المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 919 - بتاريخ: 12 - 02 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩١٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 919

- بتاريخ: 12 - 02 - 1951

ص: -1

‌الدين والسلوك الإنساني

للأستاذ عمر حليق

- 3 -

لن يستطيع الباحث أن يمعن في دراسة الدين والسلوك الإنساني دون أن يتسلح بالنظريات والشطحات الفلسفية بالإضافة إلى تسجيله للظواهر الواقعية في علاقة الفرد بالمجتمع.

والباحث يجد نفسه والحالة هذه كدقات الساعة يميل تارة إلى النظريات وطوراً إلى الواقع، فهذا نهج أقل ما يقال فيه أنه سليم

فنظرة الماركسية إلى الدين - وهي نظرة مادية في كليتها - لا تعترف بتلك الناحية الأصلية في فلسفة الدين وهي ما أصطلح الناس في الغرب على تسميته بالاختبار الدين. والذي يؤكد صلاح هذا النهج في دراسة الدين كما شرحه الماركسيون بأنه وليد الأوضاع الاجتماعية؛ فمثلاً في سلوك الطبقات التي تمارسه والتي هي بدورها متأثرة مسيرة بنفوذ ذوي المصالح المادية من رجال الدين ومن يلوذ بهم من القوى والعناصر الاقتصادية التي يربطها بالنظم الدينية روابط تقليدية متينة. ففي طبيعة التعاليم الدينية (وفي الإسلام على وجه الخصوص) دعوة سافرة إلى تقييد الحد من سلطات المتاجرين باسم الدين والذين يدورون حولهم من أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية؛ وخلوا الإسلام من الكهنوت قد جعل طبيعة التعاليم الدينية في متناول الناس، بها يستهدون دون الحاجة إلى الوساطة، ومنها يستمدون سياسة عملية لتحسين الأوضاع الاقتصادية وتحقيق المساواة والعدالة في العلاقات الإنسانية وقد تعرض ماكس ويبر لبحث هذا في أسلوب منطقي فريد في كتابه عن (التاريخ الاقتصادي العام).

وتاريخ الإنسانية سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً ملئ بالحوادث التي لعب الدين فيها دوراً إيجابياً في صميم المصلح المادية للكثرة من الناس وكم من عالم ديني حمل لواء الإصلاح السياسي والاقتصادي!

وفوق ذلك فإن للدين مزية تتعطش المجتمعات (والغربية منها على وجه الخصوص) لتحقيقها في هذا العصر القلق المتفكك وأعنا بها التكافل الاجتماعي. وتاريخ الإسلام الاجتماعي في هذا المضمار فريد؛ فقد صهر الشعوب المجتمعات التي اعتنقت في وحدة

ص: 1

عاطفية واجتماعية وسياسية (ومن ثم اقتصادية) على نحو فشل الفكر السياسي المعاصر في تحقيقه في عصبة الأمم المنحلة سابقاً وفي هيئة الأمم المتحدة في الآونة الحاضرة.

وهنا يجدر بنا أن نتريث قليلاً لنتساءل عما إذا كان الدين أمراً يختص بالفرد دون المجتمع وعما إذا كان السلوك الإنساني هو سلوك سلبي أم إيجابي، بمعنى أنه مقصور على علاقة المرء بربه دون علاقة المرء بمجتمعه.

والجواب عن هذا التساؤل كان ولا يزال مثار نزاع. فالصوفية من المسلمين مثلاً اتجهوا في أقوالهم وسلوكهم الديني إلى أن وظيفة الدين هي وظيفة سلبية. ولعل هذا ما استدعى نقمة بعض أئمة المسلمين قديماً وحديثاً على الصوفية.

ففي القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية وتراث السلف الصالح أجوبة عديدة على أن وظيفة الدين لا تقتصر على علاقة المرء بربه. والواقع أن طبيعة التعاليم الإسلامية نثبت وظيفة الدين الاجتماعية بجانب وظيفته الروحية؛ فهناك فقه إلى جانب التشريع. لقد أكتشف المسلمون ذلك وعملوا به. وكان الرسول عليه السلام أول من جاهر به. والقصة التي تروى عن عمر بن الخطاب وكيف أنتهر رجلاً كان يلازم المسجد ليل نهار مثل آخر على انتباه الإسلام إلى هذه الوظيفة المزدوجة للدين ويخيل إلى أن الاتجاه الجديد في الفكر الغربي حول وظيفة الدين يحذو حذو الإسلام.

وقد أخذ بذلك (فردريك هيجل) أحد جهابذة الفكر الغربي ودعائمه الذي قال (إن ممارسة طقوس العبادة والصلوات أقوى من الناحية الإيجابية في توجيه السلوك الإنساني من الشرائع والقوانين المدنية.

والواقع أن (هيجل) كان من أوائل من لفت النظر إلى وجود (المنطق اللولبي) في علاقة النظريات والحقائق الواقعة في موضوع الدين، فقال إن هناك تواكلاً مشتركاً بين النظم التي لها كيان إيجابي في المجتمع كالعائلة والقبيلة والدولة والشعب، وكلها حقائق ملموسة، وبين النظم الفكرية كالقانون والعلوم والدين. فالكيان الإيجابي المحسوس هو كالنظم الفكرية - وفي طليعتها الدين وكلاهما جزء من شجرة الحياة.

فالإنسان في المجتمعات البدائية لا يكتفي بأن يرث النظم الفكرية الدينية عن أسلافه، وإنما يسعى ما استطاع لأن يتخذ منها أسلحة يواجه بها مشاكله الدنيوية، هذه المشاكل التي

ص: 2

تختلف طبيعتها باختلاف التطور الحضري. ومن هذا نتبين أمرين:

أولهما: أن السلوك الديني غريزة طبيعية يمتثل إلى ندائها الفرد لأنها خلقت فيه.

ثانيهما: أن هذه الغريزة تتخذ في بعض الأطوار شكلاً يجعل منها ذخيرة ثقافية تتحكم في الأوضاع الاجتماعية بالإضافة إلى كونها ذخيرة روحية تتحكم في علاقة المرء بربه سواء أكان هذا الرب صنما أم عجلاً كما هو الحال في المجتمعات البدائية، أم إلهاً فرداً صمداً كما هو في الأديان التوحيدية.

وإلى الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي (أميل دير كهايم) يعود فضل كبير في دراسة هذه الوظيفة المشتركة (الروحية والدنيوية) للدين دراسة علمية على ضوء ما ألم به من معرفة بالمجتمعات البدائية وتحليله للمجتمعات الحضرية.

فقد ثار دير كهاين ومعه (باريتو) على الفلسفة الواقعية التي سادة أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي كانت ميالة إلى الحط من قيمة الدين إثر انتشار الفلسفة الدارونية (نسبة إلى داروين) وماركسية في أوربا، وفلسفة الذرائع (البرجماتز) في أمريكا.

قام دركهايم - وإلى حد ماربيتو - بدراسة وظيفة الدين المزدوجة على نهج جديد، فلم يعتمد دير كهايم على المتفلسف في دراسة الدين ولا على استنساخ الشواهد العلمية من التاريخ الديني، وإنما لجأ إلى دراسة الموضوع دراسة مفصلة في مجموعة إنسانية معينة من سكان استراليا الأصليين.

وأن يعنينا في هذا البحث أن نستعرض تفاصيله ودراسته، وإنما يهمنا أن نتعرف استنتاجاته الرئيسية.

واستنتاجات دير كهايم على نوعين: واحدة تعالج فلسفة المعرفة والأخرى تعالج علم الدين الاجتماعي. وكلاهما عند دير كهايم متواكل متشابك.

ويرسم دير كهايم خطين في مستهل دراسته فيطلق على الأول ما سماه (قدسي) ويطلق على الثاني (دنس) ويضيف دير كهايم تحت هذين الخطين أشياء ملموسة ومحسوسة. وهذا التصنيف لا يحدد الصفات الجسمانية بطبيعة تلك الأشياء وإنما يحصر ذلك لتحديد في مفهوم الناس لها ومبلغ تأثرهم بها وسلوكهم إزاءها.

فالأشياء القدسية في تعريف دير كهايم هي تلك التي ينطوي مفهوم الناس لها على فضائل

ص: 3

فريدة تجلب السعادة والمنفعة. وسلوك الناس تجاه هذه الأشياء المقدسة لا يمكن أن يحسب في عداد السلوك الأعتيادي، إذ أن له مزايا خاصة وفيه الكثير من الاحترام الخالص الأصيل.

والناس لا تستخدم لأشياء المقدسة في الشؤون الاعتيادية وإنما تلجأ إليها في الأزمات التي لا تمت إلى المادة إلى بصلة بعيدة.

والشؤون الدنسة عند دير كهايم هي تلك التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنشاط الاقتصادي المادي في السلوك الإنساني.

فإذا قتل الهندي الأحمر من سكان أستراليا لحيوان المقدس ليأكله فأنه يفعل ذلك أثناء الطقوس الدينية. والناحية المادية في هذا العمل مرتبطة بالناحية المقدسة ولا دخل للمنفعة الاقتصادية المادية (أكل اللحم) في هذا العمل إذ أنها لا تتوفر إلا عن طريق القداسة. وأكل لحم الحيوان المقدسلا يتم إلا في ظروف من القداسة التي لها مواعيد ومواسمها الزمنية الخاصة. وحول هذه القداسة حالات من الطوطمية تحددها وتتحكم في سلوك الفرد إزاءها.

والدين في مفهوم الأقوام البدائية محصور العلاقة في الأشياء المقدسة.

ويصنف دير كهايم الظواهر الدينية في نوعين هما (العقائد) و (الطقوس)؛ فالعقيدة لون من التفكير، والطقوس نشاط عملي وكلاهما متشابك، فلا تتم معرفة الطقوس الدينية إلا بمعرفة العقيدة التي استدعت ممارستها واستوجبت القيام بها.

والدين عند دير كهايم نظام مستقر من العقائد، والطقوس تعيش عليها جماعة من الناس محورها بيت العبادة ومن يكون به من كهنة ورعية.

ويستنتج ديركهام من ذلك أن الدين الذي يتمكن تمكنناً قوياً متيناً في أتباعه لا يمكن أن تكون تعاليمه مجرد خيالات ورؤى لا تسندها الحقائق الواقعية.

وكما زاد تعلق الناس بتعاليم دينهم وطقوسه كانت تلك التعاليم أكثر صلة ووثوقاً بالحقائق المادية في العالم الذي تحيط به.

ولعل هذا الرأي يلقي ضوءاً على سر تعلق المسلمين بالتعاليم الجوهرية في دينهم الحنيف طوال هذه الأجيال والقرون.

وينتقد ديركهايم بناء على هذه النظرية ما قال به بعض مفكري عصره من أن وظيفة الدين

ص: 4

هي الحياة الروحية التي لا تربطها بالواقع روابط وثيقة، وأن تعاليم الدين ما هي إلا أنطباعات الإنسان عن طبيعة الأشياء المادية التي تحيط به.

وركز ديركهايم انتقاده لهذه النظرية في أسلوب النفي المنطقي فقال: لو أننا افترضنا أن تعاليم الدين ليست إلا انطباعات الإنسان عن طبيعة الأشياء المادية التي تحيط به كالعواصف والبراكين والخوارق الطبيعية، فكيف تفسر تعلق الكثرة من العلماء الذين حافظوا على سلوكهم الديني مع أنهم استطاعوا تفسير طبائع لأشياء تفسيراً علمياً مستنداً إلى الاختبار والبحث والاستقراء؟ وعلوم النفس لم تفسر بعد تفسيراً عمياً مرضياً هذه الظاهرة التي تزداد رسوخاً بتعمق العالم في دراسة الكون ومعالمه.

واستنتج دير كهايم من ذلك أن في الدين عنصراً ثالثاً بالإضافة إلى عنصري الروح والمادة. وأطلق ديركهايم على هذا العنصر الجديد أسم (الحقيقة الاجتماعية).

ومن ثم أندفع ديركهايم في دراسة الصلة بين الدين والكيان الاجتماعي فرأى أن الأشياء المقدسة (ومن ثم المثل الأخلاقية التي تبعث منها) لا تربطها بالمرء إلى روابط القداسة. فليست العبرة (في رأي ديركهايم) في أن يعبد أمرؤ شجرة أو عجلاً أو شمساً أو قمراً أو إلهاً فرداً صمداً إنما العبرة في إزاء هذه المؤلهات، وامتثاله للقيم الروحية والأخلاقية التي تحيطها بهالة من القداسة، ورأى ديركهايم في نظرية الطبيعيين إلى الدين عجزاً دعيا في تفسير الحقائق التي تتصل بالقداسة اتصالاً أصيلاً غريزياً. وكل ما فعله الطبيعيين أنهم وجه اهتمامهم إلى تفسير القداسة في الشؤون الطبيعية كالعواصف والبراكين والزلازل وتأثر العاطفة الإنسانية بها إحاطتها بهالة من (القداسة والألوهية) والشذوذ ندرة، والنادر لا حكم له.

ووجه الضلالة في تفسير الطبيعيين للسلوك الديني أنهم أخطئوا إدراك الحقيقة في مصدر القداسة والألوهية.

فخواص العنف في العواصف والزلازل والبراكين ليست الدافع الرئيسي لتقديسها في المجتمعات البدائية. فالأشياء المقدسة ليست إلا رموزاً. وخواص الرموز أنها تعبير للأهمية والقيم والمعاني التي يواجهها الفرد في نشاطه اليومي روحياً كان هذا النشاط أم مادياً.

والصلة بين الفرد والرمز الذي يقدسه هي صلة اجتماعية بالإضافة إلى كونها صلة

ص: 5

روحية. والفرد لا يتلمس معنا لهذه الرموز بقدر ما يطلب فيها ملاذاً مما استعصى عليه من الأزمات الروحية والاجتماعية.

فليست العبر إذن في طبيعة الرمز المقدس؛ إنما العبرة في المثل والقيم والمعاني التي اصطلح الناس على إلحاقها به.

وبمثل هذا المنطق يشرح ديركهايم علاقة طقوس الدينية بالحقائق الاجتماعية، فلا يهمه أن يتعرف على طبيعة هذه الطقوس وإنما يتشوق إلى أدراك القيم والمثل والمعاني العميقة التي تمثلها وترمز لها.

وإصرار الطبيعيين على نعت السلوك الديني بأنه خال من المنطق السديد يعود إلى التباس الأمر عليهم وخلطهم بين طبيعة الرمز وبين ما يرمز إليه من قيم ومثل ومعاني روحية واجتماعية.

ويستخلص ديركهايم من ذلك أن العلوم الطبيعية لا تستطيع أن تدرك كنه الدين في مجالاته الروحية والاجتماعية؛ لأن العلوم الطبيعية مادية لا تقنع إلا بالملموس والمحسوس. وفي نظام الكون وفي طبيعة النفس البشرية احساسات ومشاعر لا تلمس لمساً.

وهذا يفسر اتجاه الجهابذة من علماء الطبيعة والرياضيات نحو التفاسير الدينية في أرقى مراحل البحث في طبيعة الأشياء عندما يستعصي عليهم التفسير الشامل الإيجابي المقنع.

نيويورك

(للبحث صلة)

عمر حليق

ص: 6

‌المرأة والأزهر

جامعة الزهراء. . .!؟

للأستاذ محمد محمود زيتون

يستعيد العالم الإسلامي الآن للاحتفال بالعيد الألفي لأقدم جامعة بالإسلام. وذلك على أثر اللفتة الملكية الكريمة التي تفضل بها الفاروق العظيم على الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر.

والاحتفال بهذه الذكرى المجيدة إنما ينطوي على المعاني السامية التي حرص هذا الجامع العتيق على أدائها منذ أقدم العصور، فلم يعبأ بخيول نابليون، ولا بمدافع الإنجليز. ذلك بأن الجامع الأزهر هو الثقافة الإسلامية تجسمت في ألف سنة من الزمان، وانبثقت أشعتها على ألسنة العلماء، وتحت ألوية الزعماء، وبين صفحات الكتب والمجلات وعلى متن الأثير اللاسلكي.

ويكفي الأزهر أنتحتل رسالته الإنسانية مكانها الرفيع من تاريخ العلم، لأنه صاحب اليد الطولي في رعاية لغة القرآن، فكان رجاله غواصين على لآلئ الحكمة والشريعة، وفرائد الأدب والتاريخ. ودور الدنيا والدين، قد توارثوها على الأيام والأحكام فصانوا خزائن كنوزها على الدوام.

وبين العلم والسلام وشيجة كبرى لا تنفض، وعروة وثقا لا تنفصم، (والعلم رحم بيننا) حقاً وصدقاً كما قال الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم لدى استقباله مندوب الفاتيكان بالأزهر منذ أيام. ولعل في احتفالنا بعيد الأزهر تجديداً لهذه البشارة الكريمة، وتبشراً بالرسالة الإسلامية التي محورها القرآن الشريف وهو ينبوع التراث الثقافي الذي نعتز به، وندعو الناس إليه.

والدعوة الإسلامية لم تقتصر على الرجال دون النساء، فقد بعث الله نبيه للناس كافة، من غير تفرقة بين العناصر والأجناس، وارتفعت الراية الكبرى بأيدي المسلمين والمسلمات على سواء، حتى لقد أوصى النبي (ص) فقال (خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء) أي عائشة.

فما بال هذه الجامعة الإسلامية العهدة قد أقفرت أروقتها وحلقاتها من المرأة المسلمة طوال

ص: 7

هذا الألف الطويل من السنيين، وهي الجامعة التي أرسى قواعدها المعز لدين الله مؤسس الدولة الإسلامية التي انتسبت إلى فاطمة الزهراء بنت الرسول عليه السلام، فأزدها التاريخ بهذين الاسمين الخالدين (الدولة الفاطمية) و (الجامع الأزهر).

ولا يستطيع أحد أن ينكر المرأة كعنصر قوي في تاريخ الإسلام، فقد كانت خديجة أول حواء آمنت بمحمد. وهي أم البتول فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وحولهما تألقت صفحات السيرة بالنجوم لزاهرة من أمهات المؤمنين، والصالحات من أزواجهم وبناتهم وأخواتهم. ولن ينسى التاريخ عائشة بنت الصديق، أو أختها أسماء ذات النطاقين، أو صفية عمة رسول الله، أو أم عمارة التي دافعت عن النبي بترسها، ورمت عنه بسهمها، أو زنيرة التي عميت في سبيل الله، أو سمية أم عمار بن ياسر التي لقيت الأذى الشديد بسبب عقيدتها، أو الخنساء الشاعرة التي كان يقول لها النبي: هيه يا خناس، أو رابعة العدوية التي عشقت ربها عشقاً روحانياً خالصاً.

وما كانت صفحة من كتب السيرة لتخلو من ذكر هذه الصفوة من المسلمات اللائى تعلمن أمور الدين في عهد النبي، إذ كانت تجيئه المرأة تسأل فيجيب، أو تأتيه وافدة النساء تتعلم منه وتعلم غيره، بل لقد كانت المرأة منهم تنكر قومها، بل أباها وأمها وتلحق بدين محمد؛ فهذه جميلة تزوج من حنظلة مع أنها بنت رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلوا، وهذه أم حبيبة تتزوج النبي وتمنع أباها أبا سفيان من الجلوس على فراش النبي، وهذه صفية تنكر أباها اليهودي وتتزوج النبي، وكذلك مارية وأختها سيرين وقد أهداهما المقوقس للنبي فيتزوج الأولى ويهدي الأخرى لشاعره حسان بن ثابت، كما قامت النساء الأنصاريات بنصيبهن الكامل في مراحل الدعوة؛ فقد

استقبلن النبي بالمدينة - منذ هاجر إليها - بالدفوف والمعازف، ويغنين:

نحن جوار من بني النجار

يا حبذا محمد من جار

وهو عليه السلام يداعبهن في ظرف ويقول: أتحبينني؟ فيقلن: نعم. فيقول: والله يعلم أن قلبي يحبكن، وكن مع ذلك كله يندفعن إلى الغزوات كلما تجهزت العير، وأصطف النفير.

وضربت المرأة العربية أروع الأمثلة من الثبات بفضل استمساكها برسالة الإسلام. فهذه

ص: 8

المرأة الدينارية التي تلقت يوم أحد الخبر بمصرع أبيها وأخيها وزوجها وأبنها، فتجلدت واحتملت ولم يهمها إلا أن تسأل: وكيف رسول الله؟ فيقال لها: أمامك. فتقول: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله.

وكانت فاطمة وهي بنت النبي تطحن على الرحى بيدها، وتخبز وهي حامل حتى لقد كان بطنها يمس التنور، وتدبر أمر بيتها بنفسها، فلما طلبت من أبيها خادماً أبى عليها ذلك، فكانت خير قدوة للمرأة في تدبير المنزل.

ولن ننسى موقف المرأة المسلمة التي عارضت عمر وهو أمير المؤمنين إذ كان يخطب في حقوق المرأة فيقول خليفة رسول الله: صدقت المرأة وخطأ عمر. فهل كان يكون ذلك إذا لم تكن المسلمات قد طرقن أبواب المسجد، لا يحول بينهن في ذاك إلا الحجاب المشروع؟

هذا وإن ما نرى بين ظهرانينا الآن من انحلال خلقي إنما يرجع إلى إهمال شأن المرأة المسلمة، حتى إذا حصل الرجل من العلوم الحديثة ما يشاء أعوزته الثقافة الإسلامية. فلا معين له عليها إلا همته وغيرته، أما المرأة فإنها - للأسف الشديد - قد حرمة الحرمان كله من هذا وذاك، فليس حولها من يشجعها على شعائر دينها، ولا من يدفعها إلى التفقه في أصوله، والتثقف بآدابه.

وهذا النقص يمس حياتنا الاجتماعية في صميمها، ويسئ إلى التربية الإسلامية في تطبيقها على المرأة، وإزاء ذلك نرى أن الفرصة قد حان قطافها في العيد الألفي للجامع الأزهر.

وخير ما نقدمه للأجيال القادمة - في هذه الذكرى - هو أن ننشئ (جامعة الزهراء) تؤمها المسلمات في مصر وشتى بقاع العالم يغترفن من مناهل هذا الدين المتين، فينشأن نشأة إسلامية صحيحة، تتوطد بها دعائم الأخلاق في الأسرة والمجتمع، وهذا هو الدواء السريع لكل ما نشكو الآن من تصدع في الروابط الأسرية، وانصراف عن صوت الأيمان ونداء الضمير، والتخبط في الانحرافات الزائفة تحت ستار المدينة.

ولن يفوتنا مع ذلك أن نقتبس لطالبات (جامعة الزهراء) كل ما يمكنهن من التهذيب الفردي، وتدبير المنزل، وتربية الأولاد، ومعاونة الزوج، والخروج من الأسرة إلى أوسع نطاق اجتماعي في داخل الحدود التي رسمها الإسلام كدستور سماوي، ونظام إنساني شامل لنواحي العلم والعمل.

ص: 9

فإذا أردنا أن نسد على الفتن مسالكها، ونفتح لمستقبل الأجيال القادمة باب السعادة، فما علينا إلا أن نشيد للمرأة المسلمة (جامعة الزهراء) إلى جانب (الجامع الأزهر) وعندئذ ستعرف المرأة الحديثة أين حقوقها وأين واجباتها.

محمد محمود زيتون

ص: 10

‌ضبط الكتابة العربية

بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي

الأستاذ محمود تيمور بك

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

وجملة ما نادى به المنادون من المقترحات، سواء ما كان منها يشيد باتخاذ الحروف اللاتينية، وما يتخذ للكتاب حروفاً مخترعة، وما يقتضي إدخال علامات أو أوضاع جديدة للحروف والحركات - جملة ذلك كله لم يسلم من النقد والاعتراض - وكان أكبر ما يثيره النقاد والمعترضون من مآخذ أن هذه المقترحات المعرضة لتغير الكتابة العربية تقطع الصلة بين القديم والجديد. فإذا أخذ الناس بإحدى هذه الطرائق، وكتبوا بها، عجزوا عن أن يقرءوا ما تركه لنا الأولون من تراث ثقافة عريضة، وحيل بين الجيل الجديد وبين الانتفاع بذلك التراث الذي لا تزهد فيه الأمة العربية بحال.

والحق أن الاعتراض بالقطع بين القديم والجديد دعوى لا تخلو من غلو في القول، وإسراف في التصوير. فإن أية حروف بل أية علامات وإشارات تكتب بها اللغة العربية لا تقطع بين قديم اللغة وجديدها، ولا تفصل بين ماضيها وحاضرها. بل لعل حروفاً مقتبسة أو مخترعة تكتب بها اللغة العربية تكون سبيلاً إلى أحياء اللغة وتيسير اكتسابها، ما دامت هذه الحروف المقتبسة أو المخترعة أدق ضبطاً، وأدنى تناولاً. فأنها بهذا الضبط وقرب التناول تجعل المتعلمين أقدر على القراءة ملكة، وأقوم لساناً، وأفصح بياناً.

وعلة إثارة النقاد والمعترضين لدعوى القطع بين القديم والجديد أنهم يخشون إذا اتخذت حروف مقتبسة أو مخترعة أن تظل المؤلفات العربية التي توارثناها على توالي الأحقاب مستغلقة مستبهمة لا يمسها قارئ. وبذلك تفقد الأجيال اللاحقة ما خلفته الأجيال السابقة من عصارات القرائح والعقول.

ولكن الحق أن جيلاً جديداً إذا شب عربياً في منطقة، بأية حروف وبأية علامات، فتمكن من قراءة الكلام العربي مضبوطاً أدق ضبط، معرباً أصح أعراب، وأكتسب بذلك ملكة الإفصاح فأن هذا الجيل الجديد لا يعجز بعدئذ أن يرجع إلى المؤلفات التي كتبة بالحروف

ص: 11

العربية القديمة، وأن يقرأ ما فيها من بيان، وينتفع بما حوت من علم وأدب، وذلك إذا أنفق القليل من الساعات في تعلم صور الحروف العربية القديمة، باذلا من هذا السبيل أيسر جهد.

ولا ريب أن كل امرئ مكنته تعلم الصور الخطية لثمانية وعشرين حرفاً، أية كانت، في ساعات معدودات، وبجهد غير معسور.

ولو قدر للأمة العربية أن تتواضع على اقتباس حروف أجنبية، أو اختراع حروف جديدة، لوجب مع ذلك أن نلتزم الناشئة تعلم تلك الصور القديمة للحرف العربية. حتى إذا شبوا وقد انقادت اللغة لألسنتهم، ومرنوا على ضبط نطقها، وأحسنوا تصريف كلماتها، وأمنوا من اللحن في إعرابها - استطاعوا بمعرفتهم حروف العربية القديمة أن يطالعوا ما شاءوا من تراث السلف، ولا سيما المراجع الكبيرة، وأمهات الكتب، في فروع العلوم والفنون والآداب.

وستظل الحاجة إلى تعلم الحروف العربية القديمة قائمة، حتى يتسنى لنا أن طبع هذه المراجع وأمهات الكتب بالحروف التي نتواضع عليها. وستقل وطأة حاجتنا إلى هذه الحروف كلما مضينا أشواطاً في طبع تلك الكتب والمراجع. ولكن قدراً من هذه الحاجة سيبقى قائماً وإن أعدنا طبع مئات من المؤلفات ومئات.

ومن هذا يتبين أن تواضعنا على أية حروف لكتابة اللغة العربية، لا يقطع الصلة بين قديمنا وجديدنا في ميدان التأليف. فالصلة باقية، وربما بقية على نحو أوثق مما هي الآن. وغاية ما هنالك أن الأمر يقتضينا معرفة حروف العربية القديمة، فإذا عرفناها وضح لنا الطريق إلى منهل التراث العربي، نعب منه ما وسعنا أن نعب لا يصدنا عنه شيء.

بيد أن هذا المنطق الذي نراه واضحاً كل الوضوح، لا يصرفنا عن أن نسأل أنفسنا:

أنريد الحقائق النظرية، أم نريد الواقع العملي؟

إن كنا نريد النظريات، فمجال القول ذو سعة، وميدان الاقتراح رحيب الجنبات، تتنافس فيه الأذهان.

وأما إن أردنا الواقع الملموس، فيجب أن نصارح أنفسنا في غير مواربة ولا مراء.

لغتنا العربية في جوهرها ومنظرها لست ملكاً لوطن وحده، ولا هي مقصورة على دولة

ص: 12

بعينها، ولكنها شركة بين طائفة من الأوطان والدول. وجلا غاية الجلاء أن هذه الطائفة التي تضم بين جوانحها الأمة العربية كلها يجري فيها اتجاه واضح إلى الإبقاء على الكتابة العربية القديمة، والنهيب للعدول عنها؛ وإن كان الرأي العام في الأمة العربية كلها يؤمن بقصور تلك الكتابة عن الوفاء بحاجات الضبط، ويعاني من صعوبتها ما يعانيه.

ثمة عامل نفسي يسري بين جوانح الأمة العربية، من أغفله لم يؤمن الشطط. فإن جماهيرنا في نهضتها الحديثة التي تقوم على أساس الحضارة الغربية الراهن، تتملكها نزعة المبالغة في الحرس على مشخصاتها القومية، وهذه الجماهير - في شديد حرصها ذلك - تتوهم أن حروف كتابتنا العربية إحدى هذه المشخصات فإن نبذتها كان ذلك إمعاناً في التطرف، وهدماً للمأثور، وتفريطاً في الجانب القومي العزيز.

وعلى الرغم من أننا طلاعون في نهضتنا إلى الأمام، آخذون من الحضارة بكل الأسباب، فإن جماهيرنا تلك ما برحت تحت وطأة من تقديس التقاليد المتوارثة، تضن ما وسعها الضن بالنزول عن شيء من شؤون حياتنا الاجتماعية، وإن كان من الظواهر والقشور.

والحروف العربية القديمة، وإن كانت لا تزيد على أنها أداة تصوير، وليست هي من جوهر اللغة في قليل ولا كثير، فإنها قد اتخذت في أوضاعها القائمة، مسحة من التقديس، لشدة الألفة بها، وطول العهد معهما، وجلال القدم فيها. ولذلك لا يحسب كل تغيير يلحق بها إلا استخفافاً بشيء تحيط به هالة من الجلالة والإكبار.

وإذن فهذا العامل النفسي المتأصل، هو الذي يقف عقبة في سبيل ما ينادى به المفكرون وذوو الرأي، من اتخاذ حروف جديدة مقتبسة أو مخترعة لكتابة العربية.

ولا خلاف على أنا العوامل النفسية التي تستقر بين جوانح الأمم لا تسقط جملة بقوة منطق، وروعة دفاع، وحجة إقناع، وأنها كذلك لا تسقط بظهور مضرة، واستبانت نفع؛ فإن للعوامل النفسية أسبابها وملابساتها. فإذا زالت هذه الأسباب والملابسات رويداً زالت معها تلك العوامل رويداً. وليس كالزمان دواء لها وعلاجها.

هيهات أن يفرض اقتراح جديد للكتابة بقانون. وهيهات أن يلزم الناس به إلزاماً بإقناع، وكل محاولة تجافي المجرى الطبيعي لتطور نفسية الأمم مكتوب لها الإخفاق.

فمن حق الأمة العربية علينا أن نساير في عهدنا الحاضر رأيها العام. وأن نسوس هذا

ص: 13

الرأي في حكمة وأناة، حتى يحين وقت تتهيأ النفوس فيه لقبول الجديد.

فالإجراء الذي يمكن أن تكفل له قبول الأمة العربية في جملتها، هو أن يكون لمشكلة الكتابة العربية حل لا تتغير فيه الحروف القائمة، ولا تتنكر صورته المألوفة.

ومتى اتسق لنا تحقيق رغبة الرأي العام في استبقاء القديمة، فإن الناس جميعاً يرحبون بما نتخذ من وسيلة لتذليل المصاعب التي تعترض حل تلك المشكلة في ميدان الطباعة.

وقد حدانا هذا على أن نعرض طريقة تقوم على أساس الكتابة العربية في أوضاعها الراهنة، بيد أننا ننفي منها ما كان عائق عن إدخال علامات الضبط في الحروف المطبعية.

أن صندوق الحروف في المطبعة العربية يحمل لكل حرف صوراً متعدد، منها الفرد، ومنها ما يقبل الاتصال بحسب أول الكلمة ووسطها وآخرها، وبحسب وقوع الحروف في بنية الكلمات المركب بعضها فوق بعض. ولذلك أتسع صندوق الحروف من ناحية، فتعذر أن يحتمل معه صندوقاً آخر لعلامات الضبط. وتركبت الكلمة من ناحية أخرى، فأصبح وضع علامات الضبط عليها غير دقيقة. وهذا كله هو سر استثقال علامات الضبط وإخفاقها في أداء مهمتها، وهو العقب في سبيل استعمالها في الكتب التي تخرجها المطابع.

وأني أرى أن نقتصر من صور الحروف على صورة واحدة، وبذلك يكون لصندوق الحروف المطبعية عيون لا تتجاوز الثلاثين عيناً، فنخلص من تلك العيون التي تزيد على ثلاثمائة، وأن نتخذ علامات الضبط المتعارفة التي يجري بها الاستعمال. وسيرحب بها الصندوق الذي تخفف مما كان يغص به من الصور المتعددة للحروف الأصلية، وانفسحت جوانبه لتقبل هذه الحركات في غير مشقة ولا عسر. وطوعاً لهذا يتوافر للطباعة غنم من السهولة والتيسير، كما يتوافق للكتابة غنم من نعيم الضبط بلا عناء.

وأقترح أن تكون الصورة التي تقتصر عليها من صور الحروف هي الصورة التي تقبل الاتصال من بدء الكلمات، وهي التي يسميها أهل فن الطباعة: حروفاً من الأول، على أن تؤثر الكاف المبسوطة، وتضل حروف الألف والدال والذال والراء والزاي والواو والتاء المربوطة واللام ألف باقية على صورتها في حالة إفرادها.

وأكبر ظني أننا لو أخذنا بهذه الطريقة لحللنا مشكلة الكتابة العربية الآن على نحو لا يثير اعتراضاً، ولا يتطلب تهيئة الأذهان للرضى بتغيير طارئ، وإقناع الرأي العام بقبول شيء

ص: 14

جديد.

وعندي أن هذه الطريقة تتحقق بها المزايا الآتية:

أولاً: أنها تنفي شبهة القطع بين القديم والجديد، فالحروف هي الحروف المعروفة، وعلامات الضبط هي القديمة المألوفة.

ثانياً: أن الحروف ستكون واضحة لإخفائها. فهي غير مركبة، بل مبسوطة، يعرب فيها كل حرف عن صورته في تميز واستقلال.

ثالثاً: أن علامات الشكل ستقع على الحروف بأعيانها، تأخذها الأنظار باللمح، فلا تتراجع العلامات بين الحروف المركبة في الكلمة الواحدة إذ أن كل حرف رحب الصدر لما يقع فوقه أو تحته من علامة الشكل. وبذلك تأمن العلامات من التزحزح، وتسلم من التعرض للخطأ والاضطراب.

رابعاً: أن اتخاذ صورة واحدة للحروف في جميع مواقعها من الكلمات، أولاً ووسطاً وآخراً، سيجعل تعليمها أيسر مؤونة، لأننا لا نروع المتعلمين بالحرف الواحد متعدد الصور، مختلفاً في حالة إفراده عنه في أحوال تركيبه. ولذلك أثره في تعليم القراءة للناشئين، ومكافحة الأمية على وجه عام بين الأهليين.

خامساً: أن المصاعب التي تجشمها المطبعة الآن لا يبقى لها محل. فإن صندوق الحروف سيتحرر من أكبر ما يثقله. فإذا أضفنا إليه علامات الشكل لم يضق بها جميعاً. وسيصبح ذلك الصندوق الذي يحوي الحروف وعلامات ضبطها جميعاً لا يزيد على خمسين عيناً، على حين أن صندوق الحروف غير المشكولة في حالتها الراهنة المتعددة الصور يربى على ثلاثمائة.

سادساً: أن وقت العمال الذي كانوا ينفقونه في اجتلاب صور الحروف على اختلافها سيتوافر لهم، فينفقون القليل منه في اجتلاب الشكل. وسيصبح صفهم لكلمة مشكولة يتطلب من الوقت والجهد أقل مما كان يتطلب صف كلمة لا شكل فيها.

سابعاً: أن اجتناب التركيب في الحروف سيجعل الكلمات مبسوطة ذات أفق أقل انخفاضاً من الأفق الذي تقتضيه الكلمات المركبة الحروف، فتزداد السطور في الصحيفة ازدياداً يعوضها مما يستلزمه انبساط الحروف من أتساع الحيز.

ص: 15

ولقد رغبة إلى المطبعة في أن تستن هذه الطريقة في صف جملة من الكلام، فلم تعي بذلك، وأثبتت التجربة أن الطريقة لا تعترضها في العمل عقبات، مع أن المطبعة اعتمدت في إنجاز ذلك على صندوق الحروف الذي يجري به الاستعمال الآن.

ولو أن هذه الطريقة لقيت حضاً من القبول، ووضعت موضع التنفيذ لتوقعنا أن يزودها أهل الفن في مسابك الحروف بما يوحي به وضعها الجديد، وأن يزيدوها تجميلاً، ويضيف إليها من ألوان التعديل والتنسيق ما يجعلها أدق أداء، وأنق منظراً، وأدنا إلى الرضى والاستحسان.

بقى أن نعرض لشيء لا نجد سبيلاً إلى أن نضر عنه صفحاً، ذلك هو أن لمشكلة ضبط الكتابة جانباً غير الجانب المطبعي الفني الذي تحله هذه الطريقة.

إن المطالبة بضبط الكتابة أمر تعترضه مصاعب يتبرم بها الكاتبون. فإننا إذا رغبنا إلى كل كاتب أن يقدم ما يكتبه إلى المطبعة مشكولاً على وجه الدقة، استشعر من ذلك عنتاً، ولاقى في سبيله رهقاً أليس هو مطالباً بأن يتحرى الصواب في الضبط؟

وهل يتسنى لكل كاتب أن يحسن ضبط ما يكتب؟ أو ليس ذلك يقتضي بصراً باللغة، وأتقاناً بقواعد النحو والصرف، حتى لا يكون الضبط الجديد سبيلاً إلى إشاعة الخطاء من حيث نبتغي إشاعة الصواب؟

ولكن هذا الذي نتوقعه ونخشاه من شيوع الخطاء إذا أريد الكاتبون على ضبط ما يكتبون، دليل أسطع دليل على أننا تعوزنا المرابة على سلامة النطق وصحة الإعراب، دليل على حاجتنا القصوى إلى تعليم الضبط في الكتابة.

على أن لكل تغيير طارئ مصاعبه الأولى، ولكل إصلاح عثراته في فواتح الطريق، حتى يستقر الأمر، وتستتب الحال. فلا ريب في أننا حين نأخذ أنفسنا بضبط ما نكتب سيشيع بيننا خطأ كثير؛ إلا أن هذا الخطأ سيقل ويضمحل على توالي الزمن وفقاً لتتبع النقاد والرغبة في تخي الصواب. ولا ريب كذلك في أن الأمر سيقتضي تخصيص طائفة من البصراء باللغة للأشراف على كل ما تخرجه المطابع من كتب وصحف ومجلات، حتى تبرأ من اللحن والخطاء في ضبط الكلام.

ومر الأيام كفيل بإنشاء جيل جديد من الكتاب والمؤلفين يغنون بقدر كبير أو صغير عن

ص: 16

معونة المراجعين والمصححين. وهذا الجيل ناشئ حتماً متى شب على قراءة ما يقرأ مضبوطاً أتم ضبط، إذ يتعود سلامة النطق، وتستقر في أذهانه صيغ الكلمات والجمل مضبوطة معربة، فيكتبها كما ألفتها عينه، ويتلفظ بها كما سمعتها أذنه، وبذلك يقتطف ثمرة النحو والصرف. دون تخصص في تعلم النحو والصرف. شأنه في ذلك شأن الشاعر المطبوع حين ينظم ما ينظم صحيحاً لا خلل فيه، طوعاً لما أدمن من قراءة الشعر، ولو لم يعرف من علم العروض شيئاً

وعلى الرغم من أن هذه الطريقة التي تراها حلاً للمشكلة الفنية المطبعية في ضبط الكتابة، طريقة ميسورة، لا تقف في سبيل تنفيذها عقبة، فأننا لا نستطيع أن نلزم بها لأمة العربية إلزاماً، سولا أن نفرضها على المطابع فرضاً. ولكن يجب أن ندعو إليها دعوة عملية طبيعية تزكيها عند الناس، وتحدوهم على اتخاذها بالطوع والاختيار.

ولعل أهدى سبيل إلى تحقيق تلك لدعوة هو أن تلتزم وزارة المعارف طبع كتبها التعليمية في مختلف المواد والمراحل، وافية الشكل، صحيحة الضبط، بهذه الطريقة الهينة الميسورة. ولن تجد الوزارة في سبيل ذلك ما كانت تجد من مصاعب فنية، وعقبات مطبعية، حالت بينها وبين تعميم الشكل في كتب التعليم.

فإذا ألزمت وزارة المعارف نفسها بهذا الإجراء، كان ذلك حافزاً على اتخاذ تلك الطريقة في محيط الجمهور.

وسينشأ تبعاً لذلك عامل نفسي لتأييد تعميم الضبط في سائر المطبوعات، هو عامل التأسي والإقتداء، عامل التنافس في إظهار القدرة على إخراج كتب مشكولة، تشبهها بما تخرج وزارة المعارف من كتبها في شتى مواد العلوم والفنون والآداب.

ويومئذ يتحقق غرض منشود، سعى إليه (مجمع فؤاد الأول للغة العربية)، وابتغى إليه الوسيلة ما وسعه أن يبتغي، ذلك هو تعميم الضبط في الكتابة العربية على نحو ميسور.

محمود تيمور

ص: 17

‌إسق العطاش

للأستاذ حسني كنعان

سألني صديق عن فصل (اسق العطاش)، وسألني آخر عن آثار القباني، وهاأنذا أجيب على السؤالين.

اسق العطاش: نوع خاص من أنواع الموشحات العربية القديمة المجهولة المتوارثة اختصت بحفظه مدينة حلب وحدها دون سواها من المدن العربية. ولهذا النوع من الأثر طابع خاص عرف به في النظم واللحن والإنشاد طغت عليه النزعة الصوفية. فأنت إذ تصاقح أذناك هذا النوع من الموشحات الأخاذة الساحرة وتصغي بكل حواسك وجوارحك إليه تخال نفسك كأنك قابع في زاوية من زوايا السادة الصوفية تضوعت في جنباتها روائح الند والمسك والطيب فتذهل عن الدنيا لشدة ما يعتريك من الخشوع والطرب والورع تأثراً بهذه الأنغام الرائعة والمعاني الممتعة فيأخذك العجب مما جادت به قرائح الأجداد الفياضة التي إن دلت على شئ فإنما تدل على ما كانوا عليه من شغف بالفن وانكباب مجهود في إحيائه والنهوض به. . .

والفصل برمته مأخوذ عن كتاب خطي قديم عنوانه (سلافة الألحان) يقع في مائة وخمسين صفحة على الجملة، قد دون بخط جامعه السيد (محمد الوراق) الحلبي المنبت وكان رحمه الله من الملمين بهذا الفن البارزين. وله في حلب عدة تلاميذ لا يزالون حتى الآن يحفظون له هذه اليد.

وكان منشداً في التكية الهلالية قد انقطع للنسك فيها والعبادة والتصوف، وقد تيمه الحب وهاجه الوجد والغرام في هذه الطرق، فجمع هذا الفاصل الأثري وعني بتعلمه وتعليمه فكان له ما أراد من فضل في نشره وإحيائه. . .

ولقد اختلف الرواة في منبع هذه الموشحات، فمنهم من نسبها إلى مصر وذهب إلى أن مياه النيل في عام من الأعوام قديماً قد نقصت وضنت السماء على سكان الوادي الخصيب بالمطر فما جادت عام مئذ بقطرة واحدة، ففزع أهل القطر إلى العراء يستمطرون الرحمة والغوث من لدن رافع السماء وباسط الأرضيين، جاء في مطلع أدعيتهم:

يا ذا العطا

يا ذا الوفا

ص: 18

يا ذا الرضى

يا ذا السخا

إسق العطاش

تكرماً

فالعقل طاش

من الظما

ومن قائل إن هذه الحادثة وقعت بحلب، ودليله على ذلك العادة المتبعة حتى الآن من فزعهم ولجوئهم إلى العراء حتى اليوم يستغيثون ويستمطرون الرحمة كلما ضنت عليهم السحب بالغيث فيجأرون بهذه الأدعية والموشحات. وإلى هذا فمصر فيها خزانات لارتواء تربتها يفزع إليها كلما ضن النيل وبخلت السحب بالأمطار.

ومن قائل بأن هذه المخلفات الفنية من وضع الصوفيين تهدف بمعناها ومبناها وموسيقاها إلى نزعة غزلية صوفية يقصد بها الإشارة والمديح للذات القدسية العلية والتغزل بها والتغني بمحامدها ومفاتنها على سبيل التعبد، وأنها تتلى بالأفكار وحلقات التكايا والزوايا لهذه الغاية.

وهي موشحات كما ترى لا تتنافى مع مبادئ الدين الحنيف في شئ، وقد سبق لأبن الفارض والسيد الجيلاني وأبن العربي وعبد الغني النابلسي أقوال كثيرة في هذا المعنى من الغزل الصوفي ولذا نراها تستعمل في بلادنا في كل حفل ديني يؤتي فيه على ذكر الله الملك الديان، ويغلب على هذه الموشحات النغمة الحجازية وقد يدوم إنشادها في الأذكار والحفلات زهاء أربعة ساعات دون انقطاعيتخللها نغمة العراق والعجم في بعض الأحيان، إلا أن نغمة الحجاز هي الغالبية على جميع الأنغام في هذه الآثار.

والعادة المتبعة عند الحلبيين أن يهيئوا لها أحسن العازفين والمنشدين فتبدأ الأنغام في بادئ الأمر ببطيء متزايد وصوت غليظ ثم يأخذ هذا الصوت في الجدة والشدة والدقة حتى تعلو الأصوات وتدق، ويشتد العزف ويخف بحسب المعنى إلى أن يغدو السامع كأنه بنشوة الطرب، وعندما تكون الحلقات معقودة وتأخذ رجالها النشوة تنزلق أرجلهم وأيديهم وصدورهم إلى البدء في رقص السماح الذي تحدثت عنه الرسالة سابقاً وينقلب هذا الفاصل من الموسيقى إلى فاصل إنشاد رقص وطرب فتسمع وترى عندئذ من القائمين على شؤونه العجب العجاب، وعندما يشعر أبطال هذه الحلقات بتعب أو ضنى ينسل من الحلقة منتحياً ناحية في المكان، فإذا ما شعر غيره بتعب صنع صنيعه وهكذا يظل أبطال الحلقات

ص: 19

يتسللون لواذاً الواحد تلو الآخر ويكون ذلك بعد مضي أربع ساعات على لتحقيق إلى أن تنقطع الحلقة وينفض المتحلقون من حولها وينتهي هذا لفاصل الغنائي الرائع الأخاذ.

أذاعت جزءاً من هذا الفاصل محطة حلب الإضافية منذ أمد بإشراف الأستاذين الشيخ عمر البطش الذي فقدته سوريا بالأمس وفقدت بفقده كنزاً ثميناً من الكنوز الفنية التي لا تعوض، وبإشراف الموسيقار توفيق الصباغ. وما كاد يمضي مدة على إذاعة مختارات من هذا الفاصل الأثرى الخالد حتى بادرة إدارة محطة الشرق الأدنى إلى الشخوص لحلب فتعاقدت مع أرباب هذه الصناعة من المذيعين وأخذت تسجيلاً خاصاً عنه. ولا ريب أن محطة دمشق ومصر والعراق وبقية محطات المدن العربية كانت أولى بحفظ هذه المخلفات الأثرية من محطة الشرق الأدنى قبل أن يمضي عميدها المرحوم الشيخ البطش، ولكنا نحن معشر الشرقيين نستهين بتراثنا الفني ونهمل رجالاته فإذا ما فقدناهم ندبنا حظنا وذرفنا الدموع سخينة على أفتقادهم، وإني ختاماً لهذا البحث الفني أراني ملزماً بذكر بعض مقطوعات مما ورد فيه تتمة للفائدة وتعميمها للنفع عسى أن يجد أبناء الفن الباحثون المتلذذون منهم والمتكسبون فيه ما تصبو إليه نفوسهم ويشفى غليلهم.

فالسادة أصحاب الطرق يذهبون في هذه الموشحات مذاهب شتى، فمنهم من يجعل الحبيب الذي يتغزل به غزالاً، ومنهم من يجعله إنساناً ذكراً أو أنثى؛ ولا يعلم إلا الله خفايا أسرارهم فيتغزلون بدعد وهند وليلى وسلمى وإلى ما هنالك من أسماء الأنثى، ومنهم من يتغزل بالذكر ويجعل المحبوب رسولاً أو ولياً من الأولياء فهم بهذه الحالة يظهرون ما لا يبطنون. ومن أقوالهم في ذلك:

يا غزالي كيف عني أبعدوك

شتتوا شملي وهجري عودوك

يا غزالاً بالبهاء ما أجملك

يا ترى في قتلتي من حالك

كنت لا أعشق خلاً من خلاك

حملوك الهجر حتى واصلوك

قلت رفقاً يا حبيبي قال لا

قلت راع الود يا ريم الفلا

قل من يهوي فلا يشكو الفلى

قلت حسبي مدمعي قال سفوك

قلت مولى قال ذا شيء بعيد

قلت عبداً قال لا أرضى عبيد

ومن قولهم في ذلك!

ص: 20

أهوى الغزال الريرني باهي الجمال

حلو المباسم سكري ريقه حلالي

أهيف حوى كل المحاسن والكمال

إذا نبدي ينجلي مثل الهلال

يا عاذل اقصر كلامك عن غزالي

ما للعواذل في هوى روحي ومالي

وهذان موشح من النوع الذي يتغزل فيه بالأنثى:

هيمتني تيمتني

عن سواها شغلتني

أخت أنس

ذات شمس

دون كأس

أسكرتني

لست أسلوها ولو

في نار هجران كوتني

ذات عقد ذات بند

أسبلته فوق نهد

أيها الساقي فندندن

باسم من قد آنستني

عاذلي ماذا عليها

باللقا لو أنحفتني

صوتها العود الرخيم

يسلب القلب السليم

تسبل الشال السليم

فوق أعطاف سبتني

ليلة بت معاها

بالصفا لما دعتني

وإليك نوعاً آخر من أنواع الغزل الصوفي تختتم به هذا النوع من الموشحات:

مولاي أجفاني جفاهنالكرى

والشوق لا عجه بقلبي خيما

مولاي لي عمل ولكن موجب

لعقوبتي فامنن على تكرما

واجل صدى قلبي بصفو محبة

يا خير من أعطى الجزاء وأنعما

يا ذا العطا ياذا الوفا يا ذا الرضا

يا ذا السخا إسق العطاش تكرما

أغث اللهفان وأرو الظمآن

واسقنا يا رحمن من منهل الإحسان

أما الاستيضاحات التي طلبها من السيد محمد يوسف نجم من جامعة فؤاد الأول فالجواب عليها أورده على الجملة فيها بلى عساه باقي فيه ما تصبو إليه نفسه:

1 -

لم يسبق محاولة مسرحية في سوريا قبل القباني وإنما الذي عرف أن أستاذه علي حبيب الحكواتي كان يخاطب الصور الخيالية من وراء (خيمته) بلهجةتمثيلية فيها الحوار والسؤال والجواب. وكان القباني يلازمه ويقتبس من لهجته التمثيلية ومحاورته اقتباسات

ص: 21

أفسحت أمامه المجال لوضع نواة التمثيل في مخيلته، وكانت فرقة فرنسية أمت سوريا للتمثيل فيها فحلت من مدرسة (العذاري) في باب توما، فحضر القباني هذه الروايات وشهدها جميعها فأخذ فكرة عن التمثيل والمسرح. وفي عهد الوالي عبد اللطيف صبحي باشا ظهرت أولى مسرحياته فألف رواية (ناكر الجميل) ومثلها أمامه سنة 1288 وكانت سوريا والبلاد العربية لا تعرف شيئاً عن التمثيل قبل هذا التاريخ.

2 -

أما كتبه ومؤلفاته المسرحية فإنها مذكورة في كتاب الموسيقي الشرقي لمؤلف المرحوم كامل الخلعي. ولقد أجهدت نفسي كثيراً لأحصل على نسخ منها فلم أظفر لأن ولده المرحوم خليل أودع مؤلفات واده عند شريك له في المحاماة من آل العجلاني، ولما توفي خليل المذكور أنكرها وأحتجزها لنفسه كما فعل شقيق الشاعر الزين رحمه الله بأشعار أخيه الفقيد. وعبثا حاولت الحصول على نسخ منها. ولما أعيتني الحيلة والأمانة للعلم والبحث قصدت نائب دمشق الأستاذ فخري بك البارودي وطلبت مساعدتي للحصول على تراثالقباني، فجال بمكتبته الفخمة جولة ثم عاد يحمل إلي روايتين مطبوعتين في القاهرة بقلم القباني نفسه قد أكلت حشاياهما الأرضة وعفى عليهما النسيان، إحداهما رواية، هارون الرشيد، والثانية رواية الأمير محمود نجل شاه العجم، فعثرت بعثوري عليهما على كنز أو معدن نادر. ولم أتبين تاريخ وضع رواية الرشيد لإهتراء مغلفها، أما السلطان محمود فلقد طبعت بالمطبعة العمومية بمصر سنة 1318 هـ.

فرأي في أسلوب الروايتين لا يخرج عن رأي أديب يرى في هذا الأسلوب المشجع أسلوباً لا يليق أن يتخذ قدوة في هذا العصر، فرواية الرشيد تدور حول مؤامرة القصر والست (زبيدة) وحادثتها مع قينة الرشيد (قوت القلوب) وموضوعها لا بأس به على الجملة. أما الرواية الثانية فليس لها مثل أسلوب الأولى وليس لها مغزاها. ولقد صدرت رواية الرشيد بعهد الخديوي عباس ودليلي على ذلك ما جاء فيها من قول مؤلفها:

دام في عصر مشيد

غوثنا عبد الحميد

وبه نجم السعود

قد تبدى في صعود

وبعباس المعالي

بسمت بيض الليالي

ومن هذه الأرجوزة الجذلة تعرف مقدار فهم القباني ومقدار مواهبه الشعرية والنثرية. ولا

ص: 22

أضن أن للمكتبات الكبرى في القاهرة تخلو من آثار القباني إذ أنها كلها مطبوعة في القاهرة. وكانت في عصره منتشرة ولا يعدم الباحث المدقق وسيلة للعثور عليها كما وجدت أنا الوسيلة للاطلاع على بعضها على رغم فقدانها.

3 -

أما ما ورد في السؤال الثالث عن احتمال وجود مدرسة فنية في دمشق اهتدت بهدى القباني وتتبعت خطاه، فهذا أمر ينفيه الواقع. لأن القباني بعد مغادريه الديار الشامية وهجرته لمصر انقطعت أخباره عن سوريا وتعطل المسرح من بعده وأنتقل هذا الفن إلى الديار المصرية حيث لقي بها تربة خصبة وصدراً رحباً وكان وصوله غليها في عهد الخديوي توفيق وعاصر عباساً ولم يعد إلى بلاده إلا بعد أن نشر الفن في ربوع النيل السعيد وتخرج هناك على يديه الكثيرون ممن ذكرتهم في مقالاتي السابقة في الرسالة الغراء. والشيء الذي أريد أن أقوله: أن القباني وقد مضى على تاريخ وفاته هذه السنون الطوال لا يزال أعقاب بعض أعدائه من الشيوخ المحافظين الذين كانوا يناوئونه ينظرون إليه نظرة المخرق الخارج الذي أحدث ثلمة في الدين وأوجد بدعة بما قام به من أعمال فنيه في ذلك الزمن. وهم يلومونني إذ أكتب عنه هذه الفصول. وهذا دليل على التأثير البالغ الذي أحدثته رواياته وقتئد لدى آبائهم وأجدادهم المعاصرين له، وقد غالى بعضهم في اللوم والعتاب وحظر على الكتلية في هذا الموضوع بداعي أنه يثير حزازات قديمة، وهؤلاء الأعقباب كما ترى قد ورثوا العداء لهذا المغني العالمي كابرا عن كابر، وأنا إذ أعود إلى نبش هذا الموضوع من جديد ألقي التبعة في ذلك على اتق السيد نجم لأنه هو السبب في أثارته من جديد فعليه يقع الكفر، وأنا إنما أنقل ما يطلب إلي، وناقل الكفر ليس بكافر

4 -

وما طلب السيد نجم بإتمام بحثي عن القباني وفي الرسالة فهذه مهمة سأتفرغ لها وأكتب فصلاً خاصاً عن القباني الموسيقي كما كتبت عن القباني الممثل إجابة لرغبته وإن كانت هذه الرغبة تكلفني غالياً كما أشرت.

دمشق

حسن كنعان

ص: 23

‌رأي في تحديد العصر الجاهلي

بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي

صاحب العزة للأستاذ إبراهيم مصطفى بك

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

يرجع أدبنا في أصوله إلى العصر الجاهلي - ألفاظ لغتنا، وطرق اشتقاقها، وبناء الجملة ونظم تأليفها، وأوزان الشعر وقوافيه وهيكل القصيدة.

ومثل البادية في العصر الجاهلي وصور الحياة فيها لم تزل منبثة في تفكيرنا وأيماننا ونظم حياتنا، وكل تنويه لهذه الحقبة من التاريخ يرجع بالإضاءة والكشف عن أصول أدبنا وتكوين حياتنا.

وهو عصر غامض حتى لا نعرف مداه ولا نقف على تحديده، ولهذا ترسل الحوادث فيه مبعثرة مضطربة غير مرتبطة بأوقاتها ويغشيها ستار من الخيال ومن المبالغة تتيه فيه الحوادث ويضل المؤرخون.

فحرب (داحس والغبراء) مثلاً وهي من أشهر حوادث هذا العصر يعدها بعض المؤرخون في أوائل القرن الخامس، ويراها آخرون من حوادث القرن السادس، ومنهم من يقول إنها امتدت أربعين سنة، ومنهم من يرى حصرها في عشر هذا الزمن أي نحو أربع سنوات.

وزهير بن جناب الكلبي عاش 300 سنة أو 400 سنة أو 450 سنة، وطي بن أد عاش 500 سنة.

وتحديد هذا العصر بمعالم من التاريخ أول واجب لتصوره والفهم مجرى حوادثه.

وآخر هذا العصر معروف محدد هو سنة 622 وهو بدء التاريخ الهجري.

وإذا نظرنا وجدناه لا يؤرخ بزوغ الدعوة الإسلامية وبدء ظهورها، فقد دعى الرسول إلى دينه سراً وجهراً وأعلن رسالته في الأسواق وهي مجامع العرب وعرض نفسه على القبائل، وتم ذلك كله قبل الهجرة ولم يعد شيء منه نهاية العصر الجاهلي.

وكذلك لا يؤرخ انتشار الإسلام وغلبته على الجزيرة العربية فقد كان الإسلام في المدينة وحدها بل في جزء منها، وسلطان الحياة الجاهلية لم يزل مبسوطاً في الجزيرة وأرجائها

ص: 25

الواسعة. والمسلمون أقلية صغيرة ضئيلة كما كانوا أقلية بمكة.

ولكن أمير المؤمنين عمر والعرب معه لم يتخذوا هذا التاريخ اعتباطاً ولا حدوده تحكماً؛ بل رأوه تاريخ تكوين حكومة خضعت لها البلاد العربية وشملها سلطانها ونظامها، وقضت على حالة من الفوضى تنتهب فيها الأموال والأنفس. والضعيف نهب القوي.

ولم يتخذ تاريخاً حتى كان سلطان تلك الحكومة وطيداً شاملاً وأمنها مظلاً ورافاً.

وكان تكوين الحكومة عقب تلك الرحلة القاسية السعيدة الفاصلة وهي الهجرة فسمى التاريخ بالهجرة.

فهذه نهاية العصر الجاهلي قرنت بالهجرة وبتكوين الحكومة الإسلامية.

فما مبدأ هذا العصر؟ يحضر المؤرخون به إلى أول الخليقة ويجعلونه شاملاً لكل ما كان قبل الإسلام وهم بهذا يقررون أن العرب أو عرب الشمال على الأخص قد جاءهم الإسلام وهم على الفطرة وفي حالة بداءة لم يتصلوا قبلها بحضارة.

ونحن مضطرون هنا أن نشير إلى نوعين من الجاهلية: جاهلية الفطرة وتكون الأمة فيها بدائية متبربرة خشنة العيش لم ترث آثار مدينة سابقة. وجاهلية فترة وهي حال أمة كانت لها حضارة فقدتها بسلطان من طبيعة أو أحداث السياسة وتدهورت في حياتها درجات وبقى مستكناً فيها آثار ما تمتعت به من حضارة.

وإذا كان مسلك المؤرخين يفيد أن جاهلية العرب هذه كانت جاهلية فطرية فإن كل شيء في التاريخ وفي حيات العرب يشهد أنها كانت جاهلية فترة، جاهلية موقوتة تحمل آثاراً قوية من حضارة أو حضارات سابقة.

لغتهم وبيانهم لم تكن لغة أمة بدائية ولا قريبة من البدائية، وعملهم هو التجارة - والتجارة الخارجية خاصة - بعيد اشد البعد من أن يكون عمل أمة بدائية؛ وحكمهم للبلاد يوم فتحوها وسياستهم أهلها لا يمكن أن يتهيأ لمة فطرية.

حتى رذائل الجاهلية فيها ما يشهد ببعدها عن الحيات البدائية - هذا الربى الذي شدد الإسلام في النهي عنه والذي عني به الرسول في خطبة الوداع ووضعه عن الناس يشهد تعدد أنواعه والتشدد في تحريمه بتغلغله في الحيات الجاهلية - وما كان تقويم المال وتقديره وأرباحه عملاً من أعمال الأمم الفطرية.

ص: 26

وربا الفضل نوع من الاتجار في الأثمان وفي النقد وعمل من أعمال البرصة ومضاربتها وهو من علل حضارة غنية مرفهة؛ فقد كان نقد الفرس بأيد العرب يعلو ويهبط تبعاً لانتصارهم أو هزيمتهم، وكذلك نقد الروم، فتضطرب الثروة في أيدي الناس وينتهز الفرصة البصيرون النهازون كما يفعل اليوم تجار النقد. وقد عالج الإسلام أصلح علاج - الذهب بالذهب والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، يداً بيد.

والقرآن يشهد للعرب بحضارات سالفة بائدة - فهم على دين أبيهم إبراهيم، وأرسل إلى العرب من العرب رسل منهم هود وصالح وشعيب ولكل رسالة دين وفي كل دين حضارة.

وطبيعة البلاد العربية وموقعها في وسط الدنيا تأبى أن تكون بمنأى عن الحضارات وأن يعمرها قوم منعزلون متأبدون فطريون. فمنذ أقدم عصور التاريخ كانت الجزيرة العربية وبواديها قناة التجارة بين الشرق والغرب من قبل تقد قناة السويس؛ بل أن طبيعة الجزيرة اليوم تعمل في قوة وسرعة لتسترد قناة التجارة إلى مسالك بواديها. ولا يغفل عن ذلك إلا من سد أذنه وأغمض عينه. فالسيارات القوية العاتية والوثيرة المريحة ما بين البصرة وبيروت في يومين، وللسرعة حسابها في التجارات وفي هذه الأيام خاصة. وقناة السويس تنظر بخضوع وحسرة - أن لم تكن غافلة - إلى هذا المنافس الذي يحاول أن يسترد من بين يديها الثروة والغنى والمجد - والصحاري كالبحار تكون عازلة حتى إذا مهدت وذلك كانت سبيل القرب وهمزة الوصل والذين اجتازوا البوادي العربية ورأوا طبيعتها الحجرية لا الرملية دهشوا لهذا الفجاج التي مهدتها الطبيعة وسوتها يد الله. وقد شهدت عشرات من الرجال مهدوا بأيديهم أميالاً من الطرق لتمر بها سيارات الملك أبن السعود وسيارات جنده، كل ما عملوا أنهم كنسوها من صغار الحجارة التي تسمى عندهم (بالحراجل).

والمنقبون لا يزالون يكشفون عن آثار حضارات عظيمة في اليمن وشمال الحجاز وبطرة وتدمر والحيرة فهل يقبل أن تقوم هذه الحضارات في نواحي الجزيرة وإخوانهم في جوفها بدائيون غير متحضرين؟

والآثار تشهد أن تلك الحضارات كانت تجارية، من التجارة ثروتها وربحها، وعليها قيامها وبقاؤها. والتجارات تأتي من طرف الجزيرة إلى طرف وتمر في مسالكها، ولا بد لهذه المسالك من الاطمئنان والأمن، ولا يكون ذلك إلا في ظل حضارات وسلطان قوي.

ص: 27

هذه حقائق تمليها الطبيعة وتنطق بها الآثار ولكن روايات الأخبار التي بأيدينا تغطي هذا أو تطمسه لأن روايتها دونت بعد صدر من الإسلام وعمل في تدوينها العرب وغير العرب.

أما العرب فقد كان لدى أغلبهم أن الإسلام لا يظهر فضله حتى تكبر سيئات الجاهلية وحتى لا يكون في الجاهلية إلا شر قلبه الإسلام خيراً.

والإسلام رسالة ووحي ولكن الذين استجابوا له وقاموا به رجال ربتهم الجاهلية. لا بد أن تكون مواهبهم وتجاربهم قد أعدتهم لقبوله أو النهوض به والله أعلم حيث يجعل رسالته.

وأما غير العرب فقد حز في قلوبهم ضياع أممهم ودينهم ودولهم ولم يستطيعوا عيب العرب إلا أن ينالوا من جاهليتهم. وجهاد الشعوبية في هذا كبير ووسائله شتى ظاهرة وما كرة.

فلا ينكر متبصر أن الجزيرة العربية شهدت قبل الإسلام حضارات ذات شأن. وعلى هذا الأصل نحاول أن نحدد أول الجاهلية العربية قبل الإسلام وسبيل ذلك أن نعرف آخر حضارات قامت بالجزيرة ونحدد نهايتها فتكون بدء هذا العصر الجاهلي.

فإذا اقتصرنا على العصر التاريخي وعلى ما كشف من آثار حضارته ذكرنا حضارة الأنباط وقد كانت في شمال الجزيرة وامتدت من العراق إلى مصر ووصلنا في الجنوب إلى وادي القرى وورثت حضارة ثمود وأبقت آثاراً خالدة وصمدت للروم في حروب شديدة مريرة - ثم حان حينها فانقضى أمرها على يد (تراجان) سنة 106 من الميلاد وورثت مكانتها تدمر ووسع سلطنها الشام ومصر وما بين النهرين والأناضول إلى أنقرة، وجاء يومها؛ فانقضى ملكها سنة 271 على يد أرليان الروماني أيضاً.

وكانت الحروب الطويلة القاسية بين الروم والفرس سبب انقطاع التجارة بينهما، وكان لا بد للتجارة أن تشق لها مجرى إذا سد مجرى فاتخذت سبيلها في مفاوز البلاد العربية البعيدة عن سلطان الدولتين، وكان الروم اشد حسرة لانصراف التجارة إلى أيدي العرب ولا بد لها من هذه التجارة ولا بد للغرب أن ينال موارده وقوته من هذه البلاد المشمسة الممطرة الغزيرة الإنتاج فكان من عناصر سياسة الرمل وتصميمهم أن يصلوا إلى كنوز الهند وأن تكون تجارتها خالصة لسلطانهم.

ولهذا تجشموا الأهوال في القضاء على بطرة وعلى تدمر وحاولوا القضاء على دولة اليمن أيضاً، وأرسل أغسطس حملته المشهورة بقيادة قائده العظيم الياس جلاس فهلك في

ص: 28

الصحراء جيشه وعاد بخيبة سجلها رفيقه وصديقه استرايون وأورثهم بأساً أبدياً من أن ينالوا بلاد اليمن عن طريق شمال الجزيرة.

وفي القرن الرابع كانت المسيحية قد انتشرت وصالحتها الدولة الرومية والبيزنطية واستعانت بها على مد سلطانها - وكان رسل هذه الديانة قد وصلوا إلى الحبشة وشروا فيها بدينهم فقامت بها دولة مسيحية حبشية تقابل في البلاد العربية دولة اليمن اليهودية. وقامت العداوة بين الأختين؛ فأحباش هذه الدولة من أصل عربي يمني ولكن المنافسة في التجارة والعداوة في الدين أججت نار الحرب بينهما. ومن آثار تلك العداوة حديث الأخدود والنار ذات الوقود. وأرسلت بيزنطة رسلها وسفنها إلى الأحباش فمكنتهم من القضاء على دولة الحميرية باليمن بعد حروب سجال وانتهى بذلك عهد آخر دولة مستقلة قامت قبل الإسلام في الجزيرة العربية وكان ذلك سنة 525 ميلادية.

البقية في العدد القادم

إبراهيم مصطفى

ص: 29

‌ثورة في الجحيم

للأستاذ حمدي الحسيني

جميل صدقي الزهاوي رحمه الله شاعر عربي كبير نشأ في بغداد وأشتغل فيها بالصحافة والتعليم. وقد أصابه وهو في الخامسة والعشرين من سني حياته مرض عضال في نخاعه الشوكي لازمه طول حياته. وقد زار الآستانة في عهد عبد الحميد الثاني فضاق صدر السلطان به، فتأثره الجواسيس وضيقوا عليه، فنظم قصيدة ذم بها عبد الحميد وسلوكه، ودفعته الجرأة أن ينشدها أبا الهدى الصيادي، فكتب بها أبو الهدى تقريراً دفعه إلى السلطان فكان ذلك سبباً في سجن الزهاوي

أيأمر ظل الله في أرضه بما

نهى الله عنه والرسول المبجل

فيفقر ذا مال وينفي مبرءاً

ويسجن مظلماً ويسبي ويقتل

تمهل قليلاً لا تغض إنه إذا

تحرك فينا الغيظ لا نتمهل

وأيديك إن طالت فلا تغترر بها

فإن يد الأيام منهن أطول

وقد عين الزهاوي بعد الانقلاب العثماني أستاذاً للفلسفة الإسلامية في (مكتب الملكية) في الآستانة وعين في الوقت نفسه مدرساً للأدب العربي في جامعة دار الفنون، وأنتخب نائباً عن متصرفيه (المنتفك) من أعمال العراق، في مجلس النواب العثماني، ثم عاد لبغداد بعد انقشاع الحكم العثماني عن العراق، فعين عضواً في مجلس المعارف ثم رئيساً للجنة ترجمة القوانين العثمانية. وللزهاوي مقالات في مواضيع شتى نشرتها له المجلات العربية المعتبرة، وله من الكتب العلمية والأدبية الشيء الكثير. وأما دواوينه الشعرية فخمس دواوين آخرها ديوان الأوشال، وهو يجمع بين دفتيه كل ما نظم الزهاوي في سن النضوج.

يبدو لنا من شعر الزهاوي أنه كان حريصاً على أمرين، أن يشتهر بالفلسفة وأن يدعي نصير المرأة. ولا نستطيع هنا أن نمر بهذه الظاهرة النفسية دون أن نعللها تعليلاً نفسياً. فالزهاوي رحمه الله كان مطوي النفس على شعور بالنقص، وهذا الشعور قد كونته في نفسه عوامل شتى يرجع أكثرها وأقواها إلى طفولته ونشأته الأولى. وقد يكون المرض العضال الذي أصابه في نخاعه الشوكي سبباً قوياً من أسباب ذلك الشعور. ومن طبيعة هذا

ص: 30

الشعور أن يدفع صاحبه إلى الكفاح في سبيل الرفعة بطرق شاذة، والرفعة في ما وصل إلى يدنا من شعور الزهاوي أصبحنا نعتقد بأن قصيدته الطويلة المسلسلة المسماة بثورة في الجحيم هي الصورة الصادقة لنفسيته، والمعرض لواضح لآرائه وأفكاره، والموضع الأمين لقوته ونزوعه. أما فلسفته في هذه القصيدة وتردده بين الإلحاد والاعتقاد وحريته بين الشك واليقين فلا نحب أن نتعرض له الآن لأن التعرض له ليس من غرضنا في هذه الكلمة. ولنصغ الآن إلى ملكي القبر منكر ونكير وهما يسألان الميت في قبره عن السفور والحجاب، هذا الأمر الذي شغل الزهاوى زمناً طويلاً واحتمل في سبيله أذى كثيراً:

قال هل في السفور نفع يرجى

قلت خير من الحجاب السفور

إن في الاحتجاب شلا لشعب

وخفاء وفي السفور ظهور

ليس يأتي شعب جلائل ما لم

تتقدم إناثه والذكور

إن في رونق النهار لناساً

لم يزل عن عيونها الدبجور

بعد أن أتم الملكان استجوابهما للميت عذباه عذاب القبر وأخذاه إلى الجنة ليجعلا من رؤيته لها عذاباً له فوق عذابه. ثم أخذاه إلى الجحيم فقذفا به في صميمه فالتقى هناك بالأشقياء المعذبين أمثاله؛ هناك قد جمع الألم المشترك بين القلوب المتباعدة، وكون العذاب بين المعذبين وحدة دفعتهم لأن يفكروا بالخلاص من عذاب الجحيم فعقدوا اجتماعاً تبارى فيه الخطباء في حض الجمهور المعذب على أنقاض نفسه من بلاء الجحيم، فقام شاب من شباب الجحيم وألقى خطبة تحريضية حرض فيها الملايين المعذبة في ذلك الجحيم على الكفاح ضد الظلم والاستبداد

قال يا قوم إننا قد ظلمنا

شر ظلم فما لنا لا نثور

اجسروا أيها الرفاق فما نا

ل بعيد الآمال إلا الجسور

إنما فاز في الجهاد من النا

س بآماله الكبار الكبير

قاوموا القوة التي غش

مت والدهر ما دام للقوى ظهير

فتحمس سكان الجحيم حتى دفعت الحماسة أكثرهم رصانة كابي العلاء المعري فوقف هو الآخر يحرض الجمهور تحريضاً عنيفاً فقال:

غصبوا حقكم فيا قوم ثوروا

إن غصب الحقوق ظلم كبير

ص: 31

فرد عليه الجمهور الحانق الغاضب:

غصبوا حقنا ولم ينصفونا

إنما نحن للحقوق نثور

وهنا قام سكان الجحيم قومة رجل واحد واندفعوا نحو الزبانية، ووقعت المعركة الحاسمة، فأحتل سكان الجحيم الجنة وقاموا فيها منعمين مرفهين.

حمدي الحسيني

ص: 32

‌رسالة الشعر

رحلة في وجوه الناس

صحراء العجائب

(إلى أصحاب الوجوه المستعارة. . .)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

تجولت في صحراء تلك العجائب

وفي سرها المطموس حول الحواجب

وعوذت نفسي قبل أن أبدأ السري

لعلي أنجو من سموم العقارب

وقلت لعل الله ينصر رحلتي

فأغنم صيداً نافراً لحقائبي

وألقيت أشراكي لها وحبائلي

وسرت كحاو هام بين الخرائب

وتعويذتي الكبرى سكون يحوطه

تربص شيخ مل طول التجارب

أمانك ربي! ذلك الوجه ربوة

تغنى بها الأطيار من كل جانب

تكاد تنادي العاشقين إلى الهوى

وتجري لهم أسحارها في المغارب

مزنرة الأغصان بالعطر والندى

وهمس الصبا في مرعشات الترائب

وتخفي دروباً في الظلال لئيمة

بها الريح ما أبقت حذاراً لهائب

عداد الحصى فيها أفاع حيية

كريمات صب الموت فوق المعاطب

تجود به سما نضيراً معطراً

تدير به النجوى خدود الكواعب

وتجريه ضحاك الردى، كل بسمة

تهب مع الساق بسهم وضارب

وقفت طويلاً عند أعتاب روضها

وناديت رب الكون. . ما ذاك صاحبي!

أجرني! فهذا الوجه كم صدت سره

ولو كان معصوماً بغدر الغياهب

فلم ألقى إلا آدمياً يسوقه

بجنبيه ذئب مستعار المخالب.

ووجه به وجهان: وجه مقنع

بآخر مدسوس بزي العناكب

يجاري وجوه الناس في كل نظرة

ويسرب في إيمائها كالثعالب

ذليل لما يصغي إليه، فسمعه

خطام ذلول في حبال كواذب

ترى طرفه عبداً لعينيك ضارعاً

على أي حال من فنون التخاطب

ص: 33

تنوح فيعوي، أو تصيخ فيمحى

ويصبح شيئاً من سكون المحارب

برت آية البهتان جلدة وجهه

مطايا رياء لا تضيق براكب

إذا قيل هذا الصخر ماء. . رأيته

يردد للينبوع شوق السباسب

وأن قيل هذا الماء نار. . رأيته

عليها مجوسياً عريق المذاهب

وإن قيل تلك النار فجر. . رأيته

أذان مصل هز سمع الكواكب

وإن قيل هذا الفجر قبر رأيته

من الثكل يستجدي دموع النوادب

تلاشي بلا موت، وأودي بلا ردي

لعل بهذا النعش بعض المكاسب. .

أمانك ربي منه! هذا منافق

أخف لقاء منه وجه المصائب

إذا انفردت بالله أبعاد نفسه

- وهيهات - يلقاه يزهو المحارب

وأن مر جلاب الفتات، رأيته

بلا أي ذنبن في سرابيل تائب

تقوس وأستخذى على الزور ظهره

وكبر لا لله، بل للرغائب

فخلت صلاة لم يحن بعد وقتها

وظلاً من الأوثان فوق المناصب. .

ووجه سراب البيد يخشى ظنونه

فيزور عن رؤياه خوف العواقب

يمر به مر الظنون كأنه من الذعر صدق مر في وجه كاذب

وتمعن في نجواه عرافة الضحى

فتنكت في خط على الرمل خائب

يعلم أجواز الفلا كيف تصطفى

لظلمائها ود الرياح الحواصب

تعمى على مرآته، فهو صوبها

رؤى صد إطي الزجاجة هارب

يخادع حتى نفسه، فطريقها

بجنبيه جب قاعه في الجوانب

تهدج، واستحيا، وهوم، واختفى=بجفنين سعاءين تحت المسارب

لمحت فلاه من بعيد، فصرصرت

بسمعي رياح الخاتل المتثائب

فقلت: معاذ الله ضعف وقدرة

وليل ضياء فيه فجر غياهب!. .

ووجه دعى الأفق، لا شأن عنده

بما حط في أعماقه من مثالب

طغى فوقه ضب الغرور، فأنفه

كرمت طير كفنت بالطحالب

يشيح فضاء الله خزياً لحمقه

وتعوي له حزناً شقوق الجنادب

تورم، وانقدت من الصدر نفسه

فلم يبقى منه غير تل المناكب

ص: 34

وغير سطور فوق كثبان وجهه

نشين من البهتان أقدس كاتب. .

ووجه سألت الله لا مر ثانياً

ولا اتجهت يوماً غليه مذاهبي. .

به سحنة الواشي، لها سبع أعين

وسبع آذان، وسبع حقائب

يطل كركب من بني الجن ظامي

يحدج في نبع من الماء ناضب

ويصغي كحارس مشى في ترابهم

دبيب من الأوهام طامي الكتائب

وتزحف كالثعبان آفاق سمعه

لتستل ما تبغيه من كل صاحب

جزوع إلى الأسرار، يلعق طيفها

كذئب غريب الغاب، حيران، ساغب

وينبش في غيب العباد، فلا ترى

له نظرة إلا برفش وحطاب

سألت له الرحمن. . قبراً كوجهه

تعيث به الآثام في كل جانب. . .

محمود حسن إسماعيل

ص: 35

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

حقيقة التشويه العلمي في (الإشارات الإلهية):

مرة أخرى نعود. . ولا مناص من هذه العودة لأنها استجابة لرغبة القراء. نعود لنكشف عن حقيقة (التشويه العلمي) التي أحدثته عبقرية الفيلسوف الأول في (الإشارات الإلهية). . ومعذرة من هذا التعبير الذي ينسب التشويه إلى العلم أو يجعل العلم منسوباً إليه، لأن العلم هنا بدلالته الخاصة مقصور على الدكتور عبد الرحمن بدوي!

وقبل أن نكشف عن حقيقة هذا (التشويه العلمي) نود أن نقف قليلاً لنقول كلمة أو كلمتين. . ترى هل قرأ الدكتور بدوي كتاب (كليلة ودمنة)؟ أننا نشك كثيراً في أنه قد قرأ هذا الكتاب، ومبعث هذا الشك أن في الكتاب فلسفة صادقة، كان من الممكن أن ينتفع بها فيلسوف مصر الأول. . لو أنه ألتقطها من لسان بيدبا الفيلسوف! ولسنا نريد من الدكتور بدوي إلا أن يرجع إلى هذا الكتاب ليخرج بشيء من الفلسفة الشرقية، شيء بسيط لا يدق على فهمه كما دقة عليه أصول الفلسفة الغربية. . قال ديشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: اضرب لي مثل الرجل يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه. وجمع بيدبا الفيلسوف أطراف فلسفته، وقص على الملك قصة مالك الحزين. . ورحم الله بيدبا الفيلسوف، فلو كان يعيش بيننا في هذه الأيام مع دبشليم الملك، لاستبدل بقصة مالك الحزين قصة عبد الرحمن بدوي!

إننا لا نعني قصته في (الإشارات الإلهية) فإن لها حديثاً غير الحديث، ولكن الذي نعنيه هو قصته الأخرى التي قادنا إليها كتاب الآخر:(أرسطو عند العرب)، وهو مجموعة نصوص نشرها وحققها بطريقته المعروفة. وافتح الصفحة الرابعة والستين من هذا الكتاب، وترفق برئتيك إن كنت من أصحاب الصدور الضعيفة، قبل أن تطلقها ضحكة عريضة تملأ الفضاء العريض!

قال الدكتور عبد الرحمان بدوي وهو يتحدث عن منهجه في نشر المخطوطات، في شيء من الفخر وشيء من السخرية، الفخر (بعلمه) والسخرية من (جهل) غيره، قال لا فض فوه وهو بعيد علينا قصة مالك الحزين ويذكرنا بمثل بيدبا الفيلسوف: (والمنهج الذي نتبعه في النشر منهج بسيط، وبقد ما هو بسيط هو خصب دقيق معاً: وهو أن نجيد قراءة المخطوط

ص: 36

عن تدبر وحسن فهم (هكذا والله العظيم)!. . وهذا مبدأ على الرغم من بساطته ووضوحه كثيراً ما أغفله الناشرون أو بالأحرى أجفلوا منه وكأين من أخطاء في تحقيق النصوص لم يكن السبب فيها إلا عدم إجادة القراءة! وليس الأمر في النشر أمر هذه المخطوطات وكثرة اختلافات القراءة؛ إنما المهم إن تقدم للناس - على أساس ما تيسر لك من مخطوطات، فلت أو كثرت أو كانت وحيدة - نصاً جيداً يحاكي تماماً ما في الأصول المخطوطة بعد تدبيرها تمام التدبير. فالذين مارسوا المخطوطات يعرفون أن ثمت أحوالا من إهمال النقط أو تشابك الحروف أو تقلب النفط من فوقها واضطرابها بين حروف الكلمة الواحدة أو الكلمات المتجاورات. ومثل هذه الأحوال لا يمكن أن تعد اختلافات في القراءات، إنما هي عوارض شخصية في المخطوطات، يجب أن يستقريها الناشر لنفسه أثناء قراءته الأولى للمخطوطة ثم يعين - لنفسه أيضاً - أحوال اطرادها حتى يتهيأ له جهاز تحليلي لحسن القراءة. وإلا فستكون النتيجة أن يضل القارئ إذا ما ذكر في الجهاز النقدي كل ألوان الإهمال أو الهفوات الهينة لسقطات القلم، فلا يستبين ما إذا كان بازاء اختلاف قراءة أو مجرد مخالفة خطية أو قلمية تافهة ومفهومة. ولهذا فلسنا نتردد في اتهام أولئك الذين يلجئون إلى هذه الطريقة بالعجز عن فهم النصوص وقراءتها، أو بالتمويه على القارئ بوضع جهاز نقدي ضخم محشو بهذه الاختلافات المزعومة ليدخل في روعه أن الناشر قد بذل مجهوداً هائلاً. والحق أنه لم يبذل شيئاً أكثر من جهد النسخ والمسخ معاً، دون أن يبذل أي مجهود في الفهم وتدبي المقروء. ومع ذلك تراهم يصيحون ملء أشداقهم، وتصف ألسنتهم الكذب: إن هذا هو المنهج العلمي الصحيح! مع أن الأولى بهم أن يسموه: منهج الإحصاء الآلي العاجز.

ولكم رأينا في مقارنتنا لبعض النصوص التي نشرها هؤلاء (الناشرون) المزعومون بالأصول المخطوطة التي نشروا ما نشروا عنها أن ما ادعواه (تحريفاً) أو (اختلاف قراءة) لم يكن في الواقع إلا (سوء قراءة) من عيونهم وعقولهم)!!

أنظر إن عبد الرحمن بدوي هنا يشرح لك طريقته في نشر المخطوطات، ثم يتخذ من هذه الطريقة دستوراً يأمر الناشرون بأن يعملوا به، مرتدياً ثوب الأستاذية الموجهة وسالكاً نهج مالك الحزين، ذلك يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه. ترى هل يتقبل الدكتور بدوي هذه الكلمات الرائعة، هدية متواضعة؟! إنها كلماته هو، تلك التي وجهها إلى الناشرين الجهلاء.

ص: 37

واستمع إليه معجباً ومقدراً حين يقول: (ولكم رأينا في مقارنتنا لبعض النصوص التي نشرها هؤلاء الناشرون المزعومون بالأصول المخطوطة التي نشروا ما نشروا عنها، أن ما أدعوه تحريفاً أو اختلاف قراءة لم يكن في الواقع إلا (سوء قراءة) من عيونهم وعقولهم)!

لكم يهزنا هذا التعبير الأخير. حقاً أن بعض العيون تسيء القراءة وكذلك بعض العقول، ولكننا لم نر ولم نسمع أن عين ناشر أساءت القراءة كما إساءتها عين فيلسوف مصر الأول، وقل مثل ذلك عن عقله إذا كنت من المنصفين! هل رأيت في حياتك ناشراً هو في نفس الوقت أستاذ جامعي، يعجز عن قراءة فقرات كاملة في مخطوطة، فيحذفها من النص بكل بساطة ولو تعثر التعبير وأختل السياق؟! لقد فعل ذلك العلم الجليل السيد بدوي في (الإشارات الإلهية). . هل كانت الفقرات التي حذفها مطموسة أو ساقطة أو غير واضحة؟ كلا والله العظيم، ولكنه العجز المطلق والاستهانة بعقول الناس والعبث بالأمانة العلمية. . ومعنى هذا أن المسألة مسألة مزاج في إنطاق أبي حيان أو إسكات أبي حيان، ورعى الله الأمزجة النادرة عند بعض الأساتذة الجامعيين!!

لقد قلنا إن نشر هذا الكتاب بهذه الصورة فضيحة علمية، وهذا هو أول ركن من أركان الفضيحة. ولو اقتصرنا عليه لما أنقص ذلك من حقيقة الاتهام. . وليت الدكتور بدوي قد وقف بمواهبه عند هذا الذي قلناه، ولكنه مضى في طريقه غير هياب ولا وجل، تعبث عينه بقراءة الكلمات ويعبث عقله بتفسيرها في جرأة تذهل الإفهام! وتخرج من هذا كله بأن الحس اللغوي عند الناشر لا وجود له، وكذلك الذوق الفني الذي ينظر إلى موضع الكلمة من السياق حين ترجى سلامة التعبير واستقامة التفسير، وإليك بعض النماذج التي ننقلها بتعليقاتها عن صديقنا الكاتب المحقق الأستاذ سيد صقر، مع صادق التهنئة له وخالص التقدير:

(20 - ص22 (فلا العلم باختلاف الأحوال نافع، ولا الجهل به ضار، بلربماضر العلم، وربما نفع الجهل، وربما نبل بالحنط، وربما فات بالتأني، وربما بعد الداني، وربما قرب النائي. .)

قال الدكتور، وما أغرب ما قال: (نبل، لقط النبل، ثم دفعها إلى الرمي ليرمي بها من جديد

ص: 38

والحنط: النبل يرمي بها. والمعنى أنه ربما يلتقط النبل بالنبل، أي يداوي الداء بالداءنفسه).

ماذا أقول في نقد هذا الشرح العجاب؟ أقول إن مثل هذا الفهم هو الذي شحذ عزم أبي حيان على حرق كتبه بالنار وغسلها بالماء، وجعله يقول لمن لامه على صنيعه (فشق على أن أدعهالقوم يتلاعبون بها، ويندسون عرضي إذا نظروا فيها. . . وإن عيانى منهم في الحياة هو الذي حقق ظني بهم بعد الممات)!

وجاء من بعدك من يصحف عليك صحيح كلامك ويخبط في فهم معناه خبط عشواء، بل ولا يحسسن قراءته. جاء في النسخة المخطوطة:(وربما نيل بالخبط، وربما فات بالتأني. . .) أي وربما خبط الإنسان في ابتغاء مراده خبط عشواء فناله، وربما تأتي لنيله أشد التأني ففاته ولم يدركه.

ومن أعجب العجب أن ناسخ الكتابقد أحتاط، ووضح كرة ظاهرة تحت نون (نيل) حتى لا يخطئفي قراءتها إنسان، وصدق أبو حيان في عته الذي نتمثله فيمن نراهم بين ظهرانينا ممن نالوا بالخبط درجات العلماء!

20 -

ص36: (وسقيا للرسائل التي كانت تجري بيننا وبينكم، نعم ورعيا للوسائل التي كانت تترددعندنا وعندكم، والوشاة على خيبتها في الظفر بتأذيكم) قال الدكتور في تعليقه: (في الأصل بناويكم، أو صوابه: بناديكم)

ولا معنى هنا لظفر الرشاة (بتأذيكم) أو (بناريكم). . وبديهي أن صواب الأصل (والوشاة على خيتبها بناوبكم)!

23 -

ص35: يخاطب أبو حيان الإنسان المبتدع بالقدرة الإلهية المحفوفة بالنعم الملكية، ويطلب إليه أن يتأمل مواقع آياته فيه، ويستنطق شواهد آثاره عليه ويقول له:(أنظر بأي فضل خصك. . وأي ملك قلدك، وأي مشرب صفَّى لك، وبأي لطف حاشك، وبأي شيء سكَّر جاشك، وبأي صنع أزال استيحاشك ولأي أمر أعاشك) ثم يشرح أبو حيان ما ذكره، فيقول:(قلدك ملكاً هو نهاية آمالك، وصفى لك مشرباً متى كرعت منه لم تظمأ بعده، وحاشك بلطف هو الذي جعلك مغبوطاً في حالك، وسكر حاشك بشيء هو الذيأنالك مرادك، وأزال أستيحاشك بصنع أدركت به كل آمالك. .)

ومن العجيب حقاً أن يقول الدكتور في شرح قول ابي حيان (وبأي لطف حاشك، وبأي

ص: 39

شيء سكر جاشك): (حاشك هنا بمعنى اصادك، وسكره بتشديد الكاف تسكيراً: أي خنقه. والجأش: نفس الإنسان)!!. . وأي عجب أعجب وأغرب من أن يقول أبو حيان للإنسان الذي يذكره بنعم الله عليه: أنظر كيف خصك بالفضل فاصطادك وخنق نفسك (بشيء هو الذي أنالك مرادك)!!

وصواب قول أبي حيان (وبأي شيء سكن جاشك) و (سكن جاشك بشيء هو الذي أنالك مرادك). . ولا ريب في أن (سكون النفس) من أنعم الله الخليقة بالتدبر، الجديرة بالتأمل. وأما (اصطياد النفس وخنقها) فمصيبة كبرى، ولعل في حشره بين أنعم الله التي حف بها عباده سراً فلسفياً دفيناً يدق على الإفهام، وتقصر عنه المدارك والعقول!!

12 -

ص2: يقول أبو حيان. (يا هذا إن كنت ثاكلاً فخ على ما أصبت به، وأن كنت مكروباً بالسر فبُح)

أخطأ الدكتور في ضبط هاتين الكلمتين كما أخطأ في شرح المعنى، إذ يقول (أي ألق على مصابك)!!! والصواب فنُحْ على ما أصابك به)، ويؤيده قول أبي حيان في ص113 (ونح على نفسك نوح الثكول). وهذا هو البيان الصريح واللفظ الصحيح كما قال أبو حيان في ص294، فمن أخطأه فليقرأ تمام كلامه في الصفحة نفسها، فإنه يقول: فأطلْ البكاء، وأجد اللطم، وتجرع مرارة الكأس، المترعة بالجسر واليأس. وليت البكاء نفعك! وليت النوح أجدى عليك! وليت الحسرة أفادتك! وليت الندامة نفعتك! هيهات! فت فوتاً لا درك بعده، وبدت بيوداً لا عود معه، والعثرة غير مقالة، والمحنة غير مزالة، والحال غير محالة. . .)

1 -

ص17: يقول أبو حيان مخاطباً أحبابه: (فارعوا ذمام خدمتي لكم، وحافظوا على ما تحملت فيكم، فقد شربت العلقم في هواكم، وأدريتْ العدى تحملاً لكم، ولزمت الصمت حتى نسيت الكلام، واعتزاز حتى قيل هو من الوحش، وغضضت الطرف حتى قيل هو من العميان)

قال الدكتور عبد الرحمن بدوي في شرحه (الكلام هنا بمعنى علم الكلام، والقرينة في قوله: اعتزلت، أي صرت من أهل الاعتزال أو المعتزلة، واعتزلت بعدها بمعنى توحدت وانفردت)

هذا شرح مضحك حقاً؛ فإن أبا حيان لم يرد بالكلام إلا معناه المعروف للعامة والخاصة.

ص: 40

ولست أدري كيف فهم الدكتور أن أبا حيان في (علم الكلام) لما لزم الصمت. وما العلاقة العجيبة بين هذا الصمت وعلم الكلام؟! وكيف تكون (اعتزلت) بمعنى توحدت وانفردت، قرينة على أن المراد بالكلام (علم الكلام) وما الصلة بين التوحد والانفراد وبين مذهب الاعتزال؟ لست أدري. . ولعل هناك صلة فلسفية لا يدركها إلا عقل فيلسوف!

3 -

ص231 (نعم يا سيدي إن الحديث من الفَريّ) أخطأ الدكتور في ضبط كلمة (الفري) ونقطها وشرحها وقال (الفري كغنى، يقال هو يفري الفري: أي يأتي بالعجب في عمله)!

والصواب: (إن الحديث من القِرَى) وهو تعبير مشهور متداول في كتب الأدب، قال الشاعر:

لحافي لحاف الضيف والبيت بيته

ولم يلهني عنه غزال مقنع

أحدثه إن الحديث من القري

وتعلم نفسي أنه سوف يهجع

راجع حماسة أبي تمام 4 - 244، وقال آخر:

ورب نضو طرق الحي سرى

صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى

إن الحديث جانب من القرى

وأظن أن قرى الأضياف بين لا يحتاج إلى شرح نظري!

5 -

ص348، 349: يقول أبو حيان في الحديث عن قصر العمر: (مما لبثنا في هذه البلدة الوبيئة الحرجة إلا. . . كحلم النائم في الليل، أو كظل قد أخذ في النقصان، أو كالَّنقابة من مول، أو كتوهم من النفس، أو كلمح البصر أو هو أقرب)

قال الدكتور: (النقابة بفتح النون: مصدر نقب على القوم من بابي علم وكرم: صار نقيباً عليهم، أو النقابة بالكسر: الاسم، وبالفتح المصدر)!!!

ويبدو أن الدكتور لم يحسن قراءة الكلمة في المخطوطة. فأخطأ في نقلها وشكلها وشرحها خطأ بعد بها عن المعنى. . والصواب: (أو كالِتفَاتةٍ من مول) فإن قصر الالتفانة من الذاهب المولي المتلفت إلى ما وراءه، هو المناسب للمح البصر وما قبله من تشبيهات، وما قصر مدة نقابة النقيب فشيء غير معروف ولا معنى له، (معذرة يا أستاذ صقر، فهو معروف في نقابة المحامين والصحفيين!!)، ولست أدري كيف استساغ الدكتور قرنها بحلم النائم ولمح البصر في مضمار التشبيه!

ص: 41

10 -

ص4: يقول أبو حيان: (وإن جنحت إلى التواني، وذهبت في آفاق الأماني، لم ترث من حالك إلا حسرة ولم تمضغ بفمك إلا جمرة، يا هذا خفض أسى عما ساءك طلابه:

(ما كل شائم بارق يسقاه)

حسب الدكتور أن هذا النص كله وليس فيه من الشعر إلا الشطر الذي أفرده في سطر وحده، وليس الأمر كما حسب؛ فإن آخر نثر أبي حيان كلمة (يا هذا)، وما بعدها بيت من الشعر تمثل به وهو:

خفض أسي عما شآك طلابه

ما كل شائم بارق يسقاه

فساءك محرفة عن (شاك)، والبيت للبحتري كما في ديوانه 2 - 323 وقبله:

والشيء تمنعه يكون بفوته

أجدى من الشيء الذي تعطاه

(معذرة مرة أخرى يا أستاذ صقر، لان الدكتور بدوي لا يحفظ من الشعر إلا أجدره بالخلود. . أعني شعر ديوانه الخالد مرآة نفسي)!!

هذه هي بعض النماذج ننقلها إليك كما قلنا من المقالين اللذين كتبهما الأستاذ صقر، وكشف فيهما عن منزلة التحقيق العلمي في (الإشارات الإلهية). . ومع ذلك يقول فيلسوف مصر الأول في كلمته التي اقتطفناها من كتابه الآخر (أرسطو عند العرب) يقول في جرأة يحسده عليها الناشرون المزعومون:(والمنهج الذي نتبعه في النشر منهج بسيط، وبقدر ما هو بسيط هو خصب دقيق معاً: وهو أن نجيد قراءة المخطوط عن تدبر وحسن فهم)!

ألم نقل لك ترفق برئتيك أن كنت من أصحاب الصدور الضعيفة، قبل أن تطلقها ضحكة تملأ الفضاء العريض؟! ألم نقل لك أن نجيب الريحاني الذي كان نابغة عصره في إضحاك الناس لم يمت، لأن عبد الرحمان بدوي قد ملأ مكانه بجداره؟! إذا كنت في شك من هذا فارجع إلى النماذج السابقة التي تعرض لها الأستاذ صقر، ثم قف طويلاً عند هذا النموذج الذي لم يتعرض له بعد، لأننا نقدمه إليك على أنه (نكتة الموسم) تنتزع الضحك انتزاعاً من أفواه الثاكلين:

أفتح الصفحة السادسة والأربعين بعد المائة من كتاب (الإشارات الإلهية)، وأقرأ في نهايتها قول أبي حيان المفتري عليه (فقد جمدت العيون فما تدمع، وتكبرت القلوب فما تخشع، وكلبت البطون فما تشبع، وغلبت الشقوق فما تنزع. . . يا هذا، أننا نتنفس بهذه الكلمات

ص: 42

كما يتنفس المملوق)

قال العالم الجليل السيد عبد الرحمن بدوي في شرح كلمة المملوق: (إما أن يكون من ملق (من باب نصر) فلاناً بالعصا: أي ضربه، ويكون المعنى هو: المضروب؛ وإما - وهذا هو الأرجح هنا - من قولهم فرس مملوق الذَّكَر: حديث عهد بالنزاء)!!!

صدقني إذا قلت لك عن عبد الرحمن بدوي إنني أشك في سلامة عقله. . أشك في سلامة عقله ولا يمكنني أن أشك في سلامة عقل أبي حيان، لأن أبا حيان ليس مجنوناً حتى يقول للناس إنه يتنفس بهذا الكلام كما يتنفس ذكر الفرس عقب لحظة من لحظات النزاء. . هل عند نجيب الريحاني نكتة تستطيع أن تقف على قدميها لتنافس نكتة الدكتور عبد الرحمن بدوي؟! لا أظن. . ولا أحسب أن في هذه الملمات شيئاً من المغالاة!

هل انتهيت؟ كلا. . فما زالت أمامي المقدمة التي كتبها الدكتور بدوي وضم فيها أبا حيان إلى زمرة الأدباء الموجودين! وحين ينتهي الأستاذ صقر من سلسلة مقالاته، سنبدأ نحن سلسلة مقالاتنا حيث نطالب بعدها بحرق هذا الكتاب، وما أكثر ما يملك الدكتور بدوي من كتب تستحق الحرق بالنار بعد الغسل بالبنزين!!

أنور المعداوي

ص: 43

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

رسائل الرافعي:

في سنة 1912 كان الأستاذ محمود أبو رية أديباً ناشئاً، وقد أعجب بالأديب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، فاتصل به عن طريق المراسلة، حتى نمت العلاقة بينهما وصارت صداقة ومودة. كان أبو رية يكتب إلى الرافعي يسأله عن كثير من شؤون الأدب ومسائله، فيجيبه برسائل تحتوي على كثير من الآراء واللمحات إيجاز تقتضيه طبيعة الرسائل الخاصة، وكان الرافعي يرسل نفسه على سجيتها في هذه الرسائل لا يكاد يخفي شيئاً من نوازعه وخواطره.

وقد ظفر الأدب من تلك المراسلة بهذا الكتاب (رسائل الرافعي) الذي أصدره أخيراً الأستاذ محمود أبو رية، مشتملاً على 218 رسالة انتقاها من بين ما كتب إليه الرافعي (لما فيها من فوائد جليلة للأدب والمتأدبين يله ما تحتوي عليه من تفصيل شامل لتاريخه الأدبي وغير الأدبي) كما قال في مقدمة الكتاب. وقد عنون لها بما يدل على أهم ما فيها، ورتبها ترتيباً زمنياً، يبدأ من سنة 1912 إلى سنة 1934، فجاءت (فلما) يعرض أطرافها من حياة الرجل الشخصية والأدبية وملامح من تيارات الحركة الأدبية في مصر طيلة تلك الفترة ممن الزمن. والقيمة الكبرى لهذه الرسائل هي أنها تصوير صادق لنفسية الرافعي ودوافعه الأدبية، وفيها إلى جانب ذلك تلك الفوائد الأدبية التي أشار إليها الأستاذ أبو رية، وفيها أيضاً إشارات كثيرة إلى ما كان بين الأدباء في ذلك الزمان من مجاذبات يلونها الرافعي بعاطفته الخاصة، إذ كان يقف من أكثر أدباء الجيل موقف المخاصم المنافح، وقد أحسن الأستاذ أبو رية بحذف بعض العبارات القاسية التي وصف وعبر بها عن أولئك الأدباء، والاكتفاء بالخفيف المقبول منها. وفي الرسائل كلها روح لطيف ممتع، هو روح الطبيعة المطلقة غير المتحرجة، إذ أن كاتبها لم يكن يقدر - ولا شك - أنها ستنشر على الناس.

في هذا الكتاب يبدو الرافعي (وراء الكواليس) كما يعبرون بلغة المسرح. . فهو يحدث أبا رية عن مؤلفاته ومقالاته، لم كتب هذا أو ذاك، وما وقعه، ومتى يكتب مقال كذا أو يشرع في تأليف كذا، ويحدثه مع ذلك عن آلامه وأمراضه ومنها ما ناله بسبب الكتابة. . . إلى

ص: 44

آخر هذه الملابسات. ومما يستشفه القارئ من هذه الرسائل، اعتزاز الرافعي بأدبه اعتزازاً يبلغ به درجة الغرور، ومحبته السافرة للتقريظ وأثناء؛ فهو يرى أنه - وحده - أديب الزمان، وسائر ما يكتبه الأدباء (تدجيل صحفي) لم يكد يسلم من تجريحه أحد من أعلام الأدب في عصره، وهو يحدث أبا رية عن حملاته الأدبية وكيف أنها نسفت من نازلهم أو أنه سيكتب عن فلان ما لن تقوم له بعده قائمة، ويتمنى أن يتفرغ للنقد نحو سنتين أو ثلاث ليهدم العصر كله من جميع نواحيه الضعيفة ويبني عليه أدباً جديداً، ولقد كان ذلك رأيه في الوقت الذي بلغ فيه الأدب المصري الحديث أعلى ما بلغه من القوة والازدهار، ولقد كتب هو في النقد فكانت كتابته أقرب إلى الشتم والهجاء وخاصةً ما كان يسميه (السفافيد) التي كان يشري عليها من يمزق لحومهم:

وهكذا نرى الرافعي في هذه الرسائل يعد نفسه فارس الحلبة، ويرى أنه وحده الواقف في الميدان، وهو يصرح بذلك في هذه الرسائل الخاصة، وكان حياؤه ولباقته وفطنته تمنعه من هذا الادعاء في أدبه العام. ولعل ذلك راجع إلى ما كان يراه من تقدير الناس لغيره أكثر منه، فهو يحاول أن يعوض هذا النقص بلسانه في الخفاء، وإن لم ينقل به في العلن:

وهو يحب الثناء ويطلبه، يطلب من أبا رية أن يكتب عن كتبه في الصحف، ويسر كل السرور من تقريظ المقرظين، بل هو يجعل الثناء عليه مقياساً لقيمة المثنى. وهو لا يرى أدبه أحسن من الأدب المصري الحديث فقط، بل يفضل بعض كتبه ومقالاته على ما كتب الأقدمون، وعلى ما كتب كتاب الغرب مثل برجسون وشكسبير ولا مرتين.

وبعد فقد أحسن الأستاذ محمود أبو رية بإخراج هذا الكتاب القيم الممتع الذي إضافة له لوناً طريفاً إلى كتب الأدب.

ضبط الكتابة العربية:

ألقى الأستاذ محمود تيمور بك محاضرة في (ضبط الكتابة العربية) بإحدى جلسات مؤتمر المجمع اللغوي الماضية، وقد بسط فيها المصاعب التي تعترض ضبط الكتابة العربية على صورتها الحالية، مما يؤدي إلى الخطأ في نطق الكلمات وتعذر القراءة الصحيحة، لا على عامة المتعلمين فقط، بل إن المختصين في اللغة لا يستطيعون الضبط التام إلا باطراد اليقظة ومتابعة الملاحظة ومزيد التأني.

ص: 45

وبعد أن جال الأستاذ تيمور بك في نواحي هذه المشكلة، عرج على ما أقترح لها من حلول فبين عدم صلاحها، وخاصة أنها إما تباعد بين الشكل القديم المألوف والوضع المقترح أو تثقل العمل المطبعي وتعقده، ذاهباً إلى أن الإجراء الذي يمكن أن نكفل له قبول الأمة العربية في جملتها، هو أن يكون لمشكلة الكتابة العربية حل لا تتغير به الحروف القائمة ولا تتنكر معه صورتها المألوفة.

ثم أبدى الأستاذ ما يقترح من حل، قائلاً: أرى أن نقتصر من صورة واحدة، من الصور المتعددة التي منها المفرد ومنها ما يقبل الاتصال بحسب أول الكلمة ووسطها وآخرها وبحسب وقوع الحروف في بنية الكلمة المركب بعضها فوق بعض، وأن نتخذ علامات الضبط المتعارف التي يجري بها الاستعمال، وأقترح أن تكون الصورة التي تقتصر عليها من صور الحروف هي الصورة التي تقبل الاتصال من بدء الكلمات، وهي التي يسميها أهل فن الطباعة: حروفاً (من الأول)، على أن تختار الكاف المبسوطة وتظل حروف الألف والدال والذال والراء والزاي والواو والتاء المربوطة واللام ألف - باقية على صورتها في حالت إفرادها.

وقدم الأستاذ مثالاً للطريقة التي يقترحها، منه ما يلي:

(أريد أن نقتصر من صور الحروف عليه بصورة واحدة).

ويرى قراء الرسالة هذا البحث القيم منشوراً في هذا العدد والذي قبله. وقد التقيت بالأستاذ تيمور بك وحدثته في أمر هذه الطريقة من حيث ما يلقاه الذين اعتادوا الكتابة الحالية من مصاعب في الكتابة الجديدة، فقال إن هذه الطريقة خاصة بالمطبعة، أما الكتابة باليد فتظل على حالها، أسوة بما يجري في اللغات الأوربية.

ولكن ألاحظ أن الكتابة الأوربية اليدوية تشتمل على حروف الضبط كما تشتمل عليها الكتابة المطبعية، بخلاف ما تكون عليه الحال في الكتابة العربية المقترحة، فيكون الشبه من حيث الشبك وعدمه فقط.

ورأى أن أهم اعتراض يوجه إلى تلك الطريقة، أن عمال الصف في المطبعة لن يستطيعوا صف الكلمات مشكلة وهي مكتوبة لهم مهملة، فإذا كلفنا الكاتبين المطبعين أن يشكلوا لقوا في ذلك جهداً وعنتاً، ولا يخفى مع هذا أن أكثرهم لا يعرفون ضبط كثير من كلمات اللغة،

ص: 46

وكم يستر عدم الشكل من جهل!

مسرحية الجلف ومريض الوهم.

جالت (فرقة المسرح المصري الحديث) جولتها الأولى على مسرح الأوبرا الملكية في شهر نوفمبر الماضي، إذ قدمت مسرحيتي (أبن جلا) لتيمور و (البخيل) لموليبر، وقد حدثت القراء عنهما في ذلك الوقت. وهاهي ذي تبدأ جولتها الثانية على مسرح الأزبكية، لتقدم في حفلة واحدة مسرحيتي (الجلف) لتشيكوف و (مريض الوهم) لموليير، وهما من إخراج الأستاذ زكي طليمات وقد بدأت يوم السبت الماضي.

قدمت أولاً (الجلف) وهي تمثيلية قصيرة تستغرق نحو خمسين دقيقة، تظهر في منظر واحد تبدو به السيدة الشابة (بوبوف) في ثياب الحداد على زوجها المتوفى منذ سبعة أشهر، وهي على رغم ذلك تبكي وتنشج حزناً عليه، وهذا أيضاً على رغم أنه كان يخونها ويهملها أحياناً، كما تقول في مناجاة صورته. ويقتحم عليها هذه العزلة رجل ثائر يطالبها بدين كان له على زوجها، وهو يستعمل في مطالبته العنف وعدم المبالاة بما يحسن في مخاطبة النساء، بل ينهال عليها وعلى جنس النساء شتماً وتقريعا، كل ذلك لأن يريد دينه اليوم وهي تستمهله إلى بعد غد. وتنشب بينهما مشادة يدعوها فيها إلى المبارزة. . أليس (جلفاً)؟

ويأخذ تشيكوف (مؤلف المسرحية) في معالجة الموقف بحيث يجعل الميل والاستلطاف يداخلها فيجتاز بهما البرزخ الدقيق الذي بين الكره والحب. . فينطقان بعبارات الثورة والغضب وهما يشعران بالحب، فلا ينزل الستار عليهما إلا حبيبين.

فالصراع في المسرحية بين حالتين لدى كل من الجلف والسيدة بوبوف، فالأول جرب النساء وأقتنع أنهن لا يستحققن الاهتمام، ولكنه يجد نفسه أمام امرأة تغزو قلبه من جديد؛ والأرمل المتغالية في الحداد على زوجها وقد اعتزلت الناس لا تستطيع مقاومة هذا المقتحم الجبار، ويخيل إلى أن المؤلف فتح لها الباب إلى هذا الحب الجديد بأن زوجها كان يخونها ويهملها.

ومما تبطنته المسرحية، الالتفات إلى ما تطالب به المرأة من مساواة الرجل، فلتكن المبارزة من قليل المساواة التي تطلبها: كما يقول الجلف مبرراً خشونته وقسوته.

وقد قامت ملك الجمل بدور السيدة بوبوف، فاثبتت قدرتها على تمثيل العواطف الدقيقة،

ص: 47

وقام محمد السبع بدور الجلف فأجاد، وأظهر ما في إجادته أنه كان يبرز الانتقالات المختلفة في الموقف الواحد بتعبير الإلقاء والحركة. ومثل احمد الجزيري (لوكا) الخادم العجوز فقام به على وجه لا بأس به.

ثم قدمت بعد ذلك مسرحية (مريض الوهم) فاستغرقت بقية الوقت ومريض الوهم هو السيد (ارجان) الذي يعتقد أنه مريض وأن (حياة له بغير الطب والأطباء، على حين يبدو في غاية الصحة والعافية. وهو لذلك يريد أن يعقد الأواصر بينه وبين الأطباء كي يولوه عنايتهم، ويصل به الأمر إلى أن يحاول التضحية بسعادة أبنته (انجليكا) إذ يريد أن يزوجها بالطبيب (توما) غير عابئ بحبها للشاب (كليانت) الذي أغرمت به وأغرم بها. وتظهر مع مريض الوهم الخادمة (توانيت) التي تعنى به، وهذه الخادمة تقف على دخائل هذه الأسرة وخاصة موقف السيدة (بلينا) من زوجها مريض الوهم الذي تخدعه بإظهار الحب له والعناية به وتتحايل على استلاب ماله والتخلص من ابنتيه إذ تشير عليه بإدخالهما الدير. وتعمل الخادمة (توانيت) على إصلاح هذه الأسرة فتحل مشاكل أفرادها بتدبيرها الموفق، فتظل تساير الرجل في ميوله وتسخر منه أحياناً. ويأتي غليه أخوه (بيرالدو) الذي يخالفه في الفقه بالأطباء، فينتقد مسلكه ويحمل على الأطباء ويؤكد له أنه في صحة جيدة، ومما يدل على أنه في غاية الصحة أن أدوية الأطباء لم تؤثر فيه ولم تقض عليه إلى الآن: وتعمل (توانيت) على ذلك أيضاً من ناحية أخرى وبأسلوبها الخاص من حيث الاحتيال وتدبير المفاجآت. وينتهي الأمر بأن يقتنع السيد أرجان أنه يستطيع هو أن يكون طبيباً. ولا يكلفه ذلك إلا أن يلبس المعطف والقبعة ويحفظ بعض الأسماء اللاتينية وينطقها كما ينطق بها هؤلاء الأطباء الذين لا يفضلونه ولا يزيدون عنه علماً.

تصور المسرحية - إلى جانب تحليل نفسية مريض الوهم - دجل الطب وشعوذة الأطباء في عصر موليير قبل التقدم العلمي في العصر الحديث. وقد قدم نماذج عجيبة من الأطباء وسخر بهم وأضحك منهم. ولا بد أن كان لهذه المسرحية في وقتها وقع عظيم لأنها تعالج ناحية كانت ظاهرة في ذلك العصر، ومع أن تلك الظاهرة غير موجودة الآن فإن البراعة في تصوير الشخصيات، وتكرر شخصية مريض الوهم في العصور المختلفة، وسياق المآسي الإنسانية في أغلفة الفكاهة - كل ذلك يكسبها جدة وقوة في كل وقت.

ص: 48

وقد مثل مريض الوهم عدلي كاسب، وكان ملائماً للدور كل الملاءمة، فأندمج فيه. ومثلت الخادمة (توانيت) سناء جميل وهي فتاة تمتاز بالحيوية والقوة في تمثيلها. ومثل (كليانت) صلاح سرحان فكان قوياً في موقفه وقد استطاع بقوته الجدية التي يتطلبها موقفه أن يثبت بجانب الشخصيات الفكاهية الطاغية، مثل سعيد أبو بكر الذي مثل (توما) والذي فجر الضحك من أعماق الجمهور، ومثل أحمد الجزيري الذي مثل الطبيب الأكبر والد (توما) وقد كان الجزيري هنا أحسن منه في مسرحية (الجلف) واستطاع عبد الغني قمر أن يفني في شخصية المسجل العجيبة رغم ما فيها من تعقد والتواء. وقامت زهرة العلى بدور (انجليكا) فكانت معبرة في مواقفها المختلفة وقد تحسن إشباعها للنطق العربي عن ذي قبل وقامت سميحة أيوب بدور الزوجة المخادعة الناعمة، وأعتقد أن الدور كان يتطلب منها أكثر مما بذلت. وقام محمد السبع بدور أخي مريض الوهم، فلم يحسن فيه بمقدار ما أحسن في دور (الجلف) مع أنه كان يتحدث عن آراء موليير في الطب والأطباء، فلم يف تمثيله بأهمية الدور.

وجهد الإخراج في هاتين المسرحيتين يتجلى في الممثلين والممثلات أنفسهم، فإن الأستاذ زكي طليمات يخرجهم كما يخرج الرواية، وقد أحسن تنسيقهم على المسرح، واجتهد في تحسين المناظر وتجديد الأثاث البالي الذي عرف به مسرح حديقة الأزبكية. ولكني لاحظت أشياء صغيرة في منظر مسرحية (الجلف) فهناك مكتب أعتقد أن في (سوق العتبة) ما هو خير منه. . وإطار مرآة يحيط بغير مرآة. . . ومع ذلك فقد كان البطلان ينظران فيه. . وقد أمسكت السيدة بحبل معلق بجدار الغرفة لتستدعي الخادم والمفروض أن الحبل متصل بجرس في الداخل ولكن لم يسمع أي صوت لهذا الجرس.

ولا يستطيع القلم أن يمسك عن الكتابة قبل أن يزجى التحية إلى هذه الفرقة التي أنستنا أنها ناشئة، وقبل أن أبدى الإعجاب بهذه الروح التي تشيع فيها فتجعل كل فرد منها يعمل لإنجاح الجميع، وقبل أن أعرب عن سروري ببدء. حياة جديدة للمسرح المصري.

عباس خضر

ص: 49

‌البريد الأدبي

رداً على رد:

في عدد سابق من الرسالة الغراء كنت كتبت في (البريد الأدبي) كلمة حول مقال للأستاذ الخطيب الطبيب حامد الغوابي في صدد كلامه على الخمر وقصر العمر وإحصائيات شركات التأمين على الحياة. . وقلت فيها إن العمر لا يقصر بشرب الخمر مستشهداً بقوله تعالى (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً). وقد تفضلت (الرسالة) فأوجزت ردها البليغ باستشهادها بقول الله تعالى: (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) وكنت ارتحت إلى رد الرسالة ولم أشأ التعقيب عليه لأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ولكن الأستاذ الدكتور الغوابي يتفضل بعد أن تفضلت الرسالة فيعلق على ما كتبته وما كتبته الرسالة زيادة منه في الإيضاح والإفصاح. . ونحن نشكر للأستاذ تفضله الجميل النبيل، ولكنا نختلف معه في قليل مما كتب وبه عقب؛ نختلف معه في أن شارب الخمر قد يطول عمره على شارب الحديد والكينا وأنواع الأدوية والعقاقير. . وقد يولد التوءمان فيشرب أحدهما الخمر من شبابه إلى مشيبه ويزهد الآخر فيها، ومع هذا يطول عمر الشارب ويقصر عمر الزاهد فيموت هذا ليمتد العمر بذاك ليشرب ويشرب سنين وسنين. .!

وقد يدهس (الترام) - كحد قول الدكتور - رجلين: شارب خمر وزاهداً فيها فيموت الزاهد وينجو الشارب. .

وقد يلقى مهووسان أرعنان بنفسيهما من حالق أو شاهق فيموت القوي والضعيف لا يموت. .

وقد يمتد العمر بالعليل الهزيل ولا يمتد بالقوي الصحيح لسبب ظاهر أو لآخر يعلمه الله. . وقد. وقد.

وإذاً فمن الواجب على الكاتب أو الباحث أو الطبيب ألا يخلط بين (العمر) و (الصحة)، وبين القضاء والدواء. فالدواء لا يمد في العمر إذا حل القضاء وإنما يخفف من وطأة الألم والدواء بإذن الله والأجل إذا حل معه الموت والوحي بالرغم من كل داء ودواء. .

ص: 50

والله سبحانه وتعالى حين حرم الخمر في كتابه المنزل بين أن (إثمها) أكبر من (نفعها) ولم يحرمها لأنها تقصر العمر فلا يطول. .

والخمر في الجاهلية الأولى معروف أمرها بين القوم، ومن الجاهلين الشاربين من امتد به العمر حتى ذرف على المائة أو المائتين فمد في المعمرين. وفي الجاهلية الآخرة - أعني في هذا العصر الحديث - نجد مصادقة ذلك بين من نعرف ومن لا نعرف من الناس.

ويبقى بعد هذا أن أتوجه بسؤال آخر ينتظر الجواب: لنفرض أن مخموراً أو مصدوماً توفاه الله، فهل وفاه الأجل لأنه شرب أو صدم، أو هل شرب أو صدم لأن الأجل وفاه؟

وبعد: فالجواب الصحيح على سؤالنا هذا هو بعينه الجواب الصحيح على سؤالنا ذاك.

الزيتون

عدنان

حول محاضرة الدكتور ناجي

طالعتنا مجلةالرسالة بتعليق موجز على محاضرة الدكتور إبراهيم ناجي عن (الشعر العربي المعاصر)، وقد كنت أحد الذين استمعوا إلى المحاضرة. ولا بد أن أشهد أن التعليق الذي نشرته (الرسالة) لم يحاول أن يكون منصفاً.

مثال ذلك أن يرجع حضرة الأستاذ المعقب إلى عبارات التفكه التي وردت في المحاضرة على أنها أقوال جدية، كقول الدكتور ناجي إن لم يوجد شاعر تافه إلا لقي في الرسالة باباً مفتوحاً لشعره، ثم حاول التعليق أن يسخر من المحاضر، فيقول إن ناجي يعزي نفسه بأن الناس لم تحفل بشعره - لأن أكثر الشعراء الخالدين لم يفهموا في عصرهم. والواقع أن ناجي لم يذكر ذلك إلا في معرض الحديث عن الشاعر السوداني ميشيل يوسف التيجاني، وهو شاعر غير معروف، تنبأ له المحاضر بالشهرة في المستقبل، أما ناجي نفسه فلا أحسب أن عنده شعوراً بالنقص من هذه الناحية فقد خرج شعره عن آفاق مصر إلى حيث ترجمه المستشرقون.

ويقول الأستاذ المعقب في سخرية، إن شوقي سقط أمام ناجي! وما الذي يمنع؟ هل تقفون النجاح على الشاعر أم على الشعر نفسه؟؟

ص: 51

ثم تفتخر (الرسالة) بأنها لم تلتفت إلى (ليالي القاهرة) فهل تريد الرسالة، وهي الصحيفة الأدبية الأولى في البلاد - أن تفتخر بإهمالها لديوان شاعر - مهما كان رأيها في هذا الشاعر؟؟ وهل هذه هي سمات محي الفن، وأبنائه؟

وإذا كانت هاك ثمة (عقد) بين الرسالة وبين الدكتور ناجي فإني آمل أن تحل هذا العقد، وتتلاشى، على الأقل حين تكون في مجال النقد الأدبي المتزن الذي تفيد منه النهضة الأدبية في البلاد.

حلمي حنا مقار

رجاء إلى معالي الدكتور طه حسين باشا

هذه قضية عاجلة نتقدم بها إلى معالي الوزير راجين أن تحظى لديه بالقبول

إن أبناء كلية اللغة العربية حريصون أشد الحرص على التحاقهم بالدراسات العليا بجامعة فؤاد، ولقد حفزهم إلى ذلك شغف بالعلم وكلف به. فليسمح لهم أبن الجامعة البكر أن يتقدموا إليه بهذا الرجاء. إذ ليس من سياسته أن يحرم من العلم راغب فيه وهو الذي جعل العلم حقاً للجميع كالماء والشمس والهواء. والجامعة المصرية يا معالي الباشا أسست ليلتحق بها المصريون وغيرهم كما جاء في خطاب المغفور له جلالة الملك فؤاد (أنني أبتهل إليه تعالى أن يجعل هذه الجامعة نافعة لطلاب العلم عموماً، ولشبيبتها المصرية خصوصاً، إذ أننا لم نقدم على هذا المشروع الجسيم ولم نسهر الليالي بسببه إلا لترقية هذه الشبيبة التي لا يكفيها امتيازها بالذكاء والنشاط والاجتهاد. بل نرى أن يتحتم عليها أيضاً أن تتحلى بفضيلتي الصبر والاستمرار لأنهما سر النجاح) فليس عجيباً بعد ذلك أن يتقدم أبناء كلية اللغة العربية إلى معاليك بهذه الأمنية وأنت الذي رأى أنه من الخير أن يسمح للأزهريين بالالتحاق بكلية الآداب بل نفذت هذه الفكرة فعلاً في وقت ما أفلا يجدر بنا أن نطمع في تحقيق أمنيتنا في هذه الآونة التي احتفلت فيها مصر بالعيد الفضي لجامعة فؤاد. ذلك فضل عظيم يضم إلى أفضالك التي لا تحصى.

يا معالي الباشا: نريد أن نحلق في هذه الآفاق الرحيبة. نريد أن نلتحق بالدراسات العليا في كلية الآداب ما دمنا مصريين نحمل مؤهلات عالية.

ص: 52

رغبة ثانية وهي شقيق الأولى وهي أن يتكرم معالي الباشا فيجعل لنا الحق في الالتحاق بمعهد اللغات الشرقية ما دمنا متساوين مع كلية دار العلوم في اللغات الشرقية.

رغبتان أكيدتان نرجو أن يتقبلهما صدر الوزير. ولن يتنافى ذلك مع ما يهمسون به من إعادة تخصصات المادة إذ أن أبناء كلية اللغة العربية يريدون أن يكون لهم الحق في الدراسات العليا في جامعة فؤاد حيث البحث المنتج وحرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال؛ لأن ذلك هو أساس التعليم الجامعي وليس الحفظ والتصديق لكل ما يقال كما يسجل معالي السيد لطفي باشا في مقال له. فمن أراد من أبناء كلية اللغة أن يلتحق بتخصص المادة كان له ما أراد، ومن أراد أن يتوجه إلى الدراسات العليا في كلية الآداب وجد الطريق ممهداً أمامه، وأخيراً: نأمل أن يعجل معالي الباشا بتحقيق هاتين الرغبتين.

عز عمر

أين المراجع:

قرأت المقال الممتع الذي كتبه زميلي الأستاذ محمود رجب البيومي تحت عنوان: أديب يتعاظم.

وقد لاحظت أن صديقي الفاضل قد وعد القراء في مقدمة حديثه بذكر المراجع التي أعتمد عليها ليبراْ من التقول أمام الأستاذ محمد كرد علي - ومن العجيب أني بحثت متعمداً عن هذه المراجع في هوامش الرسالة، وفي خاتمة المقال فلم أجد لها ظلا. فهل نسى الكتاب وعده أم احسن الظن بجميع القراء. وهم في بعض حالاتهم لا يفطنون إلى مراجعه الدفينة في حفائر المكاتب

فلعل الأستاذ يسمح بذكرها للقراء براً بوعده.

محمد خالد حنفي

ص: 53