المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 918 - بتاريخ: 05 - 02 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩١٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 918

- بتاريخ: 05 - 02 - 1951

ص: -1

‌ومكروا ومكر الله!

قلنا في كلمة سبقت إن فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم هو المصلح الذي يرجوه الأزهر وينتظره؛ لأن الله جمع فيه من المواهب والمكاسب ما لابد منه لكل مصلح؛ فهو أزهري مكتمل الأزهرية في دينه وخلقه وعلمه؛ وهو سلفي معتدل السلفية في عقيدته وطريقته وفهمه؛ وهو تقدمي متئد التقدمية في اجتهاده وإصلاحه وحكمه. ورجل بهذا الدين وفي هذا الخلق وعلى هذا العلم جدير بأن تناط به الآمال في إنهاض الإسلام وإصلاح الأزهر؛ لأنه بفضل دينه لا يؤتى من قبل نفسه، وبفضل علمه لا يؤتى من قبل قومه، وبفضل خلقه لا يؤتى من قبل سلطانه.

فلما ألقيت إليه مقاليد الأزهر وأخذ بنهج الطريق إلى الإصلاح فجمع الأهب وحشد القوى، وأعلن الدعوة، هبت في أول السير ريح من الخلاف تحمل بالإضراب والاعتصاب، مطالب للأساتذة والطلاب، فقلنا أول الأمر إنها الفتنة التي تفرق الرأي وتعوق الإصلاح وتعصف بالأزهر! وسمعنا أن فريقاً من الذين في قلوبهم مرض وفي رءوسهم غرض يحملون الحطب لهذه النار، ويوزعون الأبواق لهذه الفتنة. فسكتنا على مضض، وارتقبنا على خوف، وقلنا ما قال عبد المطلب في أصحاب الفيل:

// لا هم إن المرء يمن

ع رحله فامنع رحالك

ولكن الله الذي تكفل بنصرة جنده وغلبة حزبه، نقى الخبث وماز الغش فانجلت صيحة الأزهريين عن خالص الحق وصريح العدل، فاستمع لها الأستاذ الأكبر وجعلها نقطة البدء في إصلاحه، وعدة العمل في جهاده، ووقف من مطالب العلماء موقفه العظيم الذي لم يقفه أحد قبله: أيدها لأنها من رأيه، وتبناها لأنها من منهجه، وجاهد الحكومة عليها لأنها من حقه. لذلك اجتمعت حوله القلوب، وتلاقت عنده الأهواء، ووقف الخناس خزيان يعض على يديه ويقول: طلبت الفوضى فجاء النظام، وأردت الفرقة فكانت الجماعة!

ماذا يطلبه أساتذة الأزهر؟ يطلبون المساواة بينهم وبين نظرائهم من أساتذة المعارف. ومن ذا ينكر المساواة بين النظير والنظير في الحق إذا تساويا في الواجب؟ الحكومة!

نعم الحكومة التي جعلت للأزهر نصيباً من وعودها في خطاب العرش؛ وضمنت لشيخ الأزهر قسطاً من جهودها لإصلاح الأزهر؛ وعانقت الشيخ عبد المجيد يوم هنأته ووعدته بتأييدها في هذا الإصلاح! ثم انتظر الشيخ أن تنجز الوعود، وتبذل الجهود، فإذا هي تتخلى

ص: 1

عنه، وتتنكر له، وتعين عليه، وتنفّر منه، حتى يطلب العون فلا يجده، ويسأل العدل فلا يعطاه! وتأخذها صيحة الإنكار من كل مكان فتجعل أذناً من طين وأخرى من عجين!

إذا رمتمو قتلي وأنتم أحبتي

فماذا الذي أخشى إذا كنتمو عدى

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌في سبيل الله والأزهر

للدكتور محمد يوسف موسى

أما بعد!!

فقد أردت نفسي جاهداً على أن أكتب اليوم في باب من الأبواب التي أكتب فيها المتصلة بالفلسفة أو الفكر عامة، فأبت إباء شديداً، وحتمت على أن تكون هذه الكلمة من الأزهر خاصة. ولا عجب! فأين كان الأزهر في كل أدوار تأريخه الطويل الحافل ملء الزمان، فهو هذه الأيام ملء الزمان والأسماع حتى استرعى انتباه البلد كله، وأفردت له الصحافة الكريمة مكاناً كبيراً، فنحن لا نعيش هذه الأيام إلا له ولا نفكر إلا فيه.

يتساءل كثير من الناس ممن لم يتبطنوا الأمر ولم يفقهوا ما يراد بالأزهر، عن السر في ثورة الأزهريين جميعاً طلاباً ومدرسين وأساتذة، هذه الثورة الهادئة الجادة الحازمة، وكيف أصبحوا يطلبون مطالب مادية كما يطلب الغير، وقد عهدوهم زهاداً في الدنيا حين يتكالب غيرهم عليها؟ ولهؤلاء المتسائلين على هذا النحو أتوجه بهذه الكلمة.

ما كان الأزهر في يوم من الأيام طالب دنيا، ولكنه صاحب رسالة يحرص على أدائها ويرجو أن يعان عليها، بل ألا يحال بينه وبينها. وهذه الرسالة في حفظ كتاب الله وحراسة شريعته، وإذاعة التعاليم الإسلامية في مصر وغير مصر من أقطار الأمة الإسلامية، والعمل على أن يكون هذا الكتاب الكريم وتلك الشريعة السمحة هما الفيصل في البلاد الإسلامية في نواحي التشريع والأخلاق والتقاليد.

وهذه الرسالة، على خطرها وجلالتها وثقل ما تقتضيه من تبعات، قام بها الأزهر فيما مضى من تأريخه الطويل، وعرفت له الأمة الإسلامية عظم الدور الذي يقوم به، فأحلته المحل اللائق ورفعته مكاناً علياً. أما اليوم فقد وضح، حتى لمن كان أعمى أو لمن لا يحب أن يتعمق الأمور وبرد النتائج إلى مقدماتها وأسبابها الأولى، أن القائمين على شؤون مصر في هذه السنوات لا يريدون أن يقوم الأزهر برسالته من حراسة الدين وأخذ الأمة به، حتى يتم لهم ما عملوا له زمناً طويلاً من فصل الدين عن الدولة فصلاً تاماً، ومن أن يكون مجتمعنا مجتمعاً لا يمت في مجموع مظاهره وتقاليده للشريعة بسبب قوي أو صلة متينة. ومن ثم راحوا يتحيفون حقوق الأزهر وأهله في عنت، ويتحدونه وأبناءه في جبروت،

ص: 3

ويحاولون صرف الناس عنه بطرق وأساليب شتى، ويجدون مما بين أيديهم من الحكم وأسبابه القوية في كل ما يريدون، بل ويجدون لهم أنصاراً ممن لا يريدون - فيما يزعمون - أن تتخلف مصر عن ركب الحضارة، كأن الإسلام الذي أوجد أكبر حضارة عرفها الإنسان أصبح حجر عثرة في سبيلها هذه الأيام!

هذا، وإنا نعتقد أن الحالة أو المحنة التي يمر بها الأزهر الآن، وسيخرج منها بفضل الله، وقد نفى عن نفسه الخبث وذاد عن عينه النوم الثقيل البغيض، هي نتيجة لسياسة وضع أسسها المستعمر منذ قرابة قرن من الزمان.

إن الاستعمار على ضروب مختلفة لكل منها وسائله، ولكن مهما يختلف المستعمرون في طرقهم وأساليبهم، فإنهم يتفقون على وجوب القضاء على قومية البلد المستعمر، وهذه القومية تقوم على الدين واللغة والتقاليد. وهذه الغاية قد يسير إليها المستعمر في عجلة وعنفوان كما فعلت فرنسا في الجزائر، أو في هون وتؤدة كما حاولت إنجلترا في مصر ونجحت فيه نجاحاً غير قليل.

لقد بدأ الأمر عندنا منذ زمن طويل بالتهوين من شأن الدين واللغة، وتحيف حقوق القائمين بهما، وجعلهم لدى الأمة في منزلة أدنى من نظرائهم في الثقافة والعمل والخدمات العامة للأمة؛ ومن ثم كان خريجو دار العلوم دون خريجي مدرسة المعلمين العليا منزلة وراتباً مع اشتراكهما في العمل في المدرسة الواحدة؛ وكان القضاة الشرعيون. ولا يزالون. دون القضاة الأهليين في المرتبة المادية والأدبية، مع الاستواء في الحكم بين الناس، وما لذلك من تبعات جسام؛ وكان خريجو الأزهر في منزلة أدنى من هؤلاء جميعاً.

ثم انقضى الاستعمار بحمد الله. ولكن بقي - لا أقول أذناب وصنائع - من يخدمون بعض ما كان له من غايات من حيث يدرون أو لا يدرون، فاحتطبوا في حبله زمناً طويلاً، حتى انتهى بنا الأمر إلى كثير مما كان يريد.

هاهو ذا أحد المسلمين، ممن لهم مكانة ملحوظة في البلد، يقول في كلمة نشرتها له أوائل عام 1949 صحيفة إسلامية واسعة الانتشار:(ولا يخفى أننا في مصر نجرى، في حكمة واعتدال، على فصل الدين عن أمور الحكم وخلافات السياسة.)

وهاهو ذا آخر درس القانون وصار من المحامين، يقول في عريضة دعوى الآنسة

ص: 4

المحامية أمينة مصطفى خليل التي رفعتها أمام مجلس الدولة، تشكو وزير العدل أنه لم يعينها وكيلة نيابة أو محامية بقلم قضايا الحكومة بعد أن استشار في الأمر رجال الدين، يقول كما جاء بمجلة أخبار اليوم في العدد الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1950:(وقد أخطأت وزارة العدل السبيل حين توجهت إلى رجال الدين لتستفتيهم في مسألة اجتماعية لا تتعلق بالدين - كما لو كانت مسألة ولاية المرأة القضاء أو شيئاً منه أمراً لا يتعلق بالدين والشريعة الإسلامية! - في كثير أو قليل. فكان حقاً عليها، حتى لا تتخلف عن المسير في ركب الحضارة، أن تسائل نفسها: هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية حقاً وصدقاً؟ أو هل يعيش المصريون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف؟ فإذا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة بالسلب، حق على وزارة العدل أن تتورع عن الزج بالدين في الأمور الاجتماعية البحتة)، إلى آخر ما قال! ونحن نعتقد مع محامي المدعية أن الإجابة عن هذه الأسئلة كلها هي بالسلب، وهذا ما يكشف لنا عما وصل إليه من النجاح أنصار إقصاء الدين عن الدولة والمجتمع نفسه. وهم مع هذا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، متجاهلين قوله تعالى في سورة المائدة:(أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون!) مع أن الحافظ ابن كثير، وهو من أجل علماء الإسلام، يقول في أثناء تفسيره لهذه الآية:(فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله.)

وأخيراً، من باب التمثيل لا من باب الاستقصاء، نرى الأزهر زاد عن القوامة على الشريعة الإسلامية فيما يفرض على البلاد من قوانين ترجع إلى كثير من المصادر ما عدا شريعة الله ورسوله! كما لا يسمع له فيما نعاني من مفكرات وآثام ومظالم، وفيما يشيع في هذا البلد من تقاليد تبعد عن أمر الله والخلق الطيب بعد المشرق عن المغرب!

أرأينا إذا أن التهوين من شأن الأزهر وأبنائه وعلمائه ورجاله عامة، وانتقاص حقوقهم جميعاً في غير ورع أو حياء، أمر يجري على سنن مرسوم وسياسة وضع المستعمر أسسها ووسائلها منذ زمن طويل! وأنه من عدم فهم الأمر على حقيقته، ومن تجاهل العلل الأولى لهذه المحنة التي تمر بها، أن يقال إن الأزهريين يثورون طلباً للمادة كما يفعل الأغيار!

ألا إن الأمر أخطر من هذا كله كما رأينا، ألا وإن من يؤمن بالله ودينه، والرسول

ص: 5

وشرعته، والأزهر ورسالته، طلاباً وأساتذة ورؤساء، ليس له أن يتزحزح خطوة واحدة عن هذا الموقف الذي نقفه الآن جميعاً في سبيل الله والأزهر، وإلا كان فاراً من الزحف وباء بسخط من الله ورسوله والمسلمين جميعاً.

إن الأمر، أيها الناس، لا يعدو إحدى اثنتين: إما ألا تكون مصر والعالم الإسلامي كله في غير حاجة للأزهر، أو تكون في حاجة ماسة له، فإن كانت الأولى فليغلق الأزهر، ولينفق ما يرصد له في الميزانية، على غيره من مرافق البلد، وليريحونا من هذه الحياة التي لا يرضاها حر أبي كريم، إن كانت الأخرى، وهذا ما نعتقده صحيحاً، فعلى الدولة أن تعرف للأزهر وأبنائه منزلتهم، وأن توفر لهم الحياة الكريمة كفاء ما يقومون به من رسالة وما عليهم من تبعات، وعلى الأمة الإسلامية كلها أن تطالب الدولة بذلك كله في جد وإلحاح من يوقن أنه يطالب بحقه، فأقول:(على الأمة الإسلامية)، لأن الأزهر وإن كان مصر، ليس ملكاً لمصر وحدها، ولكنه لأمة الإسلام جميعاً، والأمر في هذا لا يحتاج لدليل أو توضيح.

وليس لأحد ممن بيدهم الأمر أن يتعلل لمحدثيه بعدم إمكان الميزانية العامة للدولة، وإلا، فكيف تتسع هذه الميزانية للإغداق على جمع من الطوائف، بل وللإغداق على فرق التمثيل والرقص نستقدمها من أوربا للترفيه عن الأغنياء المترفين!

هذا، ونقول أخيراً ما قاله فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ حسنين مخلوف عضو (جماعة كبار العلماء) في حديثه لدى فضيلة أستاذنا الأكبر شيخ الجامع الأزهر، إن المسألة ليست اليوم مسألة مطالب عادلة فحسب، وإنما هي مع ذلك مسألة كرامة وعزة. ويجب أن يكون للأزهر قيمته ومنزلته التي عرفها التاريخ وعرفها العالم الإسلامي، فيعترف له بحقوقه، ويقدر أهله وما يؤدون للبلاد من خدمات التقدير. اللائق وإننا، ثقة بلفتات جلالة الملك التي شملت الأزهر في كل شؤونه بمزيد من العطف والرعاية، لنرجو أن يكشف الله بها هذه الغمة، ويزيل بها هذه المحنة. ونقول نحن أيضاً: أحبب بهذه محنة جعلت الأزهريين، طلاباً ورؤساء ومرءوسين، جسماً واحداً ورجلاً واحداً في سبيل الله ودينه، ورسوله وشريعته، والأزهر ورسالته. والله المستعان

الدكتور محمد يوسف موسى

أستاذ بكلية أصول الدين

ص: 6

‌ضبط الكتابة العربية

بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي

الأستاذ محمود تيمور بك

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ما كاد يبدأ عهد التدوين العربي في عصر الدولة الأموية حتى تبين أن هذه الحروف العربية وحدها ليست مغنية في ضبط الكلام. ولذلك أخذ الأمويون في ابتكار علامات للضبط توضع على الحروف، نفياً للخطأ، ورفعاً للبس. هذا والأمة العربية في جملتها يومئذ مستقيمة الألسن، صافية السلائق، فصيحة اللهجات.

ولقد بلغ من شعور الأقدمين بضرورة الضبط أنهم لم يكونوا يقتصرون على وضع العلامات المقررة، بل لقد كانوا يلجئون إلى التعبير في المواضع المهمة للكلمات التي يخشون عليها الالتباس. فيكتبون مثلاً أن الكلمة بفتح الحرف الأول وسكون الثاني وضم الثالث وكسر الرابع. وما بعثهم على ذلك إلا خوف التصحيف والتحريف، بل لعلهم خشوا أن تذهب علامات الضبط، أو أن يستثقل النساخ نقلها، فأرادوا تسجيلها بالتعبير. وليس أبلغ دليلاً عن هذا على رهافة شعورهم بنقص الحروف العربية وحدها في الأداء، وبقيام الحاجة إلى ضبط الكلمات ضبطاً لا لبس فيه.

فأما نحن فإننا في مستهل نهضتنا الحديثة، حين بدأنا نتخذ الطباعة وسيلة للتدوين، اكتفينا بالحروف العربية عارية عن علامات الضبط للكلام.

فهل مبعث ذلك أننا عددنا أنفسنا عرباً أقوى سلائق من العرب الخلص في العصر الأموي، وأقدر منهم على قراءة ما يكفي بالحروف العربية غير مضبوطة؟

كلا، فإنه لا خلاف على أن قراءة الكلام غير المضبوط قراءة صحيحة، أمر يتعذر على المثقفين عامة. بل إن المختصين في اللغة الواقفين حياتهم على دراستها، لا يستطيعون ذلك إلا باطراً اليقظة، ومتابعة الملاحظة. وإن أحداً منهم إذا حرص على ألا يخطئ، لا يتسنى له ذلك إلا بمزيد من التأني، وإرهاف الذاكرة، وإجهاد الأعصاب.

لم يكن مبعث اقتصارنا في الطباعة على الحروف العربية دون ضبط أننا وجدنا فيها غنية

ص: 8

وكفاية، وإنما كان مبعثه أن أوضاع الكتابة العربية يصعب معها إدخال علامات الضبط في المطابع فلم يتح لهذه العلامات أن تأخذ مكانها على الحروف المطبعية إلا في أحوال قليلة، وضرورات خاصة.

وكان في مقدمة هذه الضرورات والأحوال بعض الكتب المدرسية الخاصة بمواد اللغة العربية، مثل كتب النحو والمطالعة فطبعت مشكولة لاستعمالها في المدارس، ولكن كان لذلك أثر سيئ، فقد أشاع بين المثقفين شعوراً نفسياً نحو هذا الشكل شعور استعلاء عليه، وأنفة منه؛ إذ توهم الكبار أن الضبط لا يكون إلا للصغار، وأنه للتلامذة دون الأساتذة، وأن الكتب المدرسية هي وحدها التي تظهر مشكولة، وعار أن تضبط الكتب التي توضع بين أيدي المثقفين الذين فارقوا مراحل التعليم. فمن قدم لمثقف كتاباً مضبوطاً فقد أساء الظن به، وعزا إليه تهماً الجهل بأوضاع اللغة، وقواعد النحو والصرف.

وجلي أن هذا الشعور النفسي نحو الشكل شعور وهمي لا أساس له، ولا حق فيه؛ فهو لون من ألوان الغرور يتواضع عليه الناس. وأولئك هم الناطقون باللغات الأجنبية من فرنسية وإنجليزية وطليانية وغيرها، لا يكتبون كلامهم إلا مضبوطاً أتم ضبط، ولغاتهم على وجه عام لغات كلام وكتابة معاً، فهم بها أبصر، وهي عليهم أيسر، وسلائقهم فيها أدعى إلى الاستغناء عن الضبط إن أرادوا أن يستغنوا عنه. ولكنهم يلتزمون الضبط فيما يكتبونه، لا يعولون على علمهم باللغة، ومرانتهم على القواعد، وانسياق ألسنتهم إلى الصواب.

فأول ما يجب أن نؤمن به، هو أن كتابتنا العربية غير المضبوطة، كتابة ناقصة، وأننا نعبر بها عن غرور نفسي، وأن هذا الغرور يخفى بين ثناياه عجز الغالب منا على القراءة الصحيحة، وفقاً لقواعد اللغة وأوضاعها. فنحن بهذه الكتابة الناقصة نرضي غرورنا، وإن كنا في حقيقة أمرنا نخطئ فيما نقرأ غير مبالين.

ولا غرو في أن يعجز العامة عن القراءة الصحيحة، وأن يجد الخاصة فيها صعوبة وحرجاً، فقد ذهبت عن العرب سلائقها الفصيحة منذ عهود وآماد، وأصبحت اللغة تؤخذ تلقيناً، وتكتسب تمريناً. إذ استقرت لنا لهجة عامية يجري بها على ألسنتنا مألوف الكلام، وهذه اللهجة تجانب لغة الكتابة الفصحى في خصائصها الواضحة، أعني الإعراب وما إليه مما يقتضيه الاشتقاق وتصريف الألفاظ والصيغ. فأصبحنا إذ أردنا أن ننطق بما نكتب،

ص: 9

عانينا أن نعربه وأن نقوم تصريفه معاناة لا تخلو من تكلف، ولا تسلم من تعثر. ولذلك نجد المدرس في مدرسته، والمحاضر على منصته، لمتحدث أمام المذياع، يستنجدون مضطرين بالوقف، ويمتضغون بعض الصيغ، فراراً من كلفة الإعراب، واتقاء للخطأ في تصريف الألفاظ.

وقد أدت هذه المصاعب التي يضيق بها الناطقون بالفصحى، أو الحرصاء على النطق بها، إلى المناداة بترك الإعراب، واللجوء إلى الوقف. على أن الأخذ بهذه الدعوة لا يرفع جملة ما هنالك من مصاعب، فمن وراء الإعراب ضبط بنية الكلمة، في أوائلها وأوساطها، مما تقتضيه قواعد الصرف، وسماع اللغة. فإذا نودي بأن ننفض عن اللغة إعرابها وصرفها وضوابط كلماتها جميعاً، فلا تسمية لذلك إلا أنه (انحلال لغوي)، إذ هو يفقد اللغة مقومات من جوهرها الأصيل.

حقاً لقد شاعت في البلاد العربية بيئة ثقافية لها لغتها الفصحى، وحقاً إن هذه البيئة لها منبعان فياضان من المقروء والمسموع. ولكن هذين المنبعين لم يغنيا أهل العربية شيئاً في صحة القراءة، فإن المقروء عار من الضبط، والمطالعون يمضون في قراءتهم على غير هدى. وأما المسموع فاللحن فيه شائع، والخطأ كثير، وربما كان ضرره أكبر من نفعه.

ولو كانت هذه البيئة الثقافية بمنبعيها الفياضين كافلة للقارئ والسامع ضبطاً صحيحاً للألفاظ والصيغ، لأدت لأهل العربية نفعاً عميماً؛ ولكانت بذرة مخصبة لإثمار سلائق سليمة.

وأكاد أقول بأن هذه البيئة الثقافية بما فيها من مقروء ومسموع، لو شاع فيها الضبط، لأصبحت أقوى أثراً من تلك البيئة البدوية التي كان الخلفاء والأمراء يبعثون إليها بأبنائهم في فجر الإسلام وضحاه، لاكتساب العصمة من اللحن في الإعراب، والسلامة من الخطأ في تصريف الكلام.

فلنتمثل في خاطرنا أن الضبط قد شاع بين أهل العربية في سائر ما تقع عليه الأعين، وما تلتقطه الآذان: الطالب في مدرسته من أول مرحلة في حياته الدراسية إلى أن يتخرج في جامعته، في مختلف مواد دراسته، والقارئ عامة فيما بين يديه من الصحف والمجلات والكتب والنشرات، والأسرة كلها بمسمع من المذياع - فلنتمثل في خاطرنا أن هؤلاء جميعاً لا يقرءون ما يكتب لهم إلا مضبوطاً أدق ضبط، ولا يسمعون ما يلقى عليهم إلا معرباً

ص: 10

أصح إعراب؛ ألا يكون ذلك سبيلاً إلى طبع الألسنة على صحة النطق، وإكسابها ملكة الإعراب؟

لا ريب أننا أسعد حظاً من العرب في العهود الغابرة، فما كانت لديهم هذه الوسائل التي تسنت لنا الآن، من مطبعة تخرج الكتب والصحف على اختلافها في سهولة ويسر، ومن مذياع ينقل إلى الآذان ما تلفظه الأفواه في دقة ووضوح. فأين من هذه الوسائل الناجمة ما كان للعرب الأقدمين من وسائل محدودة وعرة لجأوا إليها لإشاعة الضبط، والتعريف بالصواب؟

ولكن وسائلنا على يسرها، وقوة أثرها، لم نحسن استخدامها، فلم تفدنا شيئاً وذلك لأننا لم نلتزم ضبط الكلام فيما تؤلف من كتب، وما نصدر من صحف، وما تلفظ من قول في المذياع.

فما علة إمساكنا عن إشاعة الضبط؟

وماذا يحجم بالمطابع عن إدخال الشكل باعتباره عنصراً أصيلاً في الكلام؟

لعل أكبر البواعث في ذلك أن المطبعة العربية بدأت كما بدأت الكتابة العربية نفسها ذات حروف غير مشكولة، فأصبحت على هذا الوضع مألوفة جارية. فلما أريدت المطبعة على إدخال الشكل ضاقت به ذرعاً، ووجدته ضيقاً عليها ثقيلاً، ولم تر فيه إلا واغلاً دخيلاً. فقد أخذت الكلمات في كتابتها أوضاعاً من التركيب لا تحتمل وقوع هذه الشكلات عليها.

وعلى الرغم مما بذله أهل فن الطباعة من محاولات في معالجة الموضوع، وما بلغوه من إخضاع حروف الكلمات لمواقع الشكل، فإن الضبط في الحرف المطبعي ما زال يثقل الكلمات من كل جانب ويجعل البصر يزيغ في تصيد ما فوقها وما تحتها من حركات. وذلك إلى جانب أن تصحيح هذا الشكل في تجارب الطبع عسير جد عسير، وأن الخطأ فيه على فرط العناية به كثيراً جد كثير. ولذلك لا ترضى بإجراء الشكل في الكتب إلا بعض المطابع الخاصة. وإنها لتقيم لهذا الإجراء أكبر الوزن، وتحسب له أكبر الحساب، طوعاً لما يتطلّب إدخال هذا الشكل من جهد وعنت في صف الكلام طوراً، وفي تصحيحه طوراً.

فكيف السبيل إلى حل هذه المشكلة؟

لقد تناولها بالبحث كثير من ذوي الرأي، وأعلنوا ما بدا لهم من مقترحات وحلول. وإني

ص: 11

لأحسبها ترجع إلى مناح ستة:

أ - المنحى الأول: هو اتخاذ الحروف اللاتينية، وقد آثرت أن أبدأ به تحية لأستاذنا صاحب المعالي (عبد العزيز فهمي باشا) متعه الله بالعافية. فقد نادى بهذا الحل في بيان لا أعده إلا وثيقة تاريخية من أنفس وثائقنا التي تعالج مشكلاتنا الثقافية. وقد تكفل معاليه، فيما أفاض فيه من بيان، بتجلية ما يرد على هذا الحل من مختلف الاعتراضات، وعقب عليها ما شاء أن يعقب بالرد والتفنيد، فلم يدع في هذا المنحى زيادة لمستزيد. ومجمل ما رأى معاليه أنه لجأ إلى المناداة باتخاذ الحروف اللاتينية بعد أن بحث عن طريقة لتيسير الكتابة العربية مع استبقاء حروفها الحالية، فلم يظفر بها، بل لقد تخيل أنه لن يظفر بتحقيق هذه الأمنية المحببة لنفسه ولأنفس أهله وأهل العربية. ولذلك لم يجد بداً من اختيار هذه الحروف اللاتينية التي شاعت في أكثر لغات العالم. فهي وسيلة تقريب بين الأمم، وهي مع ذلك قد مورست في الطباعة، واكتسبت مرانة في الاستخدام، وأثبتت قدرتها ويسرها في ضبط كتابة اللغات الأجنبية. وقد اتخذها معاليه أساساً لطريقته، ولكنه أدخل عليها من ضروب التعديل ما يناسب ضبط الكلام العربي على أدق وجه، بحيث تجعل كل حرف في الكلمة يدل بذاته على صورته الصوتية دلالة صادقة لا لبس فيها ولا انبهام.

ب - والمنحى الثاني هو اختراع حروف جديدة تحل محل حروفنا العربية، ذات علامات للضبط ملائمة لها. وقد تكاثر الواردون على هذا المنحى من الحلول، وتراحبت مراميه للفنانين يبتكرون ما يوحي إليهم التصور والتفكير، ويقربون أو يبعدون عن صور الحروف العربية القائمة. وربما كان في ألوان هذه الحروف المخترعة ما يتوافر له الجمال والاختصار، والسهولة واليسر وسائر المزايا التي لا تتوافر للحروف العربية أو اللاتينية جميعاً. فما على المخترعين من سبيل، وإن المجال أمامهم لطليق، يتيح لهم حرية الإنشاء، ولا يقيم حيالهم عقبة مما هو قائم عتيد. ولكن الأخذ بحروف مخترعة لا عهد بها لأحد، أمر يتطلب من رحابة الصدر، وشجاعة النفس، ومن الاستعداد لقبول الجديد الغريب أكثر مما يتطلب الأخذ بطريقة الحروف اللاتينية. لأن التبني للحروف المخترعة التي لم تثبت لها كفاية، ولم تعرف لها مرانة، أشق كلفة من اقتباس حروف متعارفة، ثبتت كفايتها في الأداء، وكفلت مرانتها في العمل.

ص: 12

ج - وثالث المناحي الإبقاء على الحروف العربية القائمة، مع اختراع علامات للضبط يلاحظ في اختراعها أن تكون ميسورة على المطابع، واضحة للقارئ، فتلحق هذه العلامات بتلك الحروف.

ولا ريب أن حروفنا العربية إذا لحقت بها تلك العلامات أفقدتها صورتها المألوفة، وأفاضت عليها مسحة من التنكير والغموض.

فهذا المنحى يلتقي هو والمنحى الأول والثاني معاً في ضرورة الاتفاق بادئ بدء على أن تنزل عن رحوفنا العربية فيما ألفنا من صورها، وما عرفنا من علامات ضبطها.

د - وأما المنحى الرابع فهو الإبقاء على الحروف العربية وعلامات ضبطها، على أن تصب علامة الضبط مع الحرف في بنية واحدة، حتى لا تحيد عنه، ولا تفلت منه. فتبدو الحروف المطبعية معها ضبطها متصلاً بها، ليس بينهما من تفاوت.

وهذا المنحى تقوم في وجهه عقبتان، كلتاهما كأداء، أولاهما فنية، والأخرى اقتصادية. فإن صندوق الحروف العربية في أوضاعها القائمة كثير الصور، يعيا به الصفافون، إذ يبلغ أكثر من ثلاثمائة عين. ولو أضيف إلى الصندوق صور جديدة من الحروف عليها علامات الضبط على اختلافها، لازداد جهد القائمين بصف الكلمات أضعافاً مضاعفة، ولاستنفد من أوقاتهم بضعة أمثال ما يستنفدون الآن. فهذا المنحى مدعاة لكثرة التكاليف مضيعة للوقت، مجلبة للعنت. ولذلك لا يقبل تنفيذه الطابعون، ولا يرضى به الناشرون. ولا سيما في عصر طابعه السرعة والتيسير، طابعه اكتساب الزمن، واقتصاد الجهد، والتهوين من النفقات.

هـ - وثمة منحى خامس، وهو وضع علامات الضبط بجانب الحروف، منفصلة عنها، كالشأن في الحروف اللاتينية، لا كما توضع العلامات الآن فوق الحروف أو تحتها.

وهذا الحل يقتضي أن تتغير أوضاع الكتابة العربية في تركيب الكلمات، لكي يكون بعد كل حرف منفسح تحل به علامة الضبط، وأن يفصل بين حروف الكلمات بهذه العلامات. وإذن تبدو صور الكلمات فيها تنكير، وفيها نبو عن المألوف. يضاف إلى ذلك تفويت مزية الاقتصاد في حجم الكلمة، فإن الفصل بين حروفها بعلامات ضبطها يضاعف حجمها.

ووخاتمة المناحي الستة هو الاقتصار على الحروف المنفصلة تسهيلاً لوضع علامات

ص: 13

الضبط عليها، وتخفيفاً على صندوق الحروف في المطبعة العربية.

وفي هذا المنحى مغامز من جهات مختلفة. فهو أولاً: يزيد في الحيز المقسوم للكلمات، وهذا تفويت لمزية الاقتصاد، وثانياً: لا يحمي من خفاء الكلمة أول وهلة لافتراق حروفها، وثالثاً: يقتضي يقظة ورعاية للفصل بين كل كلمة وكلمة، ولو وقع التهاون في هذا الفصل - وهو واقع لا أمان منه - لاختلطت حروف الكلمات بعضها ببعض، ولتعذر على القارئ أن يميز كل كلمة في جملتها، ويفرق بينها وبين الكلمة التي تتلوها.

البقية في العدد القادم

محمود تيمور

ص: 14

‌ذكرى الشاعر الثائر

معروف الرصافي

للأستاذ حمدي الحسيني

نظم الرصافي ذلك الشعر القوي ضد الظلم والاستبداد في العهد العثماني وسيف الطاغية الجبار عبد الحميد الثاني مصلت على رقاب الناس في طول البلاد وعرضها، وهو كما رأى القراء يتلظى قوة وحرارة، ويتوهج شدة وعنفاً وصرامة، ويتموج اتساعاً وعمقاً وضخامة، ولم يبق الرصافي هذا النوع في الشعر محفوظاً في صدره أو مطوياً في بطن دفتره بل نشره على الناس سراً وعلناً، بلسانه وقلمه. فكان عمله ذاك جرأة عبقري وشجاعة بطل. أما تأثير هذا الشعر في نفوس العرب في ذلك الزمن فقد كان عظيماً جداً. ولا نشك بأنه كان قبة قوية الحرارة والنور، أشعلت في نفس الأمة العربية رغبة الحرية وأنارت أمامها سبيل الحياة. فمشت بقوة تلك الحرارة وبهدى ذلك النور خطوات موفقة نحو الحرية والحياة. وأما بعد إعلان الدستور فقد رفع الرصافي علم الحرية أمام أمته جهاراً نهاراً، وأخذ يقودها إلى الحياة في ظل ذلك العلم على نغمات شعره الشجية المطربة تارة، وبقوارع كلمه وصوادع حكمه تارة أخرى. حتى أصبح شعر الرصافي بسمات جميلة على ثغور العرب. وآيات جليلة على ألسنتهم وآمالاً لذيذة في قلوبهم وهزات عنيفة في نفوسهم، وعزمات صادقة في هممهم وصوارم باترة في أيديهم. فقاوموا الظلم ودفعوا الأذى وشادوا الممالك. فكان شعر الرصافي أناشيد الثائرين، وأهازيج الفاتحين وأغاني المنتصرين الظافرين. وما كادت تستقر المماليك العربية بعد الحرب العالمية الأولى وتتوطد فيها العروش وتشاد دور العلم وتفتح نوادي الأدب حتى أصبح شعر الرصافي نوراً قوياً يغمر تلك المماليك، ومصابيح منيرة تسطع في دور العلم، وينابيع غزيرة تنصب في نوادي الأدب.

وما دمنا نتحدث عن شعر الرصافي القوي، وتأثيره الواسع المدى في نفسية الأمة العربية، فمن الحق علينا أن نبحث عن سر هذه القوة العجيبة التي جعلت لشعر الرصافي هذا التأثير العجيب.

درسنا شعر الرصافي دراسة نفسية واسعة، وأضفنا ما استنتجناه من هذه الدراسة إلى ما

ص: 15

استنتجناه من دراستنا لنفسيته خلال المدة التي قضاها بيننا مدرساً للغة العربية في كلية دار المعلمين في القدس، فكانت نتيجة الدراستين الجزم بأن سر قوة الرصافي في شعره وفي شخصيته هو الإيمان.

آمن الرصافي بحق الأمة العربية في الحياة الحرة، وآمن بأن الوسيلة إلى هذا الحق هو القوة. فانفجرت نفسه بهذه القوة شعراً قوياً يولد به القوة في نفس الأمة العربية لتأخذ بها حقها في الحياة الحرة. انفجرت نفس الرصافي بشعر القوة على اختلاف أنواع القوة. فالعلم قوة تتخذ منه الأمم التي تطلب الحياة وسيلة للحياة. وما دام العلم قوة فله من شعر الرصافي نصيب وافر. فهذه قصائده الكونيات والاجتماعيات تقوم على أحدث نظريات العلم وأصح قواعد الاجتماع. ترى فيها شروحاً لوحدة المادة، والجاذبية، والأثير، والكهرباء، وأشعة رنتجن وآراء دارون في النشوء والارتقاء وتنازع البقاء وبقاء الأنسب، ومذهب ديكارت في التوصل إلى اليقين بالشك، ومبادئ الاشتراكية في أن تكون للعامل حصة في إنتاجه

تركوا السعي والتكسب في الدنيا

وعاشوا على الرعية عالة

يأكلون اللباب في كد قوم

أعوزتهم سخينة من نخالة

يتجلى النعيم فيهم فتبكي

أعين السعي في نعيم البطالة

ليس في هذا المذهب الاشتراكية إلا في الأمور المحالة وإصلاح الوسط العربي من الناحية الاجتماعية، أليس فيه قوة للأمة توصلها إلى الغاية المرجوة في الحياة؟ إذن فللإصلاح الاجتماعي على اختلاف أنواعه في الوسط العربي حظ كبير في شعر الرصافي. فهذه قصيدته (المطلقة) يصف بها ويلات الطلاق ومآسيه على المرأة المسلمة، وينتقد بقوة توقيع الطلاق لا سيما إذا كان وقوعه بغير قصد الطلاق. وهذه قصيدته (اليتيم في العيد) تفيض رحمة وحناناً على الضعفاء. وقوة وشدة على من يقف من العرب موقف العجز والذل ويصيح فيهم: -

نهوضاً إلى العز الصراح بعزمة

تخر لمرساها الطغاة وتركع

إلا فاكتبوا صك النهوض إلى العلا

فإني على موتي به لموقع

والنساء؟ ألسن نصف الأمة؟ فكيف يمكن للأمة العربية أن تصل إلى هدفها ونصفها مشلول؟ إذن فلتحرير المرأة العربية في شعر الرصافي مطارق قوية هائلة يهوي بها على

ص: 16

قيود الحجاب والزواج والجهل والحرمان من العمل

كم في بيوت القوم من حرة

تبكي من البؤس بعيني أمه

قد لوحت نار الطوى وجهها

وأعمل الفقر بها ميسمه

عاب عليها قومها ضلة

أن تكسب القوت وأن تطعمه

من أي وجه تبتغي رزقها

وطرقها بالجهل مستبهمه

وكيف والقوم رأوا سعيها

في طلب الرزق من الملأمه

وأما قصيدته الخالدة في التربية والأمهات التي مطلعها: -

هي الأخلاق تنبت كالنبات

إذا سقيت بماء المكرمات

فتعتبر من أقوى أنواع الشعر الاجتماعي وأعمله أثراً في نفس الأمة، وهي لا تزال تشع بنورها القوي في نفوس الفتيات العربيات فيستضئن بنورها ويهتدين بهديها. ولا نظن فتاة عربية واحدة دخلت المدرسة ولم تحفظ هذه القصيدة وتنتفع بها

وحرية الفكر، أليست غاية من غايات الأمم التي تبذل في سبيل الحصول عليها دماءها؟ إذن فالرصافي يدعو لهذه الحرية، لأنه لا يطيق أن يراها مقيدة في الوطن العربي، بحيث لا يستطيع المفكر أن يجهر برأيه خيفة الأذى: -

إذا كان في الأوطان للناس غاية

فحرية الأفكار غايتها الكبرى

فأوطانكم لن تستقل سياسة

إذا أنتمو لم تستقلوا بها فكراً

إذا السيف لم يعضده رأى محرر

فلا تأملن من حده ضربة بكراً

وهؤلاء المفاقيع الذين يفاخرون بالعظم الرميم، أليسو شراً على الأمة؟ وهلا يستحقون أن يصفعهم الرصافي على وجوههم ليردهم عن هذه الاتكالية البشعة إلى الثقة بالنفس والاعتماد على الذات

فشر العالمين ذوو خمول

إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا

وخير الناس ذو حسب قديم

أقام لنفسه حسباً جديدا

تراه إذا ادعى في الناس فخراً

تقيم له مكارمه الشهودا

وهؤلاء الرعاديد الذين يتقاعسون عن ميادين الجهاد بحجة أنهم يرون للأمة أن تعنى بالعلم قبل الحرية وبالمال قبل الاستقلال، أليس من حق الرصافي أن يعلمهم الحكمة ويعطيهم

ص: 17

فصل الخطاب

قد علمتني الليالي في تقلبها

أن المواقف فيها السيف لا القلم

وأن أصدق برق أنت شائمه

برق تبسم عنه الصارم الخذم

وأخصب الأرض أرض لا تسح بها

إلا من النقع في يوم الوغى ديم

إني أرى المجد في الأيام قاطبة

إلى عبيط دم المحيا به قرم

والمجد أعطى الظبا ميثاق معترف

أن ليس بضحك إلا حين تبتسم

وأما مكانة الرصافي في الأدب العربي ففي الذروة العليا والمقام الأسمى؛ فهو من ألمع الجواهر في تاج أدب العصر، ومن أثمن الدرر التي تزين جبين الشعر، وهو فوق هذا من أقوى شعراء القومية العربية. ومن أسبق شعراء العرب في الدعوة إلى الثورة على الحكم العثماني كوسيلة للحرية والاستقلال. وأما آثاره في الشعر فديوانان طبع الأول في بيروت مصدراً بمقدمة طيبة للمرحوم الشيخ محي الدين الخياط. ثم صدر الديوان الثاني وفيه كل ما نظمه الرصافي بعد صدور الديوان الأول، ثم صدره الأستاذ العلامة الشيخ عبد القادر المغربي بمقدمة تحليلية نفسية. وله في الكتب

(1)

رواية الرؤيا وهي مترجمة عن التركية لنامق كمال الشاعر التركي الشهير.

(2)

نفح الطيب في الخطابة والخطيب. وهو مجموعة محاضراته التي ألقاها على طلبة مدرسة الواعظين في الأستانة.

(3)

الأناشيد المدرسية، وهي طائفة من الأناشيد الوطنية والأدبية يتغنى بها تلاميذ المدارس.

(4)

محاضرات الأدب العربي وهي مجموعة المحاضرات التي ألقاها في الأدب العربي على معلمي المدارس في بغداد.

(5)

كتاب الآلة والأداة. وقد ذكر فيها أسماء الآلات والأدوات التي يستعملها الإنسان.

(6)

دفع المراق في لغة العامة من أهل العراق. ضمنه بحثاً مستفيضاً عن اللغة العامية في العراق وقواعدها وآدابها وأمثالها.

هذه خطوط سريعة عليها هذه الصورة للرصافي. ونرى أن نقدم بجانبها الصورة الجميلة الأنيقة التي رسمها الرصافي لنفسه بقوله: -

ص: 18

وقلت لها إني امرؤ لي لبانة

منوط مداها بالنجوم الزواهر

تعودت أن لا أستنيم إلى المنى

وأن لا أرى إلا بهيئة ثائر

وأن أمضي لههم الذي هو مقلقي

بطي الفيافي أو بخوض الدياجر

حمدي الحسيني

ص: 19

‌صوت ينبعث من الأزهر

الأستاذ الأكبر يوجه حركة الإصلاح الديني في الشرق

الإسلامي

للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي

- 1 -

كانت الغفوة الكبرى التي أصابت العالم الإسلامي في القرون الوسطى ذات أثر بعيد في حياته السياسية والعقلية والاجتماعية في القرن التاسع عشر.

لم يبعد المسلمون في هذه الحقبة الطويلة كثيراً عن تقاليد الشرق، وإنما جافوا روح الإسلام، وجهلوا مبادئه وأهدافه، ووقفوا أمام تيار النهضة الغربية جاهلين عاجزين أذلاء. وبادرهم المستعمرون بتحطيم ما بقي في أجسامهم من متعة، وفي قلوبهم من إيمان، وفي أرواحهم من عزة ومثل عليا.

وكانت الأحداث الكبرى التي هزت العالم الإسلامي هزاً عنيفاً داعية للمفكرين والمصلحين أن يجاهدوا في سبيل البعث والإحياء وتجديد الحياة والأمل في نفوس المسلمين. واقترن ذلك بدعوات جريئة للإصلاح؛ انبعثت من رجال الدين حيناً، ومن غيرهم حيناً آخر؛ من أمثال محمد بن عبد الوهاب م1206 هـ، والسيد أحمد خان الهندي م1898، والسيد أمير علي، والكواكبي م1902، وجمال الدين الأفغاني 1897م، ومحمد عبده 1905م وسواهم من دعاة الإصلاح، وحملة رسالته.

كان السيد جمال الدين الأفغاني يريد تحرير الشعوب الإسلامية من العبودية والاستعمار، وتكوين حكومة إسلامية موحدة تهتدي بهدي الإسلام، وبعث الروح القومي في الشرق عن طريق الإصلاح الديني العام.

. . وكان محمد عبده يريد النهوض بالشرق الإسلامي سياسياً عن طريق النهضة الثقافية به، ويرى أن الإسلام هو السبيل لتمهيد حركة الإصلاح وتغذيتها، وأنه هو والعقل والعلم أخوة، ولذلك دأب على الدعوة إلى تصحيح العقيدة، وإذاعة رسالة الإسلام، وإيقاظ الشعور العام بإيقاظ الروح الديني.

ص: 20

- 2 -

وخفتت بعد محمد عبده دعوة الإصلاح في الشرق؛ وإن لمعت جذوتها حيناً في أفكار الشيخ مصطفى المراغي، رحمه الله، الذي كان يعمل للنهوض بالأزهر الحديث حتى يصل إلى مستوى الجامعات الكبرى في الشرق والغرب.

كما أضاءت الشعلة حيناً آخر في آراء الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي كان يحرض على إحياء التعارف والتعاون بين المسلمين عامة.

ولكن هذه الآثار الضئيلة لم تكن على جانب كبير من الأهمية في الإصلاح الديني في الشعوب الإسلامية في القرن العشرين.

- 3 -

على أن أخطر دعوة للإصلاح الديني في العصر الحاضر إنما تظهر الآن على يدي فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم الذي تولى منصب الإمامة الكبرى، والمشيخة العظمى، في الأزهر الشريف، منذ وقت قريب.

فمنذ أكثر من عشرين عاماً وفضيلة الأستاذ الأكبر يسهر على حماية التراث الإسلامي الخالد؛ ويجهر بالدعوة إلى إصلاح الأزهر إصلاحاً حقيقياً، وتمكينه من أداء رسالته؛ ويرى اقتران الإصلاح الديني في العالم الإسلامي بإصلاح الأزهر الشريف.

ومهمة الأزهر في رأي الأستاذ الأكبر جد خطيرة؛ فهي تشمل: (تعليم أبناء الأمة الإسلامية دينهم ولغة كتابهم، تعليماً قوياً مثمراً؛ يجعلهم حملة للشريعة، أئمة في الدين واللغة، حفاظاً حراساً لكتاب الله وسنة رسوله وتراث السلف الصالح والقيام بما أوجبه الله على الأمة من تبليغ دعوته؛ وإقامة حجته، ونشر دينه. . . فعلى رعاية هذين الجانبين يجب أن تقوم خطة الإصلاح في الأزهر، وأن يعمل العاملون على تحقيق آمال الأمة فيه).

ولذلك اتجه فضيلته بعزم قوي إلى إصلاح الأزهر إصلاحاً عاماً شاملاً. ومن كلماته في هذا الصدد: (وقد أخذت على عاتقي، وشرعت - والله المستعان - في توجيه هذه الجامعة الكبرى توجيهاً صالحاً).

ووسائل إصلاح هذه الجامعة الإسلامية العتيدة تتلخص في رأي الأستاذ الأكبر فيما يلي:

ص: 21

1 -

مراجعة الكتب الدراسية، وإبقاء الصالح منها، واختيار لون جديد توجه الطلاب توجيهاً حسناً إلى العلم النافع من أقرب طريق وأيسره.

2 -

تشجيع حركة التأليف والتجديد عن طريق الجوائز العلمية وغيرها حتى يتصل حبل العلم. . . وتوجيه العلماء إلى وضع بحوث في الفقه والتشريع تساير الروح العلمي الحاضر.

3 -

إعداد جيل قوي من أبناء الأزهر يستطيع أن يحمل الرسالة؛ فإن الأمة تريد من الأزهر أن يخرج لها علماء في الدين والشريعة واللغة وسائر العلوم العقلية والاجتماعية المتصلة بها، على أن يكون هؤلاء العلماء مزودين مع هذا بقدر صالح من العلوم الأخرى التي تفيدهم في مجتمعهم ثقافة عامة. وفي هذا يقول الأستاذ الأكبر أيضاً موجهاً كلمته إلى الأزهريين: نصيحتي إليكم أن تعلموا أنكم مجندون في سبيل الله. فأقبلوا على دراستكم، وتجملوا بالفضيلة بينكم وبين الناس، لتحقيق آمال الأمة فيكم، وإعلاء كلمة الدين والعلم بكم.

4 -

تشجيع حركة البعوث العلمية التي يرسلها الأزهر إلى جامعات أوربا للتزود من شتى الثقافات. . ولا بدع فإن العلم رحم (بين الناس كافة) كما يقول الأستاذ الأكبر لعلماء جامعات أوربا الذين حجوا إلى مكتبة في زيارتهم للأزهر الشريف.

5 -

تنظيم هذه الجامعة الكبرى تنظيماً يتفق مع خطر رسالتها، ويساعدها على أداء هذه الرسالة، وإنشاء مكتبة كبرى، ودار كبيرة للطباعة، وإكمال مباني الأزهر الجامعي، تمهيداً للاحتفال بعيده الألفي؛ إلى غير ذلك من وسائل الإصلاح.

أما مهمة الأزهر في سبيل الإصلاح الديني في مصر والشرق الإسلامي فتتلخص فيما يلي:

1 -

العناية بإصلاح حالة الأسرة بإصلاح شؤونها، ودعم كيانها، عن طريق بحث التشريعات اللازمة لها: في الزواج، والطلاق، والنفقة، والحضانة، والولاية، وما إليها.

2 -

نشر الدين والثقافة في كل ناحية.

3 -

إرسال البعوث الأزهرية إلى شتى أرجاء البلاد الإسلامية لدراسة أحوالها، وتهذيب أبنائها.

4 -

تشجيع البعوث الإسلامية الوافدة على الأزهر، وبناء دار كبرى لإقامتهم، ورعاية

ص: 22

شؤونهم العلمية والخلقية والدينية.

5 -

ربط الأزهر بشتى الجامعات الشرقية، وإنشاء مراكز ثقافية له في عواصم البلاد الإسلامية.

وأما مهمة الأزهر في الدعوة إلى الدين في العالم، فهي كما يرى الأستاذ الأكبر تشمل ما يأتي:

1 -

توجيه العلماء إلى وضع مؤلفات باللغات الأجنبية، لبيان حقيقة الإسلام بمزاياه. وقد بدأ فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء بتأليف رسالة في شرح مبادئ الإسلام، تترجم الآن إلى اللغات الحية، لإذاعتها في العالم.

2 -

إنشاء إدارة للدعاية الإسلامية تتولى توجيه الناس إلى الإسلام ومبادئه الخالدة.

3 -

ترجمة تفسير القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية.

ويرسم الأستاذ الأكبر خطة للإصلاح في البلاد الإسلامية في كلمة جامعة وجهها إلى الشعوب الإسلامية منذ أيام وهذه الخطة هي:

أولاً: أن يؤمنوا إيماناً عن بينة وبصيرة بأنه لا صلاح لهم إلا بالدين الذي صلح به أولهم.

ثانياً: أن ينسوا أحقادهم وميراث عدوانهم، فيعودوا كما تركهم رسول الله أمة واحدة عزيزة كريمة؛ لا غرض لها إلا إعلاء كلمة الله، ونشر دينه، والدفاع عن الحق حيثما وجدت لذلك سبيلاً.

هذه هي أخطر رسالة للإصلاح الديني في مصر والشرق الإسلامي في العصر الحديث.

وهي رسالة لا يستطيع النهوض بأعبائها إلا من كان مثل الأستاذ الأكبر في خلقه ودينه؛ وفي غيرته على العقيدة الإسلامية، والشريعة المحمدية، والتراث الإسلامي المجيد.

محمد عبد المنعم خفاجي

مدرس بكلية اللغة العربية

ص: 23

‌في الرحلة إلى الحجاز

قدح الزناد

للآنسة عزيزة توفيق

تعالى تهليل القوم وتكبيرهم إذ لاحت معالم جدة من بعيد؛ لقد مضى عليهم يومان وهم لا يرون إلا زرقة السماء والبحر. وعلا الوجوه بشر وصفاء، وابتسم خدم الباخرة في ارتياح، وأخذوا يهنئون الحجاج بسلامة الوصول، مؤكدين أنه سيكون حجاً مبروراً؛ فقد كانت آيات الرضا من الله تتجلى في الريح الرخاء التي صاحبت الباخرة طوال اليومين الماضيين.

ووقفت بنا الباخرة على مبعدة من الشاطئ، حيث بدت منازل جدة ومن خلفها الجبال ملتفة بأضواء الشروق أضفتها عليها شمس الصباح، فبدت في حلة أرجوانية.

وفي ابتهاج أسرعنا بالنزول إلى الزوارق البخارية التي أخذت تهدهدنا في رفق على صفحة الماء الساجي، حتى لحقت بنا أمتعتنا وسارت الزوارق مسرعة، يقودها حجازيون ذوو بشرة سمراء محمرة، تطل من وجوههم عيون تبرق نشاطاً وتصفو إيماناً. وكانت شرائط المياه البيضاء المتخلفة من انسياب الزوارق على صفحة المياه الزمردية تسرع خلفنا في وشوشة موسيقية رتيبة، وأحياناً يعلو عليها صوت الحجاج (لبيك اللهم لبيك). ووصلنا جدة!!

إذ ذاك طالعتنا لوحة فنية رائعة؛ تمثل مختلف الشعوب الإسلامية، لقد كانت لوحة الوجوه والأشكال؛ على رغم أن الجميع كانوا بملابس الإحرام. ووافانا من بين الجمع غلام يافع، يتدلى شعر رأسه الأسود في خصلات لامعة منسدلة على كتفيه، وقد علت تلك الخصلات قلنسوة (طاقية) مطرزة بألوان زاهية أكسبت لونه الخمري بهاء. أخذ هذا الغلام يجمع جوازات السفر ليؤشر عليها من المختصين، ومن ثم قادنا إلى حيث أقلتنا سيارات إلى مدينة جدة.

وجدنا جدة ثغراً جميلاً، ذا مبان فخمة تضاهي طراز البيوت في أية بلد متمدن. وبها منتدى (كازينو) يسميه الوطنيون (الثلاجة) ويديره جماعة من الحجازيين بملابسهم الوطنية، وهي عبارة عن مئزر مبرقش بجمعه حزام، أو جلباب واسع مشدود من الوسط بمنطقة من القماش، ويغطي رؤوسهم (لاسة) ينساب أحد طرفيها على قفاهم لتحميها وهج الشمس،

ص: 24

ويسمى عندهم (العذبة). وكم كان لطعم المرطب (ابيلاتي) الذي قدم لنا هناك لذة أية لذة؛ وعلى الأخص حينما كنا نسرح الطرف آماداً بعيدة جوالاً على تعاريج الأمواج الزاخرة، ثم يرتد إلى محيط النادي ذي الغرابة والسحر.

قضينا بجدة يوماً ممتعاً. وفي اليوم التالي وافتنا السيارات لتقلنا إلى مكة، فسارت بنا في طريق وعر، تحف بها من جانبيها جبال شاهقة وهضاب مرتفعة؛ قد اختلفت مادة ولوناً. وها نحن نرتفع إلى أعلى وقد اهتزت بنا السيارة مجتازة أحد النتوء في الطريق، ثم نهبط تبعاً لانحدارها المفاجئ. ثم إذا بها تدور فنميل حتى تتلامس الرءوس، وقد انهلعت قلوبنا فرقاً.

وأخيراً تعود السيارة سيرتها المستقيمة، ويطغى على خوفنا اطمئنان يزجيه الإيمان.

حتى بلغنا مكة. وكانت هذه أولى قدحات زناد إيماننا.

إن أي عالم نفساني لا يستطيع أن يدرك مدى تلك السعادة الروحية التي شعرنا بها ونحن نمر بأبواب الحرم الشريف في طريقنا إلى منزل (المطوف) الذي ما كدنا ندخله حتى دعا الداعي إلى (طواف القدوم)، فأسرعنا كأطفال في يوم عيد تطفح وجوهنا بشراً، لمحته أنا في كل وجه حتى في وجوه الشيوخ منا. وسرنا وراء (المدعى) نردد تلبياته وابتهالاته واستغفارا ته، بصوت خاشع منيب، فيه رنة تنفذ إلى القلوب في رهبة، وتحفز الأرواح لتلهج بها الألسنة مرددة هذا الاستغفار والابتهال:(يا رب لقد جئتك من بلاد بعيدة، بذنوب كثيرة! رحمتك يا رب! غفران يا رب!) وكان (المدعى) يمد الباء الأخيرة في (يا رب) فتصل إلى غور عميق من النفس.

ودخلنا من (باب السلام) إلى بيت الله الحرام، ووقفنا تجاه الكعبة قانتين. ودعونا الله أن يزيد بيته الحرام تشريفاً وتكريماً، وأن يغفر لنا ما تقدم من ذنبنا وما تأخر، ثم دعونا بما نريد من مطالب الدنيا؛ إذ قيل لنا: إن الله يستجيب ما يطلبه المرء في هذا المكان. وإذا بي لا أجدني طالبة من الله إلا أن يسهل لي الطواف ولمس الحجر الأسعد (الأسود).

وإذ نوينا الطواف أسرعنا وسط الجموع الزاخرة، يدفعنا الموج الآدمي من مختلف الشعوب والأمم. يتزاحمون ويتدافعون بالمناكب، كل مشغول بنفسه؛ كأنهم في يوم الحشر بين يدي الديان.

ص: 25

تطلعت إليهم وأنا أجري يجرفني تيارهم، وهم كتل متراصة متماسكة، كل منها تردد الدعاء خلف مطوفها، كل بلغته ولسانه. وحينئذ خيل إلى أن أمنيتي لن يكون لها نصيب من التحقيق. ومررت (بالركن اليماني) وأمكنني أن ألمسه مقبله، وما وافيت الحجر الأسعد حتى رأيت الجموع المزدحمة عليه في تهافت وتلهف قد انشقت مفسحة أمامي طريقاً أفضى بي إلى الحجر بين ذهول هذه الجموع الذي لم يدم إلا لحظة تمكنت فيها من لمس الحجر وتقبيله. وخرجت من الازدحام لأتمم دورات الطواف السبع، وحين وصلت إلى ركن (إبراهيم) ووقفت لأصلي ركعتين هما سنة الطواف رفعت طرفي إلى السماء، وقد شاع في كل كياني بسمات من السعادة! تبارك الله جلت قدرته؛ فلقد حققت أمنيتي وسعدت بلمس الحجر. وحين كنت أؤدي ركعتين في (حجر إسماعيل) رحت أتمنى ما شئت من نعيم الدنيا والآخرة، وكلي ثقة وإيمان بأن الله جلت قدرته سيحققها بإذنه إن شاء. وجلست لأستريح بالحرم وأجلت البصر فيما حوالي.

للكلام صلة

عزيزه توفيق

الدراسات العالية - القسم الفرعوني

كلية الآداب

ص: 26

‌رسالة الشعر

شكاة شاعر

(مرفوعة إلى عميد الأدب العربي، ووزير المعارف

المصرية، الدكتور طه حسين باشا)

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

إليك، وبي يأس أضاع شبابيا

توجهت أبغي أن تعيد رجائيا

وأنت الذي يرجى لكل عظيمة

إذا لم أجد فرداً على الخير ساعيا

وحسبي فخاراً أننا من أرومة

موحدة طالت ذرا النجم راقيا

كلانا نماه الأزهر السمح للعلى

وها أنت جاوزت الكواكب ساميا

وهأنذا أسعى إليك مجاهداً

فأدرك جهادي. واستجب لندائيا

خلقت بروحي طائراً مترنماً

يحلق في الآفاق يبغي الأعاليا

إذا ما تغنى أنصت الكون خاشعاً

وأصغت له الأيام ركباً وحاديا

سكبت أغاريدي على كل روضة

وفي كل أفق قد بعثت الأغانيا

فما بال قومي كبلتني قيودهم

فعشت أسيراً موجع القلب باكيا

عفا الله عن قومي؛ يريدون شقوتي

كأنهمو يستعذبون شقائيا!

إذا لم أعش في جنة فوق ربوة

فكيف أغني هادئ النفس راضيا؟

شكوت ولم أفصح، وحسبي إشارة

إذا جئت أبدي للبيت شكاتيا

عهدتك ترعاني، وترعى مواهبي=فلازلت مرعياً، ولازلت راعيا

وبلغت أقصى ما تريد من المنى

وأنت جدير أن تنال الأمانيا

وإني جدير أن أظل على المدى

مقيماً على عهد المودة وافيا

إبراهيم محمد نجا

ص: 27

‌إلى النيل الخالد

للأستاذ حسن عبد الله القرشي

صوت العروبة في هديرك مرزم

وعلى ضفافك شعلة تتضرم!

يا راكضاً كالدهر منطلق المدى

تفتر للنعمى ومنك الأنعم

تجري السفائن فيك وهي موائس

وتعب منك وأنت زاه تبسم!

طير الحنين لذكرياتك صادح

كالفجر نشوان الرؤى يترنم!

تتراقص النسمات حولك حفلاً

والطير زهراً في حماك تحوم

وترى الربى سكرى رضابك إنه

جريالها وهو الحبيب المغرم

خضراء ناضرة تروق بمنظر

شبه السماء تشع فيه الأنجم

وإذا استحث لك الربيع ركابه

خلت الأواذي الصقيلة تحلم

فيك الحياة تدب ملء إهابها

حب يضوع وفرحة وتنعم

يا غنوة الأجيال من عهد الألى

ركزوا دعامات البلاد وعلموا!

أرسوا على متن الزمان حضارة

هي مشرق للكون بل هي مبسم!

(أهرامهم) شتى العجائب ما ترى

فيها سوى الإبداع، نعم الملهم

سل (كليوباترا) هل تألق مجدها

بسواك تحبوه الضياء وتعصم؟

وسل (الفراعنة) العتاة ألم يروا

سحر الجلال يرف منك عليهم؟

ما كان (فيضاً) ما غمرت به القرى

بالأمس بل هي غضبة تتحدم

هي وثبة الضرغام ديس عرينه

وفراهة الجر استشاط به الدم

يا (مصر) يا أم المكارم والعلا

لك في النفوس مودة لا تهرم

روحية الإسلام أنت رجاؤها

ومناط آمال تجيش وتعظم

لك بين أسفار الجهاد صحائف

ريع الجبان لها وهش الضيغم!

أنشودة كم تغمتها عصبة

تطأ الصعاب بعزمة لاتهزم

أمل العروبة أنت كم قلدتها

عقداً بحبات القلوب ينظم!

أرخصت في إقدامك الثمن الذي

هو للمعالي مهرها المتوسم

فترقبي الصبح الجميل فإنه

في موكب البشرى إليك سيقدم!

ص: 28

أشباب (وادي النيل) هذا يومكم

يوم يفر له الجبان ويحجم

رنت الشعوب له وصفقت الدنى

فاستدبروا الأحقاد فيه وأقدموا

(الشرق) يهفو نحوكم مستبشراً

و (الغرب) في حنق يثور ويكظم

فثبوا على متن العزائم وابتنوا

صرح اتحاد شامخ لا يهدم

وتنهازوا فرص الحياة فإنها

كالبرق لا يأنى ولا يتلوم

ما (مصر والسودان) إلا دوحة

روى ثراها نيلها المستحكم

جمعت أواصرها العتيدة وحدة

بيد الإله وثاقها مستعصم

هيهات تجتث الغصون حماقة

من غاصب مستعبد يتهجم

حييت يا نهر الخلود فقد زها

فوق السماك فخارك المستلهم

لا زلت هدار العباب مصارعاً

للخطب، مرهوباً، تعز وتكرم

حسن عبد الله القرشي

ص: 29

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

برناردشو ورسالة المال:

قلنا ونحن نتحدث عن ملكة السخرية عند (شو) ونرد إليها أكثر آرائه وأفكاره في محيط الأدب والحياة: (والسخرية في حياة شو هي ألمع اللافتات جميعاً، بل هي الإطار الطبيعي الذي يحيط بكل صورة من صور هذه الحياة، وهي في فنه نقطة الارتكاز التي يلتقي عندها خط الاتجاه النفسي المعتد من هنا وخط الاتجاه الفكري المنطلق من هناك. . وهي في حياته وفنه معاذ لك المعبر العظيم لإنسانية القلب وكبرياء النفس وأصالة الموهبة. وتضغط أنت على (زر) نفسي واحد لترسل التيار الكهربائي إلى هذه اللافتة لتصبح (مضيئة)، وتقرأ على (ضوئها) ما نحمل اللافتات الأخرى من (ألوان) نفسية. . ما هو هذا الزر النفسي الذي يضيء لافتة السخرية عند (شو)، أو ما هو (مفتاح النور) لهذه الملكة الفذة التي غطت على غيرها من الملكات؟ إنه السخط المتأصل في أعماق النفس منذ القدم على بعض القيود والأوضاع!

هذه الملكة النادرة عند هذا الكاتب العظيم، أنبتتها الوراثة وأنضجتها التجربة، وتولتها الموهبة بالعرض والتقديم. لقد ولد في مهد الفاقة فسخط، وشب في أحضان النبوغ فسخط، وتنفس في جو القيود فسخط، وبدأت حياته وانتهت وهي سلسلة من السخط المدثر بأثواب السخرية. لقد سخط على الأغنياء لأنه تذوق طعم الفقر، وسخط على الاستعمار لأنه نشأ حر الفكر، وسخط على العاجزين لأنه شجاع يؤثر الغلبة والاقتحام. . ثم أفرغ هذه الطاقة الساخطة في ذلك القالب الساخر، الساخر من شتى المثل والقيم والتقاليد!

لقد كان السخط هو المنبع الأصيل الذي انبثقت منه سخرية (شو) لتنال برشاشها اللاذع كل ما يدخل في دائرة عقله من مظاهر الإنكار. وما هي السخرية على التحقيق إذا لم نردها إلى أصولها النفسية من السخط الثائر على أمر من الأمور؟ إنك لا تسخر من وضع في الحياة إلا إذا كنت ساخطاً عليه، لأن السخرية في جوهرها ما هي إلا اتجاه عقلي إلى الحط من قيمة هذا الوضع، والتعرض له بفنون من الهدم والتجريح! والسخط لون من ألوان الثورة بلا جدال، ولكنه عند (شو) ثورة عقلية مهذبة، هدفها النيل بالقلم واللسان، ومادتها

ص: 30

السخرية التي تؤثر الهدم بالقول الجارح وتفعل بالظهور ما لا تفعل السياط. . هو ساخر في حياته وساخر في فنه، وبهذه السخرية النادرة نظر إلى الحياة والفن من زواياه الخاصة، وسلط عليهما أضواءه الخاصة، واختلف مع كل المصورين في لقطاته البصرية والنفسية!

ولم تكن سخرية (شو) هي سخرية العاجز حين يشكو النقص فيتندر على القادرين، ولكنها سخرية المشرف على الدنيا من فوق قمة عالية، تريه الأشياء صغيرة مسرفة في الصغر ضئيلة مغرقة في الضآلة. ومن هنا امتزجت السخرية في دمه بالكبرياء، سخرية العقل بكبرياء النفس، ثم انصهر هذا المزيج العجيب في بودقة الحياة فنشأت عنه هذه النزعة الإنسانية التي تتسم بالعطف على الشعوب الفقيرة والمحتلة على حد سواء. . إنها نبضات القلب الكبير، القلب الذي تقلب يوماً على أشواك الفقر فقاد خطوات صاحبه إلى طريق الاشتراكية، وناء يوماً بثقل القيد فوجه قلم صاحبه إلى مهاجمة الاستعمار!

ومن مظاهر الكبرياء في حياة (شو) أن يهاجم التقاليد الإنجليزية في كل مناسبة تدعوه إلى الهجوم، ويسخر من المثل الإنجليزية في كل فرصة تهيئ له أسباب السخرية، في الوقت الذي كانت أيرلندة وطنه الأول تئن تحت ضغط الاستعمار البريطاني. . ثم لا يقف بكبريائه عند هذا الحد المقبول ولكنه يندفع بها إلى ما وراء المعقول، فيمتدح الشيوعية الروسية وينعت قطبها الأكبر ستالين. . بأنه خير الناس! ترى هل كان (شو) يؤمن بهذا الذي جهر به، أم أن سخطه على الرأسمالية عامة وعلى الشعب البريطاني خاصة هو الذي كان ينطقه بغير ما يعتقد ويظهره بغير ما يريد؟ الحق أنه للسخط من جهة والإيمان بالرأي من جهة أخرى).

على هذه الفقرات الأخيرة تركزت أسئلة الأديب الفاضل محمد محمد عبد الرحمن في العدد الماضي من الرسالة. وإذا كنا قد عمدنا إلى الاستشهاد بما سبقها من فقرات، فلأننا سنعود إليها في معرض الجواب حين نرفع القناع عن أهدافه ومراميه. إن الأديب الفاضل يسألنا وهو يطلب المزيد من الوضوح. (ترى هل كل شو يا سيدي ساخطاً حقاً على الرأسمالية، غير مؤمن باستحواذ المال؟ إن الأستاذ العقاد يؤكد لنا في كتابه الصغير عن برناردشو، أنه كان مؤمناً برسالة المال في حياة الآحاد وحياة الجماعات، وأنه لا يكتم هواء للمال وحبه للاستزادة منه ما استطاع ثم يحدثنا العقاد عما كان يجذب شو نحو الاشتراكية فيقول: كان

ص: 31

يجذبه إليها فقرة وتمرده على النظم القائمة ونشأته الأيرلندية التي تعلم منها الثورة على الاستعمار والاستغلال، فكان انضمامه إلى جماعة الفابيين. فإذا أردنا تفسير كلمة (فقره) وجدناها لا تعني سخطه على الرأسمالية، يؤيد ذلك قول شو نفسه (لا تخلط بين بغضك لزيادة جارك في الغنى وبين بغضك للفاقة)!

إلى هنا تنتهي ملاحظات الأديب الفاضل ونعقب عليها قائلين له: أما أن (شو) كان ساخطاً على الرأسمالية فحق لأمراء فيه، وأما أنه كان مؤمناً برسالة المال في حياة الآحاد وحياة الجماعات، ولا يكتم هواه له وحبه للاستزادة منه فحق آخر لا يقل عن الحق الأول في دلالته ومعناه، ولا تناقض بين النزعتين ولا غرابة ولا شذوذ. . فإذا قلنا إن (شو) كان صاحب نزعة اشتراكية في آرائه الاجتماعية، فمعنى هذا أنه تنكر للرأسمالية وسخط عليها وعدها خطراً على حياة الفرد وحياة الجماعة. وإذا آثر مفكر من المفكرين نظاماً في الحياة على نظام، فدلالة هذا الإيثار واضحة كل الوضوح معبرة كل التعبير، بأنه قد آمن بالوضع الأول ولم يؤمن بالوضع الأخير. وإذا قلنا بعد ذلك إن (شو) كان يعترف برسالة المال وأثره في حياة الآحاد وحياة الجماعات، وجب علينا أن نقرن القول بشيء من التوضيح ينتفي معه كل تناقض بين الرأيين في مجال الموازنة والتوفيق. أية رسالة للمال تلك التي كان يعترف بها (شو) ويؤيدها بكل ما يملك من قوة القلم وحرارة المنطق وذلاقة اللسان؟ لقد نادى (شو) بأن يكون المال في يد الجميع لينهض الجميع، أما أن يكون المال في يد طبقة دون طبقة، فهذه هي التفرقة التي لا تتسم بالعدل ولا تقترن بالإنصاف، لأنها مدعاة لتنافر الطبقات من جهة وزلزلة للنظم الاجتماعية من جهة أخرى. ومن هنا آمن (شو) بنظرية (المساواة في الدخل) كنظام اقتصادي يفضله على كل ما عداه. . وأساس هذه النظرية أن المواهب الخاصة والكفايات الذاتية، تلك التي تميز بين الأفراد في رأي المجتمع وتقدير القادة، لا يصح أبداً أن تكون ميزاناً لمثل هذا التمييز في الحصول على حقوقهم المادية. ولهذا طالب (شو) بتأميم وسائل الإنتاج، أي بوضع المرافق الاقتصادية في يد الدولة، لتستطيع الدولة أن تستغل تلك المرافق بعيداً عن دوافع الأثرة ومزالق الأهواء، وذلك بتوزيع الدخل الحكومي توزيعاً عادلاً (متساوياً) بين الأفراد!

هكذا آمن (شو) برسالة المال في حياة الآحاد وحياة الجماعات، وهو إيمان تؤيده نزعته

ص: 32

الاشتراكية ويؤكده انضواؤه تحت لواء الجمعية الفابية. . ونحن هنا متفقون مع الأستاذ العقاد حين قال بأن ما كان يجذب (شو) نحو نزعته تلك هو فقره، وتمرده على النظم القائمة ونشأته الأيرلندية التي تعلم منها الثورة على الاستعمار والاستغلال. متفقون معه في تلك الفقرات التي أثبتناها في بداية هذه الكلمة وختمناها بهذه العبارة:(إنها نبضات القلب الكبير، القلب الذي تقلب يوماً على أشواك الفقر فقاد خطوات صاحبه إلى طريق الاشتراكية، وناء يوماً بثقل القيد فوجه قلم صاحبه إلى مهاجمة الاستعمار)!

وإذا ما تطرق الحديث إلى ثورة الكاتب العظيم على الاستعمار فقد آن لنا أن نربط بين هذه الثورة وبين ثورته الأخرى على الرأسمالية، ذلك لأن شو كان يعتقد اعتقاداً راسخاً بأن الرأسمالية بوجهها السافر وصورتها الصادقة، ما هي إلا المعبر الحقيقي لتلك الخطوات التي لا تعرف التردد وهي تشق طريقها نحو الاستعمار وما يقتضيه من ألوان الاستغلال وضروب الاستعباد. . إن الرأسمالية معناها إثارة الحروب، وهدفها إرضاء المطامع، وغايتها التحكم في رقاب الناس، ودستورها فرض سلطة القوي على إرادة الضعيف، وهذا كله بتسخير قوى المال في إخضاع العصاة وقهر الأباة. . تحقيقاً لمبدأ الشهوات والنزوات!

ويسألنا الأديب الفاضل بعد ذلك في نهاية كلمته: كيف نوفق بين قولك بأن (شو) كان ساخطاً على الرأسمالية، وبين قوله هو: لا تخلط بين بغضك لزيادة جارك في الغنى وبين بغضك للفاقة؟! والجواب عن هذا السؤال كامن هناك، في تلك الفقرات الأول التي استشهدنا بها من مقالنا السابق عن الكاتب العظيم، حيث قلنا بعد كلام طويل:(. . والسخط لون من ألوان الثورة بلا جدال، ولكنه عند (شو) ثورة عقلية مهذبة، هدفها النيل بالقلم واللسان، ومادتها السخرية التي تؤثر الهدم بالقول الجارح وتفعل بالظهور ما لا تفعل السياط). . إن كلمة (مهذبة) التي نطقنا بها ونحن نرمي إلى ما يرسب في قرارها من أهداف، هي المفتاح الأصيل لما يبتغيه الأديب الفاضل من تفسير وتعليل:

لقد انضم (شو) إلى الجمعية الفابية عند إنشائها في سنة 1884، ومن مبادئ هذه الجمعية أن تدعو إلى الإصلاح الاجتماعي أو تطبيق العدالة الاجتماعية بين طبقات الكادحين، وذلك عن طريق التوجيه والتشريع لا عن طريق الثورة المسلحة وإراقة الدماء. . لم تكن الجمعية الفابية تؤمن بنبذ الأوضاع غير المألوفة في ناحية بعينها من نواحي المجتمع هي

ص: 33

الناحية الاقتصادية، وشعارها أن يكون المال في يد الجميع لينهض الجميع. نؤمن بهذا المبدأ وهي أبعد ما تكون عن وسائل الضغط وعوامل الإرهاب، وأبعد ما تكون عن تأليب فئة من الناس على فئة، عملاً بخطتها السلمية التي تأنف إثارة الأحقاد والضغائن بين الطبقات. . . فإذا كان (شو) قد جهر بتلك الكلمة المأثورة، وهي ألا نخلط بين بغضنا لغنى الجار وبين بغضنا للفاقة، فهو خضوع لمنطق نزعته الاشتراكية وخضوع في نفس الوقت لمنطق جمعيته الفابية، تلك التي انضم إليها عن عقيدة وإيمان!

لقد كانت الحركة العمالية البريطانية في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، تلجأ في تحقيق مطالبها إلى كل وسيلة من وسائل العدوان، نعني أنها كانت حركة ثورية تبعد فيها الثورة عن أن تكون (مهذبة). وحين ظهرت الجمعية الفابية في أواخر النصف الثاني من ذلك القرن، كان لها أكبر الأثر في تهذيب تلك الحركة الثورية وطبعها بطابع التعقل والرصانة وتقدير الأمور. . ولسنا مغالين إذا قلنا عن تلك الجهود التي بذلتها الجمعية الفابية في ذلك المضمار، إنها قد انتقلت بالحركة العمالية من مرحلة القوى المبعثرة بفعل القلق والاضطراب، إلى مرحلة أخرى من الاتحاد والهدوء والاستقرار، نهض على دعائمها القوية حزب العمال وحكومة العمال. نقول هذا مختلفين مع الأستاذ العقاد حين يقول في كتابه الصغير القيم عن أثر الجمعية الفابية:(. فالواقع أن المجال كله مجال (نظريات وآمال) فيما تناولته الجماعة الفابية من المساعي والجهود، فإن آثارها في مجال العمل السياسي جد قليلة، ومعظم آثارها إنما كان تعليماً مقبولاً بين الناشئين والمثقفين ممن لا يملكون في مساعيهم وجهودهم قوة فعالة أكبر من قوة الإقناع في هذا المجال المحدود)!

وليس من شك في أن (شو) كان يحب جمع المال ويسعى إلى اقتنائه، حتى مات وهو صاحب أكبر دخل بين الكتاب في القرن العشرين. . وقد يعجب القراء حين يعلمون أن هذا الكاتب الإنساني صاحب تلك النزعة الاشتراكية، لم يعرف عنه أنه جاد بماله يوماً على فقير أو محتاج أو جمعية من الجمعيات الخيرية! لقد كان (شو) هو هذا الرجل الذي صورناه، ولكن العجب يزول ويجب أن يزول، حين نقول إن (شو) كان يؤمن وله كل الحق في هذا الإيمان، بأن مشكلة الفقر لا يمكن أن تحل عن طريق التبرع أو عن طريق الإحسان. . ولهذا أمسك يده إلا عن الجمعية الفابية!

ص: 34

بعض الحقائق عن الفضيحة العلمية:

كان للمقال الذي كتبناه في العدد الماضي من الرسالة، حول الفضيحة العلمية التي ارتكبها الدكتور عبد الرحمن بدوي بتحقيقه، معذرة أقصد بتشويهه لكتاب (الإشارات الإلهية) كان لذلك المقال أثره البعيد ودويه العميق في مختلف الأوساط الأدبية والجامعية. ولكن هذه الأوساط قد لجأت إلينا متسائلة ومستفسرة، عن السر الخفي الذي حال بين المقال الثاني من نقد الأستاذ صقر في مجلة (الثقافة) وبين الظهور، في الوقت الذي دعونا القراء إلى انتظاره في يوم معلوم. ونرى لزاماً علينا أن نرفع الغطاء قليلاً عن السر الخفي فنقول: لقد حدث أن عجز فيلسوف مصر الأول عن أن يدفع عن (علمه) طعنات السهام، فتوسل إلى المشرف على تحرير (الثقافة) بحق ما بينهما من روابط الصداقة وأواصر الوفاء، أن يحبس المقال الثاني إنقاذاً لسمعته!!

وتحت جنح الظلام تمت المؤامرة ونجح التوسل وأفلح الرجاء، ولكن إلى حين. . فقد علم المفكر الحر الأستاذ أحمد أمين بك بهذا الذي دبر في الخفاء فوقف إلى جانب حرية الرأي يناصرها بغضبة العالم ويؤازرها بيقظة الضمير، وأصدر أمره إلى المشرف على تحرير (الثقافة) بأن يفسح لحرية الرأي مكانها الموقر في قرار النفوس! إننا حين ندعو القراء مرة أخرى إلى متابعة الأستاذ صقر في دفاعه عن كرامة التحقيق العلمي في مصر، فإنما ندعوهم في نفس الوقت إلى أن يذكروا للأستاذ أحمد أمين بك هذا الموقف المشرف الذي لا يمكن أن ينساه المفكرون الأحرار!!

أنور المعداوي

ص: 35

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

في ندوة الجامعة الشعبية

جرت الجامعة الشعبية على أن تنظم مناقشات أدبية تدور حول كتاب يختار للعرض والمناقشة. وقد كان كتاب الندوة الأخيرة هو قصة (على باب زويلة) للأستاذ محمد سعيد العريان، قام بعرضه ونقده الأستاذ زكريا الحجاوي، وقد بدأ حديثه بمقدمة حمل فيها على الأدباء الكبار الذين تعرضوا لكتابة القصة الطويلة من حيث محاكاتهم وأخذهم من قصص الغرب، حتى شبههم بالغراب يحجل في جنة الكروان. . . ومن حيث استئثارهم باهتمام النقاد وعنايتهم، ذاهباً إلى أن قصة (على باب زويلة) ليست كذلك ولم يظفر صاحبها بما يستحق من إشادة النقاد لأنه ليس من المشهورين اللامعين، وذاهباً أيضاً إلى أن ذلك يدل على أن النقد عندنا مصاب ب (الأنيميا) على حسب تعبيره.

وكان الأستاذ الحجاوي مغالياً في ذلك ولكن لنغض عن هذه خالاة محتفظين بعبارة (أنيميا النقد) فقد لاحظت بعض أعراضها في كلامه على كتابنا هذا المعروض للنقد والمناقشة. يظهر أن كلمة (النقد) ليست في حساب هذه الندوات، ولذلك نراها تعبر في الإعلان عن الندوة بكلمتي (عرض) و (مناقشة) وإن كانت المناقشة يدخل فيها النقد، ولكن الإدارة المشرفة لا تميل إلى أن يدخل فيها ما قد يغضب حضرات المؤلفين الذين تؤثرهم باختبار مؤلفاتهم. ولو أن الأستاذ الحجاوي التزم هذا الوضع واكتفى بعرض الكتاب دون الاتجاه إلى نقده، لسلم من أعراض الأنيميا النقدية، ولكنه أديب مثقف حصيف، وكاتب قصصي ملحوظ، فلابد أن يحمله شيطانه على النظر فيما يعرض له ليقدره ويقومه. ولكنه مع ذلك رضى أن يتعرض لتلك الأنيميا لأنه كان يشرف على النقد ثم يمسك عنه، ويمضي في شيء من التقريظ يغطي على سوء الوقع لدى الجمهور غير المستعد نفسياً لسماع النقد، ولست أدري مدى ما بينه وبين المؤلف من علاقة.

أشاد الأستاذ الحجاوي بعمل المؤلف في هذه القصة من حيث إنها جلت حقائق تاريخية في الحقبة التي مرت بها حوادثها وخاصة ما بذله المؤلف من جهد لكشف الغموض في أحداث عصر المماليك الذي وقعت فيه القصة والذي لم ينل عناية المؤرخين ومن حيث اختباره

ص: 36

موضوعاً مصرياً يظهر فيه خط الاتجاه الذي لا بد منه في كل عمل قصصي قيم، ويبدو هذا الخط في العناية بالناحية المصرية القومية في عرض بعض المواقف، وقال إنه يعتبر هذا الاتجاه ريحانة يضعها على مفرق الأستاذ العريان.

ورد الأستاذ الحجاوي على مآخذ وجهه إلى القصة الدكتور طه حسين والأستاذ نجيب محفوظ عند ظهورها، إذ أخذ العميد عليها (الإنات) التي تكثر فيها، ويعني بالإنات تكرار لفظ (إن) في أسلوبها. الحجاوي إن هذه الإنات واقعة في موقعها فهي كما يعادل الورد بأنه أحمر الخدين ولكن ما قوله في (الماسات) التي أفرد بها الأستاذ العريان في الكلمة التي عقب بها، إذ كان يكثر منها مثل (تصوير ما) و (نظر ما). . . الخ؟

وكان الأستاذ نجيب محفوظ أخذ على القصة أنها مزدحمة الحوادث وطويلة السنين وأنه يمكن أن تستغل بعض مواقفها وفتراتها في عمل تكون عناصر الفن فيه أكمل. رد الحجاوي على ذلك بأن الفترة التي تقع فيها حوادث الرواية تكاد تكون مجهولة التاريخ فكان عمل المؤلف مجلياً لها. ولكني أرى هذا دفاع تاريخي لا فني، أي أن المقصود به مصلحة التاريخ ومعناه أن القصة ضرورة تاريخية مؤقتة حتى يهتم المؤرخون بهذا العصر ويوله ما يستحق من عناية.

ولم أفهم ما يعنيه الأستاذ الحجاوي بما قاله من أن القصة ليست قصة أدبية ولا قصة تاريخية وإنما هي ملحمة! هل خرجت الملحمة عن أنها قصة أدبية أو تاريخية؟ لعله يعني أن أسلوب شعري أو حماس. لست أدري بالضبط.

ومما وجهه الحجاوي من نقد إلى القصة، أن بعض حوادث متعارض مع المنطق، وأن المؤلف قسمها فصولاً ومع ذلك فإن هذه الفصول ليس لكل منها وحدة إذ يتعدد الزمن وينقطع الحديث عن الشخص ويبدأ بغيره في الفصل الواحد، وأن حوارها في بعض المواضع مسرحي خطابي مقعقع، وأن المؤلف أنطق بعض شخصيات القصة بعبارات وطنية مصرية وهم من المماليك الأجانب.

والواقع أن الأستاذ الحجاوي نظر في القصة نظرة دارس فاحص لولا تلك الأعراض الأنيمية النقدية، وهي غير خبيثة على أي حال. . وكان السامع يستطيع يغض الطرف عنها أن يدرك مدى تقويمه الحق للكتاب. وقد عقب الأستاذ العريان بكلمة لبقة بين فيها

ص: 37

الدوافع التي

حفزته على كتابة هذه القصة، وهي كشف الغموض عن فترة مهملة من تاريخ مصر، وقال إن القصة تشتمل على أحداث تاريخية صحيحة وعلى ناحية إنسانية من عمل الخيال الذي لا بد منه في الفن وقد أبدى روحاً طيباً نحو الأستاذ الحجاوي وسلم ببعض المآخذ، ورد على بعضها، إلا أنه عندما عبر من سروره بهذه الفرصة قال إنه يسره أن يرى صورته في مرآة القراء وهو يعرفها في مرآة نفسه، ولعل كلمة (القراء) سبقت على لسانه دون كلمة (النقاد) فإن الصورة التي يعنيها إنما صورها الحجاوي كناقد.

وعنى الأستاذ العريان خاصة بالرد على أن المماليك أجانب، ذاهباً إلى أنهم إن كانوا قد جلبوا من الخارج إلا أنهم نشأوا في مصر أو شعروا بها وطناً لهم ودفع عنهم ما وصفهم المؤرخون به من الفساد في البلاد عند الكلام على مكافحة محمد علي لهم وألاحظ أن الأستاذ غالى في وطنية المماليك ومصريتهم، فهم حقاً دافعوا عن مصر في مواطن كثيرة، ولكني أرى إنهم كانوا يصدرون في ذلك عن (روح الفروسية) لا عن الوطنية. وأين هم من الوطنية وقد كانوا يجعلون أنفسهم في مرتبة غير الشعب وينفرون منه ويأبون مصاهرته بل ما كانوا يسومونه به من خسف وطغيان.

ولم أفهم ما قاله الأستاذ العريان من أنه يتمنى أن يتكرر لمصر أبطال خارجيون كالمماليك ولم لا يتمنى لها أبطال من أبنائها؟

حفلة المسرح الحديث

هناك في ردهة مطلة على شاطئ النيل من فندق سميراميس، اجتمع طائفة من رجال الصحافة والأدب والفن تلبية لدعوة الأستاذ زكي طليمات وأعضاء فرقة المسرح المصري الحديث في حفلة شاي أنيقة أقامتها الفرقة لتكريم الصحفيين الذين أولوها عنايتهم في إبان نشأتها، ولمناسبة استئناف الفرقة موسمها بمسرح حديقة الأزبكية الذي أعدت له برنامجاً يشتمل على أربع روايات جديدة.

وقد خطب في الحفلة الأستاذ زكي طليمات وفكري أباظة باشا ومعالي الدكتور صلاح الدين بك والأستاذ مظهر سعيد. وتناولوا في كلماتهم عدة مسائل من شؤون المسرح، قال الأستاذ زكي طليمات إن المسرح والصحافة يشتركان في هدف واحد هو خدمة المجتمع عن طريق

ص: 38

عرض صوره ومسائله، ولكن المسرح سبق الصحافة فقام بمهمتها في توجيه الناس ومعالجة شئونهم قبل أن توجد. فلما تكلم فكري باشا قال حقاً إن المسرح أخو الصحافة ولذلك نريد أن يؤدي مهمته في الوقت الحاضر كما تؤديها، وأعني بذلك أن يهتم المسرح بالحياة الواقعة ويأخذ صوره من المجتمع الحاضر. ثم قال الدكتور صلاح الدين بك إن المسألة التي أثارها فكري باشا، وهي عناية المسرح بالناحية الاجتماعية والقومية، جديرة بالاهتمام، ولكن ينبغي أن نذكر أن الفرق ليست مسئولة عن هذا النقص إنما هو فقر في التأليف يرجع أكثر التبعة فيه على الكتاب والصحفيين الكبار أمثال فكري باشا والأستاذ زكي عبد القادر والأستاذ التابعي، وتوجه إليهم أن يهتموا بهذه الناحية.

وقد استرعى انتباهي ما أشار إليه الأستاذ زكي طليمات عندما أراد فتح باب المناقشة في مسألة التأليف ودعا إلى إبداء الرأي بصراحة، إذ قال إن الروايات المؤلفة تكتب بالعامية. وهي إشارة تدل على ما ألمحه في برنامجه وما يتجه إليه من تجنب التمثيل بالعامية والاقتصار على الأدب الفصيح؛ وهذا اتجاه حسن أؤيده فيه وأوافقه عليه وإن كنت لا أضيق ببعض التأليف الفكاهي العامي ذي الفكرة والموضوع على أن يكون قليلاً إلى جانب الفصيح. ويلوح لي أن الأستاذ يريد أن يضع العامية عقبة في سبيل تقديم روايات مؤلفة، وإنا نراه يكثر من الروايات البعيدة عن المجتمع المصري، وقد أعجبني إبداؤه الارتياح إلى المصارحة بالنقد، ولذلك أصارحه بأن اتجاهه ذاك لا يتفق مع الرسالة الكاملة للفرقة. حقاً إنه يختار ويقدم مسرحيات قيمة من الأدب العالي، تاريخية ومترجمة، ولكن إلى جانب ذلك يجب أن يرى الناس صورهم ومسائلهم وخواطرهم على المسرح، وليست العامية عقبة في ذلك فإني لا أراها لازمة في التأليف، بل أعتقد أن الحوار العربي الحي أوفق للمسرح الراقي الموضوعي، ومسرحية (اللص) للأستاذ توفيق الحكيم تعتبر مثلاً لذلك.

وقد ساد الحفلة روح المرح والديمقراطية، وإن كان معالي الدكتور صلاح الدين بك نفى هذه الديمقراطية بلفتة بارعة، فقد شكره الأستاذ زكي طليمات على حضوره، وهو وزير عامل، وعد ذلك منه ديمقراطية، فقال معاليه إن هذه المسألة ليست كما قال الأستاذ زكي، إذ ليس في حضور وزير إلى أهل الفن ديمقراطية ولا تنازل، لأن الفن يرتفع إليه!

ومن طريف ما حدث أن الأستاذ زكي طليمات قال في صدر الحديث عن ميزانية الفرقة

ص: 39

التي لا تكفل لأفرادها ما يليق بهم من العيش والمظهر: إن في الفرقة شابات ناعمات في سن صغيرة لا تسمح لهن بالزواج فهن يحتجن إلى المكافأة التي تكفيهن. فقال فكري باشا في كلمته: أما الفتيات الناعمات فإنا نرجو لهن مستقبلاً سعيداً وأزواجاً مسعدين، فإن لم يجدن فنحن هنا. . . فلما خطب الدكتور صلاح الدين بك قال إن زكي طليمات استدر العطف على الفرقة وفتياتها حتى جعل فكري أباظة يقف لا خطيباً فقط بل خاطباً كذلك!

اقتراح لابد منه:

اقترح الأستاذ أحمد حسن الزيات على مؤتمر المجمع اللغوي في جلسته الأخيرة زيادة موضع على المواضع الثلاثة التي يغتفر فيها التقاء الساكنين فأحال المؤتمر الاقتراح على لجنة الأصول تمهيداً لإقراره وهذا نص الاقتراح:

(من طبيعة العربي ألا يلتقي الساكنان على لسانه. فإن التقيا في الكلام تخلص من التقائهما بحذف الساكن الأول إن كان حرف مد، أو بتحريكه إذا لم يكن كذلك. وحذف حرف المد يكون لفظاً وخطاً إذا كان الساكنان في كلمة، نحو خف وقم وبع، ويكون لفظاً لا خطاً إذا كانا في كلمتين، نحو اصنعوا المعروف، واعملي الخير، ووكيلا المجلس، موظفو الدولة، وممثلي الأمة وقد اغتفروا التقاء الساكنين في ثلاثة مواضع: أولها إذا كان الساكنان في كلمة وكان الساكن الأول حرف مد والثاني مدغماً في مثل، نحو عام وخاص ومادة ودابة، وثانيها ما قصد سرده من حروف الهجاء نحو نون وقاف وميم. وكان من الجائز أن تحرك أواخر هذه الحروف لولا أنها وردت في القرآن الكريم على هذا الموضع في فواتح بعض السور. وثالثهما ما وقف عليه من الكلمات نحو سماء ومسكين ومحروم.

والذي يعنينا من المواضع الثلاثة الموضع الأول، لأن اغتفار الساكنين فيه قائم على أصل من أصول البيان وهو دفع اللبس في الكلام، فإنهم لو حذفوا حرف المدمن نحو قولهم عام وسام وجاد وسادة ومارة لالتبس العام بالعم والسام بالسم والجاد بالجد والمادة بالمدة والمارة بالمرة وهلم جرا. وكان ينبغي أن يطرد هذا الاغتفار كلما خيف اللبس من حذف الساكن الأول، ولكنهم وقفوا عند ذلك فدارت على الألسن عبارات لا يستطيع السامع أن يتبين مراد المتكلم منها كقولنا مثلاً: اجتمع ممثلو العراق؛ بممثلي الأردن. واتصل محامي بمحامي الخصم. فإن السامع لا يدري أقصد المتكلم إفراد الممثل والمحامي أم قصد جمعهما

ص: 40

ومثل ذلك مدرسو التاريخ ومفوضو الشركة ومفتشو الوزارة.

لذلك أقترح أن يزاد على هذه المواضع الثلاثة موضع رابع وهو الاسم الصحيح الآخر إذا جمع جمع مذكر سالماً وأضيف إلى اسم محلي بأل في حالتي الرفع والجر، والاسم المنقوص إذا جمع هذا الجمع وأضيف إلى ياء المتكلم في أحوال الرفع والنصب والجر، أو إلى الاسم المحلي بأل في حالة الجر. فنقول ممثلو الشعب ومندوبي الحكومة ومحامي ومحامي الخصم بإثبات الواو والياء فيها لفظاً كما تثبت خطأ.

والذي أعتمد عليه في تأييد هذا الاقتراح القياس والسماع: قياس هذه الحالة على ما اغتفروه من التقاء الساكنين في مثل عام وخاص لاتحاد العلة فيها وهي دفع اللبس، والقياس على ماقاسه العرب من المبادئ التي أقرها المجمع. ثم سماع التقاء الساكنين فيها من المحدثين، فإن أكثر المثقفين يقولون: مقررو اللجنة وموظفي المجلس بإثبات الواو والياء وقبول السماع من المحدثين مبدأ قرره المجمع في دورته الأخيرة. وفي اعتقادي أن المجمع الموقر سيجد في هذا الاقتراح اتجاهاً إلى ما يقصد من تيسير اللغة وتوضيحها فيقبله.

يدعو إلى دراسة مسرحية دينية

تلقيت رسالة طريفة من الأديب (محمد أحمد السنباطي بمعهد رأس التين الديني) ووجه الطرافة فيها أنه يبدي بها فكرة تقدمية إلى أبعد ما تكون التقدمية. . . فقد رأى أن المهمة التي يقوم بها ريجو قسم الوعظ والإرشاد لا تؤدي إلى نتيجة، وإنما هي ضياع للأموال والجهود في الهباء لعقم وسائل الإرشاد وعدم وصول أصوات المرشدين إلى أذن المفسدين لأن أصحاب الوعظ إنما يتخذون منابر المساجد التي لا يأوي إليها لا من تشبع بالإسلام. ورأى إلى جانب ذلك انتشار الرذائل واستشراء الفساد في البلاد، فما هي إذن الوسيلة التي توافق العصر؟ يقول:

(إن القرن العشرين يحتم على شيوخ الأزهر أن ينقبوا عن وسائل حديثة تتمشى مع قانون البقاء للأصلح، وإني شخصياً أشير بالاتجاه نحو المسرح والشاشة. . فإنهما أنجع دراء يمكن أن يؤثر في تقاليد المجتمع وفي معلوماته وأفكاره يجب عليهم أن يدخلوا في دراسة العلوم الدينية فن المسرح. . أن يتقنوا ذلك (الكفر) الذي كانوا يعتقدونه من قبل! وعلينا من الآن أن نتعلم كيف نقف أمام (الكاميرا)!! إن العصر الحديث لا يريد من الواعظ أمتاراً من

ص: 41

ذقنه وقباباً من عمته. . ولكن يريده عقلاً جباراً يعلم أحوال التطور ويسبر أغوار النفوس. . . الخ).

هذه دعوة منطقية، وكل ما عليها من غبار أنها تسبق الزمن. . . ولا شك أن أكثر علماء الأزهر الحاليين ينفرون من مجرد سماعها ويأبون حتى مناقشتها، ولكن من يدري ماذا تكون الحال فيما بعد إنني لا أستبعد أن يدخل الأزهر بعد مائة سنة مثلاً دراسة المسرح والسينما في دراساته لاتخاذهما وسيلة من وسائل الإصلاح وهداية الناس. . . ألم ينشأ المسرح في أول أمره لخدمة الدين؟ فليت شعري هل ينتهي به المطاف إلى خدمة الإسلام.؟

لقد أنبهر علماء الأزهر من التجارب العلمية التي قام بها أمامهم العلماء الفرنسيون الذين اصطحبهم نابليون إلى مصر ووصفوهم بأنهم سحرة. ويحدثنا الدكتور طه حسين في (الأيام) عن الشيخ الذي كان يقول في درسه بالأزهر (من ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق) وها قد صارت العلوم الطبيعية، تدرس في الأزهر على أحدث طرقها ونظرياتها وصار الأزهر يرسل البعوث إلى البلاد الأوربية وفيها (فرنسا).

فهل نستبعد بعد ذلك أن يأتي الوقت الذي نتحقق فيه الفكرة التي نعدها الآن في غاية التقدمية والتي يدعوا إليها السيد السنباطي.؟ وهل نستبعد أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه من مطالب الأزهريين أن يكون لهم موسم في مسرح الأوبرا الملكية؟

عباس خضر

ص: 42

‌الكتب

شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم

للأستاذ أحمد عبد الغفور عطار

نشرت مجلة الرسالة الغراء بعددها الصادر في 25 ديسمبر سنة 1950 خبراً صاغه صديقنا الأستاذ عباس خضر جاء فيه أن المفوضية اليمنية في القاهرة تلقت (كتاباً مخطوطاً اسمه شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم بناء على أمر جلالة الإمام أحمد ملك اليمن).

وهذا الكتاب المخطوط الذي أشارت إليه الرسالة معجم من معاجم اللغة العظيمة في العربية، ولكن أحداً لم يهتم به فبقى موصوداً كل هذا الزمن الطويل؛ بل لم يعرف هذا المعجم في الشرق العربي إلا آحاد من المشتغلين باللغة، أما الذين قرءوا هذا فلا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة عدا، باستثناء اليمن الذي أعتقد أن عديداً من أهله اطلعوا عليه ودرسوه.

وطبع هذا المعجم من قبل حكومة اليمن بعد مشاركة منها في بناء صرح العربية بعد أن تهدم أكثر جوانبه، وأعتقد أن حكومة اليمن قد أحسنت بهذا العمل الجليل الذي يعد مفخرة من المفاخر وقربى من القرب.

إلا أنني ارجوا من حكومة اليمن التي تتولى طبع هذا المعجم وإخراجه أن تعنى به عناية لا مزيد عليها، لأن حياة الكتاب طبعه طبعاً أنيقاً مصححاً تصحيحاً دقيقاً، ونشره نشراً علمياً صحيحاً ولا بد في طبع هذا المعجم النفيس من لجنة تشرف عليه، لجنة عالمة فاحصة محققة تتولى تحقيقه وتصحيحه وتجنيبه من التصحيف والتحريف والخطأ، وتعلق عليه، وتسهل مراجعته على كل من يريد الكشف عن كلمة من الكلمات.

ولو كان لي أن أقترح على حكومة اليمن لطلبت إليها أن تجعل في هذه اللجنة اثنين من أعظم محققي الكتب القديمة هما الأستاذان الجليلان: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون تستعين بهما في طبع الكتاب وإخراجه ونقده وتحقيقه والتعليق عليه.

وإني ما كدت أقرأ هذا الخبر في مجلة الرسالة ومجلة الحج التي تصدر بمكة المكرمة حتى شعرت بسرور وسعادة، لأن ما لدي من أفكار أرى بعضه يحيا أمامي، فأنا من رأيي طبع

ص: 43

معاجمنا المضبوطة، وهاأنذا أرى حكومة اليمن تقوم بهذا العمل الجليل الذي يكسبها ثناء لا يقوم بثمن ولا يحد بزمن.

وإنني أهنئ حكومة اليمن من كل قلبي، وأرجو أن تتجه إلى إحياء العلوم وبعث الكتب، فإن قيامها بهذا الأمن كاف لأن يوجه إليها الأنظار، ويصنع لها من الدعاية الصادقة التي لا كذب فيها ولا نفاق مالا تعد بجانبه الدعاية المأجورة إلا شيئاً تافهاً حقيراً.

وأود لو أن حكومة اليمن اتجهت إلى إحياء العلوم وبعث الكتب النادرة التي تزدحم بها أبهاء دورها الفسيحة اتجاهاً قوياً إنها لو اتجهت هذا الاتجاه فستربح مادة ومعنى، وتفيد سمعتها، وتشارك مصر خدماتها للغة والعلم.

ويقوم بالإشراف على طبع المعجم القاضي العلامة عبد الله بن عبد الكريم الحرافي، وهو من علماء اليمن المبرزين في اللغة وغيرها، وأنا وإن كنت أعرف كفاية هذا العالم الجليل إلا أنني أود أن تقوم بالإشراف على الكتاب لجنة، ويكون من أعضاء هذه اللجنة شاكر وهارون مبالغة في توخي الحق وتحري الصواب، وعندي مقترحات أخر ستظهر من خلال كلمتي هذه أوجه إليها نظر حكومة اليمن وأحب أن تعنى بها لأنها تفيد مشروعها اللغوي.

أما هذا المعجم العربي الكبير فإنني أصفه لقراء العربية بما وعته الذاكرة، وبما تحتفظ ربه أوراق التي أدون فيها بعض ما يبدو لي تدوينه.

واسم هذا المعجم: (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، وصحيح التأليف ومعجم التصنيف والأمان من التحريف) واسم مؤلفه العظيم: أبو الحسن نشوان بن سعيد بن نشوان اليمني الحميري، وذكر في معجم الأدباء لياقوت وفي بغية الوعاة للسيوطي أنه:(أبو سعيد) ولعل لنشوان كنيتين.

وأبو الحسن من علماء اللغة المعدودين في العربية، وكان في زمنه علامة اليمن الفذ، ومن علماء العربية المشار إليهم بالبنان كما يدل عليه مؤلفه القيم العظيم (وكان أوحد أهل عصره وأعلم أهل دهره).

ولم تكن اللغة أعظم علومه وفنونه، بل كان (فقيهاً نبيلاً، عالماً متفنناً عارفاً بالنحور واللغة والأصول والفروع والأنساب والتواريخ وسائر فنون الأدب، شاعراً فصيحاً بليغاً مفوهاً)

ص: 44

وكان طلبة العلم يقصدونه من كل بلد، بل كان يقصده العلماء يأخذون من علمه الواسع الغزير، ويتزودون من ماله الذي منحه الله منه ما تنتهي عنده صبوة الطامع المستزيد.

وكما منحه الله علماً واسعاً نافعاً، ومالاً عظيماً، فقد منحه الله سلطاناً مبيناً، وشعباً يحبه ويفديه لخلائقه الفاضلة الأصيلة، وعدله وكرمه وتقواه، ولم يشغله الحكم عن العلم والتأليف، بل كان يأمر وينهي، ويتعبد ويخشى، ويدرس ويؤلف، دون أن يغفل عن شيء من هؤلاء، وقد بارك الله له في وقته حتى استطاع أن يملأه بالخير والنفع والعلوم والآداب.

وكان تملكه أن استولى على قلاع وحصون، ورأى أهلها أنه منقذهم، وخير من يصلح لحكمهم، فقدمه أهل جبل صبر وجعلوه ملكاً عليهم فحكم بما أنزل الله، وتوفى بعد عصر يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة 573 ثلاث وسبعين وخمسمائة. رحمه الله.

وخير مؤلفات أبي الحسن معجمه (شمس العلوم) الذي أشارت الرسالة إلى أن حكومة اليمن أخذة في أسباب طبعه

ويوجد من هذا المعجم نسخة بدار الكتب المصرية إلا أنها غير كاملة، بل الموجود منها الجزء الأول من أربعة أجزاء، ينتهي إلى حرف الدال، وهي مكتوبة بقلم تلميذ المؤلف وقريبه العلامة علي بن نشوان بن سعيد بن أبي حميد الحميري وقد فرغ منها يوم الأربعاء الثالث من شهر شوال سنة خمس وتسعين وخمسمائة، أي بعد وفاة المؤلف بعشرين سنة.

وإن بمكتبة شيخ الإسلام الإمام عارف حكمة الله الحسيني بالمدينة المنورة نسخة منه مبدوءة بقول المؤلف رحمه الله: (الحمد لله الواحد القديم القادر العظيم العزيز العليم الخ) أما ترتيبه فعلى حروف المعجم، جاعلاً لكل حرف باباً، ولكل باب شطرين أسماء وأفعالاً، ولكل كلمة من الأسماء والأفعال باباً ومثالاً.

وننقل للقارئ بعض ما جاء في مقدمة (شمس العلوم) وهذا نص ما قال مؤلفه: (وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في ذلك كثيراً من الكتب، وكشفوا عنه ما يستر من الحجب، واجتهدوا في حراسة ما وضعوه، وضبط ما حفظوه، وصنفوا من ذلك وجمعوه، ورددوه عن الثقات وسمعوه، فمنهم من جعل تصنيفه حارساً النقط، وضبطه يهذا الضبط، ومنهم من

ص: 45

حرس تصنيفه بأمثلة قدروها، وأوزان ذكروها، ولم يأت أحد منهم بتصنيف يحرس جميع النقط والحركات إلا بأحدها، ولا جمعها في تأليف لتبعدهما، فلما رأيت ذلك ورأيت تصحيف الكتاب والقراء وتغييرهم ما عليه كلام العرب من البناء، حملني ذلك على تصنيف، يأمن كاتبه وقارئه من التصحيف، يحرس كل كلمة بنقطها وشكلها، ويجعلها مع جنسها وشكلها، وبردها إلى أصلها، وجعلت لكل حرف من حروف المعجم كتاباً، ثم جعلت لكل حرف معه من حروف المعجم باباً، ثم جعلت كل باب من تلك الأبواب شطرين: أسماء وأفعالاً، ثم جعلت لكل كلمة من تلك الأسماء والأفعال وزناً ومثالاً، فحروف المعجم تحرس النقط وتحفظ الخط، والأمثلة حارسة الحركات والشكل، ورادة كل كلمة من بنائها إلى الأصل، فكتابي هذا يحرس النقط والحركات جميعاً، ويدرك الطالب ملتمسه سريعاً، بلا كد مطية غريزية، ولا إتعاب خاطر ولا روية، ولا طلب شيخ يقرأ عليه، ولا مفيد يفتقر في ذلك إليه، فشرعت في تصنيف هذا الكتاب، مستعيناً بالله رب الأرباب، طالباً لما عنده من الأجر والثواب، في نفع المسلمين وإرشاد المتعلمين، وكان جمعي له بقوة الله عز وجل وحوله، ومنته وطوله، لا بحولي وقوتي، ولا بطولي ومنتي، لما شاء عز وجل من حفظ كلام العرب وحراسته بهذا الكتاب، على الحقب، وسميته كتاب (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، وصحيح التأليف ومعجم التصنيف والأمان من التصحيف)

ثم ذكر أبو الحسن - مؤلف هذا المعجم - فصلاً في التصريف ثم بدأ في معجمه على ترتيب حروف المعجم.

والحق أن (شمس العلوم) معجم عظيم دقيق، وما ذكر مؤلفه في مقدمته صحيح لا زيف فيه ولا ادعاء به، فهو معجم ضخم كبير سيكون في عديد من الجلدات، وأقول تخميناً: إن به ثمانين ألف مادة. وقد أختصر هذا المعجم الشيخ علي بن نافع الحميري اليمني - أحد تلامذة أبي الحسن مؤلف شمس العلوم - اختصاراً جميلاً وسماه: (ضياء الحلوم المختصر من شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم) وقد ذكر السيوطي رحمه الله معتمداً على البلغة: أن ولد المؤلف اختصره في جزأين وسماه ضياء الحلوم، والصحيح ما ذكرناه.

وتوجد هذا المختصر نسخة في مكتبة الشيخ عارف حكمة بالمدينة المنورة ورقمها بقسم اللغة 82 وأوراقها 400، وعدد كلمات كل سطر 30 كلمة إلى 33 في أكثر الصفحات،

ص: 46

وعدد السطور في كل صفحة 33 سطراً وكل ورقة مكتوبة من صفحتيها، والخط نسخ جميل، والكلمات مضبوطة بالشكل ضبطاً صحيحاً متقناً.

وهذه النسخة من ضياء الحلوم ليست بخط المؤلف بل بخط علي بن إبراهيم بن طيب من بلدة كوتاهية، وفرغ من نسخها في اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر سنة 1116هـ بمدينة القسطنطينية.

ويحسن أن تفيد حكومة اليمن من الجزء المحفوظ بدار الكتب المصرية من شمس العلوم، وبنسخة مكتبة عارف حكمة من هذا المعجم ومن مختصره، وتعارض ذلك بالأصل الموجود عندها مبالغة في تحري الصواب.

وإذا صح عزمهم على المراجعة فإنني أذكر لهم أن مجلد مكتبة عارف حكمة قد انتزع مقدمة شمس العلوم ووضعها توطئة لنسخة من معجم (الراموز) للسيد محمد بن السيد حسن الشريف، حتى ليخيل إلى من يقرأ الراموز أن هذه التوطئة مقدمتها، مع أن ما جاء فيها من وصف الكتاب لا ينطبق على الراموز.

ونسخة الراموز التي ألحقت بها المقدمة خطأ تحتل من قسم اللغة بتلك المكتبة رقم 59، كما أن بها نسخة أخرى من الراموز رقمها 60.

وقد نبهت مدير المكتبة الذي بلغ الثمانين حتى أحوجت سمعه إلى ترجمان إلى هذا الخطأ الذي تركه حتى الآن.

وأرى أن يعلق (الناشر) على كل مادة تتطلب التعليق في أسفل الصفحة التي تتضمن المادة، ويرتبه ترتيباً يسهل على الباحث سبيله. وذلك بأن يجعل كل مادة في أول السطر، ويصنع مثل ذلك بكل كلمة تتفرع من المادة حتى لا يتعب القارئ، ويكون الحرف كبيراً حتى لا تجهد العين، وألا يكون كل جزء أكثر من مائتي صفحة.

كما أن من اللازم أن يبحث الناشر الفاضل أو المكلف بالنشر في مكتبات العالم عن نسخة من (شمس العلوم) للمعارضة، أما إذا كانت النسخة الموجودة لدى حكومة اليمن نسخة المؤلف فإن من الممكن الائتناس بنسخة دار الكتب المصرية ونسخة مكتبة المدينة المنورة مع الإشارة إلى الفارق بين الأصل والمنسوخ منه.

وقبيل أن أختم كلمتي هذه أهنئ حكومة اليمن على هذا التوفيق العظيم لإخراج معجم لغوي

ص: 47

ضخم كبير ممتاز، وأتمنى لها النجاح، وأرجو أن تسير في هذا الطريق الذي يفضي بها إلى ما تريد من دعاية حسنة وسمعة طيبة وصوت بعيد، كما أنني أشكر الصديق عباس خضري الذي يرجع إليه الفضل في كتابة هذه الكلمة التي أملتها إشارته إلى شمس العلوم في عدد مضى من هذه الملجة الكريمة الغراء.

أحمد عبد الغفور عطار

ص: 48

‌البريد الأدبي

أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً

عقب الأستاذ عبد العظيم عطية هاشم في العدد 912 من الرسالة الغراء التي نشرها الأستاذ أحمد حسن الرحيم بالعدد 909 وقال فيها (لقد تمكن حب الحرب من نفس العربي وساد نظام أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فقال: ولست أدري معنى لإيراد هذا الحديث الشريف في هذا المقام ثم أورد نص الحديث كما رواه البخاري عن أنس.

وقد علقت الرسالة الغراء على هذه الكلمة بما هو الحق في هذا الأمر فقالت (إن كلمة أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً كان مبدأ جاهلياً مقرراً فلما جاء الإسلام نسخ ما كان يريده الجاهليون من هذه العبارة وفسرها الرسول بما يتفق مع مبادئ الدين).

وهذا الذي علقت به الرسالة هو الحق الذي لا يستطيع أن يدفعه أحد من المطلعين على آداب العرب وعاداتهم، ولو أن الذي اعترض على كلام الأستاذ الرحيم قد اطلع - وهو بنقل من البخاري - على ما قاله الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الكتاب وهو إمام رجال الحديث لا نصرف عن تعليقه! فقد قال هذا الحافظ بعد أن أتم شرح الحديث وأورد طرقه واختلاف رواياته ومن رواه من رجال الحديث غيره ما يلي (ذكر المفضل الضبي في كتابه الفاخر، أن أول من قال أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً جندب بن العنبر بن عمرو بن تيم وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية لا على ما فسره النبي (ص) وفي ذلك يقول شاعرهم:

إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم

على القوم لم أنصر أخي وهو يظلم

ولقد كان النبي صلوات الله عليه وآله وسلم يتكلم بما للعرب من أمثال فلا يلبث الرواة أن يصيروه حديثاً ويتلقاه الناس على ذلك.

ومثل هذه الكلمة المثل المشهور (زر غبا تزدد حباً) فقد ورده رجال الحديث على أنه من قول النبي ودونوه في كتبهم وكان أول من قاله معاذ بن حزم الخزاعي فارس خزاعة

وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه الصداقة والصديق (قال أبو هريرة. لقد دارت كلمة العرب - زر غباً تزدد حباً، إلى أن سمعت من رسول الله (ص) ولقد قالها لي)

قال العسجدي: ليست هذه الكلمة محمولة على العام، ولكن لها مواضع يجب أن تقال فيها

ص: 49

لأن الزائر يستحقها! ألا يرى أنه صلوات الله عليه وآله وسلم لا يقول ذلك لأبي بكر ولا لعلي بن أبي طالب وأشباههما فأما أبو هريرة فأهل ذاك! لبعض الهنات التي يلزمه أن يكون مجانباً لها وحائداً عنها.

وهنات أبي هريرة التي يغمزه بها العسجدي أنه كان لنهمه يغشى بيوت الصحابة في كل وقت وكان بعضهم يزور عنه، وينزوي منه، فأراد الرسول أن يلقي عليه درساً في أدب الزيارة وغشيان البيوت فذكر له المثل العربي (زر غباً تزدد حباً). وكان صلوات الله عليه وآله وسلم لا يفتأ بتولي أصحابه بالتأديب وتحري حسن الخلق،

أما كلام الأستاذ الرحيم في العدد 919 من الرسالة عن البخاري ودرجة روقانه من الصحة وعدد أحاديثه فهو قول لا يؤخذ على إطلاقه وإنما يحتاج إلى تحقيق دقيق في أمر رواية الحديث وما اعتراها من وضع وغيره، وتدوين الحديث وأطواره التي تقلب فيها حتى وصل البخاري وغيره، وهو بحث مستفيض ندعو الله أن يوفقنا لنشره على صفحات الرسالة الغراء قريباً إنه هو المعين.

المنصورة

محمود أبو ريه

في الملكية الأدبية:

ألقى إلى البريد كتاباً من صحفي كبير يشكر لي ما سماه وفاء منى حين كتبت عن ذكرى المغفور له أنطون الجميل بشا في صحيفة يومية بعينها.

ولقد دهشت لهذا الكتاب لأني أعلم من نفسي أني أمسكت عن إرسال المقالات إلى الصحف اليومية إلى حين، ولم يبق له إلا هذه الشذور التي أبعثها في (الرسالة) بين الحين والحين تنفساً وفرجة عن النفس، وحتى لا تنبت الصلة تماماً بيني وبين أهل الأدب!

وإذ سألت أهل الذكر قيل لي إن هذا المقال نشر يوم كذا في الصحيفة المذكورة نقلاً عن (الرسالة) دون الإشارة إلى مصدره، وإن كانت الصحيفة لم تبخل بتذيل المقال بتوقيع كاتبه المسكين!

ولست أزعم أن المقال كان بليغاً، أو كان ذا طابع خاص، بيد أني مضيت إلى مكتب

ص: 50

الجريدة في الإسكندرية اسأل أولى الشأن فيه وهم من صحابتي عن السر في نقل هذا المقال مع إعطائه هذه الأهمية التي لا يستحقها إذ وضع في إطار على أربعة أعمدة في صدر الأنباء المحلية، فقال لي المختصون: إن لذلك سبباً محلياً يتعلق بسياسة الجريدة، قلت: فما دخلي أنا في هذا ولا علاقة لي بسياسة الجريدة؟ ثم إن المقال كتب (للرسالة) خاصة، فكان حق الملكية الأدبية يقتضيكم الإشارة إلى اسم (الرسالة) دون أسم منصور جاب الله، قالوا: هذا ما حدث، قلت: الأمر لله!

وأنا - في الحق - لا أعيب على الصحف أن تنقل إحداها عن الأخرى، ولكن العيب كل العيب أن تتجاهل الصحيفة ذكر المصدر الذي تنقل عنه، فحق الملكية الأدبية يعادل حق الملكية المادية، بذلك جرت أحكام القضاء، غير أننا في كثير من أمرنا نحتوي هذا الحق ولا نجري على أحكام القضاء!

منصور جاب الله

حول شعر معالي الدكتور (طه حسين)

قرأت في العدد الأخير من مجلة الرسالة رقم 916 (باب البريد الأدبي تحت عنوان (طه حسين الشاعر) تعقيباً لحضرة الفاضل (محمد سلامة مصطفى) يذكر فيه: أن معالي الدكتور طه حسين لم يهجر القصيد هجراً تاماً بعد عام 1914 وأورد شاهداً على هذا ما جاء في كتاب (على هامش السيرة) من شعر لا يلمحه غير شاعر أو عروضي وذكر هذا البيت على سبيل التمثيل)

أقبلت تسعى رويداً

مثلما يسعى النسيم

والذي أدريه أن البيت المذكور لم أعثر عليه في كتاب (على هامش السيرة) وإنما هو مطلع مقال لمعالي الوزير بعنوان (ذو الجناحين) نشر في عدد ممتاز بشأن الهجرة من مجلة الرسالة

وليس هذا فحسب بل إن البيت جاء على أسلوب الشعر المنثور هكذا:

أقبلت تسعى رويداً رويداً

مثلما يسعى النسيم العليل

وبعده على هذه الوتيرة: -

ص: 51

لا يمس الأرض وقع خطاها

فهي كالروح سرى في الفضاء

وهبت للروض بعض شذاها

فجزاها بثناء جميل

ومضى ينغث منه عبيراً

مستشيراً كامنات الشجون

فإذا الجدول نشوان بيدي

من هواه ما طواه الزمان

ردت الذكرى عليه أساه

ودعا الشوق إليه الحنين

وهذا شعر موزون سواء كان مقفى أو غير مقفى، إلا أن مقال (ذو الجناحين) لم يكن كله من هذا النوع من الكلام، وكتاب (على هامش السيرة) وإن لم أجد فيه كلاماً موزوناً بالمعايير العروضية المقفاة التي اصطلح على تسميتها شعراً فإنه قد استكمل عندي خصائص الفن الشعري الجميل.

هذا وللأستاذ كيلاني وللأخ محمد سلامه مصطفى خالص

تقديري لبحثهما الطريف. حسن سيد أحمد الجوهري

أسلوب الرسائل في المصالح والدواوين:

. . بالرغم من أن الكتاب ظلوا ردحاً من الزمان يعيبون على الشركات وبيوت المال إغفالها اللغة العربية في خطاباتها ومعاملتها. . فإن المشاهد في أغلب المصالح الحكومية أن خطاباتها تزخر بالأخطاء اللغوية والنحوية والصفرية هذا فضلاً عما يدخلها من التعبيرات العامية والألفاظ الدارجة. .

وأذكر أنني وجهت ذات مرة نظر أحد الرؤساء إلى خطر هذه الظاهرة وإنه لا يليق بهيئة حكومية أن تدمغ بها فكان جوابه أن سفه آرائي ورماني بالإعراق والحذلقة. . وزعم أن الخطاب ما دام يؤدي الغرض المقصود منه فليس ما يدعو إلى إعمال الفكر وكد الخاطر في انتقاء الأساليب وتخير التعابير. . أما الأخطاء اللغوية والنحوية فليست في زعمه بذات بال. ولاحرج على الموظف من الوقوع فيها لأن المقام ليس مقام (تحرير) وإنما (هو مقام تعبير) أياً كان. . والعجيب أن المسئولين لم يتنبهوا بعد إلى خطر هذه الظاهرة التي عمت فشملت المصالح كلها واستغرقت رسائلها حتى أضحت سخرية الساخرين ونادرة المتندرين. .

ص: 52

إن الجهل للأسف الشديد ضارب أطنابه في كل مكان وقد نهض وزير عظيم يعمل على تعليم الشعب وتثقيفه؛ أفلا تقوم الرسالة بالدعوة إلى تعليم (المتعلمين) الذين يباهون بجهلهم بمبادئ لغتهم متى تخرجوا في المدارس والجامعات وشغلوا وظائف الحكومة؟

إن الرسائل المصلحية علم على جهلنا بلغتنا. . وجدير بالمسئولين أن يوجهوا إليها العناية والاهتمام حتى ننفض عنها غبار المستعمرين من ترك وأعاجم. . وحري بنا أن نذكر في هذا المقام كتاب الدواوين أمثال ابن المقفع وابن العميد ومن جرى مجراهما حين كانت لهذه الكتابة أهميتها وخطرها. . فإن هذا التراث الضخم قمين بأن يجعلنا نروي النظر فيما آلت إليه هذه الكتابة عندنا من انحطاط وتدهور.

وبديهي أنا لا أطالب المصالح بأن يوجد على رأسها الكتاب الإنشائيون؛ ولكنا نطالب بأن تخلوا خطاباتها على الأقل من هذه الأساليب البالية وهذه الأخطاء البلقاء التي تدعو إلى الضحك وتحمل على السخرية وإني تحضرني بهذه المناسبة صيغة تعبير من التعبيرات التي تتصل بشئون الموظفين والتي لا يكاد خطاب مصلحي في هذا الشأن يخلو عنها وهي.

(نرجو التنبيه على الأفندي المذكور بكيت وكيت الخ. .) فإن أقل وصف يوصف به لفظ الأفندي في هذا المقام أنه لفظ غير مهذب، وقس على ذلك باقي الأساليب المصلحية. .

وإني لأرجو أن يكون في هذه الكلمة العاجلة ما يحفز المسئولين على توجيه عنايتهم إلى علاج هذه الحال المؤسفة التي تدهورت إليها لغتنا في المصالح والدواوين. .

كمال رستم

ص: 53

‌القصص

حاجتنا من الأرض

عن ليو تولستوي

للأديب رمزي مزيغيت

زارت بنت المدينة يوماً شقيقها بنت الريف في قريتها الصغيرة، وجلستا إلى الموقد تستدفئان وتتحدثان. . فراحت بنت المدينة وكانت زوجة تاجر غيل تمجد حياة المدينة الزاخرة بالمباهج والزخرف وتتيه على أختها الفقيرة زوجة الفلاح المعدم، وتعرض بحياتها القذرة قفي الريف بين الخنازير والأبقار. وأصغت بنت الريف إلى شقيقتها الحضرية طويلاً ثم قالت قد تكون حياتك يا أختاه أفضل وأنعم من حياتنا نحن الفلاحين، وقد تحصلون في اليوم فوق ما تحتاجون، ولكن لا ننسى المثل القائل (إن الربح والخسارة توأمان)، فكثيراً ما يجد التاجر الغني نفسه بين عشية وضحاها فقيراً يستجدي اللقمة من عابر سبيل. . إن حياتكم أجمل وأرق ولكن حياتنا آمن وأهدأ. . صحيح إننا لا نملك كثيراً من متاع الدنيا إلا أننا نجد والحمد لله ما نقتات به دائماً. . قد يكون عملنا شاقاً مرهقاً إلا أنه شريف مضمون. . . أما أنتم يا أهل المدينة المرفهين فجوكم مليء بالمغريات ولا تأمنون على أزواجكن وزوجاتكم شر الغوايات، كالميسر والخمر والنساء والفاتنات. .

وكان باهوم زوج بنت الريف جالساً في ركن قريب فأعجبه قول زوجته وقال يحدث نفسه. . . حقاً أننا نحن معشر الفلاحين لا نجد لنا متسعاً من الوقت للتفكير في مثل هذه الأمور الفارغة لقد عشت عمري أكد وأكدح، ولولا ضيق رقعة الأرض التي املكها لكنت أسعد مخلوق، وما خشيت حتى الشيطان. .) وكان الشيطان قابعاً وراء الموقد، وسمع كل ما قيل، وسره زهو باهوم بنفسه وتحديه له. . فقرر أن يمنحه ما يطلبه من الأرض ويرى ما يكون. .

كان لباهوم رقعة أرض صغيرة تقع إلى جوار ضيعة كبيرة تمتلكها بارونة عجوز. . وكانت هذه البارونة صارمة قاسية لا ترحم من تعتدي ماشيته على أملاكها. فكرهها أهل القرية ومن جملتهم باهوم، إذ كثيراً ما كانت أبقاره وماشيته تعتدي على أرضها فيضطر

ص: 54

إلى دفع غرامة ترهقه وتزيد في سوء حالته المادية. وفي ذات يوم أعلنت البارونة عن رغبتها في بيع أملاكها بأثمان بخسة، فتسارع الناس واشترى كل منهم قدر طاقته وقتر باهوم على نفسه وباع ما لديه متن ماشية واشترى بما تجمع لديه مزرعة صغيرة لم تلبث أن جاءته بمحاصيل وافرة فتحسنت حاله وكثر حساده وصاروا يطلقون ماشيتهم على زرعه. فصار يلجأ إلى العنف والقسوة والمطالبة بالغرامات والالتجاء إلى المحاكم، فأثار عليه نقمة الأهلين وحقدهم وباتوا يكرهونه كرههم القديم للبارونة العجوز. وانتشرت يوماً إشاعة بأن كثيرا من أهل القرية أخذوا يرتحلون إلى بلد آخر. ولكن باهوم قرر بعد إعمال الفكر أن يبقى مكانه إذ وجد في ذلك فرصة لزيادة ما يمتلكه من الأرض. ولكن في ذات يوم طرق باب باهوم فلاح عابر وطلب قضاء الليلة في بيته. فرحب به باهوم وقدم إليه العشاء، ثم جلسا يتسامران ويتحدثان. قال الفلاح لباهوم - إني عائد من البلاد الواقعة وراء نهر الفولجا، وهي بلاد واسعة قليلة السكان وقد أخذ الناس يرحلون إليها لاستيطانها، إذ تؤجر الأرض هناك لمن يشاء بأثمان بخسة جداً، والتربة فوق ذلك خصبة تدر على أصحابها محاصيل وافرة. وخفق قلب باهوم لهذا الخبر وراح يحدث نفسه قائلاً - لماذا يتحتم علي البقاء هنا في هذا البلد المزدحم. . . سأبيع كل ما أملك وأرتحل إلى تلك البلاد وأستأجر بالنقود أرضاً واسعة وأبدأ الحياة من جديد. . . وأخذ باهوم يستفسر من الغريب عن هذه البلاد، وفي اليوم التالي سافر إليها ليتفقد أحوالها، فلما تأكد له صدق قول الغريب عاد إلى قريته وباع كل ما يملك وارتحل مع عائلته إلى مقره الجديد. . . وقضى هناك ثلاث سنوات يستأجر الأرض ويستثمرها حتى أصبح من الأغنياء. . . فبدأ يسأم التبعية لمالك أرضه وهفت نفسه إلى امتلاك أرض خاصة. . وفي ذات يوم هبط على باهوم غريب يطلب غذاء لحصانه، وجلس الرجلان يتحدثان. وقال الغريب - إني عائد من بلاد الباشكير حيث اشتريت 13 ألف فدان بثمن زهيد جداً. إن الأرض هناك لا قيمة لها ويكفيك أن تقدم الهدايا لرؤساء البلد وأن تشرب الفودكا مع من يشربون فيعطونك الأرض التي تشاء. . . واستفسر باهوم عن الطريق إلى هذه البلاد العجيبة. . . وفي الصباح اشترى بعض الهدايا وودع بنيه وزوجته واستصحب خادمه إلى بلاد الباشكير بجد ونشاط. وبعد سبعة أيام بلغ الأرض الموعودة واتصل بالزعماء ووزع عليهم الهدايا ثم عرض

ص: 55

حاجته. . . وسأل عن الثمن. . . فقال له الرئيس - إن أسعارنا محدودة - ألف روبل في اليوم. . . ولم يفهم باهوم قول الرئيس فسأله - وأي مقياس هذا الذي تبيعون به الأرض؟ فأجاب الرئيس - نحن نبيع الأرض باليوم - أي أننا نعطيك ما تستطيع أن تدور حوله في اليوم مقابل ألف روبل. . . ولكن هناك شرط واحد وهو أنك تسير مع طلوع الشمس حول الأرض التي تختار على أن تعود إلى المكان الذي بدأت منه مع غروب الشمس. فإذا غربت الشمس قبل أن تعود ضاع مالك ولم تحصل على الأرض. . . وقبل باهوم هذا الشرط فرحاً واتفقوا على أن يبدأ المسير في صبيحة اليوم التالي فهو لا يريد أن يضيع عليه الوقت. وأوى باهوم إلى فراشه وهو يصور لنفسه أنه سيستطيع أن يدور حول قطعة كبيرة فيصبح من الأغنياء وكبار المالكين. ثم راح يرسم الخطط للمستقبل الحبيب - فتارة يزرع هنا وطوراً أرشده إلى أرض الباشكير. ولما دقق النظر فيه وجد أنه انقلب من يحصد هناك، وتارة أخرى يشتري الماشية ويستثمر صوفها ولبنها. . . وقضى ليلته على هذا الحال مسهداً أرقاً ولم تغمض له جفن إلا قبيل الفجر بقليل. . . وعندئذ تراأى له في منامه زعيم القرية واقفاً خارج خيمته يقهقه ويضحك ملء شدقيه. . . فقام إليه ليسأله عن سبب ضحكه فإذا به يتبين فيه ذلك الفلاح الذي جديد إلى الفلاح الأول الذي قدم من بلاد ما وراء الفولجا وحملق باهوم في الرجل وهو لا يصدق عينيه فإذا بالفلاح ينقلب إلى شيطان رجيم له قرون وحوافر ويرقد أمامه رجل حافي القدمين لا يرتدي سوى قميص وسروال، وليس فيه حس أو حركة. فلما تأمل الرجل الميت جيداً تبين أنه هو نفسه، فهب من نومه فزعاً مذعوراً، فرأى أن الفجر قد انفلق. . . ونسى حلمه المزعج ونادى خادمه وخرج إلى القوم يستحثهم للخروج إلى السهول. وسار القوم حتى وصلوا إلى قمة تل مرتفع وهناك خلع الزعيم قبعته ووضعها على الأرض وقال لباهوم - من هنا تبدأ المسير. وهاهي الأرض الشاسعة أمامك لا يحدها حد فاختر ما يحلو لك وعد إلينا عند الغروب. . . فتهلل وجه باهوم بشراً وسروراً ووضع النقود في القلنسوة، ثم خلع معطفه وشمر عن ساقيه وتزود بقليل من الطعام والماء وحمل على كتفه فأساً، ووقف ينتظر شروق الشمس وهو يتأمل الأرض المنبسطة أمامه وقد أخذته الحيرة في أي إتجاه يسير. وبعد تردد قليل اختار جهة الشرق، وما أن أطلت الشمس برأسها من وراء الأفق حتى انطلق في اتجاهها بسرعة

ص: 56

معتدلة. ولما قطع مسافة ميل أو أكثر حفر في الأرض حفرة وملأها عشباً. ثم أخذت خطاه تتسع كلما ارتفعت الشمس في قبة السماء. واشتد القيظ فخلع مئزره ونظر إلى الشمس فرأى أن النهار ما زال في أوله فأنطلق إلى الأمام لا يحيد يمنة ولا يسرة وهو يردد في نفسه: - كلما أمعنت في السير زاد نصيبي من الأرض. . . ونظر باهوم بعد فترة خلفه فرأى القوم صغاراً كالنمل فقدر أنه قد آن له أن ينحرف عن خط سيره. وكان العطش قد أخذ منه فشرب قليلاً وتابع سيره حتى أحس بالتعب والجوع فنظر إلى الشمس فرأى أن النهار قد انتصف، فجلس قليلاً وأكل. ثم مضى في طريقه الدائري مسافة أخرى طويلة، وكان على وشك الانحراف إلى اليسار مرة أخرى عندما شاهد بقعة أرض كثيرة الخصب فلم يشأ أن يخسرها فدار حولها وحفر عند طرفها حفرة لتدخل في حوزته. . . ثم نظر إلى الشمس فرآها تجري إلى المغيب. . . فكبح جماح طمعه وأدار وجهه إلى ناحية الربوة وسار في اتجاهها مكملاً دورته. ولكن التعب كان قد نال منه وشق عليه المسير. . . كان يتوق إلى قليل من الراحة ولكنه لم يجرؤ على الجلوس فراح يجر رجليه جراً وهو يحدث نفسه - لقد أوغلت في السير حتى بعدت الشقة. . . يا ليتني لم أطمع بالكثير واكتفيت باليسير. . . فها هي الشمس على وشك المغيب. . . فما العمل الآن ومازال أمامي شوط بعيد. . . وهالته الحقيقة وخشي أن يفقد النقود والأرض معاً فجمع قواه وطفق يجري والعرق يتصبب منه الدم يسيل من قدميه. فخلع حذاءه وملابسه قطعة قطعة ولم يترك سوى قطعة تستر عورته. واقتربت الشمس من خط الأفق وتحطمت نفس باهوم حسرة وندماً وتأكدت له خسارته. . . فراح يعدو من جديد وقد تقطعت أنفاسه وتداركت دقات قلبه حتى خشي أن يموت قبل أن يصل إلى الربوة. إلا أن فكرة الموت لم تقعده عن السير فواصل الزحف حتى ترامت إلى أذنيه أصوات القوم ونداءاتهم يستحثونه على الجد فجمع قواه وتابع سيره. وكانت الشمس قد لمست خط الأفق، وكان هو قد قارب هدفه. . . هاهو يرى القوم يلوحون له بأيديهم؛ بل وهاهي قبعة الرئيس التي وضع فيها نقوده، وإلى جانبها يجلس الرئيس ممسكاً جنبيه من فرط الضحك. وفجأة تذكر باهوم حلم الليلة السابقة ولكنه قال - لقد أصبحت أملك رقعة كبيرة من الأرض، فهل يمد الله في أجلي لأتمتع بثمرة تعبي. .؟ وتطلع إلى الشمس فرآها تختفي وراء الأفق. . . فقال. . . آه لقد ضاع أملي

ص: 57

ولن يقدر لي الوصول إلى القبعة. . . واستجمع بقية قواه وتابع سيره. . . إن القوم سيسخرون منه ولا شك إذا هو توقف عند هذا الحد. . . ووصل الربوة ولكن عندما غابت الشمس عن ناظريه بالمرة. فصرخ صرخة يأس وكاد يسقط. . . ولكنه سمع القوم يستحثونه من جديد. . . فقدر أنهم ما زالوا يرون الشمس من موقفهم المرتفع. . . فعاوده الأمل وأخذ نفساً عميقاً واندفع يصعد الربوة حتى وصل إلى القبعة. . . فرأى الرئيس جالساً إلى جانبها وهو يكاد ينفجر من كثرة الضحك. وعاودت باهوم ذكر الحلم مرة ثانية وأدرك معناه فصرخ وتهاوى على الأرض باسطاً يده نحو القبعة. وصاح الرئيس - ياله من رجل شجاع قدير. لقد أصبح يملك الآن أرضاً جد واسعة وتقدم الخادم من سيده يريد رفعه ولكنه رأى الدم ينبثق من فمه وقد فارقته الروح. وتناول الخادم المعول وحفر حفرة على طول سيده وواراه فيها فكان كل ما احتاجه من الأرض لا يزيد على ستة أقدام.

رمزي مزيغيت

ص: 58