المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 924 - بتاريخ: 19 - 03 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٢٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 924

- بتاريخ: 19 - 03 - 1951

ص: -1

‌6 - الدين والسلوك الإنساني

للأستاذ عمر حليق

الطقوس الدينية

اقتدى كاتب هذه السطور في هذا الجزء من دراسته بالبروفسور واخ وتصنيفه الاختبار الديني في ثلاثة هي العقائد والطقوس الدينية والنتائج الاجتماعية لكل منهما.

ولقد عالجنا فيما سبق علاقة الاختبار الديني بالعقيدة فلنحاول أن نتعرف الآن مكانة الطقوس والعبادات الدينية في هذا الاختبار.

ولنا أن نبدأ فنسجل أن هناك تواكلا وتكاليف بين العقيدة والطقوس المعبرة عنها. فالعقيدة والإيمان الصادق بها يوحي بها إلى الفرد والجماعة ألواناً من التعبير هي ما اصطلح الناس على تسميتها بالطقوس والعبادة، فالأولى يمكن أن تحسب (ولو على سبيل الدلالة) في عداد النظريات والنشاط الفكري والروحي، والثانية تعد من قبيل النشاط العملي (الجسماني).

ففي رأي البروفسور (واليس) أن الطقوس الدينية والعبادات ليست مجرد تقليد جاء بطريق الصدفة، وإنما هو تعبير أصيل للعقيدة الدينية التي تتوخى أن تنفذ إلى كل ما في الكيان الانساني؛ فلا تقتصر على الاتصال والتأثير بالمشاعر الروحية الحاسة وإنما تتعمد الوصول إلى الناحية المادية (الفيزيولوجية) في ذلك الكيان.

وقد اصطلح علماء الانتروبولوجيا على تصنيف العبادات الدينية أربعة أصناف هي: -

(1)

الحفلات والطقوس الدينية

(2)

الرموز

(3)

المقدسات (الملموسة والمحسوسة)

(4)

الضحايا (بمعناها الديني)

وللطقوس الدينية مكانة أصيلة في السلوك الديني. ولعل الخطأ الجوهري في حملة الطبيعيين والماديين على الدين مرجعه خلطهم الناحية المنطقية (النشاط الفكري) في الدين بالنشاط العملي (الجسماني) الذي يعبر عنها كالصلاة وضحايا الأعياد والحفلات الدينية وما إلى ذلك من ألوان ذلك النشاط.

ومما لا ريب فيه أن الطقوس الدينية على غرابة بعض ألوانها وشذوذه هي جزء جوهري

ص: 1

من الحياة الدينية ومتممة للناحية المنطقية والفكرية في السلوك الديني.

وقد حلل روبرت سميث هذه الصلة بين الطقوس والعقيدة الدينية تحليلا في كتابه الشهير عن ديانات الساميين وسنده في ذلك بعض المحدثين من علماء الانثروبولجيا منهم (لووي) و (مانيلوفسكي).

فقد وجد روبرت سميت أن في اليهودية والكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية (الكنيسة البزنطية) ثروة من الطقوس والرمزيات، بينما خلت الديانة الإسلامية منها. اللهم إلا في ضحايا عيد الأضحى وبعض ما دخل على الإسلام من طقوس كتلك التي يمارسها في بعض المواسم الخاصة أتباع الطرق الصوفية. ومما لا ريب فيه أن هذه الطقوس لم تكن في صلب الإسلام وإنما وجدت سبيلها إلى بعض أتباعه عن طريق الديانات الآرية (الفارسية) والهندية. والطقوس في الديانات الآرية كالبوذية والبرهمانية والزرادشتية تؤلف عنصرا رئيسيا بارزاً في الحياة الدينية للجماعات التي تدين بها.

وخلاصة القول في تمازج العقيدة الدينية بالطقوس المعبرة عنها وتكافلها تضامنها في توجيه السلوك الديني - خلاصة القول أن الطقوس تختلف باختلاف العقيدة والمكان والزمان. وقد تكون هذه الطقوس في حياة جماعة الناس منسقة لها طابع تقليدي خاص يعبر عن روح الجماعة. وقد تكون فردية يصوغها المؤمن في قالب شخصي فتكون معبرة عن انفعالاته الخاصة.

وفي تاريخ الديانات صراع مزمن مستمر بين الطقوس التقليدية التي تعبر تعبيراً جماعيا (نسبة إلى الجماعة) وتلك التي لها طابع فردي ومن هذا الصراع نشأ الإلحاد والمدارس المتطاحنة التي عالجت مسألة الدين عقيدة وسلوكا. وهذا الصراع كان على نوعين:

إلحادي ينفر من الدين وينفر الناس منه. ونوع آخر إصلاحي أهدافه الخروج على التقاليد والسعي لصياغتها في قوالب تختلف باختلاف اجتهاد المصلحين في تفهم وظيفة الدين.

ومهما يكن من الأمر في هذا الصراع، فالذي يعنينا منه في هذه المرحلة من بحثنا هذا هو أن نقرر ما سبق أن قرره (ديركهايم) الذي لم يكن همه أن يتعرف على طبيعة هذه الطقوس الدينية بقدر ما كان يرجوه من إدراك لفحوى القيم الروحية والمعاني والمثل الأخلاقية التي تمثلها وترمز إليها وتعبر عنها.

ص: 2

وعلى ضوء علم النفس الاجتماعي فإن للطقوس الدينية كذلك ناحية إيجابية أخرى. فقد كتب أحد فلاسفة الكنيسة الكاثوليكية في معرض دفاعه عن التقاليد التي احتفظت بها الكنيسة الكاثوليكية منذ نشوئها وانتقاد البروتستانتية الحديثة لهذه التقاليد فقال:

(إن المسيحي بمفرده ليس مسيحيا فقط، وهو يعني بذلك أن اقتصار الاختبار الديني على الفرد دون الجماعة لا يفي بالنتائج الاجتماعية التي ينطوي عليها الاختبار الديني والتي هي من الوظائف الأساسية للدين).

فصلاة الجماعة فضلا عن وظيفتها الاجتماعية من حيث أنها تجمع المؤمنين على الفضيلة في صعيد واحد فإن لها وظيفة نفسانية (سيكولوجية) كبيرة النفع.

فإن التعبير المشترك بين الجماعة عن المشاعر الروحية إثبات لحقيقة هذا الشعور. فالمرء إذا خلا لنفسه يحاسبها ويستعرض أمامها مشاكله الروحية والاجتماعية فقد يميل إلى القنوط ويبالغ في عجزه أو مقدرته على مواجهة هذه المشاكل. والمرء مهما ارتقت مداركه واحساساته واطلاعه على نواحي الخير والشر في السلوك الإنساني عاجز عن التعرف على حقيقة مكانه في الكون؛ فمشاكل الكون النفسانية والمادية والاجتماعية معقدة وعرة المسالك. فإذا تسنى للمرء أن يندمج في جماعة من الناس تشعر بما يشعر وتبحث عما يبحث من الطمأنينة والرضى فهو لا شك مرتاح ومستكين. والحياة اليومية أقسى من أن توفر للفرد جوا يستطيع أن يخلد فيه إلى الطمأنينة والرضى. والمساجد وبيوت الله والهدوء والسكينة التي تحيط بها توفر له ولإخوانه المؤمنين ذلك الجو المنشود يستوحي القدرة منه على التأمل ويستمد الشجاعة الأدبية ويحاسب نفسه على الصالح والطالح. فصوت الله جل جلاله يستدعي الخشوع والانطلاق من قيود النفس والمادة.

فإذا استطاع المريض أن يتلمس في خجل واستحياء نوعا من الطمأنينة في عيادة الطبيب النفساني يستلهمه علاج النفس من آلامها فإن بيوت الله أرحب صدرا وأكثر مهابة. ففي كل فقرة من آيات الذكر عظة وفي كل آية حكمة وبلاغة يتراجع أمامها خجلا واستحياء علم الطبيب النفساني. وبعد فإن علم النفس لا يعالج إلا النفس القلقة المضطربة التي تعتقد أن العقيدة الراسخة فيها أصبحت فريدة العقد النفسانية والأزمات الروحية.

والمرء حين يجد في بيوت الله من يشاركه هذا الالتماس ويرجو مثل الطمأنينة التي

ص: 3

يرجوها يزداد ثقة وينطلق في محاسبة النفس والتماس العلاج.

والبروتستانتية المعاصرة مثلا تفخر بأنها تجاري التطور في الحرية الفردية، وأن هذه الحرية يجب أن تشمل الدين كما شملت السياسة والاقتصاد ولذلك أطلقت العنان للمؤمنين فانتهجت كل جماعة وسيلة جديدة من وسائل الاختبار الديني.

وإذا جاز للمطلعين على حاضر البروتستانتية أن يكبروا مساهمتها في إطلاق قيود الفكر المسيحي من جمود القرون الوسطى فإن لنا أن نسجل هنا أن هذه المساهمة قد أولت في كثر من الحالات قلقاً فكريا وروحا عاطفيا انتهج في الآونة الأخيرة نهجين: - نهجا وجد في القانون المدني وآدابه ومثله العليا استعاضة عن الدين فلم يشف غليله، وإنما أشكل عليه الأمر كما تشهد بذلك المشاكل النفسانية العميقة التي تعيش في الشعوب البروتستانتية. والنهج الثاني عكوف عن هذا الانطلاق المتطرف وتحديده بقيود أسسها إحياء الاختبار الديني على أساس السلوك الجماعي لا الفردي.

فالكنائس البروتستانتية في أمريكا وبريطانيا - وقد تأثرت بالحرية الفردية إلى أقصى حد - أخذت في الآونة الأخيرة تعلن عن بضاعتها في شتى أنواع الإغراء. فهي تنظم الحفلات الاجتماعية في المواسم الدينية وأيام الآحاد وتستهوي الناس للمشاركة فيها بتنويع البضاعة. وهي بضاعة في جوهرها روحية فاضلة ولكنها مشوبة ببعض ما يتنافى ومهابة الدين.

ولقد فطن الإنسان لهذه الناحية النفسانية في صلاة الجماعة، ومع أنه أبقى على الحرية الفردية في العبادات إبقاء شاملا إلا انه شرع صلاة الجمعة والأعياد وصاغها في قالب بسيط خلا من المؤثرات وأبقى على المهابة والجلال التي تليق بالدين ومعاقله؛ وما ذلك إلا لأن الإسلام - وهو عقيدة إلهية راسخة - يعتمد على الإقناع أكثر من اعتماده على الترغيب والاستمالة. والمرء إذا اقتنع كبرت لديه الغاية وهانت الوسيلة.

ومهما يكن من الأمر فإن العبادات (كما قال ماكموري) ليست مجرد وسيلة من وسائل الاختبار الديني فحسب بل هي فوق ذلك دافع من أهم الدوافع لاستمراره. فهي إذن بالرغم من تحامل بعض الدنيويين على غرابة طقوسها جزء جوهري من وظيفة الدين.

وعالج السيد محمد رشيد رضا في كتابه (الوحي المحمدي) عبادة الفرد والجماعة في فصل من ذلك الكتاب تحت عنوان (التقوى الخاصة والعامة) وعاقبتهما فقال: -

ص: 4

(أن النور في العلم الذي لا يصل إليه طالب إلا بالتقوى هو الحكمة. فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم (65 بـ 2 ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا. ومن يتق الله يكفر عنه سيآته ويعظم له أجرا)

ومعنى التقوى العام عند السيد رضا هو (اتقاء كل ما يضر الإنسان وفي نفسه وفي جنسه الإنساني القريب والبعيد وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة والكمال الممكن) ولذلك قال العلماء إنها عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصي وفعل ما يستطاع من الطاعات. وزدنا على ذلك اتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن الله تعالى في الكون. . . ومن ثم كانت ثمرة التقوى العامة الكاملة هنا حصول ملكة الفرقان التي يفرق صاحبها بنوره بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكم وعمل، فيفصل فيها بين ما يجب قوله وما يجب رفضه وبين ما ينبغي فعله وما يجب تركه).

أما سنة القرآن في الإرشاد إلى العبادات فهي عند السيد رشيد

رضا (بيان أصولها ومجامعها وتكرار التذكير بها بالإجمال.

وأكثر ما يحث عليه من العبادات الصلاة التي هي العبادة

الروحية العليا والاجتماعية المثلى. فقد كرر القرآن الأمر بها

في آيات كثيرة (29 بـ 45) اتل ما أوحي إليك من الكتاب

وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر

الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون). وقوله (70، 19 إن الإنسان

خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا،

إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في

أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.) (صفحة 165167 من

كتاب الوحي المحمدي)

ص: 5

وسواء أقام المنكرون للدين أو المصلحون له يجادلونه في نواحيه الفكرية الرمزية أو في نواحيه العملية من طقوس وعبادات وما إليها، فإن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن للدين وظيفة أساسية في السلوك الإنساني (فرديا كان أم جماعيا) لم يبطلها تطور الفكر والاكتشافات العلمية قديمها وحديثها. وكل ما فعله هذا التطور أن أفسد على الدين بعض وظائفه دون أن يستطيع بناء ما هدم.

فإذا كان للدين - إذن - هذه الوظيفة الاجتماعية الهامة فلنحاول فيما بعد أن نتعرف جوهر النتائج الاجتماعية للاختبار الديني.

نيويورك

للبحث صلة

عمر حليق

ص: 6

‌الأزهر والثقافة الدينية وأثرها في الحياة المصرية

للأستاذ الشرقاوي

أقيمت في مصر منذ شهرين أو أكثر، المهرجانات لمناسبة تنشرح لها صدور المثقفين الذين يرجون أن تتعمق الثقافة المصرية كيفا، كما يراد لها أن تتسع كما، وأن تستوعب تلك هي المهرجانات التي أقيمت احتفالا بالعيد الفضي لجامعة فؤاد الأول.

وقد نالت هذه المناسبة من الاهتمام - وذلك أمر طبيعي - إلى حد أن شرفها جلالة الملك بحضور بعض حفلاتها، والى حد وضعها جميعا تحت رعايته السامية، وإلى حد أن يدعي لشهودها كبار رجال الفكر والعلم من بلاد العالم المختلفة، فحضرها مندوبون عن ثلاثين من الدول بلغ عددهم مائة وخمسة وسبعين، وقد شهدوا جميعا مدى ما وصلت إليه الثقافة المدنية في مصر من تقدم ونجاح.

ومنذ أيام قريبة رأينا وسمعنا عن حفلات تقام في إحدى مديريات مصر يتبرع فيها، أو يعلن فيها بالتبرع، بأموال ضخمة ستخصص لإنشاء مدارس، وقد تنشأ منها أو يستعان بها على إنشاء جامعة جديدة، فوق ما أنشئ من جامعات في السنوات الأخيرة. وأبادر فأسجل أن هذه مناسبات وتوجيهات تنشرح لها، كما قلت، صدور المثقفين الذين لا يرجون لوطنهم إلا الخير.

ولكن هناك شيء آخر هو الذي أريد أن أجعله موضوع هذا المقال.

منذ ذلك الوقت الذي كانت تقام فيه تلك المهرجانات الحافلة لعيد الجامعة، وإلى هذه الأيام القريبة التي تلبي فيها الدعوات وتبذل الأموال الضخمة، أو يوعد ببذلها، لإنشاء مدارس وجامعة جديدة، في هذا الوقت وذاك، رأينا وسمعنا، وما نزال نرى ونسمع، عن أمور تجري في جامعة عريقة تعتز بها مصر، ويحتاج العالم الإسلامي - أو هكذا يقال - لما تقوم به، أو لما يمكن أن تقوم به، من جهود في سبيل إحياء ثقافة هذا العالم وحفظ تراثه العقلي والأدبي والروحي. بل في سبيل تنمية هذه الثقافة وتعزيزها ومدها بعوامل البقاء والتقدم.

هذه الجامعة هي الأزهر.

والناس أمام هذا الذي رأينا وسمعنا عن هذه الجامعة فريقان، فريق يرى أن من خصائص

ص: 7

رجل الدين التبتل والبعد عن رغائب الحياة وأن واجبه الأول هو الدعوة لدين الله وتعليم الناس وهدايتهم. وهذا الواجب مما لا يتخلى عنه رجل الدين الحق، مهما لقي في سبيله.

وفريق يرى أن رجل الدين إنسان يجب أن يعيش كما يعيش الناس، وأن توفر له أسباب الحياة، لا نقول الحياة الميسورة الموفورة، ولكن الحياة المعقولة المقبولة. وتوفير الأسباب لهذه الحياة سبب أو شرط لابد منه لتمكينه من أداء واجبه في الهداية والدعوة.

ولست الآن بسبيل التفنيد أو التأييد لأحد هذين الرأيين، أو كليهما، أو التوفيق والتأليف بينهما. بل أريد أن أعالج الأمر بما هو أعم وأشمل.

مهمة الأزهر، أو المفروض إنه مهمته، هي القيام بالرعاية على كل ما يتصل بالدين والعقيدة واللغة، ووسيلته إلى ذلك هي معرفة نوع معين من الثقافة هو الثقافة الإسلامية. وهذا النوع من الثقافة أو المعرفة إن لم يكن أهم الأسس التي تقوم عليها الحياة المصرية، فهو من أقوى أسسها، لأنه أحد مقوماتها الأصيلة، أو يجب أن يكون كذلك.

ومصر من أهدافها أن تمكن علاقاتها الثقافية وأن تمد نفوذها الأدبي في مجالين، الأول تلك البلاد العربية التي تربطنا بها جماعة الدول العربية أو وشائج الدين واللغة، والثاني مجال القارة الأفريقية أو مناطق خاصة فيها تحتاج لثقافة مصر ومعرفتها ونشاط أبنائها. وقد كان لرفعة رئيس الحكومة في هذا الشأن حديث أذيع منذ شهور وظل إلى عهد قريب موضع تعليقات الصحف في العالم.

هذه الأهداف الثقافية، أو ما هو أبعد مدى منها، لا يمكن أن يتحقق إلا على الأساس الأول من أسس حياتنا المشتركة مع هذه البلاد العربية وأهم مقوماتها، وهو الدين واللغة، ولا يمكن أن يأخذ سبيله إلى المجال الآخر إلا على أساس من ثقافتنا ولغتنا لكي تقوم بيننا وبين هذه البلاد علائق موثقة يمكن أن يكون لها دوام ورسوخ ونمو.

وهناك زعامة مصر على البلاد الإسلامية أو العربية. وسواء أكانت هذه الزعامة قائمة فعلا ويراد الإبقاء عليها وتعزيزها، أو هي هدف يراد الوصول إليه، فإن من أهم أسانيد هذه الزعامة ومبرراتها الحرص على خصائص ما هو (إسلامي) و (عربي) من الثقافة والفهم والفكر.

فهل يراد من الأزهر أن يكون هو سبيل الوصول إلى هذه الأهداف. .؟

ص: 8

إن كان الجواب (نعم) فيجب أن يدرك القوم، وأن يدرك الأزهر ويعمل والإدراك أول مراحل العمل للتمكن من الوصول إلى هذه الغايات، وأن تمهد السبل لهذا الوصول.

هناك احتمال آخر، هو أن ما يقصد بالدين واللغة شيء، ومواطن الدراسة للدين واللغة شيء آخر، وأن الثقافة واللغة أمران اعم من الأزهر والمعاهد الثقافية. هذا الاحتمال أو الغرض يهمس به قوم ويجهر به أقوام. وهم يقولون إن الأزهر قام بواجبه في الأزمان الماضية في حدود إمكانه وفي حدود الحاجة التي كانت قائمة في تلك الأزمان، وأن الأزهر أدى رسالته في ظروف كانت الملاءمة قائمة بينه وبين بيئته وعصره. ثم تغيرت الأزمان، وقد يكون تغير الإمكان والقدرة أو تطورهما أقل من تغير الزمن وتطوره، وقد تكون الملاءمة الآن مع العصر غير قائمة أو غير كافية.

هذا الوضع، أو التحديد للمسألة، يهمس به قوم ويجهر به أقوام. فإن كان هذا التحديد صحيحاً معتبرا عند أهل الاعتبار ومن بيدهم توجيه الحياة العامة في مصر، فإني أعتقد أن الحرص على مقومات حياتنا وثقافتنا، وعلى الأهداف الهامة التي تهدف إليها مصر لتعزيز مكانتها، الحرص على هذا وذاك، يجب أن يكون مقدما على اعتبارات الرعاية والمجاملة.

محمود الشرقاوي

ص: 9

‌من الدراسات الأدبية

ابن الخلفة

للأستاذ عبد اللطيف الشهابي

من وراء زوايا التاريخ المهملة، ومن خلال صفحات المخطوطات القديمة، ومن خلف خزانات صدور شيوخ الأدب: تلوح أنوار مشرقة، وتطل صور زاهية، وتتراءى بدوات مشرقة، فتومض وميض الذكريات في خاطر الزمن؛ حاملة نفحات شذية، فاحت في الربع الأخير من القرن الثالث عشر للهجرة.

كانت مدينة (الحلة) حينذاك كعبة الرواد ومنهل الوراد من عشاق العلم والأدب والعرفان، وكانت الينبوع الرائق السلسبيل الذي يتهافت عليه الظامئون - كل حدب وصوب - لنهل تلك الرشفات الريا، التي كانت تفيض من عقول أدبائها الفطاحل بغزارة متناهية فيها كل طرفة ومتعة.

أما اليوم وا أسفاه؛ فإن أدباءها كادوا أن يتناسوا أن لهم من تاريخهم الفكري ما يضمن لهم نهضة أدبية رائعة في حاضرهم هذا الذي عصفت به الأهواء وطوحت به النزعات؛ وقد غرب عن بالهم أن لهم سجلا حافلا بأنواع الجهاد الفكري والعلمي في تاريخ مدينتهم هذه، ذلك السجل الذي يزخر بتراث أدبي لا يستهان به: ينتظر الجلاء والحك، ينتظر أن تمتد إليه يد العناية والاعتزاز، لتسجل جميع مظاهر حياته الفكرية، لئلا يشذ وينبو عن طابعه المتوارث، وحاضر محيطه المكتسب!!

فلو تصفحنا تاريخ الأمم الغريبة، لوجدناه يعتمد كل الاعتماد على ما جاء بتراثه الشعبي القديم؛ ويضعه موضع التقدير والإجلال. فهذه إنجلترا تقدس أغنيها الشعبية القديمة لما فيها من أمانة في التعبير، وصدق في الإيحاء، وجمال في التصوير فهي المرجع الأول عند دراسة نهضتها الأدبية الحديثة؛ بل هي الأساس المتين الذي بنى عليه أدباء إنجلترا صروح مجدهم الأدبي.

فالشعر الشعبي له طابعه الخاص، وله مميزاته وأساليبه وفنونه، وهو مرآة صادقة لحياة الجيل بكامله، بل إنه الصورة الحقيقية التي نعتمد عليها في دراسة ذلك العصر، بما فيه من ألوان وأشتات، فضلا عن أن للغته العامية (ديناميك) مجرى يستقر في النفس وفي الأعماق

ص: 10

دون التواء أو مواربة. . فهي المدرسة الأولى لشحذ أذهان أبنائها، وتدرجهم إلى صفوف الكمال. . .

ويشترك الشعر الشعبي مع شعر القريض في قوة التعبير عن الخلجات والأحاسيس، كما يشاركه في الأوزان والقوافي والأغراض، وبكثرة عدد فنونه ومصطلحاته التي وضعها له أهل هذا الفن. . ومن بين مشاهير الفضلاء الذين نظموا في الشعر الشعبي: هو الأمام ابن الجوزي، وشمس الدين الكوفي، وأبو بكر ابن قزمان وغيرهم، كما نقل ذل كصاحب كتاب (ميزان الذهب) وابن خلدون في (مقدمته).

ولم يقتصر نظم الشعر الشعبي على الشعراء القدماء بل تعداه إلى مشاهر الشعراء المحدثين، كأمير الشعراء أحمد شوقي بك، وشاعر الشباب أحمد رامي - شيطان أم كلثوم! ولهما في ذلك قطع غنائية خالدة ملأت سمع الزمان رقة وعذوبة، وبذلك أضافا إلى الأدب العربي ثروة رائعة، كانت ولا تزال موضع تقدير وإعجاب من أبناء الضاد. . .

وفي هذا الفصل استعراض أمام القارئ صورة جميلة، أوشك الزمن بمروره أن يطمس معالمها ويذهب بروائها وآثارها، هذه الصورة المحببة إلى نفوس طائفة كبيرة من أدباء هذه العصر: تلك هي صورة حياة الشاعر الشعبي محمد بن إسماعيل الحلي، المعروف بابن الخلفة!

ولد الشاعر في مدينة الحلة عام 1247 هـ في محلة (الجامعين) وترعرع في مغانيها بين ظلال النخيل وشواطئ الأنهار، وشب في أحضان الطبيعة الساحرة، بين أهل العلم والأدب أمثال السيد حيدر بن السيد سليمان الحلي، والسيد صالح بن السيد مهدي المعروف بـ (الكواز)، وغيرهم مما لا يستطاع حصر عددهم. . . فظهرت شاعريته منذ نعومة أظفاره، وراح يرسل الأنغام عبر الفضاء الرحيب، مجنحات الرفيف الحلو والرنين المطرب. . . إلا أن البعض من شعره - كما سترى - تغلب عليه الألوان البيانية المتكلفة، ويشيع فيه الغلو والإغراق في الزخارف البديعية. .

كان رحمه الله ذكي القلب بارع النكتة؛ خفيف الروح، وفيا أبيا لم يتكسب بشعره، ولم يمتدح أحدا لا يستحق الإطراء والثناء، بل كان يتكسب من مهنته الخياطة التي كان يزاولها، إذ تدر عليه ما يسد رمقه وبقيه العوز والفاقة: لذا نراه قد جال جولات صادقة في

ص: 11

جميع فنون الشعر الشعبي والقريض معا، منها (الموال) و (الركباني) و (البند). .

فاستمع إليه في (مواله) الشعبي الذي يزخر بالجناس والتورية، يقول فيه:

يا فاحم الليل جعدك والبدر ويهلك

النارا إلك نورهه وبضامري ويهلك

ييزي دلالك علي وتغنجك ويهلك

يا من بفتر العيون أرميتني والحاظ

يا مانعي شمتك ومسامرك والحاظ

واللي حظه بك حظه والماحظه والحاظ

بهواك من ذا وذا يعدم عليه ويهلك

وهاك استمع إليه في (موال) آخر، يقول فيه:

لواعجي يوم طار الشوك بظهورهن

والبيض أطون حزوم الطي بظهورهن

ونيت ون الطعين الكيض بظهورهن

كالن: علامك بروض الحسن شخصك فلا؟

والغيد يمك فلا تحظى بوصله فلا؟!

كلت: آنه شبه النياق اللي سرن بالفلا

ومن الظما موتن والماي بظهورهن

وهو بهذا الموال قد ضمن البيت المشهور القائل:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول

وقد أحب شاعرنا عذراء من أهالي (القصيم) من ديار نجد واسمها (مي): وهي فتاة كاعب لم تبلغ الرابعة عشر من عمرها؛ فرقت نفسه، ودقت محبته، فأطلق لعواطفه العنان، وراح يسرف على روحه فيما يخضع له من تباريح الهوى وعذاباته، ولكن في ثياب من العفة والطهر والبراءة؛ فنظم (ركبانيته) المشهورة، قالها على لسان أهل القصيم. . فيقول فيها:

يا معتلي في كور هجنا تليعه

ريض لشبدي بالنوى لا تليعه

قبل السرى يا هيه دونك ذريعه

من مدنف في قيد الأشواق مرهون

ص: 12

واستمع إليه وهو يخاطب صديقه الذي أوفده كرسول إلى حبيبته (مي) فيقول له:

وأمض لفتاة الحي والليل داجي

عساك من صرف المجادير ناجي

عني نيابة يا فتى، لا تحاجي

قلها: ترى يا (مي) خلفت مجنون

وبعد أن يرحل ذلك الرسول ويقوم بمهمته أحسن قيام، يعود إلى الشاعر بأخبار سارة، ويوصيه بالسفر إلى لقاء معشوقته. . وهكذا يمضي على هذا المنوال فينسج رائعته الشعبية التي يصف فيها قصة غرامه، وكيف راح متلصصا (كضيف الطيف مسترصدا)، ليزور حبيبته في غفلة من عيون الوشاة وآذان الحساد، وفي حذر وخوف من أهلها ذوي البأس والبطش. . وها هو الآن يلتقي بها في سكون الليل الهادئ. فاسمعه يقول:

مديت كفي حدر طي المبرم

قالت: تهدى، قلت: أنا بك مغرم

من للوصل يا زينة العين حرم؟

والوصل مردين الهوى بيه يحيون

فتخاطبه:

خلي الترومه وانثنى اللثم ثغري

وأنشق عبير حقاق غاص بصدري

لا تكثرن ضمي فأعوام عمري

عشر وأربع ما عليها يزيدون

بكر بعد ما لوث الثوب نهدي

ولا انقطف ورد زها فوق خدي

غيرك فما حصل سوى طول صدي

ولا هلي بي بعض ريبه يظنون

وبعد أن يتزود من معبودته يودعها على مضض، فيقول:

ودعتها والدمع عاالخد سايل

والجسم من عظم النوى بات ناحل

قالت: بنا لا تقطعون إرسايل،

ناديتها: وانتوبنا لا تقطعون

وراح ابن الخلفة يبزغ نجمه رويداً رويداً، فاندفع يغشى مجالس العلم ونوادي الأدب، ويتصدر الحفلات والولائم، فذاع صيته وشاع، حتى تتلمذ له كثيرون، ساروا على منواله متلمسين خطاه. . وقد تأثر بشعر شعراء الموشحات في الأندلس والعراق، فأخذ يعب من رحيق ينابيعهم، ويقلد فنونهم في صياغة الموشحات ولكنه، وفي الأخير، برع في صياغة نوع آخر يسمى (البند) وأول من اخترع هذا النوع هم أهالي (الحويزة) وهو منوال غريب قد يخرج على أوزان الشعر، وقد يوافقها. ولا نخطئ إذا قلنا إنه قريب الشبه من النثر المسجع، أو الشعر المرسل؛ إلا أن الناظم لهذا اللون كان جل اعتماده على اللحن

ص: 13

الموسيقي، حتى ولو خرج عن الأوزان العربية المعروفة، لأن الدافع الأول - كما قلنا - كان دافع الطرب، والتأثير على السمع ليس إلا!

وشاعرنا هذا: قد بز أقرانه وغلبهم في هذا المضمار. وله في ذلك ثلاثة (بنود) معروفة، فالبند الأول يصف به حصانه. والبند الثاني يصف فيه سفرته إلى (بغداد). والبند الثالث وهو المشهور يصف فيه حبيبته وصفا دقيقا، وهو بذلك يقلد صاحب (اليتيمة) وقد وشاه بألوان رائعة من اللفظ الأنيق من جودة الصياغة، وغزارة المعاني، تلك التي نتلمسها في كل صورة من صوره. ولو أننا نلاحظ فيه بعض التكلف في الصناعة، وبعض التعقيد في اللفظ، وهذا مما دفع به أن يحشر بين سطوره طائفة من الكلمات الغريبة، البعيدة كل البعد عن اللغة العربية الفصحى. . ولكن له العذر في ذلك، لأن طابعه الشعبي يغلب عليه في بعض الأحيان، فتفلت منه هذه السقطات فأصغ إلى ما يقول في هذا البند:

أيها اللائم في الحب

دع اللوم عن الصب

فلو كنت ترى حاجبي الزج

فويق الأعين الدعج

أو الخد الشقيقي

أو الريق الرحيقي

أو القد الرشيق

الذي قد شابه الغصن انعطافا واعتدالا،

فندا يورق لي آس عذار أخضر

دب عليه عقرب الصدغ،

وعرنين حكى عقد جمان يقق

قدره القادر حقا ببنان الخود ما زاد عن العقد،

وثغر أشنب قد نظمت فيه لآل لثناياهن

في سلك دمقس أحمر

جل عن الصبغ

وجيد فضح الجؤذر مذ روعه القانص

ص: 14

فانصاع ودين الود

يزجي حذر السهم طلا عن متنه

في غاية البعد،

فلو تلمس من شوقك ذاك العضد المبرم

والساعد والمعصم

والكف الذي أنمله قد شاكلت أقلام ياقوت

فكم أصبح ذو اللب، من الحب، بها حيران مبهوت؟

لو شاهدت في لبته يا سعد مرآة الأعاجيب

عيهلا ركبا حقا عاج حشيا من وائق الطيب،

أو الكشح الذي أصبح مهضوما نحيلا

مذ غدا يحمل رضوى كفل

بات من الرص

كموار من الدعص

ومرتجى ردفين

عليها ركبا من ناصع البلور ساقين،

وكعبين أدرمين

لها صيغ من الفضة أقدام:

لما لمت محبا في ربى البيد من الوجد بها هام!

أهل تعلم أم لا؟

أن للحب لذاذات

وقد يعذر لا يعذل من فيه غراما وجوى مات

فذا مذهب أرباب الكمالات

فدع عنك من اللوم زخاريف المقالات،

فكم قد هذب الحب بليدا؟!

فغدا في مسلك الآداب والفضل رشيدا،

صه. . فما بالك أصبحت غليظ الطبع؟!

لا تعرف شوقا

ص: 15

لا ولا تظهر توقا

لا ولا شمت بلحظيك

سنى البرق اللموعي الذي أومض من جانب أطلال

خليط عنك قد بان

وقد عرس في سفح ربي البان،

ولا استنشقت من صوب حماه نفحة الشيح

ولا اهتاجك يوما للقاه من جوى وجد وتبريح،

لك العذر

على أنك لم تحظ من الخل بشم وعناق

وبضم والتصاق،

لو تكن مثلي قضيت ليال

سمح الدهر بها، إذ بات سكرى قرقف الريق، بتحقيق،

فما قهوة إبريق!!

ومشمومي ورد، لاح

من وجنة غد، فاح

لي عرف شذاه،

وإذا أسفر ليل الشعر في طرته

أوضح من غرته

صبح سناه،

لو ترانا كلنا يبدي لدى صاحبه العتب

ويخفي فرط وجد كامن أضمره القلب سحيرا؛

والتقى قمصنا ثوب عفاف قط ما دنس بالإثم

سوى اللثم:

لأصبحت من الغيرة في حيرة

حتى جئت لي من خجل تبدي اعتذارا

ص: 16

ولأعلنت بحب الشادن الأهيف سرا وجهارا!.

إلى هنا يصل ابن الخلفة في (بنده) ثم يعرج به إلى مدح الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد عليهما السلام، ولنقتطف إلى القارئ صورة واحدة في هذا المديح. . يقول فيه:

يمير الخلق بالرفد

ببذل زائد الحد

وقد جل عن الند

وقد فاق على النور شذاه

وعلى البدر سناه!.

هذه لمحة موجزة من حياة الشاعر المنسي، الذي توفي رحمه الله سنة 1297 هـ، في بداية تفشي مرض الطاعون المشهور في الحلة، ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف ليدفن هناك. .

العراق - الحلة

عبد اللطيف الشهابي

ص: 17

‌الأزهر جريح فأدركوه

إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير

للأستاذ محمود النواوي

حقا والله لقد هان على الأملس ما لاقي الدبر. ولكن. . . ولكن كان الظن أن دبر الأزهر دبر للشرق كله. وأن علته علة للإسلام على بكرة أبيه. وأنه إذا اشتكى تداعي له سائر المسلمين بالسهر والحمى، ذلك أن الأزهر صاحب الفضل الأكبر؛ والمحل الذي لا يجهل، فمن المكرر أن نقول إن العالم كله مدين في مدنيته وتثقيفه للإسلام. وإن الإسلام مدين في نشر ثقافته في أرجاء الأرض للأزهر منذ ألف سنة أو تزيد.

ومن المكرر أن نقول إن الأزهر ثبت ثبات الطود الشامخ هذه المدة يعلم ويخرج ويبث وينشر ويذيع من معارف الإسلام واللغة العربية والفلسفة الإسلامية وغير الإسلامية وشتى صنوف المعارف البشرية ما طرق أعناق الخليقة؛ لا يبالي ما يصيب العلم أحيانا من عسف واضطهاد، بل يخرج من كل عارض خروج البدر من تحت غيمه، والشمس من بين الضباب. لقد فزع العلم والعلماء أيام التتار في سائر الأقطار وروعوا حتى كان بعض الجبارين يتخذ من رؤوسهم قلاعا إلا من أوى إلى مصر كنانة الله في أرضه، وإلى الأزهر كنانة الله في مصر. لقد حفظه الله من كل يد ظالمة فلا تصل إليه، وقال يا نار كوني برداً وسلاما عليه يوم طورد العلم والأدب في الشرق أيام التتار، وفي الغرب أيام طورد العلماء والأدباء في بلاد الأندلس. ثم كانت يده الطولى التي سجل الله له يوم حكم العثمانيون مصر نفسها فحاولوا القضاء على العلم والأدب بما شغل الناس في عسفهم واستبدادهم ومحاولتهم تأخير البلاد في جميع نواحيها حتى كانوا ينقلون إلى بلادهم كل نفيس كريم وكل شخص عظيم. ولكن الأزهر يومها كان كعبة القصاد وموئل الرواد ملحوظا بعناية الله تؤمنه المخاوف، ومصنوعا على عين الله تنجيه من المتالف، حتى كان عهد الأسرة العلوية الكريمة فكان ما حفظ التاريخ للأزهر من إنه نواة الثقافة في جميع نواحيها. والذي اعتمد عليه جد هذه الأسرة العظيمة محمد علي باشا فكون البعوث وأنشأ المدارس وبث العلم والمدنية من جميع نواحيها وأنحائها. ذلك قول معاد مكرر؛ ولكنها الذكرى العطرة تثيرها مثيراتها وتجددها مجدداتها.

ص: 18

أعزز علي بأن أراك يا معقل العلم والثقافة ويا منيع المدنية طريحا مجندلا تحت احتكام الأهواء. واختلاف النزعات والآراء وأنت أسوأ حالا مما قيل فيه:

لقد هزات حتى بدا من هزالها

كلاها وحتى سامها كل مفلس

أعزز علي بأن أرى أعداء الدين وخصوم الإسلام من المستعمرين الذين ما فتئوا يحاربونك بكل وسيلة في السر والعلن لأنه لا طيب لحياتهم وأنت في مصر تبث تعاليم الإسلام وكلها حرية وإباء، وعزيمة ومضاء، وجهاد للأعداء، وقوة وفتاء، يأبى القليل منها أن يمكن لجبار في الأرض أو يفتح لمستعمر قيد فتر. فالآن إذ أرى هؤلاء يشمتون ويفرحون ويرتقبون ما كنوا يأملون بأيدينا لا بأيديهم. لقد أفلحت سياستهم بعد أن مكنوا المدنية، الخلاعة والدعارة والخنوثة وفككوا قيود الدين حتى هان فهان معه منبعه ومستقاه وهو الأزهر الكريم.

لقد جاء الوقت الذي تغلق فيه أبواب الأزهر باليوم واليومين والأسبوع والأسبوعين والشهر والشهرين فما يحس أحد ولا يحرك ساكنا

إن أخوف ما أخاف أن تكون فتنة محبوكة ومؤامرة مقصودة يراد بها هدم الدين ونقض دعائم المسلمين فتتفرق كلمتهم وتتمكن الأيدي الغاصبة منهم في جو صفاء كما ضاعت خلافة الإسلام من قبل فكانت مبدأ ضعف في الجملة. وإذن يضحي الشرق والمسلمون بأشمط عنوان السجود به، ويفقدوا حمامة السلام وعنوان الوئام، ومبلغ رسالات الله إلى جميع الأنام، ويهون الشرق والمسلمون على الله فما يبالي في أي واد أهلكهم

أخوف ما أخاف أن تكون مؤامرة مدبرة يفعلها عدو مختبئ ويسلك إليها سبله، وأولها إيقاع البأس بيننا بأيدينا. فسياسة التفريق هي السياسة التي يعتمد عليها مهرة الساسة؛ والعدو الكاشح فينا ما أوجف عليها من خيل ولا ركاب. ولما بلغ معاوية أن الأشتر النخعي مات في شربة عسل وكان من شيعة علي قال معاوية إن لله جنودا منها العسل، فسيقول خصمنا (إن دامت الحال) إن لنا جنودا منها الفشل. لقد عرف العدو كيف يحقن خصمه بالمصل المخدر الذي يسهل به ارتكاب أكبر جريمة على الله والدين والوطن فما يفيق الناس إلا وقد وقعت الجريمة ونفذ السهم وإلا فما بال هذا الأزهر الكريم الذي كان ملاذ اللائذ ومعاذ العائذ ومفزع الملهوف ونصفة المظلوم، والذي كان قوام كل مائل وقصد كل جائز. والذي كان أعز على كل نفس مؤمنة من كل عزيز عندها قد أصبح يئن ويستغيث ولا مغيث. هذا

ص: 19

الأزهر الذي كان يقضي بالحق في خصومات الدنيا ومشاكلها قد جاءت عليه قضية لا حكم فيها إلا الله (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم). أما والذي نفسي بيده لئن تكن نوايا خبثت بمنبع الدين فإن الله خير الماكرين. (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك، كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) إن قضية الأزهر معلومة مفهومة، وكل مسلم مطالب بالنظر فيها وعلى رأس الجميع ملوك الإسلام. فقد بدت ظاهره استهانة واستهتار؛ تنذر بسوء المصير وعندئذ فستغل كل عنق في الأرض ربقة إثم لا قبل له باحتمالها ولا سيما ولاة الأمور جميعا يوم يقوم الناس لرب العالمين:

فلا تحمل ذنبي وأنت ضعيفة

فحمل دمي يوم الحساب ثقيل

محمود النواوي

المفتش بالأزهر

ص: 20

‌2 - إرهاصات في الجزيرة

قبيل البعثة المحمدية

للأستاذ الطاهر أحمد مكي

ولكن. . . من أين يستعد المؤرخ للجزيرة العربية حقائق بحثه ومادة موضوعه، وما أثر عن العرب الأول متهالك مضطرب ينقض بعضه بعصا، ويهدم آخره أوله، فأنت أمام سيل متلاحق من القصص والسير، والروايات والأحاديث، إذا أعملت فكرك وعقلك في تمييزه، وجدت أكثره خرافة لا تمت إلى الواقع بسبب، وإنما هو من فعل الوضاع، ترويجا لمذهب، أو دفاعا عن فكرة، أو سنداً لعصبية، أو رغبة ملحة في إضحاك الناس، حين كانت الحياة العربية تموج بهذا اللون من الافتعال والاختلاق، والباقية منه، لا تعطي صورة واضحة محددة، أو توحي بفكرة ثابتة ميقنة، يطمئن إليها الضمير العلمي، حين يعرض لأمر، فيحكم فيه إثباتا أو نفيا. .

ومبعث ذلك كله، أن التاريخ العربي كان يعتمد - إلى ما قبيل العصر العباسي - على المشافهة والرواية، وهي عرضة للتصحيف والتحريف، والزيادة والنقص، والضياع والنسيان، عند كل أمة وفي أي شعب، فلا إجحاف إذن حين يمسك الباحث، فلا يندفع مصدقا، ولا بدع أن ظل العرب حتى الرسالة المحمدية ومطلع الإسلام، شعبا بلا تاريخ!

كان القدماء عربا يتعصبون للعرب، أو كانوا عجما يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد، لأن المتعصبين للعرب غلوا في تمجيدهم وإكبارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم، ولأن المتعصبين على العرب غلوا في تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضاً. . .

صحيح أن هذه القصص وما صيغ من أساطير، تتصل بعادات العرب وطباعهم، تلقي إشعاعا قويا على حياتهم ومعاشهم، لأن الوضاع وهم أقرب عهدا بهم، وأكثر علما بما كان عليه أسلافهم، اجتهدوا ما وسعهم الجهد، واحتالوا ما واتتهم الحيلة في أن يجعلوا هذه الصور واقعية، أو قريبة الشبه بالواقع، حتى لا ينكشف أمرها، فتضيع الفائدة المرجوة منها، ولكن الصحيح أيضاً، أن الصورة تكشف فيما تكشف عن نفسية المصور، وأن الرواية تتأثر فيما تتأثر بأخلاق الواضع، وتفاعلات المجتمع الذي عاش فيه. . .

ص: 21

ولعل أغمض فترة في التاريخ العربي، هي تلك التي تمتد من القرن الأول الميلادي حتى القرن الثامن، فليس ثمة تاريخ صحيح لها، حتى المصادر اليونانية أو اللاتينية لم تشر إليها، رغم أن هذه المصادر عرضت لأحوال الجزيرة قبيل ذلك التاريخ (ومرجع ذلك فيما يبدو هو ظهور المسيحية وانتشارها في الغرب وتسلط الأضواء عليا، وجذبها لأنظار العالم المثقف إذ ذاك، وانصرافه عما عداها. وكذلك الإسلام من ناحية أخرى، فهو كما تعلم جاء مناهضا للوثنية العربية الجاهلية، فشن حربا لا هوادة فيها على كل ما هو عربي وثني، لذلك تطوع كثيرون من كتاب العرب لتشويه العهد العربي الجاهلي، تاريخا وأدبا وعقائد، وأضحت الصورة التي لدينا، والتي قدمها لنا الإسلام والمسلمون صورة مشوهة، لا تعبر عن حقيقة بلاد العرب قبل الإسلام)! وليس أقوى على ذلك دلالة ولا أبلغ حجة، من أن القرآن وسم عصر ما قبل البعثة بالجاهلية، وبداهة كان يقصد أن القوم لم يكن لهم نبي مرسل ولا كتاب منزل، وإلا فكيف نصم بالجهل وندمغ بالجهالة مجتمعا له آداب رفيعة، وثقافة عالية، كتلك التي تركها لنا العرب القدامى، ولكن الإسلام وهو يواجه قوة قريش في عنفوانها، لم يجد بدا من إسدال السجف على ما قبله من حياة، ومطالبة معتنقيه بترك ما ورثوا في صرامة، والعزوف عما ألفوا في شدة، حتى يمهد لدعوته سبل القرار، وكان له ما أراد إلى حين

وكان الشعر ديوان العرب الخالد، يجمع مفاخرهم، ويسجل عظائمهم، ويصور حياتهم، وتنعكس على محياه خلجات نفوسهم، ونبضات قلوبهم، فنهي عنه؛ وصادر روايته، وشن حملة شديدة على الشعراء ورواتهم (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون؛ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا) ويروي الأغاني أن أمية بن الصلت كان يحرض قريشا بعد وقعة بدر يقول:

ماذا ببدر والعقن

قل من مرازبة جحاجح

فنهى الرسول (ص) عن رواية القصيدة كلها، وكان لذلك أثره فيما بعد، فلما انتصرت العصبية في العهد الأموي، وعاد الشعر يحتل مكانته من جديد، كانت يد الرقيب قد امتدت إلى ما بقي من العهود الأولى، فحذفت وبترت، وغيرت وحورت، مرضاة لله أو تقربا إلى

ص: 22

السلطان

وقد تعرض القرآن الكريم لما كان عليه العرب، هادماً وقادحاً، ذاما وناكرا، ولكنه لم يعرض لكل شيء، ولم يهدم كل شيء، وما اعترض عليه أو دعا إلى هدمه ذكره مجملا فلم يعن بالتفاصيل والجزئيات، أو الأسباب والدوافع، وإنما يفسر الشيء بسببه أو دافعه، وتكيف الحادثة بظروفها المهيأة، وما أحاط بها من ملابسات.

ومع ذلك، فلنحاول في هوادة ويسر، أن نشق طريقنا خلال هذه الحجب، لا غالين ولا متعصبين، وإنما رائدنا الصدق وغايتنا الحق، ونهجنا الإخلاص، وعلى المرء أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح!

(يتبع)

الطاهر أحمد زكي

كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول

ص: 23

‌تأديب الصحافة

للأستاذ محمد إبراهيم الخالدي

لا شك أن سمات الدهشة سترتسم عل محياك حين تقرأ عنوان هذا المقال، وستنكر أن تتهم الصحافة، وأن تساق إلى تأديب أو عقاب. ولن ترضى وأنت المتعشق للحرية في جميع ضروبها، المستشرف لعصر تتحقق فيه آمال البلاد أن ترى (صاحبة الجلالة) تهان، وتذل، وتنزع عن عرشها، لتساق إلى مجلس قضاء

وأنا معك أيها القارئ فيما تنكره، لا أرضى للصحافة ذلك المصير المحزن؛ بل أحب لها أن تبقى على عرشها، عزيزة الجانب، مرموقة المكانة، وأن يزاد قدرها علوا، لتنهض بواجبها خير نهوض. ولكنني مع ذلك أدعو إلى تأديبها - على نحو آخر لتستطيع أن تساهم في بناء الإصلاح على دعائم صحيحة، ولتكون وسيلة راقية ترتفع بالشعب وترقى به شيئا فشيئا إلى مدارج الرقي ومطامح الآمال.

والصحافة إحدى وسائل ثلاث في العصر الحديث تقدم للناس ما يضطرب في عالم الأرض من أحداث، وما يجول في عالم الذهن والقلب من أفكار ومشاعر تشاركها في ذلك الإذاعة والسينما، وتتضافر كلها على تغذية المرء بما يحتاج إليه عقله وقلبه

وسيطرة هذه الوسائل الثلاث على الناس وانتشارها بينهم دليل على أن الإنسان متطلع أبداً إلى معرفة ما يجري حوله من أمور لا يكتفي بغذاء المعدة بل يسعى وراء ذلك إلى غذاء العقل والقلب، فيطلبه في صحيفة يقرؤها، أو فلم يشاهده، أو إذاعة يستمع إليها

ولقد انتشرت الصحافة في هذا العصر انتشارا عظيما، وأصبحت في كل بيت يقرأ، ولعل من أقوى أسباب انتشارها رخص ثمنها وتقدم طباعتها وإخراجها تقدماً عظيماً. فهناك عدد من الصحف الأسبوعية والشهرية التي تصدر في البلاد العربية، تستهوي القارئ بجمال الطباعة وحسن التنسيق. كما أن عرض الموضوعات أصبح فناً من الفنون تجمع له الصور المعبرة، ويحشد له الأسلوب الطلب، ليكون التأثير في القارئ أبلغ، والوصول إلى مواطن شوقه واهتمامه أسرع. ولهذا فإنني أرى أن للصحافة أثراً كبيراً في الشعب لا يقل عن أثر الوسيلتين الأخريين؛ فهي تعبر عن آمال الشعب ورغباته، كما إنها توجهه إلى هذا الاتجاه أو ذاك

ص: 24

ولا شك أن الصحافة العربية قد خطت خطوات واسعة نحو التقدم فلم يعد عملها نقل الأخبار ورواية الأنباء وإنما تعدت ذلك إلى تثقيف الشعب، ونقد المجتمع، وعلاج الأدواء، وتوجيه الآراء؛ ومن ثم فقد أصبحت من الوسائل القوية التي نرجو لها القوة والخير، لأنها لم تعد ملكا لأصحابها وإنما صارت ملكا للشعب، فهي مسؤولة عما تخلق فيه من تيارات صالحة أو فاسدة، وعما تصور له من أهداف ومثل

ولكن صحافتنا - مع الأسف - لا تسير نحو أهداف واضحة، ولا تطبق مبدأ محدوداً، وإنما أكثر صحفنا تسعى وراء الربح المادي، فتجاري أهواء الشعب وتسعى إلى إحراز ما يرضيه لا إلى ما ينفعه، لتضمن الرواج والقبول ولهذا فإن صحافتنا محتاجة إلى تطعيم من دم الأدب، يكسبها قوة، ويجعلها أقدر على أداء مهمتها

وحين أتحدث عن الأدب، فإنما أعني ذلك النوع من الأدب الذي يستحق الخلود بسمو أفكاره، وجمال تعبيره، واتساع محيطه. ومن أبرز صفات الأدب الحي: الحرية والجمال، الحرية في أن يقول الأديب ما يشاء كما يملي عليه عقله وضميره، وأن يلقي الرأي الذي يعتقد، لا يسعى لإرضاء المجتمع ولا إلى تملقه لينال رضاه، كما لا يقصد إلى مبادئه ومثله ومعتقداته بالهدم والتحطيم. ثم التعبير عن آرائه وأفكاره بالقول الجميل، والتعبير الحي، وإخراج ذلك كله في حلة رائعة من الفن

فصحافتنا بحاجة إلى تأديب لاكتساب الروح القوية التي تشيع في الأدب الخالد، والتي تهتم بالفكرة قبل الناس، والتي ترى أن من أقوى واجباتها أن ترفع الشعب إلى مستوى راق من التفكير والتهذيب والذوق لا أن تنزل إلى غرائزه وأهوائه وإلى ما يريد وما لا يريد، هي جديرة بأن تقتبس تلك الكرامة العقلية التي يتصف بها الأدب، وبأن تتعلم من الأدب السمو بالقارئ والأخذ بيده إلى سبيل الحياة الحافلة بالكفاح، لأطرح المبادئ والمثل في سبيل تسليته وتخدير أعصابه

ولا يعني ذلك أن تهمل الصحافة الشعب ولا تلتفت إليه؛ ولكن الذي أقصد إليه أن يكون للصحافة مبدأ إصلاحي، وهدف سام تسعى إلى تحقيقه؛ ترتفع بالشغب إذا رأته يتدنى في أخلاقه وفي مثله، وتبصره بالسبل الواضحة إذا ما زاغ عنها معبرة في كل ذلك عن رغباته ومآله

ص: 25

وصحافتنا بحاجة إلى تأديب لاكتساب أسلوب الأدب في تعبيره لتدب فيها الحياة، ولتؤثر في قلوب القارئين وفي عقولهم، ولتأخذهم شيئاً فشيئاً إلى ذخائر الفكر، وروائع الفن، فتصل بينهم وبين الأدب الخالد، والثقافة الواسعة، وترتفع بهم إلى حياة واعية، ينعمون فهيا بالحرية التامة، ويبصرون فيها سبل الإصلاح

فإذا ما أدبت الصحافة على هذا الأساس: بأن رفعت كرامة العقل ونزاهة القلم فوق كل اعتبار، وبأن أشاعت الحياة في تعبيرها واتخذت طريق الأدب في أسلوبها؛ أصبحت أقوى وسيلة من وسائل التأثير في النفوس وتوجيه الإصلاح في المجتمع، وأصبحت (صاحبة الجلالة) حقا

دير الزور - سوريا

محمد إبراهيم الخالدي

ص: 26

‌أحمد يوسف نجاتي

للأستاذ حسين علي محفوظ

قرأنا في العراق - أيام الدراسة - على طائفة من أشياخ مصر، ونفر من أئمة اللغة في مغانيها، وردوا العراق، فانتهزنا فرصة مقامهم، ولبثوا فيها فاهتبلنا مكثهم، أقبلنا على الأخذ عنهم، واعتكفنا على الإفادة منهم، وتوفرنا على الدراسة عليهم، وقد كانت أيامهم حفلا، يعمرها الأنس، ويغمرها البشر، وتشوبها النعماء

لازمتهم ملازمة السقب لظئره لا يزايلها، وخالطتهم مخالطة الابن لأبيه لا يفارقه. ولا أزال أمحضهم هواي، ولا أنفك أصفيهم ودي، وقد شغفت حبا بفضلهم، وأولعت وجدا بعلمهم، وأغربت صبابة بخلقهم. وكنت إذا آن أوان الدرس أقبل عليهم ولا كالظمآن، وأهفو إليهم ولا كالعجلان. وكان ذلك يقربهم مني ويزلفني عندهم. وقد كان يجمعني معهم شعر، ويؤلف شملنا أدب، ولقد كان فراقهم يوم حزن لم استطع صبرا عليه، وكان تحملهم يوم أسى لم أملك حملا له

وما أنس لا أنس شيخهم في مصر - غير مكابر - إمام النحاة أستاذنا أحمد يوسف نجاتي، الذي أعجبت بفصاحته، وأغرمت بمنطقه، وكلفت بشمائله، وهو عيبة علم حافلة وجؤنة أدب ساطعة، تنم على فضله أصول الأدب التي هذبه، وتدل على علمه دواوين اللغة التي أوضحها، وتعبر عنه مجاميع السير التي حررها.

قرأنا عليه النحو فذكرنا سيبويه، وقرب من خواطرنا ابن هشام، وأيا ابن يعيش وأسمعنا الكسائي، ونشر المبرد. ولا نزال كلما ذكرناه حننا نزوعاً نحوه، وطربنا شوقاً إلى القرب منه، وزدنا وجداً إلى لقياه

وهو من بيت شهير ينميه إلى سيدي الناس فرع شامخ، وعرق طيبن ، حسب باذخ، ونسب وضاح. كان آباؤه من أئمة علماء الدين وأولى الأمر والوجاهة بالإسكندرية، درس في مجالس العلم بالمساجد، وتخرج في دار العلوم سنة 1906 لا يعاوره ملاءة الحضر أحد أبدا. وكان لازم الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده رضي الله عنه واقتدى بهداه؛ وهو وارث علمه الجم، وأدبه الغزير، وخلقه العظيم، وفضله الباهر، ومواهبه الجسيمة، وتواضعه الوافر. وأنا لا أعرف أحدا أحاط بفنون اللغة سواه، ولا أدري بأحد ملك نواصي

ص: 27

الأدب غيره

جاء العراق فتهللنا، وأقبل علينا ولا إقبال الحيا على الثرى المكروب فتشوقنا لدروسه تشوق الظمآن إلى الماء، واستمسكنا بمجلسه ولا استمساك الخائف بالأمن. وقد حل ساعة ورد بيت (رحمة الله الطاله باني) من أهل الجاه ببغداد واحتفوا به فأنشد مورياً:

تغربت عن مصر ببغداد طائعاً

وقد حيل ما بيني وبين هوى النفس

يقولون يشفيك الأنيس من الجوى

ومالي إلا رحمة الله من أنس

وكان أراد في غضون دراستنا عليه، وإبان أخذنا عنه، أن يجرب علمنا ويمتحن ذكاءنا، ويختبر فهمنا، وكان يعبر عن الامتحان بقرع الصفاة، فأقبل والصبح في العنفوان، وقال أريد لأقرع صفاتكم، فقلت أجيبه مورياً:

أبهذا البحر الذي جمع العل

م فأوعى ورام قرع صفاتي

أنا إن رزتني ولا غرو صلب

مكسري لم تلن لغمز قناتي

وإذا كنت أنت ثقفت عودي

فحرام ألا أبز لداتي

أنا إما أغوص في بحرك اللج

ي لا أختشي فأنت نجاتي

وكنت وقفت نفسي على مصاحبته، ونذرتها لتقييد أوابده، وعقل شوارده، وتصيد نوافره. وما أنس لا أنس فائق إعزازه إياي، وإعظامه لي، وثقته بي. وكان ينسبني إذا سئل عني إلى الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على الدليل، ويعزوني في إثبات الحكم على الحجة والتعليل

وهو (حفظه الله) - وقد ذرف على الستين - حفظة لا تخفى عليه اللغة، ولا تغرب عنه الأصول

كان يسابق الفجر، ويسارع إلى النهوض، وطالما رأيته يتوضأ والليل شامل، وكان رأس ما عظمه في عيني دين يستمسك بعروته، وإيمان يعتصم بحبله، كان يتهدج بالقرآن في الغدو، إذا وخط المشيب عارضي الليل، ويرتل الكتاب في الآصال إذا أوشك أن يتخفر النهار، وقد كان ينطق بالفضل، ويتفجر الظرف من جوانبه؛ قال:

وإني وإن دب في المشي

ب فتي الفؤاد قوي الأمل

أنزه طرفي بروض الجمال

على رغم من لام أو من عذل

ص: 28

وأصبوا إلى الحسن أنى أراه

كأني ببرد الصبا لم أزل

وأجمع بين الهوى والتقى

وقلب إذا جد حينا هزل

وما صدني عن هوى طاهر

بياض المشيب بفودي نزل

(وقد علم الناس أني امرؤ

أحب الغزال وأهوى الغزل)

وما لامرئ لذة في الحياة

إذا هو عاف الصبى واعتزل

وهو طيب النفس لا يبخل على أوليائه وخلانه بالمزح. وطرائفه لا يحصرها العد، ولطائفه لا يدركها الحصر. وكأني به يتمثل بقول الشاعر:

أفد طبعك المكدود بالهم راحة

قليلا وعلله بشيء من المزح

ولكن إذا أعطيته المزح فليكن

بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

العراق - الكاظمية

حسين علي محفوظ

ص: 29

‌رسالة الشعر

آلام شاعر!

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

ألم يكفها أني تركت لها غدي

وشيعت أمسي، ثم ضيعت حاضري؟

ألم يكفها بأسى وحزني وحيرتي

وضيعة أيامي، ولوعة خاطري؟

فجاءت تعري روضتي من غصونها

وتنثر فوق الأرض غض أزاهري!

وتملأ لي كأسي من الهم والضنى

فتفعل بي فعل السهاد بساهر

كفى ألما بعدي عن الناس كلهم

وكثرة أعدائي، وقلة ناصري!

كفى ألما أن أترك اليوم ظامئا

أفتش عن نبع من الماء زاخر!

ويرجع كل الناس نحو ديارهم

وامضي شريدا مستطار المشاعر

أهيم على وجهي كأني مطارد

من الدهر، أو جان على كل سائر

لقد كنت أخفي هم نفسي، فها أنا

أهتك أشعاري، وأبدي سرائري!

أنا الشارد الهيمان! عفت إقامتي

وسرت كطيف شارد الخطو نافر

أنا الشارب الظمآن! تهتز أكؤسي

بدمع المآسي، لا بخمر المعاصر!

أنا الشاعر السأمان! حطمت معزفي

وأصغيت في يأس لبوم المغاور

تمر على قلبي الليالي كأنها

مواكب أشباح سرت في مقابر

وتبدو لعيني الأماني كأنها

تصاوير جن، أو تهاويل ساحر

فإن جئتها أبغي لقلبي راحة

لديها، تعد كالعثير المتطاير

أليس لقلبي أن يعيش منعما

يغرد في الآفاق تغريد طائر؟

أكل حياتي لوعة وكآبة

وأحلام محروم، وأوهام شاعر؟

أكل حياتي لهفة وصبابة

وآلام ظماآن؛ وأحزان حاشر!

فهمت أضاليل الحياة فعفتها

كما عافها من قبل أهل البصائر

وعشت كأني ضارب في مفازة على ظمأ مر، وخوف مخامر

أنام على يأس قديم مساور

وأصحو على يأس جديد مبادر!

إذا هدأ الليل الرهيب أثارني

وذكرني عهد الليالي الغوابر

ص: 30

فمرت على قلبي طيوف كثيرة

تطوف حولي في الدجى كالسواحر

على ثغرها الداوي شكاية حائر

وفي وجهها الباكي كآبة عاثر

وفي قلبها الشاكي جراح كثيرة

تنوح نواح الريح تحت الدياجر

وفي مقلتيها أدمع خلت أنها

سوافر سركن غير سوافر

عرفتك يا أطياف عمري الذي مضى

ولم يبق لي إلا علالة ذاكر

عرفتك لا بالعين؛ فالعين لا ترى

بها صور من عالم غير ظاهر

ولكن بتحنان الفؤاد وخفقه

وهزة روحي، واختلاج مشاعري

وهمس جرى في مهجتي فسمعته

وإن كان أخفى من طيوف عوابر

أأنت التي كانت نعيما وفرحة

لقلبي، وكانت بهجة لنواظري!

أأنت التي أنبت في قلبي المنى

فرفت كأزهار الربيع النواضر؟

أأنت التي غنى بها القلب مسعدا

على شدو أطيار، وعزف قياثر؟

أأنت التي كانت لنفسي مفزعا

من الهم إذ يغشى عتي الهوادر؟

تغيرت! حتى كدت أنكر ما مضى

وحتى لقد أوشكت أنكر حاضري

وما أنا إلا عابر لم يتح له

من العمر إلا ما يتاح لعابر

أسير وما أدري! وأرنو وما أرى

وأصبو وما ألقى! ولست بصابر

أظل حزين النفس يرتادني الأسى

وتقذفني البلوى إلى كل غائر

أفكر في عرمي الذي ضاع مثلما

تضيع على الآفاق آهات زافر

أفكر في قلبي الذي لم أجد له

أنيسا، ولم أظفر له بمسامر!

أفكر في حظي؛ فإني لم أجد

مثيلا له بين الجدود العواثر!

أفكر من الآلام علي أضلها

ومن أين؟ والآلام جند المقادير

وأستر آلامي، وأخفي مواجعي

فتفضحني آثار دمع المحاجر!

قضى الله أن أحيا بدنياي حائرا

كأني لحن فر من ناي زامر

كأني سفين ضلل البحر سيره

فغيب في لج من الموج غامر

كأني دفين أطلقته يد البلى

فعاش بدنيا الناس عيش المحاذر

ألا ليتني ميت، فيهدأ خافقي

وترسب آلامي، وترسو خواطري

ص: 31

وينعم جسمي بالتراب، فطالما

أضرت به أشواك تلك الأزاهر

تعال فؤادي، حسبنا اليأس مغنما

وهيا نجري حظنا في المقابر!

أآسى على دنيا سقتني حميمها

وصبت على قلبي لهيب المجامر؟

سأخرج منها ما قضيت لبانتي

ولا نلت أو طاري، ولا قر طائري!

أآسى على مجد يقولون إنه

حياة لجسم ميت متناثر؟

أآسى على فن وهبت له دمي

وما نلت منه غير وهم مساور؟

وهل نافعي أن أبصر الآل لامعا

وأترك ظمآنا صريع الهواجر؟

لعمرك ما في العمر خير إذا خلا

من الحب. إن الحب نور البصائر

وما الحب إلا النبع رفت مياهه

رفيف نجوم في السماء زواهر

وما هو إلا عالم ساحر الرؤى

وكنزر سعادات، ودنيا بشائر

وما هو إلا المجد يعنوا لعرشه

ويشكو إليه الذل عرش الجبابر

وما هو إلا الفن يسمو بأهله

إلى ملكوت عاطر النور طاهر

إذا لم ينل قلبي من الحب ما اشتهي

فإني بما قد نلت - أضيع خاسر

إبراهيم محمد نجا

ص: 32

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

الرقاعات الفرنسية:

للرقاعات الفرنسية في هذا الباب (حساب مفتوح) وأذكر أن آخر (دفعة) منها كانت في العالم الماضي حينما حضر إلى مصر وفد من الصحفيين الفرنسيين وكانت فيهم عجوز تدعى (مدام تابوي)، قالت هذه العجوز فيما قالت لإحدى الصحف المصرية - وكانت حينذاك مناسبة من المناسبات التي يرتفع فيها صوت مصر لنصرة إخواننا أهل المغرب - قالت: لماذا تعملون على إقامة المتاعب لنا في شمال إفريقية؟ إنكم تلعبون بالنار إذ تشجعون هذه الشعوب. . . كنت أعددت مقالا عن مصر فيه تحية طيبة لها، ولكني غيرت رأيي واستبدلت به مقالا آخر! ووصفت هذا القول إذ ذاك بصفته وهي الرقاعة، والرقاعة فن يحذقه الفرنسيون

وقد كنا نعرض تلك الرقاعات واحدة واحدة، أما اليوم فنراها تسقط علينا بالجملة. . في هذه المحنة التي تعانيها مراكش من جراء الوحشية الفرنسية التي نكأت الجراح القديمة وأثارت المواجع في أقطار العروبة والإسلام. ولندع القضية نفسها فهي معروضة في أصحف مبسوطة الجوانب، ولندع مسائل الاعتداء على الشعوب الصغيرة وكتم أنفاس الحريات والتنكيل بالوطنيين الأحرار، فهي مسائل معروفة معهودة في المستعمرين على الإطلاق وإن كان الفرنسيون (دعاة الحرية والإخاء والمساواة) يبزون فيها سائر المستعمرين. لندع كل ذلك، فالذي يعنينا الآن هو (الرقاعات) التي تنفرد بها أهل باريس الرقاق اللطاف. .

الرقاعة الأولى من (النوع الدبلوماسي) الذي يسيل أدبا وظرفا. . فقد استدعى وزير خارجية فرنسا سفير مصر وتحدث إليه بحديث قال فيه إن ما ينشر في الصحف المصرية يستدعي اشمئزاز الشعب الفرنسي! أرأيت إلى هذا (الاشمئزاز الفرنساوي) العجيب الذي لا يشعر بما يأتيه أهله من الفظائع التي تشمئز منها الفضائل كلها وعلى رأسها الحياء؟ كأن مطالبة سلطان مراكش بإقرار الاستعمار في بلاده، والبراءة من أبنائها الوطنيين، وضرب المواطنين بعضهم ببعض، وحصار السلطان وتقييد حريته؛ وضرب المدن بالقنابل، وغير ذلك مما يتحدث به العالم ويكذبه الفرنسيون كأن كل ذلك أمور لطيفة جدا تستعدي الإعجاب

ص: 33

في عرف الشعب الفرنسي الذي (يشمئز) مما تكتبه الصحف المصرية!! إذن فاشمئزوا حتى تنفلقوا. .

وذلك التكذيب نفسه رقاعة. . فماضيهم يؤيد الأنباء، وليس ما يفعلونه الآن جديدا ولا غريبا منهم في شمال إفريقية، وليس هذا الصدى في مصر إلا جراحا قديمة تنكأ. ولو كانت هذه الأخبار كاذبة كما يدعون ما قطعوا أسلاك البرق بين مراكش والخارج وضربوا الستار الحديدي الدائم هناك لمنع وسائل الثقافة المصرية والعربية على العموم من النفوذ إلى أهل المغرب الواقعين تحت النفوذ الفرنسي. على أنني لا أدري لماذا نصدق الفرنسيين ونكذب المراكشيين؟

ومن الرقاعات ما قاله المقيم الفرنسي في مراكش: (أن الثورة ليست في مراكش ولكنها القاهرة، وسيدفع المصريون ثمنها!) وهو تهديد رخيص أشبه بتهديد (مربع) الذي يبشر بطول السلامة، وهو لهذا يدعو إلى الابتسام، وإن كانت فيه وقاحة تدعو إلى الاشمئزاز الحقيقي

على أن رقاعة الرقاعات هي في موقف الصحافة الفرنسية من الصحف المصرية. . . تنكر الأولى على الثانية إنها اشتدت في التعليق على أنباء مراكش وتتحدث عن شرف المهنة! ثم تأخذ في الحملة على الصحافة المصرية. . ولست أدري أي الصحافتين أولى بأن يستنكر صنيعها وأيها حاد عن شرف المهنة. . أهي الصحافة التي تنتصر للمظلومين أم التي تدافع عن الظلم؟ والصحافة الفرنسية تتحدث عن علاقات المودة التي تزعم أن الصحف المصرية أخلت بها. . فهل كان من علاقات المودة والصداقة ما كتبته عن مصر وخرجت فيه عن الذوق والحياء؟ وما زلنا نذكر أن حكومة فرنسا عندما سئلت في ذلك أجابت بأن الصحافة حرة؛ وهي الآن تطلب إلى الحكومة المصرية أن تسكت صحف مصر!

والرقاعة الأخيرة - ولسنا ندري ما بعدها - ما تواتر على ألسنة الهيئات الفرنسية المختلفة المحتجة على مصر وحكومتها وبرلمانها وصحفها لموقفها من المسألة المراكشية، من تساؤلهم: لم يتدخل المصريون في هذه الأمور التي تخص الفرنسيين والمراكشيين؟ وقولهم: إن ذلك لا يتفق مع الصداقة التقليدية بين مصر وفرنسا! ووجه الترقع هنا أنهم يعلمون

ص: 34

جواب ما يقولون ولكنهم يسألون! ألا فليعلموا - إن لم يكونوا يعلمون - أن أقطار العروبة والإسلام كلها بلاد واحدة، لا يفرق بينها ولا يمنعها من التوحد المنشود إلا وسائل الاستعمار ودسائسه، وأنه لا يمكن الجمع بين الاعتداء على أي منها وبين صداقة غيره من سائرها، فإن ظلوا على إيثار الأول فإنا نرد إليهم صداقتهم التي بلونها كثيرا فلم نجد فيها نفعا.

مسرحية (في إحدى الضواحي):

نحن الآن أمام لون جديد من الفن على المسرح المصري الذي اعتاد الهزات الانفعالية التي تعتمد على المفاجآت المفتعلة لإحداث التأثير في الجمهور؛ وقد اعتاد هذا الجمهور أن يشاهد ويتأثر بحواسه دون أن يجشم فكره أي مجهود. نحن الآن أمام مسرحية (في إحدى الضواحي) التي قدمتها في الأسبوع الماضي فرقة المسرح المصري الحديث على مسرح حديقة الأزبكية، وهي مسرحية إنجليزية من تأليف ج. ب. بريستلي وترجمة الأستاذ حسن وهبي، وإخراج الأستاذ زكي طليمات. هي قطعة من الحياة تبدو هادئة هدوء الضواحي، ولكن هذا الهدوء لا يلبث أن يتبين انه يستقر على بركان. . ويتبين ذلك في هدوء أيضاً برغام البركان. .

تعيش الأسرة في إحدى الضواحي عيشة ريفية هادئة في سعة من العيش، ورب الأسرة (جورج رادفورن) يبدو راضيا بهذه الحياة، متلهيا بزراعة الخضر في حديقته، يقضي أوقات فراغه بالاستماع إلى الراديون ويقطع بعضها بقراءة الروايات البوليسية، ويسافر أحيانا إلى بعض البلاد لأعمال تتعلق بتجارته في الورق؛ والزوجة (مسز رادفورن) امرأة بيت لا تشغل نفسها بغير شؤون المنزل؛ ولكن هذه الحياة لا تعجب ابنتهما (إلسي) التي تصف أباها بالغباء وتسقط على حياة الريف وتتطلع إلى الاتصال بالحياة في خارج هذه الضاحية، ويوافقها على ذلك زوج خالتها (برنارد بكسلي) وهو رجل لا عمل له يدعي أنه رحالة مغامر، وقد نزل هو وزوجته على هذه الأسرة ضيفين ثقيلين همهما الاحتيال على أخذ المال من (رادفورن) بصفة قرون. ويتقدم لخطبة إلسي الشاب (هارولد) الذي يخدع الفتاة بالحب وإنما هو يطمع في مال أبيها إذ يطلب منه بعض المال ليؤسس به عملا، ويضيق (رادفورن) بهؤلاء الطامعين ويؤخر الحديث في مطالبهم إلى ما بعد العشاء، ويجلس الجميع إلى المائدة، ولا يمهلهم الرجل (رادفورن) إلى أن يتموا عشاءهم فيفاجئهم

ص: 35

بحديث هادئ يفضي فيه إليهم بأنه مجرم. . يعمل في تزييف السندات والأوراق المالية، وإن المال الذي يأكلون منه مال حرام. . وأنه عرضة للقبض عليه إذا كشف أمره (بوليس اسكتلنديار)! فيدهشون ويفزعون أشد الفزع، ويفر الشاب، ويهرع الضيفان إلى حزم أمتعتهما للرحيل. وهنا يتغير شعور الفتاة (إلسي) فتزهد في المغامرة وتصير كل أمانيها منحصرة في الأمن ثم يقبل مفتش من (اسكتلنديارد) ويخفي مقصده في أول الأمر قائلا إنه يريد أن يسأل المستر رادفورن عن أشياء تتعلق بإحدى القضايا. ثم يستقبله رادفورن؛ وينفردان ويدور بينهما حديث هادئ عنيف في آن. . يبدأ بالتلميح ثم يندفع المفتش إلى مصارحة الرجل بأن البوليس يعرف عمله المريب ويطلب منه أن يساعده بالكشف عن الشركة التي يعمل معها على ألا يصيبه مكروه. ولكن رادفورن يقابله مقابلة هادئة قوية بحيث لا يستطيع المفتش أن يظفر منه بغير السخرية وعدم المبالاة، فليس لدى البوليس أدلة مادية على إدانته، وأخيرا ينادي رادفورن زوجته وابنته ويقول لهما أمام المفتش إنهم سيقومون برحلة بعيدة يمران فيها ببلاد المشرق؛ ويكون ذلك بمثابة اتفاق غير مباشر بينه وبين المفتش على أن يقطع عمله المريب، وتنتهي المسرحية باعتزام الأسرة وتأهبها للرحيل

والرواية من الأدب المسرحي الذي يحمل المشاهد على متابعتها بذهنه وإعمال فكره، وهي تعتمد في المفاجآت والحركة على الانتقالات الشعورية لأشخاصها، وتبرز خلالها أفكار يعرضها المؤلف بلسان الاحداث؛ فالإنسان يزهد في الهدوء والاستقرار ولكنه يتمناهما عندما يتعرض للأخطار، والحياة لا أمن فيها ولا استقرار مع الانحراف، والهدوء لا يلبث أن ينقلب إلى قلق واضطراب إذا لم تحرسه الاستقامة. ويعني المؤلف برسم الشخصيات ويقدم من الناس أنماطا مختلفة يظهر كلا منها في وضوح، وأهم هذه الشخصيات هي شخصية (رادفورن) الذي يمثل برود الرجل الإنجليزي على أتم ما يكون، تحيط به المخاوف الروائع فيضبط أعصابه ضبطا عجيبا ويبدو كأنه لا يشعر ولا يبالي بشيء

وقد أبرز الأستاذ زكي طليمات - بإخراجه - كل تلك المعاني وكأنه يستمع إلى همسات المؤلف الدقيقة ويتجاوب معها ويرتب لها، ومما يستلفت النظر مشهد الجماعة وقد تحلقت حول مأدبة العشاء، فقد طال هذا المشهد ولكن لم يمض جزء من زمنه إلا مشغولا بحركة

ص: 36

أو لفتة أو طرفة إلى ما ساده من المباغتة المرهبة

وقد أجاد الممثلون جميعا في هذه المسرحية، وخاصة الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني قام بدور (رادفورن) فكان موفقا كل التوفيق في التعبير بالمواقف المختلفة، وقد أظهر مقدرة فائقة في تمثيل البرود الإنجليزي، حتى ليصعب علي أن أراه بعد ذلك رجلا مصريا. . وأعتقد أن هذا هو دوره الذي يعرف هب في حياته التمثيلية. وكذلك كانت نعيمةوصفي موفقة في دور (مسز بكسلي) وهو دور فكاهي قامت به على أكمل وجه، وأجاد محمد السبع في دور المفتش وهذا الممثل يستطيع أن يقف المواقف الطويلة وهو يجدد شوق المشاهدين بحركاته وانتقالاته البارعة، وكان كمال يس (في دور برنارد بكسلي) مثال الرجل (الهجاص) الذي لا يحسن غير الأكل والتظاهر بالمظاهر الفارغة

وأرى أن هذه المسرحية تعتبر تجربة للجمهور من حيث تذوقه للمسرحيات العالية، وألاحظ أنها تجربة ناجحة، وإن كنت لا أدري أذلك لأن هذا الجمهور من طبقة خاصة أم أن الجمهور المصري يظلمه المهرجون. .؟

حول مؤلفات العميد

تلقيت الرسالة الآتية من الأديب الذي يصر على أن يوقع (أسامة) وهو يعقب بها على ما كتبته بعنوان (طه حسين الوزير يتحكم في طه حسين المؤلف):

(خاطر غريب، لست أدري مبعثه، دفعني لأن ألقي بالكتاب الذي في يدي جانبا، وأتناول (الرسالة) فأقرأ مرة أخرى (كان شعاري منذ وليت وزارة المعارف ألا تشتري الوزارة كتبي حتى أخرج منها. . . ومع ذلك فما أظن وجود هذه الكتب في المكتبات في متناول المدرسين والطلاب يضر أولئك أو هؤلاء أو لا ينفعهم)

وأنا وإن كنت مثلك - يا سيدي - لا أحب أن أخوض في الحديث الملوث بالحزبية إلا أني في حيرة من أمري. . . وأسأل نفسي: أيوجد هناك من يعترض على مد الناشئة بكتب طه حسين؟!. . . وما الدافع على ذلك؟!. . . أهو الجحود بالعبقرية أم الكفر بالأدب والعلم الخالد؟!. . . أم هي الحزبية السياسية الحمقاء التي يجب ألا تنفذ إلى ميدان العلم؟!. . .

إننا لو تركنا جانبا ذلك الغذاء الأدبي والفني الذي يعود على الناشئة من كتب طه حسين، ونفذنا من زاوية واحدة. . . زاوية التربية الصحيحة والاتجاه إلى الأخلاق الفاضلة، وخلق

ص: 37

الطموح فيهم - وهو ما تحتاجه ناشئة مصر الذين ران على قلوبهم في السنين الأخيرة نوع من الخمول والرضا - لألفينا مؤلفات عميد الأدباء تؤدي رسالتها كاملة من هذه الناحية. . .

ونستطيع أن ندرك ذلك حين نتصور تلك الكليمات تنفذ إلى قلب الطالب الصغير نم بين القصة الخالدة - الأيام - (وما أحب أن يضحك طفل من أبيه، وما أحب أن يلهو به أو يقسو عليه). . . وفي غمرة هذا التأثير الذي يسيطر على الصبي الصغير تنفذ هذه النصائح الغالية إلى النفس، فتعمل عملها

وهذا الطموح الذي يخلق في الناشئة، وحب العلم الذي يستولي على نفسهم حين ينظرون إلى وزيرهم وإلى عبقريته الخالدة ثم يقرؤون في أيامه (أنه كان ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونا واحدا، يأخذ حظه منه في الصباح والمساء، لا شاكيا ولا متبرما) ثم يسألون كيف انتهى إلى حيث هو. . . فيعلمون أنه كان صبي جد وعمل. .، وأن المجد لا ينال إلا بالجد والعمل. .

صوتي إلى صوتك نرفعه إلى معالي وزير المعارف: بأي حق يحول بين الناشئة وبين ارتشاف العلم من كتب طه حسين؟!. . .)

عباس خضر

ص: 38

‌الكتب

حياة مجيدة

للسيدة وداد سكاكيني

أصدق آثار الأديب مذكراته، والذكريات ذخيرة الفكر والسنين، وصدى الحوادث والشؤون، فما أحب إلى ذوي الأقلام الحرة من اختزان المذكرات وتسجيلها، ففيها يودعون صورا تعبر عن حياتهم الخاصة أو العامة، وفيها يعربون عن تهاويل ماضيهم وهمومهم، وما اتصل بجيلهم وقبيلهم من خير أو شر، فإذا هي بعد ترتيبها ونشرها تهتز وتنبعث فتعود جديدة شائقة كما كانت حوادقها وبواعثها، قبل أن تغيب بين سمع الأرض وبصرها.

ولعل أول ما يدون أصحاب هذا الضرب من الأدب هو ذكرياتهم. وسيرة حياتهم، إذ يكتبونها من أجل أنفسهم قبل غيرهم، ورب كراسة قيدوا فيها هواجسهم وحوادثهم، فور انبثاقها أو في فترات منقطعة متتابعة كانت كل صفحة من صفحاتها صورة كامنة لأيامهم الحافلة وشؤونها المختلفة، فاستوفوا حاجتهم وإلهامهم قبل الفوات، وكانوا أمناء في تسجيل الأحداث والتجاريب وتعليل الأمور التي تجلو الحقائق وتتصل بالتاريخ

وثمة ضرب آخر من المذكرات يعمد أصحابها إلى استعادتها وكتابتها بعد أن تغيب أشباحها، وتضيع آثارها وأخبارها، فإذا عن لهم تصويرها ونشرها أخذوا يرتدون إلى الماضي وربما كان بعيدا شريدا، فيخلعون أردية السنين حتى يبلغوا أيامهم الخالية فيبعثوا الذكريات من مرقدها. ومهما هاجوا ما فاتهم منها فلن يعود ثائرا ناضرا، لأن اهتزازة الحياة وحرارة الحوادث قد أرقته بسبب النسيان والإهمال أو غياب الشعور، فيفقد القديم المستعاد الصحة والرونق ويكون له طعم الغذاء المحفوظ في علبة من حديد.

فمن الضرب الأول كتاب (حياتي) للدكتور أحمد أمين بك. وقد كان هذا الكتاب درة التأليف العربي في أدب هذا العام، إن قارئه ليشعر منذ الصفحة الأولى أنه ين يدي كاتب صريح، بعيد عن التكلف والتمويه، فلا التباس ولا تنميق ولا تبجح أو تمجد، فإذا ذكر عوامل تكوينه وأثرها في حياته وثقافته، وألاعيب القدر التي صرفت في هذه الحياة حظ صاحبها رأينا مثالا إنسانيا عظيما لطلاب المعرفة والصابرين على الصعاب حتى يدركوا بكفايتهم وكرامتهم المجد المنشود، وكأن المؤلف حين يجلي حياته ويكشف عن دخيلتها ومزاجها منذ

ص: 39

تفتحها حتى نضجها، وما تخللها من أطوار عجيبة وفروق متضاربة يستعرض رواية حاشدة لغرائب الأحداث

لقد قرأت فيما مضى مذكرات لجبار الأدب الغربي (أندريه جيد) فأخذت بما فيها من قول صراح ولم يسلم فنه على روعته من تبرمي ولومي، إذ كان الكاتب المبدع يجور في ذلك القول حتى على نفسه فرأيته من غلاة المصارحين، والغلو في كل أمر ثقيل ممقوت. ومن قبل قرأت اعترافات الشاعر الفريد دوموسيه ففيها قص علينا كيف تردى في حمأة الهوى وتصدي لداء العصر الذي استحكم في أبناء جيله بعد أن اجتاحت الغرب أعاصير الحرب، فراح (موسيه) يصف ذلك الداء العياء ويعترف بذنبه ومصابه، مصورا بدم قلبه عبرا لا بد أن يجد فيها كل فتى صورة لحادثة من حوادث حياته. غير أن (جان جاك روسو) كان أصدق رواية وأحسن تأويلا في اعترافاته، حتى قال ما معناه: لقد كشفت لك يا إلهي عن طويتي كما رأيتها، فلو اجتمع أمثالي وسمعوا اعترافي وكشفوا عن قلوبهم بمثل إخلاصي لما تجاسر أحدهم أن يقول: لقد كنت أحسن من هذا الرجل. . .

أما كتاب (حياتي) الذي هو قصة حياة إنسان جاء إلى الدنيا لينفع الناس ويعلمهم الأدب والأخلاق فلم يكن من قبيل الاعترافات ولا من طبقة المذكرات لأنه أجل منهما وأجمل، هو سيرة (أحمد أمين) بقلمه الحر وفنه الأصيل وصدقه المعهود. ولقد تحرج أستاذنا الكبير بادي الرأي من نشر هذا الكتاب، لأنه كان يرى نفسه فيه بمنزلة العارض والمعروض والواصف والموصوف فتمنى أن يرى نفسه بمرآة غيره محكوما عليه لا حكاما ومشهودا عليه لا شاهدا، فإن - والتواضع أجل صفات العلماء - جعله يرى نفسه غير جدير بتسجيل حياته إذ لم ير لها عظمة ولا زعامة ولا بطولة، فهو ليس بسياسي كبير أو مغامر خطير لكنه وجد وسيلة لتبرير صنعه في نشر الكتاب، وهي أن عصر الديمقراطية قد كاد يغرب وتعم العالم في الشرق والغرب فكرة ديمقراطية، قد كاد يغرب وتعم العالم في الشرق والغرب فكرة ديمقراطية، وعلى كل امرئ يؤثر الحرية والخير لقومه أن يسعى إلى نفعهم، وقد وجد الدكتور أحمد أمين أن في وسعه نفع أمته بنشر كتابه لنه يصور جانبا من جوانب جيله ويصف نمطا من أنماط الحياة في عصره ووطنه، ولعله يفيد اليوم قارئا ويعين غدا مؤرخا

ص: 40

كانت فاتحة كلامه على حياته فلسفية صوفية، والفلسفة كيف للمفكرين أمثاله، إذ كان يرى أن وجوده نتيجة محتومة لكل ما مر عليه وعلى أهلية من أحداث، ثم جعل يتغلغل في مظاهر هذا الوجود وبواطنه، حتى صار معه الرأس إلى أن يجد نفسه عالما وحده، خاضعا لعوامل التأثر النفسي والوراثي والرؤية العينية والمناهج العقلية والعلمية.

ويدفعنا المؤلف برفق وهوادة إلى مشاهدة البلدة التي نشأت فيها أسرته المصرية؛ فيصور الفلاح الكادح الذي كان يعاني العنت والاستغلال حتى أصاب أهل المؤلف لظى ذلك الجور فنزحوا إلى القاهرة وكان أبوه عالما فقيها فأحي أن ينشئه نشأته. وحين صور الأستاذ أحمد أمين أثر المدرسة التي طبعته بطوابعها وجد البيت هو المدرسة الأولى التي تعلم فيها أهم دروسه في الحياة.

ما أروع حادثة مولده ورضاعه! إنه ليصورها محفوفة بضربة قاصمة من ضربات المقدور، فقد اتفق أن نهضت أخت له في مستهل العمر لكي تعد القهوة لبعض الضيوف وكانت أمه حاملا به، غير أن النار هبت في أخته فما استطاعت أن تطفئها، ولم يدركها أهلها إلا وهي شعلة من نار، فتغذي وهو جنين دما حزينا ورضع لبنا حزينا، ويرد هذا السبب وأمثاله إلى طبيعته ومزاجه، فيتساءل: هل كان لذلك أثر فيما غلب عليه من الحزن في حياته؟

ولقد أحسست منه ذلك فيما فاضت خواطره، وفيما كنت أنصت له من حديثه، فأسمع فيه هدوء المحزونين، وأحس في سمته وفي نبرات صوته ولهجته شجوا حيرني تعليله حتى قرأت كتابه (حياتي).

ويتدرج المؤلف في مذكراته من بيته إلى المدرسة الثانية التي كانت حارثته وجيرته، ثم يتهادى إلى (الكتاب) مصورا لنا (كتابه) وشيخه و (الفلقة) المعلقة على الحائط وعصا الشيخ الذي يقولون له بمصر (سيدنا) وحين وصف لوحه تذكرت الجاحظ الذي صور لنا الشيخ في كتاب زمانه، والتلميذ وهو يمحو لوحه فقلت: إن مياسم الشرق واحدة في القديم والحديث وقد أثارت هذه الذكرى في خاطري صورا رائعة للدكتور (طه حسين) ذكرها في (أيامه) ما كان أجملها وهو يقرأ القرآن بين يدي شيخه القاسي الوقور

إن كثيرا من الناس لا يعرفون أن الدكتور أحمد أمين بك نشأ بعمامة وجبة كنشأة أترابه

ص: 41

وصحبه من أعلام الفكر والبيان بمصر، وأنه تلقى ثقافته الأولى أزهرية مكينة تعهدها أبوه بالتوجيه والتسديد قبل أن يتلقى ثقافة القضاء والأدب ويصير إلى الجامعة المصرية أستاذا وعميدا ورائدا للباحثين والمؤلفين.

وكان لموت أبيه ومعلمه أثر عميق في نفسه اقتحم بعدهما غمار الحياة وتحمل تكاليفها بعزم وإيمان، حتى إذا انتهى من قصة دراسته ووظيفته في القضاء ثم بجامعة فؤاد قص علينا بإيجاز رحلاته إلى الشرق والغرب حتى أخذ بنا إلى صفحات سعادته بين أهله، وحين منحته الجامعة الدكتوراه الفخرية وجائزة فؤاد الأول تقديرا لفضله ومآثره، وتكريما لمجهوده السباق إلى البحث العلمي المعاصر في تاريخ الأدب العربي وتوجيه الأمة الوجهة الأخلاقية المثلى

فكتاب (حياتي) الذي خطه مؤلفه الجليل بأسلوبه الخاص سيشع منه على الأيام القابلة، والجيل العربي الصاعد مشعل للحق والخير يضيء الفكر والضمير، وينهج السيرة والتاريخ

دمشق

وداد سكاكيني

ص: 42

‌خواطر بدر.

. .

للأستاذ محمد عثمان محمد

مما لا يواتي الكثيرين من الأدباء القدرة الفائقة على التلوين والتنويع في أدبهم مع الحبك والسبك والإجادة. . . فقد يكون الكاتب في النثر بارعا، وقد يكون في الشعر مفلقا، وقد يكون في القصص عبقريا، وقد يكون في الأدب الشعبي راسخا. . . أما أن يكون في مستوى واحد من البراعة والإجادة في جميع فنون الكتابة فأمر لا أظن أنه يتأتى للأكثرين. . .

أقول هذا وبين يدي كتاب جديد صدر أخيرا باسم (خواطر بدر)، أهداه إلى مؤلفه الأستاذ الفاضل أحمد عبد اللطيف بدر، المدرس ببورسعيد الأميرية الثانوية. . . فقد حوى في تضاعيفه الشذرة الاجتماعية، والمقالة الأدبية، والقصة في عالميها الواقعي والخيالي، والشعر المقفى في أغراضه، والزجل الشعبي في استرساله. . . مما دل على قدرة الأستاذ على التلوين والتنويع في أدبه بصورة غير مألوفة. . .

وقد يدهش القارئ الفاضل أن يكون عالم من خريجي إحدى كليات الأزهر الشريف زجالا. . . ولكن ليس في هذا ما يدعو إلى الدهش والاستغراب. . . فالزجل فن شعبي له منهجه وأصوله، وليس كما يفهم البعض (. . . كلمات مسرفة في العامية أو عبارات تنظم حيثما اتفق. . .)، وليس في مزاولته أو محاولة نظمه ما يحط من قدر العالم المصلح والكاتب الاجتماعي. . . لأننا إذا دعونا إلى الإصلاح مثلا - ومخاطبة الدهماء من طبيعة عمل العالم الذي يهدف إلى الإصلاح والكاتب الاجتماعي الذي يرمي إلى التهذيب والإرشاد - كانت دعوتنا، كما يقول الأستاذ المؤلف، ذات فائدة إذا كانت لها صلة بروح الشعب المنتفع بها، ولا تتأتى هذه الصلة الروحية إلا إذا خاطبنا الشعب بلغته الدارجة التي يفهمها، والزجل مظهر من مظاهر هذه اللغة. . .

وقد يظن البعض أن الزجل فن شعبي مستحدث، ولكنه فن قديم مضت عليه أكثر من ثمانمائة وعشرين سنة، فقد ابتدعه في الأندلس من يقال له (راشد)، جوده وحسنه وأكثر من أوزانه من بعده أندلسي آخر يقال له (ابن قزمان) وقد توفي عام 555 هـ. . .

والملاحظ على أزجال الأستاذ أحمد أنها كلها أدبية أخلاقية اجتماعية، لا تجد خلالها قصيدة

ص: 43

واحدة في الهجاء أو الذم تتخللها ألفاظ نابية. . .

وإذا تركنا الزجل وانتقلنا إلى الشعر. . . أو انتقلنا من النظم باللغة الدارجة إلى النظم بالفصحى، وجدنا الأستاذ الشاعر مقلا. . . تتفاوت مقطوعاته ما بين عشرة أبيات وأربعة، اللهم إلا في قصيدة واحدة هي (فجر النهوض) فقد أربت على ستة وعشرين بيتا. .!! وهو يقول في تعليل ذلك:(. . . وشعري قطعة من نفسي أصوغه حينما أشعر برغبتي في تنغيم مشاعري على النغم الموسيقي الذي يبعه اللحن الصادق المتجاوب بين أعطاف وجداني لذلك كنت مقلا. . .)، يريد أن يقول إنه لا يقول الشعر إلا إذا أحس في أعماقه برغبة قوية صادقة تدفعه دفعا إلى التنغيم والإنشاد. . .، وهذا حسن. . . ويجب أن يكون منهاجا وسبيلا يطرقه كل شاعر يريد أن يسمو بشعره وأن يخلد بنات أفكاره. . . ولكنه لا يمكن أن ينهض سببا قويا على التقصير وعدم الاسترسال في القصيد. . . وإن كان يمكن التعلل به على قلة النتاج الفكري. . .

فإذا كان الذهن حاضرا، والقريحة صافية، والشعور صادقا، وتلك الرغبة العميقة الدافعة إلى النظم والإرشاد مواتية. . . ما الذي يمنع الشاعر من الاسترسال والإطالة - لغير المملة - ما دام لم يستوف الغرض ن وما دام الموضوع يتطلب منه الصول والجول. .؟!

على أنه ليس معنى ذلك أنني أقول (بالكم) في مجال التفوق والشاعرية. . فقد (يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق) كما قال عقيل بن علفة حين سأله سائل وقال: مالك لا تطيل الهجاء؟!

هذا، والأستاذ بدر، صاحب هذه الخواطر، هو صاحب مجموعة (قصص بدر للأطفال)، فهو من تلك الفئة العاملة من رجال التربية والتعليم، المعنية عناية خاصة بتربية الناشئة تربية تقوم دعائمها على النهج الديني القويم. . فهو من دعاة نشر الثقافة الدينية في جميع مراحل التعليم في مدارسنا على اختلاف درجاتها، لأنه يرى أن (ليس هناك أجدى على النفس من الوازع الديني. .)، وفي هذا يقول (ص 98):(. . إنا لا ندعو إلى وجوب التخصص في الدين، لب نأمل فهم روحه حتى تربى الأم أولادها وبناتها في ضوء تعاليمه التربية التي تخول لهم حياة كريمة). . وهو في دعوته هذه على حق. . فنحن نعيش في عالم مادي بحث، تدهورت فيه القيم الأخلاقية وعمت الفوضى والفساد حتى أصبحنا في

ص: 44

حالة نم الانحلال تنذر بالويل والثبور. . ولا يمكن أن يثوب هذا العالم إلى رشده ما دامت المادية متحكمة فهي هذا التحكم المزري به، وما دامت أغلالها وسلاسلها وقيودها محكمة تعوقه عن السير والانطلاق. . وليس أجدى على هذه الإنسانية التعسة وهذه البشرية الرعناء من الرجوع إلى الدين وتعاليمه لكبح جماح هذه المادية للحيلولة بينها وبين الاستمرار في انطلاقها. .

هذا مثال واحد لما في تضاعيف الكتاب نم المواقف الكثيرة المثيرة للاهتمام والتأمل في الأدب والنقد والفن والاجتماع وغير ذلك في أسلوب سلس أخاذ. .

بور سعيد

محمد عثمان محمد

ص: 45

‌البريد الأدبي

اليوبيل الذهبي لعبده الحمولي

لما كانت الذكرى تنفع المؤمنين وكان يوبيل عبده الحمولي الذهبي

سيقع في 12 مايو المقبل (لمرور خمسين سنة على وفاته) رفعت إلى

الأعتاب الملكية وإلى وزير المعارف اقتراحا بإقامة مهرجان ليوبيله

الذهبي بدار الأوبرا الملكية تحت رعاية جلالة الملك ويخصص دخله

لمبرة الأميرة فريال وجمعية الإسعاف العمومية أسوة بمهرجاني شوبان

وفردي اللذين أقامتهما لهما وزارة المعارف لمناسبة عيديهما الخمسيني

الذهبي

على أن الغرض الذي نزعت إليه من وضعي (كتاب الموسيقى الشرقية والغناء العربي ونظرة الخديوي إسماعيل للفنون الجميلة وحياة عبده الحمولي) في أربعة أجزاء هو التصدي لصون الموسسيقى الشرقية من أيدي التلاعب والضياع ورد غارة العجمة عنها والاحتفاظ بطابعها الشرقي

ولا أحسب إسماعيل العظيم قد اختص عبده الحمولي بالبعثات المتوالية إلى الأستانة إلا تقديرا لمواهبه الفنية من سلامة الذوق وسعة التصرف فضلا عن الابتكار والإلهام والوحي وهو فوق التخت

والذي حداني إلى طلب إقامة المهرجان ليس تكريمه وذكراه فحسب بل إعطاء صورة صحيحة لأنغامه الساحرة وتلاحينه المنسجمة وأدواره المتدامجة التي بها هز مناكب الأهلين وحبب إليهم الجمال وجعلهم يتذوقون الفن الرفيع

ولما كان العاهل العظيم قد شمل بعنايته الموسيقى الشرقية وهيأ لعبده أسباب النجاح فوضع الأصول والقواعد لها وكان المغفور له الملك فؤاد ناسجا على منوال والده قد أنشأ لها معهدا أغدق عليه من ماله الشيء الكثير وعقد مؤتمرا موسيقيا سنة 1932 بدار الأوبرا حيث اعترف أحد علماء الموسيقى الغربية المنتدب بأن الموسيقى العربية قد غذت الموسيقى

ص: 46

الغربية منذ ألف سنة فلا عجب أن ينال مقترحي من معالي وزير المعارف ما يستحقه من العناية والله ولي التوفيق

قسطندي رزق

الجواهري يطرد من لبنان

لا أظن أحدا في البلاد العربية لا يعرف شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري هذا الشاعر الذي يقول فيه المرحوم الرصافي:

بك الشعر لا بي أصبح اليوم زاهرا

وقد كنت قبل اليوم مثلك شاعرا

فأنت الذي ألقت مقاليد أمرها

إليك القوافي شردا ونوافرا

هذا الشاعر الذي يعطيك صورة صادقة للعراق السياسي والاجتماعي في الثلاثين سنة الأخيرة بما يتاح لك أن تقرأه من دواوينه المتعددة، ويهزك بقصائده عن سوريا ولبنان ومصر وفلسطين وسائر البلاد العربية بل هو أكبر داعية لمصائف لبنان وصيف لبنان الجميل في قصائده الكثيرة وهو القائل في (زحلة):

يوم من العمر في واديك معدود

مستوحشات به أيامي السود

وفي شاغور حمانا:

شاغور حمانا ولم ير جنة

من لم يشاهد مرة حمانا

وفي (بكفية):

أرجعي ما استطعت لي من شباب

يا سهولا تدثرت بالهضاب

وهو الشاعر العراقي الوحيد الذي استقبل رئيس جمهورية لبنان الحالي بقصيدة رائعة عند زيارته العراق قبل سنوات. . وبعد هذا ينذر الجواهري بمغادرة لبنان في ظرف أربع وعشرين ساعة!! لماذا؟ لأنه ألقى قصيدة في تأبين عبد الحميد كرمي الذي توفي أخيرا. وقد استقبل أدباء لبنان هذه القصيدة بما يستحقه شاعر العراق وأضافوا إلى تقديرهم الشاعر في كل مناسبة يزور بها لبنان تقديرا آخر

هذا إجراء آلمني لأنه بادرة خطيرة إزاء حرية الفكر والشعور، وحينئذ لا يأمن أديب أو شاعر على نفسه في أي بلد عربي ما لم يسكت على مضض أو يؤمن برسالة الاستعمار.

ص: 47

إبراهيم الوائلي

في لغة (أكلوني البراغيث):

كلف أخي الأصغر بكتابة موضوع إنشائي يصف فيه حياة الفلاحين فافتتحه بقوله (يعيشون الفلاحون) وهذه عبارة صحيحة فصيحة على ما سأبينه بعد - ولكن مدرس الإنشاء أبى إلا أن يعدها من الأغاليط. ولعل الذي دفعه إلى هذا ما توهمه - ويتوهمه كثير من الناس - من خطأ مثل هذا التركيب

وقبل أن أتكلم في الموضوع أحب أن أوجه نظر القارئ إلى أن لغة (أكلوني البراغيث) هذه لغة جماعة من العرب بأعيانهم - يقال: هم طييء، ويقال: هم أزدشنوءة - وهذه الجماعة تجيز أن يؤتى في الفعل إذا أسند إلى اسم ظاهر - مثنى أو مجموع - بعلامة تدل على التثنية أو الجمع فتقول (قاما الرجلان) و (قاموا الرجال) و (قمن النسوة) فتكون الألف والواو والنون حروفا دالة على التثنية والجمع كما تدل التاء في (قامت سعاد) على التأنيث

وللنحويين في هذه اللغة رأيان: رأي يقول بصحتها وفصاحتها ويبيح استعمالها، ورأي يقول وضعفها وينكر استعمالها. والسبب في ضعفها عند من رأي ذلك هو الإتيان بعلامات التثنية والجمع بدون حاجة إليها

وقد نص على صحتها العالم الجليل (الألوسي) في تفسيره (روح المعاني) عند شرح قوله تعالى (وأسروا النجوى الذين ظلموا) فقال ما نصه:

(قال أبو عبيده والأخفش وغيرهما هو - أي لفظ الذين - فاعل أسروا والواو حرف دال على الجمعية كواو (القائمون) وكتاء (قامت) وهذا على لغة (أكلوني البراغيث) وهي لغة حسنة كما نص (أبو حيان) وليست شاذة كما زعمه بعضهم)

ويكفي دليلا على صحتها قوله تعالى (ثم عموا وصموا كثير منهم) وقوله (وأسروا النجوى الذين ظلموا) وما جاء في حديث وائل بن حجر (ووقعتا ركبتاه قبل أن تقعا كفاه) وقوله (يخرجن العواتق ذوات الخدور)

وقول الشاعر:

نتج الربيع محاسنا

ألقمنها غر السحائب

ص: 48

يلومونني في اشتراء النخيل

أهلي فكلهم يعذل

رأين الغواني الشيب لاح بعارض

فأعرضن عني بالخدود النواضر

نصروك قومي فاعتززت بنصرهم

ولو أنهم خذلوك كنت ذليلا

فأدركنه خالاته فخذلته

ألا إن عرق السوء لا بد مدرك

نسيا حاتم وأوس لدن فأ

ضنت عطاياك يا ابن عبد العزيز

وأحقرهم وأهونهم عليه

وإن كانا له نسب وخير

تولى قتال المارقين بنفسه

وقد أسلماه مبعد وحميم

إلى غير ذلك من الشواهد التي تقطع بصحة تلك اللغة

هذا وقد اتفق النحويون على صحة هذا التركيب إذا جعلت الفعل مسندا إلى المتصل به - من الألف والواو والنون - وجعلت الظاهر بدلا من الضمير أو مبتدأ - والخبر مقدما - والى ذلك يشير ابن مالك بقوله:

وقد يقال سعدا وسعدوا

والفعل للظاهر بعد مسند

فمعنى البيت انه فقد يؤتى في الفعل بعلامة تدل على التثنية أو الجمع إذا أسند إلى اسم ظاهر مثنى أو مجموع وهذا قليل. وإنما يكون كذلك إذا أسندت الفعل إلى الظاهر؛ وأما إذا أسندته إلى المتصل به - من الألف والواو والنون - فلا يكون ذلك قليلا

فعلى هذا وسواء اعتبرنا لغة (أكلوني البراغيث) لغة صحيحة أم ضعيفة فالتركيب صحيح فصيح لا غبار عليه ولا مانع من استعماله خصوصا وأن في استعماله تيسيرا كبيرا لقواعد اللغة العربية

أحمد مختار عمر

الطالب بمعهد القاهرة الديني الثانوي

من حديث الشعر

قرأت مقال (من حديث الشعر) المنشور في العدد (923) من مجلة الرسالة، ولقد كان الأولى أن يكون كتابا خاصا لأستاذ الجامعة المذكور، لا أن يطلع به كاتبه على قراء الرسالة فيقتضي منهم وقتا وجهدا ثم لا يظفرون من بطائل. وأشهد لقد حاولت أن أخرج

ص: 49

منه برأي جديد يستحق النظر والدراسة ولكن يدي أطبقت على الماء حين أيقنت أن صاحبه يدعو الناس إلى الكفر بالشعر ورسالته في الحياة، ويدعو الشعراء إلى نبذ الشعر والعزوف عن قرضه، مناشدهم أن يكتفوا بالكتابة العقلية، فإنه هو كان (شاعرا) إبان حياته الأدبية، ثم لما نضج لم يتسع شعره لأفكاره فتركه واعتبره ديدن الأمم البدائية. ويقول بالحرف الواحد (فهنيئا لمصر أن يضمحل فيها الشعر ويقل الشعراء)، ربما كان ذلك نوعا من الغرور الذي يداخل الإنسان في كل ما تتناول يده، فإن هو رضي عن شيء أفرط في حبه والدعاية له، وإن صدف عنه نبذه ودعا إلى نبذه ما استطاع. والذي أعرفه عن الأستاذ بسيوني أنه كان يعتبر شعره تنزيلا من التنزيل، ثم إذ نكص على عقبيه، وطلق الشعر لأنه (نضج) بدأ يحمل على الشعر وأهله.

الشعر جهل وسذاجة! من يقول هذا! ومن ذا الذي تطوع له بنفسه أن يتناول أمير الشعراء بأنه كان في شعره ينزع منزع الجهل والسذاجة؟ إن شوقي أن في شعره مؤرخا وعالما وفي النهاية (شاعرا). . ثم هو في الثلاثة سابق لا يلحق. . . وإذا تصفحت ديوانه ولو بالنظر العابر علمت إنه مرجع من مراجع التاريخ، فما تكاد تخلو قصيدة من قصائده من الحديث عنه. . وحتى رجل الشارع يدرك ذلك بما تغنيه أم كلثوم من فرائده. أنا أعلم أنه ربما فزع كثير غيري ثائرين على هذا المقال الذي لا تشفع له حرية الرأي، ولا أن الرسالة منبر حر يعنو لكل قائل وخطيب، فالقراء في غنى عن مثل هذه الآراء (المتعبة) التي قد يقصد صاحبها من ورائها الشهرة عن طريق الكتابة والردود والتعقيبات

محمد محمد الابشيهي

مدرس بمدرسة بسيون الإبتدائية

من حديث الشعر أيضاً

قرأت هذا المقال الذي كتبه الأستاذ (كمال بسيوني) فأعجبت به - شهد الله - لما فيه من تلك الصراحة التي نشرها الكاتب على الناس، غير عابئ بما قد يناله من ورائها من عنت أهل العنت، ولو أصحاب الكلام المقفى، وأرباب القريض. . .

ولست أزعم لنفسي الحق في أن أجرد قلمي لمساجلة الأستاذ النقاش فيما ذهب إليه من

ص: 50

رأي، وما ركن إليه من منطق قد يعوزه الدليل، وتنقصه القوة؛ أقول لا أريد هذا خشية أن أتهم بانتسابي إلى الحرم الشعري المقدس، وأنا منه قصي بعيد. .!

وإنما أحب أن أقول للأستاذ الفاضل: لو زخر الشعر بالحقائق العلمية والنظريات الفلسفية، وترك هذه الصبغة التي فطر الله النفوس عليها أما كان يأتي يوم نشكو فيه مر الشكوى، لهذا الجمود المطبق، والفلسفة العميقة المضنية! بل أين كان يجد المكروب اللاغب المكدود نسمة الراحة إلا في روضة الشعر، وتحت أفنانه المتفطرة؟ والإنسان بطبعه يرى في الشيء الرتيب تفاهة الطعم، وقلة الغنم!

لعل الأديب الفاضل يرى لنا من هذا الأمر مخرجا، أو يهدينا إلى ما يرضي العقل، ويثلج الوجدان. . .، وله مني تحية عطرة ملؤها التقدير الصادق

إسكندرية

صبري حسن الباقوري

الدخان في الشعر:

كتب الأستاذ محمد طاهر بن عبد القادر الكردي، الخطاط، بالمعارف العامة بمكة المكرمة رسالة لطيفة مما قاله الأدباء والظرفاء في الشاي والقهوة والدخان؛ ونبه على ثلاث رسائل مطبوعات في هذا الشان

واسم الرسالة (أدبيات، الشاي، والقهوة، والدخان)

والرسالة تباع في إدارة الطباعة المنيرية بالأزهر

ومنها في الدخان، قال الشهاب الخفاجي

إذا شرب الدخان فلا تلمنا

وجد بالصفو يا روض الأماني

تريد مهذبا من غير ذنب

وهل عود يفوح بلا دخان

وقد عارضه السيد محمد الشهير بالحميدي بقوله

إذا شرب الدخان فلا تلمني

على لومي لأبناء الزمان

أريد مهذباً من غير ذنب

كريح المسك فاح بلا دخان

سليم سالم شراب

ص: 51

‌القصص

(هذا حقك)

للأديب محمد أبو المعاطي أبو النجا

سارا معا يقصدان المقهى المعتاد لقضاء السهرة حيث يرتشفان أقداح الشاي الدافئة، ويتناقلان أحاديث الكادر المعادة، ويوزعان الوقت الممل الطويل بين تبادل النكات المرحة والتعليقات الساخرة، وبين لعبة النرد والشطرنج والبوكر!!

وكان الصمت يسير بينهما وهو ينقل خطواته الثقيلة فوق الأرض وكأنه يطأ بقدميه الأفكار التي تدور برأسيهما حتى لا تستحيل إلى كلمات. .! وأمام عمود من أعمدة النور وقف (حسن أفندي) وفوق مرتكز العمود المصنوع من (الأسمنت) وضع قدمه ليشد رباط الحذاء الذي أوشك أن ينفك. . .

وقبل أن يعتدل ليواصل السير مع زميله وقعت نظراته على شيخ متهدم يستند بظهره إلى الحائط وتنسدل فوق جسده المتقلص مزق من ثياب بالية أشبه بثياب الراقصات مع فارق بسيط هو أن الفن مزق ثياب الراقصات ليبرز صورة رائعة من صور الفتنة والجمال؛ وأن القدر مزق ثياب الشيخ ليبرز صورة مروعة من صور الفاقة والاحتياج!

وكان هذا الثوب أو كانت هذه المزق تسمح ليد الشيخ المعروقة النحيلة أن تبرز منها دون أن تحمل عبء نسيجها المهلهل تماما كما كانت تسمح لرياح الشتاء الباردة أن تدخل فيها لتكون لهذا الجسد الضارع المشفوف بدلا من الملابسة الداخلية!

ويبدو أن (حسن أفندي) قد تأثر تأثرا عميقا لمنظر هذا الشيخ فمد يده في حافظة نقوده وأخرج منها بعض القطع المعدنية وراح يتأملها. . إنه لم يجد بينها قرشا واحدا، كلها قطع من فئة العشرة قروش والخمسة قروش. . .!!

هل من الممكن أن يعطيه خمسة قروش دفعة واحدة؟ هذا في الواقع ممكن. . . ولكن شعوره لا يستسيغ ذلك التصرف. إنه لم يعتد التصدق على فقير بأكثر من قرش واحد. . . فكيف يدفع خمسة قروش دفعة واحدة؟ وتدخل عقله لينقذ الموقف. . . تدخل بخاطر جريء. . . كيف يعطي خمسة قروش لعاجز واحد وهناك عجزة آخرون في حاجة إلى مساعدة؟ أليس من الأوفق أن يعطي كل واحد قرشا بدل أن يعطي خمسة قروش لعاجز

ص: 53

واحد! لا بأس إذن من أن ينتظر حتى يحصل على فكة!!

وهنا ارتفع صوت زميله (سعد أفندي) الذي كان يسايره قائلا - ماذا جرى يا أخي؟ أنت بتربط (عفش)؟ وعاد إليه (حسن أفندي) وهو يتمتم بعبارات غير واضحة. . . وكان إذ ذاك يشعر بأن شيئا ثقيلا ينزاح عن كتفيه

وسارا من جديد، وجعلا يرددان في هذه المرة أحاديث تافهة كان (حسن أفندي) يخلقها خلقا حتى لا يترك لخياله فرصة يستعيد فيها صور ذلك الشيخ الهرم. . . الصورة التي سرعان ما تلاشت في أضواء الطريق الساطعة مثلما تتلاشى الظلال في الظهيرة

وفي مكان لا يكاد يتغير من مقهى (السعادة) جلسا بعد أن انضم إليهما آخرون من مدرسي مدرسة النجاح الثانوية. . . ودار بينهم الحديث المعتاد. . . الحديث الذي يضج بالشكوى ويطفح بالألم. . . كلهم منسيون. . . وكلهم ينشد الدرجة الرابعة أو الخامسة. . . وكلهم يعاني ضيقا ماليا. وكان الحديث يتنقل بين الشفاه متثاقلا مترنحا أشبه براقصة مخمورة تنتقل بين الموائد وهي تهذي بنكات قديمة لا روح فيها ولا حياة!

ومضت لحظات كانت بعدها سحب الدخان المنبعثة من سجائرهم قد انعقدت فوقهم، وكان البخار المتصاعد من أقداح الشاي قد اختلط بتلك السحب فأشاع كل ذلك جوا من الانقباض بدا أثره وجوما على بعض الشفاه وتبلدا على بعض الوجوه وشرودا في بعض النظرات. . .

ويبدو أن (حسن أفندي) قد ضاق بهذا الجو العامر بالركود فهمس في أذن صديقه. . .

- أريد أن ألاعبك الشطرنج. . ولكن صديقه رد عليه في استخفاف

- ولكني أغلبك دائما. . فعقب (حسن أفندي) في تحد. .

- سأغلبك أنا هذه المرة. .

وابتدأ اللعب بحماس م جانب حسن أفندي وفتور من جانب صديقه. . وسرعان ما ضاق هو بفتور صاحبه فقال له

- ما هكذا يكون اللعب. . أقترح أن يكون هناك رهان حتى يكون للعب روح. . وهنا ضحك سعد أفندي قائلا. .

- يبدو انك غني جدا هذا المساء. .

ص: 54

وهنا أيضاً أخرج حسن أفندي قطعة من فئة الخمسة قروش وألقى بها على المنضدة قائلا. .

- هذه لك إن غلبتني. .

وكما يحلو للقط أن يعاكس الفأر قبل أن يقتله فقد حلا لسعد أفندي أن يسخر من صديقه قبل أن ينتصر عليه، فكان يتغاضى عن الخطط الحاسمة في اللعب ويعمد إلى التردد والحيرة حتى يبدو كمن اختلط عليه الأمر، حتى إذا اطمأن حسن أفندي إلى نفسه فاجأه بقتل قطعة من قطعه

ومضت الدقائق بعد ذلك تنعى القطع الغالية إلى حسن أفندي، فكان ذلك يثير الحماس في صدره ويثير في نفس الوقت مشاعر القلق والضيق في فؤاده. .

وكان لا بد لعقله أن يتدخل هنا أيضاً لينقذ أعصابه من قبضة التوتر والألم.

ماذا لو غلبه سعد أفندي؟ إنه حين ينتصر عليه وهو محتشد للعب أحسن بكثير مما لو انتصر هو وسعد أفندي غير مكترث! ثم ماذا تكون الخمسة قروش بجانب ذلك الحماس الذي كان يحسه أثناء اللعب؟ بجانب ذلك الحماس الذي أزاح عن صدره مشاعر الجمود والركود؟ حسبه إذن تلك اللحظات الزاخرة بالانفعالات بل بالحياة. .!

وانتهى الدور بانتصار سعد أفندي الذي أخذ القطعة الفضية بدوره ووضعها أمام زميله قائلا:

وهذه لك أيضاً! ولكن حسن أفندي أعادها إليه من جديد في إصرار وعزم وهتف قائلا:

- لا يا أخي. . لا يمكن، هذا حقك!

محمد أبو المعاطي أبو النجا

ص: 55