعة كولومبيا في نيويورك في السنة الماضية في حلقة دراسية عالجت تطور التفكير في أمريكا في فترة ما بعد الحرب فتبين لأعضاء الحلقة أن الكتب الدينية هي من أكثر المنشورات رواجاً في عالم ما بعد الحروب - رواجاً أثبتته إحصاءات الكتب الرائجة التي تنشرها الصحافة الأمريكية بانتظام.

فالنظم السياسية والاقتصادية كالماركسية مثلاً أسلوب في الحياة يستمد مبادئه من الظواهر الاجتماعية وهذه الظواهر تتأثر بالظروف والأوضاع المتقلبة بينما الدين غريزة متأصلة في قرارة النفس كغريزة الأكل واللعب. قد يأتي عليها حين ترسب خلاله إلى الحضيض لفترة قصيرة، ولكن لا مفر لها من أن تجد سبيلها إلى الشعور الواعي في الأحيان الكثيرة.

على أن هناك أموراً أخرى لا مفر من إقرارها ما دمنا بصدد الكلام عن منهج البحث منها:

1 -

إدراك الباحث والقارئ معاً واعترافهما بحقيقة الاختبار الديني وقوة الإيمان والمتعة الروحية والتطور التاريخي الذي صاحب ولا يزال يصاحب التعبير عن هذا الاختبار وعن هذه المتعة. وهذا الاختبار إن كان يتنوع في وسائل روحانياته بين مختلف الأديان السماوية إلا أنه اختبار على كل حال يشترك فيه كل مؤمن.

والتنوع في اختبار المتعة الروحية يستند أولاً: إلى الاختلاف في جوهر العقيدة (كما هو الحال بين الإسلام والبرهمانية مثلاً حيث يجد بعض البرهمانين المتعة في إيلام الجسد). وتستند ثانياً: إلى اختلاف التطور الفكري بين الشعوب وطبيعة أوضاعها التاريخية

ص: 4

والجغرافية والحضرية. فإذا كان المسيحي الصادق في أمريكا مثلاً يخرج من صلاة الأحد طاهر القلب صافي الذمة ليذهب ويلعب ويعاقر الكأس وهو في حل من الإثم والمعصية فإن المسلم لا يصح له ذلك، فاختبار المسلم لروحانية الدين تنفي كل ذلك. والتطور التاريخي والفكري في أمريكا أصبح يحول بين المتعة الروحية في الكنيسة وصفاء نفس المؤمن صفاء صادقاً وبين انعكافه وهو في هذا الصفاء على احتساء كأس من الخمر والتسلي بلعب الورق.

ومثل هذا تنوع جوهري لا يفطن له الذين يعالجون الناحية الاجتماعية في الإسلام على ضوء ما استوحوه من التفكير الغربي ولعل ذلك يفسر التباس الأمر عليهم في بعض أوجه العلاقة بين الإسلام والمشاكل الاجتماعية

2 -

دراسة الظواهر الدينية كما تبدو في المجتمع. وهذا يتطلب تجرداً علمياً ينفذ إلى الصميم. لا يأخذ بقشور هذه الظواهر وإنما ينفذ إلى اللباب الذي كثيراً ما تتراكم عليه ألوان من العرف والعادات والتقاليد التي ليست من أصوله ولا هي من جوهره. ولعل التحامل الذي يصدر عن بعض مفكري الغرب في دراستهم للدين الإسلامي يعزى إلى فقدان هذا التجرد والعجز في إزالة الركام عن لباب الظواهر الاجتماعية. وهذا أيضاً خطأ يأخذ به بعض المحدثين من المسلمين أنفسهم إذا ما حاولوا معالجة السلوك الديني في المجتمع الذي يعيشون فيه.

3 -

توزيع العمل في الدراسة العلمية: فالباحث في علاقة الدين بالمشاكل الاجتماعية لا بد وأن يكون ملماً بكلا الموضوعين إلماماً واسعاً. فالاقتصادي الذي يكتب عن الاقتصاد في الإسلام لا ينبغي أن يقتصر على ذخيرته في علم الاقتصاد وإنما يترتب عليه أن يلم إلماماً دقيقاً بهذا التراث الضخم من الشريعة الإسلامية وهو تراث ينفق الناس فيه السنوات في التعرف على بعض ألوانه. وقل مثل ذلك عن رجال الدين الذين يعالجون المسائل الاقتصادية العميقة من وجهة النظر الدينية.

ووجه القصور في بعض من كتب (الشيوعية في الإسلام) أو (الاشتراكية في الإسلام) أو (العدالة الاجتماعية في الإسلام) أنهم ادعوا ما ليس لهم به علم كاف. فالاشتراكية مثلاً مزيج من فلسفة واقتصاد وسياسة ودراسة اجتماعية وهي أدق وأعقد من أن تؤخذ في

ص: 5

سطحيتها وتقارن بالشريعة الإسلامية وفروع التخصص فيها عديدة متفرقة.

فالكتابة عن العلاقة بين الدين والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية عمل يجب - إذا توخي النفع الصادق أن يشترك فيه جماعة من أهل الاختصاص في حلقة أو حلقات يقوم فيها كل في مجال اختصاصه بالدرس والبحث والتنقيب أو أن يتفرغ لها الكاتب فترة معقولة من الزمن يستعين بالمراجع الوثيقة في المواضيع التي تمس لباب البحث مساً مباشراً أو غير مباشر. مستأنساً بآراء أهل العلم حين يستعصي عليه الفهم.

أما اتباع الأسلوب الصحفي في الكتابة عن هذا الموضوع أو التصدي لمعالجته في أدب المقالة والإنشاء فلن يحقق نفعاً صادقاً.

نيويورك

(للبحث صلة)

عمر حليق

ص: 6

‌إسعاف النشاشيبي

بمناسبة ذكرى وفاته

للأستاذ كامل السوافيري

يصادف ظهور هذا العدد من مجلة الرسالة موعد حلول الذكرى الثالثة لوفاة زعيم العربية وإمام المحققين المغفور له الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي إذ طواه الردى في منتصف ليل اليوم الثاني والعشرين من يناير سنة 1948.

ومن حق الفقيد على مجلته الأثيرة التي خصها بنقلة، أن تفسح صدرها لدمعة عليه في يوم ذكراه وهي المجلة التي استمدت وفاءها من عميدها الكبير الذي كان ثالث ثلاثة استبقاهم الوفاء بجانب الفقيد في ساعاته الأخيرة، والذي عده الفقيد ثالث الكتاب بعد الجاحظ وأبي حيان وقال عنه أنه أمير النثر والناثرين وإنه سيد البلغاء. وهيهات لعلمي العاجز أن يتطاول فيحاول أن يوفي الفقيد حقه، أو يحصر مآثره على لغة الضاد وهو الذي حمل لواء الدفاع عنها خمسة وستين عاماً يصول في كل ميدان، ويجول في كل حلبة فما نبا له صارم ولا كبا به جواد. ولكنها عبرة أسكبها وزفرة أرجيها تقديراً لعلم من أعلام الأدب وكوكب مشرق في سمائه طالما أرسل ضياءه إلى دنيا العرب والعروبة.

ومن حق الفقيد على الأدباء في مصر والعالم العربي أن يحتفلوا بذكراه وهو الذي دوى صوته مجلجلاً في القدس ودمشق وبيروت والقاهرة وبغداد فهز القلوب بأسلوبه الرائع، وبيانه الساحر. ولكننا في الشرق - والأسى يملأ الجوانح - نضن بالوفاء على الأحياء فكيف بمن ضمهم الثرى، ووارهم التراب.

لقد كان الفقيد طرازاً خاصاً من الأدباء تعصب للفصحى واعتز بلغة الضاد وتصدى للداعين لنبذها والاستعاضة عنها برلمانة الغوغاء ورماهم بشواظ من بيانه فأخرس ألسنتهم، وله في ذلك مواقف رائعة تختال لها لغة عدنان بشراً وطرباً.

تعصب إسعاف للغة العربية لأنه يراها أهم عنصر في القومية، فمن تنكر للغته فقد تنكر لقوميته؛ ومن تنكر لقوميته فقد غدا حرباً على أمته وبلاده. وفي هذا يقول (اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى. واللغة ميراث أورثه لآباء الأبناء، وأحزم الوارث صائن ما ورث، وأسفههم في الدنيا مضيع، وإنا أمم

ص: 7

اللسان الضادي لعرب وإن لغتنا لهي العربية وهي الإرث الذي ورثناه وإنا لحقيقون - والآباء هم الأباء واللغة هي اللغة - بأن نبقى عربية الجنس وعربية اللغة.) ولقد قضى الفقيد القسم الأول من حياته مدرساً للغة العربية في مدارس فلسطين قبل الانتداب البريطاني وبعده ثم سمت به كفاءته فارتقى حتى وصل إلى درجة التفتيش العام للغة العربية في القطر بأسره. فنهض بها نهضة ارتفعت بها إلى أسمى الدرجات رغم أن حكومة الانتداب البريطاني كانت تقاوم ازدهار اللغة العربية، وتحول دون تبوئها المكانة اللائقة كلغة قومية في قطر عربي. ومن مآثره الجليلة في هذه الناحية كتاب أسماه البستان اختار فيه مقطوعات شعرية، وكلمات نثرية يستظهرها الطلاب في مدارس فلسطين الابتدائية والثانوية، وكان موفقاً كل التوفيق في الاختيار إذ بث في نفوس الناشئة حب الوطن، والتطلع للمجد، والتأهب للوثبة. وله غير بستانه الزاهر رسائل منها كلمة في اللغة العربية وكلمة في رثاء أمير الشعراء شوقي بك، وثالثة في الزعيم إبراهيم هنانو. وآخر مؤلف طبعه كتاب الإسلام الصحيح. ورغم أن إسعاف قد ارتقى إلى ذروة المجد، وتسلم الشهرة في أفق اللغة والأدب، فقد كان على جانب كبير من دماثة الخلق، وحسن الطبع، وعظم التواضع حتى ليشعر محدثه بأنهما في مستوى واحد، والفرق كبير والبعد شاسع. وهو محدث لبق، والذين أتيح لهم أن يصغوا إليه في الكونتنتال حين يتوسط الحلقة، ويدير الدفة يشهدون ببراعة في الحديث وإجادة في التعبير. ولقد وقف إسعاف حياته على خدمة العربية لغة القرآن، وما رأيته إلا قارئاً أو خطيباً أو كاتباً أو معقباً أو مصححاً يستتر بأسماء متعددة ويتخفى بأزياء متباينة لأنه لا ينبغي مزيداً من شهرة أو ظهور.

والمجلات الشهيرة في العالم العربي وفي مقدمتها الرسالة في مصر ومجلة المجمع العلمي في دمشق زاخرة بأبحاث الفقيد في شتى النواحي العلمية والأدبية.

ولقد كان إسعاف قوي الإيمان، راسخ العقيدة. فاهماً للإسلام حق الفهم، القرآن حداؤه وغناؤه، والرسول الكريم قدوته وفي (خورنقه) نجد اسم محمد صلى الله عليه وسلم معلقاً أمامه على الجدران في صور متعددة. يا محمد - أنا عبدك يا رسول الله.

وتهتز أعطافه عندما يرتل آي الذكر الحكيم ترتيل العربي الصميم الذي أحاط بأسرار اللغة العربية ففهم الآيات الفهم الكامل وأدرك ما ترمي إليه من أهداف ومقاصد، وهو الذي يقول

ص: 8

في القرآن:

(يا أيها الكتاب المعجز، لقد هلك من يدرك فصاحتك، ويكتنه بلاغتك، ويقدرك حق قدرك، لقد هلك من كنت تتلو عليهم آياتك فيدهشون ويخرون سجداً وبكيا. وهل يعرف بلاغتك المعرفة البالغة إلا عربي قح صليب لم تشن ملكته العربية من العجمة شائنة ولم تؤذ أذنه كلمة قلقة)

وبعد فقد عرفت إسعاف عندما استظهرت أول مقطوعة من بستانه في مدارس فلسطين؛ ثم امتد بي الزمن فالتقيت به وعرفته محدثاً ومحاضراً وكاتباً وخطيباً مفوهاً يستحوذ على القلوب ويلعب بالعواطف، وكان إعجابي به يتزايد وتقديري له يعظم؛ ولكني دهشت للجهد الجبار الذي بذله في إخراج كتابه (الإسلام الصحيح) الذي تفضل بإهدائه إلي منذ عشرة أعوام.

لقد أخرجت مطبعة العرب في القدس هذا الكتاب سنة 1354هـ وقد ذكر فيه المؤلف بعض المراجع، وأخذت أنا أحصي ذلك البعض فإذا به لا يقل عن مائتي مرجع في شتى العلوم والفنون من لغة وأدب وتاريخ وملل ونحل وفقه وشريعة وأصول، ولما تصفحت الكتاب وجدت في ثنايا صفحاته مراجع أخر غير التي ذكرت قبلاً فلم أستطع تجاه ذلك المجهود إلا أن أحني هامتي إجلالاً واحتراماً لتلك القدرة على الدرس والبحث والاستقصاء التي قلما تتهيأ لكثير من الناس.

ولقد صدر الفقيد ذلك الكتاب الذي نفدت طبعته بمقدمة صغيرة جاءت آية في البلاغة والإعجاز وبرهان صدق على تمسك الفقيه بدينه، واعتزازه بيقينه؛ إذ يقول عن الإسلام (الإسلام هو دين الحق. ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ومحمد خير الخلق وهذا الكتاب وهذا الأثر وهذا تاريخ البشر فاقرأ كتاب كل دين وانظر أثر كل عظيم وفتش صحف التاريخ واحكم إن كنت من الحاكمين. هات، هات وهيهات أن تجد مثل القرآن وحياً أو رقيماً، واذكر نظير محمد نبياً أو عظيماً إن تذكرت أو تفكرت ونقبت وحققت فمثل القرآن كتاب الله مات أوحى الله وما أنزل، ومثل محمد (صلى الإله على محمد) فمثل محمد في الدنيا ما كان ومثل محمد في العالم لن يكون) ويتحدث عن القرآن فيقول:

الضياء قد بهر إشعاعه في حروف وكلمات، والكهربية إلهية تسري في عبارات،

ص: 9

والمعجزات - لا الشعبذات - بينات في آيات وإلهي من لدن الله يسير في الأرض مع الناس هادياً ودليلاً ذلكم هو القرآن الذي يتلوه القارئون.

محمد دينه التساوي ودينه العدل والنصفة، فلا شريف ولا مشروف ولا كبير ولا صغير ولا أمير ولا مأمور ولا قبيل أفضل من قبيل ولا قوم خير من (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) والفضل بالفضل والتقديم بالفعل وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.

رحمك الله إمام العربية، وأمطر على قبرك شآبيب الرحمة والرضوان جزاء ما أسديت للغته وقرآنه.

كامل السوافيري

ص: 10

‌الفارابي في الشرق والغرب ومكانته في الفلسفة

‌الإسلامية

- تتمة -

للأستاذ ضياء الدخيلي

والحقيقة أن سمو مكانة الفارابي في الفلسفة كان حديث المتقدمين ولم يزل حديث المتأخرين العصريين. قال الأستاذ (أبو ريده) في تعاليقه على كتاب (تاريخ الفلسفة في الإسلام) للمستشرق (دي بوير) إذا كان الكندي قد أعتبر فيلسوف العرب تمييزاً له عن أقرانه من الفلاسفة غير العرب فإن الفارابي يعتبر فيلسوف المسلمين بالحقيقة كما يقول صاعد الأندلسي في طبقات الأمم وفيلسوف المسلمين غير مدافع كما يقول القفطي في أخبار الحكماء. أما ابن خلكان فإنه يقول في وفيات الأعيان إن الفارابي كان أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن فيهم من بلغ رتبته ويقول ظهير الدين البيهقي في كتابه تاريخ حكماء الإسلام المخطوط في دار الكتب المصرية، وكان أبو علي تلميذاً لتصانيفه وأورد هذا الرأي الشهرزوري أيضاً في كتابه نزهة الأرواح وروضة الأفراح المصور بمكتبة الجامعة المصرية. ويكاد يلمس الإنسان صحة هذا الكلام فيما يفوق الحصر من آراء ابن سيناء التي أخذها عن الفارابي من غير تغيير ف ألفاظها. ونكاد لا نجد في فلسفته شيئاً إلا وأصوله عند الفارابي. ويقول ديترصي في مقدمته لرسائل الفارابي (إن الفارابي مؤسس الفلسفة العربية) والذي يقرأ الفارابي يجد في تفكيره طرافة ونضوجاً وفهماً عميقاً يدل على طول تأمل في الفلسفة. وإذا كان الكندي الفيلسوف العربي كما ألمع (دي بوير) قريب الصلة بالمتكلمين وبالفلاسفة الطبيعيين - ونستطيع أن نعرف هذا من أسماء مؤلفاته - فقد لا نكون بعيدين عن الصواب إذا قررنا أن الفارابي أول فلاسفة الإسلام على الحقيقة وقد كان يحيا حياة الفلاسفة من زهد وانقطاع إلى التأمل.

وتذكرني كلمة (ديترصي) هذه التي تحدثنا عن إعجاب الفكر الغربي بالطرافة والنضوج والفهم العميق الذي بدل على طول تأمل في الفلسفة والأمور التي يوجدها في ما دونه الفارابي من الآثار الخالدة - يذكرني هذا بما قرأته للعقاد في رسالته عن (أثر العرب في

ص: 11

الحضارة الأوربية) إذ قال إن الآراء الفلسفية التي قال بها أمثال الفارابي والكندي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل - لا تعد غريبة كل الغرابة عن مذاهب العصر الحديث لأنها لم تخل عن آراء تكلم فيها أساطين الفلسفة الإسلامية وعرضوا لها إما بالإسهاب أو بالإيجاز) وقد قال العقاد بعد ذلك ومن المشابهات غير البعيدة (أي بين آراء القدماء والمصريين) ما يصح أن يسمى الطور الأول لمذهب التطور (الذي نسب إلى داروين وكتابه أصل الأنواع) وقد عبر عنه الفارابي حيث قال في آراء أهل المدينة الفاضلة مفسراً لأقوال المعلم الأول إن ترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولاً أخسها ثم الأفضل فالأفضل إلى أن تنتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه. فأخسها المادة الأولى المشتركة والأفضل منها الأسطقسات (وهي الأصول والعناصر وهي على زعمهم الماء والتراب والهواء والنار) ثم المعادن ثم النبات ثم الحيوان غير الناطق وليس بعد الحيوان الناطق (أي الإنسان) أفضل منه. وقد تقدم لديترصي أن أعتبر الفارابي المؤسس للفلسفة العربية ويظهر أن هذا الرأي لم يقتصر على ذلك الكاتب الغربي فقد شاركه فيه بعض المؤلفين في الشرق فقد جاء في كتاب (دروس في تاريخ الفلسفة) في رأينا أن الفارابي (950م) على الرغم من جهل الناس به هو الأب الحقيقي للفلسفة الإسلامية فقد شاد بناءها وألم بأجزائها الرئيسية رابطاً بعضها ببعض ولا نكاد نجد فكرة عند خلفائه إلا ولها أصل لديه، وكل ما لهؤلاء من فضل غالباً أنهم وضحوا غامضه وفصلوا القول فيما أجمله. ويخيل إلينا أنه أعرف فلاسفة الإسلام بتاريخ الفلسفة لذلك نراه يتحدث عن المدارس اليونانية وبين الفوارق التي تفصل كل واحدة منها عن الأخرى ويحاول التوفيق بين أفلاطون وأرسطو طاليس (فيلسوفي يوناني في رأيه بلا جدال) وقد ألف كتباً عدة بعضها شرح لمؤلفات أرسطو طاليس أو مختصرات لها وبعضها الآخر كتبه ابتداء ليعبر به عن رأيه وبحثه الخاص وما وصلنا من هذه الكتب كاف لتفهم نظريته) وفي كتاب (نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس) أن الفارابي التركي الحكيم المشهور صاحب التصانيف المشهورة في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم كان من أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن من بلغ رتبته في فنونه ويقول الأستاذ محمد فريد وجدي في (دائرة المعارف) الفارابي أبو نصر التركي الفيلسوف المشهور هو أكبر الفلاسفة الإسلاميين له تصانيف عديدة في

ص: 12

المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم لم يكن من المسلمين من بلغ رتبته في فنونه) وترى تقارب العبارتين في الصيغة والمعنى والمبنى والظاهر أن مؤلف دائرة المعارف أخذ الترجمة من هذا الكتاب أو كلاهما تطفلاً على مؤلف ثالث، وكان العباس بن علي بن نور الدين المكي الحسيني فرغ من تأليف نزهة الجليس سنة 1148هـ.

ويقول الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام السياسي والثقافي والاجتماعي) ومن أشهر فلاسفة الإسلام أبو نصر ويعتبر أكبر فلاسفة المسلمين حتى لقب بفيلسوف المسلمين بالحقيقة وفيلسوف المسلمين غير مدافع أما ابن تغري بردى الأتابكي في (النجوم الزاهرة) فإنه يورد فيمن ذكر الذهبي وفاتهم في سنة 339 هـ قوله (وأبو نصر الفارابي صاحب الفلسفة) أما أبو الفداء المتوفى سنة 732 هـ فيكتفي أن يقول في تاريخه وفي هذه السنة توفى أبو نصر الفيلسوف ثم يتحدث عنه وعن دراسته وأسلوب حياته وأشياء أخرى ولكنه لا يهبه تلك الألقاب الضخمة التي يضفيها عليه من ذكره من المؤلفين الآخرين. ويقول ابن النديم من القرن الرابع في (الفهرست)(أبو نصر. . . من المتقدمين في صناعة المنطق والعلوم القديمة وجرجي زيدان من المتأخرين يقول عن الفارابي في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية)(وكان فيلسوفاً كاملاً درس كل ما درسه من العلوم وفاق في كثير منها وخصوصاً المنطق) ويقول الزركلي في (الأعلام) الفارابي ويعرف بالمعلم الثاني أكبر فلاسفة المسلمين ويقول ابن الأثير في التكامل) (وفيها توفي الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف فيها) ويقصد إعادة الضمير من (فيها) إلى الفلسفة المفهومة ضمناً. ويحدثنا ياقوت الحموي المتوفى سنة 606هـ في (معجم البلدان) وإليها (إلى فاراب) ينسب أبو نصر الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف في فنون الفلسفة.

وهنا نلاحظ أن ياقوتا الحموي وابن الأثير وغيرهما يذكرون في التعريف بالفارابي أنه صاحب التصانيف في فنون الفلسفة فلا بد أن تكون لفيلسوف المسلمين جملة مؤلفات ولكن المتداول والمعروف منها شيء زهيد لا يثير الكاتب عن الفارابي لأن ينعته ويعرفه بأنه صاحب التصانيف في فنون الفلسفة. ثم إن مؤرخي حياته يقولون أنه كان يقضي حياته بين الأشجار يكتب. إذن فهو مواظب دائب على الكتابة والتأليف منقطع عن الناس منعزل قد توفر وكرس وقته للكتابة وذلك يقتضي أن يكون كثير الإنتاج فأين ذهبت آثاره؟ لا شك

ص: 13

في أنه كان له جملة كتب ومؤلفات ضاعت من العالم الإسلامي فيما ضيع من كتب علمائه وفلاسفته بتأثير النكبات وغزوات التتار.

والحروب والفتن الداخلية وقد لاقت كتبه مقاومة عنيفة من الغزالي وأنصاره ومن ابن تيمية وأتباعه ومن الحنابلة الذين لعبوا في بغداد أدواراً مهمة في اضطهاد الفلسفة. ويؤيد ما تقدم من ضياع كثير من مؤلفات الفارابي ما وجدته في كتاب (فصول الحكماء) إذ يروي مؤلفه محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي عن البيهقي أن للفارابي كتباً كثيرة يجهلها الناس وقد قال إن العلامة ظهير الدين البيهقي رأى في خزانة نقيب النقباء بلري كتباً كثيرة من مؤلفات الفارابي لم تطرق سمعنا وهي بخط الفارابي) وهذا مما يؤيده العقل إذا رجع إلى الأسباب المتقدمة.

والحق أن الناس قد تحدثوا كثيراً عن مكانة الفارابي في الفلسفة. قال الأستاذ مصطفى عبد الرازق يقولون الحكماء أربعة اثنان قبل الإسلام وهما أفلاطون وأرسطو، واثنان في الإسلام وهم أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا. وكان بين وفاة أبي نصر وولادة ابن سينا حوالي ثلاثين سنة وكان أبو علي بن سينا تلميذ لتصانيف الفارابي يعترف أنه لولاهما لما اهتدى إلى فهم ما بعد الطبيعة. وكما لقب أفلاطون بالحكيم الإلاهي وأرسطا طاليس بالمعلم الأول لقب الفارابي بالمعلم الثاني وابن سينا بالشيخ الرئيس وآراء الناس مختلفة في تقديم الفارابي أو ابن سينا. يقول ابن خلكان عن الفارابي (وهو أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن منهم من بلغ رتبته في فنونه والرئيس أبو علي بن سينا المقدم ذكره بكتبه تخرج وبكلامه انتفع في تصانيفه) أما الشهرستاني فيقول عند الكلام على فلاسفة المسلمين (ومنهم الفارابي وإنما علامة القوم أبو علي ابن سينا) فهو إذن يقدم ابن سينا على من اعتبره ابن خلكان أستاذه.

وهذا ابن سبعين الفيلسوف الصوفي الأندلسي الذي يقال أنه انتحر بمكة شوقاً إلى الاتصال بالله سنة 669هـ ويقول في كتاب له مخطوط ما نصه نقلاً عن المجموعة التي نشرها الأستاذ ماسنيون المستشرق الفرنسي المعروف (وأما الفارابي فقد اضطرب وخلط وتناقض وتشكك في العقل الهيولاني وزعم أن ذلك تمويه ومخرفة ثم شك في النفس الناطقة هل غمرتها الرطوبة أو حدثت بعد وتنوع اعتقاده في بقاء النفوس بحسب ما ذكر في كتاب

ص: 14

الأخلاق وكتاب المدينة الفاضلة والسياسة المدنية وأكثر تآليفه في المنطق وعدة كتبه نحو خمسة وسبعين كتاباً وفيها من الإلاهيات تسعة وهذا لرجل أفهم فلاسفة الإسلام وأذكرهم للعلوم القديمة وهو الفيلسوف فيها لا غير، ومات وهو مدرك ومحقق وزال عن جميع ما ذكرته وظهر عليه بالحق بالقول والعمل ولولا التطويل لذكرت ذلك مفصلاً) هذا ما يقوله أبن سبعنين وقد تناول بالنقد اللاذع بل بالتحقير الشنيع أبن سينا والغزالي وأبن رشد.

إلى هنا نقف لنعود في القريب العاجل لنعرض لقراء الرسالة الكرام صفحات رائعة لأثر فلسفة الفارابي في العقل البشري فنستعرض سياحة الفارابي في أوربا ونشهد الموجات العنيفة الثورة التي صدمت هذا الفيلسوف فنستعرض الفارابي تحت مطارق خصومه في الشرق والغرب فإلى الملتقى.

بغداد

ضياء الدخيلي

ص: 15

‌ذكرى الشاعر الثائر

معروف الرصافي

للأستاذ حمدي الحسيني

السيد معروف الرصافي رحمه الله شاعر عربي فحل، ولد في العراق ونشأ فيه، اشتغل بالتعليم في العراق والآستانة والقدس ودخل مجلس النواب العثماني نائباً عن متصرفيه - المنتفك - من أعمال العراق. عاصر عبد الحميد واكتوى مع الشعوب العثمانية عامة بنار مظالمه، فتألم لشدة وقع تلك المظالم ولكنه لم ينطو على ألمه شأن المستضعفين من الناس الذين يقع الظلم على رؤوسهم فيطأطئون تحت صارين، وينصب الأذى على نفوسهم فيحتملون الأذى خاضعين، بل ثار على الظلم ثورة عنيفة صاخبة وقاوم الأذى مقاومة قوية صارخة. وقد شهد الانقلاب العثماني وسقوط الجبار عن العرش، فثارت الحمية في نفسه وصاح في وجه الجبار بصوت متهدج جهوري يحمل كل عواطف إرواء الغليل وشفاء الصدر، ورأى طلعة الدستور البهية مشرقة على الإمبراطورية العثمانية فكبر وهلل ورحب بالدستور ترحيب الصب المستهام وتغنى بحسناته بأعذب الأنغام.

خالط الاتحاديين وهم في منصة الحكم وفي ظل الدستور فأطرى مؤنباً عاتباً معنفاً. ورأى توثب العرب للنهضة وتحفزهم للنضال في سبيل الحرية فأحس بإحساسهم ومشى في صفوفهم يثير في نفوسهم ما كمن من القوة ويحرك في عواطفهم ما خمد من الانطلاق والحركة. واتصل بالملك العربي بالشام والعراق وبالحركات الوطنية في العراق وسوريا وفلسطين فابتأس وتنعم وبكى وتبسم.

والرصافي كما عرفناه في القدس بالمعاشرة، وفي شعره بالسماع والمطالعة، عميق الشعور حاد الذكاء مرهف الحس حائر النفس قلق العواطف مكبوت الرغبات، وهو على علمه وفضله وعلو كعبه في اللغة والأدب وعلى سبقه في الحركة العربية القومية وجليل أثره في ميدان الكفاح في سبيل الحرية والاستقلال كان يعيش في ضنك من الحياة وبؤس في العيش ولكن هذا الضنك وهذا البؤس لم يؤثرا على عزة نفسه ولم يسلماه لغير الكرامة وعلو الهمة. وكثيراً ما كان يتمثل بهذا البيت: -

تعود كل بؤسها ونميمها

وعشنا على بؤس ولم نتعود

ص: 16

وكل ما فعل الفقر في نفس الرصافي هو الكبت: فقد كبت الفقر (وإن شئت فقل الشعور بالنقص) غريزة التغلب والسيطرة فأنكبت هذه الغريزة القوية العنيفة فأقضت عليه مضجعه وزلزلت أركان حياته، حتى هدته المعرفة إلى ما تعانيه الأمة العربية من آلام القهر والخضوع، فرأى في قهرها صورة لسلطته المقهورة فدفعه هذا التشابه إلى التفكير في الغير بدل التفكير في الذات تخفيفاً لألم الكبت. فراح الرصافي بعد هذا الانتقال النفسي بصف ما تلاقي الأمة العربية من ألم الخضوع لظلم المستبدين من الحكام، ومرارة الانقياد لسلطان الجهل وحكم العادات الضارة والتقاليد السقيمة. وهو بهذا إنما يصور رغبته في الحرية لتطبقها الأمة في نضالها. ومن حسن حظ الأمم المستضعفة أن يكون بين أفرادها أمثال الرصافي ممن كبتت فيهم رغبة الحرية ووهبهم الله قوة البيان سلاحاً يقتلون به عدو الأمة وعدوهم. فهؤلاء المكبوتون في الأمم الخاضعة المقهورة كالحرارة في الأجسام والنور في الظلام والحد القاطع في شفرة الحسام، أحس الرصافي بالظلم الواقع على الأمة العربية من قبل السلطان عبد الحميد وحكومته المؤلفة من أوباش الناس؛ ورأى الخضوع لهذا الظلم بادياً على الأمة العربية بدواً شائناً معيباً وهي الأمة العريقة في الحرية والاستقلال والعزة والكرامة فتأذى بهذا الظلم وبرم بهذا الخضوع فنظم قصيدة سماها (تنبيه النيام) وبدأها بالتساؤل عن الوقت الذي تنبه فيه الأمة العربية فتدفع عن نفسها الأذى وتسترجع حقها المسلوب ويبدي تعجبه لصبرها على الضيم وبقائها على الظلم.

عجبت لقوم يخضعون لدولة

يسوسهم بالموبقات عميدها

وأعجب من ذا أنهم يرهبونها

وأموالها منهم ومنهم جنودها

ولكن ما قيمة التألم في هذا المعرض. فخير منه توجيه الأمة إلى الهدف؛ وأي هدف أحلى من الحرية في نظر الأمم المستعبدة.

ألا إنما حرية العيش غادة

منى كل نفس وصلها ووفدها

يضيء دجنات الحياة جبينها

وتبدو المعالي حيث أقلع جيدها

أخذ الرصافي يقذف بحممه في وجه الظالم المتربع على العرش ويهدي باقات عواطفه المعطرة لأمته الخاضعة فينعشها ويغذيها ويحفزها. حتى حدثت في نجد حوادث دامية بين ابن الرشيد حليف السلطان وابن السعود خصيمه فاهتبل السلطان الفرصة وساق على

ص: 17

المتخاصمين جيشاً عربياً ليفك الخصام في الظاهر وليعين ابن الرشيد على ابن السعود في الباطن فاشتبك الجيش مع المتخاصمين وكلهم عرب، فجرت الدماء حتى صبغت رمال الصحراء تحقيقاً لرغبة السلطان الذي أراد أن يضعف من قوة العرب بقتل زهرات شبابهم من الحاضرة والبادية ويباعد بين صفوفهم بتقوية البغضاء والعداوة بين أمرائهم وقادة الرأي فيهم فقام الرصافي لهذا الحادث وقعد، برق ورعد، ونظم قصيدة سماها (إيقاظ الرقود) خاطب بها العرب ووضع أمامهم ما أراد السلطان بسوق الحملة العربية على الأميرين العربيين في قلب الجزيرة العربية

حكومة شعبنا جارت وصارت

علينا تستبد بما أشارت

فلا أحداً دعته ولا استشارت

وكل حكومة ظلمت وجارت

فبشرها بتمزيق الحدود

ولم ينس الرصافي في هذا الموقف أن يوجه إلى الأميرين المتقاتلين أقسى عبارات اللوم والتعنيف على ما ارتكبا من الأعمال التي تتنافى مع مصلحة الأمة العربية، وأخذ يستعرض ما أصاب الجنود العرب من قتل وفشل في تلك المعركة المشؤومة وحاشا للرصافي أن ينسى عبد الحميد في هذا الموقف وهو منبع بالآلام الجسام والمصائب الضخام.

أقول وليس بعض القول جداً

لسلطان تجبر واستبدا

تعدى في الأمور وما استمدا

ألا يا أيها الملك المفدى

ومن لولاه لم نك في الوجود

أنم عن أن تسوس الملك طرفاً

أقم ما تشتهي زمراً وعزفا

أطل نكر الرعية خل عرفا

سم البلدان مهما شئت خسفا

وأرسل من تشاء إلى اللحود

فدتك الناس من ملك مطاع

ابن ما شئت من طرق ابتداع

ولا تخش الإله ولا تراع

فهل هذي البلاد سوى ضياع

ملكت، أو العباد سوى عبيد

تنعم في قصورك غير دار

أعاش الناس أم هم في بوار

ص: 18

فإنك لم تطالب باعتذار

وهب أن الممالك في دمار

أليس بناء (بلدز) بالمشيد

ظل الرصافي على هذه الحال تغلي عواطفه في صدره بمقاومة الظلم وتتطاير قذائف حقده على الاستبداد والخسف بنظم القصيدة في بغداد ويرسلها للنشر في مصر حتى تم الانقلاب العثماني وسقط عبد الحميد عن العرش فصاح بصوت جهوري:

قمنا على الملك الجبار نقرعه

بالسيف منصلتاً والرمح مهزوزا

حتى تركناه في هيجاء معضلة

ألقت ضراماً على الطائفين مأزوزا

إنا لنأبى على الطاغي تهضمنا

حتى نهوز في الهيجاء تهويزا

ونأكل الموت دون العز نمضغه

كمضغنا التمر برينا وسمربزا

لا عاش من لا يخوض الموت مرتضيا

بقاءه بعصى الذل موكوزا

صاح الرصافي صيحته في وجه الجبار الهاوي عن العرش والتفت يتغنى بالحرية والعدالة والمساواة ويشيد بذكر الدستور وأبطال الانقلاب غير مفرق بين عنصر وعنصر من مجموع العناصر العثمانية حتى رأى الاتحاديين يبيتون ضد العرب ورأى العرب يتنبهون للأمر فيطلبون حقهم في الإصلاح وحقهم في الاستقلال الذاتي فكشر في وجه الاتحاديين وأقبل على العرب يحضهم على طلب الحرية وبذل الثمن لهذه الحرية التي لا تذوق أمة طعم السعادة بدونها ولا يصل إليها شعب إلا بدماء المهج، فنظم قصيدة سماها (في معرض السيف) يؤيد بها الحركة الإصلاحية في بيروت ويدعو جميع العرب إلى الانضمام إليها:

هي المنى كثغور الغيد تبتسم

إذا تطربها الصمصامة الخذم

دع الأماني أو رمهن من ظبة

فإنما هن من غير الظبا حلم

والمجد لا يبتنى إلا على أسس

من الحديد وإلا فهو منهدم

والحق لا يجتنى إلا بذي شطب

ماء المنية في غربيه منسجم

فللحسام صليل يرتمي شرراً

مفتقاً أذن من في أذنه صمم

وإنما العيش للأقوى فمن ضعفت

أركانه فهو في الثاوين مختوم

والمجد يأثل حيث البأس يدعمه

حتى إذا زال زال المجد والكرم

ومن حسنات الرصافي الإحاطة بجميع النواحي المهمة من حياة الأمة العربية ولا سيما

ص: 19

نواحي الوحدة التي تستمد منها قوتها في نضالها فوجه إلى إخواننا المسيحيين قصيدة عصماء سماها - في سبيل الوطن - أعلن فيها أن عناصر الوحدة بين العرب هي اللغة والوطن والإيمان بالله:

إذا جمعنا وحدة وطنية

فماذا علينا أن نعدد أديان

إذا القوم عمتهم أمور ثلاثة

لسان وأوطان وبالله إيمان

فأي اعتقاد مانع من أخوة

بها قال إنجيل كما قال قرآن

ولنسمع الآن هذه الصيحة القوية المدوية يرسلها الرصافي من أعماق نفسه فترددها نفوس العرب الذين ربط الاتحاد القومي بين قلوبهم:

فمن مبلغ الأعداء أن بلادنا

مآسد لم يطرق ذراهن سرحان

وإنا إذا ما الشر أبدى نيوبه

رددناه عنا بالظبا وهو خزيان

سنستصرخ الآساد من كل مريض

فنمشي إلى الهيجاء شيباً وشبان

أسود وغى تأبى الحياة ذميمة

وتلبس بالعز الردى وهو أكنان

ومقاحيم تصلى المعمدان مشيمة

إذا احتدمت في حومة الحرب نيران

وتكسو العراء الرحب مسح عجاجة

يمج بها السيف الردى وهو عريان

ستنهض للمجد المخلد نهضة

تقربها حوران عيناً ولبنان

وتعتز من أرض الشآم دمشقها

وتهتز من أرض العراقيين بغدان

وتطرب في البيت المقدس صخرة

وترتاح في البيت المحرم أركان

وتحسن للعرب الكرام عواقب

فيحمدها مقت ويشكر مطران

حمدي الحسيني

ص: 20

‌من مجالس الأدب

أديب يتعاظم. . .!

للأستاذ محمد رجب البيومي

إلى الأستاذ محمد كرد علي

قرأت المقال الذي نشره الأستاذ الحوماني بأحد أعداد الرسالة تحت عنوان (هؤلاء كلاب) فرأيت أن أعرض عليك ما سبق أن قاله أحد أدباء القرن السادس الهجري في زملائه لتكون على بينة من أخباره، ولن أفتري على الرجل فأنطقه بما لم يقل، ولكني تقيدت بما روى المؤرخون عنه، وهاأنذا أضع بين يديك المراجع التاريخية، فأنت رجل مراجع وفهارس وتقبل فائق احترامي.

م. ر. البيومي

(ياقوت الحموي يتوجه إلى مسجد الخضر في آمد، ويقابل شيخ أدبائها علي بن الحسن بن عنتر بن ثابت الشهير بشميم الحلى ويدور بينهما الحديث التالي)

ياقوت: السلام عليكم يا سيدي الجليل.

شميم: عليك السلام ورحمة الله، من أنت؟

ياقوت: أنا ياقوت الحموي جئت إلى آمد اليوم، فوجدت حديثك على كل لسان، وسمعت المدح ينثر عليك بدون حساب، فرأيت أن أحظى بمقابلتك، وأنهل من معينك الفياض.

شميم: كأنك لم تسمع بي إلا حين جئت إلينا اليوم، مع أن مؤلفاتي العديدة قد تناقلها الناس في الآفاق، وذاع حديثها في أنحاء حلب وبغداد وخراسان. .!

ياقوت: لا يا مولاي فقد سمعت الكثير عن أدبك وإنتاجك، ولكني حين نزلت آمد، ولمست إعجاب الناس بك، تذكرت ما أعرفه عنك، وهرعت إلى لقائك، راغباً في الاستفادة والتوجيه!

شميم: إنني كما تعرف، متنوع الثقافة، متشعب المعارف، ففي أي فن تريد أن يجري الحديث؟

ياقوت: لقد شغفت بالأدب ورواية الشعر والتاريخ وإنني لأرجو أن أنقع لديك القليل.

ص: 21

شميم: أنظر أمامك، فهذا صوان ضخم مليء بالكتب الأدبية التي ألفتها من ذاكرتي دون أن أستعين بمؤلفات أحد، فهل شاهدت في رحلاتك المسهبة من له هذا القدر من التأليف؟

- هذا مجهود كبير يا مولاي، ولكنه غير مستغرب من أديب كبير عكف على الأدب والشعر حقبة من الزمن، ولعلك تخبرني عن طريقتك في التأليف، وكيف تختار المواضيع التي تدج فيها القول، حتى انفق لك هذا التراث الثمين.

- أنا لا أطرق الأبحاث الهينة المريحة، التي يعمد إليها جمهور المؤلفين، ولكني أعمد إلى المعجز العصي من آثار السابقين فأعارضه بما أراه، فتكون معارضتي ماحقة ساحقة، وأنت تعلم ما ذاع عني من المقدرة والإبداع!!

- لقد قرأت بعض معارضاتك، ولكن اختلاف الأيام قد أفسد الذاكرة وشقت الانتباه، فهل لي أن أعرف منك من عارضتهم من البلغاء لأسجل ذلك فيما بين يدي من أوراق.

- لقد رأيت الناس يعجبون بأبي تمام وهو حقير فدم، إذا قيس بي، سمعت بعض الثناء على حماسته التي جمعها من أشعار الناس، فأردت أن أخمله بحماسة جمعتها من شعري الخاص. ولم أستنجد الشعراء الآخرين كما فعل ابن أوس الذليل، فجاءت حماستي ضرباً من السحر الحلال.

- هل لك أن تسمعني بعض خرائدها الجياد؟

- حماستي مشهورة معروفة فسل عنها الناس، وأظنك ستتجاوز حدود الأدب في السؤال!

- معاذ الله أن أتجاوز الحد معك أيها السيد الجليل، ولكني ظامئ إلى المعرفة والعلم، وقد قدمت بلدتك من أجلك وحدك، فكيف أخرج منها خالي الوفاض؟

- أعرف تماماً أنك جئت إلى آمد لتزورني، فليس بها من تشد إليه الرحال سواي، ولن أسد في وجهك الطريق فسلني عما تشاء.

- سأترك الكلام في أبي تمام كيلا تغضب علي، وأحب أن أسألك عمن عارضتهم من الشعراء سواه.

- لقد عارضت الكثيرين غير حبيب، فأبو نواس قد نظم في الصهباء قصائد عامرة سارت مسير الشمس، وظن الناس أنه لم يدع شيئاً لغيره، فتصديت له معارضاً فأسقطت معجزته من يده، ونظمت في الخمر عقوداً بديعة، تحلى بها الرماق، فلو عاش ابن هانئ لاستحيا أن

ص: 22

ينظم شعراً بعد الآن.

- أخاف أن تتهمني بفساد الذوق، إذا طلبت بعض خمرياتك أيها الطائر الصداح.

- لن أقول لك شيئاً بفمي، فأنا أعظم من أن أنشد الناس، ولكن خذ هذه الصحيفة واقرأ ما بها من الخمريات

ياقوت يتناول الصحيفة ويقرأ

أمزج بمسبوك اللجين

ذهباً حكته دموع عيني

كانت ولم يقدر لشي

ء قبلها إيجاب كوني

وأحالها التحريم لما

شبهت بدم الحسين

يقاطعه شميم فيقول:

- ما رأيك في هذا القريض؟

- أحسنت يا مولاي غاية الإحسان!

- (في انفعال) ما عندك غير الاستحسان!! تباً لهذا الزمن الجاحد أنا مخطئ إذ أسمع البهائم أشعاري الجياد.

- معذرة أيها السيد، فقد اعتمدت أن أقول لمن ينشئ الشعر الجيد، أحسنت، وهاأنذا قد قلت، فماذا أصنع لأعبر عن إعجابي بشعر مولاي.

- نعم تقوم وتصنع مثل ما أصنع، (ثم يقوم من مكانه ويدور في المسجد ويصفق في تيه وإعجاب)

- لقد تعلمت منك ما يجب أن يصنعه المستحسن!! ولكن الضحك يأخذ على سبيل الكلام، فهل أضحك يا مولاي.

- لم تضحك أيها الأحمق في مجلسي الوقور؟

- كنت سمعت عنك نادرة ظننتها مختلفة عليك، وهاأنذا أصدقها الآن.

- ما هي النادرة يا مجنون!!

- حدثني أبو البركات سعيد الهاشمي أنك جئت قديماً إلى حلب، فقدم عليك في ملأ من صحبه، فأنشدتهم بعض قصائدك فاستحسنوها غاية الاستحسان، فغضبت كثيراً، وقمت إلى أحد أركان المنزل، ونمت على ظهرك ثم رفعت رجليك إلى الحائط ولم تزل ترتفع شيئاً

ص: 23

فشيئاً حتى وقفت على رأسك، وقلت هكذا نشكر النعمة، بأن يقف الإنسان على رأسه لا على قدميه، وأمرت الحاضرين بأن يصنعوا ما صنعت!!

- نعم فعلت ذلك لأفهمهم طريقة الاستحسان - ثم ما هي المناسبة التي جعلت أبا البركات الحقير يحدثك بهذه النادرة، وقد طمسها الزمان.

- لقد كنا بحلب، ومرت بعض الجنائز، وبها نسوة يلطمن الوجوه، وينحن بكلمات حزينة، ويأتين بحركات عجيبة، فقال القوم: إن هذه الحركات منقولة عن مولاي، وإن نواح النائحات قد ألفه سيدي شميم!! وخاض الناس في غرائبك البديعة فذكر أبو البركات نادرته عنك، وهي تحفة بديعة ستدور بها الأسمار!

- هذا الكلب صادق فيما قال، وقد نسى أن يسمعك النواح العجيب الذي صنعته واخترت له روباً محكماً ووزناً مرناً، وإذا رجعت إلى حلب مرة ثانية فسل عنه الأدباء.

- أعجب كيف شغلت نفسك بالنادبات النائحات وأنت غارق في أبحاثك دون أن تجد الوقت لهؤلاء!

- لقد كنت مع تلاميذي ذات صباح بحلب، فمرت بنا جنازة يندب فيها النساء في غير حرارة وحسرة، كما يجب أن يكون، فأخذتني الحمية، وأمرت من معي من التلاميذ، فوقفوا صفين حولي، ولطمت خدي، فلطموا خدودهم مثلي، ووضعت نواحاً يرتلونه فأذن الله وتناقلته النادبات في جميع البلاد!

- أنت مولاي مبدع في كل أمورك، وأخشى أن يبتعد بنا الحديث عن الأدب والشعر، فهل تكمل حديثك مع أبي نواس؟

- إن فضلي على هذا الكلب واضح بين، فإني لم أذق الخمر طيلة حياتي، ووصفتها بما أعجز المدمنين العشاق، أما اللعين أبو نواس فقد عب من الخمر دناناً مترعات، وكان شعره هراء بدداً إذا قيس بشعري الممتاز.

- إذا كنت لا تشرب الخمر، وأجدت فيها القول، فكيف بك لو تكلمت في الزهد والحكمة كأبي العلاء، مع أنك اصطليت بما للزهد والحكمة من ضرام.

- من ذلك الكلب الأعمى الذي تذكره في مجلسي الآن، إن المعري لا يوزن بنعلي، فكيف تطمع أن أعراضه بشعري الخلاب!

ص: 24

ياقوت مندهشاً:

المعري كلب حقير! سبحان الله يا مولاي! لقد ذكرتني بأبي نزار، ملك النحاة.

- هذه جريمة ثانية، إذ كيف أذكر برجل كل صناعته النحو، أما أن فكاتب شاعر راوية إخباري محدث لغوي مؤرخ! هل غرب عنك عقلك يا مجنون؟

- ذكرتني به لشيء واحد يا مولاي، فقد كان لا يذكر أمامه نحوي مثله إلا قال عنه ما قلت في أبي العلاء، وقد خاض ذات يوم في ذكر زملائه النحاة فجعلهم جميعاً كلاباً، فقال له بعض الحاضرين: إذا أنت ملك الكلاب لا النحاة، فكأنما ألقم بحجر فاه!

- ملك النحاة معذور في سبه الناس، فقد ابتلى بمخالطة الأوشاب والرعاع فوصفهم بما يستحقون - دعنا منه، وتكلم فيما جئت من أجله دون انتظار.

لم أجئ إلا لأسألك عن مؤلفاتك، وقد ذكرت لي معارضتك لأبي تمام وأبي نواس، فمن غيرهم من الذين نكبوا بمعارضتك على غير ميعاد.

- لقد رأيت استحسان الناس لجناس البستي، فألفت كتاباً في التجنيس، أسميته (أنيس الجليس) وخذ هذه الصحيفة واقرأ ما يقع عليه بصرك دون اختيار.

(يتناول ياقوت الصحيفة ويقرأ)

ليت من طول بالشام نواه وثوى به!

جعل العودة المزو

راء من بعض ثوابه

يقاطعه شميم ويصيح: اسجد الآن، اسجد الآن!

- لماذا أسجد يا مولاي؟

- هذا موضع من مواضع السجدات في الشعر، وأنا أعرف الناس بتلك المواضع فلا تخالف أمر مولاك.

يسجد ياقوت ثم يلقي الصحيفة ويسأل:

- ومن غير أبي تمام وأبي نواس وأبي الفتح البستي قد نكب بمعارضتك أيها السيد الجليل؟

- هل سمعت الخطباء يرددون على المنابر خطب أبن نباتة في دمشق وحلب وبغداد؟

- نعم يا مولاي.

ص: 25

- لقد عارضت هذا المتشدق بخطب قوية مدهشة، فليس للناس حديث غيرها الآن

- معذرة! فلم أحظ بسماعها. ولعل لديك سفراً يجمعها وأسعد بقراءته ردحاً من الزمان.

يمد شميم يده ويعطيه ديوان الخطب، فيقرأ ما وقعت عليه عينه ويسمع صاحبه قوله:

الحمد لله فالق حب الحصيد بحسام سح السحب، صابغ خد الأرض بقاني رشيق العشب، محيي ميت الأرض بإماتة كالح الجدب، لابتسام ثغر النسيم أنفاح الخصب، أحمده على ما منح من موضح بيان بما ألب في سوداء لب)

ويلاحظ شميم تلكؤ ياقوت في القراءة فيصبح منفعلاً

- ما للبهائم والأدب؟ دع السفر أيها الأعجم البليد، هل مررت على الموصل فأخذت منها البلادة والغباء؟

- معذرة يا مولاي، فقد ثقلت التراكيب، ولم يجد اللسان نافذة للاسترواح فتعثر به المنطق. . . وضل الإجادة في الإلقاء.

- قلت لك هل مررت على الموصل فأخذت منها الفهاهة والبلادة؟ فلم أظفر بجواب!

- أنا مضطر لمخالفتك الرأي في أهل الموصل فهم كما أعتقد، ألبة أذكياء.

- وما معرفتك بالذكاء واللب؟ لقد ناقشتهم وخبرتهم، فعجبت كيف خلقهم الله، ووالله لو قدرت على خلق مثلهم ما خلقتهم على الإطلاق.

- للمرة الثانية تذكرني بأبي نزار ملك النحاة!

- ولأي شيء ذكرتك به الآن؟

- أنت تسب أهل الموصل، وهو يسب أهل الشام، وكلاكما لا يعترف بإنسان، فجميع الناس كلاب رعاع. . .

- لي العذر إن شتمت جميع الناس، فهم لا يفرقون بين الدر والبعر، وملك النحاة معذور أيضاً، وإن كان يخاف الناس فلا يجاهر بسبهم كما أفعل الآن.

- هو مجاهر مثلك يا مولاي، وقصته مع نور الدين زنكي قد عرفها كل إنسان يقطن بلاد الشام!

- لم أشغل ذهني قبل الآن بأبي نزار فأعرف قصته مع نور الدين، ومع ذلك فاسردها علي بإيجاز.

ص: 26

- لقد خلع نور الدين عليه حلة سنية، ومر في طريقه فرأى حلقة بها تيس يدربه إنسان، فقال المدرب لتيسه، إن بحلقتي رجلاً عظيم الشأن نابه الذكر، فأين مكانه، فشق الحيوان الحلقة ووضع يده على ملك النحاة، فلم يتمالك نفسه وخلع عليه حلة نور الدين، وعلم الملك فعاقبه، فقال ملك النحاة، إن بهذه المدينة أكثر من مائة ألف تيس فما عرف قدري غير هذا الحيوان فخلعت الحلة عليه في ارتياح.

- أصاب ملك النحاة فأهل الموصل كأهل الشام في الدناءة والحطة، وقد كنت أشرح لهم القاعدة العلمية، واقرأ النص الأدبي موضحاً محللاً فما يستفيدون شيئاً مني، فمن ذا يلومنا على احتقار الدهماء!

- كلامك رفيع يا مولاي، فالموصليون معذورون إذا لم يفهموه.

- اسمع يا بني ليس في الوجود إلا خالقان، فواحد في الأرض وواحد في السماء، فالله في السماء، وأنا في الأرض كما تراني الآن.

ياقوت ينظر إليه مندهشاً.

شميم: هذا كلام لا تفهمه أنت ولا العامة، ولكنك لا تنكر مقدرتي على خلق الكلام.

- اعفني من هذا الحديث يا مولاي، فلست من علماء التوحيد فأعلم من الذي يخلق الكلام؟

- إذا لم تسر المناقشة كما أريد فلن أتحدث معك في علوم الأدب على الإطلاق!

- لن نتحدث في الأدب كما تريد يا مولاي، وسأسألك سؤالاً يتعلق بك، فأنا رجل محدث، وإن لم تكن بالمحدث جرأة مات بغصته، فهل تأذن بالجواب؟

- اذكر السؤال أولاً ولي الحق في قبوله أو رفضه كما أشاء.

- لم سماك الناس (شميماً) مع أن اسمك الحقيقي علي يا مولاي؟

- لقد مكثت مدة من عمري لا آكل غير الطيب، لأخفف الرطوبة، وأقوي الذاكرة، وكان الغائط يمتنع عني بضعة أيام، فإذا جاءني كان أشبه ببندقة من الطين، فكنت آخذه وأقول لمن يجلس معي (شمه، شمه) فإن له رائحة طيبة، فكثر ذلك حتى غلب علي ولقبني الناس بشميم.

- حسبك يا مولاي، فأنا أريد أن أسجل جميع ما سمعته منك، ولو طال بنا الحديث لعجزت عن حصره، وستكون تسميتك هذه مسك الختام.

ص: 27

- لقد أمتعتك بحديثي، وهو لا يباح لكثير من الناس، فاشكر ربك على فضله، فالأمر كما قال أبو العلاء

وكم عين تؤمل أن تراني

وتفقد عند رؤيتي السوادا

(المنصورة)

محمد رجب البيومي

ص: 28

‌رسالة الشعر

من أعياد باريس:

أشواق. . .

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

يا (هنائي) ليلنا خمر وزهر وغرام

وطيوب تثمل الروحان منها وهيام

ونشيد كلما غنى به العشاق هاموا

ولواء رف بالرفق على الناس فناموا

فأقبلي كالطيب كالأنسام في الروض الأغن

واستظلي بجناحي ونامي بين جفني

واحلمي يا فرحتي الكبرى بحبي المطمئن

هل سوى ذاتك ذاتي، هل سوى لحنك لحني

سائلي النسمة هل مرت على شيء عدانا

وهل البلبل فوق الأيك غنى لسوانا

وهل الوردة فاحت بالشذى لولا هوانا

نحن لو تدرين نجوى والأغاريد صدانا

أين من (باريس) ليلات كنسيان نديه

وسويعات لقاء في مغاني الأعظمية

إذ طويناها كما شاء لنا الحب سويه

أترى ترجع أطياف هوانا الذهبية

أترى مجلسنا الضاحك في (الكرخ) يعود

مثلما كان وتزهو عند لقيانا الورود

نشتكي لليل، والشهب على الشكوى شهود

أم ترى نبقى (بباريس) ويطوينا الوجود

ص: 29

أترى تبصر عيناي (ببغداد) النخيلا

وسنا (دجلة) والملاح يشدو والأصيلا

وسرى زورقنا المسحور والأفق الجميلا

والنسيم الطلق إذ يهفو على الشط بليلا

والعذارى آه ما أحلى (ببغداد) العذارى

كل حسناء كأيار بهاء وازدهارا

كلما أقبلن يملأن من النهر الجرارا

خلت سرباً من فراش طاف بالروض وطارا

يا ليالينا بوادي السحر عودي يا ليالي

وأعيدي ذكريات الأمس في وادي الجمال

حين رف الحب بالنجوى على ثغر الهلال

وعلى الزورق قلبان كأطياف الليالي

يا صدى أنشودة القلب ويا بكر هوايا

أنا لولاك لما باحت بحب شفتايا

ولما غرد قلب هو في الصدر بقايا

أنت دنياي ولولاك لضاقت بالرزايا

آه يا أشهى أماني ويا أجمل عمري

يا نسيماً خضل الأنداء قد أنعش زهري

وضياء لاح في ليل صباباتي كفجر

لم تكن دنياي لولاك سوى ظلمة قبر

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 30

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

فضيحة علمية لأستاذ جامعي:

أعتقد أن هذه الكلمة، تحت هذا العنوان، ستدفع فريقاً من القراء إلى أن يقول لي: ترفق. . ترفق بالدكتور عبد الرحمن بدوي لأنه (فيلسوف) مصر الأول، و (أستاذ) الفلسفة بجامعة إبرهيم، وصاحب الإنتاج الفكري - معذرة فلعل المقصود هو الإنتاج المطبعي - الذي يربى على الثلاثين كتاباً!

صيحة أتوقعها قبل أن أسمعها. . ولولا أنني أعرف الدكتور بدوي حق المعرفة، من خلال صحبته، ومن ثنايا كتبه، ومن حقيقة لقبه - أعني فيلسوف مصر الأول - لولا أنني أعرفه على ضوء هذا كله، لما تجاوزت الصيحة المنتظرة ومضيت في الطريق إلى نهايته!

لقد كان من المعقول أن أترفق بالدكتور بدوي لو أنه ترفق باللقب الخطير الذي أضفى عليه، وترفق بالأستاذية الجامعية التي هيئت له، وترفق بالقيم الفكرية التي احتمى بها أو احتمت به، وترفق بعقلي وعقلك وهو يريد أن يزاحم المنتجين في كل ميدان. . لو أنه ترفق بهذه الأمور جميعاً لرجعت إلى قلمي أسأله شيئاً من الرفق، أو شيئاً من الصفح، أو شيئاً من الأناة!

لقد حاول الأستاذ أن يكون فيلسوفاً بالقوة، وحاول أن يكون أديباً بالقوة، وحاول أن يكون قصاصاً بالقوة، وحاول أن يكون شاعراً بالقوة، وحاول أن يكون ناشر مخطوطات ومحقق نصوص بالقوة. وقد تفلح القوة في الشئون السياسية والدولية، ولكنها - وهذا ما أود أن يفهمه الدكتور بدوي - لا تفلح في الشئون الفكرية والفنية! صدقني أنني معجب به كل الإعجاب لأنه مؤمن بنفسه إلى أبعد حدود الإيمان، حتى ليكرهها على ما لا تحسن وما لا تطيق: يكرهها على فهم الفلسفة، ويكرهها على هضم الأدب، ويكرهها على نظم الشعر، ويكرهها على كتابة القصة، ويكرهها آخر الأمر على نشر المخطوطات وتحقيق النصوص. أرأيت إيماناً بالنفس يبلغ عند الموهوبين ما بلغه عند هذا المصري النابغ الموهوب؟ ألم أقل لك إنني معجب كل الإعجاب بهؤلاء المؤمنين بأنفسهم، حتى ولو أكرهوها إكراهاً على أن تطرق كل باب، وأرغموها إرغاماً على أن تخوض في كل فن،

ص: 31

وأجبروها إجباراً على أن تحلق في كل أفق؟!

يخيل إلي أنني مقصر في حق النقد ومهمل لرسالته. ولو لم أكن مقصراً ومهملاً لتناولت قلمي منذ أمد بعيد لأحاسب الدكتور بدوي. . يخيل إلى هذا، ولكني أعود إلى نفسي فألتمس لها شيئاً من العذر، حين أنظر إلى الميدان فأجده قد خلا من النقاد. ترى هل يستطيع ناقد واحد أن يحاسب هذا العدد الضخم من المنتجين؟ وكيف أستطيع أن أحاسبهم جميعاً وفيهم من أحال الإنتاج (المطبعي) إلى معمل من معامل التفريخ؟!

إن إنتاج الدكتور بدوي وحده جدير بأن يشغل جيشاً من النقاد لا يهدأ ولا يستقر، ولكن أين هو هذا الجيش؟ أين الفصيلة التي تحارب الدكتور بدوي في جبهة الفلسفة، وأين الفصيلة الثانية التي تحاربه في جبهة الأدب، وأين الفصيلة الثالثة التي تحاربه في جبهة الشعر، وأين الفصيلة الرابعة التي تحاربه في جبهة القصة، وأين الفصيلة الخامسة التي تحاربه في جبهة التحقيق العلمي. . وأين الفصائل الأخرى التي تحاربه فيما يستجد بعد ذلك من جبهات؟ لقد تصدى له صديقنا سيد قطب - جزاه الله خيراً - في الجبهة الثالثة يوم أن اجترأ على أن يصدر ديوانه الخالد (مرآة نفسي)، ومع أن طعنات صديقنا الأستاذ قطب كانت قاتلة، إلا أنها كانت طعنات مهاجم واحد في ميدان يحتاج إلى فصيلة من المهاجمين. . إذا لم تصدق فاعلم أن الدكتور بدوي قد شرع في إخراج ديوان جديد، ديوان أسأل الله أن يعينني على لقائه!!

مهاجم واحد بالأمس في جبهة الشعر هو سيد قطب، واليوم يظهر في الأفق مهاج آخر هو سيد صقر. ما أعجب التشابه بين الاسمين وما أبعد الفارق بين الجبهتين. . إن الجبهة التي يهاجم فيها صديقنا الأستاذ صقر جبهة جديدة، فتحها الدكتور بدوي وهو أقدر القادرين على فتح الجبهات، لأنه أقدر القادرين على ادعاء المواهب والملكات. . . أما رحى المعركة فتدور على صفحات زميلتنا مجلة (الثقافة). هناك حيث خطر للدكتور بدوي أن يحقق (الإشارات الإلهية) لأبي حيان التوحيدي!

إلى هنا وأقف قليلاً لأحدثك عن هذه الفضيحة العلمية التي ارتكبها الدكتور بدوي، وكشف عنها الغطاء صديقنا الأستاذ السيد أحمد صقر جزاه الله. . لقد نشر المقال الأول في العدد الأسبق من (الثقافة)، ولن يصل هذا العدد من (الرسالة) إلى أيدي القراء حتى يكون المقال

ص: 32

الثاني قد خرج إلى النور. . ليهتك حجب الظلام! ولن يقتصر الأمر على هذين المقالين، فلابد من مقال ثالث ورابع وخامس، لقاء ما بذل الدكتور بدوي من جهد في تشويه سمعة أبي حيان، وتشويه سمعة نفسه، وتشويه التحقيق العلمي في مصر!!

إن ما نشر من سقطات الدكتور بدوي كان أهون ما في الكتاب، وما بقي كان ألعن. . . واستمع لفصول القصة:

في مساء الاثنين الماضي كنت وحيداً في بيتي، أتأهب للخروج ولا أعرف إلى أين، فقد كان كل همي أن أطلق النفس من قيود الأسر، أسر القلم والكتب والجدران. . وفجأة هبط علي زائر كريم لم أكن أتوقع زيارته، لأنه كان معي قبل ذلك بيوم واحد، هناك على صفحات مجلة (الثقافة). وحين راحت يده اليمنى تصافحني كانت يده اليسرى تصافح أبا حيان، أعني تتصفح كتابه المفترى عليه: الإشارات الإلهية!

وقلت للأستاذ السيد أحمد صقر بعد أن استقر به المقام: معذرة فليس لدي تليفون حتى أدعو الأدباء من أعضاء ندوتنا الأدبية إلى الاجتماع في بيتي. تعال نذهب إلى مكاننا المختار حيث ندعوهم من هناك، فما أحوجك إلى كثير من الشهود المستمعين لدفاعك عن كرامة التحقيق العلمي في مصر!. . . والتأم شمل الندوة بعد دقائق، فكان فيها إلى جانب الشعراء والأدباء، بعض الأساتذة من جامعتي فؤاد وإبراهيم. وبدأ الأستاذ صقر يقرأ على الآذان المرهفة مقاله الأول الذي نشر في (الثقافة)، وحين انتهى منه، مضى يقلب صفحات الكتاب الذي (حققه) الدكتور بدوي وقدم له، واقفاً عند كل صفحة، مشيراً إلى كل سقطة، لافتاً إلى كل تشويه، معرجاً على تحريف!

أقسم لقد ضحكنا حتى اهتزت تحتنا المقاعد من كثرة الضحك، ودهشنا حتى عقدت الدهشة منا كل لسان، وأسفنا حتى ارتسمت معالم الأسف على قسمات الوجوه ونظرات العيون. . وقال أستاذ جامعي طلب إلي ألا أذكر اسمه لأنه صديق للدكتور بدوي وزميل له في جامعة إبرهيم:(هذه فضيحة من طراز فذ ليس له نظير. إن مصيبة الدكتور بدوي أنه لا يتأنى في إخراج كتبه، لأنه مولع بأن يكون له في السوق أضخم إنتاج بين المعاصرين. . هل المسألة مسألة كمأم مسألة كيف؟ أظن أن الجامعيين يجب أن يهتموا بالجانب الأخير)!

وعقب الأستاذ صقر غاضباً وهو يوجه إلي الحديث: لو كنتم يا حضرات النقاد تحاسبون

ص: 33

هؤلاء الناس لما حدث الذي حدث. . إنكم تتحدثون عن أزمة القراء، ناسين أن إنتاجاً من هذا الطراز هو العامل الأول من عوامل الأزمة، أو هو العنصر الخطير من عناصر المشكلة. إن القراء معذورون إذا انصرفوا عن القراءة وشغلوا عن ثمرات المطابع، ما دام أكثر الكتاب في مصر يلتمسون الشهرة عن طريق القيمة (العددية) للآثار الفكرية!

وقلت للأستاذ صقر وعلى شفتي طيف ابتسامة: هذا صحيح! ولكن من هم (حضرات) النقاد يا صديقي؟ ترى هل تخاطبني بصيغة الجمع توقيراً لي، أن تقصد إلى أن في البلد نقاداً كثيرين يستحقون اللوم والتأنيب؟ إذا كنت ترمي إلى التوقير فأنا أشكرك، أما إذا كنت ترمي إلى كثرة النقاد فإني أعترض عليك. . أين هم النقاد في مصر؟ إنني أكاد أقف وحدي في ميدان النقد، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها! ثم هل وجهت شيئاً من لومك إلى حضرات الأساتذة الجامعيين الذين يجلسون بيننا في هذه الندوة؟ لماذا لا يمتشق أحدهم قلمه ليحاسب زميلاً له على هذه الفضيحة العلمية التي تسيء إلى الجامعة؟ مهما يكن من شيء فأنا أعدك بأن أكتب في الموضوع على صفحات (الرسالة)!

وقال أحد الجالسين من الأدباء وهو يريد أن يطمئن: من أي زاوية ستتناول الموضوع؟ هل ستشير في (الرسالة) إلى بعض ما كشف عنه الأستاذ صقر في (الثقافة)، أم أنك ستتحدث عن أزمة القراءة مرة أخرى لتنصف القراء؟!

وأجبت وأنا أدرك هدف اللفتة البارعة: بالطبع سأشير هنا إلى مقالات الأستاذ هناك، وسأطلب إلى قراء (الرسالة) باسم الحق والكرامة العقلية وأمانة البحث والاطلاع، أن يتابعوا الأستاذ صقر في (الثقافة) ليطمئنوا إلى أنني لم أكن غالياً في كل هذا الذي كتبت، وليدركوا أن أثر هذه الفضيحة العلمية في ميزان الضمير العلمي، لا يقل عن أثر أي فضيحة أخرى كفضيحة تحقيقات الجيش مثلاً في الضمير الاجتماعي. أما القراء فلا بأس من أن أعفيهم بعض الإعفاء من تحمل التبعة، ما دام الدكتور بدوي وأمثاله في الميدان!

وقال الأستاذ صقر وهو يدفع إلي بكتاب (الإشارات الإلهية): إن للكتاب مقدمة لا تدخل في حدود علمي ولكنها تدخل في حدود علمك. إنها محاولة (رائعة) يثبت بها الدكتور بدوي أن أبا حيان كان أديباً وجودياً لا يقل أصالة في نزعته الوجودية عن الأديب الألماني فرانز كفيكا!. إنني أترك لك هذه المقدمة لتناقشها على صفحات (الرسالة)، وسأدفعك إلى ذلك دفعاً

ص: 34

حين أوجه إليك هذه الرغبة على صفحات (الثقافة). اقرأ يا صديقي اقرأ، واشكرني على أن قدمت إليك منبعاً من منابع الإضحاك!

وتناولت الكتاب ورحت اقرأ هذه المقدمة العجيبة حقاً. . تقولون إن نجيب الريحاني الذي كان نابغة عصره في إضحاك الناس قد مات، دون أن يملأ مكانه أحد؟! مهلاً أيها المتشائمون. . لقد أثبت الدكتور بدوي أن نجيب الريحاني لم يمت، وإذا كان، فقد ملئ مكانه بجدارة! أثبت ذلك في تحقيقه لمخطوط أبي حيان عن (الإشارات الإلهية). وفي مقدمته التي ذهب فيها إلى أن أبا حيان كان صاحب نزعة وجودية. . وبقى أن ينتهي الأستاذ صقر من مقالاته، لينتظرني الدكتور بدوي في هذا المكان!

برناردشو ورسالة المال:

في عدد قريب من الرسالة الغراء، وضعت لنا في ميزانك الدقيق الأنيق، وعلى أضواء عقلك المفتش وأشعة ذهنك الوهاج الكاتب الأيرلندي العالمي جورج برناردشو، فأدركنا ألمع اللافتات في فن هذا الكاتب العظيم. . لافتة العقل الساخر، وعرفنا أنها (الإطار الطبيعي الذي يحيط بكل صورة من صور هذه الحياة، ونقطة الارتكاز التي يلتقي عندها خط الاتجاه النفسي الممتد من هنا وخط الاتجاه الفكري المنطلق من هناك!

غير أني وقفت طويلاً يساورني الشك ويتوزعني الارتياب عند نقطة قلت لعل من الخير أن أرجع إليك متسائلاً ومستفيداً من تلقي الجواب. . لقد قلت إن شوكان يمتدح الشيوعية الروسية وينعت قطبها الأكبر ستالين بأنه خير الناس، ثم تساءلت: ترى هل كان شو يؤمن بهذا الرأي الذي يجهر به، أم أن سخطه على الرأسمالية عامة وعلى الإنجليز خاصة، هو الذي كان ينطقه بغير ما يعتقد ويظهره بغير ما يريد؟ ثم أجبت بقولك: الحق أنه السخط من جهة - وتقصد السخط على الرأسمالية طبعاً - والإيمان بالرأي من جهة أخرى!

ولكن، هل كان شو يا سيدي ساخطاً على الرأسمالية، غير مؤمن باستحواذ المال؟ إن الأستاذ العقاد يؤكد لنا في كتابه الصغير عن برناردشو، أنه كان مؤمناً برسالة المال في حياة الآحاد وحياة الجماعات (ص114)، وقال أنه لا يكتم هواه للمال وحبه للاستزادة منه ما استطاع (ص25)، ثم يحدثنا العقاد عما كان يجذب شو نحو الاشتراكية فيقول: كان يجذبه إليهم (فقره) وتمرده على النظم القائمة ونشأته الايرلندية التي تعلم منها الثورة على

ص: 35

الاستعمار والاستغلال، فكان انضواؤه إلى جماعة الغابيين (ص27) فإذا أردنا تفسير كلمة (فقره) وجدناها لا تعني سخطه على الرأسمالية، يؤيد ذلك قول شو نفسه: لا تخلط بين كرهك لزيادة جارك في الغنى وكرهك للفاقة. . فكأنه يقول: لتكره الفاقة ما استطعت ولتحاربها بالجهد في كسب المال، ولكن لا تكره الأغنياء لأنك فقير، كأنه يقول ذلك.

من هذا يا سيدي أردت المزيد من الوضوح، ولعل في تفسيرك السابق معنى آخر تكمن فيه الحقيقة دون أن أفطن إليه، وقد استدق على فهمه واستجلاؤه. . وتقبل أخلص تحيات المعجب:

(السويس)

محمد محمد عبد الرحمن

الأديب الفاضل صاحب هذه الرسالة تاجر من تجار السويس ومع ذلك فهو يقرأ (الرسالة)، ويناقش في الأدب، ويقتطع من قوته لحظات ثمينة يقضيها في صحبة الأدباء. . . من حقه علي أن أخفض قلمي تحية له وإعجاباً به، لأنه يضرب أروع الأمثال لهؤلاء الذين يفضلون عصير الليمون على عصارة الأذهان، ويؤثرون التسكع في الطرقات على قراءة الكتب وزيارة المكتبات!

تحية أقدمها إلى الأديب الفاضل قبل أن أقول له: يؤسفني أن يحول ضيق النطاق في هذا العدد عما يريد من جواب. . فإلى العدد المقبل حيث نعود إلى برناردشو من جديد، مسلطين بعض الضوء على تلك الجوانب التي تنشد التفسير والتعليل.

أنور المعداوي

ص: 36

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

البعث العربي الجديد:

قضيت الأسبوع الماضي وبعض هذا الأسبوع، حبيس الدار لرمد في عيني، وما أريد أن أتحدث عن مرضي وما نالني منه، إن أريد إلا أن أطلق بخار الطاقة المحبوس في نفسي، فقد كنت طيلة هذه المدة كالجواد العربي الذي شد لجامه وهو يعلكه. . يريد أن ينطلق. . أريد أن أعدو وأروح وأذهب وأجيء وأقرأ وأكتب فمالي عيش بغير هذا، ولن يطيب لي القعود.

وكان أكبر أسفي لتلك الحبسة أن منعتني من المشاركة في ذلك النشاط العربي الذي دب في نواح من القاهرة، في جمعية الوحدة العربية، وفي الاتحاد العربي، وقد تلقيت دعوتين كريمتين، الأولى من (جمعية الوحدة العربية) لسماع المحاضرة التي ألقاها في نادي الجمعية يوم الخميس الماضي الأستاذ محمد توفيق دياب بك عن (التربية الوطنية في العالم العربي) والثانية من (الاتحاد العربي) لسماع محاضرة الأستاذ أحمد رمزي بك عن (العلاقات الاقتصادية بين البلاد العربية).

كنت أود أن أذهب لأسمع، ثم آتي لألخص هنا ما سمعت، وقد أعقب عليه وأضيف إليه ما يعن لي في هذه المشاكل التي تشغل منا القلوب والخواطر. ولكن، إن كنت قد تألمت من القعود عن ذلك، فقد سرني بعض ما نشر عنه من ذلك الذي كان يقرأ لي. . وذلك ما حدث في جمعية الوحدة العربية عقب محاضرة الأستاذ توفيق دياب بك، إذ وقف الأستاذ أسعد داغر السكرتير العام للجمعية، فقال: تلقيت من بضعة أيام الرسالة التالية من أحد الوطنيين العرب أقتطف منها ما يأتي: (كان لحديثكم بشأن المشروع الجديد لإنشاء جريدة كبرى تكون صوتاً للبعث العربي، صدى عظيم في نفسي، لأن هذا الصوت العربي الجديد لا قبل أن ينام على الضيم، العربي الذي يشعر بألم الطعنة التي أصابته في عزته وكرامته يحاول الآن أن ينهض ليستعيد قوته الكاملة ويسترد مجده المسلوب. تجدون طيه شيكاً بمبلغ عشرة آلاف جنيه، وسأقدم لكم خلال الأسابيع المقبلة مبلغاً آخر مثله أو أكثر إذا لزم، وقد أحببت أن أترك لغيري من المخلصين الفرصة لنيل شرف المساهمة في هذا المشروع الجليل).

ص: 37

البعث العربي الجديد، وعشرة آلاف جنيه يبذلها عربي كريم لمشروع في تعزيز هذا البعث. . أنه شيء عظيم وأرجو أنه يكون أول الغيث.

إنني لم أيأس ولن أيأس، من هذه الأمة العربية، بل أقول إن شيء يدعو إلى التفاؤل، وكل ما منيت به إنما هو سحب لا بد أن تنقشع. لقد تركنا قبل مايو سنة 1948 لا شيء، ثم صرنا بعد ذلك شيئاً. . لم نكن قبل موجودين لأننا لم نكن نعمل، ثم تحقق وجودنا لأننا عملنا وأخفقنا. . ولا بأس أن نخطئ ونخفق على أن ننهض وننفض الغبار ونستعد، وإنما اليأس كله أن نتفكك ونتوانى وننام.

إن هذه الأمة العربية أمة واحدة، وهي جسم واحد لا ينبغي أن يفرق بين أعضائه ما يند من إيذاء بعضها لبعض، فقد تعض الأسنان اللسان. فلا تخلع الأسنان، وسينتهي ألم اللسان! ولو أننا جعلنا مثل هذه الأمور سبباً إلى التفرق لما أبقينا على البلد الواحد بل الأسرة الواحدة، فلو أخذنا بما يحاجنا به المبطلون في الوحدة العربية مما حدث في الظروف الأخيرة التي لابست الحركة العربية لما أبقينا على مصريتنا لما يلابسها في بعض النواحي من بغى وفساد.

والبعث العربي الجديد يجب أن يقوم على الإغضاء وتناسي ما كان، ونقد الواقع الفاسد، والعمل للمستقبل. وهو من حيث التسامح والإيثار - كما قال العربي الأول:

وإن الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جداً

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وإن ضيعوا غبني حفظت غيوبهم

وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا

وإن زجروا طيراً بنحس تمر بي

زجرت لهم طيراً تمر بهم سعدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهمو

وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

لهم جل مالي إن تتابع لي غنى

وإن قل مالي لن أكلفهم رفدا

بين الحقيقة والمجاز:

في إحدى الجلسات الماضية بمؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية ألقى الأستاذ عباس محمود العقاد محاضرة عنوانها (كلمات عربية بين الحقيقة والمجاز) بدأها بقوله:

توجد في اللغة العربية كلمات كثيرة بقى لها معناها الحقيقي مع شيوع معناها المجازي على

ص: 38

الألسنة، حتى ليقع في اللبس في أيهما السابق وأيهما اللاحق في الاستعمال، ثم قال إن من هذه الكلمات كلمتي (الحقيقة) و (المجاز) فالحقيقة فكرة مجردة ولكن مادة الكلمة تستخدم للدلالة على ما يلمس باليد ويقع تحت النظر فيقال (انحقت) عقدة الحبل، أي أنشدت. والمجاز من جاز المكان أو جازيه غير معترض، ويقال هذا جائز عقلاً أي غير ممتنع ولا اعتراض عليه.

وعرض الأستاذ طائفة من الكلمات وبين معانيها الحقيقية والمجازية واستعمالاتها في المحسوسات وغير المحسوسات ثم قال: ونستطر ومما تقدم إلى المقارنة بين اللغة العربية واللغات الأخرى في استعمال المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في وقت واحد فيبدو لنا من هذه المقارنة أن الكلمات التي تستعمل للغرضين كثيرة في اللغة العربية الأوربية، وقد يرجع هذا الفارق إلى غير سبب واحد، فلعله راجع إلى تطاول العهد بين بداوة الأمم الأوربية وحضارتها، ولعله راجع إلى انتقال لغاتها إلى حالتها الحاضرة من لغات قديمة بطل استعمالها وانقطعت فروعها عن أصولها، ولعله راجع إلى خاصة عربية بدوية في التعبير بالتشبيهات المجازية أو الشعرية. وأياً كان السبب فالخلاصة العلمية التي نتأدى إليها من هذه الملاحظة أننا لا نحتاج كثيراً إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة، لأن هذا التسلل ضروري في اللغات التي يكثر فيها إهمال الكلمات في معنى وصيرورتها في معنى آخر ولكنه لا يبلغ هذا المبلغ من الضرورة حين توجد الكلمة مستعملة في جميع معانيها على السواء أو على درجات متقاربة. ومن النتائج العملية لتلك الملاحظة أن نذكر في سياق التجديد والمحافظة على القديم أن العرب كانوا مجددين على الدوام في إطلاقهم للكلمات القديمة على المعاني الجديدة، ونحن لا نعدو سياقنا هذا حين نلتفت إلى الأصل في كلمة القديم والأصل في كلمة الجديد، فنتخذ منهما شاهداً على ما ذهبنا إليه. فالتقديم هو السير بالقدم، ويقال تقدم أي مشى بقدمه، كما يقال ترجل أي مشى برجله، وتقدمه أي مشى أمامه، ومن هنا التقدم بمعنى السبق والقديم بمعنى الزمن السابق. ولا ندري على اليقين كيف أطلقت كلمة الجديد على معناها هذا في أقدم أطوارها، ولكننا ندري أن الجد هو القطع وأن الثوب الجديد هو الذي قطع حديثاً، فلعل هذا المعنى من أقدم معاني الجديد، إن لم يكن أقدمها على الإطلاق. وظاهر من جملة هذه الملاحظات أن أهل

ص: 39

العربية جددوا كثيراً في مجازاتهم، وأننا نستطيع أن نحذو حذوهم ونحن نقول (نحذو حذوهم) ولا نظن أننا نبعد في اتخاذ الكلمات لمعانيها المستحدثة مسافة أبعد من المسافة بين الأصل في حذو الجلد وبين المجاز في دلالته على الاقتداء والاهتداء، ولا أبعد من الأصل في كلمة (المسافة) حين أطلقت على الموضع الذي يسوف فيه الدليل تراب الأرض ليعرف موقعه من السير، ثم استعيرت لما نعنيه اليوم بالمسافة وهي كل بعد بين موضعين. وشرط اللغة علينا أن نصنع كما صنع أهلها، فنجدد في المعاني من طريق المجاز، بحيث لا يكاد السامع يفرق بينها للوهلة الأولى: أهي أصل في اللغة قديم أم مجاز جديد.

ثم جرت مناقشة بين الأعضاء في موضوع المحاضرة، قال فيها معالي السيد محمد رضا الشبيبي: هل يفهم من قول الأستاذ (إننا لا نحتاج كثيراً إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة وأننا في غنى عن وضع المعجمات اللغوية التاريخية)! فقال الأستاذ العقاد: في اللغة العربية استعملنا كثيراً من المعاني المجازية، لكن التعب الذي نحتاج إليه في الرجوع إلى أحوال الكلمات أقل من تعب واضعي المعجمات الأوربية، فمثلاً معجم أكسفورد وهو أكبر معجم للإنجليزية اضطر واضعوه أن يبدءوا من القرن الثاني عشر لأن ما قبله لا يستعمل الآن ولا يفهم، لكننا نحن قد نجسد كلمة من الجاهلية تستعمل الآن في معناها الأصلي.

وقال الأستاذ (جب): ما مدى تطبيق هذه القاعدة؟ إن نظام الاختيار في نهاية الأمر للجمهور، أما فيما يختص بالمصطلحات العلمية فالجمهور خاضع لأمر المختصين.

وقال الأستاذ (ماسنيون): تذكرت جلسة من الجلسات القديمة تباحثنا فيها عن التضمين، فالتضمين كالمجاز، وقد ألقيت منذ سنتين كلمة في جامعة باريس عن أهمية التضمين في تشكيل عبارات جديدة ومعان جديدة في قوالب قديمة. فقال الأستاذ العقاد: لم تنتفع بالتضمين حق الانتفاع مع أنه نافع جداً، والتضمين يجب أن يتجه إلى إيداع معان فكرية جديدة، أما المحللات اللفظية فنحن في غنى عنها.

حول محاضرة الدكتور ناجي:

قرأت تعقيبك على محاضرة (الشاعر الدكتور ناجي). . . وأنا وإن كنت ممن يقدرون شعر ناجي، بل كنت - يوماً - أضعه في مصاف الملهمين المعاصرين من أمثال علي طه وإيليا

ص: 40

أبي ماضي. . . وإن كنت أيضاً لا أحب أن أتعرض لشكواه من أن القراء يقدرونه أو لا يقدرونه. . . إلا أنه آلمني حقاً أن ناجي يود أن تتخلص الرسالة من شعرائها (التافهين)، أو على الأصح يود أن تقف الرسالة (رسالة الشعر) عليه وعلى أمثلة من الملهمين. . .

هذه يا سيدي الأستاذ - علة الشرق الحديث، وهذا داؤه. . . كلنا يحب أن يطغى على غيره. . . لا عمل لنا إلا قتل الناشئين في مهدهم. . . أما أن نفسح لهم الطريق - ولا أقول - نقومهم ونرشدهم. . . أما أن نتخذهم تلامذة لنا. . . نقول لهم هذا صحيح فاتبعوه، وذاك خطأ فاجتبوه. . . فليس هذا من دأبنا.

وليس الذنب ذنب (ناجي) وحده - فيما أرى - فلقد سمعت منذ أشهر أحد الأدباء الكرام يتهجم هو أيضاً على الشعراء من شباب اليوم ويتهكم قائلاً: إنهم يقولون الشعر وهم بعد لم يحفظوا (كتب المحفوظات في المدرسة). . .

وهكذا يستعدي ناجي الرسالة على الناشئين من الشعراء وهي المجلة الوحيدة في الشرق التي لا تشتري الأسماء ولا تنشر إلا ما يستحق النشر في وقت دأبت فيه جل مجلات الشرق على أن تشتري قراءها بأسماء ضخمة مقدمة ومؤخرة بالألقاب. . . وفات ناجي أن الرسالة أستاذ قبل أن تكون مجلة، وأن قراءها تلامذة قبل أن يكونوا قراء. . .

وبعد فما أحب أن أطيل الحديث مع ناجي، ولكني أود أن أقول له: لم لم أكتب للرسالة ناقداً وموجهاً؟!. . . لم لم يجابه أولئك (التافهين) بشعره على صفحات الرسالة؟!. . .

وبعد فيا صاحب (الليالي القاهريات). . . إني لأذكر أن الرسالة حدثتنا - منذ زمن - أنك أنكرت على الناس جحودهم لشعرك فحرقته - على ما أذكر - ويومها كنت أرثى لك وأترحم على شعرك. . . أفلا تخاف - يا شاعري - أن ينكر عليك شعراء الشباب هذا الجحود، فيفعلون بأدبهم مثل ما فعلت بأدبك في شبابك؟!. . . ويومها - يا سيدي - أقسم لك أننا سوف نفقد تلك الروح العذبة الرقيقة التي تسيطر على شعر الشباب. .!!. . لقد قالت الرسالة يا سيدي الشاعر في عددها الأخير على لسان الأستاذ المعداوي (إن الرسالة لن تغلق أبوابها يوماً في وجه أصحاب المواهب والملكات).

أسامة

إنني أشاطر الأديب (أسامة) تقديره لشعر الدكتور إبراهيم ناجي ولا أرى في تعقيبه ما

ص: 41

يحتاج إلى تعقيب إلا أنني أحب أن أعبر عن مودتي للدكتور ناجي، تلك المودة التي لا يعجبه أن تمزج بما أكتب عنه أحياناً. . ولكن ماذا أصنع وهو يغري هذا القلم دائماً بما يهيئ له من موضوعات طريفة؟ أنه يغضب مني، وقد اصطلحنا غير مرة، ولكن الإغراء يتجدد. . ومالي بدفعه حيلة.

وأرجو أن يوسع الشاعر الكبير الدكتور إبراهيم ناجي - صدره، ويعد نفسه - كما نعده - ملكاً أدبياً عاماً. . وأن يقبل تحيتي ومودتي واحترامي.

عباس خضر

ص: 42

‌الكتب

تفسير جزء تبارك

لفضيلة الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

وضع هذا التفسير صديقنا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية. وقد حذا فيه حذو الأستاذ الإمام في تفسيره لجزء عم من حيث الاقتصار على ما فيه الفائدة ويحتاج إليه الحريص على فهم كلام الله وحده. وقد تحققت هذا من التفسير وزارة المعارف المصرية فطبعت منه نيفاً وثلاثين ألف نسخة ووزعتها بين أيدي الطلاب. ويكفي في التعريف بهذا التفسير ما قاله المرحوم الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر فيه (أنه مرجو النفع به: لما فيه من العناية بتقرير المسائل التي تمس إليها الحاجة، ولما هو عليه من سلامة الأسلوب وصفاء العبارة) وقال فيه الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري كبير مفتشي المعارف في الوزارة العراقية، وقد أهدى إليه مؤلفه نسخة منه:(وأفاخر بأن أضمها إلى أمثالها في خزانة كتبي من أجلاد التفاسير لعلماء الأمة. ولها عليها جميعاً مزية الجدة في الرأي وجمال العرض وبراعة البيان) افتتح المفسر مقدمة تفسيره بقوله:

(نحمدك ربنا منزل القرآن. بحقائق الإيمان، وجليل العبر، وملهم الأذهان نواصع البيان، ودقيق النظر، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد المبعوث بأكرم الأديان، وقاطع البرهان، من ولد مضر، صلاة وسلاماً تتجددان، ما تجدد الزمان، وتعاقب الملوان. ولاح قمر، ولا أدل على تصوير مكانة هذا التفسير والتعريف بحسنه من أن نبسط تحت مواقع أبصار القارئ هذا النموذج منه: وهو ما حبره المؤلف تعليقاً على آية (كذلك يضل الله من يشاء ويهذي من يشاء) فقد قال بعد أن أبان ارتباط معنى الآية بمعنى ما سبقها وأزاح الستار عن معنى القضاء والقدر بما يمكن إليه ضمير القارئ المثقف قال ما نصه:

(على أن المقام ربما وسع كلمة نحب ألا تفوتنا عملاً بما أمرنا به القرآن من النظر في الأمم وحالاتها، ثم الاعتبار ببداياتها ونهاياتها، فنقول:

ص: 43

أشرنا في أطواء كلامنا السابق إلى أن البشر قد تجذبهم إلى سعادتهم أو شقاوتهم (جواذب) وإن شئت سميتها (عوامل): من مثل الملة التي يمارسون شعائرها وأحكامها، والحكومة التي تسيطر عليهم، والعائلة التي تربي أطفالهم. والمدرسة التي تعلم أبناءهم، والمحفل أو النادي الذي يحتشدون فيه للحديث أو السمر أو اللهو أو البيع والشراء أو مختلف الأعمال والمصالح - فالمراد من المحفل أو النادي ما يريده علماء التربية بقولهم (جماعة الأصدقاء والمعاشرين) - والوراثة التي تنقل إلى أبدانهم دم آبائهم ومزاجهم وتكوينهم الجسماني، كما تنقل إلى نفوسهم طباع أولئك الآباء وغرائزهم وأخلاقهم وتكوينهم الروحاني، والإقليم الذي يشربون ماءه، ويستنشقون هواءه، ويذوقون حره وبرده، ويقتاتون بمحصولاته. وهذا المؤثر يسميه علماء علم النفس (البيئة الجغرافية)، ويسمون العوامل الأخرى (البيئة الاجتماعية).

هذه (الجواذب) أو (العوامل) هي التي تعمل في تكوين الأمم، وهي التي تعرف بها حالتها الاجتماعية، ودرجتها في سلم المدنية؛ فإن صلحت تلك العوامل واستقامت صلحت الأمم واستقامت في أفرادها وجماعاتها؛ إذ ليست الجماعات إلا فرداً متكرراً، وإن ساءت وفسدت ساءت أحوال الأمم، وانحط شأنها، وتقهقر عمرانها.

هذه الجواذب هي التي تجتذب البشر إلى ملابسة الخير أو مواقعة الشر؛ وتقودهم من أيديهم إلى مواطن السعادة، أو مواطن الشقاوة، وهي التي نستدل بها، ونمشي على أثرها في معرفة ما هو قضاء الله وقدره في هذه الأمة، أو تلك الأمة.

فمهما رأينا من كمال تلك العوامل وسدادها، وثبات أمرها، وحسن نظامها - فهناك فوز الأمة وفلاحها، وتجلى حكم القضاء والقدر فيها. ومهما رأينا من نقص (العوامل) وخطلها، واضطراب أمرها، وقبح نظامها - فهناك هلاك الأمة ودمارها، وحكم القضاء والقدر فيها.

هذه العوامل هي التي يعنى بها الأنبياء والحكماء والمشرعون والعلماء الاجتماعيون، فيجتهدون في إصلاحها، وتقويم أودها؛ حباً في إصلاح أممهم، وترقية شأن شعوبهم، ولم يأل الدين الإسلامي في النصح لأبنائه بوجوب توفيرها وتنقيتها من الشوائب؛ كي تبقى صالحة لسعادتهم في دنياهم، ونجاتهم في أخراهم.

قد يقال: إذا كانت هذه العوامل هي مظهر قضاء الله وقدره في البشر، وعلى سلمها ينزلهم

ص: 44

ربهم ويصعدهم، ويشقيهم ويسعدهم، فأنى لنا الوصول إليها بالإصلاح والترميم، والتغيير والتبديل؟ وهل هذا إلا افتئات على القدر، وتداخل في وظيفته؟

والجواب على هذا آيات القرآن نفسها؛ فإنها إنما أمرتنا بالنظر في أحوال الأمم والاعتبار بما جرى؛ لنتمسك بما كان سبباً في نجاتها وسعادتها، ولنتجنب ما كان سبباً في هلاكها وشقاوتها. ونحن في كلتا الحالتين بالغون ما قضاه الله وقدره فينا (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).

وهذه الأمم المعاصرة لنا - معشر المسلمين - ارتفعت وعزت وغلبت بما كان من عنايتها بأمر العوامل المذكورة؛ فليس الدين لديها اليوم، ولا طرز الحكومة، ولا نظام العائلة، ولا قوانين المدرسة والتربية العامة وسائر مقومات الاجتماع - كما كانت عليه في عصورها الوسطى.

تقول: والإقليم والوراثة كيف يكون إصلاحهما؟

فأما إصلاح (الإقليم) فيكون بتجفيف المستنقعات، وغرس الأشجار، وإنشاء الغابات والحراج، وحفر الترع، وجر المياه النقية للشرب.

وأما إصلاح (الوراثة) وتحسين حالة النسل والأخلاف فقد أخذ الغربيون في الأيام الأخيرة يعتنون به، ويستفيدون مما يرشدهم إليه العلم الصحيح، والتجربة القاطبة بشأنه.

وهذا، أو ذاك، أو ذلك - مما يدخل تحت الطاقة، ويستطيعه البشر وقد أصبحت المكابرة فيه ضرباً من الجهل والغباوة بعد ما رأينا حسن أثره واضحاً جلياً في الأمم التي غلبت علينا، وأصبحت المتحكمة فينا.

وعجيب من مسلم أن يجرؤ على القول بأن في إصلاح الدين، أو الحكومة، أو نظام العائلة، أو طريقة التعليم والتأليف، أو سائر عوامل الحضارة والعمران - مخالفة للدين، أو تدخلاً في وظيفة القضاء والقدر، وهذا الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركناً من أركان الدين، وليس هو في الواقع ونفس الأمر إلا مراقبة دائمة على الدين والمتدينين به؛ فلا يتسرب إليه أو إليهم ما ليس منه في شيء فيفسد ويفسدون.

فالأمر والنهي إذن إصلاح، والآمرون الناهون مصلحون وكان بعض العارفين يقول:

ص: 45

(ينبغي لأهل كل مذهب في كل عصر أن يكون فيهم عالم كبير ينقح مذهبهم، وذلك لأن الأحكام تتغير بتغير الزمان)

ومما يحسن إيراده هنا أن الشارع صلى الله عليه وسلم نبهنا إلى تأثير ناموس الوراثة، وأشار إلى أن في إصلاحه إصلاحاً للنسل والذرية مذ قال:(تخيروا لنطفكم، فإن العرق نزاع) يريد تزوجوا كرائم النساء؛ فإن أولادكم من زوجاتكم يرجعون في طيب الأخلاق وقبحها إلى أجدادهم من أمهاتهم، أما رجوعهم في أخلاقهم إلى أجدادهم من جهة آبائهم فبالطريق الأولى. وليس فوق هذا إرشاد وتعليم لنا في أن نصلح شؤوننا، وعوامل اجتماعنا، حتى ما يظن أنه مما لا يدخل تحت طاقتنا كمسألة الوراثة هذه. وقال أبو الأسود الدؤلي مخاطباً أولاده:

وأول إحساني إليكم تخيري

لماجدة الأعراق باد عفافها

وبالجملة فإن الدين والعلم والتجربة والمشاهدة اتفقت كلها - وإن خالفها الجهل والتقليد والمكابرة - على أن سعادة الأمم وشقاءها أمران ميسوران لها، داخلان تحت طاقتها. وليس معنى أن الله يضلها ويهديها إلا أنه تعالى يمهد تحت مواقع أبصارها طريق الهدى والضلال؛ فهي إذا اختارت لنفسها طريق الهداية اختارته وسلكته بمشيئة الله وإرادته وسابق علمه، وإذا اختارت لنفسها طريق الضلال اختارته وسلكته أيضاً بمشيئته تعالى وإرادته وسابق علمه. وما أحسن ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم:(أيها الناس، إنهما نجدان: نجد الخير ونجد الشر؛ فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير؟)، ويشبه هذا ما قاله الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر:(إن الله أراد بنا شيئاً وأراد منا شيئاً، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟)

وأوضح السبل الموصلة إلى سعادة الأمم هو إصلاحها دينها! فلا يكون فيه حشو أو بدعة، أو تكليف مما لم يأت به وحي، ولا خبر صادق. ثم إصلاح بقية المقومات والعوامل التي قلنا إنها هي التي تجذب بضبع الأمم إلى مراقي الكمال والعزة والغلبة. كما أن أقرب الطرق التي تأخذ بالأمم توا إلى هاوية الذلة والمسكنة والدمار والاضمحلال - هو ترك الدين محشواً بالبدع، وبما لا يرضي الله ورسوله من الآراء والتعاليم والأقوال البين سقطها، الظاهر غلطها. ومثل ذلك في الضرر أن نترك كل قديم على قدمه من أوضاع

ص: 46

حكوماتنا، ونظام عائلاتنا، وأصول التدريس والتأليف في مدارسنا ومؤلفاتنا، وسائر مقومات اجتماعنا. وقد تبين فساد ذلك كله وعدم إيصاله إلى بحابح الحياة السعيدة؛ فإن جميع ذلك سبل ضلال: بسطها الله تحت مواقع أبصارنا، وبالغ في تحذيرنا منها في محكم كتابه؛ فما علينا إلا التنكب عنها، والاستعاذة به تعالى منها! فنكون من الفائزين المهتدين إن شاء الله).

ص: 47

‌البريد الأدبي

طول العمر وقصره:

وجه حضرة الأستاذ عدنان سؤالاً على صفحات الرسالة الغراء بالعدد (915) بمناسبة مقالي عن (الخمر بين الطب والإسلام) يقول فيه أنه جاء في هذا المقال (وإذا اطلعتم على إحصائيات شركات التأمين على الحياة وجدتم أن استعمال الخمر ولو بمقدار متوسط يقصر العمر) ثم يقول كيف يمكن التوفيق بين إحصائيات شركات التأمين على الحياة وقول الله تعالى (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا) وقوله جل شأنه (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).

وقد أوجزت (الرسالة) رداً بليغاً، بقول الله تعالى (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) وأنا أجيب حضرة السائل فأقول:

ما من شيء في هذه الحياة الدنيا إلا وقد بأسباب، فلم يقدر مجرداً عن سببه ولكن قدر بسببه. فمتى أتى الإنسان بالسبب وقع المقدور، ومن لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهكذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر إنجاب الأولاد بالزواج وقدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال (كما جاء في الجواب الشافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن قيم الجوزية) فكذلك قدر على شارب الخمر من الأزل إتلاف صحته سريعاً ثم يقضى في عمر قصير كتبه الله عليه في اللوح المحفوظ (وكل شيء أحصيناه كتابا).

أرأيت إلى من يدهسه (ترام) مثلاً فيموت هل قصر عمره أم ذاك كان في كتاب مسجل في برنامج الوجود؟

أرأيت إلى من يرمي نفسه من حالق فيقضى، هل قصر عمره أم ذاك أجله وافاه. فالمقتول والمنتحر كل منهما ميت بأجله الذي علم الله وقوعه وسبب وزمانه ومكانه. وكذلك شارب الخمر ميت بأجله الذي قدره الله له، فكل الأشياء مرسومة قبل أن يوجد الإنسان.

إذاً لم تكن الخمر سبباً في إنقاص أجل طويل فلكل أجل كتاب، ولكنها سبب لتقدير أجل قصير قدره الله من الأزل وقد أخرج مسلم عن جابر أن سراقة بن مالك بن جعشم قال يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال ففيم العمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله).

ص: 48

الدكتور حامد الغوالي

طبيب أول مستشفى رعاية الطفل بالجيزة

رحمة باللاجئين:

حينما تناولت القلم لأكتب وقفت طويلاً. . . حائراً. . . قبل أن أبدأ. . . لقد تزاحمت علي الكلمات، وأخذت الألفاظ تترى من كل حدب وصوب كالسيل الجارف فلم أدر ماذا أكتب وماذا أعمل؟

وهل تفي الكلمات بالغرض الذي من أجله تناولت القلم. هل يمكن للحروف المسطرة على القرطاس. . . أن تصرخ وأن تصيح وأن تسكب دماء بدل الدمع حينما تحاول أن تصور حالة أخوان لنا إن لم يكن في اللغة والوطن والدين. فعلى الأقل في الإنسانية.

إنهم ليسوا بالأموات ولا هم بالأحياء كذلك؛ أو قل إن شئت إنهم أحياء أموات أو أموات أحياء. وهل أدل على ذلك من أناس يعانون المرض والبرد والجوع والعرى ولا يكونون كما وصفتهم. إنهم إخواننا اللاجئون العرب الفلسطينيون.

أهب يا سيدي بقراء الرسالة وذكرهم بما هو البرد وزمهرير الشتاء في العراء. ذكرهم بالجوع وقل لهم ما هو. وذكرهم بالمرض في الخلاء من غير مأوى ولا دواء. ناشد يا سيدي إخواننا القراء لكي يمدوا يد المعونة إلى هؤلاء البائسين وليرسل كل منهم إلى حضرة صاحب السعادة رئيس المجلس الأعلى لإغاثة اللاجئين العرب الفلسطينيين بجمعية الهلال الأحمر المصري بالقاهرة ما تجود به نفسه من مال أو ملبس أو دواء أو ما يستطيعون وما يفيض عن حاجتهم مهام قل؛ فإن القليل كثير.

ساهم يا سيدي في هذا العمل الإنساني بنشركم كلمتي هذه فإن كلمة صغيرة قد تنقذ أرواحاً معذبة قد تكون الآن في حالة النزع أو ما هو شر من النزع.

محمد أمان

الموظف بالمجلس الأعلى لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين العرب

سؤال

ص: 49

ألقى مدرس ثانوي من إخواننا المسيحيين بمدرسة (. . . . .) الثانوية بالقاهرة على طلبته بالسنة الأولى السؤال التالي: ألم تقولوا إن الإسلام قد سبق الديمقراطية الحديثة في احترام الحريات والرأي والاعتقاد؟ فأجابه تلامذته بجواب المقلد الواثق بنعم. فقال المدرس لماذا إذن يستعمل الإسلام القوة مع المرتد فيحكم عليه بالإعدام؟ أليس من حرية الاعتقاد أن يعتنق الشخص أي دين يشاء؟

وفلسفة الإسلام في قتل المرتد أعمق غوراً من أن يبلغها السائل والمسئول. فالإسلام لم يقتل المرتد لأنه يهودي أو لأنه نصراني، وليست علة القتل هي اليهودية أو النصرانية، وإلا لما ترك الإسلام يوم كان يسيطر على الدنيا كتاباً واحداً. وهذا غير ما عرف من إكرامه لأهل الكتاب عامة وأهل الذمة خاصة، ولكنه قتل المرتد لأنه ذو وجهين أو لأنه لا مبدأ له أو لأنه ما دام - بإسلامه - قد اكتمل لإيمانه بموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لا يصح أن يعود من جديد فيؤمن بالبعض ويكفر بالبعض الآخر. ولقائل أن يقول لم يقتل الإسلام المرتد العكسي أي من اليهودية أو النصرانية إلى الإسلام فأقول له إن إيمانه كان مجزأ فبإسلامه أصبح إيمانه كاملاً فليس من الحكمة في شيء استعمال القسوة معه. ولا إيمان المسلم بمحمد إلا إذا آمن بعيسى قبله.

وبعد فليعلم إخواننا المسيحيون المدرسون أن التلاميذ الذين بين أيديهم إنما هم أمانة عندهم فلا يصح بذر الشكوك في أذهانهم الفضة بمثل هذه الأسئلة التي لا يستطيعون الإجابة عنها في مثل هذه السن ولا بمثل ما عندهم من العلم.

مختار محمد هويسه

بين حافظ إبراهيم وعبد الحميد الزهراوي:

كان حافظ معروفاً بالتدقيق في انتقاء الألفاظ فإذا حضره معنى من المعاني الشعرية العلوية بذل أقصى الجهد في وضعه في قالب فصيح بليغ، وقد يقضي أياماً يبحث عن لفظ فصيح تتلقاه الآذان دون استئذان.

وأذكر أنه في مقهى (السبلندد بار) المقابل لحديقة الأزبكية والذي يسمى الآن (مقهى السبت فاير) في القاهرة كان يجلس أدباء الجيل الماضي في خلال الحرب الكبرى الأولى وقبلها

ص: 50

وبعدها - رأيت في أحد الآصال حافظاً يقبل على جماعة من أولئك الميامين ثم ينشدهم قصيدة من قصائده الغر يخاطب فيها العميد البريطاني وأذكر من أبياتها الأولى:

بنات الشعر بالنفحات جودي

فهذا يوم شاعرك المجيد

أطلي وأسفري ودعيه يحى

بما توحين أيام الرشيد

إلى من نشتكي عنت الليالي

إلى العباس أم عبد الحميد

ثم يتطرق إلى مخاطبة العميد فيقول:

إذا اشتد الصياح فلا تلمنا

فإن القوم في جهد جهيد

وعندما لمع هذا البيت بدت عليه علامات الكآبة فقيل له علام أنت مكتئب يا حافظ؟ فقال والله إني غير راض عن هذا اللفظ (اشتد) فإنه لفظ سقيم. وقد حاولت عبثاً أن أجد لفظاً آخر أفضل منه فلم أوفق، فأخذ كل من الحاضرين يبحث عن اللفظ المناسب ومرت دقائق والجميع واجمون حتى اندفع الشيخ عبد الحميد الزهراوي الذي كان في ذلك العهد محرراً في (الجريدة) التي كان يتولى رئاسة تحريرها الفيلسوف أحمد باشا لطفي السيد وقال لحافظ قل (إذا أعلو لي الصياح فلا تلمنا) فتهلل محيا حافظ وقال لعبد الحميد لله درك يا عبد الحميد! والله إن هذا هو اللفظ الذي ما فتئت أبحث عنه فلم أعثر عليه، وتقدم إلى الشيخ وقبله. رحم الله أولئك الأبطال!

طرابلس الغرب

خليل الخوري

القاضي في المحاكم الليبية

ص: 51

‌القصص

حب في الشتاء

قصة للكاتب الروسي أنطون تشيكوف

للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب

كان ذلك اليوم من أيام الشتاء المشرقة. . . والصقيع ينقصف في حدة، وقد كسا الجليد اللجيني خصلات شعر نادنكا المتهدلة على جبينها وحافة شفتها العليا.

وكانت ممسكة بذراعي ونحن واقفان على تل مرتفع، وقد امتد تحتنا المنحدر الأملس، تنعكس عليه أشعة الشمس كما لو أنه مرآة، وبجوارنا زاحفة مغطاة بقماش أحمر براق.

وقلت لها راجياً (فلننزلق يا نادبزدا بتروفنا! مرة واحدة فحسب! أؤكد لك أنك ستكونين بخير ولن تصابي بسوء).

بيد أن نادنكا ظلت مرتاعة، فقد كان يبدو لها المنحدر من موقع قدميها حتى سفح التل الثلجي وكأنه هوة مهولة عميقة الغور. وخانتها شجاعتها، وبهرت أنفاسها كلما حدقت إلى أسفل، في الوقت الذي كنت أقترح عليها مجرد ركوبها الزاحفة. إذن ماذا يكون حالها إذا ما جازفت بالاندفاع إلى الهاوية؟ فلعلها تهلك أو لربما تفقد وعيها.

وقلت (أرجوك! لا تخافي! إنها شجاعة واهنة منك! أنه خور وضعف!)

وأخيراً أذعنت دونكا. . ولاحظت من ملامحها أنها قد رضخت وهي في حالة من الخوف المميت. وأجلستها على الزاحفة شاحبة مرتجفة، وأحطتها بذراعي. ثم دفعت بي وبها إلى أسفل الهاوية.

واندفعت الزاحفة وكأنها القذيفة. ولطم الهواء وجهينا مزجراً، وهدر في آذاننا يتمزق حولنا، ويقرصنا غاضباً في قسوة، محاولاً أن ينتزع رأسينا من أكتافنا. وتعذر علينا التنفس من ضغط الريح.

كان يبدو كما لو أن الشيطان ذاته قد أمسكنا بمخالبه، يسحبنا إلى الجحيم في هدير. واستحال كل ما يحيط بنا خطاً واحداً متماسكاً ممتداً يسابقنا سباقاً هائلاً. . . وخيل إلينا في لحظة كما لو أننا في طريق الردى.

ص: 52

وهتفت قائلاً في همس (إني أحبك يا ناديا!)

ثم أخذت الزاحفة تقل سرعتها رويداً رويداً، ولم نعد نخشى هدير الريح. وسهل علينا التنفس. ثم إذا بنا في سفح الهضبة.

كانت نادنكا في حالة سيئة، شاحبة الوجه، تتنفس في صعوبة. . . وساعدتها على النهوض.

وأخيراً قالت وهي ترنو إلي بعينين واسعتين مفعمتين رعباً (ما من أحد في العالم يدفعني بعد ذلك إلى إعادة الكرة. لقد كدت أهلك!).

وإن هي إلا لحظة حتى استعادت رباطة جأشها، ثم تطلعت في عيني متسائلة، وقد لاح على محياها دلائل العجب: هل أنا تفوهت حقاً بهذه الكلمات الثلاث؟ أم كان ذلك وليد مخيلتها وسط زئير العاصفة؟ وكنت واقفاً بجوارها أدخن وأنا غارق في تأمل قفازي.

وأخذت بيدي، ثم قضينا وقتاً طويلاً نتجاذب أطراف الحديث على مقربة من التل الثلجي. وكان من الجلي أن اللغز لا يدع لها فترة للراحة. . . هل تفوهت بتلك الكلمات أو لم أتفوه؟. . . نعم أو لا؟. . . نعم أو لا؟ إنها مسألة كبرياء، شرف، حياة - إنها شيء ذو أهمية كبرى، أهم مسألة في العالم.

وظلت نادنكا تتأمل وجهي في حزن واضح، وتخترق نظراتها النفاذة ملامحي في صبر نافذ، وتجيب على أسئلتي كيفما تعن لها الإجابة. أواه، يا لها من مشاعر تتلاعب على صفحة ذلك الوجه الجميل! شاهدت أنها تناضل مع نفسها، وتود أن تقضي بشيء، وتريد أن تسأل سؤالاً، دون أن تجد ما يسعفها من كلمات. تستشعر الارتباك والخوف والاضطراب. . .

وأخيراً قالت دون أن تنظر إلي (أتعرف ماذا؟)

قلت (ماذا؟)

قالت (دعنا ننزلق مرة أخرى!)

وتسلقنا الهضبة الثلجية وجلست نادنكا في الزاحفة شاحبة مرتجفة. ومرة أخرى اندفعنا شطر الهوة المخيفة. وزأرت الريح. ومرة أخرى همست والزاحفة تشق طريقها في سرعة مخيفة (إني أحبك يا ناديا!)

ص: 53

وعندما توقفت الزاحفة عن المسير ألقت نادنكا نظرة على الهضبة حيث انزلقنا، ثم حدجتني بنظرة طويلة، تستمع إلي وأنا أتكلم في هدوء وبرود، ويعرب كل جزء من جسمها الصغير، حتى الفراء التي كانت تغطي به يديها، حتى غطاء رأسها، عن منتهى الحيرة، وكأنما قد سطر على وجهها (ماذا يعني ذلك؟ من الذي تفوه بتلك الكلمات؟ أنطق بها هو أو أني تخيلت ذلك فحسب؟)

وأصبح الشك يضايقها ويقصيها عن كل صبر. ولم تعد الفتاة المسكينة تجيب على أسئلتي، بل صمتت في غضب وكأنها على وشك البكاء.

وأخيراً سألتها (أليس من المستحسن أن نعود إلى الدار؟)

فقالت في خفر (حسن. أنا. . . إني أحب هذه الرياضة. ألا تود أن ننزلق مرة أخرى؟)

إنها تحب (هذه الرياضة)! ومع ذلك، فعندما امتطت الزاحفة، أصبحت - كما كانت في المرتين السابقتين - شاحبة الوجه مرتجفة، تلهث رعباً.

وانحدرنا للمرة الثالثة. ولاحظت أنها تحدق في وجهي وتراقب شفتي. ولكني وضعت منديلي على فمي وسعلت. وعندما بلغنا منتصف الهضبة، نجحت في التفوه قائلاً (إني أحبك يا ناديا!)

وظل السر غامضاً! كانت نادنكا صامتة، تنعم النظر في. . لا شيء. . وأوصلتها إلى دارها. كانت تسير الهويني، وتحاول أن تقصر من خطواتها، إلى أن تتحقق من أني تفوهت بهذه الكلمات. ولاحظت كيف كانت روحها تتعذب، وأي مجهود كانت تقوم به وهي تحدث نفسها قائلة (لا يمكن أن تكون الريح قد تفوهت بهذه الكلمة! إني لا أود أن تكون هي السبب!)

وفي صباح اليوم التالي تسلمت رقعة منها تقول فيها (إذا كنت تود التريض اليوم، فاحضر إلي).

ومنذ ذلك الوقت أخذت أذهب يومياً للانزلاق مع نادنكا، وكلما نزلنا بالزاحفة أهمس قائلاً (إني أحبك يا ناديا)

وسرعان ما اعتادت نادنكا هذه العبارة كما يعتاد المرء الخمر والمخدر، وأصبحت لا تستطيع العيش بدونها. وفي الحق، كان الانزلاق من التل الثلجي يرعبها دائماً بيد أن

ص: 54

الإحساس المخيف والشعور بالخطر قد ولدا لها سحراً غريباً من كلمات الحب - كلمات كانت لا تزال لغزاً يعذب روحها. وكنا - أنا والريح - لا زلنا موضع شكها. . فقد كانت تجهل من منا الذي يغازلها. بيد أنه كان يبدو الآن أنها لم تعد تأبه بذلك أو تهتم. فشارب الخمر لا يعبأ من أي دن يستسقى ما دام أن ما يحتسيه يثمله.

ولقد حدث ظهر يوم أن ذهبت وحيداً إلى أرض الانزلاق واختلطت بالموجودين، فشاهدت نادنكا تصعد الهضبة وتنظر باحثة عني. . وكان يبدو عليها الخوف من الذهاب وحدها - أوه أي خوف! لقد كانت ناصعة البياض كالثلج، ترتجف وكأنها في طريقها إلى المقصلة. بيد أنها واصلت التسلق في عزم دون أن تلتفت خلفها. وكان من الجلي أنها صممت أن تتبين وحدها فيما إذا كانت ستستمع إلى تلك الكلمات العجيبة في أثناء غيابي.

وشاهدتها شاحبة الوجه منفرجة الشفتين، تمتطي الزاحفة وتغمض عينيها، ثم تندفع بها وكأنها تودع الأرض إلى الأبد.

ولست أدري هل سمعت نادنكا تلك الكلمات. كل ما أدريه أني شاهدتها تنهض من الزاحفة وقد بدت متخاذلة منهوكة. ولم يبد علي محياها ما ينبئ: أكانت قد سمعت شيئاً أو لم تسمع. فقد كان خوفها وهي تنحدر قد جردها من حاسة السمع أو تمييز الأصوات. فلم تؤد بها محاولتها الجبارة إلى حل ذلك اللغز اللطيف. . ولم تحاول مرة أخرى.

ثم أقبل شهر مارس. . . وكانت أشعة شمس الربيع أكثر حناناً وشفقة. . وتحولت هضبتنا الثلجية إلى لون قاتم، وفقدت بهاءها، وأخيراً ذاب الثلج وهجرنا الانزلاق: ولم يعد هناك ثمة موضع تستطيع فيه المسكينة نادنكا أن تستمع إلى تلك الكلمات وفي الحق، لا يوجد هناك من يتفوه بها الآن، فالريح قد ولت، وكنت أن الآخر على أهبة الرحيل قاصداً بطرسبرج لأقيم فيه مدة طويلة بل لعلها تكون إقامة مستمرة.

وحدث قبل رحيلي بيومين أن كنت جالساً يغمرني الظلام في الحديقة الصغيرة التي يفصل بينها وبين فناء نادنكا حاجز مرتفع. . . كان الجو لا يزال بارداً، ولم يعتد هناك جليد. وبدت الأشجار وكأنما قد فارقتها الحياة. بيد أن رائحة الربيع كانت تضوع في كل مكان، والغربان تنعب في صوت جهوري أثناء استقرارها في عشها. وذهبت إلى الحاجز، ووقفت مدة طويلة أتبصص خلال فرجة بالحاجز. وفجأة شعرت بالوحشة تنتابني. وبدافع يدفعني

ص: 55

إلى العدول عن الرحيل.

ثم شاهدت نادنكا تقبل نحو الطنف، وتحدج السماء بنظرة حزينة والهة. كان النسيم يهب على وجهها الشاحب فيذكرها بالريح التي كانت تزأر في وجهينا فوق الهضبة الثلجية عندما كانت تستمع إلى تلك الكلمات الثلاث. وكسا وجهها حزن بالغ وانحدرت الدموع على خدها، ومدت الطفلة المسكينة ذراعها كما لو أنها تتوسل إلى النسيم أن يأتي بتلك الكلمات وفي هذه اللحظة همست قائلاً (إني أحبك يا ناديا!)

يا لرحمة الله! أي تغير ذلك الذي طرأ على نادنكا! لقد ندت عنها صرخة، ثم ابتسمت ابتسامة أشرقت على وجهها، وبدت تغمرها البهجة والسعادة والجمال. وجعلت تستقبل النسيم بذراعيها وذهبت أحزم أمتعتي. . .

كان ذلك منذ أمد بعيد. أما الآن فقد تزوجت نادنكا. . تزوجها سكرتير أحد النبلاء ولها الآن أولاد ثلاثة. .

ومع ذلك فإن ذكرى تلك الأيام التي كانت تذهب معي فيها للانزلاق، فتستمع إلى الريح تهمس إليها (إني أحبك يا ناديا!) هذه الذكرى لم تغب عن بالها مطلقاً، لأنها في عرفها أجمل وأسعد بل أكثر الذكريات تأثيراً في حياتها. . .

بيد أن، وقد بلغت الآن من الكبر عتيا، لا أستطيع أن أفهم لماذا تفوهت بتلك الكلمات، وماذا كان باعثي على هذه المزحة!؟

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 56