المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 92 - بتاريخ: 08 - 04 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ٩٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 92

- بتاريخ: 08 - 04 - 1935

ص: -1

‌على ذكر كتاب.

. .

في مصر من الباشوات المثقفين فئة كثيرة، تميزوا عن الأشباه لأنهم مهروا في أداء العمل، أو وقعوا في طريق الفرص، أو رقوا في معارج السياسة؛ ثم تهيأت لهم بالدراسة والممارسة أسباب العمل والخبرة، فخبروا أسرار الأمور، وسبروا أغوار المشاكل، وصرفوا شؤون الدولة على نحو من الحكرة المفروضة؛ فهم لا يبرحون ضاربين في الميدان الحكومي فرقه فرقة، يتقاذفون الإدارة، ويتنازعون الوزارة، ويتداولون الأمر، حتى أسرفوا على خير الأمة، وافتاتوا على رأي الجماعة، فقصروا كفايتهم على الخصومة، وحددوا غايتهم بالحكومة؛ فهم إذا وثبوا إلى الحكم استفرغوا الوسع في البقاء فيه، وإذا انقلبوا عنه استنفذوا الوسائل في الرجوع إليه؛ أما تسجيل التجربة بالتأليف، ونشر المعرفة بالصحافة، وتأييد العدالة بالمحاماة، فعمل لا يدخل في حساب الجهد، ولا يخطر في مرام النية! كأن العودة إلى ملابسة الشعب، ومداخلة العامة، ومزاولة الحرفة، أصبحت لا تتفق مع نباهة الاسم ولا تتسق مع جلالة اللقب، ولا تجري على تقاليد المنصب!

في البلاد التي نطيل إليها النظر، ونزعم لها الكمال، ونحصر فيها القدوة، نجد رئيس الحكومة إذا تعطل من الحكم، ورئيس الجمهورية إذا انتهى من الرياسة، عاد كل منها إلى الموضع الذي صعد منه إلى الديوان، أو انتخب فيه إلى القصر، فيستأنف الجهاد اليومي في سبيل الأسرة والأمة الحاكمة بنشاط البادئ، ونفسية التابع، ورجاء الطموح، فهو يدور مع الطبيعة دورة العام: يبدأ لينتهي، وينتهي ليبدأ؛ وفي كل طور من أطواره المتعاقبة تراه يندمج في البيئة، ويتألف مع النظام، ويرمي عن الواجب، فينشر المذكرات، ويحرر المقالات، ويحضر المرافعات، ويكابد في خلال ذلك طمع الناشر وعنت الناقد ومنافسة الحرفة؛ ولكنه على الرغم من رهق الحياة الحافلة، وكلال السن العالية، يؤدي إلى وطنه المنعم زكاة النبوغ وضريبة المجد عملا لا يتأبه، وإحسانا لا يمن، وإخلاصا لا يمين

ذلك هناك والكفاية موفورة، والمحجة واضحة، والأمر متسق. أما هنا ورجالات الرأي قلال، وتبعات العمل ثقال، وميادين الجهاد عزل، ترى النابه منا متى بلغ الوزارة من أي طريق وفي أي سن، ختم حياته العاملة، فاختزل الماضي، واعتزل الشعب، وازدرى العمل، وغفا على رخاء معاشه. فهو وزير ما دامت وزارته، فإذا سقط انقلب إلى مداره العالي يزجي فراغه الملول بالتردد بين أبهاء المستوزرين ونادي الحزب أو نادي (محمد

ص: 1

علي) يتشم الريح، ويتسقط الأخبار، ويتربص بالحكومة الدوائر

هو وزير أو منتظر؛ فمالك تكلفه أن يكتب في صحيفة حزبه، أو يساهم بالجد في نهضة شعبه؟ تلك أكلاف العيش لمن لم يدرك الثروة، وأزواد الطريق لمن لم يبلغ الغاية؛ والوزارة غاية الأمل في الثراء والعظمة، فإذا أدركها لا يسعه بعدها كرسي في مكتب، ولا يجزيه سهم في شركة؛ والظفر بها ولو مرة حق مكتسب يسلكه في سلسلة المتعاطين حرفة الحكم، فيضع نفسه ولقبه في صندوق ذهبي، ثم يعلقه في خيوط المنى، ثم يدع النسيم يهدهده بين باب القصر ونافذة المندوب حتى إذا عصفت بالوزارة أزمة، أو شغر في مجلسها محل رفع برأسه الغطاء العسجدي وقال:

أنا أشرئب! إذن أنا موجود!

على أن القاعدة العنيدة أخذت تحمل في طواياها بعض الشواذ، فقد رضى الوزير والسفير حافظ عفيفي باشا أن ينزل إلى صفوف الباحثين والمؤلفين فأصدر كتابه القيم (الإنجليز في بلادهم) عن استقراء دقيق واطلاع شامل، فكان تعريضا أليما بذلك الذكاء العاطل الذي يستفيد ولا يفيد، وذلك النبوغ الفاجر الذي يدخل الحكم ليعسف ويخرج منه ليكيد!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌اليمامتان

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

جاء في تاريخ الواقدي (أن (المقوقس) عظيم القبط في مصر زوج ابنته (أرمانوسة) من (قسطنطين بن هرقل) وجهزها بأموالها وحشمها لتسير إليه، حتى يبنى عليها في مدينة قيسارية (سورية) فخرجت إلى بلبيس وأقامت بها. . وجاء عمرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها حصارا شديدا وقاتل من بها، وقتل منهم زهاء ألف فارس، وانهزم من بقى إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسة وجميع مالها، وأخذ كل ما كان للقبط في بلبيس. فأجب عمرو ملاطفة المقوقس، فسير إليه ابنته مكرمة في جميع مالها، (مع قيس بن أبي العاص السهمي)؛ فسر بقدومها. . .)

هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنيا إلا بأخبار المغازي والفتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية؛ أما ما أغفله فهو ما نقصه نحن:

كانت لأرمانوسة وصيفة مولدة تسمى (مارية)، ذات جمال يوناني أتمته مصر ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصريا، ونقص الجمال اليوناني أن يكونه. ولمصر طبيعة خاصة في الحسن؛ فهي قد تهمل شيئا في جمال نسائها أو تشعث منه، وقد لا توفيه جهد محاسنها الرائعة؛ ولكن متى نشأ فيها جمال ينزع إلى أصل أجنبي، أفرغت فيه سحرها إفراغا، وأبت إلا أن تكون الغالبة عليه، وجعلته آيتها في المقابلة بينه وبين الطابع المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت؛ تغار على سحرها أن يكون إلا الأعلى

وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته، وهو كان واليا وبطريريكا على مصر من قبل هرقل؛ وكان من عجائب صنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القفل القبطي، فلم تكن أبوابهم تدافع إلا بمقدار ما تدفع، تقاتل شيئا من قتال غير كبير، أما الأبواب الرومية فبقيت مستغلقة حصينة لا تذعن إلا للتحطيم، ووراءها نحو مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على أثنى عشر ألفا. كان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم ولم تكن المدافع معروفة، ولكن

ص: 3

روح الإسلام جعلت الجيش العربي كأنه اثنا عشر ألف مدفع بقنابلها؛ لا يقاتلون بقوة الإنسان، بل بقوة الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة منفجرة تشبه الديناميت قبل أن يعرف الديناميت!

ولما نزل عمرو بجيشه على بلبيس، جزعت مارية جزعا شديدا؛ إذ كان الروم قد أرجفوا أن هؤلاء العرب قوم جياع ينفضهم الجدب على البلاد نفض الرمال على الأعين في الريح العاصف؛ وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه؛ وأنهم غلاظ الأكباد كالإبل التي يمتطونها؛ وأن النساء عندهم كالدواب يرتبطن على خسف؛ وأنهم لا عهد لهم ولا وفاء، ثقلت مطامعهم وخفت أمانتهم؛ وأن قائدهم عمرو بن العاص كان جزارا في الجاهلية، فما تدعه روح الجزار وطبيعته؛ وقد جاء بأربعة آلاف سالخ من أخلاط الناس وشذاذهم، لا أربعة آلاف مقاتل من جيش له نظام الجيش!

وتوهمت مارية أوهامها، وكانت شاعرة وقد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقد يشعرها كل عاطفة أكبر مما هي، ويضاعف الأشياء في نفسها، وينز إلى طبيعته المؤنثة، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وقودا على الدم. . .

ومن ذلك استطير قلب مارية وأفزعتها الوسواس، فجعلت تندب نفسها وصنعت في ذلك شعرا هذه ترجمته:

جاءكِ أربعةُ آلافِ جزارٍ أيَّتُها الشاةُ المسكينة!

ستذوق كل شعرةٍ منكِ ألم الذبح قبل أن تُذبحي!

جاءكِ أربعُ آلافٍ خاطفٍ أيتها العذراءُ المسكينة!

ستموتين أربعةَ آلافِ ميتةٍ قبل الموت!

قَوِّني يا إلهي، لأغمد في صدري سكيناً تردُّ عني الجزّارين!

يا إلهي، قوِّ هذه العذراءَ لتتزوجَّ الموتَ قبل أن يتزوجها العربي. .!

وذهبت تتلو شعرها على أرمانوسة في صوت حزين يتوجع؛ فضحكت هذه وقالت: أنت واهمة يا مارية؛ أنسيت أن أبي قد أهدى إلى نبيهم بنت (أنصنا) فكانت عنده في مملكة بعضها السماء وبعضها القلب؟ لقد أخبرني أبي أنه بعث بها لتكشف له عن حقيقة هذا الدين

ص: 4

وحقيقة هذا النبي؛ وأنها أنفذت إليه دسيسا يعلمه أن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وإن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وأنهم جميعا ينبعثون من حدود دينهم لا من حدود أنفسهم؛ وإذا سلوا السيف سلوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون. وقالت عن النساء: لأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فأنهم جميعا في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضمير الإسلامي في الرجل منهم - يكون حاملا سلاحا يضرب به صاحبه إذا هم بمخالفته

وقال أبي: إنهم لا يغيرون على الأمم، ولا يحاربونها حرب الملك؛ وإنما تلك طبيعة الحركة للشريعة الجديدة تتقدم في الدنيا حاملة السلاح والأخلاق، قوية في ظاهرها وباطنها؛ فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم؛ وبذلك تكون أسلحتهم نفسها ذات أخلاق!

وقال أبي: إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة الجرداء؛ طبيعة تعمل في طبيعة؛ فليس يمضي غير بعيد حتى تخضر الدنيا وترمي ظلالها؛ وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الميت ما يشبه طلاء الشجرة الجرداء بلون أخضر. . .! شتان بين عمل وعمل، وإن كان لون يشبه لون

فاستروحت مارية واطمأنت باطمئنان أرمانوسة، وقالت: فلا ضير علينا إذا فتحو البلد، ولا يكون ما نستضر به؟

قالت أرمانوسة: لا ضير يا مارية، ولا يكون إلا ما نحب لأنفسنا؛ فالمسلمون ليسوا كهؤلاء العلوج من الروم، يفهمون متاع الدنيا بفكرة الحرص والحاجة إلى حلاله وحرامه، فهم القساة الغلاظ المستكلبون كالبهائم، ولكنهم يفهمون متاع الدنيا بفكرة الاستغناء والتمييز بين حلاله وحرامه، فهم الإنسانيون الرحماء المتعففون

قالت مارية: وأبيك يا أرمانوسة إن هذا لعجيب؛ فقد مات سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة والحكماء، وما استطاعوا أن يؤدبوا بحكمتهم وفلسفتهم إلا الكتب التي كتبوها. . . فلم يخرجوا للدنيا جماعة تامة الإنسانية، فضلا عن أمة كما وصفت أنت من أمر المسلمين؛ فكيف استطاع نبيهم أن يخرج هذه الأمة وهم يقولون إنه كان أميا. أفتسخر الحقيقة من كبار الفلاسفة والحكماء وأهل السياسة والتدبير فتدعهم يعملون عبثا أو كالعبث،

ص: 5

ثم تستسلم للرجل الأمي الذي لم يكتب ولم يقرأ ولم يدرس ولم يتعلم؟

قالت أرمانوسة: إن العلماء بهيئة السماء وأجرامها وحساب أفلاكها، ليسوا هم الذين يشقون الفجر ويطلعون الشمس؛ وأنا أرى أنه لا بد من أمة طبيعية بفطرتها يكون عملها في الحياة إيجاد الأفكار العملية الصحيحة التي يسير بها العالم، وقد درست المسيح وعمله وزمنه، فكان طيلة عمره يحاول أن يوجد هذه الأمة، غير أنه أوجدها مصغرة في نفسه وحوارييه، وكان عمله كالبدء في تحقيق الشيء العسير؛ حسبه أن يثبت معنى الإمكان فيه

وظهور الحقيقة من هذا الرجل الأمي هو تنبيه الحقيقة إلى نفسها، وبرهانها القاطع أنها بذلك في مظهرها الإلهي. والعجيب يا مارية، أن هذا النبي قد خذله قومه وناكروه وأجمعوا على خلافه، فكان في ذلك كالمسيح، غير أن المسيح انتهى عند ذلك؛ أما هذا فقد ثبت ثبات الواقع حين يقع؛ لا يرتد ولا يتغير؛ وهاجر من بلده فكان ذلك أول خطا الحقيقة التي أعلنت أنها ستمشي في الدنيا، وقد أخذت من يومئذ تمشي. ولو كانت حقيقة المسيح قد جاءت للدنيا كلها لهاجرت به، فهذا فرق آخر بينهما. والفرق الثالث أن المسيح لم يأت إلا بعبادة واحدة هي عبادة القلب، أما هذا الدين فعلمت من أبي أنه ثلاث عبادات يشد بعضها بعضا: إحداها للأعضاء، والثانية للقلب، والثالثة للنفس؛ فعبادة الأعضاء طهارتها واعتيادها الضبط؛ وعبادة القلب طهارته وحبه الخير؛ وعبادة النفس طهارتها وبذله في سبيل الإنسانية. وعند أبي أنهم بهذه الأخيرة سيملكون الدنيا؛ فلن تقهر أمة عقيدتها أن الموت أوسع الجانبين وأسعدهما

قالت مارية: إن هذا والله لسر إلهي يدل على نفسه؛ فمن طبيعة الإنسان ألا تنبعث نفسه غير مبالية الحياة والموت إلا في أحوال قليلة تكون طبيعة الإنسان فيها عمياء: كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبر الأعمى. فإذا كانت هذه الأمة الإسلامية كما قلت، منبعثة هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعور بذاتيتها العالية - فما بعد ذلك دليل على أن هذا الدين هو شعور الإنسان بسمو ذاتيته، وهذه هي نهاية النهايات في الفلسفة والحكمة

قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليل على أنك تتهيئين أن تكوني مسلمة يا مارية!

فاستضحكتا معا وقالت مارية: إنما ألقيت كلاما جاريتك فيه بحسبه، فأنا وأنت فكرتان لا مسلمتان

ص: 6

قال الراوي: وانهزم الروم عن بلبيس، وارتدوا إلى المقوقس في (منف)، وكان وحي أرمانوسة في مارية مدة الحصار - وهي نحو الشهر - كأنه فكر سكن فكرا وتمدد فيه؛ فقد مر ذلك الكلام بما في عقلها من حقائق النظر في الأدب والفلسفة، فصنع ما يصنع المؤلف بكتاب ينقحه، وأنشأ لها أخيلة تجادلها وتدفعها إلى التسليم بالصحيح لأنه صحيح، والمؤكد لأنه مؤكد

ومن طبيعة الكلام إذا أثر في النفس - أن ينتظم في مثل الحقائق الصغيرة التي تلقى للحفظ؛ فكان كلام أرمانوسة في عقل مارية هكذا: (المسيح بدء وللبدء تكملة، ما من ذلك بد. لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة لا تأخذ شيئا، والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء.)

وجعلت هذه الحقائق الإسلامية وأمثالها تعرب هذا العقل اليوناني؛ فلما أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها، وانتهى ذلك إلى مارية قالت لها: لا يجمل بمن كانت مثلك في شرفها وعقلها أن تكون كالأخيذة تتوجه حيث يسار بها؛ والرأي أن تبدئي هذا القائد قبل أن يبدأك؛ فأرسلي إليه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك، واسأليه أن يصحبك بعض رجاله؛ فتكوني الآمرة حتى في الأسر، وتصنعي صنع بنات الملوك!

قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيرا منك في لسانك ودهائك؛ فاذهبي إليه من قبلي، وسيصحبك الراهب (شطا)، وخذي معك كوكبة من فرساننا

قالت مارية وهي تقص على سيدتها: لقد أديت إليه رسالتك فقال: كيف ظنها بنا؟ قلت: ظنها بفعل رجل كريم يأمره اثنان: كرمه، ودينه. . فقال أبلغيها أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال:(استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم فيكم صهرا وذمة.) وأعلميها أننا لسنا على غارة نغيرها، بل على نفوس نغيرها

قالت: فصفيه لي يا مارية

قالت: كان آتيا في جماعة من فرسانه على خيولهم العراب، كأنها شياطين تحمل شياطين من جنس آخر، فلما صار بحيث أتبينه أومأ إليه الترجمان - وهو (وردان) مولاه - فنظرت، فإذا هو على فرس كميت أحم لم يخلص للأسود ولا للأحمر، طويل العنق مشرف له ذؤابة أعلى ناصيته كطرة المرأة، ذيال يتبختر بفارسه ويحمحم كأنه يريد أن يتكلم،

ص: 7

مطهم. . .

فقطعت أرمانوسة عليها وقالت: ما سألتك صفة جواده

قالت مارية: أما سلاحه. . .

قالت: ولا سلاحه، صفيه كيف رأيته (هو)

قالت: رأيته قصير القامة علامة قوة، وافر الهامة علامة عقل، أدعج العينين. . .

فضحكت أرمانوسة وقالت: علامة ماذا. . .؟

. . . أبلج يشرق وجهه فيه كأن فيه لآلاء الذهب على الضوء، أيدا اجتمعت فيه القوة حتى لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرا. . . داهية كتب دهاؤه على جبهته العريضة يجعل فيها معنى يأخذ من يراه؛ وكلما حاولت أن أتفرس في وجهه رأيت وجهه لا يفسره إلا تكرار النظر إليه. . .

وتضرجت وجنتاها، فكان ذلك حديثا بينها وبين عيني أرمانوسة. . . وقالت هذه: كذلك كل لذة لا يفسرها للنفس إلا تكرارها. . .

فغضت مارية من طرفها وقالت: هو والله ما وصفت، وإني ما ملأت عيني منه، وقد كدت أنكر أنه إنسان لما اعتراني من هيبته. . . . .

قالت أرمانوسة: من هيبته أم من عينيه الدعجاوين. . .؟

ورجعت بنت المقوقس إلى أبيها في صحبة (قيس)، فلما كانوا في الطريق وجبت الظهر، فنزل قيس يصلي بمن معه والفتاتان تنظران؛ فلما صاحوا:(الله أكبر. . .!) ارتعش قلب مارية، وسألت الراهب (شطا): ماذا يقولون؟ قال: إن هذه كلمة يدخلون بها صلاتهم، كأنما يخاطبون بها الزمن أنهم الساعة في وقت ليس منه ولا من دنياهم، وكأنهم يعلنون أنهم بين يدي من هو أكبر من الوجود؛ فإذا أعلنوا انصرافهم عن الوقت ونزاع الوقت وشهوات الوقت، فذلك هو دخولهم في الصلاة؛ كأنهم يمحون الدنيا من النفس ساعة أو بعض ساعة؛ ومحوها من أنفسهم هو ارتفاعهم بأنفسهم عليها؛ أنظري، ألا ترين هذه الكلمة قد سحرتهم سحرا فهم لا يلتفتون في صلاتهم إلى شيء؛ وقد شملتهم السكينة، ورجعوا غير من كانوا، وخشعوا خشوع أعظم الفلاسفة في تأملهم

قالت مارية: ما أجمل هذه الفطرة الفلسفية! لقد تعبت الكتب لتجعل أهل الدنيا يستقرون

ص: 8

ساعة في سكينة الله عليهم فما أفلحت، وجاءت الكنيسة فهولت على المصلين بالزخارف والصور والتماثيل والألوان لتوحي إلى نفوسهم ضربا من الشعور بسكينة الجمال وتقديس المعنى الديني، وهي بذلك تحتال في نقلهم من جوهم إلى جوها؛ فكانت كساقي الخمر؛ إن لم يعطك الخمر عجز عن إعطائك النشوة. ومن ذا الذي يستطيع أن يحمل معه كنيسة على جواد أو حمار؟

قالت أرمانوسة: نعم أن الكنيسة كالحديقة؛ هي حديقة في مكانها، وقلما توحي شيئا إلا في موضعها؛ فالكنيسة هي الجدران الأربعة، أما هؤلاء فمعبدهم بين جهات الأرض الأربع

قال الراهب شطا: ولكن هؤلاء المسلمين متى فتحت عليهم الدنيا وافتتنوا بها وانغمسوا فيها - فستكون هذه الصلاة بعينها ليس فيها صلاة يومئذ

قالت مارية: وهل تفتح عليهم الدنيا، وهل لهم قواد كثيرون كعمروا؟

قال: كيف لا تفتح الدنيا على قوم لا يحاربون الأمم بل يحاربون ما فيها من الظلم والكفر والرذيلة، وهم خارجون من الصحراء بطبيعة قوية كطبيعة الموج في المد المرتفع؛ ليس في داخلها إلا أنفس مندفعة إلى الخارج عنها؛ ثم يقاتلون بهذه الطبيعة أمما ليس في الداخل منها إلا النفوس المستعدة أن تهرب إلى الداخل. . .!

قالت مارية: والله لكأننا ثلاثتنا على دين عمروا. . .

وانفتل قيس من الصلاة، وأقبل يترحل، فلما حاذى مارية كان عندها كأنما سافر ورجع؛ وكانت ما تزال في أحلام قلبها؛ وكانت من الحلم في عالم أخذ يتلاشى إلا من عمروا وما يتصل بعمروا. وفي هذه الحياة أحوال (ثلاثة) يغيب فيها الكون بحقائقه؛ فيغيب عن السكران، والمخبول، والنائم؛ وفيها حالة رابعة يتلاشى فيها الكون إلا من حقيقة واحدة تتمثل في الإنسان

وقالت مارية للراهب شطا: سله: ما أربهم من هذه الحرب، وهل في سياستهم أن يكون القائد الذي يفتح بلدا حاكما على هذا البلد؟

قال قيس: حسبك أن تعلمي أن الرجل المسلم ليس إلا رجلا عاملا في تحقيق كلمة الله، أما حظ نفسه فهو في غير هذه الدنيا

وترجم الراهب كلامه هكذا: أما الفاتح فهو في الأكثر الحاكم المقيم، وأما الحرب فهي عندنا

ص: 9

الفكرة المصلحة تريد أن تضرب في الأرض وتعمل، وليس حظ النفس شيئا يكون من الدنيا؛ وبهذا تكون النفس أكبر من غرائزها، وتنقلب معها الدنيا برعونتها وحماقاتها وشهواتها كالطفل بين يدي الرجل، فيهما قوة ضبطه وتصريفه. ولو كان في عقيدتنا أن ثواب أعمالنا في الدنيا، لا نعكس الأمر

قالت مارية: فسله: كيف يصنع عمروا بهذه القلة التي معه والروم لا يحصى عددهم؛ فإذا أخفق عمروا فمن عسى أن يستبدلوه منه؟ وهل هو أكبر قوادهم، أو فيهم أكبر منه؟

قال الرواي: ولكن فرس قيس تمطر وأسرع في لحاق الخيل على المقدمة كأنه يقول: لسنا في هذا. . .

وفتحت مصر صلحا بين عمروا والقبط، وولى الروم مصعدين إلى الإسكندرية، وكانت مارية في ذلك تستقرئ أخبار الفاتح تطوف منها على أطلال من شخص بعيد؛ وكان عمروا من نفسها كالمملكة الحصينة من فاتح لا يملك إلا حبه أن يأخذها؛ وجعلت تذوي وشحب لونها، وبدأت تنظر النظرة التائهة، وبان عليها أثر الروح الظمأى، وحاطها اليأس بجوه الذي يحرق الدم، وبدت مجروحة المعاني؛ إذ كان يقاتل في نفسها الشعوران العدوان: شعور أنها عاشقة، أنها يائسة!

ورقت لها أرمانوسة، وكانت هي أيضا تتعلق فتى رومانيا، فسهرتا ليلة تديران الرأي في رسالة تحملها مارية من قبلها إلى عمروا كي تصل إليه، فإذا وصلت بلغت بعينيها رسالة نفسها. . .

واستقر الأمر أن تكون المسألة عن مارية القبطية وخبرها ونسلها وما يتعلق بها مما يطول الإخبار به إذا كان السؤال من امرأة عن امرأة. فلما أصبحتا وقع إليها أن عمرا قد سار إلى الإسكندرية لقتال الروم، وشاع الخبر أنه لما أمر بفسطاطه أن يقوض أصابوا يمامة قد باضت في أعلاه، فأخبروه فقال:(قد تحرمت في جوارنا، أقروا الفسطاط حتى تطير فراخها) فأقروه!

ولم يمض غير طويل حتى قضت مارية نحبها، وحفظت عنها أرمانوسة الشعر الذي أسمته: نشيد اليمامة:

على فسطاط الأمير يمامة حائمة تحضن بيضها.

ص: 10

تركها الأمير تصنع الحياة، وذهب هو يصنع الموت!

هي كأسعد امرأة؛ ترى وتلمس أحلامها.

إن سعادة المرأة أولها وآخرها بعض حقائق صغيرة كهذا البيض

على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.

لو سئلت عن هذا البيض لقالت: هذا كنزي.

هي كأهنأ امرأة، ملكت ملكها من الحياة ولم تفتقر.

هل أكلف الوجود شيئا كثيرا إذا كلفته رجلا واحدا أحبه!

على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحتضن بيضها

الشمس والقمر والنجوم، كلها أصغر في عينها من هذا البيض.

هي كأرق امرأة؛ عرفت الرقة مرتين: في الحب، والولادة

هل أكلف الوجود شيئا كثيرا إذا أردت أن أكون كهذه اليمامة!

على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها

تقول اليمامة: إن الوجود يحب أن يرى بلونين في عين الأنثى، مرة حبيبا كبيرا في رجلها، ومرة حبيبا صغيرا في أولادها.

كل شيء خاضع لقانونه؛ والأنثى لا تريد أن تخضع إلا لقانونها

أيتها اليمامة، لم تعرفي الأمير وترك لك فسطاطه!

هكذا الحظ: عدل مضاعف في ناحية، وظلم مضاعف في ناحية أخرى

إحمدي الله أيتها اليمامة، أن ليس عندكم لغات وأديان، عندكم فقط: الحب والطبعة والحياة

على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها،

يمامة سعيدة، ستكون في التاريخ كهدهد سليمان،

نسب الهدهد إلى سليمان، وستنسب اليمامة إلى عمرو.

واها لك يا عمرو! ما ضر لو عرفت اليمامة الأخرى. .!

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 11

‌عصر الخفاء في مصر الإسلامية

الحاكم بأمر الله

- 2 -

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 3 -

ولي الحاكم بأمر الله الخلافة حدثا دون الثانية عشرة؛ وكان مولده بالقصر الفاطمي بالقاهرة المعزية في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 375 (13 أغسطس سنة 985)، وأمه نصرانية من الملكية، وكان لها أيام العزيز نفوذ كبير في الدولة، حتى أنه عين أخويها بطريقين للملكية، أحدهما بالإسكندرية، والآخر لبيت المقدس، مخالفا بذلك الرسوم الكنسية المقررة؛ وكان من أثر نفوذها أن سياسة التسامح الديني التي اتبعت في عهد المعز، قويت أيام العزيز، وتمتع النصارى واليهود بكثير من الحريات والنفوذ. وقد كان لهذا المنبت أثره بلا ريب في نفس الحاكم، وتكوين عقيلته الدينية كما سنرى. ولم يترك العزيز من البنين سوى الحاكم، ولكنه ترك - من زوجة النصرانية أيضا - ابنة تدعى سيدة الملك، كانت أكبر من أخيها ببضعة أعوام؛ وكانت حازمة عاقلة ذات نفوذ. ومنح العزيز ولاية عهده لابنه الحاكم مذ كان طفلا في الثامنة (شعبان سنة 383) وبويع بالخلافة يوم وفاة أبيه. وقد انتهى إلينا وصف لبعض المناظر التي أحاطت بتولية الخليفة الصبي، وهي مناظر شائقة مؤسية معا، نقلها إلينا المسبحي، وهو مؤرخ معاصر ووزير الحاكم وصديقه، نقلا عن الحاكم ذاته؛ قال: (قال لي الحاكم، وقد جرى ذكر ولده العزيز: يا مختار، استدعاني والدي قبل موته وهو عاري الجسم، وعليه الخرق والضماد، فاستدناني إليه وقبلني وضمني إليه، وقال: وا غمي عليك يا حبيب قلبي؛ ودمعت عيناه. ثم قال: امض يا سيدي والعب، فأنا في عافية، قال: فمضيت، والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله سبحانه وتعالى العزيز إليه. قال: فبادر إلي برجوان، وأنا في أعلى جميزة كانت في الدار، فقال: انزل ويحك، الله الله فينا وفيك؛ قال فنزلت، فوضع العمامة بالجوهر على رأسي وقبل لي الأرض، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال: وأخرجني حينئذ

ص: 13

إلى الناس على تلك الهيئة، فقبل جميعهم لي الأرض وسلموا علي بالخلافة)

وقع هذا المنظر في مدينة بلبيس حيث أدرك العزيز مرض موته كما قدمنا؛ وفي صباح اليوم التالي - وهو يوم الأربعاء 29 رمضان - سار الحاكم إلى عاصمة ملكه في موكب فخم تظلله أبهة الخلافة، رهيب يظلله جلال الموت؛ وأمامه جثة أبيه، وقد وضعت في عمارية برزت قدماه؛ وعلى رأسه المظلة يحملها ريدان الصقلبي، وبين يديه البنود والرايات؛ وقد ارتدى دراعة مصمت وعمامة يكللها الجوهر، وتقلد السيف، وبيده رمح. فدخل القاهرة عند مغيب الشمس في هذا الحقل الرهيب الفخم؛ وفي الحال أخذ في تجهيز أبيه؛ فتولى غسله قاضي القضاة محمد بن النعمان، ودفن عشاء إلى جانب أبيه المعز في حجرة القصر. وفي صباح اليوم التالي، أعني يوم الخميس، بكر سائر رجال الدولة إلى القصر، وقد نصب للخليفة الصبي في الإيوان الكبير، سرير من الذهب، عليه مرتبة مذهبة؛ وخرج من القصر إلى الإيوان راكبا وعلى رأسه معممة الجوهر، والناس وقوف في صحن الإيوان فقبلوا الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على عرشه، وسلم عليه الجميع بالإمامة وباللقب الذي اختير له وهو:(الحاكم بأمر الله) ونودي في القاهرة والبلدان، أن الأمن موطد والنظام مستتب، فلا مؤونة ولا كلفة، ولا خوف على النفس أو المال

وأوصى العزيز قبل موته بولده ثلاثة من أكابر رجال الدولة هم برجوان الصقلبي خادمه وكبير خزائنه؛ والحسن بن عمار الكتامي زعيم كتامة، أقوى القبائل المغربية وعماد الدولة الفاطمية منذ نشأتها؛ ومحمد بن النعمان قاضي القضاة. وعهد بالوصاية الفعلية إلى الأول والثاني. وكان برجوان، ويسمى أبا الفتوح، خصيا صقلبيا، ربي في القصر، واصطفاه العزيز بالله وولاه أمير القصر، وخلع عليه لقب (الأستاذ) وهو من ألقاب الوزارة في الدولة الفاطمية، وعهد إليه بمهام الأمور، وأولاه ثقة عظيمة. وكان ابن عمار رجلا قوي الشكيمة، وافر العصبة؛ ولكن برجوان كان بظروفه وطبيعة منصبه أوثق اتصالا بالخليفة الصبي، وأشد تأثيرا فيه ومقدرة على توجيهه؛ فلم يلبث أن نشب الخلاف بين الرجلين واشتدت المنافسة بينهما، وقام ابن عمار بتدبير الشئون بادئ بدء، وتلقب بأمين الدولة، وهو أول لقب من نوعه في الدولة الفاطمية؛ واقتسم الكتاميون من صحبة وشيعته السلطات والمناصب، وعاثوا في شئون الدولة ومرافقها؛ وحرضه بعضهم على قتل الحاكم والتخلص

ص: 14

منه فأبى استصغارا لشأنه أو رهبة من العواقب؛ ولكن برجوان كان ساهرا يرقبه ويتلمس الفرص لمناوأته وإسقاطه، ويدس له الدسائس، ويؤلب عليه زعماء الجند الناقمين عليه؛ فلم يمض عام حتى تفاقمت الصعاب والأحقاد من حوله؛ ووثب جماعة من الزعماء والجند بتحريض برجوان بالكتامين وأثخنوا فيهم، فتوارى ابن عمار، واضطر أن يترك الميدان حرا لمنافسه، عندئذ قبض برجوان على زمام الأمور، واستأثر بكل سلطة حقيقة داخل البلاط وخارجه، واختار لمعاونته كاتبا نصرانيا يدعى فهد ابن إبراهيم ولقبه بالرئيس، وفوض إليه النظر والتوقيع والمراجعة. ولزم برجوان الحاكم، يقيم معه بالقصر، ويسهر على توجيهه، ويستأثر لديه بكل صلة ونفوذ؛ واستبد بكل أمر في الدولة؛ واستقرت الأمور حينا

واستمر برجوان يتبوأ ذروة القوة والنفوذ زهاء عامين ونصف؛ وفي عهده وقعت عدة ثورات وقلاقل في الشام والمغرب، وحاول بعض الحكام والزعماء المحليين الخروج على حكومة القاهرة؛ فسير برجوان جيشا إلى الشام بقيادة جيش بن الصمصامة، فقاتل الثوار في عدة مواقع، وأخضعهم تباعا، واستعاد دمشق؛ واشتبك مع الروم (البيزنطيين) في عدة معارك في شمال الشام، وكانوا قد انتهزوا فرصة الاضطراب للإغارة على الثغور وتأييد الخوارج؛ فهزمهم وردهم إلى الشمال. وسير برجوان جيشا آخر إلى برقة حيث اضطرمت الثورة، فرد النظام إليها، واستعمل عليها يانسا الصقلبي. وكانت الدولة الفاطمية منذ نشأتها تعتمد على تأييد القبائل المغربية ذات البأس والعصبية؛ ويستأثر زعماؤها بمعظم مناصب القيادة والحكم والأدارة حتى عهد المعز لدين الله؛ ولكن ولده العزيز مال إلى اصطناع الموالي من الترك والصقالبة فقدمهم في القصر وفي الجيش، وبدأت المنافسة من ذلك الحين بينهم وبين الزعماء والمغاربة وكانت سياسة برجوان ترمي إلى تحطيم نفوذ الزعماء المغاربة، ونزعهم عن الولايات والثغور؛ وتوزيع السلطة على نفر من أصدقائه الصقلبيين يستطيع أن يعتمد على ولائهم وأن يسيرهم طبق أهوائه؛ فعين إلى جانب يانس، طائفة منهم لحكم الولايات والثغور، مثل ميسور الخادم والي طرابلس، ويمن الخادم والي غزة وعسقلان، وعين بالقصر عددا كبيرا منهم وجنح الروم بعد هزيمتهم إلى السلم، وعقدت بين بلاط القاهرة والإمبراطور بزيل الثاني قيصر قسطنطينية أواصر الصداقة والمهادنة

ص: 15

مدى حين

ماذا كان الموقف الحاكم خلال هذه الفترة الأولى من خلافته؟ لقد كان برجوان بلا ريب يحجبه ما استطاع عن الاتصال برجال الدولة وبشئونها، ويدفع به ما استطاع إلى مجالي اللهو واللعب؛ وكانت أم الحاكم وهي نصرانية كما قدمنا، تشهد ولدها ينمو ويترعرع في ظل هذه الوصاية الخطرة عاجزة عن التدخل لحمايته أو توجيهه، لأن برجوان لم يفسح لها أي مجال للتدخل في شئون الدولة. غير أن الحاكم كان يشعر رغم حداثته بخطورة المنصب الذي يتبوأه؛ ولم يلبث أن استرعى سير الأمور اهتمامه، ولم يلبث أن فطن إلى موقف برجوان، واستئثاره بالسلطة واستبداده بالشئون. ولما بلغ برجوان ذروة السلطان والنفوذ، كان الحاكم قد أشرف على الخامسة، وأضحى الطفل فتى يافعا شديد اليقظة والطموح. وكان برجوان يذهب في طغيانه وعسفه إلى حدود بعيدة، ويثير حوله ضراما من البغضاء والحقد، ويحفز بذلك خصومه داخل البلاط وخارجه إلى العمل على تقويض سلطانه ومكانته. واعتقد برجوان أن الجو قد خلا له، فانكب على ملاهيه وملاذه، يقضي معظم أوقاته في مجالس الأنس والغناء والطرب، ولم يفطن برجوان من جهة أخرى إلى ما وقع في نفس الأمير الفتى ومشاعره من التبدل والتطور، فاستمر يعامله معاملة الطفل المحجور عليه؛ وذهب في استهتاره إلى مدى شعر الحاكم أنه لا يتفق مع مقامه ومكانته، وربما يذهب برجوان إلى حد الإساءة إلى الحاكم ونقض أوامره، بل إلى حد إهانته والتنكر له، ويقص علينا المقريزي منظرا من هذه المناظر التي اجترأ فيها برجوان على إهانة سيده خلاصته:(أن الحاكم استدعاه ذات يوم وهو راكب معه، فسار إليه وقد ثنى رجله على عنق فرسه، وصار باطن قدمه وفيه الخف قبالة وجه الحاكم)، ونحو ذلك من المناظر والإهانات المثيرة

أحفظت نفس الحاكم لهذا الضغط وهذا الاجتراء، فأضمر التخلص من ذلك الوصي الطاغية، وربما تأثر في هذا العزم بتحريض بعض خصوم برجوان ولا سيما ريدان الصقلبي حامل المظلة وخصمه القوي داخل البلاط؛ ولكن لا ريب أن الحاكم كان قد بدأ يومئذ يثور لسلطته المسلوبة، وأخذت تتفتح في نفسه الوثابة تلك الأهواء العنيفة المضطرمة التي بلغت ذروتها فيما بعد. وعلى أي حال فقد حكم على برجوان بالموت؛

ص: 16

وفي ذات مساء بعث إليه الحاكم للركوب معه، وانتظره في إحدى حدائق القصر ومعه ريدان حامل المظلة، فوافاه برجوان هنالك؛ وبعد أن سلم سار الحاكم حتى خرج من باب الحديقة، فوثب ريدان عندئذ على برجوان فطعنه في عنقه بسكين، وانقضت عليه جماعة كانت قد أعدت للفتك به، فأثخنوه طعنا بالخنجر، واحترزوا رأسه، ودفنوه حيث قتل (ربيع الثاني سنة 360 - 1000م) ولما عاد الحاكم إلى القصر كان خبر مقتل برجوان قد ذاع على لسان خادمة عقيق، فاضطربت البطانة، وأشرف الحاكم عليهم ليرى الخبر؛ وصاح فيهم ريدان:(من كان في الطاعة فلينصرف إلى منزله ويبكر إلى القصر المعمور) فانصرف الناس منزعجين، وفي نفس المساء اتخذ الحاكم عدته لتوطيد الأمور، واستدعى الرئيس فهدا، وهدأ روعه وأقره في منصبه؛ وصودرت أموال برجوان وكانت عظيمة طائلة، واختفى أصدقاؤه من الميدان

وهكذا ظفر الحاكم لنحو أربعة أعوام فقط من ولايته بأن يطوي مرحلة الحداثة، وأن يستخلص السلطة لنفسه، وأن يبدأ عهد الحكم الحقيقي. وكان الحاكم يومئذ في نحو الخامسة عشرة من عمره، مضطرم النفس والأهواء، ولكن وافر الذكاء والجرأة والعزم. فبدأ بتعيين مدبر للدولة مكان برجوان، ووقع اختياره على الحسين بن جوهر الصقلي. وكان العزيز قد ولاه القيادة بعد وفاة أبيه جوهر، واصطفاه وأولاه ثقته وعطفه، فلما توفي العزيز قلد الحسين ديوان البريد والإنشاء؛ ولما قتل برجوان لم يكن بين رجال الدولة من هو أرفع منه مقاما وأجدر بتولي الشئون العامة؛ فاستدعاه الحاكم وخلع عليه، وقلده النظر في أمور الدولة والتوقيعات، ولقبه في سجل التعيين (بقائد القواد) وعكف الحسين على تدبير الشئون بمعاونة خليفته الرئيس فهد، وأمر أن تبلغ إليه المهام والظلامات في مكانه بالقصر وألا يقصد أحد داره، وألا يخاطب بغير لقبه الرسمي (القائد) دون تعظيم أو تفخيم، وألا يمنع أحد من مقابلة الحاكم أو الاتصال به؛ وغدا الحسين بن جوهر وصهره عبد العزيز بن محمد بن النعمان، الذي خلف أباه في منصب القضاء، أعظم رجلين في الدولة؛ واستمر الحسين يدبر الأمور مدى أعوام حتى تغير عليه الحاكم كما سيأتي

وتناول الحاكم إدارة الدولة العليا بيديه؛ ونظم له مجلسا ليليا يحضره أكابر الخاصة ورجال الدولة، وتبحث فيه الشئون العامة؛ وكانت هذه أول ظاهرة لهيام الحاكم بالليل والتجوال في

ص: 17

ظلماته. بيد أنه أبطل مجلسه الليلي بعد حين. وتوفي جيش ابن الصمصامة وإلي الشأم، فعين الحاكم مكانه فحل بن تميم، ولما توفي لأشهر من ولايته عين مكانه علي ابن فلاح؛ وكان اتجاه الحاكم يومئذ نحو إقصاء الأتراك والصقالبة وتمكين المغاربة، كما كان الشأن أيام جده المعز، ولعله كان يقصد في ذلك أيضا إلى هدم سياسة برجوان في اصطفاه الصقالبة. ووفد عليه ولد جيش بن الصمصامة يحمل وصية أبيه التي يوصي فيها بجميع أمواله للحاكم، ويحمل إليه الأموال الموصى بها، وكانت تبلغ نحو مائتي ألف دينار بين نقد متاع، فقرأ الحاكم الوصية ورد المال إلى أهله؛ ودلل بذلك على صفة من أخص صفاته، هي العفة عن مال الرعية، والزهد في المال بصفة عامة؛ وسنرى أنه يدلل على هذه الخلة في مواطن كثيرة

للبحث بقية

النقل ممنوع

محمد عبد الله عنان

المحامي

ص: 18

‌صورة في المرآة

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

إن كل شيء ممكن ولا سيما في هذه الأيام. وليس لأحد أن يكذب إمكان حدوث شيء بعد أن شهد هذا العصر ما شهد من صنوف المخترعات والمبتدعات. فمن ذا الذي كان يحلم أن الإنسان قد يكون جالسا إلى مكتبه بالقاهرة، فيسمع موسيقى دار الأوبرا في باريس أو فينا؟ وينصت إلى نجوى النظارة وتصفيقهم، حتى كأنه جالس معهم هناك يسمع ما يسمعون ويشهد ما يشهدون؟ وما هي إلا خطوة واحدة ثم يستطيع الإنسان أن يسمع ويرى في آن واحد. فيتيسر له عند ذلك أن يرى بعينيه أهل باريس أو فينا أو سواهما، وهم يتمايلون للموسيقى ويعجبون بالراقصة أو المغنية، وأن يرى المسرح بما فوقه من الفتن الشهية، ولن يحس الناس عند ذلك بوجود المسافات ولا بحدود الدول والبلدان. وهكذا أرجو إذا أنا وصفت للقراء ما أوصلني إليه الدأب، ومكنني منه الدرس من الاختراع، ألا يكذبني ما كذب، فما غرابة قصتي هذه بمنقصة من قدرها، إذا صارت الحقائق أعجب من صور الخيال، وأصبح إدراك المشاهد أعسر على الذهن من تصور الخيالات، فبينا يرى الإنسان الآلة المحدثة بين يديه حقيقة ماثلة ملموسة إذا به يراها عند غاية الاستعصاء والغموض والتأبي

ولقد وفقني الله لاختراع آلة عجيبة، ولكنها من مثل تلك الآلات المحدثة التي ذكرتها آنفا تراها وتلمسها، وتؤمن بأنها حيالك ماثلة موجودة. ثم تحار في معرفة كنهها والغوص إلى موضع سرها. هي مرآة لا أكثر ولا أعظم، ولا يختلف ظاهرها عن المرآة المعتادة إلا في أنه يحيط بها إطار به لولب مختلفة لتحريكها وتحديد موضعها. ولكنها في حقيقتها فذة فريدة، إذ أنها لا تنقل إلى الرائي صورة وجهه إذا نظر إليها، بل لقد يظهر له فيها إذا وضعها أمام عينيه شكل شخص آخر، أو شكل بعض الحيوان، أو شكل كائن آخر من الكائنات، ولعلها تفزع من لا عهد له بها ولا دراية له بسرها؛ فقد تنظر إليها حسناء لترى هل دهان شفتيها لا يزال هناك لم تخطفه الشمس ولم يمحه بنان النسيم، فترتاع إذ تجد المرآة تبرز لها صورة كريهة كصورة قرد مثلا، أو كصورة عجوز شوهاء. وقد ينظر إليها فتى من الفتيان ليتحقق من أن سحر عينيه لا يزال على عهده به، وأن موضع رباط رقبته

ص: 19

لا يزال حيث رآه آخر مرة في آخر مرآة مر بها من تلك الزجاجات المنصوبة على جوانب الحوانيت والدكاكين الكبرى فتظهر له صورة أخرى مثل صورة فتاة لعوب، أو صورة تيس أو حيوان آخر مما تعارف الرجال على كراهة التشبه به والظهور في مظهره. ولكن الإنسان إذا عرف إن هذه المرآة لا تظهر للرائي صورته، لم يلتمس أن يرى فيها صورة نفسه، وبذلك يحفظ نفسه من الألم الذي قد يصيب من يجهل أمرها وسرها. فإن سر تلك المرآة أنها لا تلتقط إلا أشعة الضوء القديمة التي مضى على سيرها آلاف السنين على الأقل. وهذا الأمر يحتاج إلى شيء من التفسير، ولكني سأشرحه شرحا يسيرا حتى لا أخرج بالقارئ طويلا عن صلب القصة

أنت تعلم أن المادة لا تفنى، وأن الطاقة لا تنعدم، فهذا يعرفه كل من درس أوليات العلم. وتعلم أن شعاع النور طاقة، والنور على ذلك لا ينعدم. فإذا سار الشعاع الضوئي في الفضاء فأنه يظل سائرا إلى أبد الدهر إلا إذا تحول إلى طاقة أخرى. وتعلم أن الإنسان يرى الأشياء لأن الضوء يقع عليها ثم ينعكس منها إلى عينه فيحمل صورة الأشياء إلى العين. فإذا سار الشعاع المنعكس إلى أبعد الجهات أمكن أن يحمل صورة الأشياء إلى تلك الجهات البعيدة. والضوء كذلك يسافر بسرعة هائلة، فهو يحمل الصور بتلك السرعة، ولكن المسافة إذا كانت بعيدة جدا لم يستطع الضوء أن يقطعها إلا بعد مدة قد تكون طويلة، فإن شعاع الضوء يأتي إلى الأرض من بعض الكواكب في أعوام وقرون، ومنها ما يصل إلى الأرض من كوكب بعيد في آلاف السنين

هذه كلها مقدمات، وهناك بعد ذلك أمر آخر، وهو أشد استعصاء على الفهم، وذلك أنني قد كشفت أن الضوء لا يسير في خط مستقيم كل الاستقامة، بل إنه منحن قليلا، فإذا سار منحنيا على هذا النمط تكونت من سيره دائرة، لأن الدائرة تتكون من خط منحن انحناء منتظما سائرا على نمط واحد. فإذا سار شعاع فوقع على شيء ثم انعكس إلى الفضاء، فأنه يسير حاملا صورة الشيء الذي وقع عليه، ويستمر في سيره دائرا حول الأرض حتى يعود إلى موضعه، ولا يزال يفعل هكذا أبد الدهر، فإذا استطاع إنسان أن يخترع آلة من خواصها أن تقبض على هذا الشعاع التائه في الفضاء، أمكنها أن تتلقى صورة الشيء الذي انعكس منه ذلك الشعاع

ص: 20

وإذن فالأمر هين، إذا اخترعت مرآة من معدن خاص لا يلتقط إلا الأشعة الضعيفة التي قضت في سيرها في الفضاء أو في دورانها حول الأرض آلاف السنين. ومن شأن هذه المرآة أنها لا تلتقط الأشعة القوية الطازجة، فإن تلك الأشعة تقفز عن سطحها قفزا بغير أن تثبت قليلا لتنعكس عليه، فالذي ينظر إلى تلك المرآة لا يرى فيها شيئا إلا إذا اتفق أن سقط عليها شعاع من تلك الأشعة المعتقة التي تنم عن أشياء الماضي وحوادث الماضي، كما أنها قد تلتقط أيضا أشعة النجوم البعيدة إذا كانت لا تبلغ الأرض إلا معتقة أي بعد آلاف السنين من تركها كواكبها

أخذت هذه الآلة يوما كعادتي كلما خرجت إلى نزهة وذهبت إلى جوار الأهرام لأجول حولها جولة، ولما أتعبني ذلك التجوال جلست أستريح على حجر من تلك الأحجار الضخمة التي قد انفرطت من عقدها، ولم يكن معي كتاب أقطع الوقت بالقراءة فيه، فأخرجت الآلة أنظر فيها وأقلبها في يدي، فقد عودتني كلما نظرت فيها أن أجد صورة مسلية من صور الماضي إذ تلتقط شعاعا من تلك الأشعة القديمة التي تقص علي نبأ حديث قد مضت على وقوعه القرون الطويلة. ولكنها لم تحقق أملي عندما نظرت فيها فلم أنزعج من ذلك، وقلت إن الموضع الذي كنت فيه ليس مما تكثر به الأحداث والقصص. وجعلت أتأمل لون مائها وأحدق في نكتة سوداء عند حافتها لا أقصد من وراء ذلك إلا العبث والتلهي. فلاح لي عند ذلك خيال يتحرك فيها وكان خيالا ضئيلا. فعلمت أن المرآة قد التقطت شعاعا، ولكنه شعاع قوي لم تمض عليه المدة الكافية لإضعافه وتعتيقه، فجعلت أحدق في المرآة حتى استطعت أن أتبين الصورة بشيء من الجلاء

رأيت الفضاء الذي حولي هضبة مستوية ليس عليها شيء غير كوم واحد، فعلمت أن ذلك الشعاع يحمل صورة الهضبة قبل أن تبنى فيها الأهرام الصغرى وعندما كان الهرم الأكبر لا يزال يبنى. وكان الهرم لم يبلغ بعد نصف علوه، وكان يدور حوله جسر من التراب كالحلزون يتضايق كلما ارتفع، وكان على ذلك الجسر ألوف من الناس بعضها صاعد وبعضها نازل تلوح في الصورة كما يلوح النمل في قرية من قراه تتماوج في ترددها بين الجيئة والذهاب تارة تتقارب وأخرى تنتشر، وتارة تجتمع وتارة تتفرق. ورأيت سموطا من تلك الألوف قد اجتمع كل سمط منها عند جبل قد أخذ كل فرد بقبضة منه، وكان وراء كل

ص: 21

سمط جماعة في أيديهم السياط فلا يكاد أحدهم يرى رجلا قد استرخى في عمل حتى يهوي عليه بالسوط، فإذا به يقفز إلى الأمام وقد تشنجت عضلاته وأقبل على العمل عنيفا، وكان كل سمط من هذه السموط يجر بالحبل الذي اجتمع عليه حجرا ثقيلا من تلك الحجارة الضخمة التي نراها اليوم في بناء الهرم، فلا يزال السمط يجرر الحجر حتى يعلو به الجسر الدائر حول البناء ثم يصعد به جانب ذلك الجسر فيدور حوله صاعدا في دورانه حتى يبلغ أعلى البناء فيقربه إلى حافة البناء ويضعه حيث يطلب البناؤون وضعه. فإذا ما بلغ المساكين الذين يجررون الحجر أعلى البناء ووضعوا الحجر وهم يلهثون من التعب انطرحوا على الأرض إعياء يطلبون بعض الراحة ويستردون النفس المنبت، غير أنهم لا يكادون يلمسون الأرض بجنوبهم حتى تلحق بهم جماعة المراقبين فيهوون عليهم بالسياط يمزقون بها جلودهم. فيهب الأشقياء مرتاعين يتلوون من ألم الضرب يجررون أرجلهم بما استطاعوا من السرعة ويهبطون إلى أسفل البناء لكي يعيدوا الكرة فينقلوا حجرا جديدا لبناء هرم فرعون

والحق لقد آذاني ذلك المنظر وتفظعته من شدة قسوته، فهممت أن أضع المرآة حتى لا أرى بقيته، لولا أنني رأيت شيئا أخذ على انتباهي قسرا فلم أجد حيلة في الانصراف عنه أو الانفلات منه. وذلك أنني بصرت بسمط من هذه السموط البشرية قد علا جانب الجسر سائرا في خطاه الوئيدة يحرك حجرا جديدا نحو أعلى البناء، غير أنه ما توسط الجسر حتى هبط عليه حجر أفلت من سمط فوقه إذ تقطعت الأحبال التي كان أصحابه يجررونه بها فوقع الحجر متدحرجا فأصاب في طريقه ذلك السمط الصاعد فدك جماعة منه دكا وحطم أعضاء جماعة أخرى. فتفرق الناجون مرتاعين أيما ارتياع والموت الفظيع في أعينهم الحائرة المذعورة، وسمع صياحهم بعض إخوانهم فما هي إلا لحظة حتى اجتمع حول المكان ألوف من العمال مضطربين هلعين، وفيما هم في ذلك أقبل الرقباء وفي أيديهم السياط فأهووا عليهم من كل صوب لا يبالون أين يقع السوط منهم، ففر البعض إلى أسفل وتردد البعض قليلا، ثم مضوا إلى أسفل في شيء من التلكؤ، وعادوا إلى حجارتهم يزحزحونها شبرا فشبرا نحو أعلى الهرم فانجلى المنظر عن بقية ضئيلة واقفة حول مكان الكارثة وعن رجل قد ارتمى على أحد الضحايا يبكيه ويطيع فيه قلبا محبا

ص: 22

فخيل إلي أنه أخ قعد لرثي أخاه الفقيد، أو صديق برح به الوجع عندما رأى صديقه يختطف من بين الجموع على هذه الحال المؤلمة، فارتمى عليه يبكيه ويؤدي إليه حق القلب الإنساني في رثاء الصديق الحميم؛ غير أن المقام لم يطل به على ذلك، فقد عاد إليه الرقباء وفي أيديهم السياط، فألهبوا ظهور من بقي حول المكان، وأهووا إليه بالسوط فمزقوا ظهره العاري وهو مكب على جثة صاحبه، فقفز الرجل من الألم، وانتفض انتفاضة كأنما هو وحش أستثير، وأقبل على الذي ضربه من الرقباء، فرفع هذا يده بالسوط ليعيده عليه الكرة فلم يمكنه من ذلك، بل أسرع في سطوة الغاضب وانتزع السوط من بين يده ثم علاه به مرتين، ثم دفعه إلى الأرض فتدأدأ عليها، وكان قريبا من حافة البناء فهو في الفضاء فلم يستقر إلا على سطح الهضبة بعد أن تهشم وتحطم. ثم وقف الرجل على حجر من أحجار البناء متحديا سائر الرقباء، فلم يجرؤ منهم أحد على الاقتراب منه، وعاد الاضطراب إلى مثل ما كان عليه، وأسرع ألوف من العمال مرة أخرى نحو المكان ينظرون إلى الحدث الجديد وينتهزون فرصة للراحة من عملهم المضني. غير أنها لم تكن سوى مدة قصيرة، فإذا الجمع يضطرب في جانب من جوانبه، ثم إذا بالاضطراب يسير خطوة خطوة بين الوقوف، ثم إذا بالجمع ينفرج عن رجل شيخ يسير في تؤدة ووقار، وهو كلما سار في جمع انفرج له وركع من حوله إجلالا وخشوعا، فلقد كان ذلك هو كاهن القوم أتى بأمر الإله (رع)، وأقبل بكلمة الحكمة من (تحوت)، وكان يلبس ثوبا طويلا يظهر من بين الجموع العارية، وقد تدلت على صدره لحية طويلة بيضاء كاللبن، وكان طويل القامة في انحناء يسير بأعلى ظهره، وعلى رأسه منديل يغطي شعره إلى شحمتي أذنيه، وقد لف حوله عصابة تمسك به حول الرأس. فلما صار على قيد ذراع من العامل الثائر وقف وحرك شفتيه ببعض القول ثم رفع يمناه بطيئا نحو الرجل وتكلم كلمات أخرى، غير أن الرجل وقف وقفته الأولى ولم يزل متحديا، وحرك شفتيه ببعض كلمات والغضب باد في عينيه، وجعل ينظر إلى القوم الذين اجتمعوا حوله كأنه يستنصر بهم، فنظر الكاهن الشيخ لحظة نحوه، ثم نظر إلى الألوف الواقفة حوله وتكلم، وجعل يرفع يديه نحوهم في تؤدة ووقار وهو يتكلم. فقضى على ذلك حينا، ثم وقف ونظر إلى الجمع فإذا بحركة تبدأ في الواقفين وتتزايد، ثم ما هي إلا لحظة حتى كان الجمع مضطربا يصيح رافعا أيديه مهدد غاضبا

ص: 23

وهو متجه نحو الزميل المجرم المسكين. فرأيت العامل الشقي ينظر نحو من حوله وهم حانقون يتهددونه ويتوعدونه، وعند ذلك لم يقو على المضي في مقاومته، بل داخله اليأس وتخاذل مضطربا، فنظر الكاهن إليه وجعل يتكلم بكلمات ورفع يمناه مرة أخرى نحوه، فرأيت العامل المسكين يمد يده بالسوط فيسلمه وينزل عن الحجر الذي كان واقفا عليه ويتقدم في ذلة وخشوع نحو الشيخ الكاهن

فتكلم الكاهن مرة أخرى، ونظر نحو الجمع الزاخر حوله في تؤدة ووقار، ثم رفع يده نحوه، فألقى الكل ساجدين، ثم وقفوا خاشعين، ونظروا إلى الكاهن وهو يقبض على يد أخيهم الشقي، ثم نظروا إليه وهو يسير به نحو حافة البناء ويعصب عينيه، وكانوا عند ذلك لا تتحرك منهم يد، ولا تطرف لهم عين، وهم ينظرون إلى رسول الحكمة ونجي الإله ينفذ رغبة (رع) في العدل والرحمة، وتريث الكاهن قليلا، وهو يحرك شفتيه خاشعا بشيء يشبه الصلاة، فلما أتمها دفع العامل الشقي فجأة فقذف به على المنحدر الذي هوى عليه من قبل الرقيب القاسي، وتحطم كما تحطم ذلك الرقيب من قبل

ونظر الكاهن إلى الجمع المحدق به وقال لهم كلمات خروا بعدها للأذقان سجدا؛ ثم قاموا فأشار إليهم أخرى فانصرفوا وتبددوا كما يتبدد السحاب في الريح، فما هي إلا لحظة حتى عادت السموط تنتظم، وتجرر الأحجار نحو أعلى المنحدر صاعدة إلى قمة البناء الهائل ليبنوا لفرعون قبرا جديرا بمجده

وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، وكنت امتلأ قلبي بما رأيت، فقمت عن الصخرة التي كنت جالسا عليها ووضعت المرآة في جيبي، وجعلت أعزي نفسي عن وقع ما رأيت بأن أقول لها:(رويدك يا نفس! فما زال الإنسان هو الإنسان)

محمد فريد أبو حديد

ص: 24

‌الدرر الكامنة

للأستاذ محمد كرد علي

عضو مجمع اللغة العربية الملكي

طبعت عدة كتب في الطبقات والتراجم لأهل القرون الماضية في الإسلام، وإلى الآن لم تطبع تراجم أهل القرن الثامن والتاسع عشر، مع أن تراجمهم عني بها في القرن الثامن ابن حجر العسقلاني المصري المتوفى سنة 852، ووضع تراجم أهل القرن التاسع السخاوي المصري المتوفى سنة 902، وتراجم أهل القرن العاشر قام بتدوينها الغزي الدمشقي المتوفى سنة 1061 وسمى الأول كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)، والثاني (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)، والثالث (الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة)

ومن لطف المولى أن هذه الكتب الثلاثة بقيت في الأرض وظفر بعدة نسخ منها في خزائن الشرق والغرب، لا كأكثر تركة أسلافنا بعثرت وأحرقت وأغرقت وأصابها كل خطب عظيم

ترجم صاحب الدرر الكامنة لألف وثلثمائة وثلاثة وأربعين رجلا وامرأة، تراجم اعتمد في وضعها على من سبقوه في هذا الشأن من رجال التاريخ، أو كانوا ممن عاصرهم وسمع عنهم وأخذ منهم الحديث، أو أخذ مشايخه عنهم. ويغلب على ابن حجر الحديث والعناية برجاله ونسائه، ولذلك ذكر عشرات من المحدثات ممن كن يروين الأحاديث النبوية ويروينها. وترجم لبعض المشهورين تراجم لا بأس بها. ترجم لابن تيمية، ولسان الدين بن الخطيب، والصلاح الصفدي، وابن فضل الله العمري، وابن كثير، والبرزالي، والذهبي، وشيخ الربوة، وأبي الفداء، وابن المطهر الشيعي، وغازان، وابن دقيق العيد، والبدر البلقيني، وابن الوكيل، وابن سيد الناس، وابن نباتة، وابن الحاج، وابن المكرم، والشمس القونوي، وابن الوردي، وابن جماعة، والتاج السبكي، والتقي السبكي، والأردبيلي، وابن الأكفاني، والخطيب القزويني، وابن الزملكاني، وأبي حيان الأندلسي، والقطب الشيرازي، والبازري، والمزي، وغيرهم

وإلى جانب هؤلاء تجد تراجم أناس من الخاملين كبعض المجاذيب والموظفين والطلبة،

ص: 25

كأن لسان حال ابن حجر يقول: يجب ألا يحتقر أحد، وأن يدون كل شيء. ولكن هذه الطبقة شغلت فراغا من الكتاب على غير جدوى ومثلهم كثير في كل عصر ومصر، لو تطلعت نفوسنا إلى التعرض لذكرهم لملأنا منها قماطر ودفاتر، والمقصود تدوين سير العظماء ممن كان لهم أثر محمود في علم وعمل. وفي نظرنا أن من أهم من دون المؤلف حياتهم بعد علماء الدين ورجال الأدب أناسا من أرباب الغناء والموسيقى والهندسة والطب، وبهم في الجملة عرفنا روح ذاك القرن، قرن المماليك في مصر والشأم، بل مبدأ قرون الانحطاط ومنتهى قرون الارتقاء في الإسلام

يقع القارئ في هذا السفر على الروح الذي سرى في ذاك العصر إلى النفوس فلوثها بلوثات التعصب الذميم. وقد ذكرها المؤلف على الأكثر غير متعرض لجرح أو تعديل فيها. بيد أن القارئ لعهدنا، قد وضع المؤلف أمامه هذه الوثيقة أو الوثائق التاريخية الكافية، تهيئ له أسباب الحكم على ذاك المجتمع الذي فاض بالجور السياسي والجور الفكري. فالجور السياسي غزوات الططر (التتر) من الشرق على الديار الشامية، أي الجزء المتمم للملكة المصرية إذ ذاك، وغزوة بعض شعوب الإفرنج بعض السواحل المصرية حتى افترضها أحد الجورة من المماليك فرصة ليصادر النصارى في مصر ويستصفي ما في بعض كنائسهم من الجواهر والمعادن الكريمة أو يخربها حبا في التخريب وإبلاغا في النكاية على زعمه. هذا هو الجور السياسي. أما الجور الفكري فتحامل الموسومين بالدين على من بيت منهم بعض نزعات قيل إنها مخالفة للشريعة فكان جزاؤهم القتل. وما نظن أكثر تلك التهم مما يصح أن يتهم به صاحبه من أنه جنى بما قال على الدين إذا تدبرنا ما لاقاه شيخ الإسلام ابن تيمية من متعصبة العلماء في عصره في مصر والشام، وهو النابغة الذي عقمت القرون عن أن تلد أمثاله بعلمه وعقله وإخلاصه على ما دون ذلك ابن حجر في هذا الكتاب. فكانت ترجمته له أحسن ترجمة فيه لأول عالم نابغ في أول القرن

ثم إن من نظر في كتب المتأخرين وكتب المتقدمين يجد فروقا كثيرة بين الأولى والثانية: فروقا في الأسلوب وفي المكتوب؛ وهل التاريخ إلا مرآة العصر الذي يكتب فيه، وروح صاحبه الذي يمليه؟ وما كان لأبن حجر أن يكتب في التراجم ويجود إجادة ابن خلكان في وفيات الأعيان مثلا، ولا للسيوطي في مؤلفاته التاريخية أن يجود تجويد الكندي صاحب

ص: 26

كتاب ولاة مصر وقضاتها؛ وهكذا قل في الزمن الذي بدأت فيه الشروح والحواشي في الكتب الدينية، وصار من يسلخ من كلام غيره أو يمسخه وينسخه يعد مؤلفا فيزيد عدد الأسفار المحفوظة في الخزائن على غير فائدة جليلة

تمنيت في سنة 1328هـ (1910م) في مجلة المقتبس، وقد درست هذا الكتاب في نسخة خطتها أنامل إبراهيم البقاعي أحد أعلام عصره - الذي قال في نسخته: وكان فراغي من هذه في 17 شوال سنة 859 بمنزلي بحارة بهاء الدين في القاهرة - تمنيت لو يقدم رجل منا فيطبع هذا الكتاب، وقلت يومئذ لو لم يكن في هذا الكتاب سوى ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، لكان كافيا في طبعه؛ ولكن قومي شغلتهم الشواغل، وأصيبوا بالإهمال، فتهيأ لطبعه صديقي العلامة كرينكو أحد علماء المشرقيات من الألمان، فطبعه في أربعة مجلدات في أكثر من ألفي صفحة معارضا له على نسخ مهمة، وذلك على يد مجلس يد دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكن من ممالك الهند. وقد اعتادت هذه الدار أن تطبع من كتب العرب كل مفيد، فأحيت كتبا في الحديث والفقه والأصول واللغة والأدب والتاريخ والفنون، ونشرت حتى الآن نحو ثمانين كتابا منها ما دخل في بضعة مجلدات ضخمة، ومما طبعت لأبن حجر مؤلفنا الذي نحن بصدد الكلام على كتابه (لسان الميزان) و (تهذيب التهذيب) و (تعجيل المنفعة في رجال الأئمة الأربعة) الخ

هذا ولا يسعنا إلا أن ننوه بالناشر الغيور على العلم، وقد رأيناه جود معارضة النسخ وإثبات الصحيح من النصوص على عادة علماء المشرقيات في تدقيقهم إذا أرادوا طبع كتب العرب؛ وكم لهم من أياد بيضاء علينا لا ينكرها إلا منكر الجميل وغامط العارفة. وحبذا لو شفع الناشر هذا الكتاب الجليل بالفهارس المنوعة التي تسهل على العلماء الأخذ منه، فإن كتابا بلا فهرس تقل فائدته إذا كان من كتب المراجع؛ وعلمت أن الناشر وضع الفهارس والطابع تأخر في طبعها، وما أدري ما اعتذاره

وقد نشر السيد سالم الكرينكوي - كما دعا نفسه - كتاب التيجان لوهب بن منبه، وأخبار اليمن لعبيد بن شزية، وحماسة ابن الشجري، أتكلم عليهما في فرصة أخرى وأكتفي هنا بشكره، وأن أوجه نظره إلى كتاب آخر لأبن حجر لا يقل عن الدرر الكامنة في الفائدة، وهو (إنباء الغمر في أبناء العمر) وفي الخزانة الظاهرية بدمشق مسودة هذا المخطوط بخط

ص: 27

مؤلفه، وهو تعليق كما قال فيه جميع حوادث الزمان منذ مولده سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وهلم جرا مفصلا في كل سنة أحوال الدول ووفيات الأعيان، مستوعبا لرواة الحديث خصوصا من لقيه أو أجاز له. وقد امتد هذا الكتاب إلى سنة خمسين وثمنمائة، وجاء من ذيل عليه، كما جاء من اختصر له الدرر مثل ابن المبرد وجلال الدين السيوطي الذي عرف بالولوع باختصار الكتب

القاهرة

محمد كرد علي

ص: 28

‌الفن والطبيعة

بقلم نظمي خليل

. . ونعني بالطبيعة العالم المرئي الذي يقع تحت بصرنا، ولسنا نبغي من وراء تعريفنا للطبيعة تحديدها أو تبسيطها، ولكنا نريد أن نعرف هل هناك تباين بين العالم المرئي وبين الفنان، وهل هناك اختلاف جوهري بين جمال العالم المرئي، وذلك الجمال الذي نراه ونحس به عندما ننظر إلى لوحة مصور أو تمثال مثال؟

إذا أجبنا عن هذا السؤال بالإيجاب، وهو الحق والصواب كما اعتقد - رأينا أنفسنا مضطرين إلى أن نشرح وظيفة الفنان الذي يقف بيننا وبين الطبيعة. . فلو وقف الفن عند سرد مناظر الطبيعة، أو اقتصر على التقاط مناظرها وصرها كما هي، لرأينا آلة التصوير تسرع إلى انتزاع مكانة التصوير. ولكن الحقيقة أن الفن ليس تمثيلا للطبيعة، ولكنه تفسير لها. ولسنا نغالي إذا قلنا إن الفن يبتدئ حيث يترك الفنان صحبته القوية للطبيعة، بعد أن يشيع في جوها أنغاما من عمله الخاص تبعا لشعوره الشخصي وذوقه الموسيقي. فالطبيعة معين لن ينضب للفن، - وهي اليوم - كما كانت، وكما ستبقى أبدا - أكبر موح له بروائع الحسن والجمال. ولكن القوانين التي تتحكم في عمل الفن منفصلة تماما عن قوانين الطبيعة. فإذا كانت النغمة التوافقية في موسيقى الرعاة عملا فنيا جليلا، فذاك لأن بيتهوفن لم يحاك نغمات الطبيعة تبعا لشروط الموسيقى وقوانينها، وأفصح عن تلك العواطف الخاصة التي أثارتها فيه صحبته القوية للطبيعة في أنغام سامية، كانت من وحيه وإلهامه، ثم وجهت في هذا الطريق الموسيقى بواسطة المهارة الفنية التي هي أصيلة في كل عمل فني. . .

يقول بعض الناس عن مهمة الفن في ذا العالم هي أن يكمل ما في الطبيعة من نقص. وقد يفهم البعض منهم أن الفن يأتي بأشياء ليست في الطبيعة، أي أنه يزيد في مواد الطبيعة الأساسية. ولكن هذا الفهم خطأ، وهذا الظن إثم وجور على الطبيعة. فليس لدى الفن ما يجود به على الطبيعة من روائع المناظر وعجائب الآثار. . وليس لدى الفنان شيء جديد. ولكن لديه شيئا واحدا، وهو الذي يخدع هؤلاء البسطاء، فيتوهمونه زيادة أو جديدا، هذا الشيء الذي يبدو جديدا هو الحصر أو التحديد لمناظر الطبيعة ومظاهرها. فقد يرى إنسان

ص: 29

نهرا يجري فلا يحس إحساسا كاملا بروعة مياهه وقوة تياره، وما على شاطئيه من رمال ونباتات أو غابات وصخور. قد لا يفطن الناظر إلى هذا النهر للجمال المختبئ في هذه المناظر الطبيعية الفسيحة الضخمة الهائلة. فينصرف عن النظر إليها إلى صورة رسام أو مصور ماهر قد صور هذا النهر وهو يتدفق ويتغلغل في الأحراج والجبال

وليس معنى هذا أن النهر الجاري أقل جمالا وروعة من صورة الرسام، لا، بل إن الناظر نفسه لم يفطن إلى هذا الجمال الأصيل في تلك المناظر الطبيعية العظيمة، لأنه جمال متشعب فسيح. فلما جاء الفنان وحصره في لوحته الصغيرة، أمكنه أن يشعر به، وأن يقف على أسراره الدفينة؛ ولو أمكن الرائي أن يدرك الجمال الطبيعي في مظهره الطبيعي لوجده جمالا خالصا عبقريا. ولكن عين الإنسان لا تستطيع أن تأخذ النهر الجاري من منبعه إلى مصبه، أو أن تلقي نظرة كاملة على الجبل الشامخ من قمته إلى سفحه. فإن حاولت ذلك لحقها الكلل والملال، وفضلت النظر في الصورة على التطلع إلى المرئي ذاته مهما يكن جماله وروعته

هذا هو الشائع بين الناس. ومن أجل هذا قيل إن الفن يكمل ما عجزت عنه الطبيعة، والحقيقة أن الفنان لا يزيد شيئا على ما في الطبيعة من ثروة وغنى، وإن كان يحصر هذه الثروة ويبرزها في صورة جميلة ومنظر بهي. . .

هذا شيء، والشيء الآخر هو أن الفن ليس محاكاة للطبيعة أو للحياة، ولكنه خلاصة ما في الطبيعة والحياة

فالفن قد يحاكي الطبيعة، وقد يحاكي الحياة، ولكنه لن ينسخ من الطبيعة أو الحياة صورا متشابهة متطابقة، فهو محاكاة وليس نسخا. والفرق بين المحاكاة والنسخ هو أن الفنان الذي يحاكي الطبيعة يأخذ منها ما يجده ملائما لفنه، أي ينتقي أروع ما فيها من الآثار، ثم يسلط عليها قوانينه الفنية فيلم أجزاءها ويعطي لها الوضع المناسب الجميل، فتبرز للرائي جديدة ضافية في حلل الجدة والإبداع

أما النسخ، فهو صورة طبق الأصل للطبيعة. ولو كان الفن نسخا للحياة لما أحسسنا بعظمة الفن الأصلية وسحر قوته الدفينة، ولجاء ثقيلا مضطربا مشوها كالحياة ذاتها. ولما وجدنا فيه هذا الشعور الخفي الذي يسكن آلامنا، ويريحنا من آلام الحياة وعنت الأيام. بل لما

ص: 30

اعتبرنا الفن مأوى لنا نلجأ إليه كلما أثقلتنا متاعب الحياة وضقنا بمطالبها ذرعا، ولما كانت لنا حاجة ماسة إليه. فلو كان الفنان يقدم لنا جبلا كالجبل الذي نتسلقه، أو نهرا كالنهر الذي نعبره، أو مرعى مخضوضرا قد انتثرت فوقه الأغنام والمواشي، كتلك المراعي التي نراها كل يوم في قرانا، لما اهتززنا لصوره، ولما أدركنا لها سر أو معنى

ولو كان الفن يصور لنا حادثة يومية، أو عملا من أعمالنا العادية التي نلامسها كل يوم دون أن يخلع عليها شيئا من شعوره وشخصيته، لما شعرنا بحاجة الحياة إليه، ولما عملنا على نموه وازدهاره واكتفينا بالتاريخ

ولكن الفن لا يقدم لنا كل ما في الطبيعة ولا كل ما في الحياة، ولكنه يختار أروع ما في الطبيعة، وأجمل ما في الحياة، ثم يقدم لنا هذه في شكل رائع جذاب، وفي صورة فنية جميلة

هذا هو السبب الذي من أجله نلجأ إلى الفن ونهرع إليه كلما أثقلتنا الحياة أو ثقلت علينا الطبيعة. فنحن لا نعمل في هذه الحالة أكثر من أن نتخلص من بعض هذه المنغصات أو الأشياء الثقيلة الجافة التي يتجاهلها الفن، ولا يقف عندها أو يأبه لها

والفن لا يختار في الغالب موضوعه من الحياة الظاهرة، أو من تلك المرئيات التي تلوح للعين في كل يوم، ثم تختفي وكأنها لم تكن، وإنما يختار موضوعه من قلب الطبيعة، ويتخذ مادته من لب الحياة

فالفنان العظيم حقا هو الذي ينفذ إلى الحياة الداخلية، وهو الذي يتغلغل في أعماق الطبيعة، ويقف على كامن أسرارها ويبرزها للعين والحس في صورة فاتنة أخاذة

فهو لا يصور كل ما يحس به أو يقع عليه بصره، وإنما يفكر كثيرا فيما يبدعه للناس. فلا يختار إلا ما كان عميقا في النفس، أصيلا في الطبيعة. وهو في عمله هذا يخالف المدنية كل المخالفة، لأن المدنية تطور الحياة الظاهرية، الحياة الحسية؛ أما الفن فهو تطور لحياتنا الداخلية. فهو يتصل بالقلب الإنساني والفكر الإنساني، أما المدنية فتتصل بأعمال الإنسان وأحداثه في هذه الحياة المائجة الصاخبة. لذلك كان الفن أصيلا في أصوله ثابتا في جوهره، وكانت المدنية سريعة التغير، كثيرة التباين والاختلاف. .

وليس معنى هذا أن الفن جامد محافظ، عدو للتطور، ولكنه في الحقيقة في تغير دائم، وإن

ص: 31

خفي عنا مظهر هذا التغير لعمقه وبعده عن إدراكنا الحسي المجرد. . .

نظمي خليل

ص: 32

‌هل تدين الإغريق

للأستاذ دريني خشبة

لا نحسب أن أمة من الأمم شذت عن قانون التدين فلم تتخذ آلهة تعبدها وتعنو لها، وتلتمس منها البركات، أو على الأقل، إلها تفزع إليه كلما مسها ضر، أو حز بها أمر. والإغريق، ككل الأمم، كانت لهم آلهتهم ومعابدهم وقديسوهم. وقد لا نستطيع أن نحصر الأقوال المتضاربة في حقيقة تدينهم، وهل كانوا، كالأمم السامية مثلا، يستغرقهم هذا التدين، ويغمر أفكارهم وأعمالهم؟

فالمشهور عن الأجناس الآرية أنهم قوم آداب رفيعة وفلسفة، وبذلك امتازوا من الساميين المتدينين، ومن المغول وآربي الهنود المتقشفين. على أن الإغريق، من وجهة الدين، ينقسمون إلى فئتين، إن لم يكن أكثر؛ فهذه الطبقة المستنيرة المثقفة، التي ورثتنا تلك الثروة الطيبة من الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ والفنون، قد كان لها وجهة نظرها الخاصة بالنسبة إلى الدين.

فلم يكن هوميروس مثلا يعتقد في آلهة اليونان مثل ما يعتقد هسيود؛ ولم يكن بندار كذلك، يعتقد ما يعتقده أرفيوس أو تؤمن به الشاعرة سافو. وقد أثبت البحث أن هوميروس كان ينظر إلى هذه الجمهرة من أرباب اليونان، ورباتهم، كما ننظر نحن إلى أشخاص درامية ازدحمت بها المثيولوجيا اليونانية، وقدسها الشعب، فرأى أن يستمد منها هذا الخيال الحلو الساذج، ليكون منه مادة ملاحمه، وليضفي من هذا الخلود السماوي، على فناء تلك البشريات الهالكة؛ ولم يثبت أنه آمن بشيء منها. وذلك عكس ما ثبت من إيمان هسيود، واحترامه الشديد لجميع الأرباب اليونانية. نقرأ ذلك في مواضع كثيرة من قصيدته الخالدة (الأرجا ومن درته العجيبة (الثيوجونية بل إن من الإغريق من أنكر هذا التهريج الميثولوجي، وكفر بكل الثيوجونية اليونانية؛ وهذا يوربيبيديز فخر أدباء اليونان وشيخ شعرائها، قد كان من أشد الملحدين سخرية بمعتقدات الناس الدينية قاطبة

والشاعر الدرامي أسخيلوس قد حاول في إحدى روائعه المدهشة (برومثيوس المصفد) أن ينقد هذا الكمال المطلق الذي يضفيه قومه على كبير الآلهة زيوس؛ بل هو يتهمه بالقسوة والوحشية وعدم الميل إلى ما ينفع العالم؛ ويضرب لذلك أمثالا طريفة مما جاء في

ص: 33

الأساطير القديمة، كأسطورة باندورا ويو. ثم هذا صولون العظيم يلحد بزيوس ويجدف فيه تجديفا يشبه السباب، فيقول في الجزء الأول (ص32):(إن الله حقود حسود، وهو مشغوف أيما شغف بإرباك الناس وترويعهم!)

على أننا محاولون هنا أن نثبت المعتقدات الشائعة بين العامة، وهي الفئة الثانية، في هيلاس (اليونان) قبل القرن السادس (ق. م). تلك المعتقدات التي مهما قيل فيها، لم تخرج عن كونها ألوانا من الديانات البدائية الساذجة، التي تشبه كثيرا مما دانت به الأمم الجاهلية

ولقد دلت الأستقراءات التاريخية على أن قدماء اليونان كانوا قوما خابتين، يخشون الآلهة، ويرقبونها في كل أعمالهم، وكانت الظواهر الطبيعية توحي إليهم بأحلام لاهوتية لا يستطيعون الإفلات من ربقتها، فكانوا يقيمون الهياكل الضخمة باسم القوى التي يزخر بها الكون من رياح وشمس وقمر ونجوم وبحار. . . وكانوا يقيمون التماثيل الرائعة لآلهتهم في تلك الهياكل، ويوكلون بها كهنة يؤدون الشعائر الخاصة بكل منها، ويتقبلون القرابين والضحايا لتي يتقدم بها الشعب المتدين البريء في كثير من المناسبات

ومن الأغاني والتراتيل الدينية التي تركها لنا الشاعر الغنائي أرفيوس، نعلم أن عبادة ديونيزوس كانت ذات شان كبير بين الغالبة العظمى من قبائل الإغريق. وديونيزوس هو إله النماء والخضرة، وموسمه حين تنظر الحقول، وتكتسي سندس القمح، وتزدهر البساتين فتتفتح عن أفواف الورد، كان موسم الرخاء والمرح، وعيد الخير عند سائر اليونانيين؛ لذلك تواضع المؤرخون على تسمية هذا اللون من ألوان العبادات (بعبادة القمح)، ولما كان الثابت أن أحدا من الهيلانيين لم يعبد القمح بالذات فنرى أن هذه التسمية مجازية، وأن من الخير للتاريخ أن نعرفها باسمها الحقيقي، الذي هو (عبادة ديونيزوس). وقد نشأت هذه العبادة، أول ما نشأت، في (إليزيس) إحدى قرى (أتيكا)، حيث كانوا يعتقدون أن أم القمح (أي حبة القمح!) وابنها (أي ساق القمح!) يتفضلان على الناس كل شتاء، فيخرجان من بطن الأرض ليعم الرخاء وينتشر الخير. . .

وقد انتقلت عبادة باخوس، إله الخمر، من تراقيا إلى الجنوب، ثم ما برحت تنتشر وتستفيض، حتى تمازجت على مر الأيام بعبادة ديونيزوس. وصارت هذه (التثنية) ذات اعتبار كبير ولا سيما بين العامة. وصار هذا الإله المركب:(ديونيزوس - باخوس!) هو

ص: 34

رب القمح. . . والخمر. وإله الحقل. . . والكرم!

ومن دراسة الأدب الإغريقي في الإسكندرية ورومة، نعلم أن ديونيزوس - باخوس كان ذا شهرة مستفيضة في المهاجر اليونانية

أرفيوس ومذهبه: (الأرفزم)

ويسوقنا البحث في ديانة الإغريق إلى الكلام عن أرفيوس الشاعر الديني، الذي تعتبر تراتيله في الشعر اليوناني كمزامير داود في العهد القديم، ولأرفيوس ضريب قديم يدعى موسيوس قد يكون أشعر منه، وأعلى في دولة الآداب كعبا، ولكن - للأسف - لم يصلنا من آثاره ما نستطيع به الكشف عن شخصيته، ولذا نشير إليه، دون أن نعرض له بشيء. وحسبنا أن نذكر أن مؤرخي الأدب اليوناني يختلفون أشد الاختلاف حول أشعار أرفيوس، وأكثرهم يرجح أن طائفة كبيرة من هذه الأشعار هي لموسيوس، ونرجو أن يوفق الكاشفون من رجال الآثار إلى شيء يلقي النور على هذه الناحية المعتمة من تاريخ الأدب اليوناني

ولقد كادت ملاحم هوميروس وهسيود تكسف هذه التراتيل الدينية وتغمرها، بل كادت تفقدها هذه القدسية التي يكنها العابد المتزمت لكل ماله علاقة بأربابه. وزاد الطين بلة، تلك الفلسفة الخبيثة التي حملها الايونيون معهم حين غزوا بلاد الإغريق. فهي قد جرأت الكثيرين على التشكيك في صحة معتقداتهم، وغلا البعض فركن إلى العقل والعلم في النظر إلى الحياة والكون، وما يزدحمان به من ظاهرات

بيد أنه حدث خلال القرن السادس قبل الميلاد، من الأحداث اليونانية داخل البلاد وخارجها، ما شجع الشعور الديني، وقوى الأواصر بين الشعب وآلهته، بعد إذ كادت تنحل وتتفكك على أيدي هؤلاء الملاحدة من شيعة الفلسفة الأيونييه. ذلك أن الحروب المستمرة التي مزقت أوصال البلاد، وسقوط مدينة الترف وبلهنية العيش (سيباريس) أغنى المدن الإغريقية على خليج تارنتوم الإيطالي، وإفلات مدينة نينوى من أيدي اليونانيين. . . كل ذلك حفز الشعور الديني، وابتعث المعتقدات القديمة في صدور الدهماء العامة، فذكروا آلهتهم، وخيل لهم أن ما حل بهم من ضنك، إنما سببه إعراضهم عنها، وانشغالهم بما هو أدنى!؟

ومن ثمة، عمرت الهياكل، وارتفعت فيها الأصوات بتراتيل أرفيوس، ولهج الشعب

ص: 35

المهيض بهذه المزامير يلتمس فيها عزاء وتسلية. وسرعان ما أنتشر مذهب جديد أطلق عليه مذهب (الأرفزم) - نسبة إلى أرفيوس - وهو لون طريف من عبادة ديونيزوس يؤمن أتباعه بالثواب والعقاب في الدار الآخرة، وأس إيمانهم هو الاعتقاد بتجسد التثنية المركبة من الإلهين (ديونيزوس - زجريوس). وزجريوس هذا هو ابن زيوس من البتول (!) كوريه؛ وقد حدث أن التيتان قد حنقوا على زجريوس فقتلوه، فغيض أبوه (زيوس) وسلط عليهم الصواعق حتى أبادهم؛ وعاد فاستولده من إحدى بنات حواء (سيميليه) فعاش كما يعيش الناس؛ وإن يكن قد بلغ مرتبة الإلهة وهو بينهم، ثم رفعه أبوه إلى السماء، حيث صار فيها السيد الصمد، والإله الأوحد

ولقد ظل (ديونيزوس - زجريوس) صاحب الشأن الأعظم في الديانة اليونانية، وتنوسي رب الخمر باخوس، أو على الأقل، تضاءلت أهميته، لما كان يشاع عن عباده في تراقيا من الفضائح المخزية، والموبقات التي كانت تنخر كالسوس في أخلاق الشعب، وتصدع آدابه. ذلك أن كل فرد من عباد باخوس كان لزاما عليه كطقس من الطقوس هذه العبادة الخمرية، أن يستبيح عرض واحدة من عابداته، آلائي كن يطلق عليهن لقب (ميناد) فإذا كان الليل، وبدأت الحفلات الدينية، انطلقت الشهوات المكبوتة، وتدفق دم الدعارة حارا في عروق هؤلاء وهؤلاء، وراحوا يمارسون أحط ألوان البغاء باسم الشعائر الدينية؛ وكثيرا ما كان يعتدى على أعراض الحرائر، فلا يستطيع الزوج أو الأب أو الأخ دفع المنكر عن عرضه، لأن ذلك صميم شريعة باخوس!!

لهذا، اعتبرت شريعة ديونيزوس - زجريوس، منبع الطهر الروحي، والتهذيب الصوفي الجميل، وحافظت على مكانتها، كديانة عامة لليونان، منذ قبيل القرن السادس (ق. م) إلى ما بعد القرن الرابع. وكان لها قديسوها وعلماؤها، بل وأنبياؤها أيضا، إن صح أن نطلق هذه التسمية في تاريخ الديانة اليونانية؛ ولقد كانت الغالبية - حتى من العلماء والأدباء - تتناول أبحاثها في الأرفزم بكل تأدب واحتشام. وشذ أفلاطون وحده، عندما ثار ضد ما كانت تبيحه هذه الشريعة - أو قل هذا المذهب - من الغفران وقبول التوب، لمجرد طقوس تافهة يقوم بها أحد العصاة الآثمين

وكما يطلق العامة في العالم الإسلامي لقب (واصل) أو (صاحب سر) على من زكت نفسه،

ص: 36

وطابت سريرته؛ وصفا ما بينه وبين الله، من المسلمين؛ وكما يفعل مثل ذلك أخواتنا النصارى؛ وكما يذهب إلى هذا النحو ربيون من اليهود وأحبار، فكذلك كانت سنة اليونانيين؛ فكل من تعمق في عبادة ديونيزوس، واستبحر في تحصيل شريعته، وكان مع ذلك تام التقى، شامل الورع، ارتفع إلى طبقة باكيس كما يرتفع المخلصون من نساك الهند إلى مرتبة (مهاتما). ويبدو أن هذه تقاليد قديمة تغلغلت في المذاهب الحديثة التي نشأت في هيلاس بعد القرن السادس (ق. م). آية ذلك أن كل من كان يستبحر في عبادة باخوس يصبح باخس وكل من كان يخبت للإله (كيبيب) إله فرجيا، يصير كيبيبس وقد انتقلت هذه السنة إلى أتباع مذهب الأفرزم، فأصبح كل من حوارييه يحمل لقب أرفيوس. . .

وبمثل ما تدر إخلاف الرزق، السهل الميسر، على (واصل) المسلمين، وأحبار اليهود؛ فكذلك كانت القرابين والضحايا والزكوات تقدم بكثرة هائلة، ومن جميع طبقات الشعب، إلى الباكيس والباخس والكيبيبس والأرفيوس من رجال الكهنوت اليوناني. وكانت هذه الأعطيات والمنح، تقدم في مناسبات غربية، لا تختلف عما هو شائع بيننا اليوم. فهذا يريد الاستفسار عن حلم رآه، وذلك يطلب وصف دواء لعلة استعصت على نطس الأطباء، وثالث يطلب نبوءة عما تنتهي إليه شدة حلت به، إلى آخر هذه العلل والأسباب

وإلمامة عجل بأشعار ما قبل التاريخ، في الأدب اليوناني، تشعر بمدى ما كنت متأثرة به من شتى المذاهب الدينية، وصنوف العبادات الساذجة التي تفعم هذا الأدب القديم. وأثارة الأرفزم شديدة الوضوح في هذه الأشعار؛ وأشعار أرفيوس خاصة، تشبه عندنا أشعار عمر بن الفارض، وهي ترتيلات كان يرسلها الناظم إلى أربابه سلاما في سلام، اسمع إليه يتناجى:

(أدعوك يا هيكاتيه يا ربة الطرق

(يا حامية مفترق الشعاب

(يا باعثة الأمن من ديجور الظلام

(أيتها المسيطرة على السموات والأرضين والبحار

(يا مؤنسة الموتى في قبورهم، مياسة في الوشائح المعصفرة

(وأنت يا برسييه، أضرع إليك

ص: 37

(يا من تؤثرين الهدوء والسكون

(أيتها المليكة التي تقبض على مفاتيح الدنيا

(ألا هلمي، وكوني معنا، إذ نسبح باسمك

(كيما تطهر نفوسنا، وتنتقي قلوبنا

(باركينا يا برسييه، وأفيضي علينا مما فاض به قلبك الكريم من محبة. . . .

ويشك بعض المؤرخين في انتشار مذهب الأرفزم قبل القرن السادس (ق. م). غير أن الأناشيد القديمة تثبت أنه كان لهذا المذهب أشياع كثيرون ومريدون، بل لقد كانت الآداب تتأثر به غير صقع من أصقاع اليونان. وهذا نشيد (الأليميونيس دليل على ذلك؛ فلقد ظهر فيه اهتمام الشاعر الذي أنشده بطقوس التطهير، وشدة حرصه على إيراد ما كان أهل التقى يؤدونه من مراسم دينية، تستلزمه عملية (تنقية القلب) من الأدران الدنيا، بالضراعة إلى زجريوس، رب الأرباب، المشرف من عليائه على الكون! والتطهير ومراسمه لب لباب الأرفزام

وقد أثبتت دراسات الأساتذة الألمان كارل مللر ونوك وكنكل وغيرهم أن شاعر كورنثه فيما قبل التاريخ (يوميلوس) كان يدين بالأفرفزم؛ وأنه تبتل إلى ديونيزوس في نشيده الجميل (يورويبا) تبتلا؛ وقد أثبتت في هذا النشيد ما كان في الأزل من اعتداء التيتان على زجريوس وقتلهم إياه، وتعرض أيضا للرؤى والأحلام، وخاض في ذكر هيدز (الدار الآخرة)

أما أثر الأرفزم في الألف سنة التي تبدأ بالقرن السادس ق. م فواضح أشد الوضوح، وهو على أتمه في بندار وهيرودوتس وصولون، ولا يخلو شيخ الملحدين يوربيبيديز من أثارة منه، وقد تأثر به كل من سوفوكلس، وإسخيلوس، وتأثرت به الإسكندرية كذلك

أما هذه الكثرة المدهشة من إلهة اليونان، فقد سلسلها لنا الشاعر هسيود في منظومته الرائعة (الثيوجونيه)، وهي بكلمة خاصة أولى

دريني خشبة

ص: 38

‌8 - قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

وكيل كلية العلوم

اسبلنزاني

ختام حديثه

هدم اسبلنزاني نظرية نيدم التي تقول بأن الأحياء قد تخرج من لا شيء، قد تخرج من غير آباء وأمهات واحتال على السلطات فمنحته إجازة ونفقة ليسوح في الشرق، فكرمه الشرق وأكرمه، وعاد فتلقاه إمبراطوره، إمبراطور النمسا، فبلغ بذلك ذروة مجده، فأسكرته خمرة الساعة وقال:(ما أحلى تحقق الأحلام)

- 6 -

ولكن بينما كان اسبلنزاني في سياحته المجيدة، يتنقل بين البلدان تنقل الفاتح، وتستقبله العواصم استقبالها القائد المنتصر، كانت تتجمع في جامعة بافيا حول اسمه سحابة سوداء. نعم في جامعة بافيا نفسها، تلك الجامعة التي صنع لها ما صنع ليعيد إليها الحياة. فأن أساتذتها الإجلاء ظلوا زمانا ينظرون إلى طلبتهم تعزف عن دروسهم إلى دروسه، وتتفرق عنهم لتتجمع حوله، فنال الحقد منهم، فسنوا سكاكينهم، وشحذوا خناجرهم، واصطبروا يرقبون الفرصة حتى أمكنت.

جاء اسبلنزاني إلى متحف بافيا فوجده خاليا، فقام يجمع له التحف وينتقي له من أحضان الطبيعة كل نادر معجب، فاحتمل المتاعب، ولقي المصاعب، وواجه الأخطار، حتى جعل المتحف حديث أوربا كلها. ولكنه كذلك جمع لنفسه بعض الشيء، وحفظ ما جمع في بيته العتيق باسكنديانو. فذات يوم ذهب القسيس فولتا إلى اسكانديانون وكان من أعدائه وحساده، فاحتال حتى دخل منزله وتسلل منه إلى متحفه الخاص، وأخذ يشمشم في أركانه، وإذا بابتسامة للشر سوداء تعلو شفتيه، فانه وجد بهذا الركن وعاء، وبهذا طائرا، وبذلك

ص: 39

سمكة، وقد حملت جميعها البطاقة الحمراء لجامعة بافيا. وخرج فولتا يتخبأ في طيات عباءته السوداء، وفي طريقه إلى داره أخذ يدبر المكيدة لاسبلنزاني، واجتمع بالأستاذين إسكاربا وأسكوبولي وما كاد اسبلنزاني يعود من سياحته فيخطوا عتبة داره، حتى كان هؤلاء الثلاثة الأشراف قد فتحوا كوة من جهنم فاندلعت ألسنتها في أروبا تعلن فضيحة صاحبنا للأمم، فما تركوا رجلا نابها من رجالاتها، ولا جماعة من جماعاتها إلا بعثوا إليها بكتاب يتهمونه فيه بسرقة متحف بافيا، ويقولون إنه خبأ ما سرقه في متحفه الخاص باسكنيانو

وفي لحظة أحس صاحبنا دنياه العظيمة تتقوض حوله، حتى ليسمع تصدع حيطانها وانهيار بنيانها. وفي دقيقة وجد جنته البهيجة تتصوح، حتى ليرى زهرها الجميل يذبل، وريح ريحانها تحول؛ وأخذ يحلم يقظان، فخال أنه يسمع اليوم ضحكات رجال مجدوه بالأمس، وشماتة خصومه قهرهم شر قهرة بحقائقه وتجاربه، حتى خال أن (القوة النباتية) التي قضى عليها قضاء مبرم تنبعث من قبرها وتخرج من كفنها

ولكن لم تمض عليه أيام حتى تماسك، وأحس أن الأرض لا تزال جامدة تحت قدميه. بالطبع كانت الفضيحة لا تزال قائمة، وألسنة الأعداء لا تزال صاخبة، ورحى الحرب لا تزال دائرة، ولكنه تجمع بعد تشتت، وتبوأر بعد تشعع، فألضق ظهره إلى الحائط، وامتشق سيفه، وصاح في القوم بالنزال. ذهب عنه الصبر الذي صحبه في صيد المكروب، وغابت عنه اللطافة والظرافة اللتان زانتا كتبه إلى فلتير، وأصبح كالنمر الغاضب، وأخذ يدفع النار بالنار! وجاءه دهاء الساسة فطلب تعيين لجنة للتحقيق فأجيب طلبه

وعاد إلى بافيا، ولعله وهو في الطريق إليها كان يتهيب دخولها، ويدبر أمره لينسل فيها انسلالا، حتى لا يرى عيون أحبابه الأقدمين تزور عنه، وحتى لا يسمع شفاههم تهمس فيه بالشر، ولكنه ما كاد يصل إلى أبواب بافيا حتى وقعت أعجوبة نعم أعجوبة، فقد تلقاه فعلا على أبوابها جم غفير من تلاميذه مهللين مكبرين فرحين مرحبين بقدومه، وقالوا أنهم له لناصرون، والتفوا حوله في صراخ وزئاط حتى بلغوا به كرسيه القديم الذي كان يحاضر عليه بالجامعة. وقام هذا الرجل القوي، الذي اعتمد دائما على نفسه، واعتز دائما وأعجب بنفسه، قام في هذا الجمع الكبير يخطب شاكرا ويعترف لهم بالجميل، فإذا بصوته يخذله،

ص: 40

وإذا به يرفع منديله إلى أنفه، وإذا به يجتزئ بأن يقول لهم في كلمات قليلة وصوت أبح إنه يقدر هذا الإخلاص تقديرا عظيما

وانعقدت لجنة التحقيق، واستدعته هو وخصماؤه إليها. والآن بعد أن عرفت من هو اسبلنزاني تستطيع أن تصور لنفسك العراك الذي تلا هذا اللقاء، بل المذابح والمجازر. وأثبت للقضاة أن الطيور التي زعموا أنها سرقت لم تكن إلا طيورا خسيسة، ساء حشوها واتسخ ريشها، فقذفوا بها في الكناسة قذف النعال البالية. وهي طيور لا تليق بمتحف في مدرسة بقرية فضلا عن جامعة. وأما الثعابين التي زعموا أنها ضاعت من متحف بافيا فلم تضع، وإنما استبدل بها أشياء أخرى من متاحف أخرى، وكانت بافيا الرابحة في هذا الاستبدال. وأما السارق الذي تبحثون عنه فهو فولتا، كبير المتهمين هذا، فانه سرق من المتحف أحجارا كريمة وأهداها أصدقاءه. . . .

وبرأه القضاة من تلك الوصمة، ولو أن تاريخ اليوم لا يستطيع أن يؤكد كل التأكيد أنه لا يستحق ولو قليلا من الملام. وعزلت الجامعة فولتا والمؤتمرين معه شر عزلة. وبعث الإمبراطور أمره إلى المتخاصمين وأشياعهم أن يقلعوا عن خصامهم ويعقدوا ألسنتهم؛ فإن الأمر كان استحال إلى فضيحة عامة شاع خبرها في أوروبا؛ وبلغ جدال الطلاب فيها حد العنف والاستهتار بالنظم فحطموا الأثاث بقاعات الدرس، وجامعات أوروبا أخذت تتسارق الضحك من هذه الجرسة التي لم يسبقها مثيل. وأراد اسبلنزاني أن يطلق آخر طلقة على أعدائه المنهزمين فسب فولتا بأنه مزمار ذو فوهة كبيرة جوفاء لا يملؤها غير الهواء، أما الأستاذان اسكاربا وإسكوبولي فأسماهما أسماء غاية في البذاءة يمنع التجمل من كتابتها. وبعد هذا عاد مطمئنا إلى صيد مكروبه

وعاوده سؤال كان يجيئه مرارا في السنوات الماضية العديدة التي قضاها في التحديق إلى حيواناته الصغيرة، وهو: كيف تتكاثر تلك الحيوانات؟ أنه كثيرا ما رأى الفردين منها متلاصقين، فكتب إلى بونيت يقول:(إنك إذا رأيت فردين من أي نوع متزاوجين، استنتجت بطبعك أنهما يتناسلان). ولكن هل هذا التزاوج الذي أراه بين هذه الحيوانات الضئيلة تناسل؟ لم يحر لسؤال نفسه جوابا، فانه على رعونته في أمور أخرى، كان شديد الأناة في العلم، حذرا في استنتاجاته حذر (لوفن هوك). لهذا اكتفى بأن سجل هذا السؤال

ص: 41

على الورق من غير جواب، ورسم صورة هذه الأحياء أزواجا كما رآها

وكان لـ (بونيت) صديق يدعى صوصير وكان رجلا ذكيا أضاع اسمه الزمان. فلما علم بالذي كتبه اسبلنزاني إلى صديقه قام يدرس كيف تتناسل تلك الأحياء. ولم يمض غير قليل حتى نشر بحثا مذكورا إلى اليوم، يقول فيه إنك إذا رأيت اثنين من هذه الحيوانات متلاصقين فلا تظنن أنهما التصقا ليتناسلا. إذ الواقع الغريب أنهما حيوان واحد، انشق انشقاقا فصار حيوانين. وهذه هي الطريقة التي تتكاثر بها هذه الأحياء، أما الزواج فهي لا تعرف للذائذه طعما

قرأ اسبلنزاني هذا البحث فطار إلى مجهره، وهو لا يكاد يصدق ما قرأ، ولكنه نظر، وداوم النظر، فأثبت صدق صوصير. وقام الطلياني إلى دواته يهنئ السويسري تهنئة حارة على ما كشف. كان اسبلنزاني يميل للحرب والخصام، وكان يميل للكيد بعض الميل، وكان أمالا شديد الأمل، وكثيرا ما كان يغار من اشتهار غيره من الرجال، ولكن إعجابه بتلك الملاحظة الدقيقة التي أتاها صوصير، واستغراقه في جمال تلك الحقيقة التي وجد، أنساه أمله، وأنساه غيرته، فكتب يهنئه بالذي كتب فانعقدت بين اسبلنزاني وصوصير والعلماء الطبيعيين في جنيفا روابط مبهمة، ولكنها على إنبهامها متينة، هي نتيجة استشعارهم بأن الجماعة تستطيع أن تتعاون فتكشف من الحقائق الكونية ما لا يكشف عنه الأفراد متفرقين، ونتيجة اقتناعهم بأن صرح اعلم لابد لإقامته من بنائين عديدين متفقين على رسمه ورفع حجره وانسجام أوضاعه. وكره هؤلاء العلماء الحرب أول من كره، فهم أول من صدق الدعوة لائتلاف الأمم لتكون أمة واحدة هم أبر رعاياها

وقام اسبلنزاني بعدئذ ببحث من أمجد الأبحاث التي قام بها في حياته، دفعه إليه حبه لأصدقائه السويسريين وإخلاصه لهم، وكذلك كرهه لشقشقة علمية جديدة شر من تلك الأكذوبة القديمة الشهيرة (بالقوة النباتية). وحديث هذه الشقشقة أن إنجليزيا يدعى (أليس) كتب يقول: إن صوصير كان مخطئا، ويقول إن هذه الحيوانات قد تنقسم أحيانا، ولكن ليس معنى هذا أنه سبيلها في التولد والتكاثر، فإن هذا الانقسام إنما يحدث من أن حيوانا من تلك الحيوانات يسبح في الماء بسرعة كبيرة فيختبط متعامدا في بطن حيوان مثله فيشقه نصفين. وزاد (أليس) على هذا أن هذه الحيوانات تولد من أمهاتها كما يولد الناس، وقال

ص: 42

إنه كلما حقق النظر في تلك المخلوقات، في بطون تلك الأمهات، رأى فيها بناتها لم تصب بعد ميلادا، وكلما حقق النظر في بطون البنات رأى فيها أحفادا

فصاح اسبلنزاني لنفسه يقول: (أضغاث حالم، وتخريف معتوه) ولكن كيف يثبت أنها أحلام؟ كيف يثبت أنها تخريف؟ كيف يثبت أن هذه الأحياء تتكاثر بالتناصف؟ لقد كان عالما متشبعا بروح العلم، يعرف الفرق بين السب والشتم واتهام خصيمه (أليس) بعمى البصر وخرف العقل، وبين أن ينقض بالحجة الدامغة ما يقوله من أختباط تلك الأحياء فانقسامها أشطارا

وفكر قليلا فواتته الحجة. قال لنفسه: (كل الذي علي لأثبت خطأ هذا الجاهل الفدم هو أن آتي في ماء بحي واحد من تلك الأحياء لا ثاني له فيختبط بهن ثم أجلس أرقبه في المجهر حتى ينقسم نصفين، وبذلك أقطع لسان الثرثار الغبي). وفي الحق هذه طريقة بسيطة للبت في أحد الرأيين، بل هي الطريقة الوحيدة لأبطال إحدى النظريتين، ولكن الصعوبة الكبرى في استخراج حي واحد من هذه الكثرة من الحيوانات. أنك تستطيع أن تفصل الجرو الواحد من مجموعة الجراء، وتستطيع أن تعزل السمكة الصغيرة من بين أخواتها الكثيرات، ولكن قل بربك كيف تستطيع بيدك أن تمسك بذيل حي من تلك الأحياء المجهرية، وهي أصغر مليون مرة من تلك السمكة الصغيرة

فاعتزل اسبلنزاني دنياه الزائطة بحفلاتها ومحاضراتها وجماهيرها المعجبة به، وأخذ يبحث عن طريقة يفصل بها واحدا من تلك المخلوقات، مخلوقا لا يعدو طوله بضع أجزاء من ألف من المليمتر، ويفصله وحده لا ثاني له

ذهب إلى معمله وأسقط قطرة من ماء تعتلج تلك المخلوقات فيه على قطعة منبسطة من الزجاج الرائق النظيف، وأسقط إلى جانبها بأنبوبة شعرية نظيفة قطرة أخرى من الماء النقي الخالي من تلك الخلائق. ونظر إلى القطرتين من خلال عدسته، وجاء بإبرة رفيعة فغمسها بالقطرة الأولى، ثم خرج بها في خط مستقيم حتى وصلها بالقطرة الثانية النقية، وبغاية السرعة صوب نظره إلى قناة الماء الرفيعة التي وصل بها بين القطرتين، وابتسم اغتباطا لما رأى حيا من هذه الأحياء يدخل القناة في تخطر والتواء. فما كاد يصل القطرة النقية من الماء حتى اختطف اسيلنزاني ريشة نظيفة فقطع بها البرزخ الذي يصل

ص: 43

القطرتين. وصاح فرحان جذلا. (إنه حي واحد، واحد فحسب، في هذه القطرة! يا للنجاح، ما أحلاه! نعم مخلوق واحد لا ثاني له يتخبط به على حد قول المأفون المغفل (أليس) فيقسمه نصفين! وإذن فلأرقبه لأرى كيف ينقسم!). وصوب عدسته إلى هذا المخلوق الوحيد الصغير في هذه القطرة العظيمة، (إنه كالسمكة الفريدة تسكن وحدها الأقيانوس الواسع)

وعندئذ رأى عجبا أي عجب. فإن هذا المخلوق، وشكله كالقضيب، أخذ يدق وسطه ثم يدق، ويرهف خصره ثم يرهف، حتى لم يصل مقدمه بمؤخره غير خيط كنسيج العنكبوت، وإذا بالنصفين يضطربان ويختلجان ويتلويان حتى انفصلا، فكانا مخلوقين حيين جديدين انزلقا برشاقة في الماء انزلاق المخلوق الأول الذي عنه نشآ. نعم كانا أقصر منه، ولكن عدا هذا فلم يكن بينهما وبينه ما يميزه عنهما. واستتمت الغبطة واكتمل العجب بعد دقائق، فإن هذين المخلوقين انقسما من جديد على النحو الفائت فكانا أربعة

وأعاد اسبلنزاني هذه الألعوبة البديعة عشرات المرات، وفي كل مرة يجد الذي وجده أولا. وعندئذ سقط على (أليس) المسكين بكل ثقله سقوط طن من الحجر، ففرطحه، وسواه بالأرض حتى خفى، وخفى اسمه من الوجود، وخفيت خزعبلته الجميلة، وخفى ما كان حكاه من وجود أحفاد في بطون بنات في بطون أمهات من تلك المخلوقات. وكان اسبلنزاني لذاع اللسان، فقال له:(أنا يا بني ناصح لك أن تعود إلى المدرسة من جديد فتتعلم ألف باء المكروب) وأشار بعد ذلك إلى (أليس) فقال إنه أخطأ لأنه لم يقرأ بحث صوصير القيم الرائع باعتناء، إذ لو فعل لما قام يخترع نظريات فاسدة لا يكون من ورائها إلا القيام العلماء بتكذيبها، فينفقون الجهد الكثير في استخراج حقائق من طبيعة معروفة ببخلها وكزازة كفها

إن الباحث العلمي، الباحث الحق في الطبيعة، يشبه الكاتب والرسام والموسيقي، بعضه فنان وبعضه نقاب جامد الشعور بارد النفس. لذلك نجد اسبلنزاني يتخيل الخيالات، ويتصور أنه بطل مغوار لعهد من الكشف جديد، ويكتب فيشبه نفسه بـ (كريستوف كولمب)، وينظر إلى عالم المكروب فيخاله عالما جديدا قائما بذاته كبعض العوالم، ويخال نفسه كشافة جريئا مغامرا قام ببعوث لم تكشف من تلك المجاهل إلا حوافيها. ومع كل هذا

ص: 44

لا نجده يذكر مرة أن هذه المكروبات قتالة. لم يرد أن يعمل في هذا خياله، ولو أن عبقريته كانت دائما توسوس له أن هذه الحيوانات العجيبة في هذه الدنيا الجديدة الغريبة لابد من علاقة بينها وبين أخواتها الحيوانات الكبيرة من بني الإنسان

وفي أوائل عام 1799، بينما نابليون يقوم لتحطيم الدنيا العتيقة البالية، وبينما بيتهوفن يقرع باب القرن التاسع عشر بأولى سمفونياته الهائلة - روحان كبيران ثائران يصدران عن روح العصر الثائر الذي أولده اسبلنزاني وأقرانه، وينطقان عن هذا الزمان بلسانه، ذاك بمدافعه المتجاوبة، وهذا بموسيقاه الصاخبة - أقول في أوائل عام 1799 أصاب الصرع صاحبنا الكبير صياد المكروب

- 7 -

وفي أوائل عام 1799، بينا نابليون يقوم لتحطيم الدنيا العتيقة البالية، وبينا بيتهوفن يقرع باب القرن التاسع عشر بأولى سنفوناته الهائلة - روحان كبيران ثائران يصدران عن روح العصر الثائر الذي أولده اسبلنزاني وأقرانه، وينطقان عن هذا الزمان بلسانه، ذاك من مدافع المتجاوبة، وهذا بموسيقاه الصاخبة - أقول في أوائل عام 1799 أصاب الصرع صحبنا الكبير صياد المكروب

ولم تمض على أصابته ثلاثة أيام حتى كنت ترى هذا الرجل العجيب الهازئ بالموت يخرج رأسه الذي لا يهدأ من بين أغطية سريره ينشد قصائد (هومير) ويغني بشعر (تاسو) ليضحك أصدقاءه الذين جاءوا ليشهدوا احتضاره. وما كان هذا منه رغم إنكاره إلا صياح الديك الذبيح. وما كانت تلك الأناشيد إلا للموت، وتلك الأغاني إلا للفناء، فأنه مات بعدها بأيام قلائل

مات العظماء من ملوك مصر فحفظوا أسماءهم لذراريهم بما خلفوا من مومياء فخمة حفظها رجال الجنائز بكل نادر غال من الحنوط. وذهب الإغريق والرومان ولكنهم خلدوا سحنهم، وسجلوا أشباههم في الحجر، في تماثيل يحفها المجد، ويلفها الوقار. وقضى كثير من عظماء القرون نحبهم، وبليت أجسامهم، ولكن بقي منها صور مرقومة بالزيت على القماش تكاد تجري فيها الحياة. ومات اسبلنزاني فماذا خلف للناس؟

إن أردت أن تعرف ماذا خلف فاذهب إلى (بافيا)، فستجد له بها تمثالا نصفيا متواضعا.

ص: 45

وإن أنت أردت أن ترى المزيد منه فسر قليلا حتى تجيء المتحف، فادخله، وإذن سترى فيه - مثانته. . .

أي إرث يتركه اسبلنزاني للدهور خير من هذا؟ أي أثر أحق من هذا بالتعبير في إيجاز عن حبه المدله للحقيقة، هذا الحب الذي لم يقف به عند شيء، هذا الحب الذي اقتحم التقاليد وضحك للصعاب وهزئ بالأذواق الموضوعة، وبمراسيم اللياقة المصنوعة

علم أن مثانته مريضة، فكنت تسمعه يقول في خفوت لأصحابه وهو يحتضر:(إذن أخرجوها من جسمي عند موتي، فلعلكم تكشفون فيها عن حقيقة جديدة غريبة في أمراض المثانات). هذا روح اسبلنزاني وهذا هو روح قرنه، القرن الثامن عشر. روح استخفاف واستهتار. روح تشوق وتشوف لكل مجهول. روح المنطق البارد القاسي في برودته، قرن لم يفض على الخلائق بكثير من الكشوفات العملية النافعة، ولكنه القرن الذي مهد لفرداي وبستور وأرانيوس وأميل فيشر وأرنست رذرفورد لينجبوا ويمجدوا ويعملوا في جو حر طليق

أحمد زكي

ص: 46

‌19 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

فأجال فينا سقراط النظر، كما هي عادته، وقال باسما: إن دليل العقل ناهض في جانب سمياس، وإن في مهاجمته إياي لقوة، فلماذا لا يتصدى منكم لأجابته من هو أقدر مني؟ ولكن قد يحسن بنا قبل أن نجيبه، أن نصغي كذلك لما يريد سيبيس أن يناهض به الدليل - وسيكون لنا من ذلك للروية متسع، فإذا ما فرغ كلاهما من الحديث، وبدا قولهما مستقيما مع الحقيقة سلمنا لهما، وإلا، فلنا أن نؤيد الجانب الآخر، وأن نناقشهما. قال: تفضل إذن فحدثني يا سيبيس، أي مشكلة صادفتك فأتعبتك؟

قال سيبيس: سأحدثك - إني لأشعر بأن التدليل لم يتزحزح عن موضعه، فأنا مستعد أن أسلم بأن قد قام الدليل القاطع الوافي جدا، إن جاز لي هذا القول، على وجود الروح قبل حلولها في الصورة الجسدية. ولكني أرى أن بقاء الروح بعد الموت لا يزال يعوزه الدليل، ولست أعترض في ذلك بما أعترض به سمياس، لأنني لا أريد أن أنكر أن الروح أقوى من الجسد وأطول بقاء، فعقيدتي أن الروح تسمو على الجسد في كل هذه النواحي سموا بعيدا. وقد يخاطبني الدليل فيقول: حسنا أذن، فلماذا تقيم على ارتيابك؟ إذا رأيت أن الأضعف يظل باقيا بعد موت الإنسان، أفلا تسلم بأنه يتحتم أيضا أن يبقى ما هو أطول بقاء خلال هذه الفترة نفسها؟ ويجمل بي الآن أن أستخدم المجاز، كما فعل سمياس، وسأطلب إليك أن تنظر في استعارتي لترى هل جاءت ملائمة لموضوعها. أما المثل الذي سأسوقه فهو مثل نساج قديم، يموت فيزعم بعض الناس بعد موته أنه لم يمت وأنه لا بد أن يكون حيا، ويستشهد على ذلك بالعطاف الذي نسجه بنفسه وارتداه، والذي لا يزال جيدا متينا، ثم يمضي فيسأل المرتاب من القوم. هل الإنسان أطول بقاء أم العطاف الذي يستخدم ويرتدي؟ فإذا ما أجيب بأن الإنسان أطول جدا في البقاء، ظن أنه قد أثبت بذلك يقينا بقاء الإنسان الذي هو أطول بقاء ما دام الأقصر بقاء لا يزال باقيا. ولكني أرجو أن تلاحظ يا

ص: 47

سمياس أن ليست تلك هي الحقيقة، وليس بخاف على الناس أن من يتحدث بهذا إنما ينطق هراء، فحقيقة الأمر أن هذا النساج قد ارتدى ونسج كثيرا من هذه الأعطف، ولئن كان قد أفنى كثيرا منها وعمر بعدها، إلا أن آخرها قد ظل بعد فنائه باقيا، وكن لا ريب في أن هذا أبعد جدا من أن يقوم دليلا على أن الإنسان أقل من العطاف شأنا وأشد ضعفا، غير أنك تستطيع أن تعبر عن علاقة الجسد بالروح باستعارة كهذه، فلك أن تقول بحق إن الروح باقية، وإن الجسد بالقياس إليها ضعيف قصير الأجل، فقد يقال عن كل روح أنها تبلي أجسادا كثيرة، وبخاصة إذا امتد بها أجل الحياة، لأنه إذا كان الجسد يتحلل ويفنى في حياة الإنسان فالروح لا تني تنسج لنفسها لباسا جديدا، وتصلح ما قد أصابه البلى، فطبيعي إذن أن تكون الروح مرتدية آخر أثوابها حينما يدركها الفناء، وذاك الثوب وحده هو الذي سيبقى بعد فنائها، ولكن الجسد بدوره، إذا ماتت الروح، سيكشف آخر الأمر عن ضعف طبيعته، فلا يلبث أن يدركه الفناء، ولهذا لن أركن إلى هذا الدليل برهانا على بقاء الروح بعد الموت، لأنه إذا سلمنا فرضا حتى بأبعد مما تؤكد أنت أنه في حدود الممكن، فارتضينا - فضلا عن اعترافنا بوجود الروح قبل الميلاد - أن أرواح طائفة من الناس لا تزال موجودة بعد الموت، وأنها ستظل موجودة، وأنها ستولد وتموت كرة بعد أخرى، وأن في الروح قوه طبيعية ستقاوم بها حتى تولد مرات عدة - فقد نميل مع هذا كله إلى الظن بأنها ستعاني من آلام الولادات المتعاقبة رهقا قد ينتهي بها آخر الأمر إلى السقوط في إحدى مرات موتها، فتفنى فناء تاما، وربما خفيت عنا جميعا هذه المرة التي يموت بها الجسد ويتحلل، والتي قد تؤدي بالروح إلى الفناء، فليس يمكن لأحد منا أن تكون لديه عن ذلك خبرة فإن صح هذا، زعمت أن من يثق في الموت فإنما يثق وثوقا غاشما، ما لم يكن قادرا على التدليل بأن الروح لا تخضع للموت أو الفناء إطلاقا؛ أما إن كان عاجزا عن إثبات ذلك، فمعقول ممن يقترب من الموت أن يخشى فناء الروح فناء تاما عند انحلال الجسد

- فلما سمعنا منهم هذا القول، أحسسنا جميعا بالكآبة، كما لاحظ بعضنا إلى بعض فيما بعد، وأحسب أنه قد داخلنا الاضطراب والشك، لا فيما سلف من دليل فحسب، بل في كل ما قد يجئ به الدهر من دليل، لأننا، وقد كنا من قبل نؤمن إيمانا راسخا، قد رأينا ذاك الإيمان تتزعزع دعائمه؛ فأما أننا لم نكن قضاة صالحين، وإما أن العقيدة لم تقم على أساس صحيح

ص: 48

اشكراتس - إني لأشاطرك إحساسك في هذا - حقا إني لأشاطرك إياه يا فيدون، وقد هممت، وأنت تتحدث، أن أستجيب نفس السؤال. أي دليل يمكن أن أومن به بعد اليوم، فماذا عسى أن يكون أقوى في الإقناع من تدليل سقراط، وهاهو ذا قد هبط إلى الجحود؟ فيا طالما فتنتني فتنة عجيبة هذا المذهب القائل بأن الروح هي الأنسجام، ولم يكد يرد ذكره حتى عاودني بغتة، لأنه عقيدتي الأولى. وجدير بي الآن أن أعود فألتمس دليلا آخر، يؤكد لي بأن الروح لا تموت مع الإنسان عند موته. فأرجو أن تنبئني كيف مضى سقراط في الحديث؟ هل بدا كأنما يشاطركم إحساسكم الكئيب الذي ذكرت؟ أم أنه استقبل الاعتراض هادئا، فأجاب عنه جوابا وافيا؟ أنبئنا بما وقع دقيقا ما استطعت

فيدون - أي اشكراتس، إني ما فتئت معجبا بسقراط، ولكني لم أعجب به قط أكثر مما فعلت وقتئذ، أما أنه استطاع الجواب فيسير، ولكن ما أدهشني أولا هو ما تناول به كلمات الشبان من وداعة وغبطة واستحسان، ثم سرعة إحساسه بما أحدثه الحوار من جرح وما واتته به لباقته من فنون العلاج. مثله في ذلك مثل القائد الذي يستجمع جيشه وقد انهزم واندحر، ويحفز جنده أن يتابعوه فيعودوا إلى ميدان الحوار

اشكراتس - وكيف كان ذلك؟

فيدون: ستعلم مني، فقد كنت قريبا منه، جالسا إلى يمينه على مقعد وطئ، أما هو فقد استوى على سرير يرتفع كثيرا عن مقعدي، وقد أخذ يداعب شعري، ثم مسح رأسي بيديه، وصفف شعري على عنقي وقال: أي فيدون! غدا ستجذ هذه الجدائل الجميلة فيما أظن

أجبت - نعم يا سقراط، إني أظن ذلك

- إنها لن تجذ لو أخذت بنصحي

قلت - وماذا عساي أن أفعل بها؟

أجاب - إني وإياك سنقطع اليوم جدائل شعرنا، فلا نرجئها إلى غد، لو كان هذا الحوار ليموت، واستحال علينا أن نرده إلى الحياة مرة أخرى. وإني لو كنتك، ولم أستطع أن أثبت ضد سمياس وسيبيس، لأقسمت ألا أرسل شعري قط، كما يفعل الأرجيفيون، حتى أثير المعركة من جديد وأدحرها

(يتبع)

ص: 49

زكي نجيب محمود

ص: 50

‌الأمير خسرو

الشاعر الهندي الكبير

للسيد أبي نصر أحمد الحسيني الهندي

تتمة

إن الشعر الراقي يشمل طموحا غامضا مائلا إلى اللانهائي؛ ومع هذا يتخذ لذلك من هذا العالم المادي وسيلة، فهو يعطي صوتا لصمت الغرائب التي تبرزها أسرار هذا العالم. وبناء عليه يكون بيت واحد من ذلك الشعر يحتوي على قيادة روحانية وفكرة سامية مؤثرة في النفس إلى قرار سحيق، وهو ما لا تجده في صفحات من النثر، وذلك لأن من لوازم النبوغ الشعري الراقي بصيرة نافذة من ظواهر الأشياء إلى صميمها. فبها يجمع الشاعر الفيلسوف المفلق الكامل حقيقة الأشياء الأصلية في مجموع كامل جديد مؤثر غاية الأثر، وبها يدرك ويرى من مطالع الحق والجمال في هذا العالم ما لا يراه العامي. فإذا عبر عما يدركه ويراه برموز واصطلاحات مادية فهو لا ينويها بالذات، بل ينوي بها تلك الحقيقة العليا الخالدة التي طالما طمحت إليها روحه ونفسه كلما أدرك مظاهر تلك الحقيقة المتنوعة ومناظرها المختلفة في هذا العالم. وهذا الصنف من الشعر هو شعر فلسفي روحاني. ولقريحة خسرو في هذه الناحية إنتاج واسع لأنه كان صوفيا كبيرا. نذكر الأبيات الآتية منه قال:

جان زتن بردى ردرجاني هنوز

دردرها دادى ودرماني هنوز

آشكارا سينه أم بشكا فتى

همجنان در سينه ينهاني هنوز

ملك دل كردى خراب ازتيغ ناز

واندرين ويرانه سلطاني هنوز

هردو عالم خود كفته

نرخ بالاكن كه ارز انى هنوز

(أخذت روحي من جسمي ولا زلت أنت في روحي، وأعطيتني الآلام ولا زلت أنت الشفاء)

(شققت صدري على الإعلان، ولا زلت أنت مخفيا فيه كما كنت)

(خربت إقليم القلب بسيف الدلال، ولا زلت أنت السلطان في هذا الخراب)

ص: 51

(قلت ثمن نفسك العالمان. ارفع الثمن فأنك لا تزال رخيصا)

لم يكن خسرو نابغة في الشعر فقط، بل كان أيضا موسيقيا بارعا، فقد برع في الموسيقى إلى أن نال لقب (نايك) وهو لقب قل أن ناله أحد غيره فيما بعد من المسلمين. فقد نقل عنه المؤرخ دولت شاه في كتابه (تذكرة الشعراء) بيتين قال فيهما:

(أنا سيد الموسيقى كما أنا سيد الشعر. أنا كتبت ثلاثة مجلدات في الشعر

لو كان ممكنا تحويل جميع ما ألفته من الألحان الموسيقية إلى الكتابة لبلغ إلى ثلاثة مجلدات أيضا)

وحقا قال أمير خسرو ولأنه كان صاحب ذكاء حاد فوق المعتاد، يملك ملكة اختراعية في الشعر وفي الموسيقى فبلغ فيهما ما لم يبلغه أحد. واختراعاته وتأليفه في الألحان والنغمات لا تزال رائجة وشائعة بين الهنود إلى اليوم، وهو الذي اخترع (سيتار) الآلة الموسيقية التي تشبه تقريبا القيثارة العربية والتي لا تزال تهز الأفئدة بنغماتها الشجية في محافل الهند وأفراحها إلى اليوم طالبة الشهادة على كمال عبقرية مخترعها

قد ذكر صاحب (مانك سهال)(وهو كتاب في تاريخ الموسيقى صنفه في عهد الإمبراطور محي الدين أورنك زيب عالمكير وقد ترجم إلى الفارسية باسم (راكي دربن)) كثيرا من النغم والألحان التي اختراعها أمير خسرو، وذكر حكاية تدل على براعة خسرو في الموسيقى وهي أن السلطان علاء الدين خلجي دعا مرة (نايك جوبال) الموسيقي الوثني الشهير حينئذ للأطلاع على كماله في الفن، وكان له ألف وستمائة تلميذ إذا أراد الخروج من بيته حملوه على أكتافهم فلبى دعوة السلطان وأسمعه الألحان والنغمات ستة أيام متوالية، وكان خسرو يسمعها مختفيا. وفي اليوم السابع تصدى له خسرو وأدعى أن جميع الألحان والنغم التي سمعها السلطان هو مخترعها وأعادها واحدة واحدة بإتقان وإجادة أكثر من جوبال فتحير الرجل في كمال خسرو وبراعته في الفن

كانت براعة خسرو في الموسيقى أحرزت له شهرة واسعة لدى عامة الناس أيضا وعلى الأخص السيدات والأولاد منهم، إذا كانوا يحفظون نغماته وألحانه وأناشيده، ويغنونها في أفراحهم ومحافلهم ولم يكن يكتب نشيدا إلا كان يخترع له لحنا خاصا. وقد اخترع أصنافا كثيرة من الألحان والأناشيد التي لم يكن لها وجود قبله، وعلى الأخص باللغة الأردية أذكر

ص: 52

منها (أنميل)(مكرني) و (دوخسنة) و (دهكوسلا) الخ وكلها شائعة بين العامة إلى اليوم

كان خسرو يرتجل الشعر والأناشيد بداهة. ومن حكايات ارتجاله أنه عطش مرة فذهب إلى بئر كان أربع سيدات يخرجن منه الماء فاستسقاهن. فعرفته واحدة منهن وقالت للأخريات: إن هذا خسرو: فسألته: هل أنت خسرو الذي يغني كل واحد أناشيده وألحانه ويسمع ألغازه وأنميله ومكرنيه؟ فأجاب نعم، فقال واحدة منهن: اعمل لنا نشيدا واستعمل فيه كلمة (كهير)(أي المهلبية) وقالت الثانية: استعمل فيه كلمة (شرخا)(أي المغزل) أيضا، وقالت الثالثة: كلمة (دهول)(أي الطبلة)، وقالت الرابعة: كلمة (كتا)(أي الكلب) أيضا فقال لهن: أعطينني الماء أولا فأني أموت عطشا، فقلن له: لا نعطيك الماء حتى تقول النشيد المشتمل على كلماتنا: فارتجله خسرو؛ وهذه ترجمته ولكن لم يبق فيها جماله الأصلي:

إن المهلبية طبخت بالاعتناء

واستعمل فيها خشب المغزل وقودا

ثم جاء الكلب وأكلها

وشغلكم ضرب الطبلة

وأنا عطشان، أعطينني الماء

كان الأمير خسرو صوفيا كبيرا ورعا صالحا تقيا. قال المؤرخ (ضياء الدين برني) وهو من أصدقائه في كتابه تاريخ فيروز شاهي: (إنه مع حصافته العقلية، وذكائه الشاذ، وعلمه الواسع كان صوفيا من الطبقة الأولى، فكان يصوم تقريبا كل يوم ويصرف أكثر أوقاته في تلاوة القرآن وفي إقامة النوافل والفرائض من الصلاة، وكان خليفة في الطريقة لسيدنا الشيخ الولي الصوفي مولانا (نظام الدين أولياء) قدس الله سره، وإني لم أر خليفة يعتقد اعتقادا قويا في شيخه مثله)

إن من أهم مبادئ الصوفية التحرز التام من جرح عواطف الناس، وقتل أمانيهم وبذل أقصى المجهود في قضاء حاجاتهم. وكان الشيخ نظام الدين قدس الله سره يقول: إنه لا عمل يساوي يوم القيامة إدخال السرور على قلوب الناس، وفي حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله. فكان خسرو من أكبر العاملين بهذا الحديث، لذلك كان محبوبا عند الجميع. وله في ذلك

ص: 53

حكايات كثيرة منها: أنه عندما كان يرجع من السراي الملكية كل يوم إلى البيت يرجع راجلا، لأنه كان يحب البساطة والسذاجة في العيش، وهو أيضا من لوازم الحياة الصوفية، فيمر بدكان عجوز تسمى شمو فتقدم له كرسيا ونرجيلة، وتطلب منه تشريفها ولو بدقيقة. فلكي لا يجرح عواطفها كان يقعد عندها ولو دقيقة. ومرة قالت له: يا سيدي خسرو! آلامك وبلاؤك على رأسي إنك تقول آلافا من الغزل وتؤلف النغمات والألحان وتصنف الكتب. أما تؤلف شيئا باسمي حتى يذكر اسمي أيضا بفضلك؟ فقال لها حاضر يا سيدتي شمو وارتجل نشيدا فيه اسمها. فخلد اسمها بذلك النشيد إلى اليوم

كان خسرو لين الجانب رقيق العواطف قطع جميع مدارج التصوف ومنازله، فكان صاحب حرقة قلبية دائمة في حب الله. وقد قال فيه شيخه مولانا نظام الدين أولياء قدس سره:(في يوم القيامة كل واحد يفتخر بشيء، وفخري بحرقة هذا (ترك الله)). ولعل خسرو أشار إلى هذا حين قال البيت الآتي:

خسرو من كوش براي صواب

تاتو شود (ترك خداى) خطاب

(يا خسرو اجتهد في الحق ليكون لك لقب (ترك الله)

انتهى البحث

السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي

ص: 54

‌يا شمس

للأستاذ فخري أبو السعود

يا ليتني كالشمس في عليائها

لم يُرضها إلا المحلُّ الأَرفعُ

لم تمس الدنيا ولا أقذاَءها

لكن إليها من عَلِ تتطلع

تحوِي جوانبَها بنافِذِ نظرةٍ

وتُضيء غَيْهبَها بنورٍ يَسطعَ

وتَظَلُّ تَشَهدُ من شؤون أنيِسها

ما مرَّ من أمرٍ وما يُتوَقَّع

وتَقلُّبَ الأحوالِ فيما بينهم

في أعصُرٍ تَمضي وأخرى تَتبَع

يا ليتني كالشمس في تَدْآبها

ليست بمكْثٍ في مكان تَقْنَع

تطوي الفضاَء محلَّةً فمحلَةً

وتغيب عن أفق السماء وتطلع

موصلةً رحلاتُها فلها هنا

مستقبل ولها هناك مُوَدًّع

مأْنوسَةَ الأسفار يَصْحَبُها السَّنى

وطريقها بين العوالمِ مَهيْعُ

عرَضَت جمالَ الكون في غدواتها

ورواحها مُرْتادةً ما يُمْتِع

إن خلفت حسناً بديعاً لم تزل

حتى يلوحَ لها أحَبُّ وأبدَع

كم شاَرَفتْ نهرا يفيض ووادياً

الزَّهر في أفنانهِ يتضوُّع

وطوى عبابُ اليمّ آيةَ ضوْئها

فرأى محيَّاها اليبابُ البلقع

وأجازَتِ البيدَ القِفار فطالعت

غاباً ألَفَّ به البلابِلُ تسجع

يا ليتني كالشمس في إخلادِها

لا الخوف يعروني ولا بيَ مَطمع

لا المادحُ الشادِي يَخِفُّ بمهجتي

طرَباً ولا لهجاء هاج أجزع

أتدَبرَّ الدنيا وأغنم حُسنها

وأجوب أطراف الحياة وأذرع

يا شمس إنَّ الشعر يسمو بي إلى

أوْجٍ لديك هو الأعزُّ الأمنع

يَسْرِي خفيُّ ندائه فيُهيبُ بي

ويَرِنُّ في أذني صداه فأسمع

أسمو على الدنيا به وأودُّ لو

أني إلى أقذائها لا أرْجع

فخري أبو السعود

ص: 55

‌من أدب السودان

ما كان أوفقه لو ضمنا أدب

لشاعر السودان الأستاذ عبد الله عبد الرحمن

نبَّهتَ منَّا فؤاداً غير سَهْوَانِ

وجئتَنا بحديث ممتع دانِ

(محمد بن الجلال) قد نطقتَ بماَ

نُحِسُّه من أحاسيس ووجدان

دعوتَ للأدب العالي يحرّك من

بني العروبة من مصر وسودان

وصحت بالقائلين الشعر بينكم

أليس عندكم السودان ذا شانِ؟

ما للمسارح لم تخرج روايته

وللرواية من ألف مَيْدان!

وكيف لم يهزز الكتّابَ ما عصفت

به الحوادث في سرٍّ وإعلان؟

مضى يُثابر لم يفطن له أحدٌ

كأنما القوم من هيِّ بن بيَّانِ

فقلت لله مصر شَدَّ ما عُنيت

بكلّ فعلٍ عظيم النفع إنساني

وتلك قولة حق ما أبرَّ وما

أحقَّها أنْ لها يسعَى الشقيقان

ما كان أَوفقَه لو ضمَّنا أدبٌ

له الكنانة والسودان ركنانِ

ينمّ عنا وعنكم غير مختلق

لا كالذي عبَّ من زوٍر وبهتان

يقلُم الظفر من ساعٍ لتفرقة

ويقصم الظهر من داعٍ لهجران

والناس من بات يشقى من جهالته

حيَّا - سيشقى بها في العالم الثاني

كم للطّبيعة في السودان من فِتنٍ

وكم لأطيارها من سحر ألحان

ما أكثر الملهماتِ الشعر فيه وما

أمدّها للأديب الهادم الباني

الرمل عند ضفاف النيل تحسبه

لُعس الشّفاَه جلاها بيض أسنانِ

وظلمة الليل في العتمور ملهمة

خوالد الشعر ترويها الجديدان

والسّرح والسُدر والجميز كارعة

من صيّب القطر أو من فيض غدران

ما للكهارب سلطان على قمر

ولا على الشمس سلطان لبنيان

كلٌّ تسيل على الآفاق غرّته

فتملأ النفس من حسن وإحسان

وللحوادث تَلعابٌ بساحته

تملى علينا شَروداً ذات ألوان

إذا مررت من أمْ دُرْمان في كررى

ألقى عليك القوافي الخالد الفاني

ص: 56

من كلّ من صدقت في الله همّته

وراح لم يحتمل ضيماً لإنسان

كم بالجزيرة أو سهل القضارف من

مزارع حُلوة المرآي وأقطان

وحِلّة ذهبت في جودها مثلاً

ومنزل فيه تُتلَى آي قرآن

ألله أكبر! تدوي في مساجدها

فتعمر القلب من دِينٍ وإيمان

والقوم سُمر وجوه يُسرعون إلى

ما ينبت العزّ من إكرام ضيفان

وفي أبا حيث تلفى الأرض كاسيةً

والطير خاطبةً من فوق أغصانِ

تهشّ للزائريها كلَّ آونة

وتملأ القلب من رَوْح وريحانِ

هناك في كردفان أيُّ مُتَّدَعٍ

للطرف في بارة أو أرض خِيران

حيث البداوة في أجلى مظاهرها

والإبل طالعة بين كثبان

ما أجمل الريف مصطافا ومرتبعاً

وغادة الريف في عين وغزلان

الخدّ لم ترْعَ موسى في جوانبه

والجيد من حسنه عن زينة غانِ

فإن يكن شعب بوّان ازدهى نفراً

ففي البطانة كم من شعب بوّان

إذ تقبل الأرض أعقاب الخريف بها

بكل وجهٍ إلى الفنَّانِ فنَّانِ

والصيد نافرة حتى إذا أنِست

أوفت على نجوة ترنو بفتَّان

والضان والمعز والأنعام تابعة

مواقع الغيث قطعاناً لقطعان

وللحداة حداء كله كرم

فيه الإباء وفيه نُصرة العاني

وسامر الحي من غيد وفتيان

بين البيوت وفي أعطاف وديان

في كل ليل تحاجيهم عجائزهم

بابن النمير وسوبا وابن سلطان

وتارة يرهف الفتيان سمعهم

إلى نوادر أجواد وفرسان

(وابن المحلق) لم تبرح حكايته

في الناس يسردها أشياخ حمران

يا قبر تاجوج حياك الحيا ومشى

بصفحتيك شَذَى ورد وريحان

إني أميل إلى الأشعار يبعثها

حسُّ قويّ وأقلى الفاتر الواني

وفي البلاد وفي ماضي أبوتنا

فخر - وإن لم تكن تُعنى بإعلان

وكم بتاريخها من قصة عجب

جدّ الحكيم ولهو الودع الهاني

فإن يكن بات فيها الحرّ يصهرنا

فللحرارة يُعزى فضل شجعان

ص: 57

إذا (الرسالة) أدَّت من رسالتها

ولم تُجرّر علينا ذيل نسيان

رعى لها أدب السودان خدمتها

ونالت الشكر من قاص ومن دان

(الخرطوم)

عبد الله عبد الرحمن

ص: 58

‌القصص

من أساطير الإغريق

بين أبوللو وكيوبيد

للأستاذ دريني خشبة

عصى الناس، في قديم الزمان، سيد أرباب الأولمب، السند الأعظم، المهيمن على ملكوت السموات والأرض: زيوس. ومع ما اشتهر به من واسع الحلم، وطول الأناة، وجم المغفرة، فانه لم يشأ أن يمد للعالم في حبل الغواية، لدرجة إنكارهم لذاته، وإلحادهم فيه، وكفرهم به؛ فأقسم ليهلكن حرثهم ونسلهم، وليقطعن دابرهم أجمعين! فأطلق الرياح الجنوبية الهوجاء، وأرسل السحب تتدجى كقطع من الليل البهيم، وأذن للأرض فتشققت ينابيع وعيونا، ثم انهمرت الأمواه من فوقهم، وتفجرت من تحت أرجلهم، وطغى الموج يجرف الدور ويعفي الآثار. وفي أيام قلائل، كان الطوفان يغمر وجه الأرض، ولم يكن ثمة إلا بحر خضم عظيم

وهلك الناس جميعا، وشفى زيوس موجدته عليهم، ثم بدا له أن يعيد مياه الحياة إلى مجاريها، فأطلق الرياح من عقالها، فهبت في شدة وعنف، وأخذت ترشف ماء الطوفان، تعاونها في ذلك مركب أبوللو. . . يوح العظيمة. وبدأت الأرض تجف، وشرع بساطها السندسي الجميل يبدو قليلا قليلا، حتى ازدهرت المروج، وأينعت الخمائل، وسمق الدوح، واهتزت الربى، وأخذت السهول زخرفها. وبدا له مرة أخرى أن يخلق أناسي يعمرون الأرض الجديدة؛ فما كاد يفعل حتى ظهرت حيوانات بحرية هائلة، جعلت تزحف من الماء إلى الأرض، فتهلك الخلق الجديد. وكان أشد هذه الحيوانات وطأة، وأكثرها فتكا، ذلك التنين البحري الهائل، الذي كان يصمد للعصبة القوية من الرجال فيفنيها عن آخرها؛ حتى ضج الناس واستغاثوا، وجأروا بالدعاء إلى زيوس الرحيم، فرق لهم وحدب عليهم، وأرسل أعز أبنائه من زوجه لاتونا: أبوللو، فأنقذهم من التنين (بيثون) بسهامه التي سددها إليه حتى أرداه

وانثنى ثملا بخمرة النصر، مزهو بما رفع الناس إليه من صلوات وابتهالات، وبينما هو راق إلى سماء الأولمب، إذا أخوه كيوبيد بن أفروديت يصيد الظباء في غيضة لفاء، ويلهو

ص: 59

باجتناء الثمر، ويمرح بين افواف الزهر، كالمستهتر الخالي. فأراد أبوللو أن يناوشه، فقال له:(كيوبيد يا ابن أفروديت! أنت هنا تصيد الظباء الضعيفة، وتريش سهامك إلى أطلائها المفزوعة، ولا تجسر على اقتناص الأفعوانات البحرية المرعبة التي تفتك بعباد أبينا زيوس؛ ومع ذاك لا تفتأ تفاخر الإلهة بسهامك التي لا تطيش، ورمياتك التي لا تخيب. كيوبيد الصغير! يجمل بك أن تنزل لي عن قوسك المرنان، وسهامك الذهبية، أو أن تحد من كبريائك، وتأتي إلي كل يوم أعلمك كيف تكون الرماية، وكيف ينبغي أن تسدد السهام!)

وغيظ كيوبيد من هذا التقريع الذي لا مسوغ له، وذلك التفاخر الأجوف الذي لا فائدة منه، ولا طائل وراءه، فعبس وبسر، وتجهم وزمجر، وقال في عبارة ملتهبة، وأسلوب مشبوب: أبوللو يا ابن لاتونا!! كان الأولى بك أن تذكر كيف عذبت حيرا في سالف الأيام أمك وأذلتها، فتقنى حياء، وتتوارى خجلا، ولا تملأ الهواء يمثل هذا الفخر الكاذب! أبوللو! أنت تتيه بسهامك وتدل؛ وتدعي أنك تقنص بها الأفعوانات البحرية، على حين أصيد الظباء، وأقتل الأطلاء، ألا فلتعلم أنني أمهر منك ألف مرة في تسديد السهام، وأقوى في توتير القوس، وإن كنت بعد حدثا صغيرا. على أنني أنذرك، أنت يا أبوللو يا ابن لاتونا بسهامي التي سأجربها فيك قريبا!!)

فضحك أبوللو ملء شدقيه، وقال: بخ بخ يا كيوبيد بن أفروديت! ليس هكذا يخاطب سيد الشمس أبوللو! ولكن يبدو لي أنك متعب من طول ما أخذت نفسك به من الصيد في هذه الغيضة، وأحسبك قد أعياك ظبي نافر فأخرجك عن طورك، خصوصا وأفردويت تنتظرك لتعد الشواء!. . أنت ستجرب سهامك في. . . . في أنا. . . .!)

فقال كيوبيد: (فيك أنت. . . . فيك أنت يا أبوللو ابن لاتونا. . . . وسترى. . .)

وامتلأت أسارير أبوللو بضحكة ساخرة، وفصل مستهزئا

وشرع كيوبيد يدبر انتقامه، ويرسم له الخطط التي ينال بها من أبوللو، فلا يستطيع أن يفلت، وكان يحمل كنانتين، يحتفظ في الأولى بسهامه الذهبية التي يصمي بها القلوب فتملأها حبا وصبابة؛ وفي الأخرى بسهامه الرصاصية التي يصيب بها القلوب فيفعمها بغضا وكراهية. . . . ونثر كنانتيه وانتقى من كل واحدة سهما حاد الشباة مزدوج السنان، ثم انطلق في الأدغال يفكر ويدبر؛ ويمم شطر غدير قريب منه غلته، فرأى القينة الحسناء

ص: 60

(دفنيه) متجردة من ثيابها، جالسة كالقطاة على عدوة الجدول، تداعب الماء بقدميها الحبيبتين، وتظللها صفصافة ممتدة الفيء وارفة، والأطيار من فوقها تغني لها. فقال كيوبيد، متحدثا إلى نفسه:(فرصة نادرة لن أفلتها. . هذه (دفنيه) الجميلة تستنقع من القيظ، وهي وسيمة قسيمة، بارعة الحسن، تامة المفاتن؛ لابد أن أسدد سهما رصاصيا إلى قلبها الصغير فيمتلئ كراهية وبغضاء. . . ويحسن ألا أشعرها بوجودي حتى أصمي قلبها. . . فلأختبئ هنا. . .)

وتوارى خلف دوحة كبيرة، وثبت السهم الرصاصي في مكانه من القوس، ثم أطلقه في قلب دفنيه؛ وما كاد يفعل حتى انخلع قلب الفتاة من الذعر، وأسلمت ساقيها للريح تعدو بين الأيك، صارخة من ذلك الثلج الذي ذهب بحرارة فؤادها

وقصد كيوبيد إلى حيث أبوللو، وكان قريبا من دفنيه، فسدد إلى قلبه السهم الذهبي فأصماه. وتلفت أبوللو ينظر ماذا أصابه، وحدث ان كانت دفنيه منطلقة تعدو إذ ذاك، فلمحها، وسرعان ما جن بها جنونا. لقد ملأه سهم كيوبيد حبا، كما ملأ سهمه الرصاصي دفنيه بغضا. . .

لقد كانت دفنيه أول من وقع عليه نظر أبوللو بعد إذ ملأه سهم كيوبيد حبا، فهام بها، وشعر نحوها بهوى ممض وبرح قديم، كأنه برح آلاف من السنين؛ وكذلك كان أبوللو أول من وقع نظر دفنيه عليه بعد إذ أفعمها سهم كيوبيد كراهية، فأبغضته، وشعرت بسم تنفثه عيناه في قلبها حينما رأته

أفلح كيوبيد إذن في الفتك بأبوللو، حين أوقعه في أحبولة الهوى؛ ورداه في شرك الغرام، بهذه الفتاة الكارهة المحنقة، دفنيه! أفلح كيوبيد، وتبع أبوللو يرى إليه يتذلل ويتضرع. . . ويبكي كما يبكي الآدميون. . وهو سيد الشمس، ورب الموسيقى، وقانص الأفعوانات كما دل على كيوبيد وافتخر!

انتصر كيوبيد إله الحب، صاحب القوس الذهبية، كيوبيد الطفل، ذو الجناحين، على أبوللو سيد الشمس، صاحب القوس والوتر العرد!!

إن الحرب لم تبدأ، حين بدأت، بين أبوللو بن لاتونا، وكيوبيد بن أفروديت، بل هي بدأت بين البغضاء والحب، والقلى. . . والهوى!

ص: 61

انطلق أبوللو في إثر دفنيه المذعورة يبكي ويتذلل، ويحاول اللحاق بها. . . ولكن هيهات! لقد كانت تمعن في الهرب، كلما جد هو في الطلب؛ ولقد كانت تنظر إليه كأنه قاتل أبيها. . . وخانق أمها!. .

وصاح أبوللو ضارعا: (دفنيه أيتها العزيزة! قفي أرجوك! تمهلي أتوسل إليك! الشوك يجرح قدميك المعبودتين يا دفنيه! أوه! رويدك يا حبيبة! لا تنطلقي هكذا فقد يؤذيك اندفاعك! فيم أنت مذعورة هكذا؟ قفي؛ فأنا أبوللو. . . قفي!. .)

ولكن دفنيه لا تجيب إلا بنظرة القنص، ولفتة الواجف المراش، وتجد في الهرب. . فيقول ابوللو:(قفي يا دفنيه! قفي ولك نصف ملكي! بل لك الشمس كلها إذا وقفت! أنا رب الموسيقى سأغني وأصدح لك! سأطربك بقيثارتي الذهبية بعد أن أغسل لك قدميك في كل ليلة (!!)، سأطير بك في أرجاء السموات! ستكون لك القصور في جنة الأولمب! سأمنحك الخلود يا دفنيه! أحبك! أستحلفك بزيوس إلا ما وقفت! مالك هيمانة على وجهك هكذا؟ هل أخيفك؟ هل أزعجك إلى هذا الحد؟. . . ويلاه!)

ولا تبالي دفنيه، بل تعدو وتعدو. . .

ويضيق أبوللو بغصته ذرعا، فيلجأ إلى جبروت الإلهة، ويبدى سلطان السماء! ويصيح صيحة هائلة، فيكون سد منيع في طريقه دفنيه!

فيقول أبوللو وقلبه يضطرب من طول الإعياء: (فيم تهربين منى يا دفنيه! ألم تعبديني مرة وتقدمي الضحايا باسمي إلى كهنة الهيكل؟: هأنذا أبوللو المعبود، أرجوك وأتوسل إليك! ماذا تريدين بعد هذا؟ لقد بلغت من أبوللو منزلة لم تبلغها ربة من قبل! لقد فضلتك على كليمين، زوجتي المعبودة، وأجمل عرائس البحر، وأم طفلي المحبوب فيتون!! فيتون أسرع الإلهة بعد أخي هرمز، سآمره يكون خادما لك! إنه يقتني أغلى المركبات، ولديه من الصافنات الجياد أغلاها؛ ستركبين معه فتطوفين العالم في ساعتين، وترين ما بين الشرق والغرب في لمحتين، لو رضيت! دفنيه! أرجوك يا دفنيه! إنني أبدا ما بكيت بمثل ما أبكي لك، وأذرف الدمع بين يديك! حنانيك يا دفنيه فقد سحقت قلبي بكبريائك، وأذللت نفسي بخيلائك!)

وكان فعل السهم الرصاصي في قلب دفنيه قد خف، ووقفت الغادة حائرة مترددة مما تسمع، وكانت عيناها ثرتين بعبرات حبيسة. ولكن كيوبيد المختبئ في عساليج الكروم القريبة كان

ص: 62

يرى ويسمع، فلما شاهد من ضعف دفنيه وقرب تسليمها، تناول قوسه، وانتقى سهما مسنونا من كنانة الأسهم الرصاصية وسدده إلى قلبها، فصرخت المسكينة صرخة داوية، وهبت في وجه أبوللو تقول:(إليك عني أيها المسخ! تنح! أبغضك! أكرهك! أغرب عني! أنت أنجس من التيتان، وألأم من شارون، أذهب! لا أطيقك؛ انظر إلى هذا الغدير لترى الشرر ينقدح من مقلتيك، والدخان يصاعد من منخريك! كريه. . كريه. . شائه أنت أيها الوحش. .)

وكذلك كان فعل السهم الذهبي قد شارف أن يبطل في قلب أبوللو. . وكاد الإله العظيم يخلص من هذا السحر العجيب، فيسحق دفنيه، لولا أن تنبه كيوبيد، فأصماه بسهم ذهبي آخر، فجن جنونه، وتجدد حبه، وتألب به هواه. . . فصرخ صرخة راجفة، وأشار إلى السد فزال عن طريق دفنيه، فانطلقت تعدو. . وتعدو. . . وانطلق هو في إثرها يتوسل. . ويذرف أغلى العبرات!!

لقد كانت دفنيه تطوي الطريق كأنها فكرة شاردة في رأس شاعر، ولقد كان أبوللو يقتص آثارها كأنه الكوكب السيار منجذبا إلى نجم كبير! وكان كلما سرق اللمحة من ساقيها الجميلتين التهب قلبه بحبها، واشتعلت نفسه بالرغبة الملحة فيها، وانجذبت روحه إليها. . . . يا لكيوبيد! ويا لسهامه. . . . الذهبية. . . والرصاصية، على حد سواء!!

وتعدو دفنيه حتى تكون عند حفافي النهر العظيم الذي أقام زيوس والدها الكبير إلها عليه، فتصرخ قائلة: أنقذني يا أبي! خلصني من هذا الوحش الذي يدعى أنه أبوللو الكريم! إنه يعدو من ورائي. . . خلصني منه. . . إني أبغضه. . . يا أبي. . . يا أبي. .)

وينشطر الماء، ويخرج أبوها، إله النهر، فيرى أبوللو مقبلا فيعرفه، ولكنه يرق لابنته، ويقسم ليخلصنها من سيد الشمس، فيغرس قدميها في الشاطئ، ويحتفن من الماء بيديه، وينثرها به، بعد أن يتلو عليه من تعاويذه؛ ويقف أبوللو مشدوها، موزع اللب، ينظر ويرى!

لقد تحولت دفنيه، في لمحات، إلى شجرة باسقة من أشجار الغار، وأخذت الخضرة تينع في أغصانها، بين حيرة أبوللو وشدة تعجبه!

ووقف الإله العظيم يبكي ويا ويح العاشق المخبول!

ثم تقدم فبارك الشجرة، وسقاها من دمعه، الذي كان من خلائقه الكبر! وانصرف محطم

ص: 63

النفس، معمود القلب، كاسف البال. . . ولقيه كيوبيد، فسأله الخبيث:(أين سهامك التي أرديت بها الأفعوانات يا أبوللو بن لاتونا؟) فقال: (كيوبيد! اشفني مما ألم بي!) فقال كيوبيد: (بهذا السهم الرصاصي أشفيك!)

وتلقى أبوللو السهم في قلبه عن طواعية فبرئ مما به، ولم يعاد كيوبيد بن أفروديت بعدها!

دريني خشبة

ص: 64

‌البريد الأدبي

كلود فارير عضو الأكاديمية الفرنسية

في 28 مارس جرى في الأكاديمية الفرنسية انتخاب طال انتظاره على كراسيها الخالية؛ فانتخب ثلاثة من الأعلام الأحياء مكان ثلاثة من الأعلام الذاهبين؛ هم كلود فارير مكان لوي بارتو، وجاك بانفيل مكان بوانكاريه، وأندره بليسور مكان الأب بريمون. والثلاثة من أقطاب الكتابة والأدب، فإن كلود فارير قصصي كبير، وجاك بانفيل مؤرخ وصحفي بارع، وأندره بليسور مؤرخ ورحالة وصحفي كبير اشتغل حينا سكرتيرا لتحرير مجلة (العالمين) الشهيرة. ولكن أشد الخالدين الجدد اتصالا بالأدب هو بلا ريب كلود فارير

وكلود فارير ضابط بحري سابق؛ وكان مدى أعوام طويلة زميلا لبيير لوثي وصديقه الحميم؛ وقد تأثر بحياة البحر كما تأثر بها لوثي؛ وتأثر بعبقرية صديقه واتجاهه الأدبي. ولما توفى لوثي سنة 1923 استمر فارير يحمل رسالته وينهج نهجه، فيؤثر البحر ورجاله، والمواني وأحياءها ومنتدياتها بكتابته؛ ولبث مثل لوثي يهيم بالمناظر والبيئات والشخصيات الغريبة

وكان أول ظفر أدبي لكلود فارير في سنة 1903 إذ صدر كتابه الشهير (خان الأفيون) وهو مجموعة قصص وصور تمثل حياة المدمنين في الشرق الأقصى؛ وكان فارير يومئذ ضابطا برتبة ملازم في إحدى الدارعات الحربية؛ وفي سنة 1905، أخرج قصته الكبيرة:(المتحضرون)، فنال بها جائزة أكاديمية (جونكور)، وذاع اسمه بين أقطاب الأدب، وبعد ذلك استمر فارير في الكتابة وإخراج القصص الصغيرة والكبيرة، ومن قصصه الكبيرة:(الرجل الذي قتل)، وهي على ما يرى بعض النقدة أعظم قصة لفارير، ومنها:(الحرب) و (منزل الأحياء) و (الآلهة الأخيرة) و (المحكوم عليهم بالإعدام) و (الرجال الجدد) وغيرها؛ وله عدة مجموعات من القصص الصغيرة أشهرها: (سبع عشرة أقصوصة بحرية) و (أحمد باشا جمال الدين) و (قصص الأباعد والأقارب) و (أربع عشرة أقصوصة عسكرية) وغيرها. ولفارير قطع مسرحية أيضا منها (توما لا نليه) و (قبيل الحرب)

وكلود فارير مثل صديقه بيير لوثي من أقطاب المذهب الابتداعي (الرومانتيزم) وقد تأثر مثل لوثي بأميل زولا. وقد كتب فارير مثل لوثي أيضا كثيرا عن تركيا والمجتمع التركي

ص: 65

وخلاله متأثرا في ذلك بسحره الشرقي القديم. وقد كان مثل لوثي يدافع عن تركيا القديمة، ويحاول أن يخرج أبدع صورها للغرب، وما زال فارير متعلقا بهذا السحر الشرقي القديم، يأسف لما حل بتركيا القديمة من تبدل وتطور، ويرثي هذا المجتمع القديم الساحر، بقصوره الشاهقة، ونسائه المحجبة، وبذخه وبهائه، ولا يرى في تركيا الحديثة سوى صورة ممسوخة لا هي استبقت القديم، ولا بلغت في الحديث شيئا. ولفارير عدة كتب وقصص عن تركيا في آخر عصور السلاطين

وأما أسلوب فارير فهو ساحر، وهو أقرب إلى البساطة وعدم التكلف، وهو أشبه الأساليب بأسلوب جي دي موباسان، ومع هذه البساطة الجمة تراه ينفث المتاع والسحر في قارئه. ثم هو أسلوب مكشوف في بعض النواحي، بمعنى أن فارير يذهب في التصوير والوصف إلى حدود لا يبلغها الكثيرون، وأشد ما تبدو براعة فارير في وصف حياة المواني الكبيرة، وما يقع في منتدياتها وبؤرها السرية من أنواع الخلاعة والتهتك وصنوف الانحلال الأخلاقي والاجتماعي، فهو يصف لنا مقاهي الأفيون والحشيش في ثغور الشرق، وحياة البؤر والمواخير السرية في أمريكا وفي الهند الغربية، ويصف لنا عادات رجال البحر في السفينة وفي الميناء عند الجد وعند الهزل، ويصف حياة البغايا في الموانئ، ومجتمع السفلة والأوغاد؛ وكل ما يتعلق بهذه الحياة المثيرة التي لا يدرك أغوارها إلا رجل مثل فارير طاف العالم وثغوره، ونفذ إلى أعماق هذه الحياة بصورة عملية

وقد انقطع فاير إلى الأدب منذ أعوام طويلة؛ وهو اليوم يعمل في الصحافة إلى جان كتابة القصص، وينشر في الصحف الفرنسية، ولا سيما جريدة (الجورنال) مقالات طريفة ساحرة في مختلف الموضوعات والصور

ومما يذكر في حياة فارير الفياضة بالسياحة والمخاطر، أنه كان إلى جانب مسيو دومير رئيس الجمهورية الفرنسية السابق حينما اغتاله القاتل جور جولف برصاصة، وحاول فارير إنقاذه، فأصابته في ذراعه رصاصة من القاتل ألزمته فراشه مدى حين

صاحب الجائزة في المسابقة الأدبية

صديق العزيز صاحب الرسالة

تحية وسلاما. أما بعد. فقد زعم علماء النفس - والنفس أمارة بالسوء - أن ارتكب جرما

ص: 66

مرة نازعته غريزته إلى ارتكابه مرة أخرى. ومهما حاول الشقي أن يتوب ويرجع، فان جوارحه تتحرك، وأعضاءه تتدافع نحو تلك الجريمة، رغم كل مقاومة

والجريمة التي نحن في حديثها الآن هي ترجمة الشعر بالشعر. جريمة قديمة أليمة. ولها في صفحات الأجرام الأدبي أصول عريقة عميقة. والذين ارتكبوها وأمعنوا في ارتكابها، كان نصيبهم عادة الإعدام الأدبي مدى الحياة

ولقد كنت تبت من تلك الجريمة - أو خيل إلي أني تبت - حتى قرأت - وأنا أقضي عيد الفطر تحت شمس أسوان المشرقة - تلك القصيدة البديعة التي نظمتها كاتبتنا البارعة الآنسة مي، فنازعتني النفس اللجوج، إلى أن أكسر التوبة، وتقوضت صروح المقاومة أمام ذلك الشعر المغري والمعاني الساحرة. وسهلت الشاعرة أمامنا الصعاب بترجمة نثرية قربت البعيد، ومهدت العسير، فما شككت في أن كل أديب في الأقطار العربية سيندفع بالرغم منه إلى ترجمة تلك القصيدة

أما أني لم أرسل مع الترجمة اسما، بل وحاولت إخفاء خطي، فهل ينتظر من مرتكب الجريمة الاعتراف الصريح، وهل يستغرب منه أن يخفي معالمها جهد طاقته؟

والآن وقد نجحت المجازفة، فلا بأس عليك من إرسال الجائزة. فان دراهم الأدباء حلال للأدباء. ولا أشك في أن أصدقائي الأدباء سيلحون في أن تنفق تلك الدرهم، في وليمة أدبية تعد لهم. وهم يزعمون أن خير الطعام ما جاء من طريق مسابقة أدبية. ولقد أحاول إفهام هؤلاء أن الأفضل أن يشتري بالدرهم سفر قيم يكتب في أوله حديث الجائزة، من أجل الذكرى والتاريخ. وما أظنهم ممن يجدي فيهم الإقناع. وإليك التحية الخالصة من أخيك

محمد عوص محمد

الجيزة في 3 أبريل سنة 1935

يجمالبون المثال

الأديب الفاضل زكي شنوده جندي: - شبرا

قرأت ملاحظتك الطيبة على أسطورة يجماليون المثال (الرسالة - العدد 90). والحقيقة أن هذه الأساطير قد تناولتها يد التبديل والتحوير طيلة العصور السحيقة التي مرت بها. وأكبر

ص: 67

ظني أن الإغريق لم يكن لهم من أسطورة يجالبون المثال إلا ما لخصته أنا؛ لأني أعتمد فيما أكتب على أوثق المصادر التي لا يمكن أن يعتورها الشك، أما بقية الأسطورة التي أشرت أنت إليها فهي، كما أذكر، من ابتكار الكاتب القصصي الفذ ج برنردشو في قصته الخالدة (يجماليون)، وقد استمد الأديب الأيرلندي الكبير مادة قصته من الأسطورة اليونانية، وزاد عليها هذه الزيادة التي لاحظتها، لأنها بذلك، في نظره، تكتمل ما أحببته أنت لها من الرونق والكمال؛ وأحسبك في غنى عن أن أذكر لك، أن هذه الأساطير الجميلة كانت أبدا، ولا تزال، مصدر الإلهام للشعراء في الغرب الحديث، وهذا جون كيتس في قصيدته أنديميون، قد بدل في الأسطورة الإغريقية وحور، مع ذاك زادها جمالا وكمالا؛ وكذلك فعل شلي في (أدونيس) التي بكى فيها كيتس

ومع ذاك، فأنا و (الرسالة)، إذا منحتني هذا الحق، نشكرك

د. خ

الاحتفال الألفي بذكرى المتنبي

علمنا أن لجنة تألفت في دمشق لوضع برنامج شامل للاحتفال الألفي بذكرى وفاة أبي الطيب المتنبي، وستدعو إلى الاشتراك في هذا الاحتفال جميع البلدان العربية. ويقال إن سلسلة هذه الاحتفالات ستبدأ في رمضان القادم

مصير اياصوفيا

لن يجد الذين يزورون استانبول من المسلمين في (اياصوفيا) مسجدا تؤدى فيه الصلاة كما كان حتى العام الماضي. ولكن (اياصوفيا) أنبل الآثار الرومانية في (قسطنطينية) قد حول الآن إلى متحف قومي تنفيذا للقرار الذي اتخذته الجمهورية في هذا الشأن، يزوره الجمهور مقابل أحد عشر قرشا تركيا (نحو قرش صاغ) وقد رفع من ساحاته الأثاث والرياش وكراسي المصاحف، وأرسلت طنافسه إلى مساجد أخرى في أدرنة. وظهرت في ساحته المنطقة القديمة التي كان يؤمها عباد الصور في القرن الثامن الميلادي؛ ولكن ترك المحراب ومنبر المؤذن والمصابيح البرنزية الكبرى (القناديل) وسلالها البيزنطية؛ وترك أيضا المنبر السلطاني الذي أقامه السلطان أحمد الثالث، واللوحتان اللتان كتبهما الخطاط

ص: 68

التركي الشهير تقنج زاده إبراهيم في سنة 1642

وستنقل التحف الرومانية والبيزنطية إلى (اياصوفيا) عما قريب؛ وبذلك ترفع عن المسجد صفته الدينية التي أسبغت عليه منذ فتح قسطنطينية سنة 1453م

جائزة مينيرفا

من أنباء باريس أن جائزة مينيرفا الشهيرة قد منحت إلى مدام كلير سانت سولين؛ من أجل روايتها المسماة (نهار) وقد فازت بها دون عدة من الكتاب المنافسين. ومدام سانت سولين روائية فرنسية شابة، تلقت تربية عالية وتخرجت في جامعة باريس، وهي تكتب منذ أعوام كتابة الهواة لا المحترفين ولم تنشر سوى قليل مما كتبت، ويقال إنها أحرقت من تأليفها عدة قصص لم ترها جديرة بالنشر، وهي من عشاق القرية والغابة والمناظر الريفية، وقد لفت فوزها بهذه الجائزة الأدبية الشهيرة الأنظار إليها، وبدأت الصحف والمجلات تتناول حياتها وجهودها الأدبية بالنقد والتعليق

ص: 69

‌الكتب

ترجمة نفسية تحليلية

4 -

هو ذا تاريخ إنسان. . .!

للأستاذ خليل هنداوي

الحياة عاقلة تسعى إلى غايتها الأزلية وهي تلهم ما تريد ومن تريد لتحقيق غايتها المحجوبة عنا. أصغر ذرة في الكون وأكبر جزء من أجزاء الكون سيان في خدمة هذه الغاية. . . وكل ما في الكون دائب عامل على تحقيقها، وهل الحياة إلا دوائر بعضها يموج في قلب بعض، لا تنفتح دائرة عبثا ولا يولد شيء عبثا، وفي كل ذلك سر، جهلنا به لا ينفي وجوده! وهذا الاتصال يؤمن به (نعيمه) حتى لا يجد حدودا بين البداية والنهاية. لأن بداية كل شيء مرتبطة بنتيجته. والواقف على متفجر الينبوع يرى فيه المسيل والبحر، والطريق والمحجة، لأن بدايته مرتبطة بنهايته، لا تستطيع أن تقول: من هاهنا ابتدأ وهنالك انتهى! بل يبتدئ وينتهي، ويبتدئ وينتهي من أصغر من لحظة، فهو - من بدايته ونهايته - في نقطة لا يفرق فيها مفرق بين البدء والنهاية

وقد يصل (النعيمي) بين خيوط الحياة الحقيقية وخيوط الحياة الحالمة، فيحاول أن يجعل من الأحلام مؤثرات في اليقظات! وكم حلم أراد تفسيره بالحقيقة، ومشابهة حللها بمشابهة أخرى! كأن الحياة عنده واعية تخلق ما تهوى وتخلق الإنسان كما تهوى ولا يخلق هو من نفسه شيئا، وهذه الوقائع التي تتراكم في حياة الإنسان وندعوها نحن (مصادفات) يراها هو (حقائق) كبرى مرسومة في كتاب الحياة، وإنما دعانا عجزها إلى تسميتها بالمصادفات. وما فيها من معنى المصادفة شيء!

فلسفة هادئة عميقة لم تنبت جذورها إلا في الشرق؛ الشرق البعيد، الذي وجد معنى الألوهية في كل ذرة من ذرات الوجود، هذه الفلسفة لم فيه يبعثها الغرب الذي سكنه طويلا، وإنما حاول الغرب أن يخنقها فيه، فهب بصيحة المخنوق فيه، فأنقذه قبل إسلام الروح

فلسفة شرقية هادئة لا تحارب العالم لأنها هي العالم، ولا تثور على القوة المجهولة بل تدور معها كما تدور الأفلاك والنجوم، ولكل جرم دورته وسبيله. والعوالم كلها تؤلف عالما واحدا

ص: 70

كاملا. كلنا دورات في دورات، وكلنا ضمن دائرة الحياة الكبرى. وهي تكره التمرد على الحياة، لأنها لا تدرك معنى هذه الثورة، والتمرد - عندها - نزق شباب وثورة محموم، ورغوة تلهيك عن الصريح، وخير من هذا التمرد على الناس وحياتهم التوجه إلى تفهم أسرار تلك الحياة بصمت وهدوء، وكشف ما فيها من جمال ينضح من معين الجمال الكلي. وهو يأخذ على جبران تمرده الذي يضعه فوق (أبناء الحياة) ويريد من فنه أن يعليه فوق الناس. فيرى نفسه نسرا عظيما، ويرى غيره دجاجا وديدانا،

لا يرضى غير الفضاء ميدانا، ولا يشرف على الحياة إلا من القمم العالية، يأخذ نعيمه على جبران هذا الأدعاء، ويجيبه بلسان (ميشلين) المتواضعة المتهكمة (وأنت يا جبران! لا تأنف من أن تغذي جسمك ببيوض الدجاج ولحومها! جعل (ميشلين) رفيقة تحسن المشي في مسالك الأرض قبل أن تجعلها شاعرة تجوب رحاب الجو. اجعلها دجاجة سعيدة قبل أن تجعلها نسرا قويا، اجعلها إنسانا راضيا قبل أن تجعلها إلها كاملا)

فلسفة متواضعة غايتها أن تبشر بالحياة الشاملة التي تربط بين الأقاليم التي مزقها طمع الناس، قضوا على أسمى رابطة بينها ورضوا بأن يربطوا - ما قطعوه - بالمسخ الذي خلقوه وألهوه - وهو الفلس - وبهذه الفلسفة يجرب أن يؤلف بين البشر ويفني الذات الفردية، ويحل محلها الذات العامة التي لا شريعة إلا شريعتها؛ فلا يبغض إنسانا لأنه كل الناس، ولا يملك شيئا لأن كل شيء له. ولا يهرب من الألم لأنه السبيل إلى النجاة، ولا يدين مجرما لأنه يدين نفسه، ولا يطلب مجدا لأن كل مجد باطل

هذا هو عالم الوحدة الكاملة حيث الحياة ألفة أبدية، كل ما فيها يعانق بعضه بعضا عناق محبة لا حواجز فيها ولا حد لها، يبلغه الإنسان فيدرك بلاغة الصمت وهيبة السكون، وسمو النفس في حضرة ما لا يحد. ومرتبة الصمت - عند نعيمة - هي أسمى مراتب البلاغة، ولكن أي صمت! هو الصمت المبطن بتلك المعرفة، وقد يكون أن ذلك الصمت هو المحجة التي نسير إليها على غير علم منا

بلى: سيصمت الإنسان - الصمت الأكبر - عند القبر، وينفصل الإنسان عن كل شيء ولكنه الانفصال الظاهر! لأن الانفصال لا حقيقة له. . . (وأين هي القدرة التي في وسعها أن تحل حلقة واحدة من سلسلة الزمان وتترك السلسة مفككة مقطعة؟ أليس الإنسان يغيب

ص: 71

من ناحية من نواحي الزمان ليبرز في غيرها، كالشمس تغيب عنا في بقعة من الأرض فتشرق في سواها؟ الاتصال! الاتصال! ليس على الأرض ولا في السماء قدرة تستطيع أن تفصم عروة مكنتها الحياة بين إنسان وإنسان، أو بين شيء وشيء وهل في الكون ذرة ليست مربوطة بكل ما في الكون

سيذهب الجدول مترنما إلى البحر، وسيعود دون أن ينقطع المسيل الذي يصل بينه وبين البحر. . . .

خليل هنداوي

ص: 72