الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 921
- بتاريخ: 26 - 02 - 1951
الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
- 5 -
النتائج الاجتماعية للاختبار الديني
ليس التاريخ الديني إلا تاريخ الصراع الناجح الذي توصل فيه الإنسان إلى الانفعالات النفسانية والطمأنينة الروحية التي اختبرها في امتثاله لتعاليم الأديان على حد قول (جورج سميل) الفيلسوف الاجتماعي الألماني.
حاول سميل ومفكر بريطاني آخر أن يتلمسا أوجه الشبه بين النظم الروحية وبين النشاط الفكري الذي يحمل في ثناياه متعاً روحية كالفن والشعر والأدب الرفيع وفلسفة التشريع والعلوم المادية.
وليس يعنينا في هذا البحث استعراض أوجه الشبه هذه وإنما لفتنا النظر إليها لبيان ما تنطوي عليه معارضة بعض المثقفين المحدثين من الذين نفروا من الحياة الدينية واستعاضوا عنها بالفن والمتعة الروحية المستمدة منه ومن فلسفة التشريع والعلوم الطبيعية.
ولعلنا نوفي هذا الاستعراض حقه إذا حاولنا التعرف على حقيقة الاختبار الديني والمسالك العاطفية والنفسانية التي ينتهجها.
يحلو لبعض الناس ومنهم الصوفية والمنقطعون إلى العبادة أن ينادوا بأن الدين في أصوله ليس إلا تأملات في النفس وخالقها وفي النظام الكوني. ويقول الدنيويون من خصوم الحياة الدينية إن الأديان وليدة التأمل في الخليقة وبارئها؛ وعليه يجب ألا تتعدى حدود التأمل والعبادة.
ومثل هذا الوصف لا يعطي إلا صورة مشوهة عن وظيفة الدين وحقيقة الاختبار الديني.
ولقد رأينا كيف حاول (دير كهايم) أن يجيب عن التساؤل الذي شغل الناس في الغرب منذ قرون وهو. هل تسبق العقيدة الاختبار الديني، أم أن ذلك الاختبار هو الذي يساعد على رسوخ العقيدة في نفسية المؤمن؟ وهل الطقوس الدينية مستمدة من العقيدة، أم الصواب عكس ذلك؟
فكان الجواب أن هنالك تواكلاً بين العقيدة والاختبار الديني المعبر عنها. فهما عنصران يكونان حلقة واحدة؛ فالتساؤل عن إيضاحها كالتساؤل المنطقي القديم (من يأتي أولاً؟ الدجاجة أم البيضة)؟
وحاول مفكر ألماني شهير أن يضع لهذا التساؤل حداً يرد به على الدنيويون فقال: إن الاختبار الديني هو في الواقع مزيج من الإدراك العقلي والشعور النفساني (السيكولوجي) وليس المهم أن نحدد أيهما يسبق الآخر، وإنما المهم أن نقرر بأن الاختبار الديني سلوك يدور في نطاق هاتين الحقيقتين.
وأخذ كاتب ألماني آخر هذا الجواب وبنى عليه بحثاً جعله في ثلاثة أبواب: -
(1)
العقيدة والاختبار الديني.
(2)
الطقوس والاختبار الديني.
(3)
النتائج الاجتماعية للاختبار الديني.
وسنعتمد إلى حد بعيد على هذا التقسيم في هذا الفصل من دراستنا.
العقيدة
يقول (لاوي بروهل) في دراسته الشهيرة إن الأسطورة أو الخرافة التي تتعلق بها المجتمعات البدائية تتطور فتصبح عقيدة عند المجتمعات المتحضرة. وللأساطير لغتها المنطقية الخاصة. والأساطير التي تتعلق بالآلهة عند المجتمعات البدائية تتفرع وتتشعب ولكنها تتحد في الجوهر. وحين يأخذ المجتمع البدائي بأسباب الحضارة تتقلص أنواع أساطيره ويندثر بعضها لتفسح الطريق أمام ملحمة محبوكة الأجزاء. ويلعب التطور الفكري والنمو العقلي دوره الكبير في خلق هذه الملحمة مطهرة من الأدران والسخافات التي لا يدرك الفكر البدائي سذاجتها. ويصاحب هذا النمو العقلي عادة ترتكز السلطة الروحية التي تعبر عنها هذه الملحمة في يد الكهنة وخدام الآلهة والهياكل المقدسة وفي هذه المركزية تصاغ الرموز والتعبيرات الدينية وتصبح هذه الرموز (التي كانت فيما قبل شفهية تتناقل بالرواية) سجلاً للجماعة التي تؤمن بها وتمتثل لتعاليمها. ويقوم الكهنة جيلاً بعد جيل بشرح هذا السجل وإحاطته بهالة من المنطق والرشاد، ومن ثم ينشأ علم اللاهوت ونظام الكهنوت.
ويبقى هذا التراث المسجل وقفاً على الكهنة وأعوانهم بينما يكتفي الأتباع بمعرفة الخطوط
الرئيسية لهذا التراث المسجل.
والعقيدة التي تنشأ على هذا المنوال لا تتحمل تفنيداً ولا تتعرض للنمو الصحي؛ وإنما تظل منطوية على كثير من الهراء والسفسطة والزيغ الذي لا يقبله العقل السليم.
وعلى مبلغ صدق العقيدة وصحة ألوهيتها تتوقف سماحة الدين. فالعقيدة التي تظل محصورة في يد الكهنوت تعجز عن ممشاة التقدم الفكري والرقي العقلي للفرد وللجماعة.
أما العقيدة الإلهية الصادقة التي لم تنشأ عن الأساطير والخرافات وإنما نشأت عن وحي من الإله العلي العظيم ورسله المختارين فلا يجد الجدل إلى جوهرها سبيلاً. فهي ليست وقفاً على طائفة من الكهنة ولا هي نظام إداري تنحصر وراثته في نفر معين من الأتباع؛ وإنما هي مشاع بين الناس وتراثها المسجل في متناول الجميع.
والإسلام عقيدة أوحى بها الله إلى نبيه المختار ورسوله المصطفى؛ والرسول الكريم لم يكن كاهناً يحتكر المعرفة الدينية وأنما كان مبشراً ونذيراً ويدعو الناس إلى اتباع هذه المثل العليا التي نزل بها الوحي عليه، ويضع القرآن الكريم في يد كل من يستطيع قراءته ومن لا يستطيع. ولقد يجوز لنا أن نقول كذلك إن نظام الصلاة في الإسلام كما أوحاه الله تعالى إلى رسوله الكريم قد عني به بالإضافة إلى الطهارة الروحية والجسمانية، وحق الخالق على المخلوق بالإضافة غلى هذه الحقائق المجيدة أن يستمع الناس إلى كلمة الله صافية خالية من التأويل والتفسير. وكأن الباري عز وجل لم يكتف بتجريد الإسلام عن الكهنوت، بل أوصى جل جلاله في طريقة عملية ألا تكون هناك صلات بين العبد وبارئه غير صلات الروح والفكر المستمدة من الإقناع الشخصي.
والسنة الإسلامية الموروثة أن يلقن القرآن الكريم للأحداث في سن مبكرة، فينشئوا ولا غموض يكتنف عقيدتهم، ولا هالة تحيط بطقوس دينهم، ولا وساطة بينهم وبين العلي العظيم.
والتخصص في دراسة الدين الإسلامي في معاهد العلم لا يفترض مركزية روحية ولا ينطوي على احتكار لعلوم الدين. وما يقوم به رجال الدين في الإسلام يكاد ينحصر في تذكير العباد بكلمة الله كما نزلت في القرآن الكريم وكما عززتها الأحاديث النبوية واجتهاد الأئمة الصالحين.
وكل مستمع إلى خطب الجمع والأعياد يلمس ذلك كله لمساً تاماً. وكل دارس للتراث الإسلامي في الفقه والتشريع وما إليه يدرك ذلك من أول وهلة.
فالأزهر وغيره من معاقل العلوم الدينية لا يخرج كهنه، وإنما يؤهل طلبته انشر الدعوة الإسلامية وشرحها وتوضيحها للفرد وللجماعة الذين عاقتهم شؤون الحياة اليومية عن استذكار التعاليم الدينية وما انطوت عليه من حكم وموعظات.
فوظائف رجال الدين في الإسلام على تنوعها لا تتعدى الوعظ والتعليم والإفتاء، وكلها نشاط متمم للثقافة الدينية التي بدأها الحدث المسلم في سنه الباكرة.
وقد اتجهت البروتستانتية إلى الاقتداء بالإسلام في هذا المضمار. والواقع أن البروتستانتية في بعض أسسها الجوهرية لم تكن إلا ثورة على كهنوت الكنيسة وما أحدثه من ديكتاتورية دينية على النحو الذي يعرفه المطلعون على تعاليم لوثر وكالفين وجماعة الموحدين.
وخلو الإسلام من سلطة الكهنوت الروحية واهتمامه ببيان العقائد لا ينفي أن أحكامه تستوجب نوعاً آخر يراد به تنظيم السلطة الدينية وموقفها إزاء الفرد والجماعة وتنظيم علاقات الأفراد بعضها ببعض. فقد شرع الإسلام القصاص في القتل وغير ذلك من الجرائم، وشرع الدية وشرح كثيراً من أحكام الأسرة والمعاملات الشخصية. ولا يمكن أن يكون شرع هذه الأحكام لمجرد البيان والإرشاد دون الأمر بإقامتها والحكم بها في المحاكم الشرعية، وهي سلطة دينية تستمد وزنها وأحكامها من الشرع والتعاليم الإسلامية، ولكنها مع ذلك بعيدة كل البعد ومغايرة كل المغايرة لسلطة الكهنوت، فلكل فرد من المسلمين الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (والنكوص عنه مع القدرة عليه إثم عظيم) كما قال فضيلة الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية السابق في خلال النقاش عن السلطة الدينية وحقوقها وواجباتها.
ولنعد لصلب موضوعنا. رأينا مع (لاوي بروهل) كيف ينشأ الكهنوت من تركز السلطة الروحية في يد جماعة مختارة من الحافظين لتراث الدين المسجل، وكيف أن هذا الكهنوت بحكم احتكاره للمعرفة الدينية وحقوقها وواجباتها قد وضع ما يعرف في بعض الديانات بعلم (اللاهوت).
وحين خرج من قبضة الكهنوت احتكار المعرفة الدينية وأتيح لبعض النابهين من العية
التعمق في الدراسة والاستقراء نشأت الفلسفة الدينية وأخذت تجادل الكهنوت في أسرار الدين وتأويلاته وتحليلاته وأحكامه وتفاسيره.
ووجد الكهنوت في بعض الحالات أنفسهم في مأزق حرج فلم يكن استعدادهم الفكري ليتحمل هذا النقد؛ وذلك لأن حياة الكهنوت في عزلة عن الحياة اليومية، ولأن اللاهوت الذي وضع الكهنة على مدى الأجيال أسسه ومبادئه كان قد أهمل في كثير من الحالات مراعاة الحقائق الاجتماعية؛ ولذلك فقد وجد الفلاسفة من ورائهم علماء الطبيعة مآخذ على العقيدة الدينية كما يحفظها الكهنة ويبشرون بها ويعرضونها على سلوك الناس. واشتط الفلاسفة وعلماء الطبيعة في تهجمهم على الكهنة ولاهوتهم في تحيز أفسد عليهم الرشد والنزاهة؛ وأصبحت العقيدة الدينية بفضل هذا الصراع علماً على الإيمان الساذج سذاجة الجهل والتعصب الأعمى الذي تبثه ديكتاتورية الكهنوت في العقول الساذجة والقلوب القلقة نشأت. ولم تقتصر هذه الوصمة على الأديان التي تطورت من الخرافات والأساطير، وإنما شملت الأديان السماوية التي أوحى بها الله إلى رسله وأنبيائه.
وأصبحت الفلسفة ونظرة الطبيعيين إلى الحياة والممات علماً على التحرر الفكر الطليق. ولكن هذا الانطلاق (كما بينا في مستهل هذا البحث) لم يستطع أن يزعزع الإيمان الصادق أو أن يطوح بالغريزة الدينية والطمأنينة والاستقرار الذي يهيمن على من يختبرون في صدق الحياة الدينية. وبازدياد الصراع بين العقل والعقيدة الدينية ازدادت البلبلة الفكرية والفوضى الأخلاقية وتعرض المجتمع إلى مشكلات لم تكن الفلسفة ولا العلم الطبيعي مستعدين لمعالجتها.
فإذا نشأت في العالم اليوم نزعة إلى التوفيق بين الحياة الروحية والظواهر الطبيعية والحقائق الاجتماعية فما ذلك إلا لأن هذه الأمور جميعها تؤثر في حياة الفرد والمجتمع.
وسنحاول في الفصل القادم أن نتعرف جوهر العلاقات بين هذه الأمور متابعين البحث في النتائج الاجتماعية للاختيار الديني ومجارين بذلك هذا الاتجاه الجديد في التفكير العربي الذي أقلقه تطور العلوم الطبيعية التي قطعت صلاتها بالقيم الأخلاقية التي يبشر بها الدين فأنتجت القنابل الذرية والمشاكل النفسانية التي تعبث بمجتمع مفكك الأوصال مشحون بالفوضى والقلق.
للبحث صلة
نيويورك
عمر حليق
روافع المجتمع.
.
للأستاذ محمد محمود زيتون
لم تعد الدراسات الاجتماعية عقوداً من إرشادات ونصائح، أو فرائد من أفكار مرتجلة هي بضاعة ذوي المآرب في الدعاية لأشخاصهم والترويح لمبادئهم أو أحزانهم. ومضى كل ذلك مع أمس الدابر، يوم أصبح المجتمع في نظر العلم الحديث موضوعاً للمقاييس ومجالاً للمناهج، وميداناً للقوانين العامة أقصى ما يكون العموم. . وبذلك كان الاجتماع البشري آخر معقل من معاقل العرفان غزته جيوش العلم واتخذت منه معسكراً.
وليس أدل على ذلك من قوانين الاقتصاد التي أصبحت رموزاً ومعادلات جبرية تسير بمقتضاها الظاهر الاجتماعية كما هو معروف في قوانين العرض والطلب، وقانون (ملتوس) في تزايد السكان. وانضوت البحوث السيكولوجية - هي الأخرى - تحت لواء العلم منذ وجدت النزعة العلمية الحديثة أرضاً خصبة لها في كل مكان.
وهذا علم الاجتماع لم يشذ عن هذا المضمار، فقد ميز فيه (دور كيم) جانبين هامين هما (الاستاتيكية) و (الديناميكية) شأنه في ذلك شأن الكهربائية في جانبيها (الذاتي) و (الانتقالي)، واعتبر النشاط الاجتماعي عن ظواهر أو وقائع ينظر إليها العلم على أنها (أشياء) من حيث خضوعها للحواس من جهة، وللمقاييس من جهة أخرى. ثم من حيث أنها تسير حسب قوانين صارمة لا تتخلف، وعلى الباحث أن يجد في كشف هذه القوانين المضارعة لقانون الضغط مثلاً، فإنه لم يكن قد اكتشف بعد، بينما آثار الظواهر لا تنكر.
وقد حرصت المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة على طبع فروع العلم الاجتماعي بهذا الطابع العلمي الخالص، وظهرت آثار هذه الحرص فعلاً في دراستها لعلوم الأخلاق والسياسة والدين والقضاء والجمال.
وإذا كان (دور كيم) قد اقتبس من الفلك والكهرباء والفيزياء والكيمياء على أوسع نطاق، فلا حرج علينا إذا اتخذنا من الميكانيكا استعارة صريحة نستعين بها على فهم المقومات العامة للمجتمع الموزون في قواه الداخلية والخارجية.
وتتركب الرافعة - وهي نوع من الميزان كما تعلم - من محور الارتكاز والقوة والمقاومة، ولا يستقيم الميزان إلا إذا تحققت المعادلة الآتية أياماً كانت الرافعة: القوة في ذراعها
تساوي المقاومة في ذراعها.
والروافع ثلاث كنا نحفظها ونحن تلاميذ بالسنة الثالثة الابتدائية بناء على طلسم خاص هو (رمق). فالقاف رمز القوة. والميم رمز المقاومة والراء رمز محور الارتكاز، ثم إن هذا الطلسم بوضعه هذا يكون مفتاحاً لأنواع الروافع.
فالنوع الأول يكون فيه محور الارتكاز بين القوة والمقاومة والنوع الثاني تكون فيه المقاومة بين محور الارتكاز والقوة والنوع الثالث تكون القوة بين محور الارتكاز والمقاومة.
ولهذه الدوافع الآلية فوائد عملية للإنسان، فهي تنفعه في التغلب على القوى الكبيرة باستعمال قوى صغيرة. وروافع المجتمع أشبه بروافع الطبيعة في بساطتها وتعقيدها. وليس يخفى أن الحياة الاجتماعية إنما هي تفاعلات مستمرة بين عناصر لأحد لها ولا حصر، ومن أبرزها عوامل الجغرافيا والتاريخ والدين والاقتصاد والسياسة والأخلاق والعلم والصحة والجنس واللغة.
ومن العبث أن نعتبر المجتمع مكوناً من أفراد كما نعتبر الجدار مجموعة من قوالب مرصوصة على نحو أو آخر، ذلك بأن الإنسان شخص لا فرد، والفرق بين الشخصية والفردية مدارة تكامل الجهاز العصبي، ذلك التكامل الذي يبلغ أقصاه عند الإنسان، ويندرج تحته سائر الأحياء في سلم النشوء والارتقاء، ولذلك يقال في البيولوجيا إن الأرنب فرد لأن سلوكه طائفي، بينما الكلب شخص ذاتي. ومعنى ذلك أنه كلما كان سلوك الحي متدرجاً في الرقي مع مرونة الجهاز العصبي، كانت له شخصيته التي بها يعرف ويمتاز.
وليست هذه (الشخصية العنصرية) حجر عثرة في سبيل (التكامل الاجتماعي) كما يبدو لأول وهلة، فإن الميول الفطرية العامة من أهم العوامل في تحقيق هذا التكامل بين الأشتات، وذلك التقارب بين العناصر. وإنه لمن اليسير أن تتلاقى الأهواء والميول وفاقاً لقانون (الجاذبية الاجتماعية) ذلك القانون المستمد من الطبيعة السيكولوجية. والذي يوحي بأن حياة المجتمع أشبه ما تكون بحياة القطيع، يرى الفرد نفسه منساقاً إليه، مدفوعاً معه مثل (خروف يانورج) في القصة المعروفة.
فإذا كانت الغرائز هي تلك القوى الفطرية والأسس الأولى للسلوك، فإن الميول العامة هي القوى التي ينبني عليها المجتمع، وهي لا تظهر بوادرها إلا بوجود الإنسان في المجال
الاجتماعي، وتلك الميول هي ما يعبر عنها بالإيحاء والمحاكاة والمشاركة الوجدانية.
وأقرب مثل لذلك سرادق منصوب، فيه خطيب متحمس يخطب في جمهور من الناس مختلفين في الأفكار والنزعات والأهواء، ومع ذلك سرعان ما يتفق الجميع على رأي الخطيب عن طريق (الإيحاء) ويساير البعض رأي البعض الآخر في التصفيق والهتاف عن طريق (المحاكاة) ويتأثر الجميع بانفعالات الخطيب من غضب أو فرح أو حزن عن طريق (المشاركة الوجدانية) ولولا وجود هذا المجتمع ما كان لهذه المجتمع ما كان لهذه الميول أن تظهر في الفرد.
بهذا يسهل التقريب بين عناصر المجتمع، ويتم التكامل الذي به تختزل الصعاب أمام الإصلاح، ويتبلور الرأي العام، فيستطيع المشرعون أن يستمدوا منه القوانين الصالحة لأنها تطابق الآمال المشتركة والأهداف العامة.
وعلى ضوء هذا كله نتساءل: ما هي روافع المجتمع؟ أو بعبارة أخرى ما هي العوامل التي ترفع من شأن المجتمع حتى يكون الفرد والمجموع على وفاق تام بالنسبة للمثل العليا في مرافق الحياة الكريمة. فلا يضطرب الميزان الاجتماعي؟
أما المجتمع الأول فهو الذي يقوم (العلم) فيه مقام محور الارتكاز في الرافعة الأولى، وتكون (الأخلاق) بمثابة القوة، و (التاريخ القومي) بمثابة المقاومة. ولا شك أنه في مثل هذا المجتمع تتعادل مخلفات الماضي مع آمال المستقبل، كما تتعادل الكفتان في الميزان. ولا سبيل غلى ذلك إلا بالعلم الذي يبصر المواطنين بمآثر أسلافهم فيتخذون منها دعامة لصروح المجد الذي ينشدونه، ولا يدفع المجتمع بعيداً نحو أهدافه غير الأخلاق، فإذا كانت مهمة العلم تنوير العقل، فأن مهمة الأخلاق صقل الضمير ليبغي الخير وينشد الحق.
ولهذا يجب أن تكون (الكفالة الأخلاقية) واجباً عاماً يقوم به المسجد والكنيسة والجامعة والمدرسة والمنزل والشارع، والمسرح والسينما والصحافة والإذاعة، والمقهى والملهى، إذ الأخلاق في المجتمع قوة رافعة دافعة، مما يتحتم معه على هذه الدوائر أن تتولى أمرها جميعاً، فلا تختص بها هذه دون تلك، وللمجتمع وحده أن يحكم لأيها الفضل في تنقية الضمائر، وترقية الغرائز، وتعلية النوازع.
والمجتمع الرفيع هو الذي يدرك المعالي من أقرب طريق وأبسط جهد، ومن أجل هذا
اخترنا له هذا النوع من الروافع الاجتماعية إذ تتكافأ القوة مع المقاومة ويتسبق إلى القمة تراث الأمس وهدف الغد على غير نفرة بينهما أو شذوذ؛ إذ هما أشبه بضلعين متساويين في مثلث متساوي الأضلاع، قاعدته الثابتة العلم الراسخ بحقائق الأمور.
ولا يخفى أن البعد أو القرب من محور الارتكاز يرجع إلى مقدار تكافؤ القوة والمقاومة، وتبعاً لذلك تكون رسالة العلم سريعة الأداء إذا توافرت الذخيرة الأخلاقية، وتعددت القوى والأثقال، وعندئذ فقط تستجيب المقومات الحضارية، وتضطر إلى المعادلة، وإلا اضطرب الميزان، واختلت روافع المجتمع، وشالت كفة ورجحت أخرى.
والمجتمع الذي هو من هذا النوع يشبه (الكماشة) لأن محور ارتكازه (العدل) الذي يوطد أركانه قوة مطلقة من (القانون) وهنا فقط نستطيع التغلب على (الجريمة) التي لن تفلت من فكي الكماشة ما دامت عين القانون ساهرة، وقادرة على التوغل في كل وكر فتسلط أنوارها الكاشفة على جسم الجريمة بصرف النظر عن المجرم مهما تكن قرابته أو عصابته أو مكانته، بل الكل سواء بلا تفريق.
والمجتمع الثاني هو الذي تكتمل فيه عناصر الرافعة الثانية، فتكون المقاومة بين محور الارتكاز والقوة، كما في (كسارة البندق) حيث ترتكز على مفصلها، وتوضع البندقة قريباً من المحور، وتضغط اليد على أقصى الطرفين لتحاول كسر البندقة التي تقاوم حسب استعدادها، وتبعاً للضغوط المتتالية عليها.
وفي رافعة هذا المجتمع يكون (الاتحاد) قوة و (السياسة) مقاومة، ومحور ارتكازهما هو (الاستقلال) فإذا ارتكز المجتمع على الاستقلال التام استطاع أن يقاوم مقومات تقدمه، وأن يفك الأغلال والأصفاد التي تحول بينه وبين الانطلاق، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتضافر الأفراد واتحادهم جميعاً كأصابع اليد الواحدة في قبضتها على يد الكسارة، وعندئذ لا يكون لإصبع حق في ادعاء الظفر، وإنما الفضل للوحدة المتصلة لا للفرقة المنفصلة.
وعوامل الاتحاد في المجتمع الرفيع ميسورة لا تستعصي على الإمكان. أليس الدين يدعو إلى وحدانية الله واتحاد العباد ووحدة القبلة؟ أليس العلم في مجمله ومفصله يفترض العقل الذي هو أعدل الأشياء توزعاً بين الناس؟. . أليست الحقيقة متمثلة في حاصل جمع عددين أو باقي طرحهما، وإنه إذن لصواب أو خطأ، ولا مجال لجدال.
والاستقلال في ذاته رفعة، وبالنسبة للجهاد وسيلة رافعة، لأن الفرد المستقل هو المجتمع المستقل عاجلاً أو آجلاً، ولن يكون ذلك إلا بكشف الأغطية عن العقل المفكر، ورفع الكمائم عن الأنفاس الحرة، وطرح المخدرات الممقوتة عن الأنوف الشامخة، بعيداً بعيداً، والحذر من المسكنات التي لا يقصد منها غير الاستهلاك المحلي. ولابد من الارتكاز على الاستقلال في القوة واتحاد لإخماد التعصب والتحزب، وإحباط التعالي على الغير وازدراء أقدار الرجال إلى غير ذلك مما يقوم مقام البندقة من الكسارة ولا يعلم صلاحها أو فسادها إلا بالكسر.
ومكافحة المعوقات السياسية من أيسر اليسر، فليس أقل من التفرقة بين السياسة والاستغلال، والفصل بين الوطنية والحزبية، لهذا كان طول ذراع القوة مؤذناً بأن قليلاً من القليل يكفي لكسر البندقة التي قد يغري قربها من محور الارتكاز باحتقار شأنها، في حين أن قصر ذراعها يستلزم الضغط، وهو إن بدأ من بعيد غير شديد إلا أنه كفيل بتفتيت قنبلة ذرية، وليت الناس يعلمون حق العلم قانون الروافع الاجتماعية، إذن ما ضلوا سواء السبيل، ولا تكلفوا الشطط مع بعضهم بعضاً، ولا كلفوا أنفسهم وأوطانهم مشقة الاحتيال على المشاكل المعلقة بينهم وبين أعدائهم وخصومهم.
وهذا المجتمع يشبه (عربة الكناس) وقد امتلأت بالأقذار، وهو يدفعها أمامه، وهي تندفع على عجلة من حديد، وتميل ذات اليمين وذات الشمال، وهو من هزله يميل معها كما تميل، ويحاول أن يقاوم هذه القذارة الثقيلة، ولكنه مرغم على احتمال المكروه في سبيل الجلاء، الجلاء التام.
ذلك هو شأن المجتمع النحيل الذي يكافح الاستعمار والحماية والاحتلال، ويرتكز على عجلة الزمن: تدور فتطوي الطريق وراءها ليس له أن يسبقها أو يدعها تكر بين يديه من غير دفع مستمر.
يا له من كناس يقبض بيديه على نعش العدو، يشيعه إلى خارج البلد إلى غير رجعة، والأيام تطاوعه، فلا ينبغي له أن يستعجل الجلاء، ففي العجلة الندامة، وحسبه أن عجلة الظلم لا تدور مع الأيام، فليعتمد على ضعفه ليكون القوة. إن ذلك من عزم الأمور.
إن المقاومة القذرة، والبطش الكافر، والاستعباد العنيف، كل ذلك مطرود من كل بيت،
ملفوظ من كل كوخ، ولا يستقيم مع نظافة العيش، وسلامة الطريق. وياليتنا نتفهم فلسفة هذا الكناس الذي عرف كيف يبدأ وأين ينتهي، لم يتكل على أن القذارة ستزول من بيته ما بين طرفة عين وانتباهها، بل نهض وشمر عن ساعد الفقر والجهل والمرض، لينعم بالغنى والعلم والصحة. . إنها حركة وفيها بركة، إنها كاسحة نازحة، وعما قريب تكون الفاتحة، والمجتمع المرفوع هو الذي خيره لا مقطوع ولا ممنوع، وشر عدوه دائماً مقلوع لا مزروع.
الزمن محور ارتكاز، وإن طالت الآماد بين حلو الشهاد وخرط القتاد، على أن المصير معروف مألوف. فالظلم والعدوان سينقلبان أسوأ منقلب، وبعدهما الحرية التي لا حدود لها، والنظافة التي لا بعدها، ومن ذا الذي لا يود أن يغدو ثقيلاً ليروح خفيفاً، أو أن يكافح عدوه ليعود سيد نفسه، أو أن تكرهه الأيام على جر العربات، لتكون له وحده الثمرات.
أما المجتمع الثالث المرفوع، فما أشبهه (بلاقطة الجمر)، ولن يستغني المجتمع عن هذه الرافعة في التقاط كل جمرة متقدة من العلوم والفنون، وكل ألوان الحضارة، ولا يكون ذلك إلا بالارتكاز على (الحرية) في الأخذ والعطاء، بحيث لا نأخذ بالجبر، ولا نعطي بالقهر، ولن تكون الحرية مكفولة إذا فتحت الأسواق لكل بضاعة من غير تدخل يراد منه الصيد في الماء العكر، لكساد بضاعة صالحة، والترويج لأخرى فاسدة، وليكن قانون الجميع (البقاء للأصلح).
هذه الحرية التي لا بد منها في تبادل النفع المشترك بين الشعوب الراغبة في السلام، والساعية في الخير، ومع هذا فإن (الشر) سيقاوم هذه الغاية النبيلة، ولن يكون عنصراً فعالاً في المقاومة إلا إذا طال واستطال، وأدمن في المطال، كلما تقاضته الإنسانية ضريبة الحياة، والشر قوة لا محالة، ولكن سرعان ما يمحى في ظلال الحرية، وعلى جمرات العلوم والمعارف.
مجتمع هذه رافعته جدير بأن يكون أفراده يداً واحدة، تقاوم الرذائل والشرور بل تبطش بها البطشة الكبرى حتى لا يضار بها المجتمع. ولعمري لئن كانت هذه اليد بمثابة المقاومة في الرافعة فإن محور الارتكاز اللازم هنا إنما يكون الدين المتين، الدين الذي يمتد سلطانه المشروع إلى كل مرفق من مرافق الحياة المعلقة بيد الله، وعندئذ تكون (الأمانة العلمية)
هي القوة الدافعة للمغريات حينما تتكاثر وتتثاقل على اليد البيضاء بالرشوة والسرقة والاحتكار والاستغلال، فتدفعها عنها في إباء وترفع يرتفع بهما المجتمع بأفراده إلى المثل العليا.
هذه هي روافع المجتمع، فلينتظر كل فرد أين هو من هذه المجتمعات، وعليه أن يرتفع بالتدريج إلى المقام الرفيع الذي يكون فيه المجتمع وأفراده متكافئين في الميزان. وذلك هو الهدف الذي لا مطمع بعده من رفعة، ولا حاجة وراءه من روافع.
محمد محمود زيتون
خليل شيبوب في ذمة الله!
للأستاذ منصور جاب الله
في مطالع عام 1921 كان المغفور له أحمد شوقي بك في الإسكندرية يتردد على (بنك الأراضي) بغية شراء أرض زراعية؛ وإذ أدخلوه القاعة التي يجلس فيها (رئيس قلم العقود)، بصر به شاباً قسيماً وسيماً قد انهمك في تصحيح تجارب مطبعية، وذهل عن كل ما حوله، فسأله أمير الشعراء عما يفعل، فأجاب أنه يصحح (بروفات) ديوان شعره. ودهش شوقي بك وسأله:
- أأنت شاعر؟
- لست شاعراً ولكنني أنظم الشعر أحياناً!
- هل لي أن أتشرف باسمك؟
- اسمي خليل شيبوب
ـ ومن كتب مقدمة ديوانك؟
- كتبها خليل مطران
- وتعرف مطراناً؟
- نعم أعرفه ويزورني في منزلي بعض الأحيان.
بهذه المحاورة نشأت صداقة خليل شيبوب لأمير الشعراء، وعرض عليه شوقي بك أن يكتب له مقدمة لديوانه تضاف إلى مقدمة شاعر القطرين، وإذ ذاك استطار (الشيبوب) فرحاً وقبل العرض شاكراً، وإذ كان الكتاب قد ثم طبعه، فإن المقدمة ألصقت به إلصاقاً. ومما نذكره منها الساعة قوله:
شيبوب ديوانك باكورة
…
وفجرك الأول نور السبيل
ويعني بالفجر الأول اسم الديوان، فكذلك رأى خليل أن يسمي ديوانه رمزاً إلى شبابه الأول وغضارة العمر. وليس في قصيدة شوقي هذه جيد يذكر اللهم إلا قوله في الشعر عامة:
ما فيه عصري ولا دارس
…
الدهر عمر للقريض الأصيل
ومنذ بضعة أعوام أقام السوريون واللبانيون في الإسكندرية حفلاً لتكريم المغفور له خليل مطران بك كان خطيبه الأول خليل شيبوب، وإذ قارب الحفل نهايته وقف خليل مطران
وبايع لخليل شيبوب بخلافة الشعر من بعده، واعتز شيبوب بهذه (البيعة) لأنه كان يجل (المطران) ويجعل من نفسه حوارياً من حواريه وغاب عن مطران أن الأدب لا يورث، وليس فيه خلف ولا سلف. والحق أن (الشيبوب) كان أشعر في بابه من مطران، وإنما سبقه المطران غلى الشهرة لأن الذين في أيديهم أمور النشر والإذاعة رأوا أن يجعلوا منه ثالثاً لشوقي وحافظ. ولسنا نحب أن نناقش حجية هذا الرأي فنحن بصدد الكلام في خليل شيبوب ومذهبه في الشعر والأدب جميعاً.
والحق أن شيبوباً كان يتمذهب بمذهب خليل مطران في الشعر الوصفي الرمزي، فهو شاعر وصاف، والشاعر الوصاف ينزع أكثر ما ينزع إلى الناحية المادية، بيد أن شعر شيبوب في هذا المنحى أقوى من شعر مطران، فيه قوة نفتقدها في قريض شاعر القطرين وعاطفة مشوبة قل أن نعثر عليها في قصائد الوصافين من الشعراء المحدثين. ثم إن شيبوباً هو الذي يقول:
ليس بجسمي قطرة من دم
…
لم تختبر حباً ولا تعشق
على أن خليل لم يفرغ الشعر مرة واحدة وإنما جعله هواية له في أوقات الفراغ أو في بعضها على الأصح فهو قارئ من الطراز الأول. اشهد أني ما رأيته إلا وفي يده كتاب يطالعه، أو يريد أن يطالعه، وتلك هوايته المفضلة في تزجية الوقت الثقيل.
ولكن صديقنا خليل شيبوب يروي لنا أنه أسرف على نفسه في شبابه الأول أو في فجره الأول، غير أننا لم نلحظ هذا الإسراف في مظهره، فالشيب لم يسلك سبيله إلى مفرقة حتى بعد أن ذرف على الستين أو جاوزها، بل بقى شعره فاحم السواد، حتى كنا نحن أصدقائه الخلصاء نداعبه ونعابثه قائلين له إنه من (المنظرين) الذين لا يموتون حتى يوم القيامة!
وكان الأستاذ شيبوب سوري الأصل ولد في اللاذقية موطن أبي العلاء، ولكن هواه إنما كان مصروفاً إلى لبنان لا إلى سوريا، ديدنه في ذلك ديدن النصارى من أهل الشام.
ولعل أحداً ممن نعموا بعشرة خليل شيبوب لا يصبح أو يمسي إلا ذاكراً طيب خلاله وجميل شمائله وحلو دعاباته ومتارفه البهيجة، فقد اعتاد أن يدعو أصفياءه إلى سهرات رائقة ومآدب مونقة، يتبادلون فيها إلى جانب الطعام الشهي والشراب الروي مستعذب الأفاكيه ومستغرب النوادر، ويتطارحون أبرع ألوان القريض.
وفي غضون الحرب المنقضية ضاق (الخليل) ذرعاً بظلام الإسكندرية وغاراتها المتوالية، فغادرها إلى أطراف المدينة (وفي الأطراف تغشى منازل الكرماء) حيث أقام لنفسه مغنى في صحراء سيد البشر، وهنالك بين المهامة البيد والتنائف الفيح، كان ينعقد مجلس الشعر، أو مجلس البحر كما سماه فيما بعد، وتدور على الحاضرين كؤوس الطلا مترعة، ويتسارقون ألواناً من أدب شيبوب وكرم شيبوب.
وأذكر أني زرته مرة في مغناه هذا، فهتف بي: هلم بنا يا أخي نتحرر من قيود المدينة واصفاد المدنية، هيا بنا إلى البادية الشاسعة نعش على الفطرة كآدم الأول.
وانطلقنا معاً في هاتيك التلال الرملية، وجمعنا حطباً أضرمنا فيه النار، ثم صنعنا شراب الشاهي السائغ، وأنشأنا نتذوقه رشفة بعد رشفة كما يفعل الأعراب المحيطون بنا في ذياك المكان البعيد.
ولقد سمعنا قبل أيام أديباً كبيراً يقول: إن خليل شيبوب كان بقية (اليازجية) الذين ملئوا ربوع الشام فضلاً وأدباً وعلماً، أو أنه كان امتداداً لعهدهم وإن لم يكن من سلالتهم. ولقد نبالغ نحن فنقول إن الخليل كان آخر من يستحق لقب (أديب) من طائفة الذين هبطوا الإسكندرية واتخذوها مستقراً ومقاماً. فليس فيهم - مع الأسف - الآن كاتب بارز ولا شاعر مبين.
ولقد تحدثنا فيما أنف عن شعر خليل شيبوب في إيجاز شديد ولا بأس من أن نورد فيما يلي نماذج من شعره فهو يصبو إلى الإسكندرية ويرسل فيها هذا اللحن العذب:
هداك بصدري حادث وقديم
…
وعهدك عهدي راحل ومقيم
وأنت كما شاء الجمال حبيبه
…
وأم كما شاء الحنان رءوم
فلو نطقت فيك الحجارة حدثت
…
عن المجد مرفوع اللواء عظيم
وله قصيدة عنوانها (صوت الرجاء) يقول فيها:
السقم يأكل من عزمي وجلدي
…
والحب يأكل من روحي ومن كبدي
لذا فزعت إلى الكاسات اشربها
…
صرفاً وتشرب من عقلي ومن رشدي
أشكو غلى الخمر همي وهي تسلبني
…
عقلي مخافة أن أشكو إلى أحد
ومن قوله في مصر:
هي مصر فاتنة العصور عجيبة
…
تقدمت الدنيا الورى فتقدموا؟
خطت لأثينا وروما منهجاً
…
مشتا عليه فكان فيه المغنم
ويبين نثره أكثر ما يبين في كتابه عن (الجبرتي) إذ توفر الخليل على دراسة العصر المملوكي وألم بكثير من دقائقه. وقال بعض المتأدبين إنه كان ناثراً أكثر منه شاعراً. والحق أنه كان مقلاً في شعره متأنقاً في نثره.
ولقد كان الأستاذ خليل شيبوب يحيي مستهل هذا العام في بيته بحفل بهيج كما اعتاد أن يفعل كل عام، ولكن المرض ضربه فجأة، وأصابته ذبحة صدرية حادة، ثم تحول المرض إلى شلل، ففقد المنطق، وساءت حالته، وتعلقنا نحن الخلصاء من أصدقائه ومر يديه بين اليأس والرجاء، حتى إذا غربت شمس يوم السبت الثالث من فبراير الحالي غربت معها شمسه وفاضت نفسه، ففاض بنا الجزع من اجل هذا الأديب الكبير الذي فقدناه وهيهات أن نجد له بديلاً.
عوض الله فيه دولة الأدب والشعر، فقد كان خليل شيبوب أمة من الشعر والأدب.
منصور جاب الله
المكتبة العربية في عصر الحروب الصليببية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
إن الدارس للحركة العقلية بمصر والشام في عصر الحروب الصليبية، يبهرة كثرة الإنتاج في فروع الثقافة المختلفة، ويرى أن البلاد لم تعش على ما وفد إليها من كتب ألفت في غير أرضها، بل ساهمت مساهمة كبيرة في النشاط العلمي والأدبي، ولا نزال إلى اليوم نعيش على بعض آثار ذلك العصر، ونعتز بما له من ثمار.
وقد تنوع الإنتاج يومئذ تنوعاً يدل على حركة علمية ناشطة، وحمل لواء هذه الحركة أعلام نابغون؛ فمن فقهاء على المذاهب الأربعة إلى نحاة، ولغويين، وعروضيين، ومحدثين، ومفسرين، ومقرئين، ومتكلمين، ورجال أدب، وبلاغة، ومؤرخين وجغرافيين، وعلماء بعلوم الأوائل من منطق وفلسفة وسياسة، وعلوم رياضية، ولم يخل العصر من فلكيين ومنجمين.
وساعد على ازدهار حركة الإنتاج ما كان يستطيع أن يصل إليه العلماء في الدولة من أسمى المناصب، ومالهم عند الشعوب من إجلال وتقدير، وما يظفرون به عند الخلفاء والسلاطين من تشجيع وتقريب.
وكان أحكام ذلك العصر مثقفين ثقافة ممتازة، ويحيطون أنفسهم بطبقة مصطفاة من المثقفين، ويغدقون عليهم، وللفاطميين من ذلك نصيب كبير: يروي أن المهذب بن النقاش لما وصل إلى الشام من بغداد، وكان فاضلاً في صناعة الطب، وأقام بدمشق مدة، ولم يحصل له ما يقوم بكفايته، وسمع بالديار المصرية، وأنعام الخلفاء فيها وكرمهم وإحسانهم إلى من يقصدهم، ولا سيما أرباب العلم والفضل، فتاقت نفسه إلى السفر، وتوجهت أمانيه إلى مصر، فوجد فيها ما كان يرجوه، وشهر من وزرائهم بحب العلم وتقريب العلماء وتشجيعهم الوزير الأفضل ابن بدر الجمالي.
أما نور الدين محمود فقد كان يجلب العلماء ويحتفي بكبارهم ويسكنهم الشام، ويبني لهم المدارس، ويغدق عليهم المرتبات، ويكاتبهم بخط يده. وافتدى به صلاح الدين في تشجيع العلماء وتقريبهم، حتى أن عبد اللطيف البغدادي عندما دخل دمشق وجد فيها من أعيان
بغداد والبلاد ممن جمعهم الإحسان الصلاحي جمعاً كبيراً، وكان مجلس صلاح الدين حافلاً بأهل العلم، يتذاكرون في صنوف العلوم، وهو يحسن السماع والمشاركة حتى صار لكثرة مخالطته العلماء وأخذه عنهم كأنه من كبار الفقهاء يضرب في كل علم من علوم الدين بالسهم الصائب مع امتيازه في معرفة التاريخ، وولى بعده العرش في مصر ابنه العزيز عثمان، وهو مثقف، سمع الحديث بالإسكندرية من الحافظ السلفي، والفقيه أبي الطاهر بن عوف الزهري. وسمع بمصر من العلامة ابن بري النحوي اللغوي، وهو الذي رحب بمقدم عبد اللطيف البغدادي إلى مصر، وأجرى عليه من بيت المال ما يزيد على كفايته واستقدم الحسن بن الخطير من القدس، وأغدق عليه حتى أغناه.
فلما جاء العادل ساهم وإن كانت مساهمة قليلة في النهضة الفكرية، فأنشأ بمصر مدرسة للمالكية، وذلك لانصرافه إلى الحياة السياسية، وتثبيت دعائم العرش له ولبنيه، ولكن أبناءه كانوا أكرم الأبناء: نهوضاً بالعلم، وأخذ منه بأوفى نصيب، وتشجيعاً على الاغتراف من مناهله، ورفعاً لقواعد معاهده، فكان الكامل يحب أهل العلم ويؤثر مجالسهم، وبشغف بسماع الحديث النبوي وقد بنى له دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وكان يناظر العلماء، وعنده مسائل غريبة من فقه ونحو، يمتحن بها، فمن أجاب عنها قدمه وحظى عنده، ويبيت عنده بالقلعة جماعة من أهل العلم بجانب سريره ليسامروه، فنفقت العلوم والآداب عنده وقصده أرباب الفضائل، فكان يطلق لمن يأتيه منهم الأرزاق الوافرة الدارة، ويجلس كل ليلة جمعة مجلساً لأهل العلم، ويشترك في المناقشات التي تجري فيه.
أما المعظم عيسى بالشام فكان مأمون بني أيوب، شجع العلماء وأكرم وفادتهم، وشاركهم في التأليف، وكذلك كان ابنه الناصر داود.
واقتدى المماليك بأساتذتهم الأيوبيين، وكانوا هم يزودون بالثقافات التي تؤلههم للوصول إلى مناصبهم، وشهر من بينهم في ذلك العصر الظاهر بيبرس فقد أخذ يقرب النابغين في كل علم وفن، وكان يميل إلى التاريخ وأهله ميلاً شديداً ويقول: سماع التاريخ أعظم من التجارب.
أما خليل بن قلاوون فكان مثقفاً ثقافة أدبية ممتازة استطاع أن ينقد ما يعرض عليه من المراسيم وأن يصلحها، ويطارح الأدباء بذهن رائق وذكاء مفرط.
- 2 -
وانتشرت دور العلم في ذلك العصر: فكان الجامع الأزهر أيام الفاطميين موطن دراسة الفقه الشيعي والمذهب الإسماعيلي، ونهضت دار الحكمة بالعلوم الفلسفية وربما كانت هذه العلوم تدرس بالأزهر كذلك؛ فقد كان الدعاة وهم أساتذة دار الحكمة يجلسون للتدريس في الجامع الأزهر أحيانا كثيرة؛ ولعل مذهب أهل السنة قد وجد سبيله إلى الأزهر في الأوقات التي ضعفت فيها حده الدعوة الإسماعيلي كما في عهد الأفضل والعادل بن السلار.
وإذا كان صلاح الدين قد ابطل الخطبة في الجامع الأزهر، وقضى على تدريس المذهب الشيعي فيه، فأن التدريس لم ينقطع منه، وها هوذا عبد اللطيف البغدادي يأتي أليه في العصر العادل، ويتردد عليه عشر سنين مستمعا إلى الأساتذة والمحاضرين حيناً، وقائماً بتدريس الطب والفلسفة والمنطق طرفي النهار حيناً آخر. وعاد الأزهر إلى نشاطه في عهد جيرس ومن جاء بعده.
وإلى جانب الأزهر كان جامع عمرو ينهض بعبئه في نشر الثقافة وإذاعتها، فتعددت به حلقات العلم في مختلف فروع الثقافة، وكان له الأثر فيها أكبر مما للأزهر، لأن أحدا ًلم يحاربه؛ كما قامت بعض المساجد في أرجاء البلاد بنصيبها من النهضة الثقافية.
وفي الشام كان الجامع الأموي بدمشق يؤدي الرسالة التي يقوم بها جامع عمرو في القاهرة، وكانت دمشق أبعد من أن تنالها آمال الصليبيين، فظلت الحركة العلمية بجامعيها العتيد، ونهض جامع حلب بنصيب في نشر الثقافة أيضاً.
وشاهد ذلك العصر بناء المدارس وانتشارها في مصر والشام، فأنشئت بالإسكندرية في عصر الفاطميين مدرستان في عهد الحافظ واحدة، وفي عهد الظافر للسلفي أخرى. وفي الشام أخذ نور الدين ينشئ المدارس ويستدعي نوابغ العلماء من الأقطار يبني لهم المدارس في أرجاء إمارته، حتى إذا جاء صلاح الدين تأثر خطا سلفه، فأنشأ كثيراً من المدارس في أرجاء إمبراطوريته بمصر والشام؛ فمن ذلك الصلاحية بالقاهرة للشافعية ولعلها كانت أكبر مدرسة في عصرها، والقمحية للمالكية، والسيوفية للحنفية، والصلاحية بالقدس، وقد أحصى فقهاء مدارس دمشق في عهده، فكانوا ستمائة فقيه.
واقتدى بصلاح الدين خلفاؤه من الأيوبيين، ومن جاء بعدهم من سلاطين المماليك، وساهم
أمراء الأسرة المالكة وأميراتها وأمراء الدولة في إنشاء المدارس بمصر والشام كتقي الدين عمر الذي اشترى منازل العز أحد قصور الفاطميين بالقاهرة ووقفه مدرسة كما بنى بالفيوم مدرستين عندما كانت الفيوم إقطاعاً له، وبنى في الشام التقوية بدمشق، والمظفرية بحماة.
وأخذ بعض الوزراء بنصيبهم في إشادة دور العلم كما أسس القاضي الفاضل مدرسته الفاضلية وكانت من أعظم مدارس مصر وبنى المثرون من المعلمين وغيرهم مدارس وقفوا عليها أملاكاً تكفي للإنفاق عليها.
وهكذا حفل هذا العصر بإنشاء المدارس في أرجاء البلاد، فإنه لم يقف إنشاؤها عند العواصم فحسب، بل تعدتها إلى غيرها، فرأيناها تقام بالقاهرة والإسكندرية وقوص وإسنا وأسوان والفيوم؛ وفي دمشق وحلب والقدس وحمص وبعلبك، ولكن أكثر المدارس يومئذ كان بالقاهرة ودمشق، وقد بقى من أسماء المدارس التي عرفتها القاهرة يومئذ أكثر من اربعين مدرسة، ومما عرفته دمشق زهاء تسعين.
وقد تنوعت المدارس في هذا العصر، فكان منها معاهد لتدريس الحديث خاصة، وأخرى لتدريس الفقه، وبعضها للنحو، وأنشئت في القاهرة ودمشق وحلب مدارس خاصة بالطب، كما كان يدرس منهج الطب إلى جانب المواد الأخرى في بعض المدارس، وكان معنى التخصص أن المادة الأساسية فيها هي الفقه مثلاً، أما المواد الأخرى فكانت تدرس إلى جانب هذه المادة الأساسية.
(للكلام صلة)
أحمد بدوي
ومضات من الحجاز
للأستاذ حمدي الحسيني
نزل القرآن الكريم على رسول الله صلوات الله عليه والعرب سادرون في مهاوي الضلال، مهددون بالفناء والاضمحلال، غرائز النضال والغلبة في نفوسهم هامدة خامدة، ورغباتهم في الحرية والاستقلال مكبوتة محتجزة. فدعاهم رسول الله إلى الهدى ودفعهم إلى العزة والكرامة، وأمرهم بالنضال في سبيل الحرية والاستقلال، فوقعت المعركة الكبرى بين الحياة والموت، فعبأ رسول الله كل جزء حي من الأمة لمقاومة الموت، وساق كل أنواع القوة لدفع الفناء، وكان الشعر القوى في هذه المعركة المقدسة سيفاً من السيوف المشهرة في وجوه المشركين، وقد عمل هذا السيف ما عمل هذا السيف ما عمله الحسام في أيدي الأبطال في ميادين القتال، وظل شعر القوة كذلك في الحجاز حتى تصدعت الوحدة العربية وتضعضعت القوة الإسلامية، وانتقل الحكم الإسلامي من الحجاز إلى الشام، ومن بغداد إلى الآستانة، فأفتقر الحجاز من القوة ومن شعر القوة، ومن الحياة ومن شعر الحياة حتى أصبح:
كقفر أفاء الموت فيه ظلالة
…
فأوحش حتى ما تصر جنادبه
وظل كذلك حتى أعلن الدستور العثماني فأخذ يتحرك تحركاً بطيئاً ويتماثل للنهوض تماثلاً ضعيفاً غلى أن شبت نار الثورة العربية فيه، فأصبح الحجاز علماً في رأسه نار، ترنو إليه عيون العرب، وتتوافد غليه رجال الأدب، فأوجد هذا الاحتكاك حياة في الحجاز وحركة أخذت تنمو وتتسع حتى رأينا في صميمها حركة أدبية فنية نشيطة تندفع نحو النور وتتواثب نحو الحياة والحرية بقوة لا تلبث أن تصبح كافية لتحقيق الغاية والوصول غلى الهدف إن شاء الله. وإليكم الطلائع التي تطمئن لها نفوس العرب على أعز قطر من أقطار العرب.
السيد أحمد إبراهيم الغزاوي: ولد بمكة وتلقى علومه فيها ثم اشتغل بالوظائف في حكومة الملك حسين ثم في الحكومة الحاضرة وقد حاز لقب شاعر الملك عبد العزيز آل سعود المعظم. نظم قصيدة بمناسبة الحلف العربي الذي تم بين المملكة العربية السعودية ومملكة اليمن بعد تلك الحرب الطاحنة التي جرت بين القطرين الشقيقين منذ ست عشرة سنة. وفي
القصيدة ألم لما وقع بين المملكتين العربيتين من خصام وامتشاق حسام، وفيها رضى عن النتيجة التي انجلى عنها ذلك الخصام وهي الحلف بين المملكتين. وقد أعجبنا في القصيدة روح الإخاء والمودة التي تقام عليها الوحدة العربية بين العرب؛ فترى الشاعر بعد أن يشيد بقوة ابن السعود العسكرية ويعتز بها يقول:
أفأنا إلى صلح تمهد بعدما
…
أفاء بنو أعمامنا للأواصر
وتلك المنى لولا المنايا تقدمت
…
فأنعم بهم من كل باد وحاضر
هم الجيرة الأدنون واللحمة التي
…
لها الحسب الوضاح عرف الأزهر
وهم دمنا الغالي وأعصاب مجدنا
…
وأعضاؤنا في كل ماض وحاضر
فقل لذوي الأحقاد هذا نتاجكم
…
فهل كان إلا غصة في الحناجر
سعيتم فأخفقتم وبؤتم بإثمكم
…
وبؤنا بحلف كامتزاج العناصر
واسمعه الآن يخاطب الشرق العربي:
يا شرق حسبك مالقيت من عنت
…
أفق فإنك بعد اليوم مقتحم
شمر ذيولك وانهض لا تكن خولاً
…
ولا يصدك عن درك العلا حمم
وواصل السعي في التعليم مقتبساً
…
خير الفنون وإلا مضك الألم
وارهف عزائم من أبنائك اتكأوا
…
على الأرائك يعلو فوقها القتم
السيد أحمد قنديل: ولد بجدة وتعلم في مدارسها ثم اشتغل فيها بالتعليم والصحافة، وهو شاعر من شعراء القوة يدعو إلى الانطلاق من قيود الخضوع للقديم البالي وينادي بالحرية والنظام.
جاهر برأيك في الحياة ولا تخف
…
غراً تذرع بالسفاهة أو حسود
وانهج إلى المثل الشريف فحبذا
…
المثل الشريف العتيد
واسلك سبيلك كيفما تختاره
…
مادمت مصطحباً به الرأي السديد
فإذا سلمت به فأنت موفق
…
وإذا عثرت فمن عثارك تستفيد
والفوز في شتى المواقف حافز
…
للمرء داعيه إلى شرف المزيد
واسمعه الآن يخاطب الشعب هذا الخطاب الرصين الخالي من العنجهية والغطرسة:
لسنا من المجد في أعلى منارته
…
أو في الطريق قطعاً منه ما عظما
لكنما نحن شعب يرتجي أملاً
…
ضخماً وأرقى أماني الشعب ما ضخما
ومن رجا وسعى في الجد متشحاً
…
بالصبر مدرعاً نال المنى نعما
السيد حسين السراج: ولد بالطائف وتلقى علومه الابتدائية بمكة ثم رحل إلى شرق الأردن حيث أخذ علومه الثانوية ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت؛ وهو شاعر من شعراء الحجاز الناهضين للكفاح في سبيل الحياة، اسمعه يخاطب الشباب:
يا شباب البلاد كونوا جميعاً
…
أخوة عصبة جهاراً وسرا
ثابروا في جهادكم وأعدوا
…
خلقاً باسلاً وعزماً وصبرا
حققوا الظن فالأماني سبيل
…
من يغامر أتته طوعاً وقهرا
يا شباباً عليه تبنى الأماني
…
أشحذ العزم فالمصائب تترى
واصل السير فالحياة نضال
…
تبتغي قوة وحزماً وخبرا
السيد عبد الوهاب آشي: ولد بمكة وتعلم فيها؛ ثم اشتغل فيها بالتعليم والصحافة وقد اعتقل على أثر حادثة ابن رفادة، ونفي إلى نجد وهو من شعراء الحجاز الذين يحملون روحاً قوية وثابة.
ويح الجبان إذا استطا
…
رلهيب قاصمة الظهور
يدع الديار بلاقعاً
…
والحر في قيد الأسير
والموت خير للفتى
…
تحت المناصل والقتير
من ذلة تدع الأبي
…
مطية العسف المرير
واسمعه يخاطب رفيقاً له:
فانتض العزم وامتط الجد والبس
…
مطرف البأس كي تجوس الحنادق
إن في هذه الحياة مجالاً
…
لمريد الحياة جم الطرائق
جولة ثم جولة يتجلى
…
لك في ذا الجهاد صدق الأصادق
لك مني الثبات يوم تعد
…
العزم للكد في مجال البوائق
نقصد المجد لا الونى ينقض العهد
…
ولا العاديات تغري المواثق
إن سبق العزوم غذ يتصدى
…
للعلا دونه تقذى السوابق
كل شيء وإن تسامى منالاً
…
هين إن عني الهمام المسابق
وخذ هذين البيتين القويين من قصيدة قوية للسيد عبد الله عمر بالخير أحد شعراء الحجاز:
الملك يخطب بالصوارم والقنا
…
لا الكتب تخطبه ولا الأقلام
والحق يعطي للقوى ومن يكن
…
غراً فإن الفاتكين قيام
حمدي الحسيني
من رجال الفكر في تركيا:
فؤاد كوبريلي
للأستاذ عطا الله طرزي باشي
تحدثت إلى القراء في عدد مضى من الرسالة عن المفكر التركي الكبير ضياء كوك آلب وعن أثره العظيم في تنشئة جيل يفهم للقومية معنى صالحاً، ويقيم للإنسانية وزناً عادلاً.
وأعود إليهم اليوم لأحدثهم عن أحد تلامذته المعروفين في الأوساط العلمية العالية، وأعني به العلامة فؤاد كوبريلي الذي سطع نجمه في تلك الأوساط بما أسداه من خدمات جليلة في رفع شأن الأدب الشرقي؛ وإلباسه تاريخ التصوف ثوباً قشيباً من نسج الحقيقة؛ فنال بذلك استحسان الأندية الثقافية وكوفئ بشهاداتها العالية وأوسمتها البهية الغالية التي لم يفز بها أحد من علماء الترك قبله، فاستحق من جانب الحكومة التركية كل إعجاب وتقدير، حتى ضمته الأمة إلى صدرها فكان كوبريلي من بين الثلاثة الذين أسسوا الحزب الديمقراطي في تركيا وذلك سنة 1946. فهو اليوم بلا شك قطب من أقطاب السياسة الذين يديرون دفة الحكم في تركيا.
ولنضرب في هذه العاجلة صفحاً من حياته السياسية القصيرة التي لا تتجاوز العشر سنوات الأخيرة من عمره، ونجعل موضوع بحثنا يدور حول ترجمة مختصرة لحياته، ودراسة مجملة لآثاره، وأخيراً ذكر أقوال الكبار من المستشرقين والعلماء فيه.
ولد كوبريلي في سنة 1890م بمدينة الآستانة من عائلة (كوبريلي) المشهورة في التاريخ العثماني برجالاتها البارزين في السياسة والتنظيم، والمعروفين بنشر الثقافة والتعليم.
وكان هو خلال دراسته الثانوية والجامعية (حيث درس في كلية الحقوق) مثالاً للجد والنشاط فتميز بين أقرانه بذكائه الوقاد وامتاز عليهم بما كان ينشره بين حين وآخر من البحوث القيمة والمواضيع الشيقة في الأدب والتاريخ مما لفت غليه الأنظار فاهتمت به الحكومة إذ رأت أن الحاجة إليه عاجلة فعينته مدرساً في كلية دار القانون قبل أن ينال شهادة الحقوق ودون أن يتجاوز سن الثالثة والعشرين.
وقد درس كوبريلي التاريخ السياسي في المدرسة الملكية (كلية السياسة) وتاريخ المدنية في معهد الفنون الجميلة في حين أنه كان أستاذاً محاضراً في كلية الشريعة.
وفي سنة 1924عين عميداً لكلية الفنون كما عين في نفس السنة مستشاراً في وزارة المعارف.
وفي سنة 1925 اختارته أكاديميا العلوم الروسية عضواً مراسلاً لها.
وفي سنة 1927 أصبح رئيساً لجمعية التاريخ التركي وانتخب عضواً فخرياً في الجمعية العلمية المجرية وفي نفس السنة أيضاً منحته جامعة (هايد لبرغ) شهادة دكتوراة فخرية في الفلسفة. وانتخب في سنة 1929 عضواً في جمعية الشرق التشيكوسلوفاكية وعضواً في معهد (الاركيولوجي) الألماني.
وفي سنة 1937 نال شهادة دكتوراة فخرية من جامعة أثينا كما نال في سنة 1939 شهادة دكتوراة من جامعة (السوربون) الفرنسية.
وقد جمع محاضراته التي ألقاها في هذه الجامعة الأخيرة في كتاب '
ومؤلفات هذا المفكر كثيرة جداً أغلبها في اللغة والتاريخ والاجتماع والأدب. وقد أسس في تركيا مجلات علمية وأدبية مختلفة كما ساهم في تحرير عدد غير قليل من المجلات التركية والأجنبية، وكتب في أصل دائرة المعارف الإسلامية بعض مواد هامة كانت موضع إعجاب العلماء والمفكرين. فنشرت تلك الأبحاث عند صدور تلك الانسيكلوبيديا.
ومن آثاره كتاب كتبه باللغة الفرنسية، ومنها كتاب (دراسات في التاريخ الديني في الأناضول) كتبه باللغة الألمانية ونشره في سنة 1922.
وألف بالاشتراك مع الأستاذ برتولد كتاب تاريخ التمدن الإسلامي إذ كتب القسم الأول من الكتاب الأستاذ (بارثولد) فأكمله الأستاذ كوبريلي. وكتابه.
(تاريخ الأدب التركي) الصادر في سنة 1926 يعد مفخرة من مفاخر التأليف التركي، إذ هو المصدر الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في استنباط الحقائق الأدبية فهو يتميز عن سواه بغزارة المادة ورقة الأسلوب وصحة البحث والوضع المحكم، حتى قال عنه البروفيسور. أحد أعضاء أكاديمية العلوم في (فيانه): (إن الأثر الخالد يعد تاريخاً لآداب الأقوام التركية الساكنة في المناطق الممتدة بين ساحل الإدرياتيك وحدود الصين.
وإنه لا يقتصر نفعه على العلماء المشتغلين في هذا الحقل؛ بل هو دليل لكل من يروم الاطلاع على ثقافة تلك الشعوب الآسيوية عن كثب. .).
وكتابه (المتصوفون الأوائل) أحدث حين صدوره دوياً هائلاً في الأوساط العلمية وتردد صداه في كافة أنحاء العالم. فقد نشر البروفيسور هيار عضو المعهد الفرنسي بمناسبة صدور هذا الكتاب مقالاً جاء فيه: (إن هذا الثر العظيم لم يوضع ليعطي لنا معلومات جديدة صافية، وإنما هو أثر خالد يرشدنا إلى أساليب تطبيقية مبتكرة في أصول النقد الأدبي والتاريخي. . وإذا وجد من يدرسونه بإتقان - وسيكون الباحثون عنه كثيراً - لرأوه فاتحة دور عظيم. .).
وتحدث عن الكتاب نفسه الأستاذ بجامعة بودابست بقوله (حقا أن الجهود التي يبذلها الأستاذ فؤاد كوبريلي - ومن معه من تلاميذه - ستكسب تاريخ الأدب في تركيا لوناً يجعله في موضع لائق بين تواريخ الأدب للأمم الأخرى. .) وهكذا نرى أن إعجاب العلماء والمفكرين بالأستاذ كوبريلي يزداد يوم بعد يوم. وكلما أهدى إلى المكتبة الشرقية أثر ثمين وجدناه في كل مرة يسجل انتصارا باهرا في تاريخ الأدب التركي؛ فقد جعله حافلاً بصفات بارزة ممتازة، وأعطاه مزاياه البديعة التي كانت كامنة بين طيات الكتب المختفية في جوانح المكتبات.
وله أبحاث جد قيمة في تاريخ التصوف الإسلامي. وهي دراسات عميقة للطوائف والنحل والشيع الإسلامية في مختلف العصور، تبحث في آداب هذه الأقوام وتاريخها ومعتقداتها وشعارها. . .
وفي هذا يقول المؤرخ العراقي المعروف الأستاذ عباس العزاوي، وقد زار كوبريلي في سنة 1937 في استنبول:(إنه يعد من اشهر المدققين في الآداب والنحل، له تتبعات في نواح علمية لها مكانتها من الثقافة التركية. . . ولا يركن في بحوثه كلها إلا إلى نصوص تاريخية، فهو من الموفقين في ذلك، ومقالاته في دائرة المعارف الإسلامية مهمة جداً.)
وقد قضى الأستاذ كوبريلي غالب أوقاته بين الكتب، فهو مغرم بها، ولا يهوى في الحياة غير البحث والتنقيب. وتعتبر خزانة كتبه في استنبول من أعظم الخزانات في الشرق بما تصمه من أنفس الكتب المخطوطة والمطبوعة. يفتحها للزائرين. ولا يبخل بعلمه على من هو في حاجة إليه. فقد قال عنه (إن دارة الشبيهة بالبرج المطلة على بحر مرمرة تحوي كنزاً من الجواهر الفكرية. . ولم يوجد من دخل فيها وتركها دون أن يحمل بين ضلوعه
مودة وحبوراً، ويأخذ من بحر أفكاره بهجة وسروراً. . فيزود الزائر هناك من العلم والأدب ما يغنيه في مطلبه ويزجي له مقصده. . .)
ولقد أصاب بحق البروفيسور الروسي الكبير في مقال نشره عن الأستاذ فؤاد كوبريلي عندما قال: (إنه تمثال مجسم للثقافات الشرقية والغربية)
كركوك (العراق)
عطا الله ترزي باشي
فلسطين!.
. .
للآنسة فائزة عبد المجيد
يا للنداء الرهيب يجلجل في الآفاق يهز سمع الزمن! هناك هناك أيها العرب أمة لكم تفنى، وراية تطوى، ووطن يضيع، فلسطين! الله الله لها، مواقف المجد تدوس معالمها، منازل الوحي تخبو مشاعرها!
فلسطين! يا للصرخات تتعالى من أرجائك ترج جنبات الأرض وتشق كبد السماء! يا للرايات ترتفع في فضائك خافقات! يا للصوت الحق يدوي! هيا بني الوطن، هو ذا يوم التضحية قد جاء. أيتها الحرية أجمعي من القلوب، قوي السواعد، شدي الهمم أيتها الأرض! كم سرى حبك منا في القلوب يقيناً، وفي العروق دما، أيتها الأرض! لك منا الفداء. . .
أرض الشهداء! قدستك السماء، روتك الدماء. . .
أرض الأبطال! فيك طافت مواكبهم، فيك حطت رحالهم من كل قطر وواد، من كل قاسية ودانية، حملوا اللواء وساروا، حفظوا الميثاق وأجمعوا، فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء. . .
فلسطين! لمن الأكاليل تعقد؟ لمن القلوب تهتف: يا زكي الدماء تهب الحياة، وتخط الخلود. يا جلال الفداء يلقي على الكون وشاحه! إيه يا غضبة الأبي! يا صيحة الحق! أرض الشهداء! كل بقعة لهم فيك روضة، وعلى كل ربوة من جهادهم علم. .
أيها الهاتف القدسي! تردد الآفاق نداءه، يملأ الأرض سنى، يصغي له الكون، يهتف له المجد: فلسطين! لن تسقط عنك الراية، لن تدخلي في ذمة التاريخ، تلك الجحافل إليك نافرة، تهتك حجاب الشمس، أو تقطر دماً. . .
وي! فلسطين! مالها؟ تهزها النوازل، تعصف بها عصفاً! ما للسيوف مغمدة، ما للمظالم تطغى، ما للعدو يغتصب ويلتهب، ما للرايات تنكس، ما للرقاب تذل.؟!
فلسطين! أين مدنك الزاهرات؟ أين محافلك الغر؟ أين قراك العامرات؟ أين منابع الخير وملتقى الكرم؟ انفض سامرها، وغابت معالمها. وأين توارت وما آذنت بوادع؟
فلسطين! أين تلك الديار؟ أين أهلوها؟ ذهبوا وما عادوا. ديارنا! مهوى أفئدتنا! سر حياتنا
أنت! ألا سقيا لعهدك! وسلاماً لرباك. . .
فلسطين! أين أهلوك؟ كيف هامت في الأرض قوافلهم؟ أتفرقوا زمراً أم قذفتهم الأقدار في حياض الردى حيارى، أم أضحى لهم التراب وساداً، والجوع لباساً، والمذلة نعمة؟
فلسطين! ما طرقتك الأحداث وكنت لضرباتها هدفاً لتفنيك، لا، وما صهرتك الشدائد إلا لتشد منك العزائم. منبت الأبطال! ما ركزوا في رباك وجففوا عرق الكفاح إلا ليجمعوا أمرهم، ليجيبوا داعي الوطن.
فلسطين! أين شاعر المجد يوقظه من سباته ويرسله في أعماق العروبة؟ نشيد النضال له قوة الألحان في ساحات النزال، تقوى به العزمات، وترفع له الرايات، يوم النضال:
(يوم النضال كستك لون جمالها
…
حرية صبغت أدميك بالدم. .)
فلسطين! أين شاعر النصر يوحي بملحمة الجهاد في أرض الجهاد:
(يا جهاد صفق المجد له
…
لبس الغار عليه الأرجوانا. . .)
نابلس - فلسطين
فائزة عبد المجيد
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
لقاء لا ينسى مع طه حسين:
في صباح يوم الأحد 11 فبراير طالع الناس في إحدى الصحف اليومية المعارضة، هجوماً موجهاً إلى وزير المعارف وبعد ذلك بيومين كنت أتلقى اتهاماً سافراً بأنني صاحب هذا الهجوم، إن لم أكن على التحقيق قد أوحيت به. . وقلت لمن حمل إلى نبأ الاتهام نقلاً عن أفواه المسئولين: يتهمونني أنا؟ ولماذا يا صديقي؟ ترى هل تستطيع أن تنقل إلى مرة أخرى مصادر الشبهات؟ وكان رد الزميل الأديب: لأن بينك وبين الصحافة صلة عامة هي صلة القلم، وبينك وبين رئيس تحرير الصحيفة المعارضة صلة خاصة هي صلة القرابة، وبينك وبين وزير المعارف كما يقال أشياء!
كان ذلك في صباح الثلاثاء 13 فبراير، وقبل أن أعقب أو أسأل المزيد من الوضوح، أقبل رسول موفد من مكتب الوزير ليوجه إلي الحديث في كلمات: معالي الدكتور طه حسين باشا يطالبك. في تمام الساعة العاشرة والنصف! ونظر الزميل الأديب نظرة طويلة وعلى شفتيه ظل ابتسامة، معناها في لغة الصمت المعبر عن حديث الشعور: لقد بدأت المحاكمة!
وتركت حجرتي المتواضعة وفيها الزميل الأديب، وأخذت طريقي إلى الحجرة الضخمة التي ينتظرني فيها حساب وعقاب. . . وهناك تذكرت حقيقة من الحقائق لا أدري هل أوحى بها الموقف أم أوحى بها المكان: هذه الحجرة أقسم صادقاً أنني أطرق بابها لأول مرة، وأدخلها لأول مرة، وما اتجهت إليها نفسي في يوم من الأيام. . رباه! ما أعجب الذين يعرفون هذه الحجرة، يعرفونها كلما ذهب عهد وجاء عهد، وكلما مضى وزير وأقبل وزير حتى لقد حذقوا فنون التلون كما تحذقها كل حرباء!!
واستقر بي المقام في مكتب الوزير لحظات، ثم خرجت بعدها حين رأى صاحب المعالي أن يتم اللقاء في منزله، على أن يكون في الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم. وأقف قليلاً لأقص عليك قصة الألم المشبوب الذي ألهب مني الشعور وعصف بالوجدان، حين حملني الخيال على جناحه ليطلعني على مشاهد شتى وآفاق: رباه! هذا الرجل الذي لم يؤمن في حياته بقيمة من القيم كما آمن بحرية الفكر، ولم يتطلع إلى مثل من المثل كما تطلع إلى
كرامة العقل، ولم يقدس صوتاً من الأصوات كما قدس صوت القلم؛ هذا الرجل يتغير هكذا سريعاً بين الأمس واليوم، ثم يطلب إلي أن ألقاه ليحاسبني على أنني قدست ما كان يقدسه، وتطلعت غلى ما كان يتطلع غليه، وآمنت بما كان يؤمن به؟! ولماذا يحاسبني؟ ألأنه وزير المعارف وأنا موظف بوزارة المعارف؟ وهب أنني كنت كاتب هذا المقال الذي لم أكتبه، فيا له من عجب أن يكون الرجل الذي يحاسب الأحرار. . . هو طه حسين!!
وامتدت يدي إلى القلم في عنف ثائر، ومضت تخط على ورقة بيضاء سطوراً أملتها الكرامة. . وطويت استقالتي لأقدمها لوزير المعارف في الموعد المرتقب، ولأقول له إذا ما لقيني بوجه عابس أو بصوت غاضب أو بثورة عاصفة: لا يا سيدي! هذه هي استقالتي بين يديك، واستقبلني بعد ذلك بوجه الأديب الكبير لا بوجه الوزير، أو بلسان المضيف السمح والرجل الكريم. . . يفتح بابه وقلبه لضيف عابر إن طرق الأبواب فهو لا يقيم!!
أشهد لقد كانت هذه هي خواطري التي تملأ آفاق النفس والحس قبل أن أبرح بيتي لأذهب إلى بيته، وأن هذه الخواطر قد صحبتني وأنا أقطع الطريق وأحث الخطى إلى هناك، إلى حيث ينتظرني حساب وعقاب. . . لقد كان يجلس وحده في حجرة المكتبة، وحين تجاوزت الباب وألقيت بتحية المساء، نهض طه حسين واقفاً ليصافحني بحرارة، حتى لقد هبت علي روح من الماضي البعيد نسمات. . وجلس وجلست، وأحضرت القهوة فشرب وشربت، وأخرج علبة سجائره ليقدم إلي واحدة تتبدد في الهواء دخانها وتتبدد معه الظنون!
وبعد عبارة ترحيب نبيلة أعقبتها مني كلمة شكر، بدأ طه حسين الحديث:(لقد قرأت لك منذ قريب مقالاً في (الرسالة) آلمني كل الألم، حتى لقد بعثت في طلبك لأعبر لك عن أسفي. . . ومصدر الأسف أنني كنت السبب المباشر أو غير المباشر في أن حرية الفكر قد صودرت، يوم أن خطر لك أن تهاجمني فحيل بينك وبين هذا الهجوم! لقد كان مقالك الذي عنيتني به تحت هذا العنوان:(مشكلتي مع الأستاذ الزيات). . . وقد فهمت أنني الوزير المقصود بتلك الكلمة، لأنك كنت تقول للقراء إن صديقك الزيات قد حذف مقالك، لأنه كان هجوماً عنيفاً على أحد الوزراء. وكنت تقول لهم أيضاً إن الزيات يشفق عليك من حماسة الشباب وفورة الشباب، وما يتبعهما من عنف القلم وجيشان العاطفة، ولهذا فقد حال بينك وبين حرية الرأي حرصاً منه على مستقبلك. وكنت تقول لهم مرة ثالثة إنك كاتب تعودت
أن تكون صريحاً وشجاعاً لا تهمك العواقب بقدر ما يهمك أن تعبر صادقاً عما في نفسك، وإن الزيات بمثل هذا الإشفاق سيجني عليك من حيث لا تدري ولا يريد، لأنه سيدفعك آخر الأمر إلى أن تتحرر من أسر الوظيفة، وحينئذ تستطيع أن تقول عن الوزراء ما تشاء. . . أليس كذلك؟ اسمع يا أستاذ: إن طه حسين الذي وهب قلمه قرباناً لحرية الفكر يعز عليه أن تصادر من أجله حرية الفكر! قل للزيات إنني عاتب وغاضب لأن طه حسين قد طبع على أن يحب للناس ما يحب لنفسه: يحب لهم الكرامة، ويحب لهم الشجاعة، ويحب لهم الحرية، وإنه ليسعده أن يهاجمه الناس بمثل هذه الأسلحة ما دام رائدهم الحق وقائدهم الضمير. . . أيظن صديقي الزيات أنك حين تهاجمني ثم يسمح بنشر هذا الهجوم على صفحات (الرسالة)، أيظن أن ذلك سيفيد ما بيني وبينه من أسباب الود وروابط الوفاء؟ كلا! إن شيئاً من هذا لا يمكن أن يكون. . . لأنني واثق كل الثقة من أنك لست كغيرك من الناس، أولئك الذين لا يرجعون إلى ضمائرهم فيما يكتبون! هذه كلمات أود أن تنقلها إلى الأستاذ الزيات، إذا ما كان هدفه الأول من وراء حذف كلمتك هو إرضاء طه حسين. . . أما إذا كان يشفق عليك حقاً لأنك موظف في الدولة أو موظف في وزارة المعارف بالذات، فإن وزير المعارف يأذن لك في أن تهاجمه كما تشاء وبأي أسلوب تحب! لن أقول لك لا تخف لأنني أعرف أنك لا تخاف، ولو كنت من الذين يخافون لما احترمتك. . . لن أقول لك هذا، وإنما الذي أريد أن أقوله هو أن طه حسين لا يضيق أبداً بحرية الرأي، سواء أكانت هذه الحرية موجهة إلى نقد أعماله كأديب أو نقد أعماله كوزير، لأنه يزد على كونه إنساناً يخطئ ويصيب)!
هذا هو طه حسين كما رأيته على حقيقته. . . جئت إليه ليحاسبني فإذا هو يحاسب نفسه!! أشهد لقد هزتني كلماته هزاً عنيفاً، وما تعودت أن يهزني شيء كما تهزني تلك الواقف النادرة، هنالك حيث تتجرد النفوس من أكثر أثوابها لا يبقى لها غير ثوب واحد. . . هو ثوب الإنسانية! لقد كان طه حسين في تلك اللحظة، يرسم على لوحة الشعور صورة فريدة لم يرسمها من قبله إنسان. ولا فنان! أهذا هو الرجل الذي صحبت الظنون حين تصورته، فظلمت نفسيي ظلمته؟ يا عجباً! لقد كان الرجل العظيم النبيل بريئاً مما تخيل أنه منسوب إليه، ومع ذلك فقد دفعه الضمير الحر اليقظ إلى أن يدفع عن نفسه كل شبهة، حين يكون
الأمر متعلقاً بحرية غيره من أصحاب الآراء والأقلام. . . وقلت له وأنا مأخوذ بنبله ومفتون بإنسانيته:
(أود أن أقول لك يا سيدي إنني عاجز عن شكرك، وأعتذر إليك من هذا الذي تبادر إلى ذهنك، لأن المقصود بذلك الهجوم كان وزيراً آخر غير طه حسين، وتلك حقيقة يعرفها الأستاذ الزيات)!
وعقب الرجل العظيم النبيل في تواضع جميل: (إذا كانت هذه هي الحقيقة فإني أكون قد أزعجتك. . ومرة أخرى أعبر لك عن أسفي)!
وقلت له وقد تكشف لي من أمره ما لم أكن أعرف: (يا سيدي عفواً. . وإذا كان إزعاجك لي معناه أنني سأعرفك على حقيقتك ثم أتحدث عن هذا الذي عرفت إلى الناس، فأرجو أن تزعجني كل يوم. . . وما دمت تؤمن بحرية الرأي لغيرك كما نؤمن بها لنفسك، فأود أن أفضى به إليك هنا ثم أتحدث به إلى الناس عامة هناك، أعني على صفحات (الرسالة). ولكني أخشى أن يعترض الزيات طريقي غداً كما اعترض طريقي بالأمس، لأن هذا الرجل من أحفظ الناس لود الأصدقاء وفي مقدمتهم طه حسين! ولا أقصد بالطبع أنه حال بيني وبينك في ذلك الموقف الذي حدث منذ قريب، ولكنه فعل ذلك في موقف آخر بالأمس البعيد، حتى لقد انقطعت عن (الرسالة) شهرين عدت بعدهما إلى الكتابة خضوعاً لرغبة الأصدقاء. . . وهل لي بأن أوجه إليك شيئاً من النقد في ناحية خاصة، كانت ولا تزال مثار ألم عميق، عند من يضعون ثقتهم فيك؟!
واعتدل الرجل العظيم النبيل، واقبل علي بوجهه السمح وخاطبني بصوته الحبيب:(قل ما تشاء يا أستاذ، وقل عني لقراء (الرسالة) ما تريد، وانقل إلى الزيات ما سبق أن أشرت إليه، أنني سأكون عاتباً غاضباً إذا اعترض طريق رأي من آرائك في طه حسين، وحال بينه وبين أن يبلغ منافذ الأسماع. . صدقني أن كثرة شواغلي لا تتيح لي أن أقرأ الكثير من الإنتاج الأدبي ولا أن أتابع الكثير من الكتاب، ومع ذلك فأنت واحد من هذه القلة التي أحرص على أن أقرأ لها في كل حين)!
وقلت وقد غلبني التأثر بعد الثناء المضمخ من سمو الخلق بأزكى عبير: (إذا كان هناك شيء أعتز به فهو كريم تقديرك. . وإذا كان هناك أمر أود أن أطالعك به فهو أن أقول لك:
لقد فعلت الكثير من أجل التعليم والمعلمين، ولكنك لم تفعل إلا القليل من أجل الأدب والأدباء)!
وارتسمت على وجهه مظاهر الاهتمام، وعبرت قسماته عن سؤال ينتظر الجواب ثم قال:(أما عن التعليم فأنت مغال فيما نسبته إلي من جهد في سبيله! ماذا فعلت من أجل التعليم؟ إنها خطوة قصيرة المدى محدودة الأثر أرجو أن تعقبها خطوات. . . وأما عن الأدب وأهله، فأود أن تقدم إلي بعض الأمثلة تأييداً لاتهامك! هل أننا مقصر حقاً في هذه الناحية؟ وماذا ينتظر مني الأدب وماذا يطلب الأدباء)؟
وأجبت وأنا من تواضعه الجم في حيرة تقترن الإعجاب: (لا يا سيدي! إذا كان التواضع سيفرض عليك أن تظلم نفسك وأن تنكر جهدك فأن التاريخ سينصفك بلا جدال، وأعتقد أن الرأي العام قد بلغ من النضج والوعي ما يهيئ له أن ينظر غلى أعمالك نظرة عادلة، مهما حاولت أنت تخفي وراء حجب شتى من التواضع وإنكار الذات. أما إذا كنت ترغب في أن أقدم إليك بعض الأمثلة على أنك لم ترع الأدب ولم تذكر حقوق الأدباء، فلا بأس من أن أتحدث هنا باختصار على أن يكون الحديث المفصل على صفحات الرسالة)!
وعندما قدمت إليه بعض الأمثلة هتف الرجل العظيم النبيل في نبرات صادقة: (إنني أوافقك. . وأكون شاكراً لو تناولت قلمك وكتبت في هذا الموضوع مهاجماً طه حسين، لأن مثل هذا الهجوم سيساعدني كثيراً في مجلس الوزراء، يوم أن أستشهد بما كتب في (الرسالة) على أن للرأي العام الفني مطالب يجب أن تنال! أما التاريخ الذي تقول أنه سينصفني في الغد القريب أو الغد البعيد، فصدقني إذا قلت لك إنني ما اتجهت غليه يوماً بتفكيري كلما قدمت غلى الناس عملاً من الأعمال. . . حسبي أن أتجه إلى نفسي وحدها وإلى ضميري وحده، حتى يستريح كل منهما وأستريح)!!
وقلت له بعد أن تطرق الحديث غلى موضوع آخر أمسك القلم مؤقتاً عن الإشارة إليه، قلت له بعد ذلك وقبل أن أودعه شاكراً له هذا اللقاء الذي لن أنساه:(هل تعلم يا سيدي أن ما حدث في هذا اللقاء كان بالنسبة إلي مفاجأة كاملة؟ لقد حضرت إليك وليس في ذهني غير خاطر واحد، هو أنك ستحاسبني على ذلك المقال الذي ظهر في تلك الصحيفة المعارضة، فإذا أنت تحدثني عن شيء آخر لم يخطر لي على بال، وأعني به مقال (الرسالة). . . لقد
كنت أتوقع أن يدور كل الحديث حول ذلك المقال، لأن بعض المسئولين في الوزارة قد اتهموني بكتابته، إن لم أكن في رأيهم قد أوحيت به)!
ويا لها من ابتسامة رقيقة عذبة تلك التي داعبت شفتيه، ثم غمرت بضيائها الباهر آفاق الشعور حين قال:(أوه. . ذلك المقال الذي منذ يومين؟ لا ضير أبداً من أن يكون كاتبه هو أنت، ولا ضير من أي هجوم يوجه إلى وزير المعارف، ما دام رائده الحق كما قلت لك وقائده الضمير)!!
ونهض الرجل العظيم النبيل واقفاً ليودعني في حرارة، حتى لقد هبت على الروح من الماضي البعيد نسمات. . . رباه إن المنصب الخطير لم يغير من خلق طه حسين، وإن الصورة الحبيبة التي عرفتها بالأمس. لم تنل من بهائها الأيام!!
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
طه حسين الوزير يتحكم في طه حسين المؤلف:
(كان شعاري منذ ولية وزارة المعارف ألا تشتري الوزارة كتبي حتى أخرج منها، وتقدمت في ذلك إلى أعواني فأنكروه ولكنهم أذعنوا له. حتى إذا سافرت إلى أوربا في إبريل الماضي وناب عني في الوزارة زميلي معالي عبد الفتاح الطويل باشا اشترت الوزارة بعض النسخ من طائفة من كتبي لمكتبات المدارس وأعدت قراراً بشراء كتابي (الوعد الحق) و (رحلة الربيع) ليوزعا على التلاميذ، فلما رجعت من أوربا أثناء الصيف عرفت ذلك فغضبت منه أشد الغضب. وكانت إجراءات كتابي (الوعد الحق) و (رحلة الربيع) لم تتم، فأمرت بوقفها وألغيت قرار الزميل عبد الفتاح باشا. أما صفقة الكتب التي اشتريت للمكتبات فكانت قد تمت، ولم أجد غلى إلغائها سبيلاً إلا أن أرد ثمنها إلى الوزارة وأعتبرها تبرعاً مني للمكتبات. وأقسم لو ملكت ثمنها ما ترددت في ذلك؛ ولكني أعيش بمرتبي راضياً بما قسم الله لي، وأقسم لو كان لي في ثمن هذه الكتب نصيب ما ترددت في اقتراضه ورده إلى الوزارة، ولكني أبيع حقوق الطبع للناشر وأقبض ثمنها مقدماً، وأترك الناشر يوزع كتبه كما يشاء أو كما يستطيع. وإن آسف لشيء لأن عملي في الوزارة يمنعني من تأليف الكتب وبيع حقي فيها مقدماً للناشرين. ومع ذلك كله فما أظن أن وجود هذه الكتب في المكتبات في متناول المدرسين والطلاب، يضر أولئك أو هؤلاء، أو لا ينفعهم).
ذلك جزء من حديث معالي الدكتور طه حسين باشا الذي أفضى به إلى الأستاذ كامل الشناوي فنشرته (الأهرام) يوم الأحد الماضي، وهو يلخص لنا القصة التي أثيرت حولها عجاجات ملونة بالحزبية السياسية، ولهذا أتجنب الخوض فيها. إنما يعنيني هنا الظلم الصارخ الذي يصبه الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف على مؤلف الأيام وعلى هامش السيرة وذكرى أبي العلاء وحديث الأربعاء والوعد الحق و. . . الخ. بل أقول إن هذا الظلم لا يقف عند ذلك المؤلف، بل يمتد إلى آلاف الناشئين في المدارس إذ يحرمهم تلك الوجبات العقلية وما تحتويه من فيتامينات الأدب والفن.
لقد أجمع الناس على أن كتب طه حسين من خير ما يقرأ وأنفس ما يقدم للتلاميذ وأنفعه، وتوالت كتابات الكتاب في هذه الحقيقة منذ ذلك الصيف الذي أصدر فيه معالي الدكتور طه حسين قراره بوقف شراء كتبه. وأقول (أجمع الناس) ولا أستثني من كتب معارضاً، فقد لاحظت أن المعارضة قصرت أمر الاعتراض - من حيث مؤلفات معاليه - على الشكل دون الموضوع، أعني أنها قالت في ذلك إن وزير المعارف اصدر قراراً بعدم شراء كتبه ثم اشترت الوزارة كتبه. وقد جاء في حديث معاليه أن صفقة الكتب التي اشتريت كانت قد تمت قبل ذلك القرار. وبهذا لم يبق للاعتراض محل. ولكن المعارضة نفسها لم تعترض ولم يكن ينبغي لها أن تعترض علة مجرد الشراء.
ولم يكن ينبغي ولا ينبغي لأي كان ممن ولوا أمر تقدير كتب المطالعة الإضافية أن يغفل كتب طه حسين لمكانة هذا المؤلف - المسلم بها من الجميع - في عالم الفكر والأدب في هذا العصر.
ذلك إجماع الناس - يا معالي الباشا - على تقدير ذلك المؤلف والاعتراف بنفع كتبه، فبأي حق تظلمه. . وبأي حق تمنع حق إشراقه على عقول التلاميذ؟ ألأنك وزير؟ لا، فأنت وزير ديمقراطي، وهذا حكم الرأي العام. . . لو كنت عضواً في البرلمان لاقترحت على المجلس أن يقرر تلك الكتب أو يعتبر تقريرها رغبة برلمانية ويبعث بها إلى وزارة المعارف للعمل على تحقيقها ولو عارض معالي الوزير. . .
مناقشة في (الموقف الدولي في آسيا)
افتتح قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة الماضي سلسلة للبحث والمناقشة موضوعها (مصر بين الشرق والغرب) وكان الموضوع الأول في هذه السلسلة (الموقف الدولي في آسيا) وقد تألف رواق المناقشة من الأساتذة والدكاترة محمود عزمي ومحمد زكي عبد القادر وفؤاد صروف وسليمان حزين بك وحسين كامل سليم بك.
بدأت المناقشة بتحديد آسيا، فاشتد الخلاف في هذا التحديد بين الدكتور عزمي والدكتور حزين، إذ حدها الأول بالحدود الجغرافية المشهورة ورأى أن يخرج من موضوع البحث البلاد العربية لارتباطها بمصر، وهذه في إفريقية. فانبرى الدكتور حزين بك يقول إن الرأي الحديث في تحديد آسيا يجعلها تشمل شمال إفريقية ويعتبر أوربا شبه جزيرة من
آسيا، وتسمى هذه القارة الكبيرة (أورفراسيا) وعزز ذلك ببيان وجه الشبه في الموقف السياسي في كوريا وفي أوربا ففي كوريا الشيوعية شمالاً والديمقراطية جنوباً، وكذلك في أوربا الشرقية.
ونشب الخلاف مرة ثانية بين الأستاذ زكي عبد القادر والدكتور سليمان حزين بك، عندما قال الأول إن آسيا ليست إلا مسرحاً لسياسة الأمم الغربية فهي تتكون من أمم ضعيفة تتنازع النفوذ فيها دول الغرب القوية، فقال الدكتور حزين: إن في آسيا حيوية كامنة، وقد برزت قوتها في الصين، وفي صراع إندونيسيا لهولندا، والقارة تتكون من نحو نصف سكان العالم وتسودها الآن اليقظة الوطنية. قال الأستاذ زكي: نحن نتكلم عن الحاضر لا عن المستقبل. فقال الدكتور حزين: إن الحاضر يدل على مستقبل قريب.
وفي خلاف ثالث اشتبك الدكتور محمود عزمي وحسين كامل سليم بك، إذ رأى الأول أن زحف كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية ليس اعتداء وإنما هو التجاء إلى العنف لتحقيق غرض سياسي هو توحيد البلاد وإخراج المحتلين منها، وبين الفرق بين العدوان والالتجاء إلى العنف وضرب مثلاً لذلك مصر والسودان مفترضاً أن مصر رأت أو استطاعت أن ترسل جيشها إلى الخرطوم لتحقيق وحدة الوادي. . . وهنا دوت القاعة بتصفيق الحاضرين. ثم تحدث حسين كامل سليم ذاهباً إلى وصف ذلك الزحف بأنه عدوان، وقال إن كوريا تعتبر خط دفاع للديمقراطية في آسيا أمام الشيوعية، وتدخل في هذا الدكتور سليمان الحزين فأيد الدكتور عزمي في أنه من حق الشعب الكوري أن يعمل على توحيد جزئيه، ثم قال إن الذي حدث أن المصلحة الوطنية الكورية ضحى بها في سبيل التنافس بين الكتلتين الغربية والشرقية، وقد نجحت روسيا في خطتها العسكرية إذ استدرجت الغرب إلى هذه الحرب التي جشمته خسائر فادحة على حين لم تخسر روسيا جندياً واحداً، ولذلك كان من الخير للغرب ألا يتدخل.
وتناول الرواق بالمناقشة مسألة انتشار الشيوعية في آسيا، وعزوا ذلك إلى متاخمة روسيا للقارة وسوء حال المعيشة وفساد الحكم في البلاد الآسيوية التي انتشرت فيها الشيوعية. ولخص الأستاذ صروف الملاحظات التي اتفق عليها الجميع في ثلاثة أمور:(1) يقظة الآسيويين وثورتهم على الاستعمار وعلى النظم القائمة في بلادهم. (2) انحسار النفوذ
الأوربي عن أكثر البلاد الآسيوية. (3) انتشار الشيوعية.
واختتم الأستاذ زكي عبد القادر المناقشة قائلاً: قد تصبح دول آسيا هي المسيطرة على العالم ولكنها الآن مسرح للنزاع بين الكتلتين، وقد شاعت فيها الشيوعية ونشأت بها دولة شيوعية قوية، ولكن كيف يكون المصير؟ هل تستبدل هذه الشعوب سيداً بسيد أو تكون لها قوتها الذاتية؟ وهل تظل نظم الصين مطابقة لنظم روسيا أو تصبح أفكارها مغايرة؟ يتوقف جواب ذلك كله على سير الأمور في العالم وعلى مدى اليقظة في الأمم الآسيوية.
حول محاضرة الدكتور ناجي:
. . . وبعد، فقد كنت أو أود أن أسبق الأديب (أسامة) في الرد على ما عقبت به حول محاضرة (الدكتور إبراهيم ناجي) ولكن شواغل حياتي الخاصة التي لا شك أنك عرفت طرفاً غير يسير منها - وفضل ذلك راجع إلى أخينا الأستاذ المعداوي - صرفتني عن الكتابة إليك في حينه. والآن وبعد أن هدأت العاصفة واستقر كل شيء يسرني أن أرسل كلمة عتاب هادئة لشاعر (ليالي القاهرة) الذي تجنى كثيراً على الرسالة وشعرائها. وهي تهمة أعيذ كبار كتاب مصر الشيوخ منها.
لماذا يريد الدكتور ناجي أن تتخلص الرسالة من الشعراء الذين تنشر لهم منذ سنوات؟ الأجل أن يحتكرها هو؟ أم أن هناك سبباً لا يدركه إلا هو والراسخون في علم الطب؟! وبأي حق يلقب هؤلاء الشاعرين بـ (التافهين) هل هو اشعر منهم أم هو أعلم أهل زمانه بقواعد اللغة؟
صدقني يا سيدي أنني كلما راجعت العدد الذي عقبت فيه على محاضرته عجبت من سكوت الشعراء على هذا التجني الشنيع والوقف الذي وقفه الدكتور من زملائه وفيهم من هو أعلم بأسرار البلاغة. وخصوصاً حين أرجع إلى ذاكرتي فأردد بيني وبين نفسي قوله:
(أجرجر) وحدتي في كل حشد
…
وأحمل غربتي في كل جمع
وأقول: مرحى مرحى يا دكتور، من قال لك إن لفظة (أجرجر) تستعمل بمعنى (أجر) وفي أي قاموس وجدتها وأنت قد بلغت الآن الستين من عمرك المديد.
تصور يا صاحب (الأدب والفن في أسبوع) حال شاعر لا يعرف كيف تستعمل الكلمات في محلها، وقل لي بحق العلم والفن والأدب هل يجوز له نعت إخوان بـ (التافهين).
لقد كنت في (باريس) إبان أخرجت المطابع المصرية ديوان الدكتور وعند مروري بالإسكندرية وبيروت ودمشق لم أحصل على نسخة منه، وفي بغداد أكد لي أصحاب المكاتب أنه لم يرد حتى الآن لأقرأه وأعيه حقه من النقد. فهل يتكرم أصدقائي في القاهرة بإهدائي نسخة من (ليالي القاهرة) فأكون لهم من الشاكرين وأحبذ لو يتفضل الدكتور إبراهيم ناجي فيحمل عنهم هذا العبء. .
وختاماً يا صديقي الأستاذ عباس أود أن أحيل إليك هذا السؤال لترد أو تعقب أنت بدلاً من صديقك الدكتور فأقول سائلاً ومعاتباً:
من هم الشعراء التافهون الذين يعنيهم الشاعر ناجي؟ أهم كانوا من العراق، أم من سوريا ولبنان، أم من مصر والسودان؟ إن كانوا من العراق وأنا منهم طبعاً فهل لك أن تبين لنا عيوبنا لنتجنبها في المستقبل القريب؟! هذه جناية كبرى لا تغتفر للدكتور ناجي آمل أن تداركوها عسى أن تخفف ما علق بنفوسنا من أشجان.
واسلم لأخيك
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري
عندما علقت على محاضرة الدكتور إبراهيم ناجي (الشعر العربي المعاصر) لم أقصد إلى انتقاص قدره ومكانته في عالم الشعر، إنما لاحظت أنه أراد أن يخلي المكان ويمسح كل من يشغله ليجلس فيه وحده، وقد أشفقت عليه لأنه يجشم نفسه هذا العناء وهو يستطيع أن يأخذ مكانه - وهو آخذه بالفعل - مستريحاً فسيحاً.
والذي ألحظه في رسالة الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري - ويسرني أن حالته قد استقرت - أنه قد غضب من وصف الدكتور ناجي شعراء الرسالة بأنهم تافهون، لأنه منهم، وهو يعجب من سكوت بقية الشعراء. . ولكني أرى الأمر أتفه من أن يثير هذا الغضب، فقد رويت ذلك الوصف وأنا أعتقد أنه يحمل في تضاعيفه السخرية به. . فالرسالة تنشر لشعراء معروفين وغير معروفين مقدرة ما تنشره، وليس قول أحد بضائره. . . فالناس تعرف ما ينكره. . .
وقد نقدت محاضرة الدكتور ناجي، ولم أتعرض لشعره، وأقول الآن إن ما يقوله يعجبني، ومنه هذا البيت الذي أورده الأستاذ الناصري في رسالته:
أجرجر وحدتي في كل حشد
…
وأحمل غربتي في كل جمع
فأنا أشاركه هذا الإحساس، وأراه موفقاً في التعبير عنه، هذا الشاعر الذي يعيش وحيداً وغريباً بين الناس لأنه يحيا بمشاعره في عالم غير عالمهم - جدير بالأنس إليه - وهو لا يترك تلك المشاعر عندما ينتقل إلى الناس بل ينقلها معه فتجر عليه الوحدة والغربة. أما (أجرجر) فلا أرى بها بأساً، بل أرى فيها بلاغة؛ فالجرجرة - كما نفهم من الأمثلة الواردة فيها - التحريك مع الصوت وهو نفس المعنى الذي يستعمل في العامية، واستعمال الفعل (أجرجر) في البيت، فيه تجسيم للوحدة إذ يشبه بالجسم الثقيل الذي يحدث جره صوتاً مزعجاً، وهذا يلائم المعنى، إذ يزيد الإحساس بالوحدة ضيقاً وثقلاً.
وتحياتي وأطيب تمنياتي للأستاذ الناصري، وأرجو ألا يضن عليه الدكتور ناجي بنسخة من (ليالي القاهرة)
عباس خضر
الكتب
معركة الإسلام والرأسمالية
تأليف الأستاذ سيد قطب
للأستاذ إبراهيم الوائلي
إن النكسة التي أصابت الإسلام في تطبيق نظمه على منهجها الصحيح ترجع إلى اكثر من ثلاثمائة وألف سنة. أي: منذ تحول الحكم المقيد بالشورى إلى ملك مطلق يورث كما تورث القصور والبساتين والأموال، وقد بعدت الشقة بين النظم الإسلامية وبين تطبيقها يوم أن تساقط على رقاب المسلمين عناصر لا تعرف من الحياة غير البذخ والملذات والشهوات، وتعقدت المشكلة أكثر من ذلك يوم أريد لهذا الدين الواضح السهل أن تنصب فيه تيارات غريبة عنه من التقاليد والعادات التي لا عهد للمسلمين بها. وفي بداية النكسة قام أبو ذر يبث الدعوة للإسلام الاشتراكي حتى تحمل الأذى في سبيل مبادئه. ولم تكن دعوته إلا صدى للدعوة الأولى عند انبثاق الفجر، واستجابة للحد من تلك الطفرة البعيدة التي مني بها الإسلام في مرحلته الأولى حتى أفلت الزمام في المراحل التي بعدها.
ولا نغالي إذا قلنا: إن تلك القصور على الغوطتين أيام الأمويين، وفي بغداد وسامراء أيام العباسيين، وعلى البسفور والدردنيل أيام العثمانيين، لم تكن إلا من الأمثلة السيئة في تاريخ الإسلام الصحيح. أما في عرف التبجح والأرستقراطية فهي رمز للمكانة الكبرى التي كان يتمتع بها أولئك الخلفاء كما يسميهم التاريخ!!. نعم: التاريخ العاطفي المقلوب. . . خذ مثلاً من أمثلة هذا التاريخ المقلوب عن حاكم عباسي عربيد يهب في إحدى لياليه للخمار ألف دينار ولزوجة الخمار مثلها، ولكل واحدة من بناته خمسمائة، ويطلب من شاعره أن يصف هذه الليلة فيقول الشاعر:
يا حانة الشط قد أكرمت مثوانا
…
عودي بيوم سرور كالذي كانا
لا تحرمينا دعابات الإمام ولا
…
طيب البطالة إسراراً وإعلانا
هذا الحاكم السكير الواهب يسميه التاريخ خليفة للمسلمين ويسميه الشاعر (إماماً): وما أبعد هذا عن الخليفة القائل:
وحسبك عاراً أن تبيت ببطنة
…
وحولك أكباد تن إلى القد
أتعلم من ذلك (الخليفة الإمام)؟ إنه الواثق العباسي، أما الثاني فهو علي بن أبي طالب، وليس تاريخ المسلمين غير (علي) واحد يحمي الحديدة لأخيه عقيل من أجل حفنة من الشعير اقتصدها من قوته اليومي، ولكن كم في تاريخ المسلمين من (واثق) مسرف سكير! إن أمثال هذا هم الذين أشاعوا التفسخ في دنيا الإسلام، وها نحن أولاء نقاسي تبعات هذا التفسخ في عصرنا الحاضر، الذي لم يرث عن عصر علي وعمر أي شيء، كما أنه لم يرث عن الأمويين قوتهم وفتوحاتهم ولا عن العباسيين علومهم وآدابهم، وإنما ورث عن هؤلاء وأولئك البذخ والترف والقصور والأقطاع، كما ورث عن العثمانيين والمماليك كل ما اتصفوا به من الاستبداد المطلق والجشع الماحق، والرشوة والنهب والسلب وبيع الوظائف في سوق (المزاد) السري وإغداقها على الأنصار والذيول. ورث عنهم هذه الفروق الشاسعة بين طبقات الناس، فإلى جانب القصور المحلقة بأجنحتها تعشعش الهياكل الآدمية في أكواخ وبيوت كأنها القبور ليس فيها إلا الدود والعظام. وإلى جانب الأكراش المترهلة بألوان الطعام بطون وبطون تنطوي على الجوع والحرمان. وإلى جانب الأكتاف والنحور المثقلة بالفرو والسنجاب والماس والجواهر أجساد عارية لا تجد الكساء. وإلى جانب الإقطاعيات المترامية مشردون لا يجدون مفحص قطاة. وإلى جانب الحكام والمتنفذين محكومون يلوذون بالصمت حيناً وبالتذمر حيناً آخر، وكلا الحالين أحلاهما مر؛ ففي الأول جوع، وحرمان وفي الثاني سجن وتعذيب، وإلى جانب الاستعمار المستشري شعوب ذليلة خاضعة تأتيها الصفعة من كل جانب،!! هذا هو التفسخ السياسي والاجتماعي في البلاد العربي والإسلامية يصوره لنا الأستاذ الكبير سيد قطب في كتابه الجديد (معركة الإسلام والرأسمالية) ففي هذا الكتاب دعوة صارخة إلى الحق والكف عن الفوضى التي دهورت المجتمع العربي الإسلامي وجعلت منه ميداناً فسيحاً لعبث العابثين وألعوبة بين المستعمرين حتى تساوى معلموه وجهاله في ضعف الذاتية وتبلد الفكر والتواء الطريق وسخف الهدف والاتجاه. وكثيراً ما نسمع في هذه الأيام من الكلمات الفارغة هنا وهناك في الإصلاح والتكتل الإسلامي وما شابه ورادف. . كلمات لا تجدي شيئاً لأن قائليها عبيد مأجورون قد انعدمت ذاتيتهم وضؤلت نفوسهم. أما الأستاذ قطب فليس من أولئك لأنه ليس
بسياسي (مأجور) ولا معمماً يتجر بالدين، وإنما هو واحد من أحرار الفكر والضمير.
ومن الخير أن أسوق بعض الأمثلة من هذا الكتاب الذي بين أيدينا. قال الأستاذ قطب في ص7:
(إن الإسلام ليصرخ في وجه الظلم الاجتماعي والاسترقاق الإقطاعي وسوء الجزاء، وإنه ليمد المكافحين لهذه الأوضاع القائمة. وما من إثم أكبر من إثم الذين يدينون بالإسلام ثم يقبلون مثل هذه الأوضاع أو يبررونها باسم الإسلام، والإسلام من مثلها براء).
ويتحدث عن الكتلة الإسلامية فيقول في ص33:
(في هذا العالم رقعة فسيحة متصلة الحدود من شواطئ الأطلنطي إلى جوانب الباسفيكي تضم أكثر من مائتي مليون من الناس يشتركون في عقيدة واحدة ونظام معيشي واحد، وتقاليد متقاربة ولغة إن لا تكن واحدة فهي في طريقها لأن تصبح لغة التفاهم للجميع. . . فأي عقل يمكن أن يغفل هذه الكتابة الضخمة من الحساب؟).
وفي ص38 يتحدث عن العالم العربي وموقفه من النزاع الدولي فيقول:
(إن هذا العالم العربي الممزق في برثن الاستعمار الغربي ليستحق اللعنة والاحتقار إذا مد يده الذليلة ليسند الغرب الفاجر في بأسائه مرة أخرى).
قد يقال: إن الأستاذ قطب يدعو إلى فكرة رجعية تحرمنا (لذه) الاتصال بالغرب ولكن الشأن غير ذلك فهو يقول في ص35و36:
(نحن لا ندعو إلى عزلة فكرية أو اجتماعية عن ركب الإنسانية المندفع فنحن شركاء في القافلة، شركاء في الحضارة البشرية. . . ولكننا ننعى هذا التسول الدائم الذي نزاوله وهذا الاستجداء المزري الذي نحن عاكفون عليه. . . وما دمنا نستجدي دائماً ولا نعطي شيئاً فنحن على مائدة الإنسانية في موضع الشحاذ المتسول لا في موضع الواهب الكريم).
هذه بعض الأمثلة من هذا الكتاب؛ وكله على مثل هذا النسج وقد كتب بأسلوب مؤثر تمكن في طياته حرارة القلب المؤمن بوطنه ودينه وأمته، ونضج المفكر الحر الذي يشعر بكرامته وكرامة جنسه، وصدق الداعي الذي يؤمن برسالته أحر الإيمان. ولعل هذا الوصف الشامل الدقيق للحالة الاجتماعية والسياسية يعود ويكون مقدمة لما في الكتاب من استيحاء للنظم الإسلامية في مختلف نواحي الحياة، وقد عالج الأستاذ قطب هذه النظم بدقة وطبقها
من الوجه النظرية على شؤون المجتمع.
هناك كلمة أقولها للصديق الكبير على صفحات الرسالة ولعلي قلتها له في معارض الحديث أكثر من مرة: إن هذه الدعوة التي يدعو إليها حق لا مراء فيه ولكن أين هي القوة المنفذة التي تستطيع أن تطبق الأحكام والنظم الإسلامية بدقة. وهل باستطاعتنا أن نخرج من الحدود النظرية إلى العملية في وقت تتولى السلطة فيه طبقات تحارب الإسلام لأنه يحاربها. . .؟ وهل بإمكاننا أن نقيم صرحاً متيناً على دعائم متآكلة وجدران متداعية؟ إن لحظة من الزمن وكلمة من لسان لا تستطيعان استخلاص الإسلام من الشوائب التي علقت به طيلة ثلاثة عشر قرناً، ولكن بعد أن تنقي التربة وتصفي المياه يمكن أن نعيد غرس هذه الشجرة من جديد وأن ننعم بظلها وثمرها.
ولعلي أتجنى على الأستاذ قطب بهذه الكلمة لأنه لم يغفل هذه الناحية التي تعترض طريق التطبيق بل ألح عليها كثيراً واستعرضها استعراضاً شاملاً وأهاب بالشعوب الخاضعة والجماهير المغلوبة أن تعيد غلى نفسها حقاً فرضه الدين وجحده المسلطون.
وبعد فقد قرأت للأستاذ قطب في معظم كتبه التي تفضل بها علي ورافقته في الكثير من إنتاجه؛ ولكني أحسست بعنف الهزة حين قرأت هذا الكتاب الجديد لأنه منطق الشعور العام لا منطق الأذناب والعبيد. . .
هذه كلمة لا أظنها تكفي لتسجيل ما في هذا الكتاب من قوة وتفكير وصدق وإيمان.
إبراهيم الوائلي
البريد الأدبي
إلى الأستاذ محمد محمود زيتون
ورد في مقالكم جامعة الزهراء المنشور في مجلة الرسالة الغراء عدد 919 - 12 فبراير حديث. خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء. . أي عائشة، ولقد ظن كثير من العلماء بأن هذا الحديث صحيح. ووضعاً للحق في نصابه رأيت أن أتثبت منه فرجعت إلى كتاب معارج الألباب في مناهج الحق والصواب للنعيمي المتوفى سنة 1187هـ فرأيته يقول عن هذا الحديث: وقد بحثنا عن هذا الخط وإذا حفاظ الفن وأئمة هذا الشأن لا يعرفونه في جميع ما وقفنا عليه من كتبهم الحوافل ولم يأنسوا فيه بسند ضعيف، فضلاً عن حسن، فضلاً عن صحيح. وقد كشف أمره الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي في المقاصد الحسنة وكذا العلامة ابن الدبيع في مختصره (تمييز الخبيث من الطيب) والفيروز آبادي في آخر كتابه سفر السعادة وهذا الحديث ذكر في بعض المصنفات القديمة منها النهاية لابن الأثير، ونص العالمون على أنه حديث منكر لم يجد له العلماء الحفاظ إسناداً قط بل قال ابن القيم الإمام (كل حديث فيه يا حميراء أو الحميراء فهو كذب مختلق). (ويقول ابن الدبيع في كتابه تمييز الخبيث من الطيب (خذوا نصف دينكم عن الحميراء يعني عن عائشة رضي اله عنها قال ابن حجر لا أعرف له إسنادا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ولم يذكر من خرجه، وذكر الحافظ عماد الدين بن كثير أنه سأل المزني والذهبي عنه فلم يعرفاه).
ومما تقدم نعرف بأن الحديث موضوع ومفترى على صاحب الرسالة وختاماً اشكر لكم هذه الفكرة الجريئة، وحبذا لو وجدت قبول في أولي الأمر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد عطيفي الشامي
بمعهد التربية العالي للمعلمين
حول أديب يتعاظم
كتب الأستاذ محمد خالد حنفي في العدد السالف من الرسالة الغراء يسأل زميله رجب
البيومي عن مراجع المقال الذي نشره في العدد المذكور لأنه وعد ت على حد قوله - في صدر المقال أن يذكرها. وأنا أقول لا داعي لهذا السؤال فالمراجع بحمد الله كثيرة ومعروفة ولكن الذي يدعو إلى التساؤل حفاً هو هل هذا المقال أو مضمون هذا المقال وقع لياقوت الحموي وحده مع شميم أم وقع لعدة أشخاص من بينهم ياقوت وإنما الذي قام بدور المؤلف بين هذه الطرائف إنما هو خيال الأستاذ بيومي؟؟ أؤكد للأستاذ بيومي أنني من المعجبين بأسلوبه وطريقته في الكتابة - غير أن هذا الإعجاب لا يقف حائلاً دون أن أقول إنه يجب أن يكون هناك شيء من الأمانة في النقل ونسبة الوقائع إلى أصحابها في النقط الجوهرية على الأقل؛ ولا علينا بعد هذا أن يفعل الخيال فعله في صوغ القصة وتجويدها. وها ذا ياقوت الرومي يذكر هذه الوقائع في (معجم الأدباء) ص50ج14 ويسجل المحاورة الطريفة التي وقعت بينه وبين شميم وليس بينها قصة السجود وإنما يذكرها ياقوت - عن طريق الرواية - لشاعر آخر استنشده شميم فأجاد ثم أنكر عليه نسبة الشعر وتحداه أن يأتي بشعر هذا المعنى فارتجل الشاعر أبياتاً يعتذر فيها في أن القريض قد لا يأتيه عفواً فانتزع إعجابه بهذه الأبيات وأمره بالسجود. وليس من بينهم أيضاً قصة (نشيد) النائحات على الإطلاق. وهنا يبلغ بنا العجب أقصاه غذ كيف يتصور أن تقع هذه الحادثة الفريدة لياقوت ثم يهملها وهو من هو في اقتناص الطرائف وتصيد أخبار الأدباء؟. . ثم إني أشك في وقوع هذه القصة أصلاً من شميم نفسه، شميم الذي يقول عنه ابن خلكان (إنه أديب فاضل له خبرة باللغة والأدب جم الفضائل الخ) كيف تتخلى هذه الأوصاف جميعها عن الرجل ليهبط إلى مصاف المجانين فيضع (نشيداً) للنائحات ثم يقوم بتلحينه وتمثيله مع نخبة من تلاميذه المجانين. ولو قد فعل ذلك لوجد نفسه مشمولاً بالرعاية في كتاب (عقلاء المجانين) على الأقل ولم يعرف بمهذب الدين، وصاحب فضائل، وشيخ الأدباء.
وهل من الأدب أن يلطم الشخص خده ويأمر تلاميذه من أجل النادبات النائحات. أعوذ بالله!
مختار محمد هويسة
هذه هي المراجع:
صديقي الأستاذ محمد خالد حنفي على حق حين يطلب مني المراجع التي نقلت عنها مقالي المعروف (أديب يتعاظم) بعد أن وعدت بها القراء.
والواقع أني سجلت المراجع في صدر المقال، ونسيت مطبعة الرسالة أن ترفقها بالبحث كما هو معتاد، وهأنذا أضعها للقراء من جديد
(1)
معجم الأدباء جـ13ص50.
(2)
معجم الأدباء جـ8ص122.
(3)
أنباه الرواة ص543.
(4)
بغية الوعاة ص333.
(5)
صحيفة دار العلوم (س5) يوليه 1938م.
وللأستاذ خالد تحياتي وشكري.
(المنصورة)
محمد رجب بيومي
طه حسين الشاعر. .
كثرت في الآونة الأخيرة الأحاديث عن نابغة الجيل وشعر النابغة عميدنا الدكتور طه حسين باشا.
ولقد قال البعض إن عميدنا انقطع عن الشعر منذ عام1914، وجاء آخرون فأوردوا له شعراً انبث في ثنايا كتبه التي ظهرت بعد هذا العام. .
والحقيقة الواقعة أن عميدنا لم ينقطع عن الشعر أبداً حتى العام الماضي فقط، وقد أشار الأستاذ إبراهيم محمد نجا إلى ذلك. .
ففي كتابه الفريد (جنة الحيوان) الذي ظهر في العام الماضي، ابتدأ فصلاً منه بهذه السطور التي هي في الواقع شعر مقفى موزون:
من أين أقبلت يا ابنتي؟
…
من حيث لا تبلغ الظنون!
ماذا تريدين يا ابنتي
…
أريد ما لا تقدرون!
كيف تقولين يا ابنتي؟
…
أقول ما لا تصدقون!
أسرفت في الرمزيا يا ابنتي
…
بل ما لكم كيف تحكمون!
وينظر الشيخ حوله
…
فلا يرى من يحاوره
وينكر الشيخ نفسه
…
ولا شكوك تساوره
فقد رأى شخصها الجميل
…
تظله هذه الغصون
ولم يزل صوتها الضئيل
…
يثير في نفسه الشجون
وكانت الشمس قد تولت
…
كالأمل الخائب الكذوب
وظلمة الليل قد أظلت
…
كاليأس إذ يغمر القلوب
أما بعد، فما أشبه نفس عميدنا بالنبع العذب الرقراق، لا ينقطع فيضه أبداً، رضى أم لم يرض فحق الناس أن يرشفوا من كأسه ويعبوا من نبعه.
ولإخواننا الباحثين الإجلاء، خالص الشكر والثناء.
ع. الزقم
القصص
العظام المقدسة
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
للأستاذ حسين أحمد أمين
(رسالة إلى الأب لويس دانير قسيس سواسون)
سيدي الفاضل:
يؤلمني أن أنهي إليك أن الخطبة التي كانت قائمة بين ابنة عمك وبيني قد انفصمت عراها، وأن هذا الانفصام إنما يرجع إلى أتفه الأسباب وأبعثها للضحك. . هي لعبة قذرة لجأت إليها من غير عمد. . لذلك لجأ إليك يا سيدي العزيز لتنقذني مما أنا فيه ولن أنسى لك ما حييت ما قدمته لي من مساعدة.
إنك تعرف جيلبرت. . أو بالأحرى تظن أنك تفهمها. . ولكن من ذا الذي يفهم امرأة؟ ومن ذا الذي بإمكانه أن يثق بآراء النساء ومعتقداتهن وأفكارهن؟ ألا ترى أنهن لا يلبثن على وضع ولا يستعن بمنطق، وأنهن يتهربن في المناقشات، ويبدون متمسكات بآرائهن إلى حد العناد ثم يتحولن عنها فجأة لمجرد أن طائراً صغيراً قد ظهر عند حافة النافذة؟
ولست في حاجة إلى أن أبين لك مدى تمسك ابنة عمك بالين إذ هي - كما تعلم - قد تلقت دروسها عن الراهبات في نانسي. . وربما كنت تعلم عنها هذا الصدد أكثر مما أعلم. . ولكني على ثقة من أنه قد غاب عن ذهنك أنها امرأة قبل كل شيء وأنها في عواطفها وآرائها كالريشة في مهب الريح. فما أسرع تحولها من الإشفاق إلى الغضب، ومن الحب إلى الحقد!
حسن! لقد خطبتها وأحببتها إلى حد العبادة وقد بدا لي أنها تحمل لشخصي بعض الميل. . وفي إحدى الأمسيات تلقيت برقية تستدعيني إلى كولونيا لإجراء إحدى العمليات. فأسرعت إلى جيلبرت لأودعها وأعتذر لها من عدم إمكاني تناول العشاء مع والديها يوم الأربعاء ولأطلب منها أن تؤجل الحفلة إلى يوم الجمعة عند عودتي. . آه يا عزيزي. . حذار من يوم الجمعة فإنه يوم شؤم. وعندما أخبرتها بعزمي على القيام بالرحلة رأيت دمعة تلمح في
عينيها ولكن ما أن أخبرتها بنيتي في الرجوع في أسرع وقت حتى صفقت بيديها وصاحت:
حسن. . حسن. . يجب أن تحضر لي هدية معك. . أية هدية رخيصة الثمن أبقيها معي دائماً لتذكرني بك. . ولكن عليك أن تنتقيها لي وأن تتأكد من أنها ستدخل السرور إلى نفسي. .
ثم قالت:
(إني أمنعك من أن تشتري هدية بأكثر من عشرين فرنكاً. . إذ لا يهمني عظم قيمتها وفداحة ثمنها. . إنما يهمني حقيقة شعورك وإخلاصك لي) وسكتت قليلاً ثم قالت وهي تخفض بصرها:
(إذا اشتريتها لي بثمن منخفض ونالت إعجابي فسأمنحك قبلة. .)
وسافرت في اليوم التالي إلى كولونيا. . فوجدت المصاب رب عائلة فقيرة ووجدت جراحه من الخطورة بحيث تستدعي عملية عاجلة. . فأجريتها له ومكثت إلى جواره ثمانياً وأربعين ساعة. . حتى إذا ما رأيته قد بدأ يرجع إلى نفسه استققللت عربة إلى المحطة.
وعلمت أن القطار سيبرح بعد ساعة فخرجت أتجول في الطرقات وأنا أفكر في المريض البائس. . وإذا برجل يتقدم مني. . ومع أني لا أفهم الألمانية وهو لا يفهم الفرنسية استطعت أن أدرك منه أنه يبيع آثاراً للقديسين. . وفجأة تذكرت جيلبرت. وتذكرت أنها شديدة التدين. . فتبعت الرجل إلى حانوته واخترت من بين محتوياته عظمة صغيرة من عظام إحدى القديسات محفوظة في علبة صغيرة من الفضة. . ثم سافرت. .
وعندما وصلت إلى منزلي أردت أن أرى العظمة مرة أخرى. ففتحت العلبة. . وإذا بي أراها خالية. وفتشت جيوبي واحداً إثر الآخر ولكني لم أعثر لها على أثر.
وأنت تعلم يا عزيزي القسيس أن معتقداتي الدينية ليست بالمتينة. وتعلم أني لا أعتقد في قدسية آثار القديسين - وتشاركني أنت في هذا الرأي - لذلك لم أحزن على فقد العظمة وبحثت عن أي شيء أحله محلها. . ثم ذهبت إلى حبيبتي. .
وما إن دخلت الحجرة حتى جرت إلي وهي تقول:
- ماذا أحضرت لي؟
وتظاهرت بأني قد نسيت طلبها ولكنها رفضت أن تصدق. . وتوسلت إلي أن أريها ما أحضرته لها. . وأخيراً أظهرت لها العلبة وبداخلها عظمة صغيرة فكادت تجن من الفرح. .
- عظمة لإحدى القديسات!!
ورأيتها تقبل العلبة في خشوع. .
بدأ ضميري يوبخني على الخدعة التي ارتكبتها وسألتني فجأة:
- هل أنت واثق من أنها إحدى القديسات؟
- كل الثقة. .
- وما دليلك على هذا؟
وشعرت بحرج الموقف. . فإن أخبرتها أني اشتريتها من بائع متجول فقد ضاع كل شيء. . فماذا أقول؟ وطافت بعقلي فكرة جنونية فقلت لها في صوت منخفض غامض:
- لقد سرقتها من أجلك. .
ورأيتها تحدق بعينيها الواسعتين:
- ماذا؟ سرقتها؟ من أين!
- من الكنيسة. . ومن المكان الخاص بآثار القديسات. وأخذ قلبي يدق بشدة، ورأيتها تكاد أن يغمى عليها من الفرح وتمتمت: وسرقتها من أجلي؟ قص علي القصة كلها. . وهكذا لم أستطع التراجع. . فقصصت عليها قصة من مخيلتي سارداً فيها أدق التفاصيل. وقلت إنني رشوت الحارس بمائة فرنك لكي يسمح لي بالدخول وحدي. . وإن العمال الذين كانوا يصلحون المكان خرجوا لتناول الغداء ففتحت أحد الصناديق وسرقت عظمة صغيرة ثم أقفلت الصندوق ثانية وذهبت إلى الصائغ فصنعت له علبة من الفضة.
ورأيتها تستمع إلي في ذهول وسعادة ثم سمعتها تتمتم: ما أعظم حبي لك! وغاصت بين ذراعي. .
لتلق بالك إلى هذا يا سعادة القسيس. . لقد سرقت وانتهكت حرمة الكنيسة وغرفة القديسات وسرقت آثاراً مقدسة. . وبسبب ذلك تحبني وتعتبرني مخلصاً كاملاً عظيماً!
هكذا النساء يا عزيزي القسيس. دائماً أبداً. .
وظللت شهرين إلى جوارها وهي تعتبرني أخلص المحبين وأكثرهم سحراً. . ورأيتها تضع العلبة في مكان أعدته لها لتتعبد إلى جوارها صباح ومساء. .
وما أن جاء الصيف حتى انتابها شوق إلى رؤية مكان الجريمة وألحت على والدها بشدة دون أن تطلعه على السبب الحقيقي كي يصحبها إلى كولونيا. . وقد أخفوا جميعاً عني سر هذه الرحلة.
وأظنك تعلم يا سيدي أني لم أشاهد في حياتي كنيسة كولونيا من الداخل. . وأني لا أعلم ما إذا كانت هناك حقاً غرفة لقديسات أم لا. .
وبعد أسبوع تلقيت ستة سطور من جلبرت تفسخ فيها الخطبة وخطاباً من أبيها يشرح لي السبب في الفسخ. . لقد ذهبا إلى الكنيسة ودخلا غرفة القديسات وسألت الحارس عما إذا كانت قد وقعت سرقة من الغرفة في يوم ما. فضحك وبين لها استحالة السرقة. .
لقد اعتبرتني غير جدير بحبها منذ اتضح لها أنني لم أسرق من هذا المكان الطاهر، وأن يدي الدنسة لم تتسلل إلى العظام المقدسة.
ومنعتني من دخول منزلها برغم توسلاتي الحارة.
أتضرع إليك يا سيدي القسيس أن تتوسط في الأمر وأن تشفع لي عندها. . ولك مني أخلص الود.
حسين أحمد أمين