الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 920
- بتاريخ: 19 - 02 - 1951
الدين والسلوك الإنساني
ـ 4 ـ
للأستاذ عمر حليق
شغل (دير كهايم) في إمعان وروية بالتعرف على الحقائق التي تكن وراء القداسة والألوهية والمثل والقيم الإضافية والمعاني الفاضلة التي تنطوي عليها.
فأنكر أن المقدسات هي مجرد تعبيرات عن المؤثرات الخارجية المستمدة من البيئة والتاريخ، كما أنكر أن تكون وليدة الوراثة بمعناها الواسع.
فالقول بأن القداسة هي تعبير مستمد من البيئة والتاريخ ينفيه ما سجله (دير كهايم) من أنها (أي القداسة) رمز مستمد من الغريزة الفطرية. وفوق ذلك فإن تغيير البيئة واستمرار التطور في تاريخ الفكر لم يذهب بالرموز القدسية والحياة الدينية المعبرة عنها.
والادعاء بأن القداسة هي وليدة الوراثة وما أكتسبه الفرد عن أسلافه من ذخيرة فكرية واتجاهات عاطفية وطبائع أخلاقية لا يتفق وحقيقة الواقع في عالم عناصر الوراثة فيه واسعة متشعبة تفاعلت فيها عدة مؤثرات ثقافية وعاطفية تسربت غليها من الخارج. ومع ذلك فقد بقى جوهر القداسة سليماً في تأثيره الروحي والاجتماعي على سلوك الإنسان.
فإذا سجلنا إذن على ضوء هذا الشرح أن وراء المقدسات حقائق راسخة، وأن هذه المقدسات (على تعدد أنواعها وألوانها) بالغة الأثر راسخة النفوذ في السلوك الإنساني؛ فإن لنا أن نبحث في علاقتها بالحياة والأوضاع الاجتماعية.
فالمثل والأخلاق التي تضبط سلوك الفرد تستمد سلطتها من الاختبار الديني الذي قيد الفرد بنظم وقوانين يسير عليها في علاقته بربه ومجتمعه. والثابت عندنا أن الله عز وجل (وهو قدس الأقداس) حقيقة راسخة، وأن علاقة الفرد بربه علاقة منشؤها غريزة فطرية موهوبة وليست مكتسبة. فلنا إذن أن نبحث في علاقة الاختيار الديني بالمجتمع الإنساني الذي وضع الله له نظماً وقوانين وقيماً أخلاقية ووضع دير كهايم بعد هذا الاستنتاج كلمته الشهيرة: -
(إن الله عز وجل هو رمز المجتمع الصالح)
وثار بعض النقاد أول الأمر على كلمة دير كهايم هذه وخابت آمالهم في رجل ابتدأ في
حماس يدافع عن روحانية الدين إزاء مادية الطبيعيين، ثم ما لبث أن خرج (في رأيهم) باستنتاج أكثر مادية. فالمجتمع ملموس والله عز وجل حقيقة قدسية يدركها الناس بالعقيدة والإيمان فكيف يصح القول بأن الله جل جلاله رمز لشيء مادي؟ وقال دير كهايم وأنصاره إن هذه الثورة لا موجب لها. فالحقيقة الاجتماعية التي وضعها دير كهايم ليست من الأشياء الطبيعية التي يلمسها الناس لمسهم الصخرة والشجرة والحديد والماء؛ إنما هي (سلوك جماعي) يشترك في التعبير عنه أفراد المجتمع كما لو كانوا فرداً واحداً. وأوضح دير كهايم الفرق بين الفكر الفردي والفكر الجماعي وقال بأن اختيارات الإنسان الفردية الخاصة به وسلوكه النفساني والروحي يختلف عن اختياراته متضامناً متكافلاً مع أفراد الجماعة التي تعيش فيها ويشاركها الخير والشر. والمجتمع في رأي دير كهايم كيان لا وجود له إلا في تفكير الفرد وشعوره.
هذا الفكر الجماعي هو من أبرز ما اهتم به دير كهايم في معرض معالجته للدين والسلوك الإنساني، فاختبار الجماعة عند دير كهايم حقيقة اجتماعية لا علاقة لها بالماديات التي تكلم عنها الطبيعيون.
إذن فعلاقة الله عز وجل بهذه الحقيقة الاجتماعية ليست علاقة مادة، والقيم والمثل الفاضلة التي جاءت بها التعاليم الدينية لم تقتصر على علاقة الفرد بربه وإنما شملت كذلك علاقة الكيان الاجتماعي بالعزة الإلهية، وذلك لأن الفرد عضو في الجماعة وسلوك الإنسان فرداً يختلف عن سلوكه متضامناً م الجماعة.
وقد ركز اكثر المصلحين من أهل التقوى والإيمان اهتمامهم إلى سلوك الإنسان الفردي وأهملوا معالجة سلوكه الجماعي. ولما كان هذا السلوك الجماعي مميزاً عن السلوك الفردي بصفات واتجاهات وطبائع وشاعر خاصة فلذلك استوجب على المصلحين أن يقوموا أكثر فأكثر على توجيه السلوك الجماعي على ضوء التعاليم السماوية. وشرح دير كهايم في حماس كيف أنه جعل اهتمامه أن ينفي الصبغة الطبيعية المادية عن طبيعة السلوك الجماعي ويثبت صفاته ومميزاته الروحية.
ثم زادت الحاجة إلى دراسة علم الدين الاجتماعي دراسة عملية وتعميمها والدعوة لنشرها ما وجد المصلحون لذلك سبيلاً. وما لبث دير كهايم أن وقع فريسة التطرف في التحليل
والتعليل والتعصب لآرائه شأن معظم الذين يكتشفون لوناً جديداً من ألوان المعرفة فيندفعون في حماستهم دون التريث ولا إمعان. متخطين فروع المعرفة الأخرى بالرغم مما فيها من عناصر وحقائق لا تقبل جدلاً ولا إنكاراً.
واندفع دير كهايم في أبحثه ينادي بما فحواه أن وظيفة الدين الاجتماعية يجب أن تفوق وظيفته الروحية؛ وهذا ما يستدعي في نظر دير كهايم أن يتحكم علم الاجتماع في رقبة الدين وتعاليمه.
وقام باريتو (وهومفكر إيطالي جليل الشأن) يصلح ما أفسده دير كهايم بطريقة غير مباشرة. فأصر باريتو في تراثه الضخم أن سلوك الجماعة (السلوك الجماعي عند دير كهايم) ينقصه في أغلب الحالات الرشاد والإدراك الإيجابي الشامل بطبيعة الأشياء ومعانيها الكاملة. وأن من المستحيل أن يتحقق للجماعة في سلوكها الرشد المنطقي كما اصطلح باريترد على تسميته ولذلك فتحكم علم الاجتماع (السوسيولوجي) في رقبة السلوك الديني مناف للمنطق السليم؛ ذلك ألان علم الاجتماع يستمد عناصره من سلوك الجماعة ويبني مبادئه واستنتاجاته عليها. وهذا السلوك كما أصر (باريتو) بينه وبين المنطق السليم صداقة مفقودة.
لعل من المفيد أن نسجل هنا بأن دير كهايم أخذ فيها بعد بوجاهة هذه الآراء التي بشر بها (باريتو) فعدل من تطرفه ثم أمعن في دراسة (الحقائق المادية الملموسة) على ضوء فلسفة المعرفة ليثبت أن معرفة الناس للحقائق المادية لا يمكن أن تقرر على أساس المحسوس والملموس. وكان هدف دير كهايم أن يثبت للطبيعيين أن استشهادهم بالحقائق المادية في تهجمهم على الدين هو استشهاد باطل. فالناس لا يعرفون الأشياء بخواصها المميزة وأوصافها الطبيعية فحسب وإنما يعرفونها بالأفكار والمشاعر والاحساسات التي تؤثر بها تلك الأشياء في سلوك الفرد والمجتمع.
فالفلاسفة مثلاً هم نقيض العلماء الطبيعيين من حياتهم (أي الفلاسفة) شغلو بمصادر المعرفة غاضين الطرف في أكثر الحالات عن العالم الطبيعي الذي يعيش الناس فيه.
ومثل هذا الإهمال ينطبق بصورة عكسية على اتجاهات العلماء الطبيعيين الذين حصروا اجتهادهم في التعرف على الحقائق المادية في الأجسام والظواهر الطبيعية (الفيزيولوجية).
وكلا الاتجاهين ناقص في رأي دير كهايم. فالكمال في البحث العلمي لا يتم إلا بالتعرف
على الحقائق الاجتماعية التي لا يمكن أن تعد في حساب الفلسفة وفي عداد الحقائق الطبيعية المادية لأنها ظواهر اجتماعية بينه يدرك الناس أهمية الدور االذي تطلبه في مجرى السلوك الإنساني.
وفي رأي دير كهايم أن الفلاسفة يستمدون مادتهم الخام من هذه الظواهر سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا. وعلماء الطبيعة لم ينصبوا علة معالجة الحقائق المادية إلا ونصب أعينهم توجيه هذه الحقائق الاجتماعية نحو قسط أوفر من الكمال. والعلماء في انصبابهم على الحقائق المادية أهملوا التعرف على الحقائق الاجتماعية.
هذا هو محرر النهج العلمي الذي استنبطه دير كهايم فأثار إعجاب الناس. والدارس لآثار دير كهايم يلمس صعوبة المعارج التي سلكها باحثاً للتعرف على جوهر الدين والسلوك الإنساني. فالصلة بين الروح والمادة لا تتم إلا عن طريق الحقائق الاجتماعية، طريق الحقائق الاجتماعية ليست في حد ذاتها مادة مجردة أو روحانية مجردة وإنما هي الظواهر تلعب دوراً رئيسياً في النظام الكوني. ويترك دير كهايم في بلبلة فكرية إزاء هذا المنطق اللوبي ولكنه يمضي في الدراسة والاستقراء والبحث والاستنتاج على أسس هذا المنهج العلمي وهذا المنطق اللوبي. فهو يقدر أن الفوضى في السلوك الإنساني (فردياً كان أم جماعياً) لابد وأن تنتظم وتستقيم بفعل المعرفة الصحيحة للحقائق المادية. ولكن سيطرة الحقائق المادية علة التفكير والسلوك الإنساني. لابد أن تخلق عاجلاً أو آجلاً نوعاً آخر من الغموض والاضطراب الروحي والنفساني؛ ولا يحل هذه الأزمة إلا تدخل النظم الاجتماعية (أو الحقائق الاجتماعية في لغة دير كهايم). والناحية الاجتماعية في التعاليم الدينية من الأهمية بمكان عظيم لأنها تقوم بعمل مزدوج؛ فهي تعزز الغريزة الروحية من جهة، وتصون الحقائق الاجتماعية من جهة أخرى. فإذا تسنى لرجال الدين والذين يحملون لواء الدعوة له أن يضيفوا إلى تراث الدين الروحي والاجتماعي مادة جديدة تستمد إقناعها من الحقائق المادية سياسية كانت أو اقتصادية أو تكنولوجية فإنهم يساهمون بالقسط الأكبر في تنظيم السلوك الإنساني تنظيماً سليماً يحقق سعادة الدارين.
وأصبح دير كهايم سعيداً حين رأي المفكرين من رجال الدين والفلاسفة والعلماء في أوائل هذا القرن على وجه الخصوص يتجهون أكثر فأكثر لدراسة هذا الثالوث من الحقائق
الروحية والمادية والاجتماعية، الأمر الذي دفع إلى الطليعة أهمية علم الاجتماع الديني في التفكير والسلوك الإنساني. وهذا الاتجاه يزداد أهمية وضرورة بازدياد الصراع بين المذاهب السياسية والاقتصادية المعاصرة التي جرت على المجتمع الإنساني ويلات الحروب وشر التفكك الاجتماعي ومرارة البلبلة الفكرية والنفسانية التي يعانيها المثقفون في هذا العالم بما فيه الشرق العربي.
وثمة مزية أخرى في مكانة الدين والدور الذي يؤديه في السلوك الإنساني، وأعني به (النظام) وما ينطوي عليه من استقرار روحي وفكري ومادي. وما تضار النظم السياسية والاقتصادية المعاصرة شيوعية كانت أو رأسمالية أو فاشية إلا لاختلافها عن أوجه التنظيم وأسس المبادئ والوسائل التي تحقق النظام والاستقرار.
فالنظم الديكتاتورية ـ وهي وليدة استياء المصلحين من بطء النحو التقدمي للمجتمع وضعف الأداة لتحقيق النظام ومن ثم الإصلاح والتقدم والرفاهية ـ فاشلة في محاولتها هذه كما أثبت ذلك التاريخ الحديث والقديم لأنها وهي وليدة السلوك الفردي تحاول أن تكون تعبيراً للسلوك الجماعي. وشتان بين السلوكيين كما أخبرنا دير كهايم.
والديمقراطية في نظامها الحالي تدعي باطلاً أنها تعبير عن سلوك الجماعة ورغباتها لأنها حملت نفسها فوق ما تستطيع والدولة في نظم الديمقراطية المعاصرة قد فصلت نفسها عن الحياة الدينية. ومع أنها (أي الدولة) لم تقاوم السلوك الديني فقد سلبته بعض أسسه الجوهرية؛ فجردت برامج التعليم من المواد الدينية وتركت ذلك لمشيئة الفرد، وجردت المعابد والمؤسسات الدينية من مواردها الرسمية وتركتها عالة على تبرعات المحسنين الذين يتأثر مبلغ إحسانهم بالتقاليد الاقتصادية التي لا تعرف نظاماً ثابتاً ولا تتقيد باستقرار.
وحاولت الدولة الحديثة أن تقوم بأعباء الحقائق الاجتماعية التي كان يقوم بها الدين دون أن تستطيع تلك الدولة أن تندمج في العلاقة الثالوثية التي شرحها دير كهايم وهي الروح والمادة والمجتمع. وكان من جراء ذلك هذا الفشل الذي أصاب الديمقراطية في توفير النظام وتوطيد الاستقرار؛ لا في ناحية الروحية والنفسانية والفكرية فحسب بل حتى في فروعه السياسية والاقتصادية كذلك وحين يقف مفكر رزين كالأديب البريطاني ت. إس إليوت وغيره من المثقفين الممتازين ليناشد الدولة والمجتمع أن (يوفر للمعوزين قبل أن يوفرا لهم
زجاجات الشمبانيا) لم يعن بذلك إلا لضرورة ربط الحياة الروحية بالحقائق الاجتماعية والترف المادي والفكري التي أغرمت به هذه الأيام الدولة وأصحاب الثقافة المادية من دعاة الإصلاح.
فالمشكلة إذن مشكلة نظام يراعي الحقائق الروحية الدينية إلى جانب اهتمامه بالحقائق الروحية الدينية إلى جانب اهتمامه بالحقائق المادية في حياة الفرد والجماعة.
وحين يراعي المشرعون وأصحاب الحل والعقد والفرد والجماعة والحقائق الأصيلة في هذا السلاح المثلث تكون الإنسانية قد لمست نقاط الضعف والقوة في هذا الاضطراب المرير الذي يعيث في مجتمع القرن العشرين فساداً.
(للبحث صلة)
عمر حليق
نيويورك
الأمانة العامة.
.!
للأستاذ محمد محمود زيتون
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل. .)
قرآن كريم
الأمانة فضيلة، والفرد إنما يكتسب الفضائل من المجتمع الذي هو المصدر الأول لكل فضيلة، فلا غرو إذا كانت (الأمانة العلمية) بمثابة (الطاقة) التي تنبثق من أرجائها أشعة الحق والخير، فتنعكس على الأفراد بالرضا والسعادة، ومن هنا يتلمس طريق الإصلاح الشامل ومن أراد القضاء على المشاكل التي يصطلى نارها كل من الفرد والجماعة على السواء.
وقبل أن نفرض هذا العبء الأكبر على الفرد، نرى أن المجتمع قد احتمله بطبعه، فإن الضمير الاجتماعي هو القياس السليم للحكم على الأمور التي تصدر عن الأفراد، بل هو المحكمة التي لا نقص ولا إبرام لأحكامها، فلا مناص من الرضوخ لها، والانصياع إليها.
والمجتمع هو (الأمين العام) على الحقوق والواجبات التي تنتظم بمقتضاها الحياة العامة، فلا مفر من الاسترشاد بأوامره، والإنصات إلى أصدائه الرنانة في جوانب الفرد حين يصدق عليه قول الشاعر:
وتحسب أنك جرم صغير
…
وفيك انطوى العالم الأكبر
وتحقيق العدالة لطالبيها موكول أولاً وبالذات إلى الأمانة العامة، بعد أن تكون المنافذ قد سدت في وجوههم، فما هو إلا أن تعرض المظالم في وضع النهار، على سمع المجتمع وبصره، ولن تجتمع الأمة المستنيرة يوماً على باطل، ولن تنأى بجانبها عن إنصاف من يستنصرها، بكل سبيل مشروع، وذلك هو الواجب، الأول على الحاكمين والمحكومين علىالسواء، فليس بنا إذن حاجة إلى هذه البدعة الجديدة التي يسمونها (وزارة المظالم) فإنها غير ذات موضوع، من كل مجتمع مطبوع غير مصنوع.
بهذا تستجيب الجماعة لغريزة (البقاء الاجتماعي) التي تتطلب تنسيق الأعضاء من غير
تناكر أو تنافر، وبدون إفراط أو تفريط. وعندئذ تكون (العدالة) حقيقية جارية، في الكيان العام، غير محتاجة إلى توكيد وجودها، أو البكاء على أطلالها، وحسبها أن يطرد النمو اطراداً ثابتاً تكون فيه النسبة محفوظة على الدوام بين الجميع، كخطوط العرض المتوازية التي لا تلتقي أبداً على سطوح الأرض على الرغم من دورانها حول نفسها وحول الشمس، وعلى الرغم من اختلاف الليل والنهار، مادام محمر الأرض عموداً مستقيماً على خط الاستواء بين الشمال والجنوب. إذن لابد من قوامين على العدالة حتى تختفي أشباح المظالم، وتتواري الهياكل المتجبرة التي تبغي العلو في الأرض بغير الحق، فلتكن العيون يواقظ متنبهة لتحذير المتنبي إذ يقول:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
…
حتى بشمن وما تفنى العناقيد
ونحن إنما ننشد لعناقيد الحق، هذه (النواطير) لا تلك (الطراطير)، ويومئذ ينقطع دابر كل ثعلب يتسلل نهاراً جهاراً إلى كل كرمة نام عن جناها، من بيده سقاها ورعاها. والذي نخشاه هو أن يتواكل الجميع يوم يتبدل الثمر الحلو في أفواههم مراً لا يذاق، فيصبح المرء لا يرى بعد الثعالب العنب، إلا طيور الحنظل، فلا يهش ولا ينش، وإنما يقول وقد عبس وتولى:
لا أذود الطير عن شجر
…
قد بلوت المر من ثمره
أما إذا خشينا انهيار الصرح العظيم الذي بنيانه المرصوص مؤتلف من الآحاد والعشرات، أو الأفراد والجماعات، فما علينا إلا إجراء عملية (الصقل البشري) على الدوام، لننحت من الغرائز الحجرية قوالب متساوية، تنبض بالحياة، وينسجم بها البناء المتساوي السيقان، فلا يكون به نتوءات أو مغارات تأوي إليها حشرات الفساد، حيث نريد الإصلاح.
والتعهد المستمر للنفوس، يزيدها صقلاً ولمعاناً، ويكسبها كذلك مناعة طبيعية من الانحلال الخلقي، فلا تفسد مع الأهواء الطارئة، ولا تنحدر مع التيارات الجارفة، ولن يكون هذا التعهد ضامناً إلا بالأخذ من معالم القوة والعزة، ومعارف الخير والحق، مما يجعل الدين والآداب والتاريخ والعرف والقانون تسير جميعاً بالدارسين نحو تدعيم الأمانة العامة، وتقوية أركانها، لترتفع في أعاليها رايات العدات في مختلف أحجاما، ومتباين ألوانها وأجناسها.
وليس يكفي أن تكون عين العدالة في يقظة لتحقق الأمانة العامة، وإنما ينبغي أن ينبغي أن تمتد يدها بالبطش غلى الجريمة، وإلا أفلت اللص بما سرق، وذهبت صرخات المطاردين أدراج الرياح، كما أنا تستلزم الفطنة في المييز بين السارق والمسروق، فقد نقبض بيد الحديد على برئ، ونطق سراح أثيم خادع الأمين العام فاندس في صفوف المطاردين، وهم يتراكضون خلف السارق المزعوم، فلما أعياهم اللحاق به نكص هو على عقبيه، ليقتسم الأسلوب مع الأبالسة.
وهيهات أن تتسرب شاذة أو فاذة من الأمانة العامة، إذا ألقت شباكها في الماء العكر، فهي إنما تتعقب كل من يعكر صفو السلام، مهما يكن لونه ومقامه، وإلا فإن قطع ذنب الأفعى لا يغني عن رأس الفتنة شيئاً. والجراثيم لا تتكاثر إلا إذا كانت درجة الحرارة مناسبة والمكان صالحاً، وعندئذ يتعسر اداء، ويتعذر الدواء.
ولما كان الخط المستقيم هو أقصر طريق بين نقطتين، فإن الأمانة العمة هي أقوم خط بين الحق والباطل، وليس بينهما منطقة اشتباه، (فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال.) وليس حولهما كذلك إلا صحاري لعدم، (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم سبيله. .)، ولهذا كان التمادي في الانحراف خيانة طامة، عواقبها غير مأمونة.
وليس أخون من تنحية الجندي عن صفه، وتعطيله من سلاح، واتهامه بعد ذلك بالتخفيف عن كتائب الجهاد، ليحرم من مكانه في مواكب النصر، وهو الهاتف:
سلاحي إيماني العتيد، وقائدي
…
ضميري، وأجنادي من الشيم الغر
وهنا ننتظر الساعة التي فيها تتحطم الأهرام الثقيلة على قالبيها، ويومئذ يندمون على انصرافهم عن هدى (الأمين) المأمون عليه الصلاة والسلام إذ يقول:(إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قيل: فكيف إضاعتها يا رسول الله. قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
وما كان أجدر أصحاب الحقول بحقوقهم حتى يستقيم الطريق، ويعتدل الميزان، وتعلو أصواتهم بالفخر المسنون:
وإذا الأمانة قسمت في معشر
…
أوفى بأوفر حظنا قسامها
وويل للقطيع الي بشرد منه القاصي والناحي، فيصيح غنيمة باردة، تغري أشلاؤها كل وحش ضال بالاصطياد من تحت الريح. وهكذا المجتمع الذي يغفل عن رسالة (المرشد العام) و (الراعي الأمين) عليه السلام، إذ يقول (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأكل الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد).
ولو عرف كل امرئ قدر نفسه، لوضع نفسه حيث يجب أن توضع، غير طمع في العلا إلا بالحق والدور، وغير متظلم إلا من الهضم والجور، وبين يديه مؤهلات الشاعر الغيور:
متى تحمل القلب الذكي وصارما
…
وأنفاً حميماً تجتنبك المظالم
وأف لمن يتخذ أكتاف الكرام سلماً لمآربه، يتنقل عليه من حزب غلى حزب، ليسود، وما كان ليسود لأن الحياء من الإيمان، والرفعة من التواضع، أو كما قال من قال:
سدت الجميع فسدت غير مسدود
…
ومن البلاء تفردي بالسؤدد
وهل أوتي الوضيع هذا السلم الرفيع إلا في غفلة من الرقيب العام، يوم كانت الدولة لأقارب المتربع على الكرسي، يؤثرهم - للعصابة والقرابة - على من لهم الحق قبلهم، وهنا ينطق (أمين من في السماء) بقول الحق (من استعمل رجل من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين).
هذا بينما الأصيل الكادح، يئن تحت كل فادح، ويقول في مرارة:
وإذا تكون مهمة أدعى لها
…
وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وليس من الفضائل أحق بالصدارة من الأمانة لأنها جهاد النفس، وصراع الغرائز، وإبطال الباطل، وإحقاق الحق. طلع رجل على النبي وهو جالس بين صحبه فقال (يا رسول الله، أخبرني بأشد سيئ في هذا الدين والينه، فقال عليه السلام: ألينه اشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وأشده يا أخا العالية: الأمانة إنه لا دين لمن لا أمانة له، ولا صلاة له، ولا زكاة له).
والحياة الإنسانية ما هي إلا مجموعة من (أحكام القيم) نصدرها على ما يقع في نطاق الحق والخير والجمال، ولا محيص من إعلان هذه الأحكام حتى يكون لكل عمل إنساني الحق في الثواب والعقاب، أو الاستحسان والاستهجان، وبذلك من أمارات الحيوية والاجتماعية.
قال أبو بكر الصديق: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم،
لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإني سمعت رسول الله يقول (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يده أوشك الله تعالى أن يعمهم جميعاً بعقاب).
وما كان أحرص من رسول الله على الصرح الاجتماعي، والوحدة الشاملة! وما كان أشده استمساكاً بالعروة الوثقى، واعتصاماً بحبل الله حين يقول:(من رأى من أميره شيئاً يكرهه، فليصبر عليه، فإنه من خالف الجماعة سبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية).
وبعد، فإنه إذا كان (دور كايم) اليهودي أول واضع لقواعد علم الاجتماع حين قال بنظرية (التماسك الاجتماعي) ' محمداً عليه السلام كان أسبق المفكرين جميعاً إلى وضع الدستور العام المستمد من الحياة الإنسانية في إمكانياتها العامة، وإذا كان قد عرف أول ما عرف بين قومه بأمانة قبل البعثة، فإنه كان الأمين الأول على مقدرات المجتمع في كل زمان ومكان، فمن أين تنفذ نظرية (الماركسية التاريخية) من هذا التراث الفولاذي الخالد الذي يكرم البشرية ويعصمها من مهاوي الزلل، بفضل (الأمانة العامة) وقد أعلى منارتها (كبير الأمناء) الذي أرسله ربه رحمة للعالمين.
وعسى أن يكون واضحاً الآن أن الأمانة إنما هي رسالة المجتمع قبل أن تكون فضيلة الفرد، وأنها الكنز القديم المدخر للإنسانية منذ الأزال حتى الآباد، وصدق الله تبارك اسمه إذ يقول (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً). إي والله إنه كان ظلوماً جهولاً!
محمد محمود زيتون
رأي في تحديد العصر الجاهلي
بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي
صاحب العزة إبراهيم مصطفى بك عضو مجمع فؤاد الأول
للغة العربية
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولا نذكر التجاء اليمن إلى الفرس أعداء الروم ولا استعادتهم لنصيب من حكم بلادهم ولا سعي الفرس لبسط سلطانهم عليهم، وإنما نذكر أن بلاد العرب خلت من دولة تحكمها وتؤمن سبلها وتحمي تجارتها ووقعت في فوضى نرى بعض صورها في شعر كشعر الحارث بن حلزة إذ يقول:
هل علمتم أيام ينتهب النا
…
س من غواراً لكل حي عواء
لا يقيم العزيز بالبلد السه
…
ل ولا ينفع الذليل النجاء
ليس ينجي موائلاً من حذار
…
رأس طود وحرة رجلاء
فهذا عندنا حد العصر الجاهلي العربي وتلك سماته التي أوحت إلى الشاعر القديم أن يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراه لهم
…
ولا سراه إذا تجاهلهم سادوا
وإذا نظرنا إلى الجزيرة العربية في هذا القرن وجدنا آثار المعسكرات اليمنية ومعاقلها مبعثرة في أنحاء الجزيرة.
بنو الحارث بن كعب في جنوب الحجاز وكانوا يلقبونهم ملوكاً، والأوس والخزرج في شماله، وفي نجد طي وكلب وملوك كنده - وفي عمان الأزد وفي تخوم العراق المناذرة، وفي مشارق الشام الغساسنة، وكلهم ينتسبون إلى اليمن. وقد نشبت الحروب بينهم كل يريد الملك لنفسه كما فعل قواد الاسكندر في ملكه الواسع من بعده. وثار العرب ون غير اليمن وهم العدنانيون وتطلعوا إلى الاستقلال والتفرد بالسلطان، واشتعلت الحرب بين العدنانيين واليمنيين وبين العدنانيين والعدنانيين - ونهض كل مغامر طموح، وطمعت كل قبيلة ذات قوة أن تستبد بالسلطان وغلبت عليهم حمية العداوة والثأر ومضى شعرائهم يتغنون بفظائع الحرب:
وحليل غانية تركت مجدلا
…
تحكو فريصته كشدق الأعلم
فشككت بالرمح الأصم جنانه
…
ليس الكريم على القنا بمحرم
فتركته جزر السباع ينشنه
…
ينحضن حسن بنانه والمعصم
كأن جماجم الأبطال فيها
…
وسوق بالأماعز يرتمينا
نجز رؤوسهم في غير بر
…
فما يدرون ماذا ينفرونا
ولكن حياة العرب - كما قدمنا - تعتمد على التجارة ورزقهم منها ولابد أن يتجروا ليعيشوا - والأثر الوارد: تسعة أعشار الرزق من التجارة. والرسول كان منذ الصبا تاجراً وأبوه وعمه وجده تجار، وزوجه خديجة ترسل في التجارة أموالها وبسبب من التجارة كان زواجها - وأبو بكر وعمر وعثمان تجار، وما شئت من وجوه الصحابة وأشراف العرب كانوا يعملون في التجارة.
واللغة نفسها تحمل أثر التجارة وغلبتها على أعمالهم؛ فالإيمان تجارة لن تبور، وتجارة تنجيكم من عذاب أليم، والله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. والمؤمنون لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. وعهد الخلافة بيعة.
فلا بد لهم من تجارة ليعيشوا ويرتزقوا. ولا مناص لهم من الحرب ليثأروا ويتسلطوا، ونا عظمت شعائر الأشهر الأربع الحرم. وشاعت البيوت المحرمة الآتية وكان أمجدها بيت قريش بمكة، وحرم الله الذي امنن به القرآن على قريش (أو لم يروا أنا جعلنا لهم حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم).
وبدت عادة التحالف وتضام بعض القبائل إلى بعض والحرص على العهد والوفاء بالعقد.
واذكروا حلف ذي المجاز وما قد
…
م فيه - العهود والكفلاء
حذر الطيش والتعدي وهل
…
ينقض ما في المهرق الأهواء
وبدت نغمة التحذير من الحرب والثناء على السلم وتمجيد مساعيه:
يميناً لنعم السيدان وجدتما
…
على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما
…
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما أن ندرك السلم واسعاً
…
بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على الخير منها موطن
…
بعيدين فيها من عقوق ومأثم
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
…
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها ذميمة
…
وتضر إذا ضربتموها فتضرم
والشعر لزهير في معلقته. وولداه كعب وبجير قد لقيا المصطفى وآمنا به.
فهذا تحديد العصر الجاهلي وتلك ملمحه ومعالم حوادثه، يبتدئ بفقد حكومة البلاد وضياع أمنها واضطراب نظامها في سنة 525 وينتهي بقيام الحكومة التي تقر السلام وتنشر الأمن في سنة 622 وما بينهما عصر الجاهلية والفوضى والتناحر على السلطان ومنذ بدا لي هذا الرأي جعلت أختبره فيما أقرأ من أخبار فأرى حوادث الجاهلية تمضي في حدوده منسجمة منسقة متضامة يوضح بعضها بعضاً.
وأجد من الشواهد في تاريخ الأمم المجاورة ما يؤيده.
فالغساسنة كانوا يتخمون الروم في الشام قبيل الإسلام ولهم مع الدولة البيزنطية صلاة مدمنة نرى أنها مرت بحالتين: صلة الجار المجاور الذي يسالم ويحارب، وصلة التابع الذي يستمد ولايته الشرعية توليته غيره.
وللمستشرق العظيم نلدكه بحث تاريخ أمراء غسان كتبه وهو شاب لينال به الدكتوراه ثم رجع إليه بالتحقيق بعد النضج وبعدما ظهرت مستندات من تأليف المعاصرين من السجلات الرسمية في الكنائس وغيرها - وقرر أن أقدم اتصال للغساسنة ببيزنطة اتصال التابع المستعين كان في زمن الحارث الأكبر من سنة 529 إلى سنة569 إذ أنعموا عليه ثم على ولده من بعده بلقب بطرق وهو لقب حكام الأقاليم عندهم. وتفسير ذلك عندي أن الغساسنة وهم يمنيون كانوا يستمدون سلطانهم من دولتهم اليمنية ويجاورون الروم مجاورة الجار قد يسالم وقد يحارب؛ فلما زالت دولة اليمن وجاءهم الحرب من حيث كانوا يلتمسون العون اضطروا إلى الاستعانة بالروم واستمداد السلطان منهم. ونعلم أن العربي لا يقبل هذا إلا بعد القهر والقسر.
وفي بلاد تخوم العراق كان المناذرة ملوك الحيرة وكانلهم اتصال بملوك الفرس من آل ساسان.
ونقرأ من أخبارهم أن (يزدجرد) أرسل ولده (بهرام) ليتربى في بلاط المنذر بالحيرة.
وأن (يزدجرد) لما مات ثار الفرس رافضين أن يتولى أحد من أولاده لما كانوا يكرهون من
حكمه؛ وأن بهرام استعان بالمنذر وولده النعمان في جيش قدروه بثلاثين ألفاً وبهم تمكن من الجلوس على عرش أبيه، ولا أرى هذا صورة التابع الخاضع، وقد كان ذلك سنة 420.
ولكن في زمن كسرى أنوشروان نرى المنذر الثالث يتولى السلطان من يد كسرى، وحكم كسرى من سنة 531 إلى سنة 578 والمنذر قتل في واقعة محددة التاريخ سنة 554 واستمر الأمر على ذلك يولي الفرس حاكم الحيرة من المناذرة - وربما ولوه من غيرهم كما ولوا عليها إياس بن قبيصة الطائي.
فهذه أسرة يمنية أخرى تبدلت طبيعة اتصالها بجارتها بعد أن سقطت دولة اليمن سنة 525.
وفي داخل الجزيرة كان امرؤ القيس آخر ملوك كنده وقد حاربه المنذر الثالث وحارب أسرته نزاعاً على الملك وقتل كثيراً من أمراء كنده صبراً ويبكيهم امرؤ القيس فيقول:
ملوك من بني حجر بن عمرو
…
يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا
…
ولكن في ديار بني مرينا
فلم يغسل جماجم بغسل
…
ولكن في الدماء مرملينا
تظل الطير عاكفة عليهم
…
وتنتزع الحواجب والعيونا
وإذا كان المنذر يستند إلى سلطان الفرس فإن سبيل امرئ القيس أن يستعين بمنافسيهم الذين ينازعونهم الرغبة في التسلط على البلاد العربية وهم الروم ويقصد في ذلك إلى الحارث بن جبلة والحارث كما علمنا ولي من سنة 529 إلى سنة 569.
وهكذا نرى أن ما نكشف من تاريخ الحوادث يؤيد ما بدا لنا من التحديد.
فإذا تقرر تحديد العصر الجاهلي على هذا الوجه فتح باب لدرسه دراسة قوية؛ وكان ما بأيدينا من الشعر المروي مدداً كافياً لتنوير هذا العصر وتوضيحه.
فإذا أخذنا قبيلة واحدة مثل قبيلة بكر وهي أخت تغلب وكلتاهما من وائل - ووائل فرع من فروع ربيعه.
إذا أخذنا هذه القبيلة وجدنا أنا نروي لأكثر من خمسين شاعراً من شعرائها بينهم نحو عشرين يمكن أن يكون شعر الواحد منهم ديواناً؛ وخمسة لهم دواوين مطبوعة متداولة بأيدينا وهم عمرو بن قميئة وطرفة بن العبد والخرنق أخته والمتلمس والأعشى.
وهو قدر كفيل أن يهدينا إلى معرفة واضحة لأحوال تلك القبيلة.
فإذا درست على هذا النمط كل قبيلة وتضامت أخبار القبائل ووضح بعضها بعضاً أمكن أن يكون بأيدينا تاريخ لهذا العصر أوضح وأصح وأثبت من هذه الروايات المبعثرة المشوبة بكثير من الخيال والمبالغة.
إبراهيم مصطفى
خطرات وذكريات
في التفاؤل والتشاؤم
للأستاذ منصور جاب الله
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذمم التشاؤم ويبدئ القول ثم يعيده في تهجينه وتشبينه، إذ كان الإسلام قريب عهد بالجاهلية، وكان للتفاؤل والتشاؤم دولتهما في تسيير شؤون الناس. وكان عليه الصلاة والسلام خبيراً بطبائع الناس وأمور معايشهم، وإذ بصر بالتطير بينهم شائعاً في الخطب الجسام وفي الأمر الدون نهى عنه وبغضه تبغيضاً شديداً، حتى لقد قرن التشاؤم بوقوع الشؤم ذهاباً مع ما يستشعره الوجدان من خفي النوازع ومتضارب الخوالج، ثم يكون عليها بعد ذلك من صميم الواقع شهيد.
وللرسول الأعظم أحاديث كثيرة في ذم التشاؤم مبثوثة في الأسانيد الصحاح، وإنها لخير مرجع للرائد والباحث في علوم النفس. ولقد كان التفاؤل والتشاؤم أثرهما في حياة الكثيرين من أعيان الأدباء والساسة. وعرف عن ابن الرومي أنه كثير التطير والتوجس فأغرت به هذه الغمزة من الضعف عداته وحساده، وطوعت لهم أنفسهم أن يتخذوا له من هذه الرذيلة مقتلاً يفوقون من خلاله سهام حقدهم وكيدهم، ويغيضوه ويردوه عن مكاسبه، فكانوا إذا أرادوا به كيداً أرسلوا إليه من يتطير باسمه، فظل الرجل ثاوياً في داره لا يبرحها وحوله أولاد جياع وأكباد تحن إلى القدر.
ولقد أفسحت رقعة الحضارة واستقام ميزانها، وارتفعت العلوم وانبسط رواقها، وانفتقت الأذهان إلى غاية مداها، ولكن النفوس بقيت مطوية على ما كانت عليه قبل عهد ابن الرومي وقبل إعصار الجاهلية من التطير وعكسه، والإيمان بهما إيماناً أعمى ليملك على الإنسان نفسه من سائر أقطارها.
ذلك لأن التفاؤل والتشاؤم منزعان من منازع النفس البشرية جبلت عليهما فأصبحا من تلك العاد التي تتعلق بالفطر والطباع، وأمسى أمر اكتناهها مما يعي الإفهام ويتبهم على العقول. وليس يمكن الوصول إلى تجريد النفس من التطير مما ترى فيه نحساً ولو على سبيل التظني والتوهم، إلا إذا يسر النفاذ إلى قداس الخوالج النفسية، وهان الوصول إلى أعمق ما يتحرك به الحس في انطواء الروح، وهذا ولا ريب من بعض المحال، وهيهات أن يبلغه
عقل بحال من الأحوال!
للتفاؤل والتشاؤم دوافع وأسباب قد تنحدر أصلابها إلى ما يقترن بالواعية الباطنة، أو ما وراء الوعي كما يقول علماء النفس، أو ترتد إلى مراجع أخرى لها مقوماتها في علم النفس التجريبي، وهذا ما لا نجرؤ على القول فيه في كثير ولا في قليل لئلا يزل القلم ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
وواقع الأمر أن المرء ما يستطيع مدافعة التطير بوحي من عقله الواعي إلا على مضاضة وتململ وبرم، كذلك الإنسان إذا عراه ما يضحك فلابد له من الأستضحاك، أود دهاه ما يبكي فلا عليه من الاستعبار وإذا هو كبح حبوره كبحاً، أو كبت نشيجه كبتاً فهو معاني الأمرين بغير مشاحة. وكثير من الناس يتطيرون ويسرفون في الطيرة ويحسبون أنهم مانعهم تشاؤمهم من وقوع الشؤم وهو لا يغني عنه شيئاً. وفي التطير ما فيه من الثورة بالقدر والاعتراض غير المجدي على حكمة الخالق، وتشنئي به جل وعلا. ولعل هذا المعنى هم ما قصد إليه سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والتفاؤل هو الجانب الإيجابي الآخر، ولا يذهب في الضرر البالغ مذهب التشاؤم إلا إذا أسرف فيه حد يصيره إلى غاية الهوس أو الركون إلى الحياة الرتيبة الكسلى، أو التسليم بالأمر الواقع تسليماً يؤدي بالمجتمع إلى التداعي والخور، وعلى أي الحالين واجب الإنسان أن يكون قواماً بين التفاؤل والتشاؤم، وعدلاً بينهما ومقسطاً، فلا يسرف في جانب ولا يقتر في جانب، وإلا فالضرر واقع لا محالة.
وليس ما تقدم به الكلام تمهيداً بين يدي بحث علمي فمالنا في هذا المجال يدان، وإنما هو تقدمة لبعض ما يتصل بموضوع التفاؤل والتشاؤم، فلقد عبرت بي حوادث جمة في هذا السياق، عفي الزمان على الكثير منها وبقى في لوحة الذاكرة نزر يسير. وما أنس لا أنس حادثين وقعا لي مع بعض أصدقائي في زمنين متفاوتين، وكان في نفسي منهما أثران قويان، أحدهما إيجابي والآخر يميل إلى الجانب السالب، وإني لمثبتهما فيها يجيء من السطور.
في إحدى غدواتي إلى القاهرة ثويت إلى متجر صديق لي، حائك ثياب، وما اقتدت ببابه حتى أقبل على بعد ديباجه من التحية بألوان من الشكاية والضجر، ذلك لأنه قد جازت به
طائفة من الزمن ويداه صفر من المال، وبضاعته المزجاة ضربتها السوق بالبوار، فتبطلت أنامله عن لفق الثوب ومخيط الدثار.
وطفق يحدثني صاحبي عن مضانكه التي يلقاها في حياته وخصاصة موارده وعجف مكاسبه في أسلوب يستسقطر العبرات الغوالي، حتى لقد ذهب إلى أنه لا يصرف ذياك النهار ويتقدم مساؤه إلا وقد أتى الله على بنيان متجره من القواعد، أو أتى هو على مصاريعه الواحد تلو الآخر وتركه على عروشه خاوياً، وزين لي أن لو قد خرجت عن يد وجدت عليه من وفاضي الخاوي بجزء من عشرة من الدانق لتقبله مغتبطاً عطاء غير مردود ولا ممنون!
وإذ سادر شكايته، وأنا أصيخ غليه السمع متوجساً مستريباً على نكرة واستثقال، هبط علينا فتى أمرد تأخذه العين، تبدو عليه إمارات النعمة، ويبين النبل في أطرافه، ويضوع الطيب من أدرانه وأعطافه، فسلم ثم سلم على غير سابق استعراف، وجيء له بكرسي استوى عليه في استحياء الشباب، ثم أراد أن يبلغ الغاية من مبغاه، فذكر في صوت لا يكاد يبين أنه نازح عن هذه الديار فمتوجه تلقاء باريس في طلب أواسط العلم وأعاليه، وهذا ما قصد من أجله صاحبي الحائك، فهو يروم تجهيز أربعة أثواب على الأنماط الفرنجية، وراح يشرح في إسهاب فني لا يمت إلى علمه، بصلة، فهذا على صفة كيت وكيت، وهذا على هيئة ذيت وذيت، وهذا من الطراز الفلاني، وهذا حسب النموذج العلاني، وهكذا حتى استوفى بيانه الشافي وضرب موعداً لنتخاب طلبته لا يزيد على أسبوعين.
وبعد ما عاين صديقي الحائك جسد الفتى وسمته وقاسه من قدام ومن خلف، ومن يمين ومن شمال، تقدم غليه بالحساب الدقيق عن الأجر الذي يقتضيه لقاء صنعته، وما يستلحقها، وعند هذا الحد رأيت الشاب ينتزع حافظة نقوده من جيبه كلمح البصر، وينقد الحائك جملة من الدنانير خفي علي عديدها، وإن لم يخف علي ما أحدثت في نفس صاحبي من أثر إيجابي ما يقوى على وصفه حجر ولا يراع، فانبسطت غضون وجهه والتمعت حدقاته، وطار به الجذل أي مطار.
وما أن انصرف الشاب حتى نظر إلي صاحبي نظرة جمعت له الزمان كله، وكان أن هم بعناقي وكأن به جنة أو عراه هوس، ولكنه عاد يشرح لي مقدار تفاؤله بمقدمي إذ يسر له
الأمر، وتفرج الكرب، وعلم الله ما كنت سبباً في شيء مما حدث، وإن كان مدعاة لسروري أن أرى صديقاً لي أثيراً عندي يزيح الله همه ويرزقه من حيث لا يحتسب.
ولا يغني اعتذاري عني شيئاً، ولا ارتباطي بموعد استبق هذه الزورة وعسير الفكاك منه، أن أمسي ضيقاً عنده، وكان أن ذبح لي دجاجة ليس كمثلها في الدجاج! وقعت عليها فطويتها وملحقاتها من المرق والإدم، حتى لحقني البشم وعييت عن التنفس والكلام!
ومن يوم هذه الواقعة أضحيت اثيراً عند صديقي الحائك، وزاد في إعزازي عن ذي قبل، فكان يجد في تعقبي كلما أطلت الغياب، ويترصد مظاني كنت حيث كنت، ورأيت هذا منه فأبيت إلا أدالاً عليه، لأعرف منزلتي عنده، فكنت أشيح عنه كلما رأيته، وأفر منه كلما رآني. وإن يشهد مني ذلك سيتضحك كثيراً ويصيح لي: أيها الخبيث المكار! وظلت هذه حالي معه حتى حالت بيني وبينه ظروف المكان، فنزحت الدار وشط المزار، وإني اليوم وإن كنت أستحس برجاء الألم لفراق ذياك الصديق ما برحت أجد في جوانب نفسي أثارة حلوة من بعض هذي الذكريات العذاب.
كان بيني وبين صديقي (فلان) ظل من الصداقة ممدود، فكنا لا نفترق إلا على ميعاد من لقاء، ما يكف أحدنا عن ازديار الآخر مهما تجيء الظروف، وحيث منت كانزاطوت على ذلك الحب البريء جملة من الزمن وهو لا يزداد إلا ينعاً وإيراقاً وازدهاراً، ذلك إلى ما بيني وبينه من المصالح المتبادلة من أخذ وعطاء.
كان صاحبي هذا لا يسافر إلا وأنا له مودع، ولا يؤوب إلا وأنا له مستقبل، وما كان يطوي عني شيئاً مما يخالج في قرارة نفسه من أمر. وهكذا كان شأني معه. فلما قضى الأمر وأريد له أن يبرح المدينة إلى الأقاليم ليقوم على أعماله المتشعبة، لحقني من الحزن على فراقه ما يتقاصر اليراع عن إثباته. بكى يومها وبكيت أنا امضاضة الافتراق، وكان بيننا ميثاق غليظ على التوافي والادكار. وقد بر بقسمه فلا يستدبر الأسبوع حتى يبرد إلى الكتاب والكاتبين، وما كانت كتبه تحوي إلا كل لفظ جميل يدل على معنى جميل يكون له في نفسي وقع جميل.
ولحتني في أحد الأعوام شكاة أزمت معي وتطاولت مدتها حتى اسيقنت أني في غايتها مستأثر بي الله أن حان حيني، ووالله ما آسف على شيء مما حولي فما خلقت من سبد ولا
لبد، ولا مال عندي ولا ولد، ويحضرني اسم هذا الصديق فأستشعر المرارة لفراقه وأكتب إليه رسالة تفيض بمعاني الوجيعة وبرحاء الألم، راجياً أن يذكرني في نفسه فيمن يذكر من الصحب والصدقان. وإنه ليطالع كتابي فتفيض شجونه ويهبط بالإسكندرية ليلاً ثم يوفض إلى بيتي على غير موعد، ويراني في قراشي مسهداً تعرقني الحمى فيبكي ويستعبر، ويذكر أيامنا الحلوة التي طويناها في صداقة لا يزيدها اطراد الزمان إلا استحكاماً.
ويشاء الله العلي القدير أن أبل من مرضي، فنعود إلى ما كنا فيه من تراسل وتزاور بين حين وحين.
كان بعد ذلك أن بعثت إليه أوصيه بأمر عينته له، هو من بعض شأني، فأبطأ علي في الجواب حتى تداخلني الريب. وما هي إلا أيام حتى تلقيت منه كتاباً ينعى إلي فيه والده، وكان البقية الباقية من أصوله، فوقع مني النبأ موقع الصاعقة على الهشيم، ثم حوقلت واسترجعت وأرسلت أعوز به معتذراً عما فرط مني قبل هذا.
وعادت الأمور بيننا إلى مجاريها، وكنت كلما رأيت من صاحبي فتوراً عن ذي قبل صرفت الأمر عن جهته، وعدلت به إلى ما هو الأكرم بي وبه، وغدوت أبعث إليه بالرسائل فلا يجيب، وإذا ما تعجلته في أمر من الأمور، ادكر بعد أمة، وإذ ذاك أدركت أن الرجل تشاءم من رسائلي أو على الصحيح تشاءم بي.
ويشاء القدر أن أرسل إليه كتاباً أوصيه فيه بشخص أثير عندي، وأعلم بعد يوم أو يومين أنه احتسب طفلاً له.
لقد كان المصاب عندي ما يكاد يحتمل، حتى خيل إلي أن الولد ولدي وأن الفجيعة فجيعتي، وبكيت مريراً ثم عزيته عزاء دميلاً، وأنا أدرك أن منزلتي عنده قد بطت وأني صرت حياله لا صديقاً ولا شبه صديق.
وهبط بالإسكندرية في صيف من الأصياف ليقضي أياماً دون أن يبلغني بأوبته، وأستقصي عنه في جميع منازله فلا أدركه، وأراه يوماً ساعة الأصيل في مشرب من المشارب العامة فلا يكاد يبصرني من بعيد حتى يتطاير عن المائدة، ويفر إلى داخل المقهى كأنما كنت غولاً لاهم له إلا افتراس الأناسي!
لقد لحقني الإشفاق على الرجل وتألمت أشد الألم لذهاب صداقة مكينة كنت أعتز بها جد
الاعتزاز وعلمت فيما بعد أن للتشاؤم أثره في حياة الأفراد، وأنه قد يذهب بالصداقة الصدوق وما يستلحقها من مصالح وأعمال.
منصور جاب الله
صور من الحياة
سماوية. . . و. . . أرضية
(كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى)
قرآن كريم
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا أيها الجبار، خفف الوطء فما أنت سوى ثرى يمشي فوق ثرى، وما هذا اللقب الذي تفخر به سوى سيما الذل والضعة اتسمت بها لأنك تعبدت - في غير رجولة - لرجل من الناس، وما هذا المال الذي تعتز به سوى لعنات الفقير تنصب عليك أبداً لأنك استلبته في غير شفقة - من مساك الروح!
يا أيها الجبار، لقد عميت فجذبك الثرى الأرضي إليه لتكون أرضياً في نوازعك ترتدغ في الوحل، ولتطردك روحانية السماء من نورها ومن رحمتها في وقت معاً!
هذا صاحبي رجل فيه الرجولة والإنسانية، وفيه الكرامة والترفع، وفيه الإباء والإيمان؛ فهو قد شب ونما واشد غرسه في ظلام القرية، وترعرع واتد رأيه في كنف الدين. وهو من بيت فيه القناعة والرضا، يسمو عن النوازع الوضيعة بالقناعة ويتنسم روح الجنة في الرضا، لا تشغله حاجات العيش عن معاني المسجد، ولا تصرفه صوارف الحياة عن نور اليقين. والحياة في أعماق القرية لا تندفع إلى الطمع ولا تغري بجشع؛ فاطمأن صاحبي إلى روق ضيق وإيمان واسع، وهدأ إلى بيت خاو وقلب عامر؛ وانطوت الأيام. . .
وأحس صاحبي بدوم الشباب الحار يتدفق في عروقه ويفور، فانطلق إلى فتاة من ذوي قرابته يخطبها لنفسه فما رفض أبوها ولا تمنعت أمها، فإذا هو زوج إلى جانب زوجة رفيقة طيعة. وراح الرجل - كدا ًبه أبداً - يتسلل من الدار كل صباح - لدى الفجر - إلى الجامع يبتغي أن يتجرد ساعة من أرضيته الثقيلة لتحلق روحه الطاهرة - حيناً - في صفاء السماء تطلب الهدوء والسكينة، وتسأل العطف الإلهي الذي يتراءى لها في صورة طفل يملأ الدار مرحاً وبهجة ويفعم القلب فرحاً وسروراً. وانتظر الرجل الهبة الإلهية طويلاً. . . انتظر طويلاً في غير جدوى. ولم يستطع الشيطان أن يتسرب غلى قلب
الرجل الورع فينفث فيه الأسى واليأس، أو يوسوس له بالشر لأنه لم يرزق طفلاً، فصبر. . . صبر والزوجة البائسة تحس خواطر قلب زوجها فتتقلب. . . في صمت. . . على جمرات من الضيق أنها تخشى ثورة الرجل الذي أكرمها عاقراً سبع سنوات عجاف. وبدأت نفسها تتفلسف لسفه الفلاح حين يمسك بالفأس ليجتث أصول الشجرة التي لا تفئ ولا تأتي الأكل، فاضطربت وطار عنها القرار لأنها تضن الحياة النيعمة التي تسعد بها أن تنكفئ فتستحيل جحيماً أو تنفصم عروقها؛ وتضن بهذه الشمس المشرقة في أرجاء الدار أن تغيب في غمرات اليأس، وتضن بهذا الرجل الطيب أن يحور وحشاً يفترس. . . يفترسها هي في غير ذنب ولا جريرة؛ فانضمت على أسى وضيق، ولكنها توجهت بقلبها إلى السماء.
وعلى حين فجأة أثمرت الشجرة التي أقفرت عمراً طويلاً فأضاء وجه الرجل لمقدم الطفلة وأشرق النور في جنبات قلبه، وأضاء وجه المرأة وهدأت جائشتها؛ واستحالت حال الدار فأفعمها البشر وفاض بها السرور. وترقرق الأمل في عصب الرجل ونبضت الهمة في قوته، فانطلق إلى الحقل يحدوه الرجاء ويدفعه الأمل فأصاب مالاً على حين لم يغفل نزعات روحه السماوية.
ودرجت الطفلة وشبت، وإلى جانبها قلب أبيها يفيض بالحنان والرقة، ويده تفيض بالكرم والسخاء؛ وهو في عمله يستنفد وسع الطاقة في جد، ويبذل غاية الجهد في رضا، ومرت الأيام في هدوء رتيب يدفع الصبية غلى الصحة والنشاط إلى أن بلغت سن الشباب والأنوثة.
وفي ذات صباح - وعلى حين غفلة من أهلها - هبت الفتاة لترى الداء يتسرب إلى رقبتها فتتورم، ورأت الأم ورأى الأب، فأصابها الفزع. وطار الأب في - في ذعر - إلى حلاق الصحة. . وحلاق الصحة في القرية رجل فرض نفسه ليكون طبيباً يصف الداء ويسرف على العلاج، فهو يعبث بالمرضى كيف يشاء والحكومة في عمى عن أمره، ويستنزف الصحة والمال، لا يجد رادعاً من نفسه ولا يحس غلظة من قانون.
وجاء حلاق الصحة يداوي علة الفتاة على طريقته التي تتخبط في متاهات الجهل، ولكن الداء تأبى عليه فما أجدت حيلته ولا أصاب رأيه.
وأصاب الأب السهوم والضيق مما تلقى فتاته؛ فهو لا يرى إلا كاسف البال. مقطب الجبين. مضطرب الخاطر.
ونفد صبر الرجل من طول ما عانت ابنته فجلس إلى الحلاق يستوضحه خبر المرض الذي عز دواؤه، ويسأل النصيحة الخاصة بعد أن أجزل له العطاء، فقال الحلاق (إن في القاهرة طبيباً كبيراً هو سعادة فلان يستطيع أن يحتال للأمر بحيلته وبراعته وعلمه، فاذهب إليه علك تجد عنده شفاء ابنتك).
فقال الرجل (وماذا عسى أن يطلب مني أجر هذا العلاج)
قال الحلاق (أظنه لا يقنع بأقل من عشرة جنيهات)
وانطلق الأب من فوره يهيئ الجنيهات التي يطمع أن يشتري بها صحة وحيدته فما أسفر الصبح حتى كان يصحب ابنته في طريقهما إلى القاهرة يريد أن يمسح عن الفتاة قسوة الداء، وأن ينفض عن قلبه لفحه الحيرة.
وطرق الرجل باب صاحب السعادة الطبيب الكبير فانفتح له، ووقف الرجل المسكين أمام الطبيب الثري يشرح له عمر الداء ويتحدث عن لوعته وفزعه، في صوت يبكي بكاء الأب الملتاع يترجى وحيدته وفي خياله أنه يوشك أن يفقدها وهي بسمة الأمل في ظلمات الحياة. ونور القلب في مضلات العمر. وسمع الطبيب خفقات قلب الرجل وهو ينفض ذات نفسه في ذله وانكسار فما اهتز له ولا راق؛ ثم شمخ بأنفه في صلف وكبرياء وهو يقول (هذه العملية لا أرضى فيها بأقل من خمسين جنيهاً)
ودوت الكلمات في أذني الرجل الريفي الساذج فارتعدت لها نفسه ومادت به الأرض من هول ما سمع. وذهب يحدث نفسه (خمسين جنيهاً؟ خمسين جنيهاً كاملة ينالها رجل من الناس أجر ما يضع المشرط ثم يرفعه؟ هذا ظلم وتعسف وجور. . .) ثم صحا الرجل من ذهوله ونظر إلى الطبيب يحدثه في تضرع وخضوع (يا سيدي، إن ابنتي هذه هي وحيدتي التي أترجاها، وهي أمنية العمر وأمل الحياة، ولقد جاءت في جدب السنين وقفرها لتبذر في غراس الأمل والنشاط، ولتدفع عني عنت اليأس والضيق، وأنا رجل فقير ى أملك سوى عشرة جنيهات هي لك كلها) فابتسم الطبيب الكبير في سخرية وهو يقول (كلها؟ كلها؟) وفهم الرجل الطيب من الكلمات ما يبطن الطبيب، فقال (نعم، يا سيدي، كلها) وسخر
الطبيب من عقل الرجل الريفي مرة ومرة ثم سخر مرة أخرى من المبلغ التافه الضئيل الذي يقدمه الرجل، سخر من هذا المبلغ وهو في نظر الفلاح شيء كبير لأنه يسد الخلة شهوراً وشهوراً. . . سخر الطبيب من الجرل ومن المبلغ ثم قال في جد (لا أقل من خمسين جنيهاً) والح الرجل يتوسل في أسلوبه الريفي على حين قد أوصد الطبيب قلبه عن لوهة الأب، ثم اندفع يهر في الرجل هريراً منكراً وهو يقول (نحن هنا لا نتصدق! نحن هنا لا نتصدق أيها الجلف! أخرج، أخرج فقد أضعت وقتي وجهدي سدي) وخرج الرجل من لدن الطبيب العظيم وقد انكسر خاطره وذوى أمله وتحطم قلبه. وخرج وما في مسمعيه سوى صرخات الطبيب العظيم وهو يعوي عواء منكراً (نحن هنا لا نتصدق. . . نحن هنا لا نتصدق)
وعجب الرجل أن يكون في الدنيا رجل لأرضي يتحدى بأرضيته الوضيعة. روحانية السماء السامية. فرفع بصره صوب السماء يدعو (إنك أنت، يا إلهي، الذي تتصدق علينا جميعاً)
وضاقت الأرض في عيني الرجل فلم يجد سعة إلا في المسجد، في المكان الذي يمسح عن نفس المرء خبث الأرض. وجلس هناك يستجدي ندى السماء حين أغلقت في ناظريه أبواب الأرض. جلس وإلى جانبه ابنته تعاني شدة الضنى نهكة المرض ووعثاء السفر فأخذتها سنة من النوم، واندفع هو في تضرعه حتى أرهقته النصب فاستسلم هو أيضاً للكرى.
ورفت عليهما الرحمة الإلهية تهدهد من أشجانهما ومن آلامهما وفزعت الفتاة من أحلامها - بعد لحظة - تتلمس موضع الورم من رقبتها فإذا هو ينفض ما فيه من دم وقيح، وأسرعت إلى أبيها توقظه ليمسح عن الجرح ما سال منه وقد سكن الورم.
يا عجباً! لقد انفتحت أبواب السماء لدعاء الأب المسكين فجاء المشرط الإلهي يبرئ سقم الفتاة التي ضن عليها الطبيب الأرضي بمشرطه إلا أن يرهق الأب بالمال الذي لا يجد إليه سبيلاً. وسمت سماوية الرجل الصالح على أرضية الطبيب الشره تمحقها، فارتدت الفتاة - في لمحة واحدة - تحس الراحة والهدوء والصحة.
فيا لسماوية السماء. . . يا لسماوية السماء!
كامل محمود حبيب
يزيد بن المهلب
للأستاذ حمدي الحسيني
للمهلب بم أبي صفرة أبناء نجباء كرماء شجعان غزاة فاتحون قد أجمع المؤرخون على أنه لم يكن في دولة بني أمية اكرم منهم.
وكان لهم في الشجاعة مواقف مشهورة مشكورة. ذكر آل المهلب في مجلس عبد الرحمن بن الأشعث بسوء فقال حريس بن هلال القريعي: والله ما أعلم أحداً أصون لنفسه عند الرخاء ولا أبذل لها في الشدة منهم.
وقدم عبد الرحمن بن سليم الكلبي على المهلب فرأى بنيه قد ركبوا عن أخرهم فقال:
آنس الله الإسلام بتلاحقكم. أما والله لئن لم تكونوا أسباط بنوه فإنكم لأسباط ملحمة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: آل المهلب جبابرة لا أحب مثلهم. ووفد مالك بن بشير على الحجاج فسأله عن ولد المهلب فقال هم رعاة الباب حتى يأمنوا، وحماة السرح حتى يردوه، قال ايهم أفضل قال ذاك إلى أبيهم. هم كالحلقة المفرغة لا يعلم طرفاها.
أجل لقد أصاب مالك بن بشير في أن أبناء المهلب كالحلقة المفرغة. وفي أن أباهم هو الذي يعرف طرفي الحلقة ويميز بين أقدارهم ويفضل بعضهم على بعض. وها نحن نراه يعلن هذه المعرفة وهذا التفضيل في وصيته لأبنائه يقول لهم والسرور يملأ نفسه: قد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت عليكم حبيباً على الجند حتى يقدم بهم على يزيد. فلا تخالفوا يزيد. فيجيبه المفضل لو لم تقدمه لقدمناه.
فعن يزيد بن المهلب أحدثكم هذه المرة فأجلوا أمامكم شخصيته القوية جلاء ترون فيه ألواناً زاهية ساحرة من العظمة، وأشكالاً جميلة فاتنة من العبقرية، وضروباً نادرة المثال في البطولة والشجاعة.
ولد يزيد بن المهلب في ساحات الحروب فاكتحلت عيناه بغبار المعارك، وتضمخ جسمه بعبير الكر والإقدام، وملأت سمعه قعقعة السلاح والركاب، وصبت في نفسه أخبار الحروب والقتال، وهزت روحه نغمات النصر وأناشيد الظفر فنشأ على ظهور الخيل في ساحات الفر. وبين الأبطال في ميادين النضال.
قاتل يزيد بن المهلب الخوارج مع أبيه فكان له في قتالهم مواقف البطولة أكسبته الثقة
وخلعت عليه المهابة وجلال القدر مما جعل أباه المهلب يعتمد عليه فيوليه القيادة في أدق المواقف وأخطر الساعات، ويوليه الإدارة في أوسع القطار وأغنى الأمصار. وما إن تولى يزيد بن المهلب على خراسان بعد أبيه حتى كتب للحجاج بتوليته عليها حسب وصية المهلب فما وسع الحجاج ولا وسع عبد الملك إلا أن يحترم وصية المهلب في استخلاف يزيد على خراسان، وإلا أن يحترما إرادة يزيد نفسه في الولاية عليها فأقرا يزيد بن المهلب على خراسان فأصبح والياً على هذا القطر الإسلامي العظيم بموقعة العسكري بالنسبة لحركة الفتح الإسلامي؛ وبخراجه الضخم بالنسبة لميزانية الدولة الأموية.
أقام يزيد على ولاية خراسان ثلاث سنين كان خلالها السيد المطلق والحاكم الذي ى ترد له إرادة، ولكنه لم يستسلم للراحة ولم ينغمس في النعيم، بل ظل كرأس الحية النضناض لا يرى مجالاً تظهر فيه البطولة غلا رمى بنفسه فيه فكان البطل الذي لا يغلب؛ ولا يحس بظرف تبرز فيه المكارم إلا برز فيه فكان الكريم الذي لا يجارى والعظيم الذي لا يسق له غبار.
أراد رجال عبد الرحمن بن الأشعث الثأر على الحجاج والدولة الأموية أن يجعلوا خراسان ملجأ لهم وموضعاً لحركاتهم الثورية، فقال لهم عبد الرحمن: على خراسان يزيد بن المهلب وهو شاب شجاع صارم وليس بتارك لكم سلطانه، ولو دخلتموها وجدتموه إليكم سريعاً. ولكنهم دخلوا خراسان فوجدوا يزيد إليهم سريعاً ضربهم في وجوههم ففروا أمامه مقهورين ورجع غانماً ظافراً.
وما كاد يفرغ من الضربات الباطشة التي أوقعها على رؤوس الثوار حتى انقض على قلعة عظيمة من قلاع ملوك الترك تسمى قلعة نيزك ففتحها فكان في فتحها لغزاة المسلمين خير كثير. ولكن هيهات أن يتسع صدر الحجاج لمثل يزيد بن المهلب في عقله وتدبيره وهمته وبطولته وعزته ومنعته وقوته وسلطانه. فقد تنكر له الحجاج فاستدعاه للعراق فأشار عليه بعض خاصته بعدم الذهاب إليه فقال له: نحن ىل بيت بورك لنا في الطاعة وأنا أكره المعصية والخلاف. وذهب إلى الحجاج فقبض عليه وأودعه السجن وأسرف في تعذيبه حتى هيأ الله له أن يخرج من السجن بأعجوبة فذهب إلى سليمان بن عبد الملك وهو في الرملة البيضاء وطلب منه التوسط له عند أخيه الوليد ففعل. وظل يزيد عند سليمان بن
عبد الملك في الرملة حتى آلت الخلافة إليه فولاه على العراق بعد وفاة الحجاج، فكره يزيد أن يظل على هذا القطر المتعب المنهوك فنقاه سليمان إلى خراسان ذلك القطر الحبيب إلى نفسه العزيز عليه وعلى آل المهلب جميعاً. فعاد يزيد إلى خرسان وقضى فيها ثلاث سنوات فتح خلالها جرجان وطبرستان. ولكن كوت سليمان قطع على يزيد طريق الفتح والتقدم فقبض عليه عمر بن عبد العزيز لأنه كان يكره آل المهلب لأنهم جبابرة؛ وأودعه السجن، فظل يزيد بن المهلب في السجن حتى توفي عمر، ففر يزيد خوفاً على حياته من يزيد بن عبد الملك وتوجه إلى البصرة وهناك كشر ليزيد بن عبد الملك عن نابه وخلعه ورام الخلافة لنفسه فبايعه الناس على كتاب الله وسنة رسوله، ولكن يزيد بن عبد الملك أرسل إليه أخاه مسلمة في جيش عظيم فاستقبله يزيد بن المهلب وقاتله قتالاً شديداً، فلما استمر القتل بين الفريقين تفرق أصحاب يزيد فقيل له قد انهزم الناس، فقال مم انهزموا؟ فقيل له أحرق الجسر فلم يلبث أحد، فقال قبحهم الله. بق دخن عليه فطار. وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار وجاء من أخبره أيضاً أن أخاه حبيباً قد قتل، فقال لا خير في العيش بعد حبيب قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة فو الله ما ازددت لها إلى بغضاً. أمضوا قدماً. قال أصحابه إن الرجل قد استقتل. مضى يزيد في قتال أعدائه وصار كلما مر بخيل كشفها. جاءه أحد أصحابه وهو في تلك الساعة الرهيبة والسيف في يده يقطر دماً وقال له: قد ذهب الناس لك أن تنصرف. فقال له يزيد قبح الله رأيك، إلى تقول؟! إذاً الموت أيسر علي من ذلك. فقال له إني أخاف عليك. أما ترى حولك من جبال الحديد. مشيراً إلى جيش مسلمة فقال. أفأنا أباليها جبال الحديد كانت أم جبال النار؟ اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالاً معنا. وأقبل يزيد على مسلمة لا يريد غيره حتى إذا دنا منه عصفت عليه خيول أهل الشام فخر صريعاً
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده
…
إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنه
…
هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
فأثبت في مستنقع الموت رجله
…
وقال لها من تحت أخمصك الحشر
حمل رأس البطل القتيل إلى عدوه ووضع بين يديه؛ فأراد أحدهم أن ينتقص البطل حينذاك، فقال له يزيد بن عبد الملك: مه، إن يزيد بن عبد المهلب طلب جسيماً وركب
عظيماً ومات كريماً.
حمدي الحسيني
رسالة العلم
الضوء لغز الطبيعة
للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
لعل الضوء أهم العوامل التي تزيد معلوماتنا عن العالم الخارجي. فالعوامل الأخرى كالأصوات والروائح وغيرها تدلنا على القليل إذا ما قورنت بالضوء. لأن أغلب معلوماتنا تأتي نتيجة لمشاهداتنا البصرية. فما الذي نعرفه عن الضوء، ذلك الذي لا تعتمد عليه معلوماتنا فحسب، بل تعتمد عليه أيضاً حياتنا وكياننا؟
كان بعض الفلاسفة اليونان الأقدمين يقولون إن الضوء يرحل في خطوط مستقيمة يبعد الخط الواحد عن الآخر. ولهذا كانوا يعزون عجزهم عن رؤية سيئ صغير راقد تحت أنوفهم كإبرة مثلاً إلى أنها موضوعة بين خطين من الخيوط الضوئية. فقد كانوا يجهلون إذ ذاك وجود النقطة العمياء في العين، ويظنون أن أشعة الضوء تصدر من العين، لأنها لو كانت صادرة من الإبرة لشاهدوها دائماً.
ولقد قال بعض مفكري المدرسة الأفلاطونية في ذلك الوقت إن الإبصار عن ذريرات تندفع من الأشياء المضيئة وتصل إلى إنسان العين فتؤدي إلى رؤية. وهذا قول أقرب إلى الصحة من القول السابق. ومع ذلك فلم يقبله الرأي العام إلا في القرن الحادي عشر.
النظرية الذرية:
لقد صرح السير إسحاق نيوتن ب، االضوء ناشئ من تيار من الدقائق الصغيرة اللامتناهية في العدد، تنبعث من الجسم المضيء في كل اتجاه وفي خطوط مستقيمة. وافترض أن هذه الدقائق تستطيع اختراق الأجسام الشفافة، فإذا ما اصطدمت بعدسة العين نتج لأحساس بالرؤية. ولذلك سميت النظرية بنظرية الانبعاث نظرية الضوء الذرية فسرت هذه النظرية الكثير مما يمت للضوء بصلة واعتبرت لأمد طويل نظرية موفقة.
نظرية الموجة:
أجمع العلماء إذن على أن الضوء آت من الأجسام المضيئة، وأصبحوا لا يشكون في أنه يتركب من دقائق صغيرة تندفع من الجسم المضيء.
ثم أقبل القرن التاسع عشر، فافترض العلماء أن الضوء حركة تموجية في الأثير، وسميت هذه النظرية بالنظرية الموجية.
بيد أننا في عصرنا هذا لا نعتقد في وجود الأثير الذي أسرف علماء القرن التاسع عشر في الاعتماد على فرضه. فالوسط الواسع الذي يملأ رحاب الفضاء، ذلك الوسط المهتز المتغلغل في المادة جميعها، ليس له المكان في العالم الذي أوجده آينشتاين، فضلاً عن أننا لسنا في ثقة من معرفتنا الفرق بين الدقيقة والموجة. فنحن نشاهد في معاملنا الحديثة دقائق تفعل فعل الموجات، وموجات تتصرف تصرف الدقائق؛ والضوء يحذو حذو الدقائق والموجات. فهنالك ثمة ظواهر تتصل بالضوء لا يمكن تفسيرها إلا بقاعدة الموجة، وهناك ظواهر أخرى تفسرها النظرية الذرية. والواقع أنه بكشف الأشعة السينية وغيرها من الأشعة الخفية استطاع العلماء تسجيل ظواهر يبدو أنها في حاجة إلى كلتا النظريتين حتى تتطابق الحقائق. وهذا هو الوضع الغريب للضوء في علم الطبيعة اليوم. ولذلك فالضوء أكثر غموضاً في الوقت الحاضر مما كان عليه منذ قرون مضت. وما البحث النظري الحاضر في (آلية الموجة) إلا محاولة من المحاولات للعثور على معادلة تحل هذا الوضع.
ويعتقد العلماء الآن أن الضوء يدين بأصله إلى الكترونات الذرة، ولها شرح مستفاض في نظرية الكم التي تفسر أيضاً امتصاص الضوء، ولا سيما انبعاث الإلكترونات من الأسطح المعدنية المضاءة.
سرعة الضوء:
ومع اختلاف الآراء في ماهية الضوء فإننا نعرف عنه في الوقت الحاضر الشيء الكثير. فنحن نعرف مثلاً أن الضوء يستغرق زمناً لرحيله من مكان إلى مكان. وهذه أغرب ظاهرة في تاريخ العلم. إن مجرد تأمل هذه الحقيقة يبدو كأنه خيال محض. فقد اعتدنا أن نعزو الإبصار أنه مجرد موهبة. فإننا نفتح أعيننا، فإذا ما كان هناك الضوء أبصرنا الأشياء. ويبدو هذا طبيعياً تماماً. فمن ذا الذي يخطر على باله أن الضوء يأخذ وقتاً في قطعه مسافة ما؟
كان أول من فكر في ذلك الفلكي الهولندي أولاوس ريمر في عام 1676. فقد لاحظ لأي أثناء مراقبته المشتري وأقماره الأربعة التي تدور حوله أنه عندما يمر أحد هذه الأقمار
خلف المشتري تأتي لحظة يختفي فيها القمر عنا، وهي اللحظة التي يستغرقها القمر في الاختفاء ثم الظهور مرة أخرى حتى يقطع جزء من رحلته خلف السيار. ولاحظ ريمر أن مدى هذه اللحظة متغير، وأن الزمن يطول عندما تتحرك الأرض مبتعدة عن المشتري، ويقصر عندما تقترب منه، وأن هذا التغيير متعدد نظراً لأن المشتري والأرض يتحركان حول الشمس بسرعتين متغايرتين. فسأل نفسه: لماذا تبدو هذا النجوم الراحلة بسرعة ثابتة كما لو أنها تمكث خلف المشتري مدداً مختلفة؟ وكان هذا السؤال هو الذي ولد في عقل ريمر تلك الفكرة العجيبة في أن الضوء يستغرق زمناً أثناء رحيله. لأنه إذا كان الضوء القادم من أقمار المشتري لا يصلنا في التو واللحظة فذلك مرجعه إلى أن الضوء يقطع وقتاً حتى يدرك الأرض المدبرة عن المشتري أطول من الوقت الذي يقطعه ليقابل الأرض المقبلة على النجم. وقد استطاع ريمر بقياس الفرق بين الأزمنة المختلفة أن يحسب سرعة الضوء، فوجدها أقصى سرعة في الوجود. وقد استطاع علماء العصر الحديث أن يقيسوا هذه السرعة مباشرة وهي 186. 000 ميل في الثانية. إن أسرع رصاصة تبدو وكأنها لا تتحرك إذا ما قورنت سرعتها بسرعة شعاعه ضوئية. ومع ذلك فنحن نعرف ذرات (دقائق) تتحرك بسرعة تقرب من سرعة الضوء. فبعض دقائق الكهرباء المنقذفة من الراديوم (أشعة بيتا) تصل سرعتها إلى أكثر من 99 % من سرعة الضوء مثل هذه الدقائق تستطيع أن تدور حول خط الاستواء سبع مرات في الثانية.
السرعة الحرجة:
وصفوة القول أن سرعة الضوء تعتبر أكبر سرعة موجودة في العالم على الإطلاق. ومن المستحيل على أن جسم مادي أن يتحرك بسرعة أكبر من هذه السرعة، وهذه حقيقة أثبتتها نظرية النسبية لآنشتاين. ولذلك أصبح من المستحيل وجود سرعة لانهائية في عالمنا هذا. فهناك سرعة محدودة معينة لا يمكن لأية سرعة أن تتعداها، وهي سرعة الضوء. ولذلك سميت بالسرعة الحرجة وهذه السرعة تعزز الرأي في أن الضوء لا يتركب من دقائق وبالأخص دقائق مادية، على الرغم من أن بعض الظواهر الأخرى لا تفسرها إلا النظرية التموجية.
عودة إلى الأثير:
ولكن كيفما يكون الضوء فإننا نعرف أنه توجد أشياء لها نفس نظامه، مثل أمواج اللاسلكي والأشعة السينية والإشعاع الحراري والأشعة فوق البنفسجية. كل هذه الظواهر ذات طبيعة تماثل طبيعة الضوء ولو أنها لا تحدث تأثيراً على أعيننا مثلما تحدثه أشعة الضوء.
فإذا اعتبرنا الضوء وموجات في الأثير - ونحن لا نملك إنكار الأثير على الرغم من شكوكنا الحديثة - فإننا نستطيع في سهولة رؤية الفرق بين الضوء وهذه الظواهر الأخرى. فإن أمواجها إما أن تكون أطول أو أقصر من أمواج الضوء ولو أن لها نفس طبيعة أمواج الضوء وترحل بنفس سرعتها.
وليس معنى ذلك أن كل أمواج الضوء ذات طول واحد؛ فبين موجات الأثير التي تؤثر على أعيننا وبين ما نسميه بالضوء توجد موجات ذات أطوال مختلفة. وعلى هذه الحقيقة يتوقف وجود الألوان المختلفة. فأطول موجات الضوء ينتج فينا إحساساً باللون الأحمر، وأقصرها ينتج فينا إحساساً باللون البنفسجي. أما الألوان الأخرى فأمواجها بين هذين الطولين. وما نزعم أنه ضوء أبيض ليس إلا خليطاً من مختلف الألوان. ونستطيع رؤية ذلك إذا مر الضوء الأبيض خلال منشور زجاجي. فالنشور يحلل أطوال الموجات المختلفة فنرى أشرطة ملونة محدودة بين اللونين الأحمر والبنفسجي.
العناصر والضوء:
كان السير إسحاق نيوتن أول من أثبت أن اللون الأبيض كركب من مختلف الألوان. ولقد تقدم تحليل الضوء تقدماً كبيراً، ويعد الآن أهم فرع من فروع الطبيعة. فجميع معلوماتنا عن النظم الطبيعية للنجوم تأتي من علم تحليل الضوء أو ما يسمة بالتحليل الطيفي (السبكتر سكوبي). والحقيقة الرئيسية التي يتألف عليها هذا العلم هو أن كل عنصر عتد إحمائه إلى درجة التوهج يعطي ثمة ضوءاً معيناً. فإذا أحمى عنصر ما ومر ضوءه خلال منشور زجاجي، فإن هذا الضوء ينتشر في أشرطة ملونة، عند فحصها نجد من بينهما خطوطاً لامعة. وقد وجد أن هذه الخطوط تطابق العنصر نفسه، وأنه لا توجد مادتان تعطيان نفس الخطوط. فمن تحليل ضوء أية مادة متوهجة نستطيع معرفة هذه المادة.
وقد طبقت هذه الطريقة التحليلية على الضوء القادم من الشمس فاستطاع العلماء معرفة
المواد التي تتركب منها الشمس فوجد أنها تطابق مواد موجودة بالأرض. وقد كشف العلماء غاز الهليوم على الشمس قبل أن يعثروا عليه في الأرض.
وبنفس الطريقة أمكن معرفة تركيب النجوم وحرارتها وسرعتها.
هذا هو الضوء الذي يساعدنا بالإفضاء لنا بالكثير عن أحاجب الكون، ومع ذلك فلا يزال لغزاً قائماً بذاته لم يستطع الإنسان حله إلى الآن.
محمد فتحي عبد الوهاب
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
في الأدب والحياة:
نشرت لي أخيراً إحدى المجلات الأسبوعية مقالاً تحت عنوان (أنقذوا طلبة الجامعة)، أنحيت فيه اللائمة على شباب الجامعة، طلائع الجيل الجديد، ورمز الحضارة والثقافة العالية بمصر، وكيف جرفتهم حياة القاهرة اللاهية العابثة، وضاعت رسالاتهم النبيلة التي من أجلها هاجروا إلى هذا الوطن الكبير، كما ضاع شبابهم، ووسط هذا العباب الزاخر، والتدهور الأخلاقي الرهيب!
وجمعتني الظروف في إحدى أمسيات الأسبوع الماضي، بزميلة صحفية خريجة الجامعة منذ سنوات، تعمل محررة في إحدى الصحف اليومية المسائية، وما إن استقر بي المقام في هذه الندوة الأدبية التي ضمت الكثير من الصحفيين، حتى بادرتني الزميلة بقولها:(علام تتحاملون على الجامعة وطالباتها وطلبتها؟! إن الجامعة بخير ما دام الجميع يؤمنون برسالتها النبيلة في الحياة) وتطرق الحديث بنا إلى مجلة (الرسالة) والكاتب الناقد الذي يحرر (باب التعقيدات).
وحدثتني الكاتبة الصحفية قائلة: (إننا نفخر بالأستاذ المعداوي ككاتب له الرسالة، وهدف في الحياة يحاول أن يحققه عن طريق النقد والتوجيه. غير أن آراءه ونقده تتسم غالباً بطابع العنف والقسوة، ولذلك فهو في نظري عامل هدم لا عامل بناء. وفرق كبير بين كاتب يحاول أن يضيء شمعة وسط الظلام، وآخر يسعى إلى ذبابة النور التي يتلمسها كل حائر ليطفئها)! ثم استطردت الأديبة تقول: (هذا هو أحد أعداد الرسالة، وهذه هي السطور التي كتبها صاحب التعقيدات تحت عنوان (الفتاة الجامعية والزواج)، تحامل فيها على طالبات الجامعة وقال إنهن لا يذهبن للجامعة للدرس والتحصيل بل لطلب الزواج. . وهذا رأي خطير لم يجترئ كاتب شرقي على أن يجهر به قبل اليوم، ولا تؤمن به أي فتاة جامعية اعتصرت شبابها وحياتها، وسهرت الليالي الطوال في سبيل هدف أسمى مما تصوره ونادى به! وهذا ما أجهر به تجاه الأستاذ المعداوي وتجاه الرأي العام الذي شاهد كفاح الفتاة الجامعية في سبيل العلم لا في سبيل الزواج. . وهأنذى واحدة منهن دخلت الجامعة
وخرجت منها دون أن أتأبط ذراع عريس الأحلام بجانب (الليسانس) كما يدعي الأستاذ المعداوي، بل جاهدت طوال سنوات الدراسة في سبيل العلم والمعرفة والثقافة، العلم الذي ستظل به المرأة أداة هامة في ذلك المجتمع المنحل الفاسد، والمرأة التي هي روحه كما يقول الكاتب الفيلسوف (برناردشو): إذا كان الرجل هو المجتمع فالمرأة روحه!
يظهر أن المرأة التي حطمت تمثال الأمل الجميل بين حنايا قلبه، قلب الأستاذ المعداوي، وأقصته عن محراب شبابها وجنة حبها بالأمس، وألهمته (من الأعماق) و (من وراء الأبد)، يظهر أن هذه المرأة هي التي أثارت كوامن الحقد الدفين بين جوانحه على كل امرأة في الوجود! وما لك تذهب بعيداً وسطوره التي كتبها بأحد أعداد (الرسالة) أيضاً عن الكاتبة الأدبية السيدة أمينة السعيد، تطالعنا الآن يوم أن كتب إليه أحد الأدباء رسالة يستوضحه فيها رأيه عما كتبته الأديبة المصرية وما كتبه هو عن طبيعة (لورد بايرون)، وإنتاجه الذي خلده التاريخ بين (عبقريته وحرمانه). لقد كان رده أبلغ دليل على تجنيه على الحقائق التي حدثنا بها التاريخ الأدبي عن هذا الشاعر العظيم، وما زالت عباراته التي وجهها إلى الكاتبة الأدبية على صفحات (الرسالة) تطالعني في كل وقت، يوم أن كتب بالحرف الواحد:(ولعل في هذه العجالة ما يهدي الأديبة المصرية إلى معالم الطريق)!
بقي شيء بعد ذلك هو أوضح برهان على أنه لا يبغي من وراء هذا النقد إلا التجريح والتشهير بمن يكتب عنهم، وأعني به المعركة الأدبية التي أثارها الأستاذ المعداوي على صفحات (الرسالة)، عن أحد الكتاب الشيوخ الذين سوف يكتب عنهم التاريخ في المستقبل بأحرف من نور. . لقد استخدم الأستاذ معوله في غير ترفق ولا أناة)! ثم اختتمت الصحفية الأديبة حديثها - وأستسمح الكاتب الكبير - اختتمته بهذه الكلمات:(لقد كتب الأستاذ سعيد العريان يوماً عن أديب العربية الرافعي في كتابه (حياة الرافعي)، كتب يقول: لقد كان الرافعي طويل اللسان من أول يوم، وإذا جاز لي أن أستعير منه هذا التعبير لقلت لصاحب التعقيبات: إنك طويل اللسان من أول يوم تخطوه في طريق المجد. . المجد الأدبي العظيم الذي ينتظرك إذا ما حاولت أن تبقي على الشمعة التي تضيء لنا الطريق)!
إلى هنا ينتهي رأي الزميلة الصحفية في الأستاذ المعداوي. . وكان ردي عليها حين اختتمت حديثها معي: (رأيي في الأستاذ المعداوي - ولا أقول هذا عن نفاق أو رياء - أنه
الكاتب الوحيد الذي سيفخر به ميدان النقد الأدبي في الشرق العربي، يوم أن تموت الأنانية والحقد في صدور الأدباء بعضهم لبعض)!
وإننا لننتظر رد الأستاذ المعداوي على ما وجهته إليه الزميلة الأديبة من اتهام، ولكل أديب أن ينظر إلى الآخر من الزاوية التي تتفق وما يحفظه له من صور وأحاسيس، غير أن الحقيقة هي النور الذي يفضح التجني أو غيره!
(كلية الشريعة)
عبد العال حسن إسماعيل
هذه رسالة من أطرف الرسائل التي زخرت بها حقيبة البريد، ومرجع الطرافة فيها إلى هذا السيل المنهمر من فنون الاتهام، وما يقترن به من صراحة محببة أعجب بها ولا أضيق. أما الأديبة الفاضلة التي ينتقل إلى اتهامها الأديب الفاضل فهي محررة في جريدة (الزمان)، أعفي القلم من ذكر اسمها حرصاً على إحساسها المرهف وشعورها الرقيق. وأعفيه مرة أخرى من التعرض لها بشيء من القسوة أو أشياء من العنف، لأن أخلاق الفروسية تحول بين الرجل وبين التهجم على فتاة. . . هذا مبدأ أدين به في حياتي الشخصية والأدبية. ومعذرة للأديبة الفاضلة إذا قلت لها إن حملاتها علي قد بلغتني قبل أن أتلقى هذه الرسالة، ومع ذلك فقد كففت قلمي عملاً بهذا المبدأ واحتراماًلهذا الشعار!
إنها تتهمني بأنني كاتب طويل اللسان. وهذا حق لا أجادل فيه! وأزيد عليه أنني واحد من الذين جبلوا على الصراحة وفطروا على الشجاعة، حتى لتدفعهم صراحتهم وشجاعتهم إلى أن تولوا عن أنفسهم ما يفزع منه غيرهم من الناس، ولولا هذا الذي فطرت عليه وجبلت، لما وافقت الأديبة الفاضلة على أنني كاتب طويل اللسان! أوافقها على هذه المقدمة وأختلف معها حول ما انتهت إليه من نتيجة، محورها أنني عامل هدم في الحياة الأدبية ولست عامل بناء. . هنا شيء من الظلم للحقيقة والمجافاة للواقع، لأنني ما استخدمت طول لساني في هدم قيمة من القيم إلا إذا كانت بالية، ومتداعية، وينبغي أن تزول، أعني أنني لا أهدم إلا ونصب عيني هدف واحد، هو أن أقيم البناء الموطد الأركان على ركام الأنقاض!
أقول هذا ولا أريد أن أذكر أسماء من هاجمت من الأدباء. . . حسبي أنني آمنت ومازلت
أومن، بأن الحياة الأدبية في مصر محتاجة إلى حركة تطهير يقوم بها لسان طويل! ذلك لأن الأدب هنا، في هذا البلد، أشبه برجل كريم النفس سمح الخلق مضياف، يفتح بابه لكل طارق، ويهيئ مائدته لكل عابر، ولو اندس بين جموع الطارقين والعابرين من هم خلاصة الأدعياء والمتطفلين! هذا الرجل، الذي هو الأدب، في حاجة إلى صديق طويل اللسان، ينهر تلك الجموع المتطفلة، الدخيلة، التي استغلت سماحة رب البيت ونبل محتده وكرم ضيافته، فاندفعت من أبوابه وجلست إلى موائده، في غير ما خجل ولا حياء. . . هذا الصديق الطويل اللسان هو كاتب هذه السطور، ولا ضير عليه أبداً إذا ما أنقذ الرجل الكريم المضياف من هؤلاء الضيوف الثقلاء، وألهب ظهورهم بالسياط!
ولتصدقني الأديبة الفاضلة أنني أضيق بأضواء الشموع، هذه الأضواء الضئيلة، الهزيلة، التي لا تستطيع أن ترد عادية الظلام. . وإذا كنت قد دأبت على إطفائها فلأنني أوثر أن أحدق في أضواء المصابيح الضخمة، المتوهجة، التي يغمر شعاعها كل حنية وكل ركن وكل تعريجة في منعطف الطريق. فلتبق هذه ولتذهب تلك، ما دمنا نريد للنور أن يقوى على مواجهة العواصف والأعاصير! هدم للقيم البالية المتداعية يعقبه بناء على ركام الأنقاض، وإخماد للأضواء الضئيلة الهزيلة يشع على أثره كل نور وهاج. . . أهذا هو ما ألام عليه وتوجه إلى من أجله فنون الاتهام؟ شيئاً من العدل يا سيدتي أو شيئاً من الإنصاف!
بعد هذا أقول للأديبة الفاضلة فيما يختص برأيي حول فتياتنا الجامعيات، إن هذا الرأي القديم لي قد أقمته على أسس من الدراسة النفسية والملاحظة النظرية طيلة أعوام أربعة قضيتها في الجامعة. فأنا إذن لا أنقل عن أفواه الناس وإنما أنقل عن رؤية العين حين تنتهي من جولتها في حدود الواقع المحس، وعن حكم العقل حين يفرغ من رحلته في نطاق الحاضر المشهود. . . وإذا كانت هي قد التحقت بالجامعة ابتغاء لهذا الغرض النبيل، وهو أن تتزود بسلاح العلم وتنهل من منابع المعرفة، فمن الصعب أن نستدل بالمثل الفرد على غيره من الأمثال، حين يكون هدفنا وضع قاعدة عامة لظاهرة من الظواهر أو لمشكلة من المشكلات. إننا لا ننظر إلى حكم الأقلية في مثل هذا المجال، ولكننا ننظر إلى حكم الكثرة الغالبة ليستقيم منطق التفسير والتبرير!
ولست والله حين أجهر بهذا الرأي حاقداً على المرأة أو منكراً لمكانتها الاجتماعية، متى وجدت فيها النموذج الكامل والمثل الأعلى في كل ناحية من نواحي الحياة. . . ولقد وجدت هذا المثل وذلك النموذج في يوم من الأيام، وجدته في تلك التي ألهمتني بالأمس قصة (من الأعماق) ولم تلهمني (من وراء الأبد)، تلك التي ملأت نفسي تقديراً لرسالة المرأة حين تجمع إلى اتساع الأفق سمو الخلق وجمال الروح. . . تلك التي تركت ظلها على الأرض بعد أن رحلت إلى السماء، وآثرت على ضجيج الحياة سكون الفناء والعدم!!
هذا هو ردي على اتهام الأديبة الفاضلة، ولها بعد ذلك أن تكون منصة أو لا تكون. . . حسبي أن أقول ما أعتقد، لا يدفعني إليه رضا الراضين ولا يصرفني عنه سخط الساخطين، وإنما هي حرية الرأي وجرأة القلم في عصر طبع على الرق الأدبي، وطغت عليه أمواج الخوف والكذب والملق والرياء. . . وللأديب الفاضل صاحب هذه الرسالة أخلص الشكر على تحيته المعطرة بأرج الوفاء.
مقال عن ندواتنا الأدبية:
في عدد فبراير من مجلة (الفصول) الشهرية قرأت مقالاً طريفاً عن ندواتنا الأدبية، كتبه صديقنا الأستاذ نعمان عاشور بأسلوب قصد به إلى المرح والدعابة أكثر مما قصد به إلى الجد والوقار.
إن خفة الظل وعذوبة الروح صفتان أصيلتان من صفات الصديق الأديب، ولكنني كنت أوثر ألا تطغي هاتان الصفتان على الموضوع الذي كتب فيه، لأنه من الموضوعات الجديرة بأن يبتعد في كتابتها عن مثل هذا الطابع الذي أشرت إليه، لأن الحديث عن الندوات الأدبية والتعرض لما يدور فيها من ألوان الجدل والمناقشة، جزء مهم من تاريخ الأدب حين يكون هذا التاريخ تسجيلاً صادقاً متزناً لشتى التيارات الفكرية والفنية!
لقد بدأ الأستاذ مقاله بالحديث عن ندوة (الجيزة)، حيث أرسل عدسته اللاقطة لتجوب المكان وتتصفح الوجوه وتعرض الأفكار، ولكنه كما قلت لك يقدم لقطات هدفها الدعابة حين تنتزع المشهد من أعماق الخيال. وحسبه أن يستغل اللقطة البصرية استغلالاً طريفاً وموفقاً في رسم عدد من الصور الضاحكة حيث يختار لها الأطر الملائمة التي يصنعها وفق هواه، أو وفق طبيعة الموضوع كما اراد له أن يكون! أما ندوة الجيزة التي تحدث عنها الأستاذ
نعمان، فهي الندوة التي يؤثرها بحبه كاتب هذه السطور، ومن روادها الأساتذة الدكاترة: عبد الحميد يونس المدرس بجامعة فؤاد، ومحمد كامل حسين الأستاذ بجامعة فؤاد أيضاً، وعبد القادر القط المدرس بجامعة إبراهيم، ومحمد القصاص المدرس بنفس الجامعة. ثم الأساتذة الشعراء: محمود حسن إسماعيل وإبراهيم الوائلي ثم الأساتذة الأدباء: أنور فتح الله، وزكريا الحجاوي، ومحمود محمد شعبان، وكمال منصور. ثم يهبط عليها من حين إلى حين بعض الزائرين من أمثال الأساتذة: السيد أحمد صقر، وعباس خضر، وحمود محمد زيتون، ونعمان عاشور؛ وشاكر خصباك.
هؤلاء هم رواد الندوة وزوارها، وهذه هي بعض الصور التي رسمها لبعضهم الأستاذ نعمان عاشور:(فهناك في نهاية المكان تعود أن يجلس الشاعر العراقي إبراهيم الوائلي منصرفاً إلى كتابة رسالته للجامعة، والسيجارة لا تفارق شفتيه. حتى إذا جاءت الساعة العاشرة بدأ يبحث عن مستمع لآخر أشعاره!. . ثم ترى الدكتور عبد القادر القط يجذب أنفاساً من الشيشة في ملال، ويحاور الأستاذ أنور المعداوي ناقد (الرسالة) حول ضرورة العناية بالجانب الفني في كل إنتاج يستهدف غاية اجتماعية، متهماً أنصار الأدب الواقعي بأن إنتاجهم فارغ ومجرد ضرب من نشرات الدعاية والأستاذ المعداوي لا يطيق الإنصات، وإنما هو يدفع بنظريته عن (الأداء النفسي) ويضرب على صدور الحاضرين بمرفقيه ليفسح أمام فكرته، وكأنه لا يكتفي بتطبيق الأداء النفسي على ما يكتبونه فقط! والذي تصيبه معظم لكمات المعداوي هو الدكتور محمد كامل حسين لأنه يجلس عادة وسط المتناقشين محاولاً الحديث في هدوء، ولكن هل يحظى بالحديث الهادئ أمام هذا الأداء النفسي المعداوي؟!. . وعن بعد يجلس الشاعر محمود حسن إسماعيل. كيف يريدونه بعدكل هذا المجد أن يشتغل مدرساً في مدرسة ابتدائية، ومع أنه صاحب (أغاني الكوخ)؟ إنه لا تهمة الدرجة ولا الوظيفة قدر ما يهمه أن يكون عضواً في اللجنة التي تختار ما يقرر من شعر على تلاميذ المدارس!. . ومن الطرف الآخر تلمح زكريا الحجاوي وهو يعلق على تيلد الجالسين من لاعبي الطاولة وتبلدهم. فإذا أخطأ واحد وتكلم في الفن والأدب انفجر الحجاوي في هدير صاخب، يحدثك عن الأدب المصنوع والأدب الذاتي الموضوعي، والصلة بين الكون والفنان وأثر ذلك كله في موسيقى سيد درويش الحاصل
على دكتوراه من الله!. . ثم أنت ترى الأستاذ أنور فتح الله في يده اليسرى مبسم الشيشة، وفي اليمنى قلم وأمامه مسرحية فرنسية يترجمها، وكلما ترجم صفحة تلفت يبحث عن مستمع وإذا لم يكن يترجم فهو ينقد، باعتباره من خريجي معهد النقد، أي ناقد مؤهل رسمياً!. . . وبجواره الأستاذ محمود محمد شعبان - غير بابا شارو كما يقدم لك نفسه - يحاوره في أدباء الصحافة اليومية وما ينتجون من أدب فارغ. وشعبان أديب متخصص في كسب جوائز وزارة المعارف العمومية، وقد حصل في سنة واحدة على ثلاث جوائز!
وفجأة يهبط على الجالسين عزت حماد منصور، وهو أديب ساخط متهكم: ما فائدة الأدب وما فائدة النقد؟ ثم إن واحداً لا يقرأ إنتاجهم فليس في البلد قراء، لماذا يتعبون أنفسهم ويرهقون شبابهم؟! أليس الأجدى لهم الانصراف إلى حياتهم الخاصة ينظمونها؟! فإذا سألته: لماذا ظل يكتب هو نفسه؟ أجابك صائحاً: مرض!. . . ثم تخرج من القهوة لا يخالجك شك في أن ما يقوله إن هو إلا تنفيس عن الركود الذي يشيع في حياتنا الاجتماعية ذاتها. ولو حاولت أن تقنعه بذلك لأصر على وصف أدباء الندوة بأنهم جماعة من الفدائيين)!
هذه هي (عينة) من كلمات صديقنا الأستاذ نعمان، أما صديقنا الآخر الأستاذ عزت فو أديب ساخط متهكم حقاً، يتناول الحياة والأحياء بأسلوبه الساخر اللاذع، ثم ى يعفي نفسه من مثل هذه السخرية الساخطة في كثير من الأحيان، حتى لينتزع الضحكة الصاخبة من أكثر الوجوه قدرة على التجهم والعبوس فهو مثلاً إذا شكا سوء حظه في الحياة قال لك:(صدقني أنه لو قدر لي أن أكون بائع طرابيش، لتعمد الله أن يخلق أناساً بغير رؤوس)!!. . وحدث أن هبط على الندوة ذات مساء فأسر إليه أحد الجالسين في خبث، أن الأستاذ عاشور قد شتمه في مقاله عن (الندوات الأدبية)، وحين علم صاحبنا أن المقال قد نشر في مجلة (الفصول) تحول إلى كاتب المقال ليقول له:(أنا متشكر يا أستاذ نعمان. . لأنك شتمتني في سرك)!!
والتفت إلي الأستاذ نعمان يسألني عن معنى النكتة. . ثم أغرق في الضحك وأغرق معه الحاضرون، حين قالت له: إن معنى النكتة أنك شتمته في مجلة لا يقرأها أحد!!
حول شاعر من السودان:
أخرجت إلى حيز الوجود مذهب (الأداء النفسي) الذي تجاوبت أصداؤه في أرجاء العالم العربي، وربط بين كثير من أدباء العروبة برباط الحق والخير والجمال. . . وقد عرفنا الأداء النفسي أصدق محك نتناول به القيم الفنية والأدبية، فإما أن نخرج من لمسات المبضع تقطر روعة وقوة، وإما أن تخرج وهي كومة من الهشيم تذروها الرياح!
ولا أثقل عليك يا سيدي فإعجابي بك لا تصوره هذه الكلمات واسمح لي أن أخاطبك في الأمر الذي كتبت إليك من أجله. . . التيجاني يوسف بسير شاعر سوداني لم يترك من الآثار الأدبية سوى ديوانه (إشراقة) وإني لألتمس من الأستاذ الناقد أن يضعه على مشرحة النقد ويسلط عليه أضواء قلمه، لتفهمه كما يجب أن يفهم. وأخيراً تحياتي وإكباري.
(أم درمان ـ المعهد العلمي)
وداعة عكود
أود أن أشكر للأديب الفاضل كريم تقديره، أما عن رغبته في أن أكتب عن شاعر السودان الراحل فيؤسفني أن ليس بين يدي شيء من شعره، كما يؤسفني مرة أخرى أن أسمع عنه من قبل دون أن أقرأ له. . . إنني لن أتأخر عن النظر في ديوان هذا الشاعر إذا ما تفضل أي قارئ من قراء (الرسالة) وبعث إلي به، ولن أتأخر عن الكتابة عنه متى وجدت فيه تلك الومضات المنشودة من ذلك الأداء الذي دعوت إليه.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
من هم العرب المقصرون؟:
أقام الأستاذ أسعد داغر السكرتير العام لجمعية الوحدة العربية - حفلة شاي لتكريم سمو الأمير فيصل آل سعود، في نادي الجمعية بالزمالك يوم الأربعاء الماضي. وبعد تناول الشاي ألقى الأستاذ داغر كلمة عبر فيها عن ألمه لما صارت إليه حرب فلسطين ولسوء الحال في الموقف العربي الحاضر الذي لا يراه خيراً مما كان، نظراً إلى الخطر المتوقع من جانب الصهيونيين المضطرين إلى توسيع رقعة إسرائيل حتى تتسع اللاجئين إليها من يهود العالم.
وقد عزي الأستاذ ما منينا به من الهزيمة إلى ضعف الوطنية الذي قعد بنا البذل والتضحية، وقال بضرورة العناية بتكوين المواطن الحقيقي، ليكون لبنة قوية في بناء الأمة العربية. وقد أعقبه الأستاذ توفيق دياب بك بكلمة حماسية فياضة، أيد فيها الأستاذ داغر من حيث تكوين المواطن العربي الصالح. ثم تحث سمو الأمير فيصل حديثاً هادئ النبرات قوي المعاني، صرح فيه بتقصير العرب وتهاونهم، مشيراً إلى إصبع الاستعمار في ذلك إذ قال سموه: لي رجاء واحد هو أن نتناسى المشاحنات التي ورثنا الاستعمار إياها وغرس بذورها للقضاء على وحدتنا، هذه الحزازات وهي السم الذي دسه العدو في دمائنا وأفكارنا.
وهكذا أجمع خطباء الحفلة على أننا جميعاً مقصرون. وأنا أريد أن أفهم المقصود من الضمير (أنا) في (أننا) وهل هو يشمل العرب كلهم شعوباً وحكومات. . . ثم أسأل كيف قصرت الشعوب؟ وأوجه السؤال إلى الأستاذ داغر الذي رمى المواطنين العرب عامة بضعف الوطنية، وإن كنت ألتمس له العذر من حيث مراعاة المقام الذي تحضره شخصية رسمية كبيرة.
إن الأمر لا يرجع إلى تاريخ بعيد، فقد رأينا إبان الحملة العربية المصرية على الصهيونيين - رأينا المشاعر تتوقد والهمم تتوثب، استبسل الجيش جنوده وضباطه، وهرعت وفود المتطوعين إلى الجهاد، وجاد الكثيرين بأموالهم. ولقد استشرى الحماس في جموع الشعب بالقاهرة إلى حد التهور والاعتداد المخطئ. وكان يصل غلينا صدى مشاعر
الغضب الذي كان يبديه إخواننا في كل بلد عربي يلتوي ساسته فيتقاعس جيشه.
ولم يفسد الأمر كله إلا رجال الحكم والسياسة أو الذي جرى في دمائهم السم المدسوس من قبل الاستعمار. إن التبعة كلها تقع على الحكومات ومن ورائها الاستعمار. وإذا كان اليهود أخفقوا في تسميم الآبار فإن المستعمرين نجحوا في إطلاق الجراثيم على بعض المسئولين، والجراثيم أنواع لا أرى حاجة إلا تفصيلها.
حتى الجامعة مظلومة. . . فإني لا أذهب مع المغالين في لومها إذ أرى أن كل اضطراب فيها وكل اختلاف في لجانها إنما هو انعكاس لأغراض واتجاهات الحكومات المختلفة، ولن تكون الأمانة العامة مسئولة حقاً حتى يكون لها جيش وسلطان.
أما المواطنون العرب فإنهم لم يقصروا، وإن لوحظ فيهم ضعف فإنما هو ضعف مقوماتهم الاقتصادية والاجتماعية وسخطهم على المغترين بزخرف الحياة الدنيا، والتكوين الحقيقي لهؤلاء المواطنين إنما هو بإزالة هذه الأسباب قبل كل شيء.
وأوجه كلمة صغيرة إلى الأستاذ أسعد داغر باعتباره السكرتير العام لجمعية الوحدة العربية، وإلى غيره من رجال العروبة (غير الرسميين) تلك الكلمة هي الاتجاه - في الدعوة إلى البعث العربي - إلى المواطنين من شعوب العرب لتكوين رأي عربي عام منظم يرفع صوته ويعمل ما في وسعه لخير العرب، بل أقول: لتوجيه الحكومات.
أولئك المواطنون وذلك الرأي العام المنشود، وهم الذين نعنيهم ونحس بوجودهم حينما نتفاءل وحينما تداعبنا الآمال في مستقبل الأمة العربية.
هل نحن مثقفون بالثقافة الإسلامية؟
التقيت أخيراً بشخصية كبيرة من الباكستان في مجتمع بالقاهرة، ودار بيننا حديث شاقني فيه أن الرجل ينظر إلينا - معشر المصريين - وإلى بعض شؤوننا التي لا نلتفت إلى ما فيها من عيوب للفتنا إياها، نظرة المستشرف المبرأ من هذه الألفة الساترة. . . وقد ناقشته في بعض الأمور، ولم يسعني إلا أن أسلم بأكثر ملاحظاته، مع إعجابي بروح الأخوة الإسلامية التي استشعرتها في حديث ونبراته ونظراته الفياضة بالإيمان العميق.
قال: نحن نسمع عن مصر باعتبارها زعيمة الدول العربية والإسلامية ومركز ثقافة العرب والإسلام، فنشتاق إلى أن نقتبس منها ونغترف، ولكنا نجيء إليها فنجد فيها كل شيء
أوربياً، فالحالة الاجتماعية كما تعرف، وصحفكم ومجلاتكم مملوءة بما تعلم، وقد حضرت بعض الحفلات الكبيرة التي تضم كبراء ووزراء وأجانب فهالني أن أرى مثلاً في إحداها راقصة مصرية - وقد عرفت أنها مسلمة! - ترقص شبه عارية ثم قل لي: أين الثقافة الإسلامية والعربية عندكم؟
رحت أحدثه عن مظاهر ثقافتنا العربية الإسلامية مشيراً إلى أن إخواننا الباكستانيين لا يطلعون عليها لعدم إجادتهم اللغة العربية. ولكن الرجل بادرني بقوله: أنت تقصد الكتب! أنا أعني اثر هذه الثقافة في النفوس وطابعها في الحياة. . .
قلت: لا أنكر أننا نأخذ كثيراً من أوربا في حياتنا وثقافتنا، وهذا شيء طبيعي، فاحتكاك الحضارات وتفاعلها مسألة مفروغ منها.
قال: هذا حسن لو أنكم تأخذون ما يفيد، ولكني أراكم تأخذون كل شيء وأكثره سيئ لا يتفق مع روح الإسلام، ونحن في الباكستان لم يستطع الأجانب أن يحولونا عن روح الدين الحقيقية، ولم نأخذ عنهم إلا ما يفيد من علومهم وحضارتهم.
قلت: إنكم تحكمون بناء على اختلاطكم بالبيئات التي يسمونها طبقات راقية.
قال: كلا، لقد جلت في مختلف أحياء الشعب وصليت في مسجد الحسين والسيدة زينب وغيرهما. ومما لاحظته أن الطبقات الفقيرة لا تستنكر ما يأتيه الأغنياء من المفاسد، وإنما تنظر إلى هذه المفاسد نظرة المحروم الذي
لو وجد المال لما تردد. . . ويعنيني هنا الواعز الإسلامي الذي يتحكم في الأعماق والتصرفات والذي يؤسفني أني لم أعثر عليه.
وسكت الرجل المسلم ثم قال: أحدثك بشيء حدث، لا يخلو من نكتة لطيفة، فقد اتجهت الرغبة الباكستانية إلى الانتفاع ببعض النشاط المصري السينمائي، فأرسل بعض الأفلام المصرية لتعرض هناك. فلما عرضت على الرقيب قبل عرضها أبدى دهشته قائلاً: أهذه أفلام أنتجت في بلاد مسلمة. .؟ أنا لا أصدق أن هذه أفلام مصرية! إنها من صنع اليهود يقصدون بها الإساءة إلى سمعة مصر!!
تأبين حافظ عوض بك:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بتأبين المغفور له الأستاذ أحمد حافظ عوض بك يوم
الأربعاء الماضي بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية. وقد ألقى الأستاذ عباس محمود العقاد كلمة التأبين التي استغرقت نحو نصف ساعة، أتى فيها بدارسة دقيقة وافية للفقيد. وخاصة ما يتصل بأدبه وثقافته ومكانته في جيله. بدأ الأستاذ بقوله:
يتفق للكثير م النابغين والنابهين أن تختار لهم الحوادث غير ما يختارون، وأن يندموا على الواقع ثم تنجلي سيرتهم كلها عن الحقيقة التي احتجبت عنهم في مطلع الحياة: وهي أن الخيرة في الواقع الذي لم يطلبوه ولم يتوقعوه. رأينا مثلاً لهذا في حياة فقيد كريم نعيناه قبل نحو سنتين، وهو الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، ونرى اليوم مثلاً آخر له في فقيد اليوم الأستاذ أحمد حافظ عوض بك رحمهما الله.
كلاهما يقصد إلى الاشتغال بالتعليم والصحافة في نشأته الأولى وكلاهما قد انتهت به الخيرة الواقع إلى الاشتغال بالتعليم ثم بالكتابة فكان عالم الكتابة علماً من الأعلام. ثم قال: فقد عاش حافظ بسليقة المعلم والكاتب في كل يوم من أيامه، وكتب ليعلم في كثير من رسائله ومقالاته، بل لعله يتحدث ليعلم ويعتز بالخبرة التي تسوغ له التعليم وتشفع له فيه، فأطلق عليه أصحابه ومؤيدوه وزملائه في الصحافة اسم (المعلم).
وتحدث الأستاذ العقاد عن أسلوب الفقيد في الكتابة والموضوعات التي يتناولها، فقال إن كتابته الصحفية كانت تتسع للسياسة وغيرها، ومنها ما هو بعيد عن الوضوعات التي تعود للصحفيون أن يطرقوها في الصحافة اليومية. وكان أسلوبه في السياسة أطبع ما يكون حين يتخذ له موضوعاً من موضوعات النقد التهكمي والتصوير الفكاهي، وهي طريقة كان رحمه الله يحسنها ولا يتعدى بها أن يضحك القراء من المنقود دون أن يجرح أو يؤذيه، أما أسلوبه في الأدب فقد كان أطبع ما يكون حيت يصف شعور الحنان والعاطفة الشجية. وقد امتاز أسلوب الفقيد في الموضوعات جميعاً بالصفاء والسلامة، وشفت كتاباته عن مصادر ثقافته في اللغات الأوربية واللغة العربية.
وتحدث الأستاذ العقاد عن مصادر ثقافة الفقيد الغربية والعربية واستدل على ثقافته العربية ببعض ما كتبه في رسائله إلى ولده، ومن ذلك قوله في بيان الطريقة التي جرت عليها في دراسة دواوين الشعراء: - كنت أعد لكل شاعر دفتراً صغيراً وأنقطع ساعة أو ساعتين لتصفح ديوانه فأقرأ القصيدة مرة واحدة وأتصور عند تلاوة كل البيت من أبياتها ما إذا كان
من الممكن أن أحتاج إلى هذا البيت أو ذلك المصراع للاستشهاد به في موضوع إنشائي أو خطاب رقيق لأديب من أصدقائي أو في واقعة حال أ ، في إشارة إلى شيء مما كنت أتخيله في نفسي فإن وجدت في البيت أو في أحد مصراعيه أو في تعبير منه ما أظنه ينفعني قيدته في دفتري) وعلق الأستاذ العقاد على هذا بقوله: والذين عرفوا الفقيد يعرفون أنه كان في أحاديثه كثير الاستشهاد بالأبيات والمقطوعات في مناسباتها، وكان يقدم أحاديثه أحياناً بالبيت والأبيات حيث تقع من موقعها وتنبئ بالحديث الذي يتلوها، وأذكر أنني تيقظت ذات ليلة على دق التليفون فإذا بصوت حافظ بك يناديني:
يا نائم الليل مسروراً بأوله
…
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
وكان ذلك ليلة أن صدر الأمر بتعطيل الصحيفة التي كنا نكتب فيها، فعلمت جلية الخبر من المصراع الأول قبل تمام البيت وختم الأستاذ العقاد هذه الدراسة الموجزة الشاملة بقوله: وأوجز ما يقال في تقدير الزميل الفقيد وتكريم ذكراه، أنه رحمة الله عليه كان في طليعة الرواد المصريين لفن القصة الاجتماعية، وكان له نصيب مشطور في القيام على عهد الخضرمة بين مرحلة التقليد ومرحلة التجديد، وسهم مذكور في التعريف بتريخ هذه الأمة ردحاً من الزمن ينبه القراء إلى تواريخها في جميع الأدوار، وأنه زود العربية بذخيرة من المفردات لا غنى عنها للألسنة والأقلام.
عباس خضر
البريد الأدبي
الدخان في الشعر
غريب أن لا يتناول شعراؤنا (شرب الدخان) في شعرهم وقد بلغ من سرعة الانتشار هذا المبلغ العظيم فما وصفوا الدخان وهو يتصاعد من لفافته كسحاب الصيف، ولا صوروه وهو يخرج من فم شاربه كزفرة العاشق أو نفثا المصدور، ولا دعوا الناس إلى الإقبال عليه بمدحهم لمنافعه وإطرائهم فوائده، ولا صرفوهم عنه بسردهم عيوبه ومضاره، على حين أنهم ما برحوا ينظمون في الخمر واصفين ومادحين وهاجين، وهم يعلمون أن السابقين قد ابتغوا المدى في ذلك كله.
فإلى هذا الموضوع الخطير أدعو رجال الشعر وأرباب القريض
الإسكندرية
فتحي بسيوني دعبس
تاريخ البرعي الشاعر
السلام عليكم وبعد، جاء في العدد 916 في ص110 عند كلام الأستاذ حامد الجرجاوي على نشأة البديعيات أن العارف بالله عبد الرحيم البرعي توفي سنة 480 - وقد ذكر السيد زبلرة في ملحقه على البدر الطالع أن وفاته سنة 803 - والفرق يزيد على ثلاثة قرون - وذكر السيد الزبيدي في شرح القاموس في مادة (برع) سيدي عبد الرحيم ولكنه لم يذكر سنة وفاته بل قال إنه من المتأخرين.
فهل يتفضل الأستاذ حامد الجرجاوي بأن يخبرنا عن المصدر الذي رأى أن وفاة البرعي كانت سنة 480، فإن البرعي على شهرته تكاد سنة وفاته تكون في حكم المجهول فإذا جلاها لنا الأستاذ الجرجاوي فإنه يحسن صنعاً.
عبد السلام البحار
الرسالة: يظهر أن هناك خطأ في نقل الأرقام، ولعل صوابها
804
أخطاء شائعة:
جاء في (مغنى اللبيب) للعلامة (ابن هشام) أن (قد) لا تدخل على الفعل المنفي، ولم يذكر خلافاً في ذلك. ولكن (ابن مالك) قال في ألفيته في آخر بيت من أبيات باب (الممنوع من الصرف)
ولاضطرار أو تناسب صرف
…
ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف
فأدخل (قد) على الفعل المنفي.
فهل يفهم من ذلك أن (ابن مالك) لا يرى مانعاً من دخول (قد) على الفعل المنفي؟ أم أنه أخطأ فقال هذا من غير قصد؟. الظاهر الثاني.
وجاء في مقالة للسيدة (أمينة السعيد) تحت عنوان (ذكريات حواء في الجامعة): (. . . أحب الحياة وأكره أن أخفي عن الناس حبي لها طالما كان ضميري مستريحاً) إذ أن (طالما) التي معناها (كثيراً ما) لا يمكن أن يكون لها معنى هنا.
قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
…
فطالما استعبد الإنسان إحسان
وجاء في مقالة بمجلة (الحديث) للأستاذ (محمد شعبان) تحت عنوان (نظرة في كتاب أغاني القبة)(أجمع العلماء على استحسان تكرار حرف النداء مع التوابع المستقلة سيما إذا تعددت.)
والصواب (ولا سيما إذا تعددت) فقد جاء في (مغنى اللبيب) عند الكلام على (لا سيما): (وتشديد يائه ودخول (لا) عليه ودخول (الواو) على (لا) واجب. قال ثعلب: من استعمله على خلاف ما جاء في قوله (ولا سيما يوم بدارة جلجل) فهو مخطئ. انتهى)
(وجاء في المصباح المنير): (ولا تستعمل إلا مع الجحد، ونص عليه أبو جعفر أحمد بن محمد النحوي في شرح المعلقات ولفظه: ولا يجوز أن تقول جاءني القوم سيما زيد حتى تأتي بلا لأنه كالاستثناء. وقال ابن يعيش أيضاً: ولا يستثنى بسيما إلا ومعها جحد. وفي البارع مثل ذلك. . . الخ)
أحمد مختار عمر
إلى أستاذنا الزيات:
كنت ولا أزال من المعجبين بأسلوبك الرائع الأخاذ، وذلك الأسلوب الساحر ذو الجرس الفاتن البليغ، الذي يملك على قرائك زمام تفكيرهم فينقلهم إلى عوالم الحق والخير والجمال. ولا أحابيك أو أداجيك إذا ما قلت إنك أثير لدي - على رغم إيجازك - أكثر من أندادك الكتاب الذين لا يستطيعون التعبير عن أفكارهم إلا بالإطناب والتطويل. وهو ما لا يرضاه البليغ الواقف على أسرار العربية. وقد زاد هذا الإعجاب حتى بلغ الذروة يوم أشرقت علينا (رسالتك) الحبيبة، وهي تحمل لدين الناطقين بالضاد افتتاحيتك الجبارة الموسومة بـ (ثوروا على الفقر قبل أن يثور)! لقد كانت - والله شاهد على ما أقول - درة الأمة في جيد الرسالة - قرأتها مرات وفي كل مرة كانت تسمو في عيني وفكري حتى ارتفعت إلى قمة لم تبلغها مقالة كاتب من قبل وقد تعجب وتقول: وما مرد هذا كله لدى شاعر يعيش في أفق الوهم؟! أما أنا فاسمح لي أن أهمس في أذنك بكلمة واحدة: هي أنك الآن استطعت أن تعبر عن شعور الملايين من الشعوب العربية المبتلاة بأرباب المناصب والألقاب، الذين ما وصلوا إلى كراسيهم تلك التي ذكرتها إلا بجهود الأيدي العاملة وغفلة عقولهم. فما ذكرته عن مصر هو بعينه في العراق. فهل لك أن توجه إلى وزرائنا الذين لا يزالون يعيشون في أبراج عاجية، مقالاً كمقالك (ثوروا على الفقر قبل أن يثور)؟!
صدقني يا سيدي أنك بعملك ذاك ترضي هذه الملايين التي تعيش على ضفاف الرافدين، إرضاء يجعل من اسمك عندهم أغرودة عذبة الرنين! فهل آمل على يديك خيراً لهذا الشعب المسكين الذي يتنعم برفاه الجهل، وظلال الفقر، وعز المرض. . بهمة وزراء المعارف والشؤون الاجتماعية والاقتصاد؟!
وعليك يا سيدي منا السلام. ولك الشكر والإعجاب
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
تصويب:
وردت شطرا على غير وجهها في أحد أبيات قصيدة (صحراء العجائب) المنشورة في العدد الماضي لالتباس التصحيح وصوابه كالآتي: -
به سحنة الواشي، لها سبع أعين
…
لها سبع آذان، وسبع حقائب!
القصص
لحن الوداع. . .
للأستاذ عبد القادر حميدة
كانت الساعة الرابعة مساء. . . حين نزل موزع البريد عن دراجته. . أمام ذلك المبنى الهائل القابع بميدان سليمان باشا. . . ودلف من باب العمارة الضخم. . . ثم ألفى نفسه بالطابق الثالث يضغط على جرس الشقة رقم 4. . .
وناوله الخادم رسالة رجا منه أن يؤديها لسيده. .
وفضها الدكتور وطفق يلتهم سطورها في لهفة. . .
وفجأة تقلصت عضلات وجهه. . . وشحب لونه. . . واتسعت حدقتا عينيه. . . وزاغتا بين العبارات في ذهول وشرود. . . ثم فركهما. . . وأنعم النظر ثانية في الرسالة غير مصدق ما تطالعه به حروفها. . .
وتناول معطفه. . . وغادر العيادة. . . وفي كيانه ثورة جامحة تنتفض وتهزه هزاً عنيفاً. . . وتندلع من عينيه ألسنة من لهب صارم جبار. . . وهو يردد في إصرار وتحد بين آونة وأخرى. . .
يا إلهي. . . أيمكن أن يحدث هذا؟؟
وهناك في منزله. . . ألقى على زوجه نظرة قاسية عنيفة. . . تركزت فيها مشاعره الثائرة. . . قائلاً بصوت أجش فيه صرامة واعتداد. . .
الليلة سأغادر القاهرة. . . لمسائل خاصة بعملي. . . وسأعود بعد أربعة أيام. . .
وحاول أن يغوص في أعماقها. . . ليستشف ما أحدثه وقع الخبر على سمعها. . . لكن صوتاً رقيقاً كأنه النغم العذب همست به شفتاها انساب إلى أذنيه في هدوء حالم. . .
ـ وهل أغضبك يا حبيبي أن القدر سيختلس أربعة أيام من حياتنا السعيدة، ويحرمنا سماع ذلك اللحن الخالد عندما تتهامس شفتانا. . . وتلك الأنغام العذبة عندما يبسم ثغرك. . . ويخفق صدرك. . . وأنا ملصقة بك. . . ألوذ بأحضانك. .؟
الله معك. . . وطيفك معي. . . سأتخذ منه رفيقاً يهدهد صدري. . . ويرفرف علي بجناحيه. . . حتى تعود. . .
وانبرى يريد أن يقول شيئاً. . . ولكن الكلمات ماتت على شفتيه. . . ولم يدر كيف اغتصب تلك الابتسامة المصطنعة - وهي تمتد أناملها البضة لتجفف دموعها التي انسابت غزيرة على خديها - وقال في خبث ودهاء: هو كذلك يا حبيبتي. . . ولكن ما حيلتنا؟
والآن. . . أود أن تسمعيني لحن الوداع الذي وضعناه معاً في لحظة ما. . . على ألا تنتهي منه حتى أكون قد بعدت عن البيت تماماً. . . لعلي أجد في سماعه ما يهون ضخامة الفجوة التي ستباعد بيني وبينك طيلة الأيام الأربعة. . .
وجلست إلى البيان تعزف عليه بأناملها المرهفة. . . فتصاعدت أنغام حزينة رائعة تفيض سحراً وحناناً وتتمثل في إيقاعها روعة الفرقة وألم البين.
بيد أنه عندما تركها لم يكن قد خرج ولكنه دلف إلى حجرة مكتبه في انسياب الثعبان؛ وعندئذ أحكم رتاجها في حذر وران الصمت الرهيب على أرجاء البيت فبدا في سكون مدينة الأموات كان النهار قد رقد بين أحضان الليل. . . والقمر قد صب شعاعه الهادئ الحنون على الكون. . .
والخمائل قد استسلمت إلى مداعبة الأنسام الرطبة. . .
كما كان حمدي مستسلماً إلى أفكاره الحائرة. . .
إنه الآن يستطيع أن يفعل شيئاً. . .
إنه يستطيع أن يقف على جلية الأمر. . .
ونزع يده من جيبه وهي مطبقة على الرسالة. . . وانسكب عليها ضوء القمر الحالم خلال النافذة فقربها من عينيه وقرأها للمرة العاشرة. . .
وخيل إليه أن أتونا مستعراً يصهر أعصابه حين نظر إلى ساعته وأدرك أنه لم يبق سوى ستين دقيقة يحسم بعدها موقفه من زوجه الخائنة كما تطالعه الرسالة بالموعد الذي سيلقاها فيه شريكها في الإثم. . .
وخلال ذلك الصراع العنيف الجبار الذي اكتنفه وتنازعه طويلاً وقع بصره دون قصد على إطار جميل يضم بين زواياه صورة زوجه. . .
فاقض عليها ليحطمها، لكنه خاف أن يحدث ضجة تفسد عليه خطته، وتكون حائلاً بينه وبين الحقيقة السافرة التي سوف تنبلج بعد قليل فتراجع. وأذهله الزمن عن حاضره
لحظات اندفع فيها إلى أركان الماضي البعيد القريب. . . ومن ثم تراءت له أحداث ووقائع راحت تتدفق على ذهنه المكدود حتى انتهت به إلى سعير تلك الخيانة المخيفة. . .
كان طالباً بالسنة النهائية بكلية الطب حين برزت في حياته (ميرفت) و (ميرفت) مثال خلاب من الفتنة الطاغية يتمثل في وجهها سحر الشرق العنيف، وجمال الغرب الفتان، ذات عينين عميقتين زرقاوين، وشعر كأسلاك الذهب، ينسدل في تماوج على عنق من العاج، تزهيه بشرة كأنها المرمر. . .
وكان صاحبنا قد قرأ فيما قرأ مقطوعة شعرية رائعة للشاعر الفريد دي موسيه يصف فيها محبوبته. . . فكمنت في أعماقه تلك الصورة الشعرية، وتأثر بها أيما تأثر، فبات يحلم بفتاة أي فتاة، يرى فيها خياله وحلمه. . .
ولم يتردد في حب ميرفت حين وجدها على الصورة البارعة التي خلقها في ذهنه الشاعر الفرنسي، وكأنها هي الأخرى شعرت بما يحمله لها بين حنايا ضلوعه، فكانت إذا قابلته عند ذهابه وإيابه من الكلية - تتضرج وجنتاها وتغض من بصرها. . .
أما حيلته هو في هذا لحب فكان يستلقي على فراشه ليستعيد الدقائق التي مرت بهما في مقابلة عابرة. . . ويجنح إلى الخيال العريض، ويودع طيات حبه أمنيات كثيرة، ويشيد عليه كثيراً من أهداف مستقبله، وتعددت، المقابلات. . .
وارتفعت درجة حرارة هذا الطارئ الجديد. . .
من نظرة مختلسة بادئ الأمر، إلى كلمات تنقصها بعض الجرأة، إلى رسائل الغرام الملتهبة، حتى التقيا في خلوة هادئة بعيدة عن أنظار الفضوليين. . .
في الحدائق، وعلى شاطئ النيل، تبادلا أعذب ألفاظ الحب والهيام. . .
ووسط تلك العاصفة الفياضة. . . ارتبطا معاً بوعد الزواج. . .
وحصل حمدي على إجازته الجامعية. . . ولتقدمه البين كان من الطلبة الذين حازوا شرف إيفادهم إلى الخارج. . .
لم يسر لتلك المنحة الجامعية التي تعده بمستقبل زاهر، بل ظن أن الدهر يريد أن يحرمه سعادته ـ وإذا كان القدر ينقل خطانا كيفما يعن له. . . وما نحن إلا دمى ضئيلة تترنح تحت معوله - فلا ضير عليه أن يدخل بأنفه ليبدد الحلم الذي تحقق أو كاد. بيد أن الذي
هدأ من روعه أن معبودته الفاتنة انتزعت من رأسه فكرة الإحجام عن السفر إلى الخارج. . . وفتحت أمامه باب الأمل على مصراعيه. إن حمدي يذكر جيداً تلك الليلة، ليلة السفر، وإن شيئاً هاماً ليظل عالقاً بذهنه حتى الموت. . . إنه اللحن الخالد، لحن الوداع، الذي وضعناه معاً وهما سابحان في رحلة حالمة بين أطباق نفسيهما العليا وأغوارهما المتباعدة. . .
وإنه ليذكر أيضاً تلك الرسالات المعطرة التي كانت تبعث بها إليهفي بلاد الغرب، تطمئنه أن قلبها لن يسع إنساناً غيره، وأنها قد أغمضت عينيها عن جميع شباب هذا الجيل. . .
عاد حمدي إلى أرض الوطن. بلد الحبيب مزهواً بما ناله من علم. ومال ينتظره من سعادة. . .
وصارح والده برغبته في الزواج من ميرفت فوافق على الفور.
وشهدت القاهرة ليلة من ليالي العمر، تزوجا فيها، وبلغا أقصى أمانيهما. . .
وانقضت سنة أنجبا فيها طفلاً. . .
وجاء اليوم المشؤوم الذي جاءته فيه الرسالة. . .
إن موزع البريد لم يخطئ حين أعطاه إياها برغم أنها مكتوبة بعنوان زوجه. كل الذي يدركه أن القدر أراد أن يمنحه الفرصة السانحة لينتقم لشرفه المثلوم الذي كان يقدسه ويقدره. . .
ترى. . . إلى أي مدى وصلت علاقتها (بصلاح) هذا الذي ذيل الرسالة باسمه القذر، والذي سوف يمحى من قائمة الأحياء بعد قليل؟
وما كنه هذه العلاقة؟ وكم من الآدميين أدركوا أنه زوج غافل مخدوع؟ وأيقظه من غفوة أفكاره قرع خفيف على الباب الخارجي. . . فيه خوف واضطراب. . .
فانفجر بين خواطره بركان هائج ثائر يقذف بالحمم. وأدرك لتوه أن الساعة قد اقتربت، وأن الموعد المضروب قد أتى به ركب الزمن. . .
وزاد من يقينه وقع خطوات مرتجفة اندست إلى مخدع الزوجية المدنس. . .
وابتدأ حبل الشيطان يلتف حول جسده. . .
واستولت عليه قوة مفاجئة جعلته يخطو إلى الردهة في تباطؤ وحذر. . .
لكن بريقاً حاداً التمع أمام ناظره، فحول بصره ليستقر على مسدس رابض فوق مكتبته. . . فجذبه في نشوة، واندفع كالسهم، ووقف عند باب الحجرة يسترق السمع. . .
وانبعثت من جوف الحجرة قبلة صاخبة صفعته في قوة، فركل الباب بحذائه. . . وقبل أن يلجه انطلقت أربه رصاصات من فوهة مسدسه أصابت المرمى. . .
فهدأت ثورته، وداخلته راحة نفسية، ولذة غريبة. . .
وتلفت حوله بعد أن رأى زوجه تنتفض في لجة من الدماء، فشاهد مخلوقاً صغيراً يبتسم في بلاهة تبين فيه طفله الصغير. . .
شيء واحد إطار صوابه وجعله يهذي كالمحموم، هو. . . أنه بعد وقوع الحادث بقليل سمع وقع أقدام تهبط على الدرج من الطابق العلوي للمنزل يقطعه صوت رقيق. . .
- آه. . . تذكرت يا صلاح! لعل السيدة التي تقطن الشقة التي تحت شقتنا قد تسلمت الرسالة. . . كما حدث في الرسالة السابقة لتشابه اسمينا!!
عبد القادر حميدة