الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 922
- بتاريخ: 05 - 03 - 1951
حول مشكلة اللاجئين!
قلت مرة أني كفرت بالضمير الإنساني، كفرت به حين كفر هو بكل وشيجة من وشائج الإنسانية، وكل خليقة من خلائق الأحياء، حيث تكون هذه الخلائق مجموعة من المشاعر والأحاسيس. . . مشاعر الدم الواحد واللغة الواحدة والتقاليد الواحدة، وأحاسيس الأخوة والعروبة والجوار!
قلت هذا فأعترض بعض الناس، وحجتهم أن الضمير الإنساني لا يزال بخير، في هذه البقاع الطيبة التي عنبتها بكلمات رسبت في نفسي رسوب اليقين. . . هم ينضرون إلى الجزء وأنضر أنا إلى الكل، ويحكمون في ضوء القرد وأحكم أنا في ضوء المجموع، ويتكلمون عن الضمير الإنساني من زاوية ضيقة ينحصر فيها فلان وفلان من عشاق الخير وصناع الجميل، أتكلم أنا عن الضمير الإنساني في صورته الكاملة الشاملة التي تعني أكبر عدد من الناس في أكبر عدد من أقطار العروبة!
إن الضمير الإنساني في هذه البقاع الطيبة وبهذا المعنى الذي رميت إليه قد مات. . . ولو كان حيا لما سمح لنفسه بأن يطيق منظر الموت البشع وهو يحصد بمنجله الرهيب جوعا من الأحياء شردهم الظلم والطغيان فهاموا على وجوههم في كل واد وكل فلاة: بطونهم خاوية، وأجسادهم عارية، بينما شبعت الكلاب واكتست الأضرحة واطمأنت إلى المأوى الأمين أخس أنواع الحشرات!
أتطلع إلى هولاء المشردين الذين أضناهم البرد وقتلهم الجوع ولفح شعورهم الهوان، ثم أتذكر أن هناك غيرهم ممن أنعشهم الدف وضاقت بطونهم بالتخمة وامتلأت نفوسهم بالأمان. . . أتطلع إلى هولاء وأولئك ثم أخرج من جولة الفكر وفوره الأسى بهذه الحقيقة، وهي إنني لا املك في الحياة غير هذا القلم! وماذا يجدي القلم يا رب وهناك من ينتظر الثوب الذي يستر الجسد، واللقمة التي ترد عادية الجوع، والقطرة التي نرطب حرارة الظمأ، والوطن الذي يشعر بكرامة الحي ويعبر عن جمال الحياة؟!
وماذا يصنع القلم وهو لا يجد ما يهديه إلى هولاء الجياع العراة غير هذه القروش الفكرية؟! ومن يخاطب وقد مات الضمير الإنساني عند حراس الخزائن وملاك الضياع وسكان القصور؟! أننا لا ندعو إلى الشيوعية ولكننا ندعو إلى الإنسانية. . . الإنسانية التي تصرخ في وجه هولاء جميعا بأن في أموالهم حقا لكل جائع وكل محروم، وتقول لكل واحد
منهم في همسة إن لم تكن جازعة فهي ضارعة: تنكر للغتك إذا شئت، ولعروبتك إذا أردت، ولقوميتك إذا أحببت، ولكن. . . ولكن لا تنس أنك إنسان!
إنها فروش فكرية كما قلت، وحسبي حين أجود بها أنني أجود بخلجات النفس وخفقات القلب ودفقات الوجدان. حسبي هذا، وحسب اللاجئين أن يتقبلوها على أنها نفحة من نفحات الألم، فيها من مشاركة الشعور ما يقوم مقام العزاء، حين يضيع كل أمل في الضمير الإنساني. . . ويخيب كل رجاء!
ا. م
أسمعي يا مصر
لفضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوى
نائب معتمد دار العلوم بندوة العلماء بلكهنو بالهند
أحييك يا مصر بتحية السلام وأحي فيك الزعامة للعالم العربي. الزعامة التي كانت عن جدارة واستحقاق، لا عن احتكار واغتصاب، وإنك تحلين اليوم في العالم العربي محل السمع والبصر، ومحل العقل والفكر، رضى به الناس أم لم يرضوا، ولكن الواقع لا ينكر
أحي فيك يا مصر نفاق سوق العلم ورواج بضاعة الأدب، وتقدير رجال العلم والفن، فقد أنجبتهم واحتضنتهم ودافعت عنهم، وحدبت عليهم، فهم أبناؤك البررة وأنت الأم الحنون
أحي فيك الأزهر الشريف الذي كان ولا يزال المنهل المورود في الدين والعلم للعالم الإسلامي، والذي لا يضارعه ولا يزاحمه في تقدم السن وطول العمر وامتداد الظل وكثرة الإنتاج معهد أو جامعه على وجه الأرض
أحي فيك المكتبة العربية التي فاضت وامتدت كالنيل وأصدرت كتبا ومطبوعات عربية لو وضع بعضها فوق بعض لكانت مثل الأهرام أو أرفع
أحي فيك على اللغة العربية وجهادك في إحيائها ونشرها ورفع شأنها وتوسيعها حتى أصبحت بجهود أدبائك وكتابك، وبفضل الصحافة المصرية والحياة السياسية، وبفضل حركة التأليف والترجمة والنشر، وبفضل المجمع اللغوي؛ لغة راقية عصرية علمية سياسية فنية لا تقل في غزارة مادتها وقابليتها لتعليم العلوم العصرية والطبيعية والرياضية عن أي لغة من لغات الغرب
أحي فيك عددا مشرفا من الأدباء والكتاب، فيهم الكاتب المبدع، والمترسل القدير، والأديب الفنان، والباحث الناقد، والعالم الضليع، والمؤرخ الأمين، والفيلسوف الحكيم، ولمحدث اللبق، والروائي المصور، والمتهكم اللاذع، والمضحك المطرب، والمصلح المنتقد، والشاعر المطبوع، والسياسي المناقش، والصحاف البارع، إذا كتب أحدهم في موضوع ردد العالم العربي صداه، وافتخر المتأدبون بتقليد أسلوبه والنسج على منواله، واحتجوا به كما يحتج بشعر القدماء
أحي فيك يا مصر هذا وغير هذا، وكن لي معك اليوم شانا آخر. إن لي معك كلاما أرجو
أن تلق إليه سمعك وتشهديه قلبك فأنا ضيف قد نزل بك، ومن حسن الوفادة وتمام الضيافة الاستماع إلى كلام الضيف والإقبال عليه بالسمع والقلب
إن مسئوليتك يا مصر أوسع وأعظم من تأدية رسالة الأدب وخدمة لغة العرب، وما تجودين على الأقطار العربية الشقيقة برشحات الثقافة الأوربية وفتات المدينة الغربة. إنك بين آسيا وأوربا فأنت ملتقى الثقافتين ومجمع البحرين. إنك وسط بين مهد الإسلام ومشرق نوره؛ وبين مولد الحضارة الغربية ومبعث العلوم المصرية، فعليك مسؤولية القارتين، وعندك رسالة الثقافتين
وأما مسؤولية آسيا والأقطار العربية فلا تخرجين منها يا مصر حتى تكوني قنطرة تعبر عليها إلى البلاد العربية تجارب أوربا وعلومها ونشاطها وكدحها في الحياة وجهادها للبقاء، هنالك تقومين برسالتك ووظيفتك لهذه البلاد العزيزة التي ترتبطين بها برابطة دينية وروحية وثقافية وسياسية
وأما مسؤولية أوربا فلا تخرجين منها حتى تبلغي رسالة الجزيرة العربية - وهي الإسلام الذي احتضنته من زمان - إلى أوربا، وحل المشاكل التي أعيت كبار المفكرين وأتعبت عظماء المشرعين، وبذلك تؤدين واجبك المقدس نحو هذه القارة الأوربية التي استوردت منها شيئا كثيرا من العلم والمصنوعات والمنتجات، ونظمت عليها مدنيتك وحياتك تنظيما جديدا، وتحسنين إليها أكثر مما أحسنت إليك وتصدرين إليها أفضل مما صدرت إليك
إنك يا مصر قد بنيت القناطر الخيرية فانتظم الري وازدهرت الزراعة وأخصبت البلاد؛ وأريد أن تبنى قنطرة خيرية أخرى هي أكبر القناطر في العالم وانفعها، تصل بين بحرين لم يزالا منفصلين، وبين حضارتين لم تزالا متنافستين، وبانفصالهما وتنافسهما شقي العصر الجديد، فلو إنك وصلت بينهما وكنت قنطرة تتبادل بها القارتان خيراتهما ومحاسنهما؛ وفرت على الإنسانية جهودا وأوقاتا كثيرة وصنتها من الضياع كما أن قناطرك الخيرية وفرت على مصر مياه ونظمت أمر الري
تقد كان حفر قناة السويس اكبر حادث في التاريخ العصري غير مجرى التاريخ وأحدث انقلابا في السياسة والتجارة؛ ولكن من يستطيع أن ينكر أن شقاء الأمم الشرقية كان أعظم وأعظم من سعادتها، وأنها لم تجن من السويس إلا عبودية واستعمارا. والعالم الآن في
حاجة إلى قنال آخر، قنال التعارف الصحيح والتبادل المتوازن، وإليك وحدك يا مصر، القيام بهذه المبرة العظيمة لمكانك الجغرافي وأهميتك السياسية وثروتك الثقافية ومركزك الروحي. تعلمين أن دولة تتزن ميزانيتها ولا تتحسن أحوالها الاقتصادية إلا إذا وجد توازن بين حركة التصدير والتوريد، أو كان تصديرها أكثر من توريدها، ولمننا في الشرق نورد أكثر مما نصدر، وكان السويس أكبر مطية من مطايا هذا التوريد، فلا نريد قنطرة أو قنالا يكون معبر البضائع الأجنبية من أفكار وآراء وفلسفات وأخلاق إلى أعماق الشرق وأحشائه، بل نريد قنالا يساوي بين التوريد والتصدير، ويصدر أفضل ما عند الشرق الإسلامي من رسالة وعقيدة وخلق وعلم، ويورد أحسن ما عند الغرب من منتجات ومصنوعات وتجارب واكتشافات ومرافق الحياة، فكوني يا مصر ذلك القنال الأمين العادل الذي لا يسمح بالمرور إلا للصالح للفاضل
إن لك يا مصر يدين، فخذي من الغرب ما فاق فيه من علم وتجربة فالحكمة ضالة المؤمن، ومدي إليه يدا أخرى، يد المساعدة والكرم، وجودي بما أنعم الله عليك من نعمة الأيمان وشرف الإسلام فذلك الذي لا يملكه الغرب ولا يستغني فيه عنك، وقد أنهى به إفلاسه فيه إلى ما ترين من فوضى وانحلال، فتصدقي عليه بهذا الأيمان ورسالة الروح، ولا تنسى أبدا اليد العليا خير من اليد السفلى
كوني يا مصر رسول الإسلام إلى الغرب، واحملي إليه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، تلمك الرسالة تلتي حملها العرب إلى الأمة الرومية والأمة الفارسية فأنقذتهما من مخالب لموت وأفاضت عليهما ثوبا قشيبا من الحياة ولونا جديدا من النشاط، وليس الغرب أقل حاجة إلى هذه الرسالة وهو في دور التفكك وتنازع الموت والحياة إلى الأمة الرومية والفارسية إليها. وقديما اختار الملوك وأصحاب الرسالة السماوية رسلا من عشيرتهم والأقربين إليهم، ولك من إبراهيم وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم رحم ماسة وقرابة خاصة ليست لقطر من الأقطار الإسلامية بعد الجزيرة العربية
إن أوربا قد شاخت ونضجت كالفاكهة التي أدركت وضعف الغصن عن حملها، فاستعدي يا مصر الإسلامية لتحلي محلها في الزعامة العالمية وقيادة الأمم، وما ذلك بعزيز ولا بمستحيل، إذا تم استعدادك الروحي والخلقي والمادي. وإذا كانت أوربا قد احتفظت بالقيادة
العالمية هذه المدة الطويلة وليست عندها رسالة عامة للإنسانية ولا دعوة مخلصة لأمم العالم وعندها كل ما يضعف ثقة العالم بها من وطنية وعنصرية وتقديس للنسل الآري وإدلال باللون الأبيض ونزعة تجارية وإستعمار، فكيف لا يرضى العالم بقيادتك وعندك الرسالة التي تضمن سعادة العالم كله، ودين لا يفرق بين الأوطان والعناصر والألوان؟
احرصي يا مصر على رجولة أبنائك وأخلاقهم، وصوني شبابهم وشرفهم ودينهم وصحتهم من أن يعبث بها العابثون أو يتجر بها المتجرون ممن يعيشون على أثمان الأعراض والأخلاق، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لتروج بضاعتهم وتزدهر تجارتهم، أولئك هم أصحاب الروايات الخليعة والصور العارية والأدب المكشوف، فإنك يا مصر في محل الزعامة والقيادة للشرق الأوسط وفي طريقك إلى الزعامة والقيادة للعالم الإسلامي، ولا تأتي الزعامة والسيادة إلا بعد الاستقامة والثبات في مزالق الإنسان، والنجاح البارز في امتحان العفة وطهارة الأخلاق، واذكري قصة يوسف التي مرت على أرضك، ووقعت بين سمعك وبصرك، كيف ثبت في الامتحان وكيف حافظ على دينه وعفته، فكانت نتيجة ذلك الثقة والاعتماد والسيادة والملك، واقرإي أن شئت (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض أن يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)؛ بل ولا حياة ولا شرف إلا بالرجولة والأخلاق، فكيف وأنت في ميدان القتال وساحة الجهاد فلا بد أن تحفظي وصية قائدك الكبير سيدنا عمر بن العاص وتذكري ما قال لخلفائه في أرضك (واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم والى داركم)
فكافحي يا مصر الوباء الخلقي الذي يقضي على حيوية الأمة أشد مما تكافحين وباء الكوليرا الذي يقضي على حياة بعض الأفراد؛ وطاردي كل من يحاول أن يزعزع العقيدة في شعبك، ويزلزل الأيمان ويفسد الخلق، أشد مما تطاردين من ينشر الوباء أو يسبب الأمراض أو ينقل إلى أرضك المكروب، فلم نسمع أن الأمة الرومية العظيمة ماتت وبادت بسبب وباء أو مرض، وأن اليونان اجتاحهم مرض من الأمراض، ولكننا قرأنا في التاريخ وشهدت أنت أن هذه الأمم كانت كلها فريسة التفسخ الخلقي والأمراض الأجتماعية، فأحذري يا مصر - صانك الله وحرسك - هذا المصير المؤلم
إن العالم العربي قد أحلك يا مصر من نفسه محلا رفيعا ووضع ثقته فيك وفتح لك أذنيه وعينيه، فأتقي الله يا مصر فيمن ائتمنك ووثق بك في نفسه وعقله، ولا تصدري إليه من أدبك ومطبوعاتك ما يرزأه في إيمانه وأخلاقه وقوته المعنوية وروحه، كما لا ترضين ولا ترضى كرامتك ومروءتك أن تصدري إلى زبائنك من الدول والبلاد الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة ولا تقبلين أن يصدرها إليك أحد، وصدقيني يا مصر العزيزة أن هذه الروايات الخليعة والأدب الماجن أفسد وأضر للأمة والحياة من الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة. إنك زعيمة للعالم العربي فلا تغلبنك النزعة التجارية ولا تغرنك المنافع المؤقتة، فلا يكون زعيما ولا يكون عظيما من يؤثر العاجل على الآجل، والمنفعة الفردية على المنفعة الاجتماعية، والأثرة على الإيثار
إنك يا مصر من أغنى بلاد الله، ولست أعنى بالغنى خصب الأرض وكثرة الموارد، وإنك لغنية من غير شك، ولكني أعني غناك في المواد الخامة وهي الشعب الذي توفرت المواهبوالقوى، خصوصا ما يسكن منه في أريامك، فهي المناجم التي لا تزال مدفونه، والمعادن التي لم تستخرج بعد، هذا الشعب قوي الأيمان قوي الشخصية، قوي الجسم، فلو أنك أحسنت تعليمه وتربيته وأفدت من هذا الأيمان ووضعته في محله لكان حارسك الأمين القوي وثروتك العظيمة
قد أختار الله لك يا مصر من أوسع القارات وأكثرها مواد خامة هي القارة الأفريقية ولا يزال جزء كبير منها على سذاجته وفطرته، ولا تزال فيها أمم على الجاهلية والوثنية، وعلى الجهالة والضلالة، ولا تزال فيها أمم كاللوح الصافي يكتب الإنسان فيه ما يشاء، وهذه الأجزاء من القارة وهذه الأمم خير حقل لجهودك وتربيتك، وخير أرض لزراعتك وغرسك، فأرسلي إليها دعاتك المبشرين ورجالك المصلحين، وعلمائك المرشدين وأبنائك المعلمين، يبلغونهم الدين ويتلون عليهم آيات الله ويعلمونهم الكتاب والحكمة، وبذلك تنقذين بإذن الله نفوسا كثيرة من النار، وتخرجينها من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، وتكتسبين قلوبا نقية وأرواحا فتية وأجساما قوية، ويكون ذلك خيرا لك من هذه الأمم والدول الغربية التي تخطبين ودها وتحرصين على صداقتها، وهي لا تدوم على حال بل تجري وتدور مع أغراضها المادية ومصالحها السياسية، فيوما هي معك ويوما مع أعدائك،
وإذا كانت معك لم تكن بإخلاص وصدق، وإنما هي المطامع والمصالح. وما أضعف الصداقة التي تقوم على المطامع والأغراض!
وأخيرا أريد أن أقول في أذنك يا مصر إن الله في خلقه شوؤنا وأنه أعظم غيرة من كل غيور وأنه لا يعطي نعمة دينه إلا من يعظمها ويجلها ويقدرها حق قدرها، فإذا رأى منك استغناء عن الدين وما ينبئ عن احتقر لشأنه واستصغار لأمره وزهدا في الإسلام، وانصرافا عن خدمته وتقصيرا في أداء رسالته واعتزازا لمبدأ غير الإسلام وتشرفا بغير محمد عليه الصلاة والسلام أستغمى عنك - على مآثرك السابقة وثروتك الضخمة ومدينتك الفخمة - (سنة الله في الدين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) وجاء لخدمة الإسلام وقيادة الأمم الإسلامية بأمة لم تخطر منك إلى بال تعتز بالدين وحده وتتشرف برسالة الإسلام وتتشبع بحب محمد عليه الصلاة والسلام وتلتهب غيرة دينية وحماسة إسلامية وتجاهد في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم، وإن الله تعالى حذر العرب الأولين وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) وقال للمسلمين العرب (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) ولله جنود السماوات والأرض، وفي كنانة الإسلام سهام لم يرها أحد ولا تخرج إلا في وقتها. ومن يدري فلعل شمس الإسلام تطلع من المشرق وهذه أمم إسلامية فتية على سواحل المحيط الهندي وفي جزره تتحفز للوثوب وتتهيأ لقيادة العالم الإسلامي، فاحتفظي يا مصر العربية بمكانتك ومجدك ولا تأمني الأيام ولا تأمني مكر الله (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون)
هذه تحيتي إليك يا مصر العزيزة فتقبليها، وهذه آمالنا فيك فحققيها، وكلمة مرة في الأخير فتحمليها، وهذه معذرتي إليك فاقبليها، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
أبو الحسن علي الحسني الندوى
(نزيل مصر) القاهرة
أدب الشتاء
للأستاذ محمد علي كيلاني
حتى إذا ما أقبل الشتاء=جاءتك منه غمة غماء
(أبن وكيع التنيسى)
يعاني الناس في فصل الشتاء كثيرا من الأهوال والشدائد. وقد كان شعور القدماء بهذه الشدائد أعظم وبخاصة الفقراء منهم. وسكان الأرياف ما زالوا يلاقون من بلاء الشتاء ما كان يلاقيه أسلافهم من قبل. لذلك اعتبروه عدوا لدودا وخصما عنيفا. وشبهوه بجيش جرار أغار عليهم بعساكره مشاة وفرسانا. فعواصف وأنواء، ورياح وزوابع، وأمطار وسيول، وغيوم بعضها فوق بعض، وبرق ورعد، وبرد وثلج. قال القاضي التنوخي:
أما ترى البرد قد وافت عساكره=وعسكر الحر كيف أنصاع منطلقا
والأرض تحت ضريب الثلج تحسبها=قد ألبست حبكا أو غشيت ورقا
وقد تبارى الشعراء والكتاب في وصف مظاهر الطبيعة في هذا الفصل وأخترعوا المعاني الجميلة وأتوا بالصور الرائعة، ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا قالوا فيها شعرا ونثرا. قال أبو تمام وهو بخراسان:
ما للشتاء ولا للصيف من مثل
…
يرضى به السمع إلا الجود والبخل
أما ترى الأرض غضى والحصى قلقا
…
والأفق بالحر جف النكباء يقتتل
من يزعم الصيف لم تذهب بشاشته
…
فغير ذلك أمسى يزعم الجبل
غدا له مغفر في رأسه يقق
…
لا تهتك البيض فودية ولا الأسل
فالشاعر هنا قد شخص الطبيعة وأضفى عليها ثوبا من الحياة والنشاط؛ فالأرض هائجة ساخطة، والحصى لا يستقر على حال فهو دائم الإطراب، والأفق يتضارب برياح عاتية، والجبال قد اكتست بطبقات كثيفة من الثلوج. ثم حدثنا أبو تمام عن أثر البرد في الضلوع والأحشاء والكلى. وكان قد عانى من أهواله بلاء كبيرا. قال:
من كان يجهل منه جد سورته
…
في القريتين وأمر الحق مكتهل
فما الضلوع ولا الأحشاء جاهلة
…
ولا الكلى أنه المقدامة البطل
وقد بلغ شغور أبى تمام بشدة البرد أنه بكى على ذهاب الصيف بكاء مرا. قال:
عدل من الدمع أن يبكى المصيف كما
…
يبكى الشباب ويبكى اللهو والغزل
وقد كانت رحلته إلى خراسان دافعا له على وصف مظاهر الطبيعة القاسية في هذا الفصل. وقد شبه الشتاء بحيوان قوي مخيف وادعى أن ممدوحة ضرب هذا الحيوان ضربة فلت من غربة وكسرت من حدته، وجعلته ذلولا سلس القيادة، قال:
فضربت الشتاء في اخدعيه
…
ضربة غادرته قودا ركوبا
ووجد الشعراء والكتاب في الأمطار والسيول مجالا للقول، وميدانا فيه يتسابقون ويأتون بكل معنى طريف، وقد صور لنا ابن الرومي ما فعلته به الأمطار وهو سائر في الطريق فقال:
لقيت من البر التبارج بعدما
…
لقيت من البحر ابيضاض الذوائب
سقيت على ري به الف مرة
…
شففت لبغضيها بحب المجادب
إلى الله أشكو سخف دهري فأنه
…
وما يثني - مذ كنت - مطايبى
أبى أن يغيث الأرض حتى إذا ارتمت
…
برحلي أتاها بالغيوث المواكب
سقى الأرض من أجلي فأضحت مزلة
…
تمايل صاحبها تمايل شارب
وأستمر الشاعر في هذه القصيدة فصور لنا حاله وقد بللته الأمطار حتى أصبح كالغريق. وذكرتنا أنه التجأ إلى خان ليستريح من بلاء هذا المطر وليظفر بالدفء. ولكنه لم يجد بغيته في هذا الخان لأن الأمطار قد أتلفته وجعلته عرضة للسقوط. فقضى به ليلة في خوف وجوع، إذ كان سقف الخان قد أثقلته مياه الأمطار فأضحى مبعثا للرعب بصريره الذي يشبه صرير الجنادب. ولما انقطعت الأمطار هبت ريح صرصر عاتية حثت التراب والحصى في الوجوه. وهكذا أصبحت الحياة كما صورها أبن الرومي جحيما لا يطاق. وفي هذه القصيدة من الألم والتبرم والسخط ما لا يخفى. فالشاعر يشكو مر الشكوى من دهره الذي يعبث به ويسومه عذاب الهون
وقد تبارى أدباء الشام في وصف ما أحدثته الأمطار والسيول ببلادهم، وما سببته من الخسائر والتلف في الزرع والضرع، وما فعلته في الطرق من التخريب والتميز، وما ترتب على ذلك من سوء الأحوال الاقتصادية والصحية، وما تعرض له الناس من الهلاك. فانظر إلى هذه الصورة المؤثرة وهي من رسالة لأحد الكتاب: (. . أما المسكن فأهلها
مساكين، وأفواههم من الحزن مطبقة فما تفتحها السكاكين. قد أنتبذ كل منهم زاوية من داره، وتداخل بعضه في بعض لتضمه بقعة على مقداره، هربا من توقيع أكف الوكف، وخوفا من ركوع الجدار وسجود السقف)
وقال أبن المعتز:
روينا فما نزاد يا رب من حيا
…
وأنت على ما في النفوس شهيد
سقوف لبيتي صرن أرضا أدوسها
…
وحيطان بيتي ركع وسجود
فالناس في الشتاء كانوا عرضة للهلاك. فربما فاجأتهم الأمطار الغزيرة في أثناء سفرهم
وقطعت عليهم الطريق وتعذر على القوافل السير فيتلفهم الجوعوالبرد ويموت أكثرهم من جراء هذا.
والمقيمون في المدن لا يسلمون من شر الأمطار. فلما خرت عليهم سقوف المنازل فجأة وهم نائمون فيقضي عليهم. وقد يحبسون في دورهم أياما حتى تجف الطرق وتصلح، فلا عجب إذا ساءت أحوال المعيشة إلى حد كبير. وقد ظهر اثر هذا في الأدب بشكل واضح، فرأينا أدبا لحمته وسداه السخط والتبرم بالحياة. أما المتصوفة فرأوا في هذه الأمطار والسيول عقوبة إلهية امتحن الله بها الناس لعصيانهم وابتعادهم عن الصراط المستقيم. وفي ذلك يقول ابن الوردي:
أن المصائب بالأقدار كائنة
…
لمن على حساب الأقدار تحتسب
عجبت مني ومن غيري تشوفنا
…
إلى ازدياد حياة كلها تعب
وان دهمنا بسيل أو بنوع أذى
…
كالنار والثلج قلنا ما هو السبب
أقسمت بالله لولا حلم خالقنا
…
لكان منم عشر ما نأتي به العطب
ودهرنا أي دهر في تقلبه
…
قد هان فيه التقى والعلم والأدب
فالمتصوفة كانوا يتخذون من هذه الأمطار الغزيرة التي يبتلى بها الناس في هذا الفصل وسيله للوعض والإرشاد، والنصح والتحذير
ووصفوا الغيوم وما تحدثه في الجو حين تحجب الشمس والقمر والنجوم. واتوا في ذلك بكثير من الصور والمعاني الجميلة. قال احد الشعراء:
لا يوحش الله من شيء يقال له
…
شمس النهار فما تبدو ولم تعد
أما النجوم فشيء كان في زمن
…
مضى حميدا فقد ولى ولم يعد
وهذا من المبالغات العجيبة. فالشاعر هنا يتحدث عن شيء يقال له الشمس وعن شيء يقال له النجوم. وذلك لان الناس لطول عهدهمبالغيوم أضحوا لا يعرفون من أمر هذه الكواكب قليلا أو كثيرا
وهذا شاعر يصور النجوم حين تظهر من خلال الغيوم فيقول:
ولقد ذكرتك والنجوم كأنها
…
در على ارض من الفيروزج
يلمعن من خلل السحاب كأنها
…
شرر تطاير عن يبيس العرفج
والأفق احلك من خواطر كاسب
…
بالشعر يستجدي اللئام ويرتجي
لقد تنافس الشعراء والكتاب في اختراع الأوصاف والتشبيهات، وصوروا هذه الظاهرة الطبيعية تصويرا لا تنقصه ريشة الفنان الموهوب. انظر إلى هذا الشاعر حين يقول:
والبدر يستر بالغيوم وينجلي
…
كتنفس الحسناء في مرآتها
وكانوا ينتهزون فرصة تلبد الجو بالغيوم ويجعلون من هذا وقتا مناسبا للهو والعربدةٍ، فيعقدون مجالس الخمر والغناء. وتلك عادة عرفت عند العرب منذ العصر الجاهلي. قال طرفة
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
…
ببهكنة تحت الطراف المعمد
وقال الصنوبري:
الجو بين مضمخ ومضرج
…
والروض بين زخرف ومدبج
والثلج يهطل كالنثار فقم بنا
…
نلهو بربة كرمة لم تمزج
ضحك النهار وبان حسن شقائق
…
وزهت غصون الورد بين بنفسج
فكان يومك من غلالة فضة
…
والنور من ذهب على فروزج
والشواهد على ذلك كثيرة. ومنها نرى انهم كانوا في أوقات الغيوم والأمطار ينشطون لتعاطي الشراب وسماع الغناء. ولا يخفى انه عقب سقوط الأمطار تصفو الطبيعة صفاء تاما وترق إلى حد بعيد، فتستولي على الإنسان مشاعر خاصة لما يرى من مظاهر الجمال الطبيعي في الكون ويمتزج بالطبيعة امتزاجا كليا. وكأنه يتعاطى الخمر وسماع الغناء يريد أن يشارك الكون في الصفاء
ووصفوا البرد وشبهوه بالدر. قال ابن احمد يس الصقلي
نثر الجو على الأرض برد
…
أي در لنحور لو جمد
لؤلؤ أصدافه السحب التي
…
أنجز البارق منها ما وعد
منحته عاريا من نكد
…
واكتساب الدر بالغوص نكد
ذوبته من سماء ادمع
…
فوق ارض تتلقاه نجد
فجرت منه سيول حولنا
…
كثعابين عجال تطرد
وهذه القصيدة الطويلة تعتبر من عيون شعر ابن حمد يس في الوصف. وذلك لما حوته من الصور الرائعة والأوصاف الجميلة اللطيفة. فقد وقف الشاعر أمام البرد وأطال الوقوف. فالبرد لو جمد لصار كالدر الجميل الذي تتزين به نحور الحسان. وهو كاللؤلؤ. وإذا استقر على الأرض وذاب تكونت منه سيول ملتوية كالثعابين التي تزحف مسرعة هربا ممن يطاردها
وقد تناول ابن خفاجة الأندلسي البرد في شعره فقال:
يا رب قطر جامد حلى به
…
نحر الثرى برد تحدر صائب
حصب الأباطح منه ماء جامد
…
غشى البلاد به عذاب ذائب
فالأرض تضحك عن قلائد أنجم
…
نثرت بها والجو جهم قاطب
فكأنما زنت البسيطة تحته
…
فأكب يرجمها الغمام الحاسب
لم يقف أبن خفاجة أمام البرد طويلا كما وقف أبن حمد يس. فهو عنده حلية لنحر الثرى أو قرئد من النجوم. ثم نظر إلى ما أصاب الناس من جزاء سقوط هذا البرد. فالفرق أن أقام عليها حد الرجم، وأرسل عليها حاصبا من البرد. فالفرق واضح بين نظرة ابن حمد يس للبرد ونظرة ابن خفاجة. فابن حمد يس أعجب بمنظر البرد فوقف يصور لنا ببيانه صورة شعرية جميلة. أما ابن خفاجة فاعتبر البرد نقمة وعقابا وقعته الغيوم على الأرض
ووصفوا تساقط الثلوج على الأشجار والزروع، وجاءوا في ذلك بصورة جميلة. ومثال ذلك قول أحدهم:
نظرت إلى أشجار جلق فوقها
…
ثلوج أراها بالبروق تلوح
فشبهتها قضبان فضة اكتست
…
وقابلها عند الغداة صبوح
ومن تحتها الأوراق كأنها
…
زمردة تغدو بنا وتروح
ومن بينها النارنج كالذهب الذي
…
هواه به كل النفوس تبوح
فأنظر إلى هذا المصور الماهر الذي أمسك ريشته وراح يضفي الألوان المناسبة على كل جزء من أجزاء تلك الصورة. فالنارنج كالذهب، والأوراق الخضر كالزمرد، والأغصان كقضبان من الفضة
ووصفوا الرعد والبرق. فتراهم أحيانا يشبهون الرعد بامرأة ثاكلة نادبة. وأحيانا يشبهونه بالأسد حين يزأر مهددا بالويل والثبور. ويشبهون وميض البرق بالضحك، أو بالسيوف، أو بشريط من الذهب. وقد شبه ابن حمد يس الرعد بالحادي يسوق الغمام أمامه كما تساق الإبل. قال:
أرق الأجفان رعد صوته
…
كهدير القرم في الشول صفد
بات يجتاز بأبكار الحيا
…
بلدا يرويه من بعد بلد
فهو كالحادي روايا إن ونت
…
في السري صاح عليها وجلد
وقد تتناول أحدهم التقلبات فيشبهها بأخلاق الملوك التي لا تدوم على حال. ومثال ذلك قول القائل:
ويوم كأخلاق الملوك ملون
…
فصحو ودجن ثم طل ووابل
كذلك أخلاق الملوك محبة
…
وبغض ومنع بين ذاك ونائل
وهكذا نجد عوامل الطبيعة في الشتاء تحرك الخواطر، وتفتق الأذهان، وتثير في النفس الإحساس الكامن والشعور فتزداد صلة الإنسان بالكون. وكانت هذه المظهر الطبيعية المختلفة وحيا للشعراء والكتاب، وقد وجدوا فيها ميدانا خصبا فأضافوا إلى الأدب الوصفي ثروة طائلة
محمد سيد كيلاني
أم عمارة.
. .
(ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟!)
محمد رسول الله
للأستاذ محمد محمود زيتون
(1)
امرأة عربية مسلمة من طراز نادر، يحق للمرأة الحديثة أن تقف طويلا على معالم حياتهها، وتتأمل مشاهد جهادها وتتبصر عوامل العظمة التي جعلت منها عضوا بارزا في سجل الخلود
تلك هي أم عمارة: نسيبه بنت كعب بن عمروا بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار، وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وأبناءها حبيب وعبد الله
كان لأم عمارة مؤهلات المجد والكمال، ومستندات الحسب والنسب، فهي من بني النجار، وما أدراك من بنو النجار!
بنو النجار أخوال محمد رسول الله أي أخوال جده عبد المطلب سيد العرب، وعمدة المكارم في الجزيرة. . .
بنو النجار الذين نزلت بهم آمنة ومعها محمد اليتيم الذي لم يتجاوز من عمره ست سنوات، وهنالك رأى الزروع والضروع والقصور والآبار. . .
بنو النجار الذين نزل بهم النبي المهجر من مكة فدعوه إليهم حيث المنعة والعدد والعدة والحدائق. . .
بنو النجار الذين خرجوا إليه رقاق القلوب، يقول غلمانهم:
طلع البدر علينا
…
من ثنيات الوداع
وتقول جواريهم وفي أيديهن المعازف والدفوف:
نحن جوار من بني النجار
…
يا حبذا محمد من جار
فيقول لهن: أتحببنني؟ فيقلن: نعم. فيقول: الله يعلم أن قلبي يحبكن
بنو النجار الذين اصطفاهم النبي ليسترضع فيهم ابنه إبراهيم، وائتمن على رضاعته أم
بردة. . .
بنو النجار الذين كانوا للنبي أنصارا، أولئك الذين رقت مشاعرهم، وأشرقت أساريرهم، ونعمت نساؤهم بالجمال والكمال، وعرفن بالظرف والرقة، والغزل والطرب. . .
بنو النجار الذين قال النبي فيهم (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثمبنو الحارث، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير)
في هذه الجواء العاطرة بالمرح والنعيم، وفي تلك الأرجاء الحافلة بالبطولة والرجولة، وفي بيت بني مازن، نشأت أم عمارة، وكانت من ربات البيوت اللأئي أفضن على الأزواج والأولاد من إيمانهن بالله ورسوله، فاستنارت القلوب، وارتفعت الجباه، بما دعا إليه نبي الإسلام من توحيد الله، واتحاد العباد
وكانت أم عمارة إحدى اثنتين من نساء يثرب جاءتا في الحجيج إلى مكة قبل الهجرة، وبايعتا النبي فيمن بايعه ليلة (العقبة الكبرى) ويالها من ليلة مشهودة، أنبثق من حواشيها السود، طلائع النور في يثرب الفيحاء
وليس من الهين على التاريخ أن ينسى أم عمارة وأم منيع وهما اللتان ظفرتا ببيعة النبي، فقد أخذ عليهما من غير مصافحة، وأقرتا له فقال لهما: اذهبن فقد بايعتكن وذهبتا لتمهيد النفوس للبشارة المحمدية الصافية، ولاستقباله يوم يقدم المدينة مهاجرا من قريش التي أخرجته من مكة، ولولا أن أخرجوه لكان له المقام الدائم في بلد به بيت الله الحرام، فهو لذلك احب البلاد إليه، والصق الأوطان بجلده، وأعمقها أثرا في لحمه ودمه
وطلع البدر على يثرب من ثنيات الوداع، ونزل بدار (أبي أيوب الأنصاري) وتوافد المهاجرون إرسالا من مكة، واخذ كل أنصاري يستضيف اخاه المهاجر حتى ليكاد أن يشاطره ماله، وينزل له عن إحدى زوجتيه حبا وكرامة، ولم تنقطع جفان بني النجار خاصة والأنصار عامة عن منزل رسول الله. تطعم منها ويطعم البائس الفقير من أهل الصفة
يالها من اربحيه تهز المكارم الملية في نفوس الأنصار رجالا ونساء، شيبا وشبانا، سواء في ذلك الأوس والخزرج، وقد اعتصموا بحبل الله (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) وانقلبوا بعد العداوة والراوة إخوانا وأحبابا، ورفت على صدورهم نعمة الإسلام،
وتضوعت بين أعطافهم رياحين الأيمان
في بيت من تلك البيوت، كانت شعلة الأيمان أسد توهجا، وأنصع بريقا، وكلما توالت الأيام، اتسعت آفاق الدعوة، وانتشرت أقطار الخير، على الرغم مما كان يبديه اليهود، ويخفيه المنافقون، وترجوه قريش
ولعل هذا الثلوث المعادي، كان العامل الأول في ازدياد عدد الأنصار، وإنقاذ جذوة الأيمان، واستعداد الكتائب لكل طارئ، وهم الذين بايعوا نبيهم على العسر واليسر والمنشط والمكره وقول الحق ولو كان مرا، لا يخشون في الله لومة لائم، ولا ينازعون الآمر وأهله
أيقن الأنصار أن قدوم النبي عليهم إنما فاتحة عهد جديد لهذا الدين الذي جاء ليشق بالمهاجرين والأنصار طريق الجهاد، وإنها لإحدى الحسنيين: نصر دين الله، أو استشهاد في سبيله، وكان ما كان من أمر النبي في غزوة بدر، حيث انتصر المسلمون وهم قلة في العدد والعدة
جاءت أم عمارة يوما تقول لرسول الله: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى للنساء شيئا: فتلا عليها قول الله تعالى (إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات الله، لهم مغفرة وأجرا عظيما)
ولزمت أم عمارة غرز نبيها الكريم، وكانت امرأة ضابطة جلدة، قوامة، لها من النفوذ والتأثير في بيتها وأهلها وجاراتها وصواحبها ما جعل الناس يتحدثون عنها كلما ذكروا خير نساء الأنصار، والسابقات منهن إلى الإسلام
ولم يكن ليفوت أم عمارة أن توثق صلتها بأهل البيت، بيت النبي الكريم، لترى عن كثب كيف تعمل فاطمة الزهراء بنت رسول الله، وسيدة نساء أهل الجنة، فاطمة البتول العابدة الزاهدة، ولترى فيها المثل الأعلى للمرأة المجاهدة بنفسها في سبيل الله. . ولتشهد مع هذا كله أمهات المؤمنين، وما ينعمن به عند الرسول الكريم من رعاية وعناية، وما يسعدن به من دون النساء من علوم الدين على يدي رسول هذا الدين
واستحوذت على أذهان نساء يثرب فكرة أخذت عليهن كل سبيل، فما وجدن عنها منصرفا،
ولا أردن عنها متحولا، وسرت هذه الفكرة بينهن غاديات رائحات، فأصبحت حديث الصباح والمساء، وكلما رأين رجالهن يدرجون في مراقي الجهاد سراعا، استصغرن عيشتهن هذه الضيقة، وكادت قلوبهن تطفر من أقفاصها لتنطلق كالسهام في ميادين الجهاد
هذه أسماء بنت يزيد الأنصارية تسأل رسول الله فتقول:
يا رسول الله: إن الله بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات قواعد بيوت ومواضع شهوات الرجال وحاملات أولادهم، وان الرجال فضلوا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا لهم أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟؟
عندئذ التفت النبي بوجهه إلى أصحابه من حوله، وقال: هل سمعتم مقالة امرأة احسن سؤالا عن دينها من هذه؟ قالوا: بلى يا رسول. فقال لها: انصرفي يا أسماء، واعلمي بأنك من النساء، أن حسن تبعل (ملاعبة) إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال)
وانصرفت أسماء وهي تهلهل وتكبر، استبشارا بما قال لها رسول الله، حيث لا زيادة لمستزيد. وترامى حديث أسماء إلى أسماع حزب النساء، فكان لهن من هدى الرسول نور يسترشدن به في هذه الحياة الأجتماعية، التي تزخر بالحيوية، وتفيضبالنشاط على غير ما كان معهودا في المدينة من قيل، بل ما كان ابعد نساء يثرب عنه، قبل أن تشرق عليهن شمس الإسلام، وقبل أن ينقشع الوخم والوباء عن الناس، ولولا دعوة النبي لها ما طاب بها مقام، ولا لذ فيها معاش
وأرادت أم المؤمنين عائشة أن تظفر بتصريح من زوجها النبي الكريم علها تأتي حزب النساء بجديد، يضاف إلى ما يشغل بالهن من أمر (جهاد المرأة)، فسألته ليأذن لها في الجهاد فقال: جهادكن الحج) وسألته غيرها من أمهات المؤمنين عن الجهاد فقال: نعم الجهاد الحج
هذا وفي رأس أم عمارة فكرة تكاد أن تنفجر ولكنها تستبقيها إلى حين، وفي صدرها وثبة إلى هدف كريم، وما كان أحرصها على الأستثئار به دون غيرها. . إنها آمنت وصدقت كل ما جاء على لسان النبي من القرآن والسنة. وهي امرأة من النساء وما قاله النبي لهن إنما يصدق عليها، فلا مفر من تسكين نزعتها المدوية بين جوانحها، ولا مناص من الإذعان
- كسائر النساء لأوامره ونواهيه، ومن أمهات المؤمنين، وهن ما هن شرفا ومكانة
ولكن أم عمارة قد أصرت إصرارا على أن تحمل السلاح وتنتظم في الصفوف، وتجاهد مع المجاهدين. فهل خرجت بذلك عن طوع القيادة؟. وهل خالفت عن أمر قائدها الأعلى؟. . كلا وما كان لها أن تفعل، ولكنها ذات امتياز على سائر النساء حتى أزواج النبي منهن، لأنها صاحبة عهد مع رسول الله منذ العقبة الكبرى، وهو الذي بايعها على الجهاد، فما ينبغي لها أن تنقض البيعة وأن كان للنساء في تصريحات النبي ذريعة للخروج من باب الجهاد. .
أفهل وقر في الأذهان أن بيعة العقبة أصبحت - ولو بالنسبة لأم عمارة وأم منيع - غير ذات موضوع. أم أنها استنفذت أغراضها، وفقدت صلاحيتها منذ هاجر النبي إلى المدينة، واستقر بها، وقال وأم عمارة وأسماء ما قال من إعفاء النساء من فريضة القتال. .؟
الحق أن القتال كره للرجال، ومع ذلك فقد كتبه الله عليهم، ومن يدري لعله يكون لهم خيرا. . من هذا الباب دخلت أم عمارة وحدها، بعد أن صممت تصميما تاما على الجهاد مع رسول الله، ولديها من المبررات ما بسند رأيها إذا أحتدم الجدال
عرفت أم عمارة أن جهاد النساء ليس واجبا، فلم لا يكون تطوعا، وها هي قريش بقضها وقضيضها، وخيلائها قد غادرت مكة ليس بها داع ولا مجيب، تحارب الله وتحاد رسوله، ليكون لها يوم بيوم بدر، وهذا أبو سفيان قد استخف قومه فأطاعوه
وترامت الأنباء إلى النبي، فأعد لهم من القوة ومن رباط الخيل ما استطاع، ونادى المنادي للجهاد فتقاطر المسلمون إلى الصفوف كأنهم بنيان مرصوص، منهم الغلمان أمثال رافع بن خديج وسمرة ابن جندب وأبو سعيد الخدري، وغيرهم ممن عرفوا بالرماية والمصارعة على حداثة أسنانهم، ومنهم عائشة وأم سليم وقد تطوعتا لنقل الماء على متونها لتفرغاه في افواه القوم، ومنهم الكهول الذين تاقت نفوسهم إلى الاستشهاد في سبيل الله كاليمان حسيل ابن جابر ورفاعة بن وقش ولم يقبلا أن يبقيا مرفوعين في الآطام مع النساء، ومنهم عمرو بن الجموح الذي اخذ يعدو إلى رسول الله ومن خلفه بنوه يصدونه وقد أعفاه الله من الجهاد لأنه اعرج، أما هو فقد أراد أن يطأ بعرجته في الجنة. ومنهم حنظلة الذي لم يبت ليلة عرسه إلا ليصبح على جنابة، فما أن سمع الهيعة حتى طار إليها ليكون غسيل الملائكة بين
السماء والأرض، واصطفوا عند (أحد) ظهورهم إلى الجبل
أفكان يهون على أم عمارة أن ترى هؤلاء وهؤلاء، وتقف هي من خلف الصفوف، والأمر يومئذ جد لا هزل، وقد لزم كل من المجاهدين والمجاهدات المكان الذي أمر به، وحذرهم النبي إلا يبرحوا اماكنهم، وامرهم بان يحموا ظهره وإلا كرت عليهم قريش بخيلها تحت إمرة خالد ابن الوليد
ودارت رحى القتال، وحمى الوطيس، واختلط الحابل بالنابل، وانقض المسلمون إلى الغنائم فتخلوا عن أماكنهم فانكشف النبي لعدوه، فكروا عليه كرة واحدة، وما أن رآهم يغشونه حتى مظر إلى من حوله وقال: من رجل يشري لنا نفسه؟ فقام زياد بن السكن في خمسة من الأنصار فقاتلوا دون لرسول الله، رجلا ثم رجلا، يقتلون من دونه حتى كان آخرهم زياد فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فائت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه
وانفض المسلمون من حول النبي، وتركوه قائما، فاقبل ابن قمئة وقد اختصر حرابه، وانقضى سهامه، وجعل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت أن نجا. ونساء قريش يذمرن الرجال، ويضربن الدفوف، وبنو عبد الدار يخشون أن تسقط اللواء منهم فلا يرتفع لهم راس في قريش ابدا، وهم لذلك يستجيبون لهذه الراجزة هند بنت عتبة وصواحبها، وهن مقبلات مدبرات ويقلن:
ويها بني عبد الدار
…
ويها حماة الأدبار=ضربا بكل بتار
نحن بنات طارق
…
نمشي على النمارق=مشي القطا البوارق
والمسك في المفارق
…
والدر في المخانق=أن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق
…
او تدبروا نفارق=فراق غير وامق
والتحم القتال، وقد اصمد المسلمون لا يلوون على أحد، والنبي يقول لهم:
أي عباد الله! أخراكم!
ولكن ذهبت دعوته أدراج الرياح، وان كان بعض الناس قد احدقوا بالنبي، ونثروا كناناتهم بين يديه، وأبو طلحة الأنصاري يقول: وجهي لوجهك فداء يا رسول الله. ثم يرمي اشد ما يكون الرمي، ويصرخ في القوم فكأنه زئير الأسد تتجاوب أصداؤه في جوانب الغاب، ولذلك قال النبي وقد سمع صوته يجلجل. (صوت أبي طلحة في الجيش خير من أربعين
رجلا) وكان حول النبي سعد بن أبي وقاص، وسهل بن حنيف وأبو دجانة، وقد اعتصب بالموت الأسود وزيادة بن الحارث الذي اخذ يرمي دون نبيه حتى مات شهيدا
ونادى عدو الله بن قمئة في الناس: أن محمدا قد قتل. . وإذا بالناس قد انتثروا من الحرب كما تنتثر الحبوب من بين شقي الرحى، وهي تدور في يد شيطان رجيم، ويستوقفهم مصعب بن عمير فيقول لهم: اثبتوا، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا
أقماك الله يا ابن قمئة، وكبك في النار يا أبا عامر، وشلت يداك يا عتبة. . أهكذا يشج وجه رسول الله، وتدخل حلقتا المفغر في صدغيه، فينزعهما أبو عبيده بأسنانه، فتكسر رباعية النبي وتشق شفته، ويسيل الدم على وجهه، فيمسحه بن عمه وختنه علي، ويتأثر النبي فيقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، ويتنزل عليه جبريل الأمين بقول رب العالمين:
(ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)
ويتفقد كعب بن مالك نبيه في هذه الغمرة، فيراه بحمد الله على غير ما يدعي عدو الله، فيتلفت إلى المسلمين، يبشرهم بان نبيهم لا يزال على قيد الحياة، فيشير النبي إليه أن أنصت، ثم تعتمل القوافي في وجدان شاعر النبي إذ يرى الكفار يظهرون الشماتة، وما تخفي صدورهم اكبر، فينبري لهم ويقول:
إن تقتلونا فدين الله فطرتنا
…
والقتل في الحق عند الله تفضيل
وإن تروا امرنا في رأيكم سفها
…
فرأى من خالف الإسلام تضليل
أين أنت في هذه المعمعة الدائرة يا أم عمارة؟
(للكلام بقية)
محمد محمود زيتون
نفوس عراقية ثائرة
للأستاذ حمدي الحسيني
1 -
الشيخ عبد المحسن الكاظمي - طيب الله ثراه - شاعر عربي استقلالي. نشأ في بغداد فاشتغل فيها بالتجارة ثم بالزراعة، فلم ينجح في كلا العملين فتوجه نحو الأدب وكل ميسر لما خلق له. فطالع كتب الأدب وحفظ من الشعر القديم أثني عشر ألف بيت فعرف فضله ونبه ذكره. واخذ يفكر في العرب والمسلمين، وما هم عليه من الخضوع والذل، حتى قدم السيد جمال الدين الأفغاني إلى بغداد منفيا من حكومة ايران فالتقى به الكاظمي وعقدت الصداقة والمبادئ بين قلبيهما. وما كاد الأفغاني ينفى من بغداد حتى شعر الكاظمي بان الخطر يقترب منه لأنه صديق الأفغاني ولأنه يناضل الحكومة العثمانية على نور القضية العربية، فاضطر أن يغادر بغداد وينتقل في البلاد الإسلامية حتى ألقى عصا تسياره إلى مصر، وجعلها دار إقامته، ولامس قضيتها الوطنية بزعامة سعد ملامسة قوية حارة، نظم فيها القصائد الكثيرة العامرة، ولم يخرج منها إلا بعض الأقطار العربية المجاورة.
وقد زار فلسطين وشرق الأردن بعد الحرب العالمية الأولى، فأقام بيننا في القدس مدة قصيرة رأينا خلالها من أدبه الجم ما ملأ النقوس إعجابا، ومن عواطفه الوطنية ما أفعم القلوب سرورا وطربا. مما دعا العرب في فلسطين أن يقوموا له بعد وفاته حفلة تأبين كبيرة في مدينة يافا دعوا إليها عددا من أهل الفضل في البلاد العربية. وقد تكلم في هذه الحفلة نخبة من عارفي فضل الكاظمي. والمعجبين بشعره ووطنيته وتضحيته، منهم المرحومان إبراهيم عبد القادر المازني وإسعاف النشاشيبي والأستاذان أسعد داغر وعجاج نويهض وكاتب هذه السطور وغيرهم
فالكاظمي يعد من شعراء القومية العربية والقضية الاستقلالية. وأما النبع الذي يفيض على سعره الوطني بالقوة فهو المبدأ القويم الراسخ. والكاظمي كان منفردا بين شعراء العرب والمعاصرين في القدرة على نظم المطولات ارتجالا. وأما أخلاقه الشخصية فالفضيلة بكل معانيها، ولعل الإباء وعفة النفس هي أقوى أخلاقه وهي من أقوى أسباب بؤسه وشقائه في حياته. ولنسمع الآن الكاظمي يخاطب حرية العرب المسلوبة ويتودد لهذه الحرية حتى تعود إلى البلاد العربية المشوقة لجمال طلعتها
يا حبذا يوم الجمال وحبذا
…
يوم الوصال وأجره المكسوب
يوم يعود لنا به استقلالنا
…
ويرد فيه حقنا المغصوب
حثام نحتمل المذلة طوعا
…
ولنا بآفاق البلاد وثوب
ولنسمع هذه القطعة القوية من شعره:
سيروا نذب عن الحمى
…
ونرد عنه المستبدا
نحمي حمى أوطاننا
…
ونصونها غورا ونجدا
ونرد عنها من عدا
…
ظلما عليها أو تعدى
أيروق لي عيش أرى
…
فيه الكريم الحر عبدا
وإذا نظرت إلى الهوا
…
ن رأيت طعم الموت شهدا
إن لم تكن تجدي الحيا
…
ة بعزها فالموت أجدى
2 -
السيد محمد رضا الشبيبي، شاعر عراقي بارز الشخصية، وقطب من أقطاب الحركة الفكرية والنهضة الوطنية في العراق. وهو فوق هذا ذو ثقافة إسلامية عالية ومقام اجتماعي رفيع. قرأنا طائفة من شعره فرأينا القوة تتدفق والوطنية تتألق
خسرت صفقتكم في معشر
…
شروا العار، وباعوا الوطنا
ضيعوه ولو اعتاضوا به
…
هذه الدنيا، لفلت ثمنا
يا عبيد المال خير منكم
…
جهلاء يعبدون الوثنا
إنني ذاك العراقي الذي
…
ذكر الشام وناجى اليمنا
إنني أعتد نجدا روضتي
…
وأرى جنة عدن، عدنا
وقد رأينا روح الوحدة العربية تتنفس في قصائد الشبيبي مما دلنا على إنه مؤمن بهذه الوحدة عامل لها
ببغداد أشتاق الشام وها أنا
…
إلى الكرخ من بغداد جم التشوق
فما أنا في أرض الشام بمشئم
…
ولا أنا في أرض العراق بمعرق
هما وطن فرد، وقد فرقوهما
…
رمى الله بالتشتيت شمل المفرق
3 -
السيد خيري الهنداوي، شاعر عراقي، اتصل في نشأته الأولى بالزهاوي والرصافي في بغداد وعاشرهما مدة طويلة فأفادته تلك المعاشرة في تفكيره وأسلوبه الشعري، وهدته
إلى أقوم الطرق وأصح الوسائل لخدمة القضية العربية. وقد سجنه الأتحاديون مرارا وضيقوا عليه الخناق حتى زال حكمهم فاشتغل بالوظائف في العراق. وقد نفي مع من نفي على أثر الثورة العراقية الكبرى. وقد رأيت فيما قرأته له من شعر، روح الرصافي مشرقة بين السطور أيما إشراق:
مرحبا بالخطوب إن هي كانت
…
سببا موصلا إلينا الحقوقا
وأحب الخطوب عندي حبس
…
فيه نستطيع بالكرام اللحوقا
لا أبالي إذا خدمت بلادي
…
أأسيرا رأيتني أم طليقا
وبك لا أرتضي الحياة بذل
…
قم فمزق إهابها تمزيقا
وأدر لي الرافدين حميا ال
…
حرب صرفا، وكسر الإبريقا
إن موتا يكون في ساحة الع
…
ز لموت أجدر به أن يروقا
4 -
الشيخ كاظم الدجيلي شاعر عراقي، واسع الإطلاع كثير المعرفة؛ اشتغل في بغداد بالصحافة قبل الحرب العالمية الأولى. وهو يحب الرحلة والتنقل، ويميل إلى التحقيق العلمي. قد رأينا فيما قرأناه له من شعر، قوة نزوع للحياة وشدة اندفاع للحرية، وهو يعتقد بأن لا بد للحق من قوة تعضده وإلا فهو ضائع
حديثك عن غيري القوي حرام
…
وسعيك في نصر الضعيف أثام
نحدث بمجد الأقوياء ففيهمو
…
قعود بأحكام الورى وقيام
إذا كنت بين العالمين أخا قوي
…
رعتك عيون الناس حيث تنام
حمى الغاب بأس الليث من كل طارق
…
ولم ينج من فتك البزاة حمام
يقولون أن الحق من فوق قوة
…
وما الحق إلا مدفع وحسام
إلى العز فاركبها معودة السري
…
عليها ركوب الصاغرين حرام
ولاتك عن نيل العلاء بقاعد
…
وفيك إلى نيل العلاء قيام
ولا ترض ذل الخاملين وعيشهم
…
فإن حياة الخاملين حمام
5 -
في يدنا للسيد أحمد الصافي النجفي - متعه الله بالصحة والعافية - ديوانان، الأمواج، وأشعة ملونة. فرأينا للصافي في هذين الديوانين نفسا كبيرة، ثائرة، نزاعة إلى مثلها العليا التي يحيا الصافي من أجلها ويموت في سبيلها؛ وهي الحق والحرية والرحمة. ونحن نعتقد
بأنه مخلص لهذه المبادئ، وأنه جاد في التقرب منها مجاهد في سبيل تحقيقها. وكيف لا يكون الصافي مخلصا لهذه المبادئ وهي أهداف لأقوى غرائزه ووسائل لإشباع أعرق رغباته. وكيف لا يكون للصافي هذا المقام الرفيع في قومه، وأهدافه مشتركة بينه وبين العرب في سائر بلاد العرب، بل مشتركة بينه وبين الإنسانية كافة. واستهداف الصافي للحق والحرية والرحمة يجعله في نظرنا ليس شاعرا عربيا فحسب، بل شاعرا إنسانيا يشترك مع جميع الناس في نصرة الحق المهضوم، واسترداد الحرية المسلوبة، وإرسال الرحمة نسيما عليلا معطرا ينعش نفوس البائسين. ومع كل هذا نرى في نفسية الصافي تعقدا وفي سلوكه شذوذا. ونعتقد أن سبب هذا التعقد وهذا الشذوذ، ما قست به الطبيعة عليه من مرض وما اشتدت به البيئة عليه من فقر
الفلاح - على الإطلاق - صديق للصافي، نراه يرفق به ويتوجع له مما لحق به من أذى الظلم الاجتماعي الذي يباعد بينه وبين سعادة الحياة وهناء العيش، على رغم ما يبذل في سبيل الحياة من عرق جبين وعضلات ساعد. ولكنه لا يقف منه عند حد التوجع، بل يدفعه إلى استنكار الظلم ودفع الحيف
حتام يا هذا لسانك الكن
…
وإلى م السنة الطغاة فصاح
كل الجناح على الضعيف إذا اعتدى
…
أما القوي فما عليه جناح
يا ريف أن كتاب بؤسك مشكل
…
يعيا بحل رموزه الشراح
أطيار روضك غالها باز العدى
…
وعدا على أسماكك التمساح
الورد قد خنقته أشواك الربى
…
ظلما. وفر البلبل الصداح
يا ريف مالك شرب أهلك آسن
…
رنق، وشرب ولاة أمرك راح
وإذا كان الصافي صديق الفلاح في كل أرض فهو صديق الشعب في كل وطن، فاسمعه الآن يخاطب الشعب المظلوم
لا تشك للعدل ضيما واشكه لظبا
…
فالعدل أصبح في الدنيا بلا أذن
لم يعطك العدل شيئا وهو ذو منن
…
والسيف يعطيك ما تهوى بلا منن
لا تنتظرن أن يرد العدل عنك أذى
…
فالحق في محبس القانون والسنن
ضعف الخراف دعا ذئب الفلاة لها
…
فالذئب للضعف، ليت الضعف لم يكن
وأسمع الصافي يصيح أبن الجرس؟؟
جرس النهضة قد دق فلم
…
نتيقظ حين دق الجرس
سرق الطامع أبهى مجدنا
…
ومضى يعدو فأين العسس
قد رقدنا أملا في حرس
…
ولقد نمنا نام الحرس
سهروا في أول الليل ومذ
…
نهض السارق يسعى، نعسوا
نسمة الإصلاح هبي نحونا
…
فلقد ضاق علينا النفس
هل نرى يوما سنا حرية
…
فلقد ساء علينا الفلس
وخذ هذه القطعة العامرة بقوة الكفاح والمغالية في سبيل الحياة
إن غصبت من الأسود لقمة
…
فاستخرج اللقمة من فم الأسد
إن مصاعب الحياة كلها
…
شديدة، لكنما الذل أشد
أحفظ كيان الجسم منك سالما
…
ثم اقطع العضو، إذا العضو فسد
لا تنصبوا من فسدت نيته
…
فما يرى الأشياء طرف ذو رمد
حمدي الحسيني
المكتبة العربية في عصر الحروب الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 3 -
تلك هي العوامل التي نهضت بالثقافة في ذلك العصر، وأغنت المكتبة العربية غنى ساهم فيه علماء ممتازون لا تزال أسماؤهم حية إلى يومنا، ولا تزال كتبهم باقية تدرس:
ففي القراءات نجد أشهر ما بقي لنا من ذلك العصر منظومة الشاطبية لمؤلفها القاسم بن فيرة الشاطبي المتوفي سنة 591، وقد استقبل العلماء تلك المنظومة منذ إنشائها خير استقبال، وبالغ الناس في التغالي بها، وأخذ أقوالها مسلمة، واعتبار ألفاظها منطوقا ومفهوما، حتى خرجوا بذلك عن حد أن تكون لغير معصوم
وساهم في تفسير القرآن يومئذ عدد كبير من العلماء أنتجوا أكثر من ثلاثين تفسيرا اشترك في تأليفها الشاعر الأديب كالحسن ابن الزبير، والفقيه المشرع كالعز بن عبد السلام، والواعظ المؤرخ كسبط ابن الجوزي، والنحوي كعلي بن عبد الله الوهراني، والمتكلم كعلي بن أحمد التجيبي، والصوفي كابن العربي، والطبيب كابن اللبودي، والمقرئ كعلم الدين السخاوي
وفي دار الكتب من أثار هذه الحقبة جزء من تفسير ابن المنير. وكتابه الانتصاف من الكشاف؛ ولابن العربي بعض تفسيره وكتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن، وكتاب رد معاني الآيات المحكمات؛ كما بقى للعز بن عبد السلام تفسيره وفوائد له، وهي أسئلة وأجوبه تتعلق بالقرآن الكريم، وكتاب كشف الإشكالات عن بعض الآيات وهي أجوبه عن أسئلة مشكلة في آيات من القرآن الكريم، كما عثرنا على بعض تفسير ابن ظفر الصقلي الذي سماه ينبوع الحياة، وعلى منظومة السخاوي في بيان متشابهات الكتاب، ومنظومة الديربني في التفسير
وقد تنوعت كتب التفسير في هذا العصر بين موجزة، وبين مطولة قد تبلغ خمسين سفرا أو تزيد
ولم يقف نشاط العلماء عند تفسير القرآن مجتمعا، بل انصرفت طائفة إلى تنظيم الاستفادة من كتب التفسير التي وضعها سواهم فاختصروها أو أكملوها، ومنهم من فسر جزءا منه قد
يكون آية أو سورة أو آيات متناثرات. ومنهم من أنصرف إلى ناحية خاصة في القرآن فدرس الناسخ والمنسوخ فيه، أو درس ما قد يتراءى من آيات مشكلة أو متشابة، أو تعرض لأسرار ما بدئت به بعض السور من الحروف، أو تحدث في أمثال القرآن، أو إعرابه، أو وصف خطه، أو ألف في علومه
وأشهر تفسير بقي لنا من ذلك العصر هو تفسير القرطبي الذي سماه: جامع أحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان. وتقوم دار الكتب بطبعه وتقدر أنها ستتمه في نحو عشرين جزءا؛ وقد بدأ القرطبي موضحا الخطة التي أنتهجها في كتابه بقوله:(وبعد فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع، الذي أستقل بالسني والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ فيه منتي، بأن أكتب فيه تعليقا وجيزا يتضمن نكتا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعا بين معانيها، ومبينا ما أشكل منها، بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف. . وأضربت عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين، إلا ما لابد منه ولا غناء عنه للتبيين، واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام بمسائل تسفر عن معناها وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل آية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير والغريب والحكم فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل وهكذا إلى آخر الكتاب.) ٍ
وأشتغل بدراسة الحديث رواية ودراية في ذلك العصر طائفة كبيرة عرفت منهم زهاء ثلاثمائة
ولما كانت أمهات كتب الحديث قد وضعت قبل ذلك العصر فإنها قد جعلت أساس دراسة الحديث يومئذ يقرؤها الأساتذة في دروسهم، ويحفظها المحدثون في صدورهم ويدور حوله المؤلفون. فرأينا طائفة من العلماء قد تصدت لشرح هذه الكتب أو اختصارها أو للجمع بينها أو إعرابها أو معرفة ما أتفق عليه مؤلفوها
وظهر في هذا العصر ولوع بأن يجمع العالم من مختاراته أربعين حديثا، فمنهم كن اختارها قدسية، ومنهم من اختارها في الأحكام، ومنهم من جمعها في فضائل القرآن، ومنهم من
اختارها متعلقة بالطب، كما تنوعت اتجاهات رجال الحديث في ذلك الحين: فمنهم من جمع أحاديث ترتبط بموضوع معين كما جمع ضياء الدين المقدسي أحاديث الحرف والصوت، والنووي أحاديث الترغيب والترهيب، ومنهم من جمع الأحاديث التي ترتبط بالأحكام الشرعية ورتبها على أبواب الفقه كما فعل ابن دقيق العيد في كتابه: الإمام في أحاديث الأحكام، صنفه في عشرين جزءا، جمع فيه متون الأحاديث المتعلقة بالأحكام مجردة عن الأسانيد ثم شرحه، وجمع في هذا الشرح ما جعله مؤلفا حافلا لم يصنف مثله، ولكنه لم يكمله، ولو كملت نسخته لأغنت عن كل مصنف في هذا الباب.
أما علوم الحديث وتسمى مصطلح الحديث، وهي ما تبحث في أحوال السند، من حيث اتصاله وانقطاعه، وقوة رجاله أو ضعفهم، وفي نقد المتن من حيث صحته أو شذوذه أو تحريفه أو تصحيفه، فقد ظفرت في هذا العصر بكتاب عد مرجعا في هذا الشأن منذ تأليفه، وهو كتاب ابن الصلاح الذي بين أحكامه، وفصل أقسامه، وأوضح أصوله، وشرح فروعه وفصوله
ومن أشهر رجال الحديث المؤلفين فيه حينئذ ابن عساكر، والسلفي، وعبد الغني المقدسي، وابن الصلاح، وعبد العظيم المنذري، ومحي الدين النووي، والشرف الدمياطي
أما الفقه فكان المذهب المعمول به في مصر عندما شبت الحروب الصليبية مذهب الشيعة، فلما ولي صلاح الدين تظاهر الناس بمذهب مالك والشافعي، ولما كان نور الدين محمود حنفيا نشر مذهب أبي حنيفة ببلاد الشام، وقدم منهم عدة إلى مصر
وكان مذهب الشافعي له قصب السبق في مصر ويليه مذهب مالك وأبي حنيفة فأحمد بن حنبل. وكانت المكانة الأولى في الشام لمذهب أبي حنيفة ثم للشافعي، ويحتل مذهب ابن حنبل الرتبة الثالثة بينما يقل مذهب مالك في تلك الربوع
لا أستطيع أن أرسم صورة صحيحة للجهود العلمية التي بذلها علماء الشيعة، فكثير منها قد أندثر بانتهاء العهد الفاطمي لحرص الدولة الأيوبية على محو رسومهم وآثارهم؛ وفي مذهب الشافعي عني العلماء يومئذ بشرح كبريات كتب المذهب الوافدة عليهم، ككتابي التنبيه والمهذب لأبي إسحاق الشيرازي، وكتابي الوسيط والوجيز للغزالي، والمحرر للقزويني. وكان من أهم مختصراته كتاب منهاج الطالبين للنووي
ولم يقف جهد العلماء عند حد شرح الكتب الوافدة واختصارها بل ساهموا بإنتاجهم الخاص المستقل، فوضعوا كتبا كثيرة كان من أهمها كتاب القواعد الكبرى لعز الدين بن عبد السلام، قال عنه صاحب كشف الظنون: وليس لأحد مثله، وله القواعد الصغرى أيضا، وساهم ابن أبي عصرون في الإنتاج مساهمة كبرى فوضع مآخذ النظر، وكتاب الذريعة في معرفة الشريعة، وكتاب الانتصار لمذهب الشافعي وهو كبير في أربع مجلدات، وكتاب المرشد في مجلدين، وهو أحكام مجردة بلفظ وجيز كانت الفتوى عليه في مصر قبل وصول الرافعي الكبير إليها، وكتاب التنبيه في معرفة الأحكام، كما وضع مجلى بن جميع كتاب الذخائر، وعبد الله الفهري كتابه المجموع، وابن شداد كتابه الموجز، وابو شامة المقدسي أرجوزة في الفقه وكتابا سماه المذهب، وموسى القشيري كتابه المغنى
وعني رجال أبي حنيفة يومئذ بكتب أربعة وفدت إليهم هي الجامع الكبير والجامع الصغير لمؤلفهما محمد بن الحسن الشيباني ومختصر القدوري وكتاب الهداية، فشرحوا بعضها ونظموا البعض الآخر. ولم يقف جهدهم عند دراسة هذه الكتب وخدمتها ولكنهم أضافوا ثروة جديدة إلى ثروة الأقدمين؛ ذكر ابن خلكان أن المعظم عيسى أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه فجردوه له في عشر مجلدات، وسموه التذكرة المعظمية نسبة إليه، وكان لا يفارقه سفرا ولا حضرا ويديم مطالعته. ووضع كثير من العلماء كتبا، فرأينا الغزنوي يضع كتابا عرف بالمقدمة الغزنوية، والعامري يؤلف كتابه المبسوط في نحو ثلاثين مجلدا، ولعل أكبر ما وضعه علماء هذا العصر كتاب المحيط للسرخسي في أربعين مجلدا، وللعلماء حديث طويل في صحة نسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه
وفي مذهب مالك كان كتاب المدونة لعبد الرحمن بن القاسم المالكي المتوفي سنة 191 من أعظم ما عني به في عصر الحروب الصليبية، درسها العلماء وشرحوها وهذبوها، ومن أشهر من هذبها يومئذ البرادعي، وقد صار تهذيبه من أجل كتب المالكية فقام العلماء على شرحه حينا واختصاره حينا آخر
أما ما وضعه العلماء في فقه المالكية حينئذ فمن أهمه كتاب الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة؛ وقد عكفت عليه طائفة المالكية بمصر يدرسونه ويحفظونه. أما الكتاب الذي وضعه ابن الحاجب وعرف بالمختصر، فقد ظفر من العلماء بعناية خاصة وأصبح مرجعا لهم
وشرحوه. كما وضع القرافي كتابيه الذخيرة والقواعد
وكان مختصر الخرقي لعمر بن حسين الدمشقي المتوفي سنة 334 مما يدرس في ذلك العصر، ويعنى به شرحه موفق الدين ابن قدامة المقدسي في كتاب سماه المغنى وهو من أهم كتب الحنابلة، كما ألف المقنع الذي شرحه ابن أخيه عبد الرحمن بن محمد في عشر مجلدات وألف العمدة واختصر الهداية
ولا عجب أن نرى هذه العناية بالفقه فقد كان مصدر التشريع يومئذ، وكان السلاطين أنفسهم يدرسونه لحاجتهم إليه في الفصل فيما يعرض عليهم من القضايا وهم جالسون بدار العدل مع القضاة
وفي أصول الفقه كان كتاب المحصول لفخر الدين الرازي أشهر ما يدرس في مصر والشام، اختصره العلماء أحيانا وشرحوه أحيانا أخرى، وجمعوا ما فيه من المعلومات وزادوا عليها ما نقصه منها
وقدمت البلاد في هذه المادة كتبا عدت من أصول كتبه ومن أهم مراجعه، ومن ذلك كتاب الإحكام للآمدي، واختصر ابن الحاجب هذا الكتاب في مصنف سماه منتهى السول والأمل، ثم عاد فاختصر المنتهى في كتاب عرف عند الأصوليين بمختصر ابن الحاجب، قال عنه صاحب كشف الظنون: هو مختصر غريب في صنعه، بديع في فنه؛ وظفر هذا المختصر بعناية العلماء حتى فاق في ذلك كتاب المحصول
وظفرت المكتبة العربية في مادة أصول التربية بمحصول ضخم، فقد عني في هذا العصر بعلم الكلام لتصحيح العقيدة الدينية والدفاع عنها، في وقت كان من أشد الأوقات اصطداما بالعقيدة المسيحية. وكثيرا ما كانت المناظرات تجري بين رجال من الصليبيين ورجال من المسلمين، ويروي ابن شداد في كتابه النوادر السلطانية (ص 80) بعض هذه المناظرات
ويضاف إلى هذا العامل ما كان بين الشيعة وأهل السنة من الخلاف في بعض العقائد، وما كان بين الأشاعرة والحنابلة من خلاف دفع كل فريق من هؤلاء إلى أن يدافع عن عقيدته
وكان الإنتاج في هذه المادة ممثلا لتلك الحركة وصدى لها، فرأينا كثيرا من العلماء قد تصدى للرد على النصارى والدفاع عن عقيدة الإسلام كالوزير القفطي، والقرافي الذي سمى كتابه: الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، والديريني في كتابه: إرشاد الحيارى في
روع من مارى
وفي عصر سيادة السلطان الشيعي رأينا طلائع به رزبك يؤلف كتاب الاعتماد، في الرد على أهل العناد، وعندما زالت دولة هذا المذهب رأينا العلماء يتصدون للرد عليه، فرأينا مثلا بهاء الدين الففطى يؤلف كتاب النصائح المفترضة في فضائح الرفضة، ولما ساد المذهب الأشعري تصدى العلماء لنصرته والدفاع عنه، فكتب ابن عساكر رسالة يرد فيها على من انتقص الأشعري، وأخذ الأشاعرة يردون على من خالفهم من المعطلة والحنابلة، وحاول بعض العلماء التوفيق بين المذهبين كما فعل ذلك عبد الغني النابلسي في كتابه التوفيق الجلي بين الأشعري والحنبلي
وضع علماء ذلك العصر كتبا تتناول مسائل علم الكلام من إلهيات ونبويات وسمعيات، وعرفت من هذه الكتب زهاء عشرين، منها ما وضعه ابن دقيق العيد، والعز بن عبد السلام.
وأكثروا من كتابة عقائدهم التي يدينون الله بها، ونستطيع أن نرى نموذجا لما كتب من هذه العقائد في عقيدة العز بن عبد السلام، وهي برمتها في كتاب طبقات الشافعية للسبكي (ج 5 ص 85)
وعالج بعض العلماء كثيرا من المسائل الجزئية التي كانت موضع جدل في ذلك العصر، مثل مسألة القضاء والقدر، وقد نالت رجال هذا العهد حظا موفورا، ومسألة الثواب والعقاب وهي ترتبط بالمسألة السالفة ارتباطا وثيقا، كما أثار الحنابلة موضوع صفات الله، ومعنى ثبوتها له، والقرآن وقدمه وحدوثه، فرأينا كتبا تتناول هذه المسائل بالبحث والتفصيل
ومن أشهر متكلمي هذا العهد شهاب الدين الطوسي، وسيف الدين الآمدي، وعلاء الدين الباجي
للكلام صلة
أحمد أحمد بدوي
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
أستاذ جامعي يتسول:
لم أكن أحب أن أعود الآن إلى الدكتور عبد الرحمن بدوي. . . لم أكن والله أحب أن أعود، ولكن ماذا أفعل وهو يجبرني على العودة إجبارا ويدفعني إليها دفعا دون أن يترك لي شيئا من الحرية أو شيئا من الاختيار؟! وما ذنبي إذا كأن الأستاذ الجليل والفيلسوف الكبير قد أعجب كل الإعجاب بقصة مالك الحزين، حتى لقد مثلها بالأمس على مسرح الفكر ثم عاد اليوم ليمثلها مرة أخرى على مسرح الحياة؟! هل تذكر دوره الخالد الذي قام بتمثيله خير قيام على صفحات كتابه (أر سطو عند العرب) و (الإشارات الإلهية)؟ ليس من شك في أنك تذكره، لأن أثار التصفيق الحاد لا تزال واضحة على كفيك. . . إن هذا الدور الخالد - أقصد دور مالك الحزين - قد مثل من جديد ببراعة ليس لها نظير، وصفق اليوم بقوة كما صفقت بالأمس، وإياك أن تستهجن حركات الممثل البارع فتملأ الجو بالصفير!!
هل قرأت جريدة (الأساس) في عددها الصادر يوم 19 فبراير؟ إذا لم تكن قرأتها فقد نبنا عنك في قرأتها لننقل إليك هذا النبأ المثير. . . قالت الجريدة في صفحتها الثالثة وتحت هذا العنوان: (اقتراح جديد لعله يفيد)، قالت في مجال حملتها على وزارة المعارف وتعريضها بشراء الكتب الإضافية: (تلقينا من الدكتور عبد الرحمن بدوي أستاذ الفلسفة بجامعة إبراهيم كلمة يعلق بها على المناقشات الدائرة حول ما يؤخذ على وزارة المعارف في شرائها كتب المطالعة الإضافية للمدارس وكتب المكتبات. وقد تضمنت كلمته اقتراحا جاء فيه:
(عندي اقتراح يرفع الأمر عن كليهما، وقديما قال حكيم: من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن، وهو أن نبعد الشبهة ومواطنها فتلغي وزارة المعارف نظام شراء الكتب غير المدرسية أيا كان نوعها. وعلى المؤلفين أن ينزلوا إلى السوق والجمهور، فهو الفيصل النهائي في تقدير أعمالهم، وليس لجنة ولا هيئة يعلم الكل بأي وحي تسير ووفق أي هوى تعمل. . . وفي هذا الاقتراح ما يشرف كرامة المؤلفين، ويصون قيمة الأعمال العلمية والأدبية، ويحررهم من عبودية الدولة، باستجدائها وتملق رضاها. والمفكر والأديب الحق هو الذي يحرص على هذه الحرية وتلك الكرامة، فينزل إلى جمهور القراء وجها
لوجه. ولسنا نعرف في أمة متحضرة مثل هذا التسول العلمي والأدبي الذي يلجأ إليه المؤلفون لدى ديوان العطاء الحكومي. . . فهل يتفضل معالي وزير المعارف فيحسم الأمر بهذا الاقتراح، وهو أحرص الناس على كرامة العلم والأدب)
هذا هو نص الاقتراح الذي تفتقت عنه عبقرية العالم الجليل السيد بدوي. . . اقرأه بعناية، ثم تقبل مني أحر الرجاء بأن تقف طويلا أمام تلك الكلمات التي تحتها خط، لأن مالك الحزين طيب الله ثراه هو الذي ضغط على يدي لتضع هذا الخط اللعين تحت تلك الكلمات. . أن العالم الجليل هنا يتحدث عن الحرية، ويتحدث عن الكرامة، ويلقي على الأدباء (المتسولين) درسا لن ينسى الدقة وروعة ألفاظه ومعانيه! هل تصدق إنني حين قرأت تلك الكلمات منذ بضعة أيام، قفز إلى ذهني خاطر عجيب هو أن السيد بدوي إنسان يستحق الاحترام؟ لقد قلت لنفسي يومئذ أنني استغفر له فضائحه العلمية التي هزت سمعة الجامعة، وسأذكر له غير أنه إنسان ينظر إلى الكرامة على أنها شعار كل عالم وأديب وما أجدر المفكرين الأحرار الذين عناهم العالم الجليل بكلماته وما أجدرهم أن يعوا هذا الدرس القيم ليحفظوا ماء الوجوه وإقامة النفوس، حين يبتعدون عن مثل هذا (التسول) والأدبي الذي يلجأ إليه البعض لدى ديوان العطاء الحكيم!
هذا ما قلته لنفسي يوم أ، وقعت عيناي على اقتراح العالم الجليل، وعلمت أنني ظننت أنه كريم جدا على نفسه، لا يرتضي لا أن تهبط هذا الدرك (الوضيع) الذي يهبط إليه غيره من الأدباء المقبولين، حين يجبنون على لقاء الجمهور فلا يجدون أمامهم من طرق الاستجداء غير وزارة المعارف. . . ولكن العالم الجليل قد خيب ظني في مثاليته، لأن هذه المثالية كانت حبرا على ورق، شأنها في ذلك شأن المعاهدات السياسية في هذه الأيام!
لقد قال حضرته للناشرين في كتابه (أر سطو عند العرب) أنكم جهلاء، ثم راح يرسم لهم الطريق، ثم ما لبث أن صافح الجهل وعانقه وقبل خديه في (الإشارات الإلهية). . وقال حضرته للمؤلفين في كلمته التي نشرتها (الأساس) أنكم غير كرماء، ثم ألقى عليهم درسا في الكرامة، ثم ما لبث أن قادته قدماه إلى وزارة المعارف ليطمئن على كتبه الغالية. . أعني ليتسول على حد تعبيره البليغ
لقد قلت لك أن هذا الدور الخالد - دور مالك الحزين - قد مثل من جديد ببراعة ليس لها
نظير. . . وصفق اليوم بقوة كما صفقت بالأمس، وإياك أن تستهجن حركات الممثل البارع فتملأ الجو بالصفير! أنه حظ سيئ ذلك الذي أوحى إلى العالم الجليل بأن يذهب إلى وزارة المعارف ليتسول على مرأى ومسمع من كاتب هذه السطور؛ حظ سيئ لأنه لم يكن يعلم أنني أعمل هناك، في تلك الإدارة المختصة بفحص الكتب والتأشير عليها بالرفض أو القبول. . وحظ سيئ للمرة الثالثة حيث حضر إلينا العالم الجليل في يوم الأحد 25 فبراير، وحديثه عن التسول والمتسولين لم يجف له مداد!
أنها خمسة أيام فقط بين حديثه عن الحرية، والكرامة، والتسول العلمي والأدبي، وبين مجيئه إلى وزارة المعارف، وسؤاله عن كتبه التي رفضت، وشكواه إلى المسئولين من أن مواهبه الفذة لم تكن محمل رعاية وتقدير!!
ويا لها من لحظة تلك التي لن ينساها صديقنا الدكتور محمد يوسف موسى وغيره من حضرات الزائرين، حين تطرق الحديث إلى مقالات (الرسالة) و (الثقافة) حول الفضيحة العلمية التي هزت سمعة الجامعة. . . لقد كأن النقاش دائرا حول العالم الجليل حين فتح باب الحجرة، ونفذ منه رأس مليء علما هو رأس الدكتور عبد الرحمن بدوي! إلى هنا وأقف قليلا لأنقل إليك مشهدا من المشاهد يندر أن ترى له مثيلا على شاشة السينما أو خشبة المسرح، وأعني به مشهد الدكتور بدوي حين وقعت عيناه على كاتب هذه السطور. . . لقد أذهلته المفاجأة حتى وقف في مكانه من الحجرة حائرا لا يريم: لا خطوة إلى الخلف، ولا خطوة إلى الأمام، ولا كلمة ينقذ بها نفسه من بسمات الشفاه ونظرات العيون! هل رأيت في حياتك فأرا صغيرا قد أطبقت عليه مصيدة لم تكن له في حساب؟ إذا كنت قد رأيته فحسبك هذا الإيجاز وأعفني من مشقة الإطناب. . ولا أطيل عليك فقد أشفق عليه أحد الزملاء ونهض ليصحبه إلى الحجرة المجاورة، وهناك أخبره العالم الجليل يسبب مجيئه، وهو أنه أراد أن يطمئن على كتبه الغالية! وما كأن أخبث الزميل الفاضل حين لحق به ليقول له: لقد فحصنا كل كتبك يا دكتور. . حتى (الإشارات الإلهية)!
واترك هذا كله على رسالة للأديب الفاضل محمود أحمد الشربيني بكلية الآداب جامعة فاروق، حيث يوجه ألي فيها الكلمات: (أريد أن أسألك يا سيدي. . . إذا كأن هذا هو فهم الدكتور عبد الرحمن بدوي للنصوص العربية التي هي جزء من لغته ولغة أجداده، فكيف
يكون فهمه للنصوص الفرنسية مثلا وهي جزء من لغة أخرى لا يعقل أن يجيدها أجادته للغته؟! يخيل إلى أن الحقيقة قد بدأت تتضح لي، بعد أن كنت أتهم نفسي بالغباء كلما قرأت للدكتور بدوي كتابا مترجما عن لغة أجنبية! فمن المؤكد أنه لا يفهم النص الذي يترجمه حق الفهم، ولهذا تبدو أكثر ترجماته ملتوية وغامضة، ولو كانت واضحة في ذهنه لا نعكس هذا الوضوح في نقلها إلى العربية أليس كذلك يا سيدي؟ أنني في انتصار جوابك)!
هذه هي كلمات الأديب الفاضل، وردي عليها هو أن أقول له: أنك لم تعد الصاب في هذا الذي ذهبت أليه ولست أدري كيف كنت تتهم نفسك بالغباء وأنت تملك هذا القدر من الذكاء. أن ذكائك بخير يا صديقي، لأنك لو كنت غبيا لاستطعت أن تفهم كتب السيد بدوي المترجمة عن لغات أجنبية! حسبك أن معالي الدكتور طه حسين باشا قال له يوما أن كأن يناقشه في رسالة الماجستير: أن الشيء الذي يحيرني هو أن اللغة الفرنسية وهي لغة الوضوح والإبانة، تصير على يديك وهي لغة الغموض والتعقيد!! بعد هذا أود أن يرجع الأديب الفاضل إلى (تعقيبات) العدد (819) من الرسالة، ليقرأ هذه الكلمات التي كتبتها منذ عامين، وهي تثبت أن بعض النابغين من طلاب المدارس الثانوية، يفهمون اللغة الفرنسية خيرا مما يفهمها العالم الجليل:(تحدث الدكتور عبد الرحمن بدوي في عدد (شباط) من مجلة الأديب اللبنانية عن مسرحية الأيدي القذرة للكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. . ولقد استوقفني ما جاء بمقاله من ترجمه خاطئة لبعض كلمات رأيت أن أصححها، حتى لا تبعد الشقة بين أصلها في الفرنسية وبين ما يقابلهافي اللغة العربية. ترجم الدكتور هذه الكلمات وهي عنوان مسرحية لسارتر (العاهر المهيبة)؛ وهنا يبدو شيء من الانحراف في الترجمة لا يستقيم المعنى سواء أكان منسوبا إلى عنوان المسرحية أم كأن منسوبا إلى التي بنية عليها. . أن المهابة كما يدل عليها موال محيطين ضوع المسرحية وكلمة لا تنسب إلى (العاهر) وإنما تنسب إلى بها من عشاق الجسد، أولئك الذين كانت ترحب بهم وتحتفي بمقدمهم؛ وأذن تكون الترجمة (العاهر الحفية). . . أما (العاهر المهيبة) فلا يقابلها بالفرنسية غير هذه الكلمات
وترجم الدكتور بدوي عنوان أخرى لسارتر ترجمه خاطئ وهي مسرحية حيث قابلها بكلمة (القرف)، مع أن ترجمتها الدقيقة هي الغثيان). . . والفارق بين الترجمتين بعيد!
إلى أخر ما قلته في هذا المجال). . .
ومع هذا كله فلا يزال السيد عبد الرحمن بدوي أستاذا في الجامعة!!
شاعر في الميزان:
أدباء السودان الذين يتلقون العلم في القاهرة عاتبون على، ومرد العتاب الذي يمتزج بالدهشة حينا وبالعجب حينا آخر، إلى أنني لم اقرأ شيا من شعر شاعرهم الراحل: التيجاني يوسف بشير! هذا ما جهرت به في العدد (920) من الرسالة حين طلب إلى زميل لهم من (أم درمان) أن أتحدث عن شعر التيجاني إلى جمهرة القراء. . . لقد كأن عذري في هذا الذي جهرت به، هو أن ديوانه (إشراقة) لم يقع بين يدي في يوم من الأيام، قلت هذا على صفحات (الرسالة)، منهتا إلى أنني لن أتأخر عن النظر في شعر التيجاني إذا ما تفضل أحد القراءفبعث إلى بديوانه. . . ومنذ أيام أربعة تلقيت هذا الديوأن؛ تلقيته من الأديب الفاضل أحمد عيسى كنفحة من نفحات الوفاء. واليوم وبعد أن فرغت من ديوانه وأرسلت الذوق وراء أبياته، أستطيع أن أتناول قلمي لأكتب عن التيجاني يوسف بشير، الشاعر الذي كشفت لي عن جوهره الثمين رسالة من أم درمان! وفي عدد مقبل من (الرسالة) سيكون لي مع شعر التيجاني موعد ولقاء
كلمة عن صديق:
كتب الأديب الفاضل وحيد الدين بهاء الدين (كركوك - العراق)، يسألني عن الأديب العراقي الصديق الأستاذ غائب طعمة فرمان، شهيد الظلم في العراق وطريح الفراش في مصر. . . يا أخي، أنني أشكر لك سؤالك ووفاءك، وإذا كنت تطلب ألي بحق الصداقة أن أزوره لأخفف عنه وأطمئن عليه فأنني أقول لك: أن الصداقة في حساب الشعور شيء مقدس. . . ولك أن تثق من أني قد زرته وسأزوره حتى يشعر بأنه في وطنه وبين أهله! أن الصديق العراقي بخير، وأرجو أن يغادر المستشفى في الغد القريب ليستأنف جهاده في طلب العلم وخدمة الأدب. . . كتب الله له أن يستروح أنسام العافية ويقبس من ضياء الأمل
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضير
حب الرافعي:
(وبعد فقد كدت أخرج برأي في حب (الرافعي) بعد أن فرغت من قراءة كتابه (رسائل الأحزان)، بيد أني تذكرت ما كتبته في (الرسالة) منذ عامين، فرجعت إليه أتلمس الحقيقة، وأنشد الفائدة. . . وفتحت عيني على جديد، إذ رأيت كل ما كتب عن هذا الموضوع لا يكاد يكون فيه ما يطمأن إليه الباحث، وبرضى التاريخ. . . والواقع أن صدق (الرافعي) في حبه، أو نقص (الصدق الفني) فيم كتبه في (تصوير العواطف، وفلسفة الحب والجمال) أمر له خطره وأثره في أدب الرجل، وعقول قرائه ولقد أثر الأستاذ (العريان) أن يكون (راوية) فحسب.
والحق أني حين رجعت إلى كتابه (حياة الرافعي) ممحصا له رأيت أنه يلقي أكبر ضوء على هذا الموضوع الذي شغل الأذهان وقتا ما، وهاأنذا أضع من الادله ما يثبت أن (الرافعي) كأن صادق الحب، وأن ما كتبه فيما يمت إلى ذلك بسبب أم يكن يعوزه (الصدق الفني) ولك بعد ذلك حرية الرأي أن توافقني فيما أذهب أليه، أو تطلع علينا برأي جديد. . . يقول الأستاذ (العريان) - وأن كان لم يذكر اسم (مي) -:
(. . . كان يحبها حبا عنيفا جارما لا يقف في سبيله شيء، ولكنه حب ليس من حب الناس، حب فوق الشهوات وفوق الغايات الدنيا، لأنه ليس له مدى ولا غاية. لقد كان يلتمس مثل هذا الحب من ليجد فيه ينبوع الشعر وصفاء الروح، وقد وجدهما ولكن في نفسه لا في لسانه وقلمه، وأحس وشعر وتنورت نفسه الآفاق البعيدة، ولكن ليثور بكل ذلك دمه، وتصطرع عواطفه، ولا يجد البيان الذي يصف نفسه ويبين عن خواطره. . .)
ثم يقول بعد ذلك:
(. . . لقد أحبها جهد الحب ومداه، حبا أضل نفسه وشرد فكره، وسلبه القرار، ولكنه حب عجيب ليس فيه حنين الحكمة إلى الحكمة، وهفوة الشعر إلى الشعر، وخلوة الروح إلى الروح في مفاجأة طويلة كأنها تسبيح وعبادة، وأسرف عليه هذا الحب حتى عاد في
غمراته خلقا بلا أرادة، فليس له من دنياه إلا هي، وليس له من نفسه إلا ما تهب له من نفسه. . .)
ويقول أيضا:
(. . . وكأن يحبها ليجد في حبها ينبوع الشعر، فما وجد الحب وحده، بل وجد الحب والألم، وثورة النفس وقلق الحياة، ووجد في كل أولئك ينابيع من الشعر والحكمة تفيض بها نفسه وينفعل بها جنانه ويضيء بها فكره، وكأن آخر حبه الألم، وكانت آلامه أول قدحت من شرار الشعر والحكمة. . . وقالت له نفسه: (ها أنت قد بلغت من الحب ما كنت ترجو فلم تبق إلا الغاية الثانية، وأنك عنها لعف كريم. . .)
. . . مما تقدم نرى أن (الرافعي) كأن صادقا في حبه إلى حد بعيد، صادقا فيما كتب عن ذلك الحب، ولولا ضيق المقام لأوردت أكثر من ذلك مما يدعم وجهة نظري في هذا الموضوع، ولكن هذا حسبي، ولك بعد ذلك رأيك ولعل أحدا من تلاميذ (الرافعي) ينجم علينا بجديد يفيد.! وفي النهاية تقبل شكر وتقدير الخالص:
إسكندرية
صبري حسن الباقوري
يشير حسن الياقوري إلى ما كتبه في (الرسالة) منذ عامين عن (حب الرافعي) والذي فعلت إذ ذاك أن أتيت براين للصديق الأستاذ حسنين حسن مخلوف وكامل محمود حبيب في هذا الحب، يرى الأول أن الافعي أن يحدث في اللغة العربية لونا من الفن الممزوج بالفلسفة الاجتماعية التي سرها إيحاء المرأة على النحو المستفيض في الأدب الأوربي، فطلب الحب لذلك. ويرى الأستاذ كامل حبيب أن الرافعي كأن يشعر بجفاف قلبه لشدة تدينه فطلب ليندى به قلبه ويرقق أسلوبه، والرأيان - كما ترى - يرميان إلى أن الحب الرافعي كأن حبا مصنوعا أو مجتلبا بقصد منه إلى أحداث لون من الإنتاج الأدبي. وقد علقت على ذلك فكأن مما قلته (ولمن شاء بعد ذلك أن يقول أن ما كتب الرافعي في تصوير العواطف وفلسفة الحب والجمال ينقصه الصدق الفني)
والفقرات التي نقلها الأستاذ الباقوري من كتاب (حياة الرافعي) إنما هي عبارات مختارة
في وصف الحب، وفيها ما يدل على أن الرافعي كأن يطلب الحب ويبحث عنه ليشعر بمعانيه ويكتب فيه. ولا أرى في ذلك ما يدل على صدق الحب، لأن العاطفة لاتطلب، وأنما تأتي ولو جانب الإنسان أسبابها وكتاب (رسائل الرافعي) الذي أصدره أخيرا الأستاذ محمود أبو ريه يلقي أضواء في هذا الموضوع، إذ نرى الرافعي في هذه الرسائل الخاصة يحدث أبا رية، لا عن (مي) وحدها، بل عن أخريات، فيقول في رسالة منها (وقد جاء الشيطان فعرض على (عينات) جديدة. . . كأنه أخزاه الله كتبي يعيش من بيع هذه الكتب فهو يريد الإكثار منها) يعني أن هذه (العينات) من الجميلات يستمد منها ما يؤلف في الحب. . . ويقول في الأخرى:(واليوم تجد لي قطعه في الضياء عن (سونيه) وهي لا بأس بها ولكن سونيه. . .) ويقول في الثالثة (ولكن صاحبة فلسفه الجمال قد انتهى تاريخها، وهل يبدأ تاريخ آخر لصاحبة فلسفه أخرى؟ ربما يا أبا ربه، أما الأولى فلم يعد لها أي شأن الآن وهي لا تساوي من الثانية شيئا! ولكن هل يبدأ للثانية تاريخ وفلسفه؟ أن أولها كن أمس فقط في مصر)
وهكذا نراه لا يقف عند واحدة ولا يتمسك بحب واحد، فصاحبة الفلسفة القديمة انتهى أمرها، وجدت صاحبة فلسفة أخرى، وهناك (العينات) الأخرى، ولا ننس سونية. . . ومن ذلك نفهم أن الرجل كأن يطلب المرأة هنا وهناك؛ ولم يقصر حبه أو طلبه على واحدة؛ ويقول أنه يقصد بذلك إلى تجديد في الأدب العربي كما يقول في إحدى تلك الرسائل عن كتابه أوراق الورد (وقد صح عندي بعد البحث أنه لا يوجد في اللغة العربية رسالة واحدة ذات قيمه في هذا الباب مناول تاريخها وإلى اليوم) ثم يقول (وثق يا أبا ريه أن هذا الكتاب الصغير هو أهم وأحسن ما كتب كما أني أم اتعب في شيء مثل تعبي فيه، وربما بيظت الرسالة الواحدة في أربع ساعات لأن الغرض الأول من الكتاب إعطاء العربية هذا الكنز الذي ليس فيها) وقد عبر في هذه الرسائل غير مرة عن شدة تعبه في كتاب أوراق الورد وقال في إحداها أن الكتابة فيه عسرة جيدا وذلك كله يشكك في صدق ذلك الحب لأنه كأن يطلبه والحب لا يطلب، وكأن يتنقل من اليد تعلق بواحدة إلى غيرها، وكأن هدفه أن يكتب في الحب، والكتابة إنما تأتى فيض الحب الذي يغزو صاحبه، ولو أن قيسا ذهب إلى بني عامر ليطلب امرأة تعينه على قول الشعر لكان لشعره شأن آخر. . . ولو أن
الرافعي كأن صادق الحب لألهمه القول طيعا لا يجد فيه عسرا ولا يحتاج إلى ساعات يبيض فيها إرساله الواحدة، ولما أنشغل بقيمة الكتاب وما يكون له من مكانه في الأدب، وقد ذهب به هذا الانشغال إلى حد قوله في إحدى الرسائل (وقد كأن عندي بالأمس أحد الأدباء المطلعين على الآداب الإنجليزية فأقرأته بعض رسائل منها (يعني من أوراق الورد) فقال أن مثل هذا لا يوجد في الأدب الإنجليزي) وفي ضوء ذلك كله، وفي ضوء ما قرأته في أوراق الورد وغيره يمكن أن نسمي ما كتبه الرافعي في هذا الصدد فلسفة حب وجمال منبعها التأمل العقلي مصوغه في أسلوب محتفل له اشد الاحتفال ولكن من العسير أن تجد به نبض عاطفه طبعيه.
مسرحية (في خدمة الملكة)
أصل هذه المسرحيه رواية (الفرسان الثلاثة) للكاتب الفرنسي أسكندر ديماس الكبير، وقد أعدها الأستاذ إسماعيل أرسلان إلى فرقة المسرح المصري الحديث، وذلك باقتباس بعض حوادث الرواية وكتابتها في حوار مسرحي، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات وتجري حوادثها في عهد الملك لويس الثالث عشر، وتصور ما كان يجري في قصر هذا الملك من دسائس ومؤامرات، والصراع الرئيسي فيها بين الملكة (آن) وأعوانها وخاصة وصيفتها (مدام بوناسيية) والفارس الفتي (دار تانيان) وبين الكاردينال (ريشليو) رئيس وزراء فرنسا وأعوانها. وموضوع الصراع علاقة غرامية بين الملكة وبين (اللورد باكنجهام) من أشراف إنجلترا. تشعر الملكة بأن هذه العلاقة تمس شرفها ولا تتفق مع مركزها كملكة في عصمة ملك فرنسا، فتستدعي حبيبها اللورد سرا وتفضي اليه بذلك طالبة منه أن يرحل إلى بلاده ويقطع صلته بها، فيخضع للأمر ويطلب منها هدية يذكرها بها، فتهدي إليه حلية مرصعة باثنتي عشرة ماسة. ويعلم بذلك ريشيلو فيبث عيونه بالبحث عن اللورد، ولكن هذا يفلت منه إلى إنجلترا. ويعلم ريشيلو - بوساطة جاسوسة في إنجلترا - على سرقة ماستين من الحلية، ويشير على الملك أن يطلب إلى الملكة لبس الحلية في حفلة بالقصر. وتعلم الملكة بذلك فتعمل للخروج من هذا المأزق بمعاونة وصيفتها والفتى دارتانيان الذي يسافر إلى إنجلترا لإحضار الحلية من لدن اللورد باكنجهام ولما يكشف اللورد سرقة الماستين يأمر بصنع أخريين مثلهما، ويعود دارتانيان بالحلية كاملة، فتظهر بها الملكة في الحفلة، فيفسد
تدبير الكاردينال، وتنتهي المسرحية بانتصار الملكة أن. ويبرز في خلال هذه الحوادث نفوذ ريشليو الذي يرجح نفوذ الملك لويس الثالث عشر الضعيف الشخصية، ويكاد الأول يطغي على الثاني لولا شجاعة فرسان الملك وخاصة دارتانيان
وينبغي أن أقول قبل كل شيء. أن نجاح هذه المسرحية يرجع إلى أمرين، الأول هو هذه الجذوات المتقدة جوانح هؤلاء الشباب - ممثلي الفرقة وممثلاتها - المتطلعين إلى مستقبل بجنون فيه ثمرات جهودهم الحاضرة، وهذه الجذوات هي أهم ما يميزهم عن الممثين القدماء الذين وصلوا أو يئسوا. . . وقد برز في تمثيل هذه المسرحية صلاح سرحان (دارتانيان) فقام بدور الفارس الصغير الذي يدفعه روح الفروسية إلى الإخلاص في خدمة الملكة وإنقاذها مما يحاك لها من شباك، وعبد الغني قمر في دور مدير سجن الباستيل، وقد أثبت عبد الغني - بهذا الدور وبغيره في مريض الوهم - براعة تمثيل الشخصيات الشاذة وإبراز ما يقصد بها من معان وظلال في جو الرواية، وزهة العلا (مدام بوناسيية) كانت موفقة في أداء ما يتطلبه دورها من حركات وتعبيرات، وكذلك أحسن كل من سعد قردش (ريشليو) ومحمد السبع (الملك لويس) ونور الدمرداش (اللورد بانجهام) وسميحة أيوب (الملكة آن) أحسن كل منهم في دوره، ويظهر أن سميحة كأنت متعبة عند لقاء دوره، يظهر أن
أن سميحة كأنت متعبة عند لقاء اللورد باكنجهام فلم تعط الحب المكبوت حقه في أن يطل خلال العزم على قطع الصلة بالحبيب أما ثاني الأمرين اللذين يرجع إليهما نجاح المسرحية، فهو أنها مقررة على طلبة الثقافة، وبهذا ضمنت، جمهورا كبيرا يغص به المسرح في كل يوم من أيام عرضها. ويظهر أن هذا هو الحافز الأمل على تقديم هذه المسرحية، وهو غرض لا بأس به من حيث اجتذاب الطلبه إلى المسرح وتوطيد صلتهم بالفرقة وبعد فأن المسرحية في ذاتها لا تخلق شيئا ذا بال، فليس فيها تحليل ولا التفاتات تذكر إنسانية تذكر، ولا حادثة تاريخية مهمة يقصد إلى تجليتها، وهذا أدنى ما يهدف إليه في الروايات التاريخية والصراعليس له تستحق كل تلك الجلبة، فكل ما في الأمر أن تنقذ الملكة من شبهة علاقاتها الغرامية الحقيقية. . أي أن ينتصر الرياء. . . ولهذا كان الختام يحتاج إلى أن يعلن عنه بمثل كلمة (خلاص!) وقد استطاع الأستاذ زكي طليمات مخرج
المسرحية - على رغم ذلك - أن يبث فيها التشويق وشيئا من الحياة، وكانت المناظر ملائمة وموحيه، وخاصة منظر سجن الباستيل الذي عبر عنه بالستار التي جعلت جدارا للسجن ولابد أن الرغبة في الاقتصاد أو عدم القدرة وقلة الاستعداد، هي التي جعلت منظر (الحفلة) التي لبست فيها الملكة حليها كما ظهرت، فقد خيل إلى حين رفع الستار عن هذا المنظر أن الكاردينال يجمع أعوانه وجواسيسه ليضع لهم خطة العمل، ولم أفهم أن هناك حفلة إلا من حديث المتحدثين على المسرح إذ قال بعضهم أنهم في الحفلة. .
وقصارى القول - كما يقول المنشؤن - أني لم أستطع أن أغتبط بهذه المسرحية، وأن كنت أود للطلبه أن تعينهم مشاهدتها على أداء الامتحان.
عباس خضر
البريد الأدبي
السارق العجيب!.
هو مع الأسف الشديد الأستاذ إبراهيم المصري الكاتب القصصي المعروف. فقد سطا على قصة أنطون تشيموف (الرهان) وأضافها إلى نفسه ونشرها بالعدد 852 من مجلة آخر ساعة تحت عنوان (الرهان العجيب)! وقدم لها بهذا الكلام الغريب:
(هذه الحادثة الواقعية الفذة في موضوعها تعتبر من أغرب وأدهش حوادث المغامرات المثالية والعاطفية - وقد قرأت تفصيلاتها في إحدى صحف باريس فرأيت فيها صورة رائعة مفعمة بروح القوة والبطولة والتضحية فصغتها للقراء في هذا القالب القصصي)!
والقارئ العادي يفطن إلى هذه المغالطة التي يريد بها الأستاذ المصري أن يغطي سرقته. فقصص تشيكوف من الذيوع والانتشار بحيث لا نكاد نجد في القراء من لم يقرأها ولا في الأدباء من لم يحاول أن يترجمها إلى لغة الضاد!. وهذا ما فعله الأستاذ الجليل محمد كامل البهنساوي بك في كتابه (أقاصيص مأثورة) إذ ترجم قصة (الرهان) بالذات ترجمة أمينة بارعة. . . وليس بمستبعد أن يكون الأستاذ المصري قد نقل عن (الأقاصيص المأثورة) قصة الرهان ثم أراد أن يطمس معالم السرقة فحشا القصة بحوادث مفتعلة وبواعث مصطنعة واستغل أبغض شيء إلى قلب تشيكوف في مسخ القصة وهو العنف. . فإن تشيكوف ليقول: (أنني أبغض العنف في كل صوره)!. استغل الأستاذ المصري العنف فجعله عنصرا جديدا لم يكن في القصة الأصلية فأحدث معركة بين بطل القصة المحامي الشاب وبين الممول. . . والغريب في الأمر أنه جعل بطل القصة يصمد لعراك عنيف مع أنه قضى في السجن الانفرادي سنة كاملة لا يدفع إليه فيه بغير الطعام والشراب. . ولست أدري كيف لم يسلمه هذا السجن القاسي إلى جنون!. وقد كان هذا يكون أسلم عاقبة من هذا الكلام الذي أنهى به الأستاذ المصري قصته!
والمتأمل لقصة الرهان لتشيكوف يرى فيها عمقا وجلالا لا يقوى عليهما، غير ذهن جبار كذهن تشيكوف فالمحامي الشاب في قصة (الرهان) عندما قبل الرهان كأن يطمع في أن يظفر بالمال. . ولكن تشيكوف الفيلسوف الذي يرى أن كل شيء في الدنيا وهم وقبض الريح كان لا بد أن يغلب السعادة العقلية على كل سعادة مادية زائلة فجعل المحامي الشاب
يخرج طائعا مختارا قبل موعد الرهان بدقائق معدودات لأنه كان قد قرأ في سجنه طائفة من المعارف والعلوم خلقت منه فيلسوفا يزهد الحياة. . ولكن الأستاذ المصري شوه هذه الفكرة الرائعة ومسخها في قصة (الرهان العجيب) إذ أنهاها بشهوة منهومة إلى المال قضت على رجلين ودفعت بامرأة - زجها السارق في القصة زجا - إلى السجن!.
كمال رستم
حول أديب يتعاظم:
من يقرأ التعقيب الذي نشره بالعدد، 921، من الرسالة يظن أننا افترينا على شميم الحلي الكذب، وحقيقة الأمر أن كاتب التعقيب قد رجع إلى معجم الأدباء فقط، فظن أنه قد جمع كل ما يتصل بشميم، وراح يعطينا درسا في الأمانة والأخلاق!
وقد أبدى الكاتب عجبه لقصة (النائحات والنشيد الموضوع لهن) وظن أننا اختلقناها اختلاقا، ولو رجع الكاتب إلى (أنباء الرواة) لقرأها هناك. والغريب أنها مذكورة بهامش معجم الأدباء، ونسي الكاتب أن يقرأها كما قرأ غيرها من الأنباء!
ويلاحظ أن الناقد الفاضل لا ينكر قصة السجود، ولكنه ينسب الواقعة لشخص غير ياقوت مع (شميم)، ونحب أن نقول له أننا تقيدنا بما روى المؤرخون عن (شميم) فجمعنا أخباره من شتى الكتب، ووضعناها في قالب حوار قصصي على لسان ياقوت، وليس يعنينا ذلك في شيء ما دامت الحوادث مدونة لم تختلق؛ وأني أتحدى الكاتب أن يشير إلى حادثة لم توجد بالمراجع المدونة بالعدد (921) وفي هذا القدر كفاية
محمد رجب البيومي
الدخان في الشعر:
أخي الأستاذ فتحي بسيوني
لقد دعوت رجال الشعر وأرباب القريض ليتناولوا (شرب الدخان) في شعرهم، وليسهموا في وصفه، محبذين تعاطيه، أو صارفين عنه، وكان مثار الغرابة عندك أن الشعراء المعاصرين لم يقوموا بهذا الواجب، على حين أنهم ما برحوا ينظمون الشعر في الخمر، مادحين ومهاجين!
وأحب أن أقول لك: أن لي في الدخان قصيدة نشرت في مجلة الهلال بعدد شهر سبتمبر سنة 1948م، وللأستاذ سلامة خاطر قصيدة في الدخان أيضا نشرت بمجلة الهلال أيضا في عدد أكتوبر سنة 1948م، وقد نشرت لي مجلة الإسلام كلمة نثرية سنة 1946م بعنوان (الحبيب البغيض) حول الدخان كذلك! ولقد كنت أدمن الدخان، ولكنن تركته منذ ثلاثة سنوات وألفت فيه كتابا عنوانه (في الهواء) ما زال مخطوطا لتعنت الناشرين، وندرت الورق، وأزمة القراء، وشدة الغلاء، مع أنه كتاب فريد في هذا الباب، أوردت فيه تجاربي مع الدخان، وأراء الأطباء والأدباء، وعلماء النفس، والطرق الناجمة للإقلاع عنه. وعندما تسمح الضروف، وتسنح الفرصة، فيطبع الكتاب، ستكون يا أخي أول من يهدى أليه، لترى فيه ما بذلت، وما كتبت عن هذه العادة التي تفشت بين الرجال والنساء، والكبار والصغار على السواء!
محمود محمد بكر هلال
المدرس بمدرسة سوهاج الأميرية
الدخان في الشعر أيضا
تحت هذا العنوان قرأت كلمة الأستاذ فتحي بسيوني دعبس عرض فيها لتقصير شعرائنا في شأن (شرب الدخان) ومن الأنصاف أن أذكر أنني سمعت قصيدة رائعة للأستاذ علي الجندي بعنوان (الحسان المدخنات) ألقاها من محطة الإذاعة منذ عهد قريب صور فيها غضبة الجمال المضربة على الدخان مازجا فيها الغزل الرقيق بالوعظ المؤثر
وأستطيع أن أصرح بأن لقريبة حسناء أقلعت عن الدخان بعد سماعها هذه القصيدة
ولعل كثيرا من شعرائنا قالوا في هذا الموضوع ولكن لم يبلغنا
محمد عوض
(1)
تعليق على مقال (أسق العطاس)
قرأت مقالا بهذا العنوان للأستاذ حسني كنعان وقد استوقفني فيه قوله: (لم يسبق محاولة مسرحية في سوريه قبل القباني، والواقع أن المرحوم مارون النقاش هو أول من حاول تلك
المحاولة، ومارون النقاش شاب سوري ولد في صيداء وتعلم في بيروت فنشأ ميالا للفنون الجميلة، فأتقن فنون اللغة العربية ونظم الشعر ولما يبلغ الثامنة عشرة فضلا عن إتقان اللغات الفرنسية والإيطالية والتركية؛ وكان مولعاً بالموسيقى مشغوفاً بالسفر إلى مصر سنة 1846 في أواخر أيام محمد علي باشا الكبير ثم قصد إلى إيطاليا وهناك تعلم فن التمثيل ونقله إلى بيروت حيث ألف فرقة من أصدقائه وألف أول رواية تمثيلية باللغة العربية أسماها (البخيل) ومثلها مع فرقته في بيته عام 1267 بحضور وجهاء البلد وقناصل الدول الأجنبية. ثم أردفها برواية (أبي الحسن المغفل) ثم بعد ذلك أنشأ مسرحاً خارج منزله بفرمان سلطان حوالي سنة 1850 وقد تحول بعد وفاته سنة 1855 إلى كنيسة حسب وصيته!
من هنا يتضح أن القباني قد سبق بتلك المحاولة المسرحية وأن سوريا - على الأقل - كانت تعرف فن التمثيل قبل ذلك التاريخ!
(2)
حول مقال (ثورة في الجحيم):
قرأت فيما قرأت في (العدد 919) من الرسالة الغراء مقالا طيبا للأستاذ حمدي الحسيني بعنوان (ثورة في الجحيم) تكلم فيها بإيجاز عن الشاعر جميل صدقي الزهاوي وذكر فيما ذكر دواوينه الشعرية وحددها بخمسة دواوين آخرها ديوان الأوشال، والواقع أنها ستة دواوين آخرها ديوان الثمالة وقد طبع بعد وفاته في مطبعة التفيض ببغداد عام 1939 بمساعدة أرملة الشاعر. ومما ذكره أن معظم قصائد هذا الديوان كان نشرها صاحبها في مجلة الرسالة الغراء. ولذلك اقتضى التنبيه.
كلية الحقوق - بغداد
عبد الحميد الرشودي
القصص
الحب ألم
لرينيه مبزروا
بقلم الأستاذ كمال رستم
(هذه قصة في يوميات لرينيه ميزروا ألخصها لك. . وأجمل من أن تقرأ القصة كما كتبها كاتبها فإن التلخيص يفقدها الكثير من مزاياها التي تفردت بها. . ولكن هذا لا يمنع من أن أنقل إليك - بقدر الإمكان - المتعة التي وجدتها وأنا أطالعها. . وأن أجعلك تأسى كما أسيت على العاشق (روبير دي بلينفي)!)
(روبير دي بلينفي) فتى من سراة باريس قدم (نابلي) على ظهر اليخت (البجعة البيضاء). . وقد صادف مقدمه احتفال المدينة بذكرى استجابة القديسة (سانتا مارياديل كارمن) ضراعات القوم بأن يقي المدينة شر الأمطار!.
شهد الفتى الاحتفال. . وكانت تصحبه (مس تمبلي) و (البرنسيس داسبرامونت). . وإذ يخلو الفتى إلى هذه الأخيرة يسألها قائلا:
- هل تأذن لي سيدتي بأن اسأل عمن عساها تكون هذه الفتاة اللطيفة التي كانت تتأمل بسخرية ألبوم (البجعة البيضاء)؟
وتهز البرنسيس داسبرامونت رأسها بسخرية قائلة:
- إنك يا عزيزي بلينفي سابع شخص ألقي علي هذا السؤال. . وليس يدهشني هذا ما دامت ابنة خالتي (فوستين) فتاة سابية الحسن. . آسرة الجمال!.
- فوستين. لكم يجلب اسمها السعادة!.
ومع هذا فأن السعادة لم تقع للطفلة البائسة على صفة. . فقد انتهت حياة والدها (المركيز دي تيفيرون) ذات ليلة بالقتل على طريق (بوزول) وما لبثت زوجه أن لحقت به جزعا عليه وأسى!؟
- ومن الذي كفلها بعد وفاة والديها؟.
- كفلتها خالتها (دوقة دي ستابيا) التي تدين لها فوستين بابتسامتها الجميلة التي أسرتك!
وتقترب منهما فتاتان فيزداد وجيب قلب بلينفي إذ تقدمه البرنسيس داسبرامونت إلى إحداهما قائلة:
- فوستين! هذا هو السيد روبير دي بلينفي. . وهو يود أن يتحدث إليك. . .
: وتظطرب فوستين. . . ويتضرج وجهها فيقل بلينفي:
- هل جئتك متأخرا يا آنستي؟
- على النقيض يا سيدي. . فقد كنا جراس: وأنا منشغلتين بتحليل كتابتك على الألبوم!
قالت مس تمبلي:
- صحيح. . وقد جاء التحليل في صالحك!
قالت فوستين:
- وما كادت صديقتي تطالعني بأنك موسيقي موهوب. . وأنك لا تبارى في الرقص حتى نازعتني النفس إلى التعرف بك!
- مس تمبلي هي اللطف بعينه. وإني لأشكرها على صنيعها هذا الجميل!
- على أنني موقنة بأنها لم تبالغ في وصف مواهبك. . أما عن نفسي فإني أخشى أن أبدو مبتدئة في الرقص!
- أيضايقك أن تعطيني هذا الدرس الصغير!
. . ويدلفان إلى صالون (البجعة البيضاء) ويلبيان نداء الفالس ويهمس بلينفي قائلا:
- أتذكرين يا آنستي مثلنا السائر. . . (كما يأتي الحب يمضي؟)
- شد ما أنت متشائم يا صديقي!
وتسمي أصابعها لتضغط على أصابعه وتهمس:
. . ولكن الفتى يقف فجأة عن الرقص. . . إذ يشعر كما لو كانت شوكة حادة استقرت في عقبه الأيسر. . . ويفيض الدم من وجهه. . . ويستغرق الألم كيانه كله. . . ويشله تماما عن الحركة وتصيح فوستين وقد أخذتها اللهفة على الفتى:
- رباه. . ماذا دهاك؟
- ليس سوى خور. . خطوة خاطئة!
أستند إلى ذراعي ودعنا نخرج من هنا. . فإن الهواء خليق بأن ينعشك. .
وإذ يعود الفتى إلى حالته الطبيعية يقول لنفسه:
- كم كان سخيفا أن أموت. . وأن أخلف ورائي هذا الهناء كله!
وتقبل (مس تمبلي) و (البرنسيس داسبرامونت) يصحبهما طبيب هو الأستاذ (مورياك)
. . وتطري عيادة الدكتور (دينيز مورياك) الأستاذ بكلية الطب للفتى. ولكن الأمريبدو له غامضا كالسر. . وهو عاجز تماما عن تشخيص مرض بلينفي أو تفسير الأزمة التي انتابته!. ويتحدث طويلا إلى الفتى عن تلك الآلة المعقدة المسماة (بالجسد الإنساني) إلى أن يقول:
- أمن الممكن أن يحدث اضطراب عصي مروعنتيجة حركة فصلت برهة شريان القدم. . أو الشظى القصير الجانبي بينما كنت تراقص الآنسة دي تيفيرون؟. . لقد استطلعت آراء بعض الزملاء. فكان إجماعنا على أنه ينبغي لك أن تأخذ حذرك من الآن!
- أن تتنبه إلى هذا الإنذار! اكرر انه ليس طبيعيا أن يتعرض شاب شديد الأسر مثلك بريء من العيوب الجسدية لمدة خمس دقائق لموت محقق؛ وأن يشعر برعدة الموت المروعة تسري في عروقه!. ثم فجأة يتوقف هذا العذاب. . كما لو كان دعابة سخيفة
وإذ يخلو الفتى إلى نفسه يقفز إلى رأسه هذا السؤال: أصحيح إنني في خطر. وإن هذا الطبيب الكريه إنما قرر الحقيقة!. . .
. . يخت (البجعة البيضاء) يتحرك مبعدا عن الميناء. . ويريد بلينفي أن يستطيع رأى (فوستين) عما إذا كانت تبادله الحب وترغب في بقائه إلى جوارها حتى يكللا هذا الحب بالزواج فيمضي إليها ويطرح السؤال التالي:
- فوستين! أيبغي أن أرحل أم أبقى؟
وتجيبه في صوتها الحبيب بكلمة واحدة:
- إبق!
وتسلم شفتيه جبينها الوضىء. وعينيها النجلاوين. . وتستطرد هامسة:
- إنني أحبك أكثر مما تحبني. وسأغدو زوجتك. . وغلا فأنني لن أمنح نفسي بعدك لغير الله
ويتم قرانها
وها هو ذا بلينفي في منزل الزوجية يعزف إحدى سمفونيات بيتهوفن، وفوستين زوجه في حال من خدر الحس وسكرة النفس - جالسة على حافة النافذة تصغي إلى النغم الحالم الصادر من البيان. . ويهتف بلينفي من أعماق نفسه قائلا:
- أتحبينني يا فوستين؟.
- نعم. . أحبك. . أحبك وما عيشي إلا لحبك. . إنني سعيدة إلى حد يخيل إلى أنني أحلم!
. . وفجأة يتوقف بلينفي عن العزف إذ تعود نوبة المرض وتهتف فوستين قائلة: -
- أرجوك. . . لا تكف عن الإيقاع. . . ما أعذب موسيقى بيتهوفن في سكينة الليل!
تتكرر نوبات المرض. . ويغدو قعيد عربة تجرها ممرضة بين دموع فوستين التي يشير عليها الأطباء بان ترد عنها أحزانها إشفاقا على صحتها، وأن تنطلق إلى الحياة وتعب من معينها الصافي لا من الكدر الذي يصوح جمالها ويذوي جسدها!
وينقضي شهران يجتر فيهما بلينفي الألم، ويبكي سعادته الغاربة إذ يتأمل حاله؛ ولكنه يذكر رجلا مقعدا يدعى (كونت دوجنربلاك) يبدو، أبدا ضاحك السن. مرح الفؤاد. . ولكنه سرعان ما يلمس الفارق بينه وبينه؛ أن الكونت رجل أعزب. . أما هو فقد دلف إلى حياة الحب وربط إلى عجلته. . فوستين!.
ويقع بلينفي فريسة الحلم يثبته هكذا في يومياته:
(وقع لي هذه الليلة كابوس مخيف كان مسرحه حديقتنا في (بوزيليب). . ورحت في الحلم أنتحب كطفل. لم تكن الأشجار إلا هياكل عظيمة شائهة تحكي فروعها الجرداء المشانق!
وكانت ثمة وردة وحيدة - لست أدري بأية معجزة تفادت الكارثة - كانت تخفق بلطف متلألئة. . نصف متفتحة كأنها شفتان تتأهبان لتلقي حلاوة القبلة الأولى!
. . وكان لها شذا فوستين!
وراح ضوءها ينتشر تدريجيا على بقعة الخراب. . مهددة من أثر هذا الحزن؛ وكلما شرعت أستروح عطرها السحري. . وهممت بأن أقتطفها واحملها بعيدا عن هذا اليباب. . شعرت بالوردة المعبودة تمد جذورها تشبثا بالأرض. إذ ذاك دلف إلى الحديقة فتى غض الإهاب، رشيق القوام، متين البنيان حلو السمات. . واجتاز الممشى وعيناه عالقتان بالزهرة، ويداه ممدودتان كما لو كانتا تسعيان إلى يدي حبيبة!. . وتفتحت الزهرة عن
كمامها، وتلألأت، وخفقت على ساقها الواهن. . وقد نفثت عطرا نفاذا أصابني منه دوار!
وأردت أن أقبض على الدخيل وأن أسد عليه الطريقوأرده عن أن يدنس متاعي وأن يسرق ملكي. . كنزي!
. . وبذلت مجهودا فوق طاقة البشر لأزيح عن ساقي هذه الصخرة التي أثقلتهما. . وطلبت الغوث، وضرعت إلى الله وتوعدت. . وسببت. . ولكنه وقد أصم أذنيه عن ضراعاتي. . مستخفا بإهانتي، وإذ بلغ الوردة جثا أمامها وهمس بصوت خفيض: فوستين! إذ ذاك رأيت الوردة العجيبة، الوردة الوحيدة تميل على راحة الفتى وتهوى متناثرة الأوراق بين أنامله! وسرعان ما ضرب فوقي ومن حولي نطاق غامض من الظلمات وثارت في وجهي عاصفة من الرمال، وأعقب ذلك سكون الأبد. . والعدم.
وهذه نازلة أخرى تنزل ببلينفي: أن السيد فيليب سترادون الذي عهد إليه بكل ثروته. . بدد الثروة وأصبح بلينفي وكل ما يملكه بعض أراض في (بيريجور) وفندق في (نوبلي). . ويلج الألم بالفتى إذ يذكر إنه عاجز عن العمل والكفاح. . فلو إنه سليم معافى لشق طريقه في الحياة، ولمضى إلى الأرجنتين أو إلى كندا. . . وحسبه فوستين سندا ومعينا. . . فوستين. . . كيف يمكن أن تألف حياة الفقر والفاقة؟
ويعود الدكتور (دينيز موريان) فيسأله أن يحدثه بصراحة عن مرضه فيقول له:
- إنك مصاب بمرض من أخطر الأمراض. . . مرض لم يأت ذكره في كتاب. . . ولم يعرف بعد في مستشفى. . . لا في أوربا ولا في آسيا. . . ومن شأن هذا المرض أن يحيل الأنسجة العضلية إلى عظام، وهو يفضي حتما إلى الموت
- الموت؟ بعد أجل قصير أو طويل؟
- إني أجهل ذلك
ولكن الدكتور دينيز مورياك الذي تطمح نفسه إلى اكتشاف سر هذا المرض الجديد لا ينصرف من قبل أن يظفر منه باتفاق يضع فيه بلينفي جسده تحت تصرفه في مقابل أن ينقده الدكتور دينيز مبلغ 50 ، 000 فرنك سنويا إلى حين وفاته!
ويتأمل بلينفي فوستين فيبهره تغيرها المفاجئ. . . ويثبت في مذكراته حديث نفسه فيقول:
- كم تبدو فوستين سعيدة! وكم تتحامى لقائي وتهمل شأني. . . إنني لا أقوى على أن
أصعد النظر إلى عينيها! لقد دفعتها إلى السرور والى الحياة. . . مستعينا في ذلك بإرادتي وقوتي ورقتي!
وحملتها العاصفة
فإلى سهر مضى كان عهدي بها تقص علي ما عماته وما علمته، أما الآن فقد غدت كلماتها عابرة مفتعلة حتى لتثلج القلب. إنها أصبحت تنهي حديثا على وجه السرعة. . . ولا تقول لي إلا ما تريد أن تقوله حسب!
إن فكرها شارد في مكان آخر
ويشتد به اليأس فيقول:
(إني لأتصور الآن وهم يعتبرونها أرملة. . . وانهم لم يعودوا بعد يحدثونها عني. . . كأنني عدمت النفس. . . وفارقت الحياة. من الذي تحبه؟ من سلبني قلبها؟ وأي شؤم طالعني به وجه هذا الحلم؟ أو ما كان ينبغي أن تكون أفضل من سواها، وأن تضع في اعتبارها أنني أحبها إلى حد الهوس والجنون. . . وإنني عاجز عن حماية نفسي بينما أن غريمي في حبها سالم من مثل النكبة التي حلت بي. . . وأن تكون فوستين من رقة القلب وشفافية الشعور بحيث تدعني أموت في سلام)
. . ولكن حياة بلينفي لم تعرف السلام فكذلك ينبغي أن يكون مماته.
إنه يأمر الخادم بان يذهب به إلى غرفة زوجه. . وثمة يجد رسالة لم تفرغ بعد فوستين من كتابتها إلى عشيقها
وتتراقص أمام عينيه هذه الكلمات:
. . إنك لتسبب لي يا عزيزي ألما لا ينفض عندما نتسخط هكذا ظلما على القدر، أو لم تظفر بكامل حبي؟. ما قيمة بضعة أشهر من الانتظار بالقياس إلى حبيبين قطعا على نفسيهما العهد بان يكون أحدهما للآخر. . ولا تزال أمامهما سنوات. . وسنوات. . من السعادة،.
أم تراك تعد توددك إلى - هذا التودد الذي أسرني - وقتا مضيعا؟.
. . ويتحامل بلينفي التعس على نفسه ويخط هذه الكلمات في أسفل الرسالة:
(وداعا يا فوستين. . وإني لأصفح عنك. . مادامت أوفر سعادة معه.)
إن يمينه كانت لا تزال قوية على استعمال النصل الذي أهدته إليه فوستين. . وهكذا سقط على الأرض مضرجا بدمائه، متأثرا بغدر المرأة التي طالما زعمت له إنها (إنما تعيش من أجله وإنها (لن تمنح نفسها بعده لأحد غير الله!)
كمال رستم