المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 923 - بتاريخ: 12 - 03 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٢٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 923

- بتاريخ: 12 - 03 - 1951

ص: -1

‌عبد العزيز فهمي باشا

حم قضاء الله ومضى الرجل العظيم مستقبلاً وجه الخلود! والرجولة والعظمة صفتان تجمعان ما أوتي عبد العزيز فهمي باشا من مناقب مصدرها خلقه، ومواهب مظهرها عمله. كان رجلاً بالمعنى الرفيع الذي يفهمه المهذب من لفظ الرجل، وكان عظيماً بالمعنى الجميع الذي يدركه المثقف من كلمة العظيم. ولو ذهبت تحلل حياة أول القضاة في سجل القضاء، وثاني الزعماء في سجل السياسة إلى عواملها الأولية، لوجدتها في الخلال الصدق والصراحة والإباء والشجاعة وهذه هي الرجولة، وفي الأعمال العمق والشمول والإتقان والتفرد وهذه هي العظمة. وفقد رجل كهذا الرجل حياته تأريخ، وعمله رسالة، وخلقه قدوة، وكفايته ثروة، خسارة إنسانية لا خسارة قومية، ومصاب آمة لا مصاب أسرة، وفجيعة منفعة لا فجيعة عاطفة. فإذا جزع الشعب لموته هذا الجزع فإنما يجزع لركن هوى لا لغصن ذوى، ولهاد مضى لا لصديق قضى. والجزع على العظماء لا يكون بالعبرات التي تطفىء، وإنما يكون بالحسرات التي تحرق، والخطب الذي يبكي العيون، أهون من الخطب الذي يدمي القلوب. ومن يقف أمام الحصن الذي ينسف، أو الكنز الذي يخسف، يجد في نفسه الروع الذي يذهل، لا الحزن الذي يعول.

كان عبد العزيز فهمي جزءاً ضخماً من ثروة مصر العلمية. وهذه الثروة لا تزال من حيث الكيف ضئيلة. فإن العباقرة الذين هيأتهم إلى العلم الصحيح طبائعهم الحرة وملكاتهم الأصيلة لا يزالون بيننا آحاداً. وقل من هؤلاء الآحاد من جمع إلى العلم سمو العالم ونزاهة المصلح كما جمعهما الفقيد. واجتماع هذه المزايا فيه لا يعلله معلل من نشأته وبيئته ودراسته. فإن هذه العوامل نفسها أو شبهها أثرت في غيره من أهل جيله، ولكن مصر لم تظفر من بينهم بمثيله. هناك أمر قد يكون مفتاح السر وطريق المجهول: ذلك أنه تلقى دراسته الأولى في الأزهر كما تلقاها فيه محمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي. وهؤلاء جميعاً قد تشابهوا في قوة الشخصية ونفوذ العقلية، فدرسوا الفقه بعمق، وعالجوا البيان بحدق، وزاولوا المحاماة ببراعة، وتولوا القضاء بجدارة، ومارسوا السياسة بخبرة. ولكنه أنفرد من دونهم جميعاً بخصائص خلقية جعلت ذلك التشابه تغايراً في بعض نواحي الرجولة. كان رحمه الله لا ينافق ولا يمالق، ولا يداهي ولا يداحي، ولا يدلس ولا يلبّس، ولا يقول إلى ما يصح في معتقده، ولا يعتقد إلا ما يصح في رأيه. وهذه الصفات قد تجعل

ص: 1

المصلح عظيما، ولكنها لا تجعله زعيما. وأريد بالزعامة هنا زعامة العامة لا زعامة الخاصة، فقد كان الفقيد زعيما في المحاماة، وزعيما في التشريع، وزعيما في الشورى؛ وفي كل هذه الأمور كان هو وسعد يتعاوران الأولية، فلما دخلا معا ميدان السياسة، دخلها هو بعقل القاضي ولسان المحامي. والقاضي أداته قانونه ونزاهته، والمحامي آلته دليله وبلاغته. وإذا تجهزت للزعامة السياسية في أمم الشرق بالقانون والضمير والنطق والصراحة والصدق، هاجمك خصمك بالأباطيل الغاشية فيظهر عليك، ووقف منك جمهورك على الحقائق العارية فينفر منك. لذلك كان حظ عبد العزيز من القضية المصرية على فصاحته في الخطابة وبلاغته في الكتابة، حظ القائد الحكيم الذي توضع الخطط على رسمه، لا حظ القائد الزعيم الذي نتوج (الأوامر) باسمه. وظل طول عمره السياسي راضيا بهذا الحظ حتى عجز آخر الأمر عن التوفيق بين هواه والعامة، وبين خلقه والسياسة، وبين ضميره والحكم، فارتد إلى القضاء وقد آتاه الله فيه الحكمة وفصل الخطاب، فوضع المبادئ، وقرر الأحكام، وأضاف إلى الفقه المصري مادة ضخمة من علمه وحكمه زادت في ثروته ورفعت من قيمته.

ثم اختير بعد اعتزاله القضاء عضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية، فأخلى ذرعه للنظر في علوم اللغة والأدب بعين الفقيه المجتهد والأديب الناقد، حتى بلغ منها مبلغ الأعلام الذين وقفوا على تحصيلها العمر والجهد. وتقدم إلى المجمع بمشروع اقتباس الحروف اللاتينية للكتابة العربية، مقرونا بالأسباب، معززا بالمزايا، مؤيدا بالأسانيد ثم أعقبه بكتاب ألفه في الرد على معارضيه ومنتقديه، جمع إلى بلاغة الأسلوب قوة العرض ومتانة الحجة، فكان آية على سمو طبقته في الكتابة وبعد غيته في الأدب. فلما أقعدته العلة رضوان الله عليه كانت غرفة مرضه ملتقى أقطاب الفقه والأدب والسياسة، يستفيدون من علمه، ويستزيدون من أدبه، ويستضيئون بفكره؛ وهو في كل ما يعرض عليه أو يتعرض له طلق البديهة، محكم الرأي، جيد الأستنباط، حاضر الدليل.

كنت فيمن يزورونه الحين بعد الحين، فكان في كل زوره يكشف لي غير عامد عن سر من أسرار عبقريته. دفع إلي مرة بضع مقالات في نقد شرح وضعه أستاذان جليلان لكاتب البخلاء، وشرط علي أن أنشره غفلا من الإمضاء. فلما ظهر النقد في الرسالة كان حديث

ص: 2

الأندية ومثار الظنون، لأن الناس عجبوا أن يستتر الناقد وهو على هذه الكلمة من ثقوب النظر، وقوة التوجيه، وصحة الأستدلال، وعفة اللفظ. وأفضى إلي مرة أخرى بأنه يقرض الشعر منذ الحداثة، إما مناقله بينه وبين نفسه؛ وإما مساجلة بينه وبين إخوانه. ثم أنشدني مطارحة من جيد النظم جرت بينه وبين الأستاذ المفتي الجزائري، وقصيدة دالية من المطولات وصف فيها فساد الطباع في الناس، وسقوط الأخلاق في المجتمع. فلما طلبت إليه أن يهديها إلى قراء الرسالة سوَّف هربا من سقوط الأضواء ثانية عليه وهو مضطجع على أعراف المجد يسترفه من مكارة الواجب وتكاليف النبوغ. وما زال الناس يرددون هذه الأرجوزة القصيرة التي نظمها وكتبها على قبر زوجته وقد نعم بالعيش معها سنة واحدة ثم توفاها الله بحمى النفاس فلم يتصل بامرأة بعدها حتى لقيها:

يا وردة عاشت حياة الورد

عمراً قصيراً وثوت في اللحد

لولا بريء غافل في المهد

يرضيك أن أحيا ليحيا بعدي

لعجًّلت بي زفرات الوجد

أما بعد فماذا ينشر الكاتب الموجز وماذا يطوي من حياة أقل مفاخرها موضوع كتاب، وجملة مآثرها تاريخ عصر؟

رحم الله المحامي المدرة، والقاضي المجتهد، والوزير النزيه، والدستوري الحر، والفقيه الحجة، والخطيب المفوه، والكاتب البليغ، والشاعر المجيد، والناقد البصير، والأديب المطلع، وألهمنا على فقده جميل الصبر، وعوضنا من بعده خير العوض!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌أم عمارة.

. .

(ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟!)

محمد رسول الله

للأستاذ محمد محمود زيتون

طلع الصباح، فاتجهت الأنظار إلى جبل أحد، كأنما كانت الشمس هي الأخرى تشير إليه بأشعتها الحامية، وها هي أم عمارة تدلف في همة ونشاط، ومعها سقاء فيه ماء لسقي الجرحى، ولما أحتدم الضراب، أخذ الناس يولون، ولكن أم عمارة كانت ممن ثبتت مع النبي، ومعها زوجها وأختها وولداها حبيب وعبد الله، كلهم يتلقى النبال وهي تتهاوى كالبروق على رسول الله، فلا يخلص منها شيء.

هذه أم عمارة بقامتها المديدة، والعصائب في حقويها، وسقاء الماء بين قدميها، والقوس بين يديها، ومسلمة يصوب إليها سهماً يصيب يدها، فينزف الدم، ويتلفت النبي إلى عبد الله ابن زيد ويقول: أمك أمك!

ولكنها تمضي إلى الكنانة المنثورة أمامها فترمي سهماً بعد سهم غير عابئة بجرحها هذا، ويعينها أبنها عبد الله على قتل عدو الله مسلمة، وينسى عبد الله جرحه الذي لا يرقأ دمه، وبحسبه أن قد ظفره الله بعدوه، وعدو دينه، ورد كيده في نحره لم يخلص أذاه إلى نبي الله، ويظل عبد الله يتلقى السهام، فيراه النبي، والنزيف منه لا ينقطع فيقول له: اعصب جرحك يا عبد الله.

وبلغ الإعياء من عبد الله مبلغا عجيبا، فقد غلبه جرحه حتى برك كالجمل، وعمدت إليه أمه، ونزعت من حقويها عصابة، وضمدت جرحه، وأخذت بذراعه وهي تقول: انهض بني فضارب القوم.

وتتلفت يمنة يسرة، وعلى ملامح وجهها لهفة إلى ترس تتخذها هدفاً لنبال العدو دفاعاً عن رسول الله، والناس ينفضون منهزمين يولون الأدبار، وإذا برجل في الراجعين وترسه معه فيقول له النبي:

يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل.

ص: 4

ويلقي الرجل ما معه، ويمضي وهو لا يلوى على شيء، فتنفرج أسارير أم عمارة إذ تتناول الترس تحمي بها وجه رسول الله، وتظل تارة تترس دونه وتارة تعصب الجرحى، وتارة أخرى ترمي عن القوس، نبلا بعد نبل، وهي مع ذلك كله تستفز زوجها وأختها وولديها للنهوض والقتال، وتفرغ الماء في أفواه جرحى المسلمين، ويعجب النبي لهذه القدرة العجيبة وذلك المضاء الفائق بينما سائر الجيش يلوذون بالفرار، فينظر إلى أم عمارة فيقول لها: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟

وفجأة يلمح النبي رجلا في القوم ضرب عبد الله، ثم افنتل كالأفعوان إلى وكره الخبيث فيشير إليه النبي ويقول لأم عمارة: هذا ضارب ابنك، فتعاجله أم عمارة بضربة في ساقه، فيبرك حيث هو كالخيمة انقض عليها صاعق من السماء السابعة، ويتلوى على نفسه وله جعير كأنه الجمل الذبيح، ويبتسم النبي ويقول: استقدت يا أم عمارة. وبعينها طلحة على عدوها فيعلوه بسيفه حتى يجهز عليه.

ولم تكد أم عمارة ترى الرجل قتيلا حتى رجعت إلى وراء كأنما تبدي أسفها لرسول الله أن سبقها طلحة إلى غريمها، فلم يجعل الله مصرعه على يديها، ولكن النبي الكريم يبادرها بقوله مشجعا:

الحمد لله الذي ظفرك، وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك. فيستريح بالها، وتطمئن نفسها، وتهدأ ثورتها، ولكن النبي يلمح جرحا بعانقها وهي لا تشعر به فينظر إلى حبيب بن زيد: ويقول له: أمك أمك، اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، رحمكم الله أهل البيت.

وأسرع حبيب إلى نزع عصابة من عصائب أمه، فضمد جراحها، وحبس نزفها، وعلى فم أم عمارة بسمة كأنها البطل الظافر والضرغام الكاسر، لولا أنها حوراء قد هبطت من الجنة ترفل في هالة من القدس المنير، فتقول للنبي الكريم تبتغي رضوان ربها:

يا رسول الله، أدع الله أن نرافقك في الجنة.

فيرفع النبي يديه إلى السماء ويقول: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة.

وما هي إلا دمعتان أصفى من ماء المزنه تنحدران في رفق وحنان على خديها، وتقول في رضى وأيمان: والله ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد ذلك.

ص: 5

وخفت الوطأة، وانقشع الغبار، فمضى علي وسعد برسول الله إلى المدينة، حيث أخذت فاطمة الزهراء تغسل الدم عن وجه أبيها، فما أن هدأ حتى نظر إلى من حوله، وقال كأنما يشاركهم الحديث عن أم عمارة وما أحسنت من بلاء غداة أحد:

ما التفت يمنياً ولا شمالاً يوم أحد إلا رأيتها تقاتل دوني. وتناقل الناس أخبار أحد، وسار ذكر أم عمارة في الركبان، ولا ينفض سامر للرجال إلا عن أم عمارة، ولا ينعقد مجلس للنساء إلا بأم عمارة؛ دخلت عليها خباءها أم سعد بنت سعد بن الربيع الرجل الأنصاري الكريم الذي طابت نفسه لأخيه المهاجر عبد الرحمن بن عوف عن نصف ماله؛ وإحدى زوجتيه، ولم تكد أم سعد تلج الباب حتى تنسمت عطراً يفوح من أرجاء البيت، وإذا بالبهاه يأخذ عليها جوانب نفسها، ولم لا؛ وقد وقفت أم عمارة تصلي في المحراب، وتتلو القرآن في هدأة نفس، ورقة قلب، وعبرة عين، ومقاطع الآيات تكاد تشق صخور الجبال الرواسي. وألفت أم سعد نفسها وقد جمدت في مكانها، وألقت السمع والبصر والفؤاد جميعاً إلى أم عمارة وهي تتلو:

(ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتن في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة؛ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا الله عنكم؛ والله ذو فضل على المؤمنين) الله أكبر وتركع وتسجد ثم تنهض إلى الثانية، فتستفتح بأم الكتاب ثم تتلو:

(إذ تصعدون ولا تلوون على أحد؛ والرسول يدعوكم في أخراكم؛ فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم، والله خبير بما تعملون، ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنه نعاساً يغشي طائفة منكم. . .) الله أكبر.

ولما فرغت أم عمارة من صلاتها، تقدمت إليها أم سعد بالتحية المشرقة، فلقيتها بوجه يتهلل بالبشر والرضى، فبادرتها أم سعد تقول: يا خالة أخبريني خبرك. فقالت أم عمارة: خرجت أول النهار من يوم أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء أسقي به الجرحى، فانتهيت إلى رسول الله، وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي.

ص: 6

ورأت أم سعد على عاتق أم عمارة جرحاً أجوف له غور يلفت النظر فقالت: من أصابك بهذا يا خالة؟ ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله، فضربني هذه الضربة، فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.

فقالت أم سعد: سمعتهم يقولون أن رسول الله دعا أن تكونوا رفقاءه في الجنة؛ فقالت أم عمارة وقد انداحت لإشراقه على محياها: والله ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد ذلك!

وانقضت على النبي ثلاث سنوات بعد أحد؛ والأحداث شاهدة بانتصار الحق وانتشار الدعوة، واهتزت الجوانح شوقاً إلى بيت الله الحرام، وقد وقفت قريش تصد المؤمنين عن الحج؛ بينما يباح ذلك لأوباش الناس.

ونزل النبي تحت الشجرة بالوادي؛ وأخذ البيعة من المسلمين فكانت بيعة الرضوان، وفتح الله عليهم فتحاً مبيناً، وامتلأت القلوب إيماناً بدخول مكة. . وكان لا بد أن تشهد أم عمارة هذه البيعة لتظفر بأجر المجاهدة، وتحظى بشرف الرضى عند الله.

ولما لحق رسول الله بالرفيق الأعلى، وولى أمر المسلمين خليفته الأمين أبو الصديق، اندلعت ألسنة النفاق من جحور الفتنة، ونجمت قرون الردة من رؤوس المتنبئين، وما كان من خليفة محمد إلا أن يقاتل هؤلاء حتى يشهدوا ألا إله إلا الله فيعصموا بذلك دماءهم منه.

هنالك ابتلي المؤمنون، فكأنما بعث المعذبون في الله بعثا آخر، ولوا ما كان يلقاه خباب بن الأرت، وبلال بن رباح، وعمار بن ياسر، وزنيرة، وظن الكافرون أن الناس لا بد منطلقون من عقال محمد وقد مات، وحسبوا أن الدين الذي جاءهم إنما هو غاشية أصابتهم، فهم من بعد موته مفيقون، وانقلبت في رؤوسهم موازين التفكير، فراحوا يستبدون عليهم مدركين مجداً لأنفسهم، إن لم يكن كمجد محمد، فلا اقل من أن يمحو كل أثر حتى تعود للأصنام والأوثان مكانتها، ولأساطين الجاهلية سلطانهم.

وكان مسيلمة الكذاب من هؤلاء الذين سول لهم الشيطان أعمالهم، فأضلهم وأفسد بالهم، ولم يعد يرى إلا مسلكا واحداً هو (الطغيان) تمتد سياطه إلى المستضعفين، فينالهم من التعذيب ما يدفعهم إلى الخروج عن دين محمد، ويقهرهم على الشهادة بأن مسيلمة رسول الله، وأنه

ص: 7

السيد المطاع، وأنه الآمر الناهي، وأنه مالك الرقاب، وقابض الأرواح.

وأخذ مسيلمة حبيب بن زيد فيمن أخذ. وظل يفتله في الذروة والغارب ليفتنه عن دينه، فلم يظفر منه بما كان ينتظر، ولما لم تنفع وسائل الإغراء، عمد إلى الأغلال فصفده بها، والطعام والشراب فحرمه منهما، والحديد والنار فصبهما عليه، وجعل يقول:

- أتشهد أن محمد رسول الله؟

- نعم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم

- أتشهد أني رسول الله؟

- لا أسمع

ضاق مسيلمة ذرعا بهذا الفتى العنيد حبيب بن زيد، وأخذ يستعدي عليه زبانيته من الغلاظ الشداد، فلم تفلح لهم حيلة، وازداد الكذاب غيظا وحنقا، واستبدت به شهوة الجبروت، ونزوة الطغيان، ورأى بثاقب فكره أن قطع العقدة أيسر من حلها، وأن لا سبيل إلى الراحة إلا بإخماد هذا الضمير العربيد بين حناياه، ودارت الفكرة، ودار معها حتى طلع عليه الصباح، فاندفع كالثور الأسود، وفي عينيه شرار ولهيب، وعلى صفحة خده عروق توشك أن تجحظ بكل ما يعتمل به صدره ويغلي به مرجل حقده.

وتسلل من خلف حبيب، فاستمع إلى صوته المتهدج، وأنفاسه المترامية إلى أطراف الحياة لا تزال تردد في هبوط: الله أكبر. . . ولم يكتم مسيلمة نار الضغينة في نفسه، فاستل سكينا، وجعل يقطع فريسته عضوا عضوا، يقطع باليمين ويرمي بالشمال، والدماء تنبثق كالنوافير في عينيه، كأنها تدفق من قدر على النار، ومسيلمة كالجزار لا يبالي ما يصنع، والأشلاء في يسراه ترعش كأنما تصب عليه اللعنات، فلا يطيق صبرا عليها، فينحيها عنه بأقصى ما يستطيع من قوة، ولم يزل به حتى خفتت أنفاسه وهي تمتد إلى وادي الخلود.

واستراح مسيلمة منذ انقطعت كلمات حبيب بعد أن قال آخر ما قال: الله ربي. وما كان للطاغية أن يدع هذه الأشلاء، وتلك الدماء هكذا، فقد واتته فكرة طائرة اهتز لها اهتزازا عنيفا وهو في نشوة النصر المنحوس، تلك هي أن يشق صدر حبيب ويستخرج قلبه، ويرفعه بزق رمحه، ويحدجه بنظره في عين الشمس، ليعبث في هذا القلب الذي امتلكه محمد، ولينبش السر الذي كمن فيه الأيمان، وأخيرا لقول للشمس:

ص: 8

أشهدي فقد أهلكت بيدي ما أراد محمد أن يهلك به سلطاني. وقالت له الشمس: لا أسمع، فدخل في روع مسيلمة انه صوت حبيب، فهاله أن رآه وقد مات بين يديه، وصوته ما يزال يتردد مع أشعة الشمس، فإذا بهذه الأشعة كأنها رشاش الدم ينصب في وجهه فما يطيق دفعه، ولا يستطيع أن يتفاداه.

ألقى مسيلمة السكين من يده، في هدوء جمع بين النصر والهزيمة، وكأنما صحا من حلم يداعب خياله في نأمة الليل البهيم، فما هو إلا أن غشيته كتائب الإيمان تسيل بها (اليمامة) وتنقض على مسيلمة كأنها موت الفجاءة، وإذا بأم كأنها بمفردها كتيبة خرساء، درعها سابغة، وخوذتها شاملة، وكنانتها في منكيها، وسهامها منتضاة، وحرابها مختصرة.

وشمرت الحرب عن ساقها، وشرعت أم عمارة وبين يديها ابنها عبد الله تتفحص مسيلمة في عصابته فإذا بالفاجر المعمر يحوطه عبيده من كل جانب، فأشارت إلى ابنها، فرماه رمية استقرت في نحره، فانتفض عنه كل من كان حوله، فقام آخر وأجهز عليه بسيفه، وخلفه ملحمة للجوارح والكواسر.

لو أن أم عمارة كانت تقاتل مسيلمة انتقاما منه لقتله ابنها حبيب لهان الأمر، ولكنها والله جاءت لتقاتل في سبيل الله ولتكون كلمة الله هي العليا.

لهذا فهي تضارب القوم، وهذا شاب مغامر قد انفتل من شرذمة الباطل، وامتدت يده بالسيف إلى أم عمارة، يريد أن يزيل هامتها فأخلفته فما هو إلا أن طارت يدها في الهواء، والجراح موزعة في أجزاء جسمها، والدم تنزف منها على غير هدى، وإذا ترى ابنها يمسح سيفه بثيابه، ونظراته تشير إلى مصرع عدو الله مسيلمة، فانشق الدم المدرار عن بسمة من ثغرها، وسجدت لله الذي جعل ذاك الخبيث على يد ابنها، حتى انطوت في لحظة واحدة مائة وخمسون سنة قضاها مسيلمة يحارب الله ورسوله ويفتن المستضعفين، ويعذب المؤمنين، ويصد عن السبيل، ويحسب أنه من المهتدين.

وانطفأت فتنة الكذاب، وأخذت الدعوة سبيلها إلى القلوب وامتدت إلى الأمصار، وأم عمارة سيدة المجاهدات المسلمات، لم تثنها ضربة يوم أحد عن خوض غمار حرب يوم اليمامة، ولم يصرفها قتل ابنها حبيب عن دفع ابنها الوحيد عبد الله إلى الميدان، وما كان الجرح الغائر في عاتقها الذي لقيته من ابن قمئة ليصدها عن محاربة مسيلمة.

ص: 9

استرخصت أم عمارة الحياة الدنيا في سبيل الحياة الآخرة، وأرادت العزة فوهبتها عزيز الروح، وعاشت دهرا بعد أن تقطعت يدها يوم اليمامة، ورجعت وفي جسمها اثنا عشر جرحا ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، وكأنها اثنا عشر نجما تتلألأ في السماء، فتنير ظلام البدن بشرف الروح.

وجعل الناس يعودونها ومعهم مرضاهم لتستشفي لهم، ويتلمسوا منها البركة، فتمسح بيدها الشلاء على موضع العلة، وتدعو ببعض كلمات كانت تسمعها من رسول الله، فما من عاهة مسحت عليها بيدها إلا برئت بإذن الله.

وصار كل من يرى أم عمارة لا يستطيع أن يخفي إعجابه من قلبها هذا الحديدي، وقد امتلأ أمنا وإيمانا، ولا أن يخفي عجبه من هذه الجراحات الموزعة في ظاهر جسمها، وكلما سأل سائل عن ذلك، قالت:

(يوم اليمامة تقطعت يدي وأنا أريد قتل مسيلمة، وما كان لي ناهية حتى رأيت الخبيث مقتولا، وإذا بابني عبد الله بن زيد يمسح سيفه بثيابه فقلت له: أقتلته؟ قال: نعم. فسجدت لله شكرا)

وكان جديرا بأم عمارة أن تلقى التكريم من كل من جلس إليها، وتأمل آثار جهادها، ولكن ما كان أسعدها حين يردد الناس على سمعها قول النبي الكريم، وما أصدقه وأبلغه وأحكمه: ون يطيق ما تطيقين يا أم عمارة!

محمد محمود زيتون

ص: 10

‌أدب الشتاء

للأستاذ محمد سيد كيلاني

حسبك أن تندس في اللحاف

وخشية البرد على الأطراف

(ابن وكيع التنيسي)

- 2 -

يرغم الناس في فصل الشتاء على الدخول في حرب مع الطبيعة فمنهم الفقير الضعيف الذي لا يطيق هذه الحرب، فيشكو ويتألم، ويسخط ويتبرم، حتى يتمنى لو فتحت له أبواب جهنم ليدخل فيها هربا من شدة البرد وقسوته، قال أحد الشعراء:

أيا رب هذا البرد أصبح كالحا

وأنت بصير عالم ما تعلم

لئن كنت يوما في جهنم مدخلي

ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم

لقد كاد الشاعر يتجمد من شدة البرد، وأنساه هذا الهول ما يمكن أن يلاقيه من عذاب النار. فتضرع إلى الله أن يعجل بإدخاله جهنم، فهي عنده مكان صالح لأن يعيش فيه بعيداً من بطش البرد الذي كاد يفتك به.

وهذا شاعر آخر يتمنى لو مات واستراح من عناء الشتاء وآلام البرد. قال:

فليت هذا الشتاء الصعب مذ وقعت

عيني عليه افترقنا فرقة الأبد

برد لو أن الورى جاءت تبايعني

على الخلافة لم أقدر أمد يدي

وفي هذا المبالغة ما فيه. فالشاعر مع شدة فقره وعظيم احتياجه إلى ما يدفع عنه غائلة الشتاء يقول لو أن الناس ذهبوا ليبايعوه بالخلافة لما استطاع من قسوة البرد أن يمد يده ويتقبل البيعة.

وهذا شاعر آخر يصف ليلة من ليالي الشتاء فيقول:

فنحن فيها ولم نخرس ذوو خرس

ونحن فيها ولم نفلج مفاليج

وحسبك هذا المنظر. قوم جمدوا في أماكنهم من شدة البرد فكأنهم قد أصيبوا بالخرس والشلل فلا يستطيعون كلا ما ولا حركة.

وهكذا تنافس الشعراء في اختراع الصور وابتكار المعاني التي تترجم عن مشاعرهم

ص: 11

المختلفة، واحساساتهم المتباينة أمام هذا العدو الجبار وهو البرد.

وفي الشتاء كما ذكرنا يكثر أدب الشكوى والسخط والتبرم بالفقر. وذلك لأن متاعب الفقر تظهر في هذا الفصل، فيشعر المعدمون بوطأة الحياة عليهم، ويتألمون ويتضجرون ومثال ذلك قول أحدهم:

قيل ما أعددت لل

برد وقد جاء بشدة

قلت دراعة عرى

تحتها جبة زعدة

وهذا شاعر متصوف يقول:

جاء الشتاء وليس عندي درهم

وبمثل هذا قد يصاب المسلم

لبس العلوج خزوزها وفراءها

وكأنني بفناء مكة محرم

وأكثر ما يظهر حسد الفقراء للأغنياء في هذا الفصل الذي تعرف فيه قيمة الثراء حق المعرفة. وقد يمزجون الشكوى من الشتاء بالتهكم المر والسخرية اللاذعة والدعابة المؤلمة. ومثال ذلك قول أحدهم:

لي من الشمس حلة صفراء

لا أبالي إذا أتاني الشتاء

ومن الزمهرير إن حدث الغي

م ثيابي وطيلساني الهواء

بيتي الأرض والسماء به سو

ر مدار وسقف بيتي السماء

فكأن الإصباح عندي لما في

هـ حبيب رقيبة الإمساء

فانظر كيف صور الشاعر نفسه، وكيف فرج عن آلامه المكبوتة بهذه الدعابات وكيف وصف ما يعانيه من العرى في هذه الصورة الساخرة. فهو لا يحفل بالشتاء ولا يعبأ بالبرد. فإن طلعت الشمس اتخذ منها ثيابه، وإن احتجبت استعاض عنها بالغيم والهواء والفضاء سكنه. فكأنه يعيش على مذهب العراة الذي نسمع به في هذه الأيام.

وأنظر إلى أبي الحسين الجزار حين يقول:

لبست بيتي وقد زررت أبوابي

علي حتى غسلت اليوم أثوابي

وقد أزال الشتاء ما كان من حمقي

دعني فمستوقد الحمام أولى بي

ما كنت أعرف ما ضرب المقارع أو

قاسيت وقع الندى من فوق أحبابي.

فالبيت الأول يكشف عن خفة الروح التي أشتهر بها هذا الشاعر. فهو لفقره وعدم توفر

ص: 12

الملابس لديه اضطر إلى أن يتجرد من أثوابه ويحبس نفسه في منزله حتى تغسل ملابسه وتجف. وقد عانى من ويلات البرد ما جعله يخنع ويستكين ويفضل أن يلقي بنفسه في مستوقد الحمام لأن وطأة البرد عليه كانت أشبه بضرب المقارع.

وبجانب هذا الأدب الذي يعبر عن الشكوى والسخط، تجد أدبا آخر يصور حياة الأغنياء في هذا الفصل وما فيها من ترف ونعيم. فهو عندهم فصل محبب إلى النفس، إذ يقبلون فيه على الخمر والكباب والنساء، والسماع والرقص، قال أحدهم:

نعم الشتاء وحبذا

زمن الهنا والراحة

طاب العناق به إذا

دار الحبيب براحتي

وقال الخوارزمي:

أعد الورى للبرد جندا من الصلا

ولاقيته من بينهم بجنود

ثلاث من النيران: نار مدامة

ونار صبابات ونار وقود

فهذا هو شعور الأغنياء نحو الشتاء. فهو عندهم فرصة للتمتع بالمشروب والمأكول والملبوس والملموس. وكانوا يسمون لوازم الشتاء (كافات). وهي عندهم سبعة تضمنها قول الشاعر:

جاء الشتاء وعندي من جوانحه

سبع إذا القطر عن أوطاننا حبسا

وكن وكيس وكانون وكأس طلا

مع الكباب وكف ناعم وكسا

آلكن أي المنزل والكيس كناية عن النقود. وكف ناعم كناية عن المرأة، والسعيد هو الذي تتوفر لديه هذه النعم.

وكثيراً ما شكا الفقراء من حرمانهم من تلك الكافات قال أحدهم:

جاء الشتاء وما الكافات حاضرة

وإنما حضرت منهن إبدال

قل وقر وقلب موجع وقلا

وقادر هاجر والقيل والقال

وقال آخر:

لا الكاف عندي ولا الكانون متقد

كنى ظلامي وكيسي قل ما فيه

دع الكباب وخل (الكف) وا أسفا

على كسا أتغطى في دياجيه

فمن هنا نرى أن الشتاء يوحي بنوعين من الأدب يناقض أحدهما الآخر؛ فالأول أدب

ص: 13

الفقراء الذي يصور ما يلاقيه الفقير من البؤس والضيق والجوع والعرى. وإحساس الفقير بالحاجة إلى الغذاء والكساء في فصل الشتاء أشد منه في أي فصل آخر.

وذلك لحاجة الجسم إلى طاقة معينة من الحرارة لا يحصل عليها إلا إذا توفرت لديه الملابس الصوفية والمواد الدهنية. وبغير ذلك يتعرض الناس للموت ولأمراض الشتاء المختلفة. لذلك كان هذا النوع من الأدب صادقاً إلى أبعد حدود الصدق. أما النوع الآخر فهو الذي يصور حياة الأغنياء وما فيها من لهو ومجون وعبث وخلاعة وتفاخر بالأموال والثمرات. فليالي الشتاء عندهم مواسم وأعياد.

وفي الشتاء تكثر البراغيث بين الطبقات الفقيرة. قال ابن وكيع التنيسي:

حتى إذا ما ملت للرقاد

نمت على فرش من القتاد

إن البراغيث عذاب مزعج

لكل ما قلب وجلد تنضج

لا يستلذ جنبه المضاجعا

كأنما أفرشته مباضعا

فانظر كيف صور الشاعر ليالي الفقراء في هذا الفصل. فبينما هي فرصة طيبة للهو والخلاعة عند الأغنياء، إذا هي جحيم لا يطاق عند الفقراء. برد شديد، وبراغيث تطرد النوم عنهم في غير رحمة فلا عجب إذا تبرم الفقراء بطول الليل وتضجروا. في حين أن الأغنياء يجدونه - على طوله - قصيرا.

وهذا شاعر آخر يزعم أن للبرغوث فوائد ومزايا. وقال:

لا تكره البرغوث إن اسمه

برغوث لك لو تدري

فبره مص دم فاسد

والغوث إيقاظك في الفجر

وهذا من وحي الجهل نعوذ بالله من شره.

وكان من الناس من يعجز عن تأدية فريضة الصلاة، وبخاصة صلاة الصبح، وذلك لشدة البرد، قيل لأعرابي:

أما تصلي في الشتاء؟ قال: البرد شديد، وما علي كسوة أصلي فيها. وأنشد:

إن يكسني ربي قميصا وريطة

أصلي وأعبده إلى آخر الدهر

وإن لم يكن إلا بقايا عباءة

مخرقة ما لي على البرد من صبر

ففي الشتاء تصعب الصلاة ويسهل الصيام. وهناك أحاديث رويت عن النبي صلى الله عليه

ص: 14

وسلم في مدح الشتاء منها قوله عليه السلام: الشتاء ربيع المؤمن، قصر نهاره فصامه، وطال ليله فقامه.

وكانوا لشدة البرد يكثرون من الذهاب إلى الحمامات العامة التي كانوا يسمونها (بيت النار) وقد وصفها الأدباء شعرا ونثرا وأتوا في ذلك بالمعاني الطريفة والصور اللطيفة كما سنرى في غير هذا المقال. وكان للأغنياء حماماتهم الخاصة، يدعون إليها المقربين لديهم من الأدباء، ويقضون فيها وقتا طويلا متجردين من برقع الحياء

وفي الليل يلتفون حول المواقد، ويتناشدون الأشعار، ويستمعون إلى القصص والحكايات والملح والنوادر ويتنافسون في نظم المقطوعات التي تتناول وصف المواقد وما فيها من جمر أحمر يعلوه الرماد، وما يتصاعد منها من لهب.

فإذا انتهى الشتاء وولى، وأقبل الربيع فرح الناس واستبشروا بانقشاع تلك الغمة وذهاب تلك الشدة. وفي برد العجوز التي هي نهاية الشتاء يقوا أحدهم:

كسع الشتاء بسبعة غبر

بالصن والصنبر والوبر

وبآمر وأخيه مؤتمر

ومعطل وبمطفئ الجمر

(يتبع)

محمد سيد كيلاني

ص: 15

‌المقامة اللغوية

للأستاذ إبراهيم الأبياري

أمردود على حديث قومي

به سبقوا وما سطرت غيا

ألقاك أيها الوديد على موروث عي به واعية، وند عن باغية؛ لا هو بالآحاد فيحد، ولا بالمئات فيعد، أنت عنه صادف، وفيه عازف.

وقبلك بلونا الوارثين:

طوى الدهر عنهم ما أفادوا فأعدموا

حين راموا مرامك، وقعدوا مقعدك

وغير هذا ما تعهد، فما لك اليد المبسوطة في سرف، ولا أنت ينزيك ترف؛ فترهبك النزر، وتخشى المتربة مع العمر. وهل أنت إلا شحشاح، من شحاح تأخذ النزر، وتبقي الكثر. هذا إلى مغيبات لم تفضض لها ختما، ومكنونان لم تشهد لها رسما، فما أولاك أن تردني إلى قول القائل:

ألا جحجح فما بالرأي تدلي

ولا أنت الملوح بالصواب

ولو غير المقة أحمل لك، وأنشد دون إعزازك، لتركتك في هواك، وأسلمتك إلى مغواك.

وغاب عنك أنك والمسرف على حسرة، فكلا كما مضياع، هو بما خرج عنه، وأنت بما حرمت منه. غير أنه عز بما ذاق مع الأنفاق، وأنت لهيف حسير على فوت ما شاق. وما أبعد ما بين الحسرتين.

وتسألني عما لك من نشب لا أحصيه، ورزق ساقه الله إليك ولا تدريه؛ فعرفتك بنفسك أن ليس لك سلف أتلدوا، ولا خلف أطرفوا؛ فما بالي أدينك في غير دينه، وأشينك دون مشيئة.

وفاتك أنك وارث القاموس بما طم، ومالك المحيط وما ضم وما هو إرث يا أمام قليل.

وأخاف أن تهمني أهازلك

وما الخيم إلا أن أقول فأصدقا

وتهتال، في هذا المآل؛ وتطالعني عيناك بما يهجس في صدرك وتوسوس به نفسك.

تريد بياناً أو مزيداً من الفهم.

وأوجس أن أبلبلك؛ فتزحم ربة البحار، تنازعها ما انتزعت منك، فتهيج على أهلك هيجاء تذهب بالحرث والنسل.

ص: 16

وغيرك - حماك الله - يغري بالأنشاب، يجد فيها جاهته وأنت نشبتك ما تحوي الدفاتر، واعتزاؤك إلى ما تضم القماطر

هذا إرثك الذي ترث لا ورق فيه ولا نضار.

وتجهمني يا بن إنس وبك غير الرضا عن نصيبك من الحياة

أو يضارك أن أجعلك من الوارثين، وأن أسلكك في زمرة المالكين. أليست من اللغة تلك الكلمات التي لا تحصى، والأساليب التي لا تستقصي:

أو لست وارثها ومالك شأنها

وإليك أمر بقائها وفنائها

وإن من ضب ضبك، وحاز حوزك، خليق أن يكون الترعاية الأمنة. وأراك من الجيل الجانح إلى ما خف، الطيب ما لان اللسان، ينفر إن ذكرته بما لم يسمع، ويأنف إن دربته بما لم يحفظ. وهو من اللغة في أبيجاد، يعيش منها على آحاد.

ما أشبهك بالبخيل الذي فقد ماله بحبسه، وخرج من دنياه إلى رمسه، وهو لم يحسن إلى نفسه.

إبراهيم الأبياري

ص: 17

‌من حديث الشعر

للأستاذ كمال بسيوني

بعثت بهذا الكتاب إلى أستاذ صديق من أساتذة الأدب في جامعة فؤاد الأول، وقد رأيت ألا بأس بإذاعته وإظهار الناس عليه فقد يكون فيه خير قليل أو كثير، وقد يكون فيه نفع ضئيل أو خطير. وأول ما يجب على الكاتب أن يؤثر الناس بالخير، ويختصهم بما يعتقد أن لهم فيه نفعا، فإذا تفضلت (الرسالة) فأذنت في نشره، فلها مني شكر ملؤه المودة الصادقة.

كمال بسيوني

صديقي العزيز. . .

لست أدري ما اهتمامك بهذا الشعر المصري الحديث، تدرسه وتنقده وتؤرخ له، إلا أن تكون قد أغرقت في العلم والفلسفة حتى مللتهما، فأردت أن ترفه عن نفسك بشيء من الجهل والسذاجة تجدهما في شعر هؤلاء الشعراء. ولا تغضب ولا يغضب معك هؤلاء الشعراء، فلم أرد إغضابك ولا إغضابهم، وما كنت في يوم من الأيام، ولن أكون في يوم من الأيام، مريد إلى إغضاب أحد أو متعمدا إسخاط أحد، وإنما هو الحق الذي أخلص له الحديث إذا تحدثت، والعلم الذي أتحرى فيه الصواب إذا بحثت، وأنا مهما كنت حريصا على إرضائك شديد الكره لإسخاطك، فأنا على إرضاء الحق أحرص، وللعبث بالعلم أشد كرها، وأنا من أجل ذلك آسف أشد الأسف حين أعلن إليك مضطرا أن هذا الشعر الذي يهز نفسك هزا، ويختلب قلبك اختلابا، لا يدل على شيء إلا على الجهل والسذاجة وما شئت من هذه الصفات التي تصور انحطاط الحياة العقلية، وماذا تريد أن أقول في كلام لا يصور حقيقة من حقائق العلم، ولا يشرح نظرية من نظريات الفلسفة، ولا يعتمد على منهج من مناهج البحث، ولا يحب الدقة إذا أراد أن يحدد الأشياء، بل لعل أبغض شيء إليه أن يسمي الأشياء بأسمائها. ستقول: وما للشعر ولهذا كله؟ ومن قال إن الشعر يصور حقائق العلم أو يشرح نظريات الفلسفة أو يعتمد على مناهج البحث أو يحرص على تسمية الأشياء بأسمائها؟ ولقد كنت تقول الشعر وتنشره في (الثقافة) وفي غير (الثقافة) من المجلات الأدبية، فهل كنت تقصد به إلى حقائق العلم ونظريات الفلسفة، أم كنت تقصد إلى الجمال الفني في نفسه، لا تريد أن تصف شعورا شعرت به، أو إحساسا أحسسته، أو عرض لك،

ص: 18

في لفظ يلائمه رقة ولينا وعذوبة، أو روعة وعنفا وخشونة؟ أكان شعرك يتناول حقائق العلم ونظريات الفلسفة، أم كان شعرك يتناول الطبيعة وجمالها، يتناول العاطفة وحرارتها، يتناول الرضا والسخط، يتناول الفرح والحزن؟ لقد كنت شاعرا وتعرف أن الشعر فن كله، يفسده العلم أو يكاد يفسده إن دخل فيه، وكنت شاعرا وتعرف أن الشعر ليس هو الكلام الذي يعتمد فيه صاحبه على البحث والمقارنة واستنباط الحقائق، وإنما هو الكلام الذي يعتمد فيه صاحبه على الخيال، ويقصد فيه إلى الجمال الفني الذي يختلب الألباب ويستلب العقول. ستقول هذا وأكثر من هذا، وأنا أحب أن أستمع منك إلى هذا الكلام وأمثال هذا الكلام، لأن هذا الكلام نفسه لا يؤيدك في شيء، ولكنه يؤيدني في كل شيء، ويثبت بما لا يدع مجالا للشك أو الجدل أن هذا الشعر لا يدل إلا على الجهل والسذاجة وما شئت من هذه الصفات التي تدل على انحطاط الحياة العقلية. إن الشعر إذا لم يكن علما وكان يفسده العلم، ولم يكن يعتمد على الواقع وإنما يعتمد على الخيال، ولم يكن يحرص على تسمية الأشياء بأسمائها، وإنما يحرص على فتنة اللفظ وسحره، وعذوبة الجرس وجماله، فكيف لا يدل بعد هذا كله على الجهل الجاهل والسذاجة الساذجة؟ لقد كنت شاعرا وأعرف أن الشعر يعتمد أول ما يعتمد على المبالغة الكاذبة والخيال الجامح الذي يصور الأشياء كما يشاء؛ لا يحفل في تصويره بشيء، فليست المرأة في منطقه إنسانا يأكل ويشرب ويتنفس، وإنما هي جسم من النور مرة، وغصن على كثيب مرة أخرى، وغزال نافر مرة ثالثة وعلى هذا النحو، وليست المرأة الجميلة في رأيه امرأة أتاح الله لها هذا الجمال، وإنما هي الطبيعة المتناثرة تجمعت فكانت هذه المرأة الجميلة، فوجهها كان جزءا من فلق الصبح، وشعرها كان قطعة من قطع الليل، وثناياها كانت لؤلؤا أو أقاحا، وخداها كانا وردتين، ونهداها كانا رمانتين، وردفاها كانا موجتين إلى آخر هذا الكلام الذي يفهمه الشعراء، والذي يفهمه الشعراء على طريقتهم الخاصة، وأنا أعرف أنك ستقول: إن هذا كله هو الفن وإن هذا كله هو الخيال، ولكن ما رأيك في هؤلاء الكتاب الذين يجيدون الفن ويستخدمون الخيال ثم تعصمهم ثقافتهم الواسعة عن أن ينحدروا هذا الأنحدار، وأن يسفوا هذا الإسفاف؟ بل ما رأيك في هؤلاء العلماء الذين يستخدمون الخيال في معاملهم كما يستخدمه الشعراء بل أكثر مما يستخدمه الشعراء، وهم مع ذلك لا ينتهون إلى ما ينتهي هؤلاء الشعراء من هذا اللهو واللغو، وإنما

ص: 19

ينتهون إلى استكشاف الحقائق العلمية الصحيحة. ولكن معذرة فأني أنسيت أن خيال الشعراء غير خيال العلماء، فخيال الشعراء يصعد إلى السماء فيستوحي منها الحقائق، ثم يتنزل إلينا بعد ذلك لا تقبل الشك ولا تحتمل المراء. ولكن خيال العلماء يجري في الأرض ليستنبط منها الحقائق استنباطا ولم يتح الله له هذا الجناح الذي يستطيع به أن يطير في السماء، وأن يجوب أجواز الفضاء، ومن هنا كان الشعر مطمئنا إلى كل ما يقول، لأنه إنما يستوحي حقائقه من السماء، وكان العلم شاكا في كل شيء، غير مطمئن إلى شيء، لنه إنما يستنبط حقائقه من الأرض، ومن هنا رأينا العلماء حين يتصورون فرضا من الفروض لا يطمئنون إليه حتى يجرون عليه التجارب المختلفة التي تثبت صحته أو فساده، ورأينا الشعراء حين يتصورون أمرا من الأمور يضعونه في إطاره الشعري، ثم يقدمونه إلينا تحفة فنية رائعة، لا يبالون بعدها إن كان ما قالوا حقا أم باطلا، خطأ أم صوابا، ومن هنا كان العلماء في حاجة إلى القراءة والدراسة والبحث والاستقصاء، ولم يكن الشعراء في حاجة إلى شيء من هذا كله، لأنهم يدرسون في السماء، ويقرءون في الفضاء، ولا تقل: وماذا تريد إذن من الشعراء، أتريد منهم أن ينظموا الشعر في الأرض؟ أتريد أن تقص أجنحة خيالهم المحلق؟ أتريد أن تفسد عليهم شعرهم بما تسميه حقائق العلم ونظريات الفلسفة. لا تقل هذا فإني لا أريد من شعرائنا أن ينظموا شعرهم في الأرض، ولا أن يفسدوه بالعلم والفلسفة؛ ولكن تعال أسألك: من من الكتاب يستطيع أن يتناول موضوعا من الموضوعات الأدبية فيكتب فيه مقالا أدبيا رائعا دون أن يكون قد عرفه وفهمه ودرسه من جميع نواحيه، ولكن تعال أحدثك عن كثير من الشعراء الذين ينظمون القصائد الطوال في مواضيع لا يعرفونها ولا يعلمون من أمرها قليلا أو كثيراً، تعال أحدثك عن شوقي شاعرنا العظيم، إنك قد قرأت من غير شك قصيدته الطويلة العريضة التي قالها في (شكسبير)، فماذا فيها عن شكسبير؟. ليس فيها عنه إلا أنه يشبه شعره بالآيات المنزلة، ويشبه معانيه بعيسى المسيح، ويقول إن قصصه تمثل الحياة، وما عدا ذلك فهو كلام عام لا يشير إلى شكسبير من قريب أو بعيد، فأستحلفك بعقلك الذي يطمئن إلى حقائق العلم لا بنفسك التي تهتز لسماع الشعر، لو أن كاتبا أراد أن يتحدث عن شكسبير أكان يقول مثل هذا الكلام؟ بل أستحلفك بعقلك الذي يطمئن إلى حقائق العلم لا بنفسك التي تهتز لسماع الشعر، أيجرؤ

ص: 20

كاتب أن يتحدث عن شكسبير وهو لا يعلم من أمر شكسبير شيئا؟ ولكن معذرة فإني أنسيت أن الشاعر ذو خيال، وأنه يستطيع أن يصعد بخياله في السماء فينتقل به بين الكواكب السيارة والثابتة، ثم يتنزل إلينا بعد ذلك بأشعاره الحلوة العذبة التي لا تخلو من ضخامة ولا تبرأ من فراغ.

ستقول: وماذا تريد؟ أتريد أن تسكت الشعراء عن قول الشعر؟ إنك إذا استطعت أن تسكت الطائر الغرد عن تغريده أو تمنع الزهرة الأرجة عن أن تبعث عرفها، أو تمنع الشمس المضيئة عن أن ترسل ضوءها، استطعت أن تسكت الشعراء عن قول الشعر وأنا معك في أني لا أستطيع أن أسكت الشعراء عن قول الشعر، لأنه ينبعث منهم انبعاثا يوشك أن يشبه انبعاث الضوء عن الشمس والعطر عن الزهرة، ولكني أريد إليهم ألا يجعلوا حياتهم الشعورية والنفسية كل شيء، وأن يجعلوا لحياتهم العقلية نصيبا من عنايتهم، فأنا أعلم أنهم قالوا الشعر لما حباهم الله به من شعور مرهف وحس قوي وعاطفة دقيقة وخيال خصب، فكان الشعر أثرا لهذا كله ومظهرا لهذا كله، ولكن الله قد حباهم مع ذلك عقلا واسعا وتفكيرا ناضجا، فأين أثر هذا العقل وأين مظهر هذا التفكير؟ ستقول: ولم لا يكون الشعر أثرا من آثار العقل ومظهرا من مظاهر التفكير؟ وأنا أقول: إن الشعر لا يمكن أن يكون أثرا من آثار العقل ولا مظهرا من مظاهر التفكير، فالشعر بوزنه وقافيته ولفظه وخياله أضيق من أن يسع تفكير العقل إذا ارتقى وأخذ من العلم والفلسفة بنصيب لا بأس به، وأنت تعرف كيف نشأ النثر الفني عند اليونان والرومان، وكيف نشأ النثر الفني عند العرب، وكيف نشأ النثر الفني عند الأمم الأوربية الحديثة، فقد كانوا يقولون الشعر ويتغنونه في حياتهم الأولى، وكانوا يقولون الشعر ويتغنونه بحكم هذه الملكات الفطرية التي تنشأ مع الأفراد والجماعات والتي نسميها الحس والشعور والعاطفة والخيال، والتي تنمو وتنضج قبل أن ينمو العقل وينضج التفكير، فلما وصلوا إلى درجة من الحضارة والرقي ضاق عنها الشعر بوزنه وقافيته ولغته وخياله احتاجوا إلى أن يتحللوا من هذه القيود وما كان تحللهم من هذه القيود إلا نشأة لهذا الفن النثري الذي تراه راقيا قويا في الأمم التي بلغت من الرقي والحضارة أمداً بعيداً. لن يكون الشعر في يوم من الأيام مظهرا من مظاهر الحياة العقلية؛ ولكنه كان وسيكون مظهرا من مظاهر الحياة الشعورية والنفسية. وإذا كان الشعراء قد

ص: 21

برهنوا لنا بشعرهم الرائع على أنهم أصحاب حس قوي وشعور مرهف وخيال خصب، فقد بقي عليهم أن يبرهنوا لنا على أنهم أصحاب عقول ناضجة تستطيع أن تبحث وأن تفكر وأن تصل إلى حقائق الأشياء. وأنا أعلم أنك سترميني بالكر والكيد، وأني أريد أن أصرف الشعراء صرفا عن الشعر حين أدعوهم إلى أن يهتموا بحياتهم العقلية وأن يأخذوا أنفسهم بالثقافة الواسعة العميقة، ذلك أني أزعم أن الشعر أضيق من أن يسع تفكير العقول الراقية التي أخذت من العلم والفلسفة بنصيب كبير، وفي الوقت نفسه أدعوهم إلى هذا الرقي العقلي والتعمق العلمي والفلسفي، فماذا أريد من ذلك إلا أن أهيئهم تهيئة جديدة لا يستطيعون معها قول الشعر. ويجدون أنفسهم مضطرين إلى أن يهجروه إلى هذا الفن النثري أو هذا النثر الفني الذي يجدون فيه مجالا واسعاً لأفكار عقولهم بعد أن ضاق الشعر عنها، ولم يتسع بوزنه وقافيته لها. ستقول هذا كله، وأنا معك في أني أريد أن أصرف الشعراء عن الشعر، لأني لا أحب لهم أن يظلوا في مرتبة الأمم البدائية التي تقول الشعر وتتغناه في حياتها الأولى؛ وإنما أريد أن يتجاوزوا هذه المرتبة إلى مرتبة الأمم التي ارتقت في الحضارة وتقدمت في الحياة العقلية وعرفت هذا النثر الفني الذي يتسع لأفكار عقولهم الراقية المثقفة. إن الشعر أول مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة الحس والشعور والخيال. ولكن النثر آخر مظهر من مظاهر الفن في الكلام. وإنما أحب أن يتجاوزوه إلى المظهر الأخير من مظاهر الفن في الكلام، لأني أحب أن يتطوروا في فنهم كما يتطورون في حياتهم، فأنا أفهم أنهم يصوغون الشعر في حياتهم الأدبية الأولى لأن عقولهم لم تكن قد ارتقت وأخذت بحظها المقدور لها من الثقافة. ولكني لا أفهم أن يظلوا طول حياتهم يصوغون الشعر ليس غير لأن معنى هذا يعيشون خرس العقول فصحاء الخيال، ولأن معنى هذا أنهم ينفقون حياتهم بعيدين عن هذه الحياة العقلية الراقية، بعيدين عن هذه الثقافة الواسعة العميقة التي لا يستطيع أن يستغني عنها كل إنسان أن يعيش عيشة راقية في بيئة راقية. وأنا كما تعلم كنت شاعرا في مبد حياتي الأدبية. ولقد قلت الشعر ما اتسعت أوزانه وقوافيه ولفظه وخياله لما يجول في نفسي من معان وخواطر وعواطف، فلما ارتقت حياتي العقلية وأصبح الشعر أضيق من أن يتسع لأفكاري الناضجة رأيتني مضطرا إلىأن أنصرف عنه إلى هذا الفن النثري أو هذا النثر الفني.

ص: 22

وإن من دواعي الغبطة أن تزدهر الثقافة في هذا العصر، وأن تبلغ الحياة العقلية في مصر أوجها، وإن يكون ازدهار الثقافة وارتقاء الحياة العقلية سببا في إخمال الشعر وإسكات صوته. ولقد قيل إن الشعر في مصر قد خفت صوته بعد شوقي وحافظ؛ وأنا أقول: إن الحياة العقلية في مصر بعد شوقي وحافظ قد ارتقت. فانصرف الناس إلى تسجيل أفكارهم بعد أن كانوا منصرفين إلى تصوير احساساتهم. ألا فليعلم الناس أني ما سمعت أن فلانا شاعر حتى فهمت أنه لم يزل في الطور الأول من أطوار الأدب، وأنه أبعد ما يكون عن هذه الثقافة الواسعة العميقة. وما سمعت أن أمة من الأمم شاعرة حتى فهمت أنها أمة بدائية وأن حياتها العقلية ما زالت هامدة جامدة. فهنيئا لمصر أن يضمحل فيها الشعر ويقل فيها الشعراء، وأن يزدهر فيها العلم وتمتلئ بالكتاب والعلماء.

وتقبل في النهاية تحية خالصة ملؤها المودة الصادقة.

كمال بسيوني

ص: 23

‌المكتبة العربية في عصر الحروب الصليبية

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 4 -

وكان النحو مادة أساسية من مواد الثقافة في هذا العصر ويكاد يشترك كل المثقفين في أن يأخذوا منها بنصيب، وندر من لم يشارك فيها، وكأنما يعدونها أداة أساسية لدراسة العلوم الشرعية

وأهم ما كان يدرس بالبلاد يومئذ كتاب المصل للزمخشري، وقد نال من عناية العلماء في ذلك العصر ما لم ينله كتاب آخر؛ فظفر بشروح كثيرة منها شرح ابن الحاجب وشرح ابن يعيش وساهمت البلاد مساهمة فعالة في الإنتاج، وغزت كتبها العالم العربي بدورها حتى صارت تلك الكتب أهم ما يدرس في تلك المادة. وحسبي أن أشير هنا إلى كتب ابن مالك وعلى رأسها ألفيته، وكتب ابن الحاجب ومن أهمها كافيته، كما وضع ابن معطي ألفية. وقد عرفت من بين ما أنتجته هذه البلاد أكثر من أربعين كتابا منها المطول ومنها الموجز، وعرفت من الرجال الذين ساهموا مساهمة كبيرة في دراسة هذه المادة زهاء مئتي عالم كان أكثر تخصصهم فيها

أما في اللغة عرفت البلاد في ذلك العصر أمهات كتبها؛ فدرسها رجالها واختصروها حينا ووضعوا عليها الحواشي التي تتعقب ما وقع فيها من الوهم، كما اشتركت البلاد في الإنتاج اللغوي، وكان أكبر ما تمخض عنه جهودها ذلك الكتاب العظيم لسان العرب لابن مكرم المصري وقد تم تأليفه سنة 689 وجمع فيه مؤلفه بين التهذيب والمحكم والصحاح وحواشيه والجمهرة والنهاية ورتبه ترتيب الصحاح

ووضع العلماء في ذلك الحين كتبا لا تصل إلى مستوى الكتاب، وتناولوا بعض نواحي فقه اللغة فكتبوا في الاشتقاق والاشتراك والتصحيف وغيرها. واشتهر من علماء اللغة يومئذ طائفة كبيرة، منهم تاج الدين الكندي وعبد الله بن زي وابن مكرم المصري

وفي علوم البلاغة درست مصر والشام ما عرفته اللغة العربية من الكتب التي ألفت من قبل سواء في ذلك ما وضع في تلك العلوم بخاصة، أو تناولها وإن لم يخصص لها، وتستطيع أن ترجع إلى كتاب بدائع القرآن لابن أبي الإصبع لترى ما عرف يومئذ من

ص: 24

كتب البلاغة، وتدرك أم مسائلها كانت لا تزال متفرقة بين كتب التفسير وكتب الأدب وكتب النقد والبلاغة، وقد قام علماء البلاد بجمع هذا التناثر المتفرق هنا وهناك، ثم لم يقفوا عند هذا الجمع، بل زادوا ما وصلوا إليه باجتهادهم الشخصي وأذواقهم الخاصة، ووضعوا كتبا كثيرة لم أر منها إلا ما لا يكاد يزيد على أصابع اليدين

وكان دارسوا لبلاغة في ذلك الحين يرمون إلى هدفين: أولهما دراسة بلاغة القرآن، وثانيها القدرة على تذوق القول الجميل والعون على إنتاجه، وما بقي لدينا من كتب هذا العصر يدل في وضوح على هذين الهدفين، وقد يتغلب أحدهما على الآخر في بعض الكتب، فترى كتاب الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، وكتاب بدائع القرآن، وكتاب التبيان في علم البيان لأبن الزملكاني ترمي إلى بيان ما أودعه القرآن من ألوان البلاغة، بينما تجد الغالب على كتاب المثل السائر وكتاب معالم الكتابة ومغانم الإصابة وكتاب تحرير التحبير، وكتاب البديع لأسامة ضرب المثل البلاغية للتذوق والإقتداء

وأشهر مؤلفي البلاغة في ذلك العصر ابن الأثير صاحب كتاب المثل السائر وهو أسير كتاب بقي لنا، وعبد العظيم بن الإصبع وبدر الدين بن مالك الذي اختصر المفتاح للسكاكي في كتاب سماه المصباح

- 5 -

وظفرت المكتبة العربية في ذلك العصر بإنتاج ضخم في التاريخ، وألوان متنوعة فيه، وشخصيات ذوات أقدار ممتازة من الناحية العلمية والاجتماعية، ومن الممكن أن نتبين في هذا العصر أكثر من عشرين اتجاها في كتابة التاريخ

فبعض مؤرخي العصر قد أعجب بأسرته من ناحية مجدها السياسي حينا أو العلمي حينا آخر؛ ومنهم من اكتفى بكتابة مذكرات شخصية سجل فيها ما رآه، كما فعل أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار. وانتهج بعض علماء هذا العصر نهجاً صالحاً قويما فألفوا معاجم فيها لأساتذتهم الذين كانوا يبلغون في بعض الأحيان عدة آلاف؛ وإن هذه المعاجم لخليقة أن تعطينا فكرة حقيقة عن الحركة الفكرية والجهد العلمي في تلك الأيام، وترسم لنا صورا للتعليم ومناهجه في تلك العصور

ومن المؤرخين من أعجب بشخصية، فمضى يجمع أخبارها ويؤرخ لها، وكان صلاح أوفر

ص: 25

هذه الشخصيات حظا، كما ظفر نور الدين والظاهر بيبرس والمنصور قلاوون بعناية مؤرخي ذلك العصر، وبقي لنا من ذلك كتاب الروضتين

ولم يقف كثير عند حد الترجمة المفردة، بل مضى يؤرخ لطائفة معينة من الناس، كما جمع علي بن ظافر الأزدي أخبار الشجعان والمظفر بن قدامة مناقب الصالحين وأخبارهم، ومن أهم كتب التراجم النافعة الباقية لنا في ذلك العصر كتاب وفيات الأعيان الذي لا يكاد يستغني عنه باحث في عصرنا هذا، وكتاب معجم الأدباء لياقوت

ومضى بعضهم يؤرخ المكتبة العربية إلى ذلك العص، ولو أن هذه الكتب كلها بقيت لاستطعنا أن نرسم إلى مدى بعيد صورة قوية لسير الحركة العلمية في هذا العصر، وما سبقه من عصور، وقد ساهم الوزير القفطي بنصيب كبير في هذه الحركة، فوضع كتابا في أخبار المصنفين وما صنفوه، وآخر في أخبار النحاة، وبقي لنا إلى هذا اليوم من الكتب التي تؤرخ لبعض نواحي المكتبة العربية كتاب ابن أبي أصيبعة الذي دعاه عيون الأنباء في طبقات الأطباء

ومن أهم ما عني به المؤرخون في ذلك العصر تاريخ المدن، يذكرون فيه من دخل المدينة، أو سكنها من عظماء الرجال. وربما كان أضخم كتاب وضع في تاريخ مدينة في ذلك العصر هو تاريخ دمشق لابن عساكر ولا يزال موجودا في أكثر من أربعين مجلدا، كما أرخوا لمصر وكتبوا في خططها، وأرخوا لغير القاهرة كأسوان والفيوم والإسكندرية

وتنوعت الاتجاهات في كتابة التاريخ السياسي يومئذ، فمن الؤرخين من عني بتاريخ الوزراء كابن الصيرفي في كتابه الإشارة إلى من نال الوزارة، وعمارة اليمني في كتاب النكت العصرية، ولا يزال الكتابان باقيين. ومنهم من أرخ لمصر على ترتيب السنين ومنهم من أرخ للدولة الفاطمية أو الأيوبية، ومنهم من عني بباقي أجزاء العالم العربي فوضع القفطي تاريخا للمغرب وتاريخا لليمن

وكانت العناية بالتاريخ العام أكبر من العناية بالتاريخ الجزئي، وقد بقي لنا ستة كتب تمثل هذا الاتجاه منها كتاب الدولة المنقطعة للوزير جمال الدين الأزدي، وقد تضمن أخبار الدول الإسلامية وحوادثها وغزواتها وهو مرتب على السنين، ومنها كتاب تاريخ الزمان في تاريخ الأعيان ألفه سبط ابن الجوزي، وكتاب أبي شاكر بطرس المعروف بابن الراهب

ص: 26

وقد جمع فيه التاريخ من آدم إلى عصره في أيجاز وللشيخ ابن العميد كتابنا في التاريخ أحدهما يدعى تاريخ ابن العميد وهو يبحث في تاريخ ما قبل الإسلام، والتاريخ يدعى تاريخ المسلمين وانتهى به إلى سنة 65 وكتب ابن واصل كتابة التاريخ الصالحي في التاريخ العام

ونالت الجغرافية في هذا العصر حظا كبيرا من عناية رجاله وتنوعت اتجاهاتها، وبحسبنا أن ينتج هذا العصر كتاب معجم البلدان لياقوت الذي يعد من أهم المصادر إلى وقتنا هذا

- 6 -

وكانت الفلسفة موضع عناية الفاطميين فقد كانت الدعاة يلقنون تلاميذهم حبها،

ويحضونهم على النظر في كلام أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس من على شاكلتهم، وينهونهم عن قبول الأخبار والاحتجاج بالسمعيات، ويزينون لهم الإقتداء بالأدلة العقلية والتعويل عليها، ويحيلونهم إلى ما تقرر في كتب الفلاسفة من العلم الطبيعي والعلم الالهي، فكانت دراسة الفلسفة للدعوة الشيعية وإحدى دعائهما، وبرغم ما كان للفلسفة من هذه المكانة القوية لم أعثر على فيلسوف نبغ في هذه الفترة التي شهدت الحروب الصليبية، وربما رجع ذلك إلى ما لاقيه آثار الفاطميين الفكرية من تشريد على يد صلاح الدين الذي كان سنيا يكره الفلسفة ورجالها ويراها مضللة. للعقول وتأثر الكامل خطوات عمه صلاح الدين، ويظهر أن اضطهاد الفلسفة قد خفت وطأته بعد موت الكامل وأخيه الأشرف، وتولى بعض دارسيها مناصب كبيرة في الدولة كالقضاء، أو مناصب دينية كبرى كمحمد ابن بكر المعروف بالأبكى وكان إماما في المنطق وعلوم الأوائل فإنه استقر بمشيخة الشيوخ بخانقاه سعيد السعداء، وظهر في هذه الفترة التي استعاد فيها دارسو الفلسفة والمنطق حريتهم علمان ممتازان هما عز الدين الإربلي التوفي سنة 660 وأستاذه التوفي سنة 646، وقدم الخونجي كتبا كثيرة في المنطق للمكتبة العربية لا يزال بعضها باقيا إلى اليوم ككتاب الموجز، وظفرت كتبه في المنطق بعناية كثير من العلماء فشرحها بعضهم وعلق عليها آخرون

- 7 -

وتنوع الإنتاج في المكتبة الأدبية يومئذ؛ فمن مجموعات تحوي رائع القول كما في كتاب

ص: 27

الآداب النافعة والألفاظ المختارة الجامعة لابن شمس الخلافة الأفضلي وكتاب تذكره ابن العديم التي ضمنها كثيرا من الآداب ونوادر الأشعار. وأهم ما بقي لنا من هذا النوع كتاب خريدة القصر للعماد الأصبهاني وقد تضمنت مختارات من شعر شعراء العراق ومصر والشام والحجاز واليمن وصقلية والمغرب والأندلس، وكتاب المطرب في أشعار أهل المغرب لابن دحية

ومن دراسات للآثار الأدبية كحواشي الكندي على خطب ابن نباتة وديوان المتنبي وشرح شميم الحلي على مقامات الحريري، وبدار الكتب شرح الضرير النحوي على تلك المقامات

ومن معاجم تحوي أخبار الشعراء والأدباء كمعجم الشعراء لياقوت، ومعجم شعراء الشيعة ليحيى بن حميدة

ومن مختصرات لكبريات الآثار الأدبية كما فعل محمد بن عبد الكريم المهندس الذي اختصر كتاب الأغاني الكبير

وفي هذا العصر نهض الشعر نهضة كبرى، فقدم للمكتبة العربية كثيرا من الدواوين نذكر من بينها ديوان القاضي الفاضل، وابن سناء الملك، وابن مطروح والبهاء زهير

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

ص: 28

‌الوطنية في المهجر

للأستاذ حمدي الحسيني

ساءت الحال في بلاد الشام في القرن التاسع عشر أيما سوء. وانصبت الويلات على سكان هذه البقعة الطيبة من الوطن العزيز انصبابا قويا متلاحقاً، حتى أصبحت هذه البلاد الجميلة مسرحاً لأبشع أعمال الظلم وأقبح أنواع التفريق بين العناصر، ليتمكن ذلك الظلم من السيادة. فكانت فتنة الستين المشؤومة وتبعتها فتن أخرى جعلت من بلاد الشام جحيما فاتكا بالأموال، والحريات والأنفس، فدفعت غريزة حب البقاء فريقاً كبيراً من سكان البلاد إلى التفكير في الوسائل التي يمكنهم بها أن يحققوا رغبة الحياة ورغبة الحرية. فقلبوا النظر في هذا الكون الفسيح الأرجاء باحثين عن بقعة من الأرض يمكنهم أن يعيثوا فيها أحرارا كراما فوقع نظرهم على نور الحرية والاستقلال المتألق في الديار الأميركية بعد ثورتها التحريرية الكبرى فصمموا على الهجرة وركبوا متون الأخطار إلى تلك الديار، ولا يسع المضطر إلا ركوبها. فعاشوا هنالك بالعزم الصادق والإرادة القوية فضمنوا بالكسب الحلال حياتهم والاندماج في النظام العادل حريتهم.

أجل! هجر أولئك العرب بلادهم وأقاموا في بلاد الناس ولكن حب الوطن بقى متمكنا في نفوسهم محركا لعواطفهم.

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل

وما كاد يستقر الحال بهؤلاء العرب المهاجرين حتى أخذت الوطنية تعصف في نفوسهم، تأثيرها المقارنات بين حاضرهم في مهجرهم وماضيهم في موطنهم. وتؤججها المقايسات بين حياة السعادة التي يشاركون فيها الأميركيين الأحرار المستقلين، وبين حياة الشقاء التي خلفوا أمتهم العربية تصطلي نارها في بلاد العرب الخاضعة لظلم الحكم وذل الجهل.

أخذت العاطفة الوطنية المكبوتة في نفوس أولئك الأخوان المهاجرين تتململ في مكابتها وتتهيأ للانطلاق من مكامنها في ظلال تلك الحرية الوارفة وأفياء ذلك الاستقلال الرطبة الناعمة وأية وسيلة لإشباع رغبة الوطنية في مثل هذه الحال من الأدب عل اختلاف أنواعه فنشأ بالأمة العربية هنالك أدب وطني قوي يمثل العاطفة الوطنية القوية في نفس العرب، وأخذ هذا الأدب شرق بنوره وينصب بحرارته على نفوس العرب في سائر

ص: 29

أقطارهم فكان الرسول الأمين بين النفوس العربية المتألمة في الغرب والشرق، والعامل القوي في تحريك الآمال بالحرية والاستقلال. وإني محدث القارئ الكريم عن شعر القوة في المهجر الأميركي بشاعرين قويين في عواطفهما الوطنية يصح أن نتخذ من شعرهما برهانا قاطعا على أن إخواننا العرب في مهجرهم النائي يحملون من العواطف الوطنية ما نحمل، ويعملون لتحقيق الأماني القومية ما نعمل

السيد رشيد سليم الخوري - الشاعر القروي - شاعر عربي يقطن مدينة سان باولو في البرازيل، له ثلاثة دواوين شعرية وهي الرشيديات، والقرويات، والأعاصير، في يدنا منها الآن ديوان واحد هو ديوان الأعاصير، والذي يبدو لنا مما قرأناه للسيد ميخائيل نعيمة في كتابه (الغربال) عن السيد رشيد الخوري، ومما قرأناه في مقدمة ديوان الأعاصير للسيد رشيد الخوري نفسه أن ما جاء في ديوان الأعاصير هو أقوى أقسام شعر السيد رشيد الخوري على الإطلاق

لفت نظرنا في ديوان الأعاصير مقدمة الديوان لأنها مكتوبة بقلم صاحب الديوان نفسه خلافا لعادة الشعراء الذين يقدمون دواوينهم بمقدمات مستجداة من أقلام ذوي الشخصيات الأدبية الكبيرة سواء كان ذلك التقديم حق الصديق الوفي لصديق، أم منه كبير يفضل بها على صغير. ولفت نظرنا من تلك المقدمة تلك الخطوط الجميلة التي حدد بها الشاعر القروي مبدأه الوطني تحديدا دقيقا بدت بعده عاطفته الوطنية في قصائده واضحة جميلة مشرقة برغم هذا الضعف البلاغي الذي يبدو واضحا جليا على قصائد هذا الديوان النفيس

وقف الشاعر القروي أمام الأندلس فثارت في نفسه الذكريات فأراد أن يحييها باسم بلاد العرب ولكن كيف يحيها باسم بلاد ترسف بقيود الذل والأستعباد؟ إذن لا بد من الصبر حتى يأذن الله للبلاد العربية بالاستقلال وحينذاك تهدي تحيتها للأندلس كما يهدي الكريم تحيته للكريم

فإذا بغداد عادت كالقديم

موطن الشعر وديوان العلوم

وإذا رن بها عود النديم

مرجفا بالحب لعصاب النجوم

ومثيراً لوعة الليل البهيم

ومديرا أدمع الفجر مداما

عند هذا سوف نهديك السلاما

ص: 30

وإذا بيروت أم النور ولى

عن سماها أثقل الرايات ظلا

وإذا السيف من الصحراء سلا

نافضا من أربع الفيحاء ذلا

وإذا لبنان بالأمر استقلا

فلبسنا العز أو متنا كراما

عند هذا سوف نهديك السلاما

واسمعه الآن يقرر حق الاستقلال للأمة ويدلها على الوسيلة الصحيحة لإحقاق هذا الحق

إن ضاع حقك لم يضع حقان

لك في نجاد السيف حق ثان

ما مات حق فتى له زند، له

كف، لها سيف، له حدان

فابعث سيوف الهند من أغمادها

تبعث بها الموتى من الأكفان

وإليك هذين البيتين من قصيدة له في الثورة السورية الكبرى يخاطب بها العربي المقاتل في سبيل الحرية والاستقلال

إذا حاولت دفع الضيم فاضرب

بسيف محمد واهجر يسوعا

(أحبوا بعضكم بعضا) وعظنا

بها ذئبا فما نجت قطيعا

وإليك هذه القطعة من قصيدة نظمها إبان تلك الثورة السورية:

بدت ولهي ممزقة القناع

فقلت لها فديتك لا تراعي

فدون حماك أبطال العوالي

مؤزرة بأبطال اليراع

رماح كالأفاعي مشرعات

وأقلام كأنياب الأفاعي

أطلي واشهدي منهم هجوما

ترى وثب القلاع على القلاع

وهل عربية هذا أخوها

تراع إذا دعا للحرب داع

السيد إلياس قنصل شاعر عربي يقيم في مدينة بوينس إيريس عاصمة الأرجنتين له في يدنا ديوان السهام، وهذا الديوان مصدر بمقدمة صاحبه يرجع لها الفضل في دراستنا لنفسية الشاعر لأنها وصفت لنا هذه النفسية القوية أجمل وصف؛ كما صورها لنا سعر الديوان أجمل تصوير

أعجبنا في هذا الشاعر ثقته بنفسه وثقته بأمته فهو يعتقد بأن في إمكان الأمة العربية أن تعد من نفسها قوة ترجع بها سؤددها وتهيأ لذاتها جبروتا يرد لها التالد من عزها، وهو لا يرى في قوة الغاصبين للوطن العربي إلا ضعفا بجانب اتحاد الأمة العربية وثقتها بنفسها

ص: 31

واعتمادها على حقها، وهو واثق بقدرته على تحريك شعور الثقة بالنفس والاعتماد على الذات في نفسية الأمة بقصائدها لقوية التي يقذف بها في وجه الضعف والونى بلا شفقة ولا رحمة، وإنك لترى هذا الواثق بنفسه المؤمن بأمته، لا يقيم للفشل في الجهاد وزنا، فهو لا يخاف الفشل لأنه مؤمن بالنجاح، ولهذا فهو يدعو الأمة العربية بحرارة للجهاد في سبيل الحرية جهاداً لا يعتوره الخوف من الفشل ولا تخالطها الخشية من الكلل والملل. ومن حق هذا الشاعر علينا الآن أن نورد له هذه العبارة التي جاءت في مقدمة ديوانه موجهة إلى فريق الضعفاء من الأمة الذين يقفون من المؤمنين موقف اللائم اللاحي

(ليست حمية الشباب هي التي تدفعني إلى هذه الحماسة، ولكنه إحساس بالإرهاق الذي يعانيه وطني المفدى، وما هذه الجمرات المشبوبة حماسة - لو تعلمون - وإنما هي إيمان راسخ) ولا ننسى ونحن نولي هذا الشاعر إعجابنا بقوة عاطفته الوطنية أن نوجه إليه عتبنا لضعفه البلاغي الذي لو تنزه عنه شعره لجاء آيات بينات في القوة معنى ومبنى، ولنسمعه الآن ينشد نشيد المجد.

وإن ناصبتك الحرب دنياك كلها

وحقك من ليل الحوادث غيهب

فلا تشك فالشكوى احتضار مخيب

ولن يستحق النور شاك مخيب

بل استل من عالي إبائك مغمدا

تغلغل فيه من مضائك كهرب

وكافح به صرف الزمان وقل له

سأبعث فيك الرعب من حيث تهرب

ولنسمعه يخاطب شباب البلاد الناعمين بتوافه اللذات

هبوا الشباب التذاذا بالحياة أما

في عالم المجد للذات ميدان؟

هذي الليالي التي تقضونها عبثا

يبكي الإباء عليها وهو خجلان

يا حبذا لو رصدتم من شهودكم

ساعاً بآي العلا والعز تزدان

إن البلاد إذا ضلت شبيبتها

فكل آمالها فقد وخسران

وإليكم هذه القطعة الجميلة القوية من قصيدة له نظمها على لسان ثائر دمشقي يودع عروسه قبل الالتحاق بالثورة الكبرى

بلادي تدعوني إلى حومة الوغى

ودعوتها الغراء أمر مقدس

فإن لم أكن في مطلع الجيش هاجما

تمور بصيحاتي الأعادي وتوجس

ص: 32

فلا أبهجت قلبي نسيمات دمر

ولا ضمني في شامة الأرض مجلس

فراقك خطب منه بين جوانحي

سهام يصاب الحزن والسهد تغمس

ولكن حمل الذل موت وعاره

إزاء عواديه يضيع التحرس

وإلا فلا تبكي علي فإنني

أموت قرير العين بالعز أهجس

وإليكم هذه القطعة القوية منتزعة من إحدى قصائده العامرة بالقوة

وما من أمة في الأرض لمت

بغير السيف حقا بات يذري

وليس ينال الاستقلال إلا

إذا سالت دماء القوم نهرا

وشعب يبتغيه دون جد

لشعب سادر ما زال غرا

حمدي الحسيني

ص: 33

‌إرهاصات في الجزيرة قبيل البعثة المحمدية

للأستاذ الطاهر أحمد مكي

- 1 -

كان الاعتقاد السائد حتى القرن الثامن عشر، أن الحركات الإصلاحية وليدة العبقرية الفردية، فهي مدينة بوجودها لهم، ومتوقفة في بقائها عليهم، وعلى مقدار ما يوجد من عباقرة، يتوقف سير الحياة أو يندفع، وتبطئ عجلة الزمن أو تسرع، ويشغر مكان القيادة أو يملأ، حتى إذا جاء دور كايم، حطم هذه النظرية، وأقام على أنقاضها صرحا سامقا لنظرية أخرى، وصنع من أشلائها مذهباً عاليا لرأي أقوى، يرد كل ظاهرة في المجتمع إليه، وينسب كل رقي إلى تفاعله، ويجرد الفرد من سلاح الخلق والابتكار!. . .

وهو مذهب حري بأن يقف الإنسان عنده طويلا، وان يتملى حقائقه مليا، فسيقوده في رفق إلى مواطن الخفاء فيما نجح من دعوات فبقي، وما فشل من مذاهب فتلاشى، وما صلح من أديان فخلد، ويرد كل نتيجة إلى أسبابها، وكل ظاهرة إلى عللها، وما الفرد إلا أثر لمكانه وما اتصل به، ولزمانه وما استتبعه، ولبيئته وما اعتمل فيها!. . .

فعلم الاجتماع الحديث يقرر أن الظواهر أيا كان نوعها، من خلق المجتمع وأليست من صنع الفرد، وحقيقة أي مجتمع لا وجود له بدون أفراده، ولكن من تجمع هؤلاء واحتكاكهم، ينشأ شيء يختلف كل الاختلاف عن خواطرهم الفردية، وقد يبدو غريبا إن ينشأ من اجتماع عناصر ما، حقيقة خارجة عنها في عالم المعاني، ولكنها في عالم الطبيعة أمر ظاهر ومألوف، (فكما أن الخلية الحية لا تحتوي على شيء آخر غير الجزيئات المعدنية، كذلك لا يضم المجتمع شيئاً غير الأفراد، ومع ذلك فإنه من المستحيل بداهة أن تحتوي ذرات الإيدروجين أو الأكسوجين أو الأزوت أو الكربون على الظواهر المميزة للحياة، وبناء على ذلك فلا يمكن إلا أن نتخذ الحياة المادية بأسرها مستقرا لها، فهي توجد في الكل ولا توجد في الأجزاء. . . وحينئذ فليس لنا أن نطبق هذا المبدأ على علم الاجتماع) لأن ما هو ممكن في عالم المادة، فهو في عالم الأناسي أمكن، حيث الأفكار تتفاعل، والنظرات تمتزج. . .

وما أناقش مذهباً رست دعائمه، وتوطدت أركانه، أو أن أشرح طرائفه ومناهجه، أو

ص: 34

أصوغ قوانينه وقواعده، وإنما أعرض لموقفه من الدين، فهو عندهم ظاهرة اجتماعية وأن جاء به الوحي، وأثر أرضي وإن نزل من السماء، وخلق جمعي وإن نهض به رسول، ما دام المجتمع قد أخذ به ورضيه، وأخلد إلى أوامره وسكن إلى نظمه. ولن يستقر دينفي مجتمع ما، إلا إذا انسجم مع طبيعته، وواءم فكره رقيه الفكري وتطوره الاجتماعي، وكان معدا لسماعه، متطلعا لأحداثه، فالرسل مترجمون عن حالة، المجتمع مهيأ لقبولها، يفهم مظهرها، ويستسيغ حقائقها، ويرنو إلى مثلها العليا. ولأمر ما، كان الرسول بشرا، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق!

(إن الدين لون من ألوان التعبير الإنساني عن العواطف والميول والمثل العليا، وإن هذا اللون من ألوان التعبير متصل أشد الاتصال بأمزجة الأفراد والأمم، ممثل لها تمثيلا صادقا قويا. . . وهو طريق من الطرق التي تسلكها الإنسانية إلى الجمال والحق والمثل العليا) ومن ثم تعددت الأديان، لا بتعدد العصور وحدها، وإنما بتعدد الأمكنة أيضا، لأن كينا ما، قد ينهض في موطن ويكبو في غيره، وقد يثمر في مجتمع ويجدب في سواه، فالدين الإسلامي مثلا، وقف عند حدود معروفة ودول معلومة، ورغم الجهود الجبارة التي بذلها المسلمونفي اجتياز هذه الحدود، لم يكتب لهم النجاح، ولم يقدر لهم التوفيق، على حين أن هناك أماكن انتشر فيها بطبيعته، ولم يجد صعوبة ما في أن يثبت فيها وأن يقوى!. . .

وأنا وأنت وغيرنا، هل كان لنا فضل في اتخاذ الإسلام دينا والإيمان به عقيدة، أم ترانا خرجنا إلى الحياة، فوجدنا آباءنا كذلك، فتابعناهم وسايرناهم وسلكنا نفس الطريق الذي يسلكون؟ هل استطاع أحد ما، مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا أو حتى بلا دين، أن يصطنع الجدة ساعة، فرأى المتابعة كسلا، والتقليد خمولا، والإذعان ضعفا، فنقب وبحث ودرس وقارن، وانتهى إلى عقيدة نيرة، يؤمن بها لأنها حق، ويخضع لها لأنها صواب؟

إنما نحن أسارى المجتمع (فالطفل حين يدخل العالم لا يحمل معه سوى طبيعة بيولوجية، غير خلقية أو اجتماعية، تستطيع أن تتكيف بجميع الهيئات والأشكال، فهو لا يختار لنفسه لغة دون أخرى، أو ديانة دون غيرها، بل هو المجتمع الذي يضطره إلى اتباع الديانة التي يشب عليها، أو اللغة التي يتكلم بها، والواحد من ساعة نشأته يؤلف جزءاً من مجتمع له تعاليمه وأخلاقه ولغته وديانته وفنه وعاداته وتقاليده وتاريخه وأنظمته وخرافاته ومثله

ص: 35

الأعلى، ولا بد من التقيد بهذا الميراث والعمل به)

هذا هو رأي علم الاجتماع في الأديان، وقد اهتدى إليه قوم يدرسون المجتمع كما هو، لا يطيرون مع الملائكة، ولا يمتطون أجنحة الخيال، ولا يركبون متن الفرض، ولا يجنبون إزاء الحق، ولا تعميهم المثل العليا عن واقع الحياة. . .

وفي ضوء العلم، وعلى هدي منه، نريد أن نستشف حال الجزيرة العربية قبيل البعثة المحمدية، لنتفهم حالها. . . أجاء الإسلام فصار بها غير ما أحبت، وساقها إلى غير ما هويت، ونقلها من حال كانت فيها، إلى حال لم تكن تريدها، أم أن تيار الحوادث؛ كان ينبئ بما سيتمخض عنه الغد، وما سيحمله المستقبل، وما ستأتي به الليالي في قابلها القريب أو البعيد؟. . .

(للكلام صلة)

الطاهر أحمد مكي

كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول

ص: 36

‌خواطر مرسلة:

هنا موضع الغرابة

للأستاذ حامد بدر

قال أخي: غريب أن تتلاشى صفة الحياة عند أهلها

قلت: ومن أهلها؟

قال: النساء، ففي كل يوم أراهن يبتدعن فنوناً جديدة من التبرج، وينحدرن إلى درك يفقدن فيه ما يجب أن يصان.!

قلت: أنت طيب القلب يا أخي إلى حد أعيذك منه، أو بتعبير أقرب إلى الصراحة، وأبعث من المواربة: أنت أبله!

فاربد وجه وقال: كيف تصفني بالبلاهة على أن عجبت من أنثيات تطفح بهن الطرق، لا يعرفن الحشمة، لا يبالين الحياء.!

قلت أنت أبله، لأنك تستغرب شائعا، والغرابة تكون فيما ندر، لا فيما كثر، فاستغرب الأدب إن عمت البلوى بسوء الأدب، واعجب من الحياء إن أحدقت المصيبة بضياع الحياء، ألست تقول إن الحياء قد قل؟

قال: نعم

قلت: إذن فالحياء هو الذي صار غريبا، وليس الغريب ضياع الحياء

صار ما يعنينا مألوفا، ولو قلت عنه عيب سلقوك بألسنة حداد من السخرية والتهكم، واتهموك بالتأخر، والرجوع إلى الوراء! فما أسهل الانحدار، وما أكثر أنصاره؛ وما أقل الجرأة في هدم المنكر، أو إنكار القبيح!

إن الشرع يحرم على المرأة أن تبدي زينتها إلا لبعلها أو من في حكمه، والبعل ذاته يراها في تبرجها وابتذالها نهبة للعيون، في السوق، وفي الملهى، وفي الطريق العامة، ليلا ونهارا. . فلا يحرك ساكنا، ولا يبدي انفعالا. . فأية غرابة فيما ألفناه، وتعودنا أن نراه، فلا نغضب ولا نعجب ولا نغار؟!

كان اليسير مما نشهده اليوم موجبا لعجب يثور، وغيرة تحمى، وحمية تنفجر، في زمن كانت المرأة فيه محتجبة مصونة. فإذا قضت الضرورة الملحة بظهورها بدت في الثوب

ص: 37

الفضفاض، والرداء السابغ، تمشي على استيحاء، لا يتبين الرائي وجهها، ولا ما خفي من حيلها. فإن رأيت اليوم في مثل هذه المرأة فاعجب كثيرا ودعنا نعجب معك، لأن تكل هذه الصورة النادرة التي تبعث الدهش، وتثير العجب!

ثارت عاصفة طيبة ضد الصور الخليعة التي ينشرها بعض الصحف والمجلات، ولا أدري في أي مكان استقرت العاصفة، بعد أن كان أثرها دوام الحال على ما هو فيه عليه من ظهور تلك الرسوم منتشرة في أبعد الأوضاع من الدين والأدب!

وكل فكرة ترمي إلى محاربة الغواية، إن لم تجد أنصارا مجندين، فان مصيرها إلى الركود، وقد تنجو من الضعف الخلقي القاتل إن أقلعنا عن عبادة المظاهر التقليدية الزائفة، والجري وراء الأهواء، من غير تدبر ولا أناة

وأخشى أن يقتلنا هذا الضعف ما دمنا ننظر إلى المحافظين نظرة تعجب واستغراب

حامد بدر

ص: 38

‌رسالة الشعر

اللحن الجريح. .

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

يا حبيبي. . أنا في عالم أحزاني أغني

كهزار خنقت ألحانه كيف التجني

كم تمنيت أأفني العمر في دنيا التمني؟!

لا تلمني إن تمردت على قيدي وسجني

كيف أحيا وضباب اليأس أعشى ناظريا

ومنى دنياي كالحلم تولت من يديا

والتقاليد أثارت غضب الجهل عليا

وأبى جرعني صابا ورباني شقيا

خلني في صحبة الأحزان مجترا لحزني

من معيدي لصبا باتي وأكوابي ودني

ما لقلبي يتغنى ودماه تتجارى

ودموعي كشآبيب غمام تتبارى

لست أبكى لخيال طاف بالفكر ومارا

أو لمال بددته الكف أو حلم توارى

إنما أبكي على شعري وآمالي وفني

حين أغفت في دجى النفس فدعني لا تلمني

يا حبيبي ملني الصبر وأضنتني الهواجس

وتراءى العالم البسام في عيني عابس

لم تعد تفتنني الدنيا ولا الحور النواعس

وكرهت الراح واللحن وإيناس المجالس

ملت الألحان أذناي وقد أنكرت أذني

وتلفت عسى عيني ترى لآلاء حسن

ص: 39

يا فؤادي أين ولت عن دجى الليل الشموس؟!

أين فجري! أترى دارت على فجري النحوس؟!

أم الصبح كأبكار معاني شموس

لم أزل أرصد في الغيب غدي وهو عبوس

وأمني النفس والأيام كم خيبن ظني

آه لو ترجع أيامي. وهل آواه تغني؟

أنا كالزنبقة العذراء لكن بين شوك

وكقيثار جريح اللحن مخنوق التشكي

وفؤادي الواحة السمحة في صحراء شك

كم ذئاب روعوا أمني وقالوا لم تبكي

كيف لا أبكي وقد رويت بالأدمع لحني

بعد ما أرقصت دنياي على اللحن المرن

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

بعد الأوان!. .

للأستاذ محمد قطب

هذه اللهفة تجتاح حياتي

وحنين موغل في جنباتي

ولهيب فائر في خفقاتي

ليت شعري! بعد إن عشت زمانا في سبات

أقطع الأيام في صمت بليد وأناة!

ما الذي أيقظ قلبي من سباته

ما الذي هيج منه حرقاته

أي شيطان ثوى في جنباته

ص: 40

يشعل الثورة فيه، ويغذي جمحاته!

ويشيع اللهفة الحرى فتذكي رغباته؟

أيها القلب! لقد عشت شقيا

لم تذق من متعة الأحياء شيا

قد تعشقت سرابا سرمديا

عشت أيامك فيه، فكأن لم تك حيا

وطواك الزمن الساخر في البيداء طيا!

لم تصحوا اليوم من بعد ركود؟

ما الذي عدت ترجى من جديد؟

دورة أخرى على الأفق الشريد!

وعذاب الأمل الضائع في التيه المديد!

هكذا يذهب عمري في ضلال وشرود!

لا تطع يا قلب داعي الخفقان

لا يغرنك شيطان الأماني!

ما غناء الصحن بعد الأوان؟

ضل ركب العمر ببيداء الزمان

وتغشى اليأس والظلمة أعماق كياني

محمد قطب

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

معركة الإسلام والرأسمالية:

هذا عنوان كتاب جديد للأستاذ سيد قطب، كتاب يعرض فيه سوء حالة المجتمع وما يشيع في نفوس أفراده من قلق بسبب الأوضاع الظالمة، ويعني خاصة - عند الكلام على هذه الأوضاع - بكشف الستار عن الجاذبية الشيوعية التي تسحر ألباب الكادحين إذ تعدهم بالخلاص مما يعانونه من بؤس وحرمان ذاهبا إلى أن الخلاص الحقيقي الذي يحفظ الإنسانية كرامتها وحريتها إنما هو في الإسلام: نظمه وتشريعه وحكمه. وهو يهاجم الأوضاع القائمة هجوماً عنيفاً، يأتي عنفه من الصراحة والبصر بحقائق الأمور. ومن هنا يبدو الكتاب (حريفا) يبلغ في غرضه ما لا تستطيع أن تبلغه الوسائل الأخرى من كتابة بريئة أو غير بريئة. . . ذلك لأن المؤلف يلذع ثم (يزيت) موضع اللذع بدسم الإسلام

هذا هو الكلام الجد. . . نحن في أحوال سيئة ما في ذلك شك، أحوال يسودها الاستغلال وتتحكم فيها الرأسمالية، ولكنها لا تريد شيوعية. ولماذا نلجأ إلى الشيوعية (إذا كان هناك نظام آخر يمنحنا الخير الذي تمنحه لنا الشيوعية، ويعفينا من بشاعة الثراء الفاحش وفوارق الطبقات، ويحقق لنا مجتمعاً متوازناً لا حرمان فيه ولا افتراء. . ثم يمنحنا في الوقت ذاته غذاء الروح، وحرية الفكر، والشعور الإنساني، الأرقى بالإنسان والحياة. ما القول إذا كان هناك نظام، لا يدعنا ذيلا في القافلة، قافلة الشيوعية أو قافلة الرأسمالية. . . إنما يمنحنا مع العدالة الاجتماعية المطلقة في الداخل، كرامة دولية عزيزة في الخارج، ويرد إلينا اعتبارنا في المجتمع الدولي؛ وقد يعفينا من ويلات الحرب، ويعفي الإنسانية معنا من هذا البلاء)

ويلخص الأستاذ سيد قطب مشكلاتنا الاجتماعية في: سوء توزيع الملكيات والثروات، ومشكلة العمل والأجور، وعدم تكافؤ الفرص، وفساد جهاز العمل وضعف الإنتاج؛ ويعرضها - واحدة واحدة - على الإسلام، ويشرح علاجه الحاسم لها، ثم يخلص إلى أن الإسلام يجب أن يحكم ليستطيع أن يطبق وينفذ مفنداً ما يوجه إلى حكم الإسلام من مطاعن وما يقف في سبيله من عدوات هي عداوات الصليبين، والمستعمرين، والمستغلين والطغاة،

ص: 42

والمحترفين من رجال الدين، والمستهترين والمنحلين، والشيوعية والشيوعيين

وقد كتب الأستاذ المؤلف هذا الكتاب على هدى الثقافة الإسلامية المستقاة من منابعها وأصولها، وفي ضوء الإلمام بالمذاهب الحديثة، واستعان بأداة الكاتب المبين وثقافة الناقد البصير. وقد ألف قبله كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) والكتابان يرميان إلى هدف واحد، وإن كان كتاب العدالة يميل إلى الدراسة الجامعة للأصول، أما كتاب المعركة فهو أميل إلى التطبيق. ويختلف الكتابان أيضا في الأسلوب من حيث هدوء العدالة وثورة المعركة

وإنني لأغبط صديقي الأستاذ سيدعلى هذه الروح القوية المنبثة في كتابه (معركة الإسلام والرأسمالية) وأتمنى أن يكون لي تفاؤله. . ذلك أني أرى أكبر عدو لسيادة الإسلام وعدالته إنما هو في عقولنا. . حقا هناك العداوات التي ذكرها وبين أساليبها، وهي عداوات ضارية، ولكن العداوة الأشد هي في داخلنا، هي في فهمنا العامي للإسلام، وليس هذا الفهم مقصورا على العوام، بل هو أيضا في أذهان المتعلمين الذين يتعلمون - ولا يزالون - على الأسس التي وضعها المستعمرون وقصدوا فيها إلى المباعدة بيننا وبين الإسلام، بل هو أيضا في أذهان من يسمونهم (رجال الدين) الذين يجارون ذلك الفهم، من أثر العكوف على الجدل العقيم الذي تزخر به الشروح والحواشي

وقد بين الأستاذ ذلك في هذا الكتاب، ولكنه متفائل قوي الأمل في النصر القريب، ولكني لا أرى محاربة العدد الكامن في العقول أمرا هينا، ولا ألمح لهذه المحاربة إلا طلائع قليلة العدو أغبطها ارجوا لها التوفيق

العيد الألفي لابن سينا

ذكرت في الأسبوع الماضي أنه تقرر تأجيل الاحتفال بالعيد الألفي للفيلسوف ابن سينا إلى ربيع سنة 1952 وكان مقررا إقامته في أكتوبر سنة 1951 ببغداد، ووعدت ببيان سبب لهذا التأجيل.

تقوم بالنظر في هذا الاحتفال الإدارة الثقافية بالجامعة العربية وهي دائمة الاتصال بالحكومة الإيرانية للتنسيق بين الاحتفال العربي المعتزم إقامته في بغداد وبين الاحتفال الإيراني المعتزم إقامته في طهران. ولما تقرر تحديدا أكتوبر سنة 1951 لاحتفال بغداد

ص: 43

أبلغت الحكومة الإيرانية بذلك فردت بأن هذا الوقت يصادف شهر المحرم وهو شهر حداد عند الشيعة فلا تقام فيه حفلات. وأن الحكومة الإيرانية تعمل في بناء ضريح لابن سينا في همدان ولم يتم بعد ولا ينتظر أن يتم قبل أكتوبر سنة 1951 ويحسن أن يكون الضريح مهيأ عند الاحتفال ليكون من تمام العناية بهذه الذكرى. ولذلك قررت اللجنة المؤلفة لهذا الغرض بالإدارة الثقافية أن يقام الاحتفال ببغداد في النصف الثاني من شهر مارس سنة 1952 وتم الاتفاق مع إيران على هذا الموعد وعلى أن يقام احتفال طهران في النصف الأول من إبريل، إذ ينتقل المحتفلون ببغداد إلى طهران ويتم الاحتفال على هذه الصورة التعاونية

واللجنة العامة المؤلفة في الإدارة الثقافية للاحتفال بالعيد الألفي لابن سينا مكونة برياسة الدكتور أحمد أمين بك وعضوية الدكاترة والأساتذة إبراهيم بيومي مدكور ومحمد البهي ومحمد يوسف موسى وأحمد فؤاد الأهواني ومحمود الخضيري والسيد محمد تقي القمي (من إيران) وشارل كونز مدير المعهد الفرنسي بالقاهرة والمستشرق ماسينيون عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية والأب جورج شحاتة قنواتي. وقد ألفت لجنة فرعية لنشر مؤلفات ابن سينا من بعض هؤلاء الأعضاء. وهناك لجان فرعية بالعراق وسوريا ولبنان، العراقية برياسة الدكتور ناحي الأصيل والسورية برياسة الدكتور جميل صليب واللبنانية برياسة الدكتور عمر فاروخ. وكل منها تعمل في بلادها للتحضير للاحتفال العام ببغداد

ويتمثل نشاط الإدارة الثقافية واللجنة المؤلفة بها فيما يأتي:

1 -

جمع المخطوطات والوثائق المشتملة على مؤلفات الرئيس ابن سينا في المكتبات الشرقية والغربية والمكتبات الخاصة، وما عسى أن يكون لدى بعض الأفراد وقد أرسلت بعثات لتحقيق هذا الغرض إلى اسطنبول وسوريا وإيران وبريطانيا والفاتيكانوالأسكوريال، فصورت كثيراً من مؤلفات ابن سينا وأتت بما أمكن الإتيان به منها

2 -

قررت اللجنة البدء بنشر قسم من كتاب (الشفاء) وهو الخاص بالمنطق بعد مراجعة نسخة المخطوطة المتعددة وهو الآن تحت الطبع ونشر المجموعة الفلكية والمجموعة الرياضية لابن سينا، وعهدت اللجنة إلى المختصين في كليتي العلوم والهندسة بجامعة فؤاد الأول لإنشاء لجنتين فرعيتين لمعالجة هذين الفرعين وكلفت اللجنة الأب جورج شحاتة

ص: 44

قنواتي بالكتابة عن مؤلفات ابن سينا، فأنجز الأستاذ هذا العمل في مؤلف ظهر أخيراً بعنوان (مؤلفات ابن سينا) وكلفت اللجنة أيضا الأستاذ محمود الخضيري بكتابة ترجمة حياة ابن سينا وكانت اللجنة قد تلقت من عالم باكستاني في لندن، وهو الدكتور رحماني، أنه مهتم بنشر جزء النفس من كتاب الشفاء، فقررت نشر هذا الجزء أيضا على أن يتعاون فيه الدكتور رحماني والدكتور الأهواني، وقد يحضر الأول إلى مصر لهذا الغرض. وذلك كله عدا ما قد تنشره اللجان الفرعية في العراق وسوريا ولبنان

3 -

فيما يختص بالمهرجان الذي سيقام ببغداد، رؤى أن تتناول المحاضرات الشؤون الرئيسية والقضايا الكبرى في شخصية ابن سينا وإنتاجه. أما الموضوعات التي تعالج نقطا خاصة لم يسبق علاجها فتعالج في بحوث فنية دقيقة، وكلفت اللجنة لفيفا من المستشرقين بالكتابة في موضوع من موضوعات عينتها ليلقى في المهرجان، وقد رد معظمهم بالقبول، ووصلت بالفعل أبحاث من بعضهم، ومن هؤلاء البروفسور جاردي الأستاذ بمدرسة اللاهوت في جامعة السربون

عباس خضر

ص: 45

‌البريد الأدبي

رحلة معالي وزير المعارف إلى الدقهلية

حركة بعد سكون، ونشاط بعد خمود، وإشراق بعد عبوس، وبشر بعد قطوب؛ وجود بعد بخل، وسخاء بعد شح، وبذل بعد ضن؛ تلك هي حال إقليم الدقهلية وحاضرته (المنصورة) في الأسابيع الماضية، لما استفاضت الأنباء بأن الدكتور طه حسين باشا سيزور هذا الإقليم ليبث فيه العلم وينشر منه العرفان. ولقد كنت ترى الناس جميعا في القرى والمدن لا يجري على ألسنتهم غير اسم طه حسين، ولا يتحدثون إلا عن علم طه حسين، ولا يشيدون إلا بفضل طه حسين

ولم يكن هذا الانقلاب الذي شمل الحياة والناس في هذه الأيام الطيبة، لأن وزير المعارف سيزورهم، أو لأنه سيأتيهم ليفتتح معاهد للعلم في بلادهم! فهذا شيء قد ألفوه من قبل كثيرا وأصبحوا لا يهتمون به، ولا يلتفتون إليه. وكم من وزير قد زارهم وأحيطت زيارته بضجيج المظاهرات، وعجيج الهتافات؛ مما لا يهز إلا الهواء ولا يخط إلا على الماء، ولا يبقي له أثر في الأرض ولا في السماء

ولكن هذا الانقلاب قد كان لأن الذي سيزورهم، ويشرف بلادهم هو الدكتور طه حسين، ذلك الرجل العجيب في علمه وإرادته، وفي عزمه وفي ثورته، والذي إذا أردت أن تجمل وصفه قلت صادقا - بفراء تخشى معارضا - إنه قوة متحركة جبارة، لا تني ولا تضعف ولا تخشى في العلم أحدا

جاء ديارهم - لا ليفتتح - كغيره - مدارس للعلم وهو لا يدري شيئا فيها ولا هم له إلا أن يمر عليها أو يشاهد مظاهرها ثم ينقلب مسرعاً من حيث أتى! لا يذر وراءه أثرا، ولا يترك بعده ذكرا - وإنما جاءهم يمثل عصا موسى ففجر الخزائن المصونة، واستخرج الأموال المدفونة، وألان القلوب القاسية، وعصر النفوس العاتية، ليشيد الآثار الخالدة من المعاهد العلمية والكليات الجامعية، وينفخ فيها من روحه لكي تبقى على وجه الدهر، وتؤتى ثمرها في كل عصر. ومعاهد العلم كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. وهل أبقى على وجه الأرض من أماكن العلم وأثبت من صروح العرفان؟

ص: 46

ومن كان يظن أن رحلة صغيرة مثل هذه الرحلة تؤتي مثل هذه الثمرة المباركة؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يجمع في يوم واحد من مثل بلادنا المصروفة عن المكارم المغلولة اليد عن الخير - مئتي ألف من الجنيهات ليبني بها معاهد للعلم - وليس في يده قوة مادية ولا سلطة إدارية! حقا إن هذا لعجيب. ولكنه طه حسين وقوته الجبارة!

ولو أنت شهدت إقليم الدقهلية وحاضرته في اليوم الثاني من شهر مارس سنة 1951 أبهرك ما ترى، ولأدهشك ما تسمع؛ فقد أخذت الأرض زخرفها وازينت وانبعث الناس جميعا كأنهم في عيد محتشدين على جوانب الطرق التي اتخذها طه حسين لمروره في بلادهم من جنوب الإقليم إلى شماله، لم تدفعهم رجة ولا ساقتهم قوة - كما جرت العادة في مثل هذه الزيارة - ولكن دفعتهم الرغبة المشبوبة بين جوانحهم ليرحبوا به أجمل الترحيب، وليؤدوا ما يجب له من مظاهر التكريم، وليسعدوا برؤية موكب وزيرهم الذي ملأ البلاد علمه، وعم الأكوان فضله، وكأن هذا اليوم هو الذي عناه الصاحب بن عباد بقوله:

قدم (الوزير) مقدما في سبقه

وكأنما الدنيا سعت في طرقه

وما ظنك بما تكن القلوب المخلصة وتظهر الجوارح الصادقة لرجل لا ينفك بعمل للعلم، ويسعى في نشر العلم، ولا يفتأ برجل في سبيل العلم حتى صدق فيه قول المتنبي:

كل يوم لك ارتحال جديد

ومسير للمجد فيه مقام

وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسام

وإن هذا اليوم المبارك الذي ازدهت الدقهلية به، ولم تشهد مثله على مد التاريخ كله، له ما بعده، وما بعده إلا العلم ينبعث ضوءه الباهر لينير هذا الإقليم، ثم يرسل أشعته إلى من حوله ومن يؤمه من سائر الأقاليم

وإن التاريخ ليسجل هذا اليوم على صفحاته ويجعله من الأيام التي تفاخر الأجيال بمثله، وتتحدث القرون بفضله

فهنيئا لإقليم الدقهلية بما فر من مجد وبما نال من فخر، وأهلا ومرحبا بالزائر الكريم في الحل والترحال، وحقق الله على يديه كل ما نصبو إليه من آمال

المنصورة

محمود أبو ريه

ص: 47

بين شيبوب ومطران

يبدو أن ما كتبته في (الرسالة) عن تفضيل شعر خليل مطران، قد أثار مرارة في بعض النفوس مظهرها هذه الرسائل الصاخبة التي ألقى إلى بها البريد، وهذه الرسائل الشفوية العاتبة صبتها في أذني المسرة صبا

وأحب أن ألقي هؤلاء العاتبين الصاخبين بقول أكثم بن صيفي (إن قول الحق لم يع لي صديقا) ليفهموا أني رجل أحمل رأسي على كفي، وليفهموا أيضا أن المجاملات الفارغة هي التي أضاعت تراثنا الأدبي، فنبه الخامل وخمل النبيه، وانحط الرفيع، وارتفع الوضيع

وكذلك شاء القدر الساخر أن يجعل الناشرون والمسيطرون على دور الصحف من خليل مطران (ثالثا) لشوقي وحافظ، وهو لم يلحق بغبارهما، بل إنهم لم يكونوا ينشرون قصائد شوقي وحافظ في صحفهم إلا من خلال نشرهم لقصائد مطران! وكذلك خمل ذكر أحمد محرم ومحمود الكاشف وهما من القدر والمكانة عند أهل الأدب الصحيح في المنزلة العليا والمكان الرفيع!

وبعد، فإننا رجعنا إلى مقال (الرسالة) في خليل شيبوب فلم نعثر على أننا أتينا أمرا؛ وكل ما سجلناه هو الحقيقة الواضحة التي ى تخفي على ذي عينين، وإن كانت تخفي على ذوي الوجهين وذوي اللسانين! فأن كان أحد من العاتبين الصاخبين يرى غير هذا الرأي، فدونه فليعاود قراءة المقال، ثم ليقرع الحجة بالحجة إن استطاع إلى ذلك سبيلا. وما هو بمستطيع إن شاء الله

أما الصحب والخلصاء الذين حسبوا أني قصدت إليهم بتجريح أو نكاية، فحسبي أن يعرفوا أني أدين بدين الصراحة. وإن وقع في أذهانهم أن اتجاها بعينه هو الذي حملني على أن أقول ما قلت، فما أراهم عرفوني ولا أدركوا شيئا مما رضنا به النفس في متاهات الحياة!

منصور جاب الله

رسائل بين مصر وملوك المغرب

كتب ملك مصر السلطان صلاح الدين الأيوبي إلى المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن سنة 585 هجرية أحد ملوك المغرب يستحثه على الجهاد.

ص: 48

(فتح الله بحضرة سيدنا أمير المؤمنين وسيد العالمين وقسيم الدنيا والدين، أبواب الميامين وأسباب المحاسن، فقد كان من أوائل عزمنا، وفواتح رأينا، منذ ورودنا الديار المصرية مفاتحة دولة سيدنا، وأن نتيمن بمكاتبتها، ونتزين بمخاطبتها. . لكي نمسك طرفا من حبل الجهاد يكون بيد حضرة سيدنا العالية طرفه، فنتجاذب أعداء الله من الجانبين، لا سيما بعد أن نبنا عنه نيابتين، الأولى في تطهير الأرض العربية واليمنية، والثانية في تطهير بيت المقدس، ممن كان يعارض برجسه تقديسه، ويزعج ببناء ضلاله تأسيسه، وما كان إلا جنة إسلام فخرج منها المسلون خروج أبيهم آدم من الجنة. فوفقنا الله وما كانت لنا بذلك قوة بل لله القوة، ولا لنا على الخلق منة بل لله المنة)

وتحدث عن معركة ثغر عكا مع الإفرنج فقال: (ونزلنا عليهم وعليه فضرب معنا مصاف قللت فيه فرسانه وجندلت شجعانه). .

وذكر عودة الإفرنج في منسلخ الشتاء ومستهل الصيف، بقوله (فلا يؤمن على نفوذ المسلمين أن يتطرف العدو إليهم وإليها ويفرغ لهم ويتسلط عليها)

(وإذا قسمت القوة أضر بالإسلام انقسامها، وثلمه والعياذ بالله انثلامها)

وطلب إليه أن يبعث بأسطول المغرب ليحاصر صقلية ويصف سفيره بقوله: (أوفدنا إلى باب حضرة سيدنا وهو الداعي المسمع والمبلغ المقنع، علمناه أمرا يسرا، وبوأناه الصدر فكان وجها، وأودعناه الأسر فكان صدرا

ويقول صاحب صبح الأعشى إن رسول صلاح الدين كان اسمه ابن منقذ ولا بد أنه وضع كتابا عن رحلته. فدليل نقله عنه أنه زار بستانا بجوار فاس يقال له البحيرة علم أن إيراده بلغ كل سنة خمسة وأربعين ألف دينار، وبه بركة ماء مربعة قاس كل ضلع منها فإذا به مائتان وستة عشر ذراعا وبها ما هو أكبر من ذلك

أحمد رمزي

تصويت لغوي

قرأت في العدد 917 من مجلة الرسالة الزاهرة كلمة عن طول العمر وقصره في البريد الأدبي للدكتور حامد الغوابي وجاء في ثنايا كلمته (أرأيت إلى من يدهسه ترام) ولم يسمع

ص: 49

عند العرب استعمال دهس بهذا المعنى فالصواب أن يقال (داسه) مستعاراً من الدوس بالأقدام ولعل دهسه محرف من دعسه أي وطئه شديدا

بغداد

عبد الخالق عبد الرحمن

ص: 50

‌القصص

مقهى سوراط

قصة عن ليوتو لستوي

للأستاذ رمزي مزييغت

كان في مدينة سوراط في الهند مقهى يؤمه خليط من مختلف الأجناس والأديان، وفي ذات يوم وفد إلى المقهى رجل مهيب الطلعة وفي صحبته عبد أسود يقوم على خدمته، وكان هذا الرجل عالما روحانيا من بلاد فارس قضى جل عمره في قراءة كتب اللاهوت ودراستها والبحث عن ذات الله وسر وجوده. وكانت نتيجة بحثه أن اختلطت عليه الأمور وأنكر وجود إله يدير هذا الكون على الإطلاق. ولما علم الشاه بأمره نفاه من البلاد، فراح يرتحل من بلد إلى بلد حتى انتهى به المطاف إلى هذا المقهى في مدينة سوراط

طلب العالم لنفسه كوبا من شراب الأفيون بينما جلس العبد على حجر خارج الباب يذب عن أنفه الذباب ولما استقر الأفيون في جوف العلم وسري في عروقه مفعوله، التفت إلى عبده وسأله:

- قل لي أيها العبد التعس، هل تؤمن بوجود الله؟ فقال العبد - نعم أومن. ثم مد يده إلى حزامه وأخرج من تحته تمثالا صغيراً من الخشب - وقال هذا هو الإله الذي حرسني منذ ولدت. ونحن جميعاً في بلادنا نعبد الشجرة التي نصنع منها هذا الإله. وكان في المقهى خليط من مختلف الأجناس والأديان فأدهشهم سؤال العلم وجواب العبد، ثم انبرى لهما رجل من أتباع براهما وقال مخاطبا العبد - يالك من تعس أحمق. . كيف تعتقد أن رجلا مثلك يمكنه أن يحمل الله تحت حزامه؟ ليس هناك إلا إله واحد هو براهما خالق هذا الكون. إن براهما هو الإله الأعظم الذي من أجله أقيمت الكهنة الورعون. ولقد مضى على ظهور براهما عشرون ألف سنة جرت خلالها ثورات وثورات ومع ذلك فان شيئا لم يستطع أن يعصف بأولئك الكهنة لأن براهما - الإله الواحد الحق - كان يحميهم طوال هذه السنين

وما انتهى البرهمي من حديثه حتى رد عليه صيرفي يهودي قائلا - ما هذا الذي تقوله؟ إن معبد الإله الحق ليس في الهند وليس الإله الحق بإله الهنود. وإنما إله إبراهيم وإسحاق

ص: 51

ويعقوب. . . وهو لا يحمي إلا بني إسرائيل شعبه المختار. . وإذا كنت ترانا اليوم مشردين في أنحاء الأرض فما ذلك إلا لتجربتنا وامتحان إيماننا. . ولقد وعدنا الله أن يجمع شملنا في القدس مرة أخرى، ومنها سوف نبسط سلطاننا على العالم بأسره. قال اليهودي هذا وانفجر باكيا يريد الاسترسال في حديثه فقاطعه مبشر إيطالي كان حاضراً - إن ما تقوله غير صحيح. . وأنت إنما تنسب الظلم إلى الله بدعواك هذه. فالله لا يفضل شعبا على شعب وإنما يدعو الذين يبتغون الخلاص أن ينتموا إلى كنيسة روما الكاثوليكية إذ أنه لا خلاص لمن لا ينتمي إليها. وكان من جملة القوم قسيس بروتستانتي فساءه قول المبشر وقال له بصوت مرتجف - إن ما تقوله خطأ محض، فليس الخلاص مقصورا على اتباع كنيستكم، بل هو من نصيب كل من يخدم الله حسب تعاليم الإنجيل. هكذا قال السيد المسيح

وكان من بين الحاضرين تركي من موظفي الجمرك فنظر إلى هذين المسيحيين شزرا وقال بترفع - إن إيمانكم بالديانة المسيحية أصبح باطلاً منذ أن حل محلها الدين الإسلامي الحنيف. إن هذا الدين هو دين الله الحق وليس أدل على صحته من تلك السرعة الهائلة التي انتشر بها في ربوع أفريقيا وأوربا وحتى في بلاد الصين المستنيرة إنه لا خلاص إلا لأتباع محمد آخر المرسلين

وأثار قول هذا التركي ضجة بين الحاضرين فاشتبكوا في جدال حامي الوطيس. ولم يبق أحد لم يشترك في الجدال غلا رجل واحد صيني من تلاميذ كونفوشيوس كان قابعا في ركن من أركان المقهى يشرب الشاي ويصغي إلى ما يقوله المتخاصمون. ووقعت عينا التركي عليه صدفة فاستنجد به قائلا - أراك ساكتا لا تتكلم، ولكني أعتقد أنك في قراراتك توافقني على رأي. فأنتم معشر الصينيين على الرغم من كثرة الأديان في بلادكم ترون أن الديانة الإسلامية هي أفضل الأديان وتعتنقونها عن طيب خاطر. فهلا أنجدتني أبت لنا عن رأيك في الله وفي رسوله؟ فهتف الجميع قائلين - نعم، نعم، أسمعنا عن رأيك في الموضوع. . فأغمض تلميذ كونفوشيوس عينيه وفكر قليلا ثم فتحهما وطوى يديه على صدره وقال بصوت هادئ رزين:

(يبدو لي أيها السادة أن التعصب أو العصبية وحدها هي التي تحول دون اتفاق الناس في أمور الدين. سأروي لكم قصة توضح ما أعنيه)

ص: 52

لقد قدمت هذه البلاد على ظهر باخرة إنكليزية ومررنا بطريقنا على مختلف البلدان. ولما وصلنا إلى جزيرة سومطرة نفذ منا الماء فنزلنا إلى الشاطئ لنتزود بحاجتنا منه. وكان الوقت ظهراً فجلسنا تحت ظل أشجار جوز الهند على مقربة من إحدى القرى. وكنا خليطا من مختلف الأجناس. . ولم نلبث قليلا حتى اقترب منا رجل أعمى علمناه فيما بعد أنه فقد بصره لكثرة ما كان ينظر إلى الشمس لمعرفة كنهها وكيفية انبثاق النور منها. فكانت نتيجة بحثه فقدان بصره وعقله في آن واحد. وجلس الأعمى إلى جوارنا وأخذ يحدث نفسه بصوت مرتفع - أن نور الشمس لا يمكن أن يكون سائلا وإلا كان من الممكن صبه من وعاء إلى آخر. وهو لا يمكن أن يكون نارا وإلا أطفئه الماء. ولا يمكن أن يكون الضوء روحاً لأنه يرى بالعين. كذلك فهو ليس مادة لأن مادة يمكن تحريكها. وما دام ضوء الشمس ليس سائلا ولا نارا ولا روحا ولا مادة أذن (لا شيء). وكان في رفقة الأعمى خادم، وكان منصرفا عن حديث سيده إلى عمل المصباح من جوزة الهند، ففتل فتيلا من قشرتها وعصر الزيت من اللب وصبه في القشرة وأدلى الفتيل فيها. وألتفت أليه الأعمى بعد قليل وقال - قل لي أيها العبد، ألم أكن محقا حين قلت لك أنه لا وجود للشمس؟ إلا ترى هذا الظلام يلف العالم بردائه؟ ومع ذلك فأن الناس يزعمون أن الشمس موجودة. . فإذا كانت موجودة فعلا فما هي وما كنهها؟ فرد عليه الخادم بقوله - أنا لا أعرف ما هي الشمس ولا يهمني أن أعرف، فليس هذا من شأني. ولكنني اعرف ما هو النور وها أنا قد صنعت مصباحا أستطيع على ضوئه أن أقضي لك حاجاتك عندما يحل الظلام. قال هذا ثم رفع المصباح بيده وقال - هذه هي شمسي. وكان إلى جوارنا رجل أعرج فلما سمع ما دار بين الأعمى وخادمه أنفجر ضاحكا وقال مخاطبا الضرير: يبدو لي أنك ولدت أعمى وإلا عرفت ما هي الشمس. أن الشمس يا صاحبي كرة من النار ترتفع كل صباح من البحر ثم تعود فتتوارى بين جبال جزيرتنا كل مساء. أن كل سكان الجزيرة يعرفون ذلك ولو كنت مبصرا لأمكنك التحقق بنفسك من صدق الخبر

وما انتهى الأعرج من كلامه حتى انبرى صياد سمك قائلا - يظهر لي أنك لم تغادر جزيرتك هذه قط. فلو أنك لم تكن أعرج وطفت البحار مثلي في قارب للصيد لعرفت أن الشمس لا تغرب بين جبال جزيرتنا أبدا، ولأدركت أنها كما تشرق من البحر كل صباح

ص: 53

فهي تغرب فيه كل مساء. ولك أن تصدق ما أقول لأني أرى ذلك بعيني كل يوم

وكان بيننا هندي من عبدة الشمس فقاطعه قائلا - يدهشني أن أسمع شخصا عاقلا مثلك يهذي بهذا الكلام. كيف يجوز أن تغطس كرة من النار في الماء دون أن تنطفئ. أن الشمس ليست كرة من النار قطعا وإنما هي الإله المعروف باسم (ديفا) الذي يركب عربته ويدور بها باستمرار حول جبل فيدو الذهبي ويحدث في بعض الأحيان أن تهجم عليه الحيتان اللعينتان (راجو) و (كيتو) وتبتلعانه فيسود الأرض الظلام. فينصرف الكهنة إلى الصلاة لخلاص الإله يلبث أن تقذفه الحيتان ويبدد ضوء الظلام من جديد. أن الأغبياء الجهلة من أمثالك الذين لم يبرحوا جزيرتهم قط، هم الذين يعتقون أن الشمس لا تضيء إلا بلادهم وحدها فقط. وهنا انبرى للهندي ربان سفينة مصري كان معنا وقال له أنك مخطئ أيضا. إن الشمس ليست إلها ولا هي تدور حول الهند وجبلها الذهبي فقط. لقد طفت أنا في مختلف البحار ومررت بجميع البلاد وكنت أرى الشمس في كل مكان. فهي لا تدور حول جبل معين ولكنها تشرق من أقصى الشرق وراء جزر اليابان وتغرب من أقصى الغرب وراء الجزر البريطانية. وكان المصري يرغب في مواصلة حديثه لولا أن قاطعه بحار إنجليزي من سفينتنا بقوله - ما من بلد تعرف عن الشمس وحركتها اليومية أكثر من بلاد الإنجليز. فنحن معشر الإنجليز نعرف أن الشمس لا تشرق من أي مكان وإنما هي تدور حول الأرض باستمرار. وكل من معي في هذه السفينة يمكنه أن يؤكد لكم هذه الحقيقة. فلقد طفنا بجميع أطراف العالم ومع ذلك لم نصطدم يوما بالشمس في أي مكان. بل كنا أنى اتجهنا نجدها تشرق في الصباح وتغرب في المساء كما هو شأنها هنا في هذه الجزيرة. قال البحار هذا وألتقط عصا وأخذ يرسم على الرمل أشكالا يشرح بها حركة الشمس في قبة السماء ولكنه لم يستطع أن يوفي الشرح حقه فألتفت إلى ربان السفينة الإنجليزي وقال - إن هذا السيد يعرف عن الشمس أكثر مني وهو يشرح لكم أمرها. وكان الربان طيلة الوقت ساكناً يصغي إلى ما يقال فلما طلب إليه البحار أن يتكلم واتجهت إليه الأنظار تنحنح وقال - الواقع أنكم تضللون بعضكم بعض وجميعكم مخطئون. إن الشمس لا تدور حول الأرض وإنما الأرض هي التي تدور حول الشمس وهي تدور في الوقت نفسه حول نفسها مرة كل يوم وبذلك يتعرض كل بلد على سطحها لضوء الشمس على التعاقب. فمخطئ من يقول أن

ص: 54

الشمس لا تضيء إلا جبلا واحدا أو جزيرة واحدة أو بحرا واحدا. فهي في الواقع تضيء كل الكواكب ومن جملتها الأرض التي نعيش عليها. ولو أنكم نظرتم إلى السماء متأملين لاتضحت لكم حقيقة الأمر ولما عدتم إلى القول بأن الشمس تضيء لكم وحدكم أو لبلدكم دون غيرها. . وتوقف تلميذ كونفوشيوس قليلا عن الكلام ثم استطرد - وكذلك أيها السادة في أمور الدين، فإن الكبرياء أو التعصب وحده هو سبب هذه الخلافات بين الناس، والذي ينطبق على الشمس ينطبق على الله. . فكل واحد يريد إلها خاصا به أو إلها خاصا ببلده على الأقل. . وكل أمة تريد أن تحصر في معابدها الخاصة ذلك إلاله الذي لا يتسع له الكون بأسره. . هل هناك من معبد يضاهي ذلك المعبد الذي صنعه الله ليجعل الناس فيه على دين واحد لا غير. .؟ إن جميع معابد البشر قد بنيت على نمط معبد الله الأكبر، ولكل منها حوض وقبة ومصابيح وصور وتماثيل ومخطوطات وأنظمة ومذابح وكهنة. . ولكن أي حوض من هذه الأحواض يضاهي حوض الأوقيانوس؟ وأي قبة تضاهي قبة السماء، وأين هذه المصابيح من الشمس والقمر والكواكب. . وأين تلك التماثيل الجامدة من بني البشر الأحياء الذين تربط بينهم المحبة والتعاون. وأين قوانين البشر من قوانين الله، وأية تضحية أعظم من تضحية بني البشر المحبين بعضهم لبعض، وأي مذبح أعظم من قلب الرجل الطيب المؤمن؟ أن المرء كلما تعمق في فهم الله أزداد به علما، وكلما أزداد علما به أزداد منه قربا وبات مثله حنونا طيبا ومحبا لأخيه الإنسان. . فليكف إذن من يرى ضوء الشمس يغمر الكون بأسره عن لوم ذلك الأحمق الذي قعد به خموله عن أن يرى سوى شعاع واحد من ذلك الضوء الباهر. وليكف أيضا عن احتقار الكافر الذي فقد بصره ولم يعد يرى الشمس المنيرة.

بهذا خاطب الصيني تلميذ كونفوشيوس - رواد المقهى - فسكت الجميع وأفحموا، وكف كل منهم عن الادعاء بأن دينه أفضل الأديان.

رمزي مزيغيت

ص: 55