المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 926 - بتاريخ: 02 - 04 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٢٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 926

- بتاريخ: 02 - 04 - 1951

ص: -1

‌8 - الدين والسلوك الإنساني

للأستاذ عمر حليق

الجماعة الدينية

توصلنا في الفصل السابق من هذه الدراسة إلى القول بأن وظيفة الدين لتحقيق التكافل الاجتماعي في الجماعة الإنسانية تتوقف على صدق الإيمان والاختبار الديني لدى أعضاء تلك الجماعة وعلى مدى تحديد العقيدة الدينية التي تدين بها الجماعة لأسس ذلك التكافل.

ورأينا أن سلامة العقيدة الدينية وصيانتها من التحوير والتبديل شرط أساسي لحفظ ذلك التكافل الاجتماعي وهذا لا يعني الجحود والتعصب وإقفال باب الاجتهاد.

فالمشكلة في صيانة العقيدة وسلامتها ووصف المدافعين عنها بالجحود والرجعية والمعتدين عليها بالإلحاد والزندقة ترجع إلى الخطأ في تفهم معنى السلامة ومغزى الصيانة.

فإذا كان للدين أن يكون وسيلة جوهرية فعالة لحفظ التكافل الاجتماعي وتنميته يجب أن تحدد وظائفه ومعانيه. وهذا التحديد لا يمكن أن يمس العقيدة لأن العقيدة فطرة وغريزة كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم (30، 30)(فأقم وجهك للدين حنيفا. فطرة الله التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق الله. ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). وقد استعرضنا في مكان آخر من هذا البحث رأي بعض علماء الاجتماع والأنترولوجيا في صدق هذا القول.

فالاجتهاد إذا في بحث الفلسفة الدينية لا يخضع لأصول المنطق العلمي إذا توخى التعرض للدين من حيث أنه عقيدة، فالعقيدة الدينية قديمة في السلوك الإنساني قدم الأزل لم يطوح بها تطور الفكر الإنساني في العلوم والفنون.

ولئن سعى بعض الناس إلى تحديد معنا الدين ووظائفه فإن سعيهم هذا كثيرا ما يعد من قبيل سوء الاجتهاد إذا تعمد مس العقيدة مسا رقيقا أو غير رقيق.

والاجتهاد الذي من هذا القبيل يبدأ في هدم الأساس الذي يحاول واعيا أو غير واع أن يبني عليه تكافلا اجتماعيا جديدا.

فالعقيدة فطرة غريزية وظيفتها محدده معينة أصولها في النظام الكوني والتكوين النفساني والجسماني للإنسان. ولقد أصاب الغزالي حين شبه العقيدة الدينية بجذع الشجرة ووظائف

ص: 1

الدين الاجتماعية بالأغصان. وقد يستطيع عالم النبات بمعادلة حديثة أن يطعم غصون الشجرة لتؤتي ثمرا حديثا. قد يكون ألذ من الثمر الأصلي أو قد لا يكون ولكن عالم النبات لن يستطيع أن يسلط معادلة على صميم التكوين الطبيعي لجذع تلك الشجرة وإلا قتلها.

ولعل هذا المثل ينطبق على سوء اجتهد بعض الباحثين في تعرضهم للعقيدة وفي سعيهم لتطعيم الدين بالمستجد من التطور الفكري والاجتماعي الذي تمر به الإنسانية في مجرى التاريخ.

ولإشكال الذي صاحب تاريخ الديانات يعود إلى سعي بعض أولي الفكر لتطعيم العقيدة الدينية بالآراء والنظم التي استعدوها، من بيئتهم الاجتماعية والفكرية. وهذا خطأ وصوابه أن توجه تلك النظم والآراء الفكرية والاجتماعية بحيث تلازم جوهر العقيدة الدينية. وذلك لسباب بسيط وهو أن العقيدة فطرة غريزية هي من صميم الوجود؛ بينما النظم والآراء المستجدة متقلبة تبعا لتطور الفكر والبيئة والأوضاع السياسية والاقتصادية.

فالصراع يصبح إذا بين الغريزة الفطرية السليمة وبين البيئة والتطور الفكري. فالأولى أبدية راسخة والثانية متقلبة بتقلب الظروف والملابسات.

والاجتهاد عادة ضرورية للنمو العقلي. فإنك لن تستطيع أن توقف عقرب الساعة وتؤجل استمرار الزمن. والمشاكل الاجتماعية تختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة، ولا بد للدين أن يؤدي وظيفته الاجتماعية إلى جانب وظيفته الروحانية الفطرية الغريزية. ولن يكون ذلك بإقفال باب الاجتهاد على النحو الذي يدعو إلية بعض حفظة الدين في إخلاص وصدق لا مراء فيهما. فمثل هذه الدعوة من قبيل سوء الاجتهاد. فه تنكر على الزمن تطوره وعلى الفكر نموه وعلى المجتمع اضطراد مسيره وميلاد مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة فيه.

والإخلاص والصدق في الدفاع عن العقيدة الدينية وجوهرها وأصولها اجتهاد حميد ولكنه لا يكفي لمواجهة التحدي الذي يواجهه الدين في عالم يزخر بالمستجد من المشاكل والآراء والنظريات التي لم يعالجها الدين في القرون الغابرة.

وهذا التحدي للعقيدة الدينية وحفظها يستوجب التعرف على أسس تلك المشاكل الاجتماعية وعلى جواهر الآراء والنظريات التي تتحدى الدين ووظيفته.

ص: 2

فالذين يحملون على الدين ووظيفته الاجتماعية هم في معظم الحالات مفتقرون إلى الاختيار الديني الصادق، أو بمعنى آخر مفتقرون إلى الغريزة الدينية الفطرية التي هي - كما رأينا - جزء من نظام الكون والتكوين النفساني والعقلي والجسماني للإنسان. فاجتهادهم إذن اجتهاد مريض فقد غريزته فجاء اجتهاده وتفكيره وتحليله مشوها لا تتوفر فيه عناصر الكمال.

وحفظة الدين الذين لا يتعرفون على جوهر المشاكل الاجتماعية والمذاهب الفكرية والسياسية والاقتصادية المعاصرة عاجزين - سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفا بذلك أم لم يعترفوا - عن صياغة اجتهادهم في قلب يحقق النفع الجزيل. فهم والحالة هذه يقفلون باب الاجتهاد ويحولون بين الدين وتأدية وظيفته الاجتماعية - سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه -.

فلو طبقت هذا الوضع على حاضر العالم العربي لوجدت كلا النقيضين ولوجدت تحديا للدين من جماعة فقدوا غريزتهم الدينية الفطرية - أو طمروها تحت ركام من التعليل المنطقي السيئ - ولوجدت كذلك إجابة على هذا التحدي من بعض حفظة الدين يفتقرون إلى سلاح المعرفة الحديثة وهي معرفة شاسعة معقدة لا يكفي للتعرف عليها دروس من الجغرافية والحساب والطبيعة والكيمياء.

فالمكتبة العربية فقيرة فقرا مدقعا في أكثر ما تطفح به الثقافات المعاصرة من فلسفة ودراسات اجتماعية بنيات عليها المذاهب الفكرية المعاصرة - اجتماعية كانت أم فلسفية أم سياسية أم اقتصادية - التي تتحدى الدين ووظيفته الاجتماعية.

ولقد واجهت العقيدة المسيحية في أوربا وأمريكا مثل هذا التحدي في الأزمنة الحديثة فسعت معاقل الديانات المسيحية لمواجهته بالتسلح بالعلم الحديث.

ولقد تسنى لكاتب هذا السطور أن يلمس عن كثب ثروة مناهج العلم والتدريس في بغض المعاقل الرئيسية في أمريكا؛ وبرامج التدريس العالي في هذه المؤسسات لا تترك شاردة ولا واردة من العلم الحديث إلا خصصت لها حصصا تتكافأ وأهميتها ومبلغ تحديها للعقيدة المسيحية الدينية. فهناك فصول في علوم الاجتماع والنفس والاقتصاد والفلسفة السياسية والهندسة والفيزياء العالية والكيمياء المتقدمة وألف نوع ونوع من العلوم الحديثة تدرس في

ص: 3

أرقى مناهج التعليم وأحدثها. وطلبة العلم في هذه المؤسسات يلقنون العقيدة الدينية فترسخ فيهم ويؤمنون إيمانا صادقا مخلصا ثم يدفعون إلى التحصين ضد أسلحة الإلحاد بالتعرف على جوهر تلك الأسلحة علمية مادية أو فلسفة منطقية.

فليس من الغرابة أن تجد قسيسا في أميركا الآن بروتستانتيا أو كاثوليكيا يحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد أو الهندسة أو علوم الطبيعة بالإضافة إلى شهادة اللاهوت. بل الواقع أن هذا الاتجاه أخذ ينتشر الآن انتشارا واسعا في معظم المعاهد الدينية في بريطانيا وأمريكا على وجه الخصوص.

وقد لخص أحد أقطاب الفكر المعاصر في أمريكا هذا الاتجاه فقال: -

(المرء عدو لما يجهل ولكن عداءه يزداد قوة إذا تعرف على ما يجهله واكتشف فيه مواطن الضعف والقوة. فأني أهيب بحفظة الدين وخصومه على السواء أن يحاولوا - قبل أن يتخطوا المنطق الحرام - التعرف تعرفا إيجابيا صادقا على مواطن الضعف والقوة في جوهر تلك الخصومة. فهم لا بد مدركون بالعلم والدين أنهم متممان بعضهما لبعض وكل ما يستجلب السماحة والحالة هذه ملاقاة بعضهما لبعض على صعيد من المعرفة الحقة لجوهر الأشياء لا لظواهرها. وبهذا تزداد عداوتهما قساوة لا لبعضهما بعضا ولكن للجهل الذي ولد بينهما الخصومة.)

ولعل أبرز مزايا حركة الإحياء الديني للإسلام في باكستان تعود إلى تسلح قادتها بهذا السلاح المزدوج الذي قوامه صدق الاختبار الديني والإلمام بالعلوم الدينية في أعلى مراقيها.

فأنت حين تطالع آثار هؤلاء القادة تلمس اتساع الأفاق وقوة الإقناع والاعتزاز بالعقيدة اعتزازا لا يعود فقط إلى رسوخ الاختبار الديني والتقوى في نفوس هؤلاء المصلحين بل إلى إلمامهم إلماما واسعا بالعلوم وعلى تراثها المعاصر والقديم في الشرق والغرب وإلمام هؤلاء السادة بهذه العلوم واستيعابهم للتعاليم الإسلامية استيعابا شاملا مهد لهم سبل الإيمان بقوة الدين الاندفاعية وصلاحها لبناء مجتمع صحيح لا يتعارض مطلقا مع المستجد المفيد في الحضارات الغربية المعاصرة. وأبحاث هذه المدرسة الفكرية الإسلامية في الهند والباكستان لا تعتمد على اللفظ والإنشاء والتبرير أو الاعتذار والوقوف موقف المدافع عن

ص: 4

الدين وتعاليمه، وإنما تتوخى تطعيم النظم السياسية الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة التي وجدت سبيلها إلى حاض المسلمين بجوهر العقيدة المحمدية وتعاليمها. وحركة الإحياء الدينية على هذا الأسلوب تترك العقيدة الدينية وشأنها فهي أجل من أن تجادل وتزج في معترك الجدل البيزنطي ولأنها - وهي غريزة فطرية - لا تستدعي النكران والشك فهي قسم من الوجود الإنساني وجزء من فلسفته وحقيقته. إنما الاتجاه الرئيسي في حركة الإحياء الديني هذه تتوخى صياغة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في قالب إسلامي. وتراث الإسلام - وهو دين عملي ودنيوي - زاخر بالأسباب التي تسهل هذه الصياغة وتجعل منها أسلوبا جديدا من أساليب الحياة، حياة الروح والمادة، وبذلك تحقق للدين تأدية وظيفته الاجتماعية - وهي وظيفة رئيسية على وجه لا يثير الاعتراض ولا يستدعي الثورة الجامحة العاصفة وإنما يستهوي الأفئدة والعقول. فإذا تسلح المصلح بالوجدانيات، المستمدة من الاختبار الديني وواجه بها مشاكل المجتمع، وبالعلم الحديث ثم صاغ الحلول في قالب منطقي مقبول استطاع أن يواجه الحياة العملية في نشاط فريد وفي روحانية تجند لنصرتها العقول الدنيوية (العلمانية) التي لا تؤمن إلا بالمنطق المادي والقلوب المؤمنة التي تبحث عن المجتمع الصالح في إطار الشريعة والحياة الدينية.

نيويورك

(للبحث صلة)

عمر حليق

ص: 5

‌1 - الفارابي

في العالم الإسلامي وفي أوربا

بمناسبة مرور ألف عام على وفاته

للأستاذ ضياء الدخيلي

يقول الأستاذ (كارادفو) في ترجمة للفارابي في دائرة المعارف الإسلامية: (ومذهب الفارابي هو مذهب الفلسفة أعني الأفلاطونية الجديدة الإسلامية الذي بدأ، من قبله الكندي ووجد في كتب ابن سينا من بعده أكمل عبارة عنه، وقد يكون من الراجح أن الفارابي يخالف الكندي وابن سينا في بعض المواضع ولكن من العسير تعيين هذه المواضع، ومن المناسب التحفظ بل الشك في تفسير ما يتعلق بتفصيل مذهبه. والواقع أنا لا نعرف من آثاره إلا قليلا. ثم إن أسلوبه لا يخلو من غموض وفيما عرفنا من رسائله ما هو مصوغ بصورة حكم في نهاية الإيجاز من غير نظام في ترتيبها ثم إنه لا يمكن البت عن يقين بأن مؤلفات كثيرة كمؤلفات الفارابي يتداولها تأثير أرسطو وأفلاطون وأفلاطين تتجرد من التناقض. على أن الفكرة التي تعتبر قاعدة لهذا المذهب وهي التوفيق بين أرسطو وأفلاطون من ناحية، وبين هذه الفلسفة الملفقة والعقيدة الإسلامية من ناحية أخرى ليست في نفسها سليمة من التضارب).

ويرى الأستاذ مصطفى عبد الرزاق أن الفارابي من خير المفسرين لكتب أرسطو خصوصا في المنطق وآثاره في هذا الباب هو الذي جعله يستحق التلقيب بالمعلم الثاني إذ كان أرسطو هو الأول. هذا هو رأي بعض المؤرخين ومنهم (كارادفو)

إن فضل الفارابي لا ينتهي عند تفسير كتاب أرسطو وتصحيح تراجمها والتمهيد بذلك للنهضة الفلسفية في الإسلام التي تكاملت من بعده بل إن له أيضا أنظارا مبتدعة وأبحاثا في الحكمة العملية والعلمية عميقة سامية لم تتهيأ بعد للباحثين الوسائل لتفصيلها تفصيلا وافيا. وللفارابي كتاب في المدينة الفاضلة كما أن لأفلاطون كتابا في الجمهورية الفاضلة. والفارابي هو أول من عنى بإحصاء العلوم وترتيبها في كتابه (إحصاء العلوم) الذي نشره سنة 1931م الدكتور عثمان أمين مدرس الفلسفة بكلية الآداب ووضع له مقدمة طيبة وعنى

ص: 6

بنشره المستشرق الإسباني (بلانسيا) في سنة 1934 ومن أجل ذلك يعتبر بعض الباحثين أبا نصر أول واضع في العالم لنواة دوائر المعارف. ولئن كانت الأجيال تهتف باسم الفارابي منذ ألف عام في الشرق والغرب فإنه قد استحق ذلك بما وهب حياته لخدمة العلم والحكمة وبما ترك من أثر في تاريخ التفكير البشري وفي تاريخ المثل العليا للحياة الفاضلة. ويرى الأستاذ جرجي زيدان معنا أن الفارابي كان أصلا للموسوعات العربية فقد قال في كتابه (تاريخ الآداب العربية) عندما عد كتاب الفارابي (وكتاب إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها وهو من قبيل موسوعات العلم لأنه يشتمل على عدة علوم؛ منها نسخة خطية في الأسكوريال؛ وله ترجمة عبرانية وأخرى لاتينية. وبهذا الكتاب عد الفارابي من مؤسسي الموسوعات العربية وسنعود إلى ذلك) وفي عودته إلى الموضوع قال (إنه في العصر العباسي الثالث أخذت الموسوعات (دوائر المعارف) في الظهور بعد أن وضع أساسها الفارابي. وإن كتاب الفارابي القيم (إحصاء العلوم) قد ترجمه (جرادو دكريمونا إلى اللاتينية، وهو عالم إيطالي ولد في (كريمونا) من مدن إيطاليا الشمالية سنة 1114م ومات بها سنة 1187م؛ وبمدينة طليطلة من أعمال الأندلس عنى بنقل أهم كتب العرب العلمية إلى اللغة اللاتينية ونال بذلك شهرة عظيمة وترجم أكثر من سبعين كتابا من كتب الهيئة وأحكام النجوم وهندسة والطب والطبيعة والكيمياء والفلسفة).

وقد كان كتاب إحصاء العلوم مفقودا كما ذكر المستشرق الإيطالي الشهير (السنيور كرلو نلينو) الأستاذ بالجامعة المصرية سابقا وبجامعة بلرم بإيطالية حيث أفاد في كتابه (علم الفلك وتاريخه في القرون الوسطى) أنه عندما أراد الرجوع إلى كتاب الفارابي (إحصاء العلوم) للتعرف إلى ما كان يقصد كتاب العرب بعلم الهيئة قال (أبتدئ بما قاله الفيلسوف الكبير أبو نصر الفارابي (المتوفي سنة 339هـ 950م) في كتاب له في إحصاء العلوم فقد أصله العربي فلم أقف على ما فيه إلا بواسطة ترجمته اللاتينية لجرادو دكريمونا الخ) ثم يقول (نلينو) زهت بمدينة البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري أي بعد وفاة الفارابي بسنين قليلة جمعية فلسفية سمت أعضاءها (إخوان الصفاء) ومن أعمالها وضع مجموع اثنتين وخمسين رسالة (52) مشهورة برسائل (إخوان الصفاء وخلان الوفاء) وكل رسالة تتبين فيها مبادئ فن من فنون العلم. وأقول معلقا على ما نقله هذا المستشرق

ص: 7

الإيطالي وإذن فإن عهد الفارابي كان من عهود ازدهار الفلسفة الإسلامية. ولعل تلك الجمعية الفلسفية هي قبس من الروح الفلسفية التي أشاعها المعلم الثاني في بلاد الإسلام؛ ولعل موسوعتها (رسائل إخوان الصفاء) تقليد ومحاكاة لموسوعته (إحصاء العلوم) فقد تقدم أن بعض مؤرخي آداب اللغة العربية يعتبرونه من مؤسسي الموسوعات أو هو المؤسس الأول الوحيد لها، ولم أنفرد برأيي هذا فقد اطلعت بعد سنوحه لي على ما كتبه مدرسان في كلية الآداب بمصر هما الدكتور إبراهيم بيومي مدكور ويوسف أفندي كرم إذ قالا في كتابهما اللطيف (دروس في تاريخ الفلسفة):

(تتلمذ للفارابي كثيرون ممن بهرهم بسيرته الصالحة وأخلاقه الوديعة واستولى عليهم بآرائه الناضجة وأبحاثه الدقيقة وقد تأثر به بوجه خاص طائفة من الباحثين هم أشبه بالجماعات السرية منهم بالمدارس العلمية المنظمة ونعني بهم (إخوان الصفاء) الذين لا زلنا نجهل الشيء الكثير عن تاريخ نشأتهم وتكونهم؛ الذين كانوا يمتون في أغلب الظن بصلة إلى الباطنية والإسماعيلية. ومهما يكن من أمرهم فمن المحقق أنهم نشئوا في القرن الرابع للهجرة فعاصروا الفارابي وأخذوا عنه؛ وإن تكن فكرتهم في الفلسفة أوسع مجالا من فكرته فما كانوا يقفون عند أفلاطون وأرسطو طاليس بل جاوزوهما إلى المدارس اليونانية (الأخرى) وهذا يبين عمق تأثير الفارابي في العقلية الإسلامية وحسبك أنه سحر ابن سينا على جلاله وكبريائه فأخذ يشدو بحمده ويعلن عن فضله عليه في تفهيمه علم ما بعد الطبيعة.

وقد تعددت نواحي عظمة الفارابي واختلفت وجوه عبقريته وكثرت أفانين معرفته فهو مرجع في كثير من العلوم غير الفلسفية فهذا نلينو المستشرق الإيطالي يرشد في كتابه (علم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى) - من أراد أن يعرف آراء العرب في علم الفلك والهيئة إلى جملة كتب كان أولها كتاب (عيون المسائل) لأبي نصر الفارابي وهو مجموعة رسائل الفارابي المطبوعة بليدن سنة 1890م ثم بمصر سنة 1325هـ ثم إن الفارابي عرف بعلم الموسيقى وغيره مما سنعود إليه.

ولقد كانت شهرة الفارابي في أوربا ضاربة أطنابها على جامعاتها وساح ذكره في أقطارها. ويقص علينا الأستاذ فرح أنطون في كتابه (ابن رشد وفلسفته) عن مبدأ دخول الفارابي إلى

ص: 8

أوربا أن الفضل في الشروع في ترجمة كتب الفلسفة العربية في أوربا إلى اللغة اللاتينية كان لرئيس أساقفة طليطلة (مونسنيور دريموند) فان هذا الأسقف أنشأ في طليطلة من سنة 1130م إلى سنة 1150م دائرة لترجمة الكتب العربية الفلسفية أخصها كتب ابن سينا إذ لم تكن كتب ابن رشد اشتهرت بعد. أما الكتب العربية الطبية والفلكية والرياضية وقد كان سبقه إليها كثيرون مثل قسطنطين الأفريقي وجربرت وأفلاطون دي تريغولي وقد جعل هذا الأسقف (الأرشيد باكردومينيك كوند بسالفي) رئيسا لدائرة الترجمة وكانت هذه الدوائر مؤلفة من مترجمين من اليهود أشهرهم يوحنا الإشبيلي فأخرجت إلى اللغة اللاتينية كثيرا من مؤلفات ابن سينا؛ وبعد بضع سنوات ترجم (جرار دي كريمونا) و (الفريد دي مولاي) بعض كتب لأبي نصر الفارابي والكندي وبذلك كانت أوربا مدينة لأسقف طليطلة بإدخال فلسفة العرب إليها على يد واحد من كبار الدين) ويحدثنا الدكتور توفيق الطويل مدرس الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فاروق بمصر فيقول أن العالم الأوربي جهل تراث أرسطو منذ بداية المسيحية بل انصرف عن دراسته باعتباره طبيعيا ملحدا وإن سلم بما عرف من مباحثه في المنطق منذ القرن الخامس والسادس للميلاد، ولبث العالم الأوربي على هذا حتى أقبل القرن الثاني عشر وانتقل إليه تراث أرسطو في الطبيعة والأخلاق والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) وعلم النفس وذلك حين اجتاحت قوات ألفونس السادس - أمير قشتالة - مدينة طليطلة عام 1085م وسرعان ما اصطبغ بلاطه المسيحي اسما بالثقافة الإسلامية فأعلن نفسه إمبراطور العقيدتين وحج إلى طليطلة طلاب العلم من كل أنحاء أوربا وأضحت طليطلة للترجمة من اللغات الشرقية كما يقول تراند) في مقاله عن إسبانيا والبرتغال في كتاب (تراث الإسلام) وراحت مكتبة مسجد طليطلة مثابة للعلماء فيما يقول إبرنست باركر) في مقاله عن الحروب الصليبية في كتاب (تراث الإسلام) ولقد أنشأ (ريموند كبير أساقفه المدينة بين سنتي (1130 - 1150م) ديوانا لترجمة الكتب العربية الفلسفية على يد مترجمين من اليهود وأمر رئيس الشمامسة (دومنيك جنديز الفس أرشيدوق سيجوفيا و (يوحنا أفنديث الإشبيلي بترجمة التراث الفلسفي الإسلامي ولا سيما ما خلفه ابن سينا ثم تكفل الديوان بعد هذا بترجمة الفارابي والكندي. وفي النصف الأول من القرن الثالث عشر تولى (ميخائيل الإيقوصي ومن حذا حذوه ترجمة تراث الشارح

ص: 9

الأعظم ابن رشد تحت رعاية الإمبراطور فردريك الثاني الذي اتصل بالعالم الإسلامي في حروبه الصليبية ومهر في اللغة العربية واستخفه الإعجاب بفلسفتها فتاق لنقل تراثهم إلى اللاتينية والعبرية وعلى هذا النحو عرفت أوربا فلسفة أرسطو منقولة إلى اللاتينية عن كتب شراحه ومفسريه من المسلمين وفي مقدمتهم أستاذهم الفارابي. وهكذا تجد أبا نصر يدخل أوربا في فجر يقظتها فما أن فتحت عينها إلى فلسفة العرب وحضارة الإسلام وما أن مدت يديها لتقتبس من أنوار الشرق إلا وجدت الفارابي أبا الفلاسفة الإسلاميين يشق طريقه إلى بلادها يحيط به تلامذته الذين أتوا بعده فساروا على هداه وفهموا الفلسفة كما لقنهم إياها المعلم الثاني مقتبسا وجها عن المعلم الأول أرسطو. وقد قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق والفارابي من خير المفسرين لكتب أرسطو خصوصا المنطق وأثره في هذا الباب هو الذي جعله يستحق التلقيب بالمعلم الثاني إذ كان أرسطو هو الأول هذا هو رأي بعض المؤرخين في الفارابي ومنهم (كارادفو) فترى كل من ذكر الفارابي عرف له فضله في شرحه لفلسفة أرسطو. قال الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام السياسي والثقافي والاجتماعي) وترجع شهرة الفارابي إلى شروحه الكثيرة على مؤلفات أرسطو حيث لقب بالمعلم الثاني تميزا له عن أرسطو الذي لقب المعلم الأول وقال (كارادفو في دائرة المعارف الإسلامية وقد اشتهر الفارابي كشارح لفلسفة أرسطو وقد شرح كتبا لليونان في ما وراء الطبيعة والفلسفة والعلم ولم يقتصر على شرح كتب اليونانيين بل ألف كتبا كثيرة مستقلة.

للكلام صلة

ضياء الدخيلي

ص: 10

‌في آفاق مجهولة

عن الموت. .

للأستاذ محمد رجب البيومي

يقسو الموت على الإنسان فيخطفه من بين أهله وذويه، ويحمله إلى حفرة دامسة حالكة، لا يسطع فيها نجم ولا يهب بها نسيم، ووراءه أكباد تتقطع حسرة على فراقه، ودموع تتساقط حزنا على غربته، وأجسام ترتدي السواد، فتثير كامن اللوعة ودفين الوجد.

وقد يحاول كثير من المرزوئين في أحبائهم وأعزائهم التجلد التماسك فيظهرون الرضا والاستسلام بضع ساعات، ثم تهب عليهم الذكريات الموجعة فتطير الأمن وتمزق الصبر، ويصبح الصابر القانع، كالهالع الجازع، فريسة في أيدي الحزن يمزق أحشاءه، ويريق دموعه، حتى يمن الله عليه بالسلو مرة ثانية فيتماسك ويتجلد، إلى حين محدود. . .!

وكنت أسائل نفسي حين أقف موقف الملتاع بين الكارثة والكارثة، أأنا محق في هذه اللوعة التي أكابد غصصها، وأعاني برحها، أم أن الداء يخونني في موقفي فأظل كاسف البال شارد اللب. ومهما تذرعت بالمنطق والحكمة، فلن أجد الجواب الحاسم لهذا السؤل المعجز. ومن لي به، والموت في حقيقة أمره باب موصد محكم تعلوه أقفال غلاظ شداد فلا يمكن لإنسان أن يعرف ما وراءه مهما أجهد الفكر وواصل التنقيب.

ولعل غموض الموت سبب أصيل للحيرة التي يعانيها الإنسان من جرائه، فلو أدرك المرء أمره، وما يعقبه من خطوات مستترة خافية، لا تنتهي إلى نتيجة معينة، ووقف عند حد لا يقبل التجاوز ووطد العزم على قبوله راضيا أو كارها، وهنا تتبدد الحيرة وينتهي التساؤل، ولكن ذلك لن يكون، فالباب موصد، تعلوه الأقفال، ولن يزال ما وراءه خافيا عن الإفهام. . . وهذه الحيرة التي تكتنف كل مفكر في مصيره، متأمل في عقباه، لن يخلو منها إنسان رزق نصيبا من المعرفة. سوء أكان مؤمنا عميق اليقين بما لديه من نصوص أم شاكا يتقلب على جمر الريب والظن. فالإيمان بالله واليوم الآخر لا يحل المشكلة بحال، لأن الذي يعتقد البعث والنشور، يتساءل عما قبل البعث من خطوات فلا يظفر بجواب. وقد يجد أقوالا متفرقة هنا وهناك فلا يلمس فيها النجاة والراحة، بل ربما ضاعفت شكوكه، وأثارت كوامنه. ولقد كان مالك بن دينار رضي الله عنه راسخ اليقين قوي الإيمان، ومات له أخ

ص: 11

شقيق فجزع عليه جزعا شديدا، وقال لمن واساه:(والله لن أرتاح حتى أعلم ما هو عليه بعد الموت، ولن أعلم ما هو عليه حتى أصير إليه) فكأنه لا راحة له طيلة الحياة!

والإنسان إذا استبدت به الحيرة، ودفعته إلى التفكير في أمر مبهم غامض، لا يزال ينتقل من رأي إلى رأي ومن مذهب إلى مذهب، حتى إذا اطمأن إلى معتقد راسخ عاودته الشكوك فتركه إلى سواه. وهذا سر التشعب فيما قيل عن حقيقة الموت وما يليه من خطوات. ومن المسلم به أن كثيرا من الناس قد فكروا في مصايرهم، وخرجوا بنتائج تقترب وتبتعد، وتتفرع وتتجمع، ومنها ما يقف من الآخر موقف المناقض المباين، وأنت تجد بين هؤلاء من يحذر الموت ويخشاه وينظر إلى يومه المحتوم خائفا مذعورا، كما تجد بينهم من ينشد الموت، بل ربما ركض إليه واثبا، فأشاح عنه وتعذر عليه، ولكل من الفريقين دليله المستمد من ظروف معيشته، وواقع حياته - في الغالب - وقد يكون من الأوفق أن نسأل من يحذرون الموت لم يحذرون؟ كما نسأل من ينشدون الموت لم ينشدون؟ ولكل وجهة هو موليها، فبأي منطق يجيب.

لقد كان للفكرة القاتمة التي يأخذها الطفل عن الموت منذ نشأته أثر بغيض يعكس على نفسه شتى الصور الرهيبة، ويزيل من مشاعره معاني الاطمئنان والأمن، فهو في - سنيه الأولى - يسمع الصراخ الفاجع، ويرى الدموع المتقاطرة من أقاربه وذويه، فيسأل عن سر هذا الفزع، فتطرق سمعه لأول مرة كلمت الموت ممزوجة بالنشيج والبكاء، فيبكي هو الآخر متأثرا بما يرى ويسمع، ويتوالى الحمام كعادته بين الناس، فيعيد إلى الطفل ما عرفه من البكاء والنحيب، فيعلم أن الموت كارثة فادحة، ومصيبة حارة، ويتغلغل هذا الأمر في إدراكه ووجدانه، فيشب كارها للموت قبل أن يدرك حقيقته، وقد دأبنا أن نلقن الطفل في مختلف أدواره التعليمية أنباء قاسية عن ملك الموت وما تعانيه لدى انفصالها النهائي من هم وتبربح، فيتعاظمه الأمر، ويتخيل نفسه وقد أحيط بهذه الكوارث فلا يجد مفرجا من ضيق. هذا إلى الأساطير الخيالية التي تتحول في بعض الأذهان عقائد ثابتة، فترسم للذهن الزبانية والمقامع النارية في صور رهيبة حالكة، فلا يسعه إلا الفزع من الموت، ذلك الغول الرهيب الذي ينقل الناس فجأة من الجنة إلى النار. ولو أننا أعطينا للطفل صورة مقبولة عن الموت، وبعدنا بينه وبين من يحتضرون، فلا يشاهد ما يعانيه المريض في مرحلته

ص: 12

الخيرة من آلام وتبريح، لهان الأمر علي بعض الشيء، ونظر إلى الموت - فيما بعد - كأمر تنتهي إليه الكائنات، ولكن متى يكون ذلك!

وليست ملابسات الموت وحدها السبب في خوف الإنسان وفزعه من القدر المحتوم، بل يضاف إليها أشياء وأشياء، فكل إنسان مهما تجنب الرذيلة، وآثر الفضيلة، لا بد متعرض في بعض مراحل حياته إلى ما يغضب ربه من الآثام، والضمير رقيب يقض غير نائم فيظل يذكر المرء بما اقترفه، وإن كرت الأيام عليه، فإذا تصور الإنسان وقد حان حينه، ودقت ساعته الآزفة مع أنه قد أسلف ما أسلف من ذنوب سيحاسب عليها حسابا منصفا تأكد من العقاب العادل، وعجز عن حمل التبعة الثقيلة، ومن ثم فهو يبغض الباب القاتم الذي يدفعه إلى الجزاء والحساب، وينظر إلى موعده المحتوم نظرة الخائف المتفزع. ونحن وأن كنا نطمع في عفو الله، ونأمل في الصفح والغفران، لا بد من صور معقولة لهذا اليوم تصد النفس الأمارة بالسوء، على أن نتخيل بجانبها صور بهيجة ذات مفاتن وأضواء لمن يعتصم بالأدب والأخلاق، وهنا يكون الموت غير مخوف إن آلم بذوي المروءة والدين، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقائه كما قيل.

ولن ننسى في هذا المقام ما يبعثه القبر المظلم الضيق في النفوس من رهب وإيحاش، فكثير من الناس تتفتت أكبادهم حسرة حين يتصورون أجسامهم في حفرة دامسة خانقة لا يقر بها النور والهواء، وكأني بهؤلاء الجازعين وقد وهموا أن إحساسهم سيصحبهم في هذه الغياهب الحالكة، فيشعرون بما يشعر به الحي حين يوضع في صندوق مقفل خانق، ولو كان الأمر كذلك حقيقة، لجل الصبر، وعظم الخطب، ولكن أما يتناقص الجسم يوما بعد يوم؟ أما ترتع فيه الديدان والهوام أسوأ مرتع في محبسه الرهيب؟ أما يمر علي يوم ينعدم فيه ويتلاشى وتتحول بقاياه إلى ذرات؟ أين إذن يكون الألم والإحساس؟ وإذا سلمنا منطقيا أن الجسم لا يألم بعد وفاته وانعدامه، فلم لا يندرج عليه هذا الحكم حين ترتع به الديدان والهوام وهو سجين حبيس! ولم نخاف الظلمة والضيق والهامد الراقد لا يشعر بها بحال؛ ذلك نوع من الخيال!؟

لقد سطر كثير من الكتاب صحائف مفزعة عن القبر وما يتراكم فيه من ظلمات وأهوال، فتركوا أسوأ الأثر في نفوس ونغصوا على الناس حياتهم ومعاشهم شر تنغيص. وهل كان

ص: 13

الحمام محتاجا إلى ما يريدونه من الإرهاب والتخويف، فجاءوا يضيفون إلى أهواله الحقيقية والمتوهمة أكداسا فوق أكداس!

هذه بعض الهواجس التي يرددها الخائفون الوجلون، وقد حاولنا أن ننقذها بعض الشيء مما يغمرها من المبالغة والتهويل، ولن نتمادى معهم في مخاوفهم المتشبعة، فلدينا الفريق الآخر الذي يرحب بالموت ويرسل في تمجيده الشوارد السائرة، وأنت تجيل طرفك فيما سطره هؤلاء فتجد سيلا جارفا من الحكم والأمثال قد سيق سوقا في هذا المضمار، فمثلا قائل (مقابر من ماتوا منازل راحة)(إن سئمت الحياة فارجع إلى الأرض. .) ومن قائل (ضجعت الموت رقدت يستريح الجسم فيه). . (فيما موت زر إن الحياة ذميمة) ومن قائل (وقفت حين تركت الأم دار)، (خضم الحياة بعيد النجاة) وقد فاقهم جميعا من يقول في رثاء صديق:

كذبتك لم أجزع عليك وقد رمى

فؤادك من نيل الحمام ظلوم

تمر الليالي لا نحس صروفها

فيما ليتني في الهالكين مقيم

تجوت من الدنيا نجاة نفسها

عليك ولو أن الفراق أليم

ولم أر مثل العيش أزهاره الردى

ولا عاصفا كالموت وهو نسيم

فهل عان على هؤلاء طعم الحياة كما يقولون، وهل يحنون إلى التراب حنينا خالصا بريئا؟ وماذا أعجبهم في المستقبل المجهول وهو ملئ بالغرائب والشكوك؟

وجه هذه الأسئلة إلى من يصبون اللعنات على الحياة، ووجه هذه الأسئلة إلى من يرحبون بالانتحار؟ فلن تظفر من هؤلاء بكلمة صادقة في حب الموت، فهم غارقون إلى آذانهم في مخاوفه ومآسيه، ولكنهم يلمسون القسوة الصارمة من الحياة. فيتعرضون إلى الفشل المخجل والخسارة الفادحة، والناس لا يرحمونهم في شيء، بل يلوكون أحاديثهم، ويمضغون مآسيهم شامتين فرحين، ويدور الفاشل بعينه فلا يرى من يرمقه بالعطف، أو يلتمس له العذر في ذلة، وقد يتضاعف وهمه فيظن أن الناس جميعا يتندرون به في كل مجتمع وناد، فيضيق في وجهه العيش، وتسود في عينيه آفاق الحياة، ويفزع إلى مصرعه البغيض كارها مرغما، وهو يوطن نفسه على ما ينتظره من شدائد وأهوال.

أعرف ثريا موسرا رتع في بحبوحة النعمة والترف أمدا غير قصير ثم ضربه المرض

ص: 14

بذات الجنب فكان يتقلب على سريره متأوها صارخا وقد حاول الأطباء أن يهدئوا من لوعته فما رجعوا عليه بطائل. وفي غفلة من أهله ألقى بنفسه من شرف عال، فلفظ بقية أنفاسه. وأعرف عشرات غيره من المعدمين البائسين بهظتهم الحياة بتكاليفها الضرورية، وتضورت بطون أطفالهم جوعا وحرمانا، فها لهم أن يقعد بهم العدم عن إسعاد أولادهم فخفوا إلى الموت مرغمين، وفي صدورهم مراجل من اللوعة تغلي وتحتدم حتى تنفجر انفجارا، يراه الناس انتحارا فجائيا، في الواقع بعيد الأمد عميق الجذور! فيا هؤلاء لا تقولوا إنكم تحبون الموت، ولكن قولوا إنكم لم تجدوا مفرا من الموت فسعيتم إليه فزعين غير مختارين!

ولكن مالنا نزيد الأمر هولا فوق هول، فنؤكد المخاوف، ونقلق النفوس، وأولي بنا أن نعمد إلى شيء من التهدئة، والتلطيف! الحق أن الفناء رهيب مهول، وأن من دافعوا عنه يلجئون إلى العقل وحده فيقنعونه تارة ويدفعهم تارات، أما العاطفة فقد أوصدت منافذها دونهم أي إيصاد، فما وصلوا إليها في قليل أو كثير، وأنت تقرأ لهؤلاء في تمجيد الموت والترحيب به أقوالا أخذت سمت المنطق في القياس والاستدلال، فلا تجد شيئا من قبولك الصريح وهيهات أن يكون ذاك، واسمع ما يقوله أحد فلاسفة الإسلام على سبيل المثال:

قال ابن مسكويه - ما فحواه - (والإنسان في أصح تعاريفه حيوان ناطق ميت، فبالموت يبلغ كماله ويصل إلى نضجه فلم يخاف إذن من الكمال؟ وكل ينشده ويبتغيه) فهل راقك هذا الكلام؟ قد يتحير عقلك بين الرفض والقبول، إن لم يرفضه بادئ ذي بدء دون نقاش، أما العاطفة فتأباه وتتحاشاه، والإنسان ليس عقلا فقط، ولكنه عقل ووجدان!

لقد مات سقراط وهو يتحدث عن الخلود مرحبا، وجاء بعده مئات من الفلاسفة والحكماء فشغلوا أنفسهم بما شغل به سقراط، فهل اقتنع بمنطقهم إنسان، وهل رغب أحد في الموت ليصل إلى الخلود والبقاء؟ لقد ذهب كلام الفلاسفة أدراج الرياح، وجاءت الأديان فأنقذت الملايين من البشر ومالت بهم إلى عقيدة ثابتة بددت شكوككهم، وأغثتهم من الحيرة والارتياب، حتى إن جاهليا بدائيا تقلقه وساوسه فيسعى إلى الجمع الحاشد بعكاظ فيوجه إليه هذا السؤال (ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا؟) وتمضي الأيام مديدة طويلة فلا يرجع من الراحلين عائد ينبئ بما شاهد، وأنى لغائب أن

ص: 15

يعود، وقد قامت دونه الصفائح، وسجنته الأجداث!

ربى حولها أمثالها إن أتيتها

قرينك أشجانا وهن سكون

كفى الهجر أنا لم يضح لك أمرنا

ولم يأتنا عما لديك يقين

(المنصورة)

محمد رجب البيومي

ص: 16

‌أبطال اليهود

بين القرآن والعهد القديم

للأستاذ محمد خليفة التونسي

قبل عامين كتبت مقالا في هذه المجلة مقدما به إلى قرائها كتابا كان ظهوره في تلك الأيام عجيبا مريبا، وكان موضوعه (موسى) ومؤلفه عالما مصريا، وكان مما لاحظته وسجلته في مقالي عنه يومئذ ما نصه:(والمؤلف يسوق قصة موسى كما وردت في القرآن وقصته كما وردت في التوراة على أنهما متكاملتان، وهذا السياق يوقعنا في خطأ كبير. وهاأنذا أقرر - ولا أدري أحدا سبقني إلى قراري هذا - أن الصورة التي يتبينها القارئ في نصوص القرآن لموسى تختلف اختلافا كبيرا عن الصورة التي يتبينها له من تأمل نصوص التوراة، وأن الله في نظر موسى كما ذكر القرآن يختلف اختلافا كبيرا عن (يهوه) في نظر موسى كما ذكرت التوراة، فإن موسى المؤمن بالله الواحد غير موسى الذي اختص هو وقومه بعبادتهم (يهوه) مرة، و (الوهيم) - ومعناها الآلهة - مرة أخرى)، ثم بينت هناك بالإجمال صورة (يهوه) إله موسى كما تستخلص من نصوص التوراة.

وهذه الملاحظة لا تصدق على موسى والإله في نظره فحسب، بل تصدق على كل أبطال اليهود قبله وبعده ممن رسمت صورهم أو جوانب بارزة منها في القرآن والعهد القديم معا، ولو كانت الوقائع في كلا الكتابين متفقة أو كالمتفقة.

ولا خلل في هذه القاعدة إذا طبقت على أكبر هؤلاء الأبطال وهو إليهم أو على أصغرهم، ولا حاجة بنا إلى تغيير كثير أو قليل فيها إذا قارنا بين صورتي أي بطل عداه من الأنبياء والملوك والزعماء والعامة سواء أكانوا في الصالحين أم في الطالحين ومجمل النتيجة التي ننتهي إليها بعد عقد كل المقارنات يمكن حصره في هذه العبارة الوجيزة: صور هؤلاء الأبطال في القرآن (صور إسلامية) وصور في العهد القديم (صور يهودية).

وقد يشتد الخلاف بين صورة البطل هنا وصورته هناك حتى يبلغ حد التناكر. وتبرؤ كل صورة من الخرى، كاختلاف الضدين أو النقيضين. وقد يدهشنا بقاء هذه الحقيقة خافية - مع قربها ويسرها - حتى الآن.

فالكتابان كلاهما معروفان حق المعرفة للملايين منذ عهود سحيقة؛ ودرس الديان وكتبها

ص: 17

دراسة مقارنة علم (قائم يدرسه علماء مشهود لهم بالتضلع والأستاذية) في كل جامعات العالم، وعلماء أمثالهم في غير الجامعات؛ ولكن دهشتنا عند النظرة الأولى خليقة أن تزول عند النظرة الثانية؛ إذ تتكاشف لنا أسباب خفاء هذه الحقيقة القريبة اليسيرة. فمن أسبابه أن القائمين بدراسة هذا العلم علماء غير أدباء، وهم ينظرون إلى موضوعاته نظرة علمية لا فنية. ومن أسبابه أن أكثرهم من صغار العلماء، والعالم الصغير في يده منهج، وفي وجهه عينان ينظران في اتجاه واحد، وليس يلزم نفسه ولا يلزمه أكثر الناس - حتى المثقفين - أن يكون له في رأسه عقل واسع يعي ما يرى، ولا أن يكون بين جوانبه قلب كبير يحس به، فهو إذن أحسن الفهرسة والتعداد والتنسيق - وهذا غاية وسعة - كان هذا حسبه في نظر نفسه وفي أنظار الناس، لأن المسألة عنده عملية حسابية تجمع فيها أجزاء إلى أخرى، أو تطرح منها، وليس بنية حية تعاشر وتؤلف كالأزواج والأقرباء والأصدقاء. ومن أسبابه أن أكثر القائمين به من اليهود وتلاميذهم الذين يسيرون على نهجهم المغرض العقيم.

فأما العلماء اليهود فمغرضون لأن همهم تبيين فضل الديانة اليهودية وأسفارها على ما تلاها من الديانات والفلسفات الدينية وكتبها وما إلى ذلك، أما ما تأثر الناس به منها؛ أو ما كان لها من آراء كالآراء التي كانت للنابغين قبلها وبعدها عند الأمم الأخرى. ومعلوم أن العهد القديم أقدم أسفار الديانات الكتابية وحصر البحث في الحيز الضيق، وتناول النظم بعد تفتيتها على النهج العلمي الجاف هما الكفيلان ببيان فضل اليهود ونبوغهم. وهذا على فرض أمانة هؤلاء العلماء في البحث وهذا الغرض قد يعذر اليهود بشأنه على ما فيه من مآخذ.

ولكن لهم غاية شر من هذه الغاية وهم يسيرون على هذا النحو المضلل، هي تشكيك المسيحيين والمسلمين_وهم أقوى مزاحمي اليهود_في الديانتين، فالعالم إذا تمكن من تفتيت الدين، وأعاد كل فتات إلى مصدر قلبه ولو لم يكن المصدر يهوديا_استطاع أن يمحق قداسة الدين في القلوب والعقول، وبخاصة عند المسلمين الذين يعتقدون أن القرآن وحي من الله أنزله على محمد فبلغه من غير أن تكون له مشاركة فيه، وهذا يخالف ما يعتقد المسيحيون في الوحي، إذ يرون أن كتاب الأناجيل هم كاتبوها بإلهام من الله وإشراف عليهم منه.

ونحن إذ نلاحظ ذلك غير غافلين عن أن هذا المنهج قد طبقي مجال أوسع مما أراد اليهود،

ص: 18

فقد قام علماء من غير اليهود ومن اليهود أيضا بعقد مقارنات بين كثير مما جاء في العهد القديم ولا سيما التوراة وما جاء في الشرائع والعقائد السابقة له عند الأمم القديمة كالمصريين والبابليين والهنود وغيرهم فزعزعوا من مكانة العهد القديم ما زعزعوا، ولكن في أنظار غير اليهود، فأما اليهود فهم متمسكون بنصوص كتبهم المقدسة وحروفها ونقطها برغم كل نقد وهدم سواء في ذلك أحبارهم والملحدون الذين ينكرون الله والأديان فيهم. فحتى السلع التي يصنعها اليهود في نقد كتبهم إنما هي سلع للتصدير إلى غير اليهود لا للاستهلاك المحلي بينهم كما يقال بلغة التجارة، وهم يروجونها بكل مالهم من حول وحيلة، لأن ضررها واقع على غيرهم لا عليهم، وإنما مثلهم في ذلك مثل صناع المسكرات والمخدرات وتجارها الذين لا يعاقرونها.

وأما تلاميذهم من غير اليهود فمعظمهم ببغاوات (تبغبغ) بما تلقن دون فهم أو تصور، أو هم مورطون بأهواء تحول بينهم وبين الخارج على أساتذتهم، وأكرم هذه الأهواء أنهم أمام أساتذتهم كهان أوثان في عالم وثني أو شبه وثني يعترف لأوثانهم بالتقدير والإجلال عن جدارة أو عن غيرها. وليس مما يليق في (صناعة) الكهانة، ولا مما يغتفر أن يهون الكاهن من شأن وثنه أمام الناس صراحة أو رمزا، على حين أنه لا ينتظر منهم أن يحترموه إلا لسبب واحد هو أنه كاهن ذلك الوثن. فتقديره لوثنه تقدير لكهانته هو، ودفاعه عنه دفاع عن نفسه، فهو ملتزم شريعته أمام الناس؛ ولو كان هو به في أعماق سريرته أكفر الكافرين.

وهؤلاء التلاميذ على خير الوجوه علماء لا أدباء، وهمهم التحليل والتركيب، والمنهج التحليلي وحده لا يمكن أن يتأدى بنا إلا إلى ضلال.

ومن أسبابه أن من وراء هؤلاء وهؤلاء مستهلكين أو مروجين لا ناقدين ولا صناعا، وهذا على فرض أن هذه الموضوعات من همومهم، فكيف وليست هي كذلك ولو كانوا من الثقافة في أرفع مكان.

ومن أسبابه أن هذه الموضوعات تتناول مسائل الدين، وهي دقيقة شائكة، والتورط فيها غير مأمون العواقب، وأكثر الناس - ولا جناح عليهم - يؤثرون لأنفسهم السلامة والعافية، فلوفهم المهتمون بها شيئا منها، لآثروا - حبا للسلامة والعافية - أن يقتصروا منها على الفهم لأنفسهم أو مع خلصائهم غير ملومين، ويتوجسون خيفة أن يظهروها، وحسبهم بعد

ص: 19

كل أنهم (فاهمون).

ومن أسبابه أن هذا العلم - أو هذا النمط من المعرفة الموكل بدراسة الموضوعات - علم حديث أو ضيق على رغم ذيوعه، والدراسة لم تتسع حتى تشمل كل موضوعاته ولا سيما على النهج الفني الذي نريده، وهو لم يظفر حتى اليوم بالأدباء والأكفاء الذين يستطيع الواحد منهم أن يحيد فيها علما وشعورا بموضوعه الذي يتصدى له، ويفقهه حق الفقه، ونحن مفرطون في الشطط والوهم إذا انتظرنا من أديب واحد أن يستوعب كل موضوعاته، فبحسب الأديب إتقان ما يتعرض له منها.

ولو أهم موضوعنا هذا أحدا من المسلمين قبل اليوم، وكان له أهلا لما عز عليه أن يناله لأنه قريب يسير، ولا تحفنا بكتاب ذي أجزاء عدة في هذا الموضوع الطريف.

وهذه هي أهم الأسباب التي يمكن أن تقال - إزالة لدهشة الجهل، وتعليلا لخفاء هذه الحقيقة - وهي أن صور أبطال اليهود في القرآن (صور إسلامية) وصورهم في العهد القديم (صور يهودية) والخلاف بين صورتي كل بطل منهم خلاف واسع، قد يصل إلى حد التناكر والتبرؤ، كما يختلف العدوان اللدودان. وأهم ظاهره في هذا الخلاف هو عصمة هؤلاء الأبطال في القرآن عما لا يليق بهم، وعدم عصمتهم في العهد القديم عن ذلك، وهذا باب واسع، والطريق من ورائه طويل كثير العقبات، والسير فيه محفوف بالأخطار، ومجمل ما يقال إتماما للبيان أن الديانتين الإسلام واليهودية - مع اتفاقهما في النظر إلى كثير من الأعمال والحكم عليها حكما واحدا - مختلفان أبعد الاختلاف في النظر إلى أعمال أكثر منها، وفي الحكم عليها، فمن الأعمال ما تعده اليهودية فرضا لازما، ويعده الإسلام محرما كل التحريم، فتحديد ما يليق وما لا يليق عمل شاق كل المشقة وإن يكن ممكنا يسيرا. ومرجع ذلك إلى أن اليهود فوجئوا بديانتهم قبل أن يتمدنوا ويأتلفوا مع غيرهم، ويحسوا بالإخاء لهم، وتمت ديانتهم وهم قبيلة بدوية تضرب في آفاق شرقا وغربا، فتداس من القبائل التي هي أقوى منها، وتستبعد من الأمم التي تتصل بها، وبقيت هذه الديانة راسخة متماسكة حتى الآن في القبيلة لأسباب يطول شرحها، فهي لا تحس بواجب عليها نحو غيرها من البشر، لأنها عندما تكونت ديانتها كانت في حالة حرب مع كل الناس ومع الطبيعة نفسها وإلههم نفسه لم يسلم من هذه العداوة رغم حرصهم على عبادته وحده، فهم لا

ص: 20

يتفوهون باسمه مثلا، وهم يقسمون البشر. إلى يهود وهم الشعب المختار، وجويهيم من عداهم من البشر، ومعنى جويهيم الكفرة والوثنيون والأنجاس والحيوانات، وتترجم أحيانا في العربية كلمة الأمميين، وقد عثرت لها على لفظ قرآني ليته يشتهر ليغنينا في ترجمة إذ جاء في سورة آل عمران في بيان عدم اعتراف اليهود لغيرهم من الناس بأي حرمة (ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل) أي أنهم غير ملتزمين بأي شريعة في معاملة غيرهم، فلهم قتل غير اليهودي وسرقت ماله وانتهاك عرضه، ولا جناح عليهم في ذلك عند إلههم (يهوه) كما كانوا يعتقدون، وكما لا يزالون يعتقدون إلى اليوم فالأمر إنكار كل حرمة، لا الاعتراف بها والتعدي عليها.

واعتذر عن سلسلة هذه الحقائق الكثيرة كلها في هذا الإيجاز الذي قد يجعل بعضها غامضا، فأكثر هذه الحقائق رءوس موضوعات، أو قواعد في حاجة إلى مثال بل أمثلة، وكل واحدة منها لا يجليها إلا مقال كامل، وقد أشرت إشارة قصيرة إلى المنهج الأدبي الذي أراه أنسب المناهج لدراسة هؤلاء الأبطال وعقد المقارنات بين صورة كل بطل في القرآن وصورته في العهد القديم وأعني به فن التراجم، فالمنهج الذي يغني هنا هو المنهج البيوجرافي الذي يهتم برسم الصور لا سرد السير، وإبراز (التركيبة) حية كاملة كما فعل بلوتارك في كتابه (العظماء) والعقاد في (عبقرياته) دون الاستغراق في الأجزاء التي تتركب منها (التركيبة) على طريقة العلماء المحققين من المؤرخين، ولو استوعبت كل جزء.

ولن يفوتني أن أهدي هذا المفتاح المتواضع لمن يتقدم إلى فتح باب هذا الموضوع الطريف، ولن أعفي نفسي من استعماله مرات في مقالات ستأتي إن شاء الله وعذري في إيجاز المقال ضيق المجال.

محمد خليفة التونسي

ص: 21

‌نبضات الحياة في الشعر الجاهلي

للأستاذ حمدي الحسيني

كان للعرب في جاهليتهم حصن من جزيرتهم حفظها الله وحماها، وسور من حدود هذه الجزيرة المباركة. عاشوا في هذا الحصن الممنع كراما أعزاء، أحرارا مستقلين. لا يعلوهم سلطان ولا يخضعون لمن يحاول الاستبداد بهم، فظلت نفوسهم مطلقة على طبيعتها، وغرائزهم مرسلة على فطرتها. فجاء أدبهم مرآة لهذه النفوس وصورة لهذه السجايا. قوة في المعنى مع سذاجة، ورصانة اللفظ مع بساطة. يقذف إليك العربي الحر المستقل العزيز الكريم بقطعة من الشعر فتجد نفسه مجلوة في هذه القطعة، كما يجلي وجه الحسناء في المرآة المصقولة، فتشرق عليك بقوتها وبساطتها إشراقة الشمس، لا يشوبها ضعف ولا يشوهها استسلام.

وهل يمكن أن ترى للضعف ضلا فيما يصوره ذلك العربي من صورة نفسه في أدبه وهو لم يضعف أمام ظالم ولم يخضع لطاغية غاشم.

هذا امرؤ القيس الذي كان مغموسا في ملذات الشباب مدفوعا في تيار الملاهي والمسرات، يقتل أبوه الملك، فينعاه إليه الناعي فلا تضطرب نفسه ولا يجيش فؤاده، بل ينهض للأمر العظيم وقد نسلى ملذات الشباب وملاهيه، يأخذ بثأر الملك القتيل ويسترجع صولجان الملك الضائع. هدف عظيم يثير في هذه النفس العظيمة قوة العراك والمغالبة، فيندفع هذا المغيظ المحنق، المفجوع بأبيه وملكه، بكل ما في نفسه من شدة وعنف وصرامة، يكافح الصعوبات التي كانت تقف في سبيله شامخة مستعلية، ويقاوم العقبات التي كانت تعترض طريقه متجبرة متكبرة

ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب، قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

ظل يحاول تذليل الصعوبات وهدفه العظيم يثير في نفسه القوة والثقة بالنفس ويحاول إخضاع العقبات وغايته السامية تبعث في روحه الأمل في النصر.

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينك إنما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

ص: 22

ظل يحاول حتى خر صريعا فمات معذورا مشكورا.

إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني

عنيت، فلم أكسل ولم أتبلد

ألا ترى هذا البيت الذي يكاد يقفز عن صفحة الكتاب، فتى مملوء النفس بالقوة وحماسة الفتوة، ويده على مقبض سيفه يلتف يمنة ويسرة ليرى القوم الذين كربهم الكرب ودهمهم الخطب، ليدعوه فيأخذ بناصرهم ويريد عنهم الكرب الذي دهم، والخطب الذي اقتحم. وأية فضيلة في قائمة فضائل البشر أعلى قيمة في التلبية التي لباها طرفه؟ وأي خلق إنساني أمتن من هذه السرعة في البادرة لنصرف المستنصر وغياث المستغيث؟

وإن أدع للجلي أكن من حماتها

وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد

وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم

بكأس حياض الموت قبل الّهدد

ثم ألا تنتظر إلى هذين البيتين الذين يصوران لك نفسا قوية ولكنها متسامحة، والتسامح ضرب من القوة أيضا. هذه نفس طرفة الذي خاصمه ابن عمه وعاداه ولم يترك في معاداته طريقا إلا سلكها، ولكن طرفة ينسى كل هذه المعاداة ويتسامح مع ابن عمه، ولا يقف عند حد التسامح السلبي بل يعدوه إلى المناصرة بالسيف إذا اعتدى على ابن عمه المعتدون. والويل كل الويل لهؤلاء المعتدين إذا قذفوا عرض ابن عمه الذي يعتبره عرضه، وهو في الحقيقة كذلك. وتراه يسوق كل هذه الفضائل نحو ابن عمه على متن هذه الكاف الخطابية التي جعلها بهذه العواطف النبيلة تشع نورا وجمالا.

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه

يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم

ألست ترى الحياة كلها محمولة على يدي هذا البيت من الشعر الذي تركه زهير ميراثا للعلم والأدب والفلسفة والاجتماع والسياسة. وهل الحياة غير هذا القتال المسلح ذودا عن موارد الحياة ومناهلها؟ وإذا أنت لم تحمل السلاح ولم تقاتل ولم تدفع هذه الأيدي المتطاولة إلى وطنك فماذا يكون المصير؟ أليس مصيرك أن تقع في أيدي الظلم والاستبعاد؟ وهل تستقر نفسك على هذا المصير؟ إذا كان لا بد من الظلم في هذه الحياة فكن أنت الظالم لا المظلوم.

أنا إذا التقت المجامع لم يزل

فينا لزاز عظيمة جشامها

خذ الثقة بالنفس والشعور بالقوة رغم كل ما يوهم الضعف والخور. فلبيد، يؤكد للناس أجمعين أن قومه لم يفقدوا قوتهم ولم يزايروا قدرتهم على القتال ولا يزال فيهم من بتجشم

ص: 23

العظائم في الأيام التي تفوح فيها رائحة الموت شهية في سبيل المجد والفخار.

إذا ما الملك سام الناس خسفاً

أبينا أن نقر الذل فينا

إذا اطمأن الناس للظلم حرصا على طعامهم وشرابهم وراحت أجسامهم رأيت هؤلاء الناس أفرادا وجماعات تتلظى نفوسهم آلما من وقع الخسف، وتتحول هممهم قذائف من نار وحديد لدفع هذا الخسف الذي رضى به غيرهم من عبيد الشهوات. وهل هذا البيت الذي قذف به عمرو ابن كلثوم إلا القاعدة المثلى للتمرد على الظلم؟ وهل هو إلا الطريق الواضح للانقلابات السياسية والاجتماعية في تاريخ البشر.

اثني علي بما علمت فإنني

سهل معاشرتي إذا لم أظلم

فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل

مر مذاقته كطعم العلقم

هذه القطعة من معلقة فارس بني عبس، تعطينا صورة جميلة لما انطوت عليه نفس الشاعر البطل من رقة مؤنسة، ولطف مغر بالمعاشرة يستوجب ثناء المحبين والعشراء، حتى يظلم. فإذا ظلم فهناك ننقلب الحال وتتبدل الأرض غير الأرض والسماء غير السماء. تنقلب الرجل الرقيق الهادي أسدا مزمجرا يقاتل دفاعا عن نفسه وذيادا عن حريته وكرامته. ويظل يقاتل حتى يدفع الظلم ويرد الأذى.

ما جزعنا عند العجاجة إذ ولوا

شلالا وإذ تلظى الصلاء

فريقان من الأبطال يتساقيان كؤوس الموت شهيا في سبيل النصر العزيز، حتى لاح جبين النصر مشرقا لقوم اليشكري إذ ولى خصومهم فرارا من لظى الحرب المتقدة. وإنك لترى ابتسامة الإيمان بالنصر تلمع في صدر هذا البيت من الشعر كما كان الإيمان بالنصر يشرق في صدور أولئك الأبطال الذين فازوا بالنصر على أقرانهم في ذلك الموقف الذي ما كان فيه للشجاع غير النصر أو الموت.

حمدي الحسيني

ص: 24

‌2 - فن القيادة

للكاتب الفرنسي أندريه موروا

بقلم الأستاذ محمد أديب العامري

أما رسالة الزعيم فهي أن يوجه أعمال الآخرين. ومن المحتوم عليه أن يعلم إلى أي هدف يتجه بهم. وأعظم صفات الزعيم أهمية أن يكون ذا إرادة قوية يجب أن يعرف كيف يقر المبادئ ويتخذ المقررات وكيف يضطلع بمسئوليتها. ومن الطبيعي أن يحيط علما بالظروف وأن يزنها حق الوزن قيل أن يصل إلى أي رأي. فإذا أصدر أمره وجب أن يلتزم ذلك لا يحيد عنه إلا إذا قامت في وجهه عقبة لم ينتظرها أو لا يستطيع التغلب عليها. وليس يذهب بشجاعة الناس وإقدامهم شيء كالزعيم المتردد. وقد قال نابليون (إن الحزم سيد الأعمال).

ولكي يقر الزعيم رأيه يجب أن يكون ذا شجاعة أدبية عظيمة. وقد تكون قرارات الزعيم أحيانا شديدة الأذى له. ففي بداية الحرب العالمية الأولى اضطر (جوفر) أن يعزل عددا كبيرا من قواد الحرب الذين كانوا جميعا أصدقاءه. ويقع أحيانا أن تكون التضحية بالعدد القليل من الرجال سبيلا إلى اتجاه العدد الكبير. هذا ويستطيع الزعيم أن يكون شديد بل من الواجب أن يكون كذلك. على أنه ليس من حقه أن يكون سيئ النية أو فظا أو منتقما، كما أن من واجبه أن يعرض عن القيل والقال بل أن يمنع القيل والقال ما استطاع.

ومن الضروري أن يكون حوله عدد من المساعدين المخلصين الذين يستطيعون أن يعرفوا المسائل الثانوية. ويجب أن يعلو على الصفائر فلا يغرق في التفاصيل. ولكي ينفذ أوامره يضطلع بالعمل مساعدوه الذين اختارهم والذين يثق بهم كل الثقة. فهو يأذن لهم بالعمل بحرية ويكتفي بالإشراف، عن طريق التدقيق بين آونة وأخرى في صحة البيانات التي يدلون له بها. قيل للجنرال ليوتي: ما الذي تقوم به أنت؟ فقال (إني مهندس الأفكار العامة). إن القائد الخبير يعرف أنه لا يستطيع أن يدخل في تفاصيل ما يقوم به كل واحد من أعوانه. ويصح هذا بصورة خاصة في المسائل الاقتصادية، فهنا يجب أن يحصر نفسه في بيان الخطط العامة وفي التجديد في أن المصلحة الخاصة يجب أن تخضع للمصلحة العامة. وهو لا يعمد إلى خطة تصدم الملايين فتؤول إلى مقاومة الأكثرية منها. إن ضابط حركة

ص: 25

السير ينظم هذه الحركة ولكن لا يعين لكل سيارة الطريق الذي يجب أن تنساب فيها.

إن رئيس عمل من الأعمال يجب أن يبعث الاحترام في نفوس الذين يعملون معه، فإذا عجز عن ذلك تسربت إليهم الشكوك وأخذوا يتآمرون. وليس هناك إلا طريق واحد لكسب الاحترام، وهو أن يكون المرء جديرا به. والقائد العظيم شخصية عظيمة كذلك فإنه غير متحيز وغير ذي مصلحة خاصة. ولعل (بلدوين) و (بوانكريه) كانا قليلي الذكاء، بل كان بلدوين ويعترف بذلك. ولكن كلا منهما كان رجل مبادئ وأمانة مالية لا يتطرق إليها شك. وقد أوصى بلدوين بجزء من ثروته للأمة، وما كان بوانكريه يستفيد قط من موظفي الحكومة لقضاء حاجاته الخاصة. وكان كلاهما يتمتع بصفات الاستقامة التي يحتاج إليها مدير المصنع أو يتطلبها أب في ابنته. وأضفت هذه الخصال البسيطة عليهما قوة عظيمة. ولقد تختلف معهما في السياسة أو تتفق، ولكن خصومهما لم يجدوا غضاضة في أن يتبوأ الحكم. ومما يزيد الحاكم المطلق قوة اقتصاده وفي النفقات وعدم انصياعه للفساد في عمله.

ويجب أن لا تكون للقائد إلا عاطفة واحدة هي عاطفته نحو عمله ومهنته. كما يجب أن يكون متحفظا، حتى إلى درجة إضفاء غلالة من الشك حول نفسه. إن الرجل في رواية (كبلنغ) التي عنوانها (الإنسان الذي يكون ملكا) كان مغامرا استطاع بقوة أخلاقه وحدها أن يسود عدة قبائل جبلية وأن يصبح زعيمها. ولكنه خسر مركزه وعرشه عندما ضعف إلى حد الوقوع في شرك فتاة من شعبه، فأذن لها أن ترى أنه كان رجلا عاديا وحسب. ولقد قال نابليون (ما أكثر الرجال الذين يقعون فريسة المشاكل من جراء ضعفهم أمام امرأة).

وهنا يجب أن نتحدث عن زوجة الزعيم، فإن عليها وظيفة صعبة تؤديها. إنها يجب أن تدافع عنه تجاه العالم كله وأن تحميه من التعب الذي يرهقه دون جدوى. وأن تتحاشى ما يؤذيه، وأن نجعل من بيتها مستقرا هادئا، لا أن نخلق له إمبراطورية أخرى يحكمها، فهذه إمبراطورية يصعب عليه حكمها أكثر من أي شيء آخر.

وقد وقع أثناء مناقشة في الصفات الضرورية للرجل السياسي بمحضر من (وليم بت) أن ذكر أحد الحاضرين الجد، وذكر آخر النشاط، وذكر غير الفصاحة. أما (بت) فقد قال إن الصفة الضرورية لرئيس وزارة هي الصبر، ولقد أصاب. فإن الصبر ضروري لا لرئيس وزارة فقط، ولكن لجميع الذين تلقى إليهم مقاليد قيادة جماعة من البشر. إن الغباء عنصر

ص: 26

بحسب الزعيم حسابه دائما في التعامل مع الناس. والقائد الحقيقي يتوقع أن يصادف هذا دائما، ويتهيأ للصبر عليه ما دام نوعا عاديا من الغباء، وهو يعلم أن أفكاره ستنضر، وأن أوامره ستنفذ في غير عناية، كما يعلم أن الحسد يقع بين مساعديه. إنه يدخل هذه الظاهرات كلها في حسابه، وبدل أن يحاول إيجاد رجال لا يخطئون (وهؤلاء غير موجودين) فإنه يجهد نفسه في الاستفادة من أحسن الرجال الذين يحيطون به ليستفيد منهم على علاتهم، لا كما يجب أن يكونوا.

وهناك نوع آخر من الصبر، وهو المثابرة. فإذا انتهى الزعيم إلى غرض وحققه فإنه لا يتصور أن أمور بلاده قد استقامت إلى الأبد، لأنه لا يستقيم شيء في هذا العالم استقامة لا مغير لها. ولقد قال نابليون (إن أشد اللحظات خطرا هي لحظات النصر) فالحديقة المنسقة تنمو فيها الإعشاب إذا ما أهملت بعض الوقت، والبلاد الغنية القوية لا تتعرض بضع سنوات لسوء النظام إلا سقطت في أيدي شر أبنائها وعدا عليها جيرانها. والزعيم يعرف أن جهوده لا تؤتي ثمرات باقية، وأن هذه الجهود يجب أن تتجدد كل صباح.

والحزام فضيلة أخرى لها ذات قيمة. ولقد قال (ريشليو)(إن الكتمان روح الأعمال الوطنية) وأضاع شارل الأول ملك إنكلترا عرشه لأنه أضاع الحزم. فسوء التدبير أوقعه في أن يطلع زوجته الفاتنة على خطة ينتويها إزاء عدد من نواب البرلمان، فأطلعت إحدى وصيفاتها الوثوقات على ما سيقع فلم تضع الوصيفة وقتا في أبطال هذا إلى بعض أصدقائها الذين سارعوا فأوصلوا الخبر إلى النواب المهددين. فلما حان الوقت لتنفيذ الخطة الواسعة، وجد الملك أن فريسته قد ولت وأن الناس يحملون السلاح ضده. والمغزى من ذلك أن لا تعلن شيئا إلا إذا كان ضروريا، وللرجل الذي يجب أن تعلن إليه الخبر، وفي الوقت المناسب لذلك فقط.

كتب (ديجول)(لاشيء يمكن للسلطة كالصمت) فالكلام يغمر الفكر ويفقد المرء شجاعته. إنه بالاختصار يضيع التركيز اللازم. ولن يكن إنسان في هدوء (بونابرت) ولقد اتبع الجيش الكبير خطواته. وكتب (فيني)(عرفت ضباطاً أشتملوا على الصمت، فلم يقولوا كلمة ألا إذا أصدروا أمرا). ولقد عرف (الرئيس كولدج) حق المعرفة أن الصمت ينفعه، فأتخذ هذه الصنعة مبدأ له في الوصول إلى أهدافه وفي تكوين فكرة خرافية عن نفسه.

ص: 27

وكان (لويس الرابع عشر) ذا خلق رصين يبعث الخوف والاحترام في الناس، ويمنع حتى المقربين إليه ممن أعجب بهم من أن يتصرفوا معه بحرية حتى في الأمور الخاصة. ولا ريب أنه من الصعب جدا على زعيم أن يجد التوازن بين التحفظ والهدوء اللازمين له في عمله والحب المطلوب من إزاء الذين يعملون معه، ولكن مما لا ريب فيه أن هذه العقبة تزول بسهولة عندما يعمل الزعيم الحذر اللازم واللباقة المطلوبة من رجل خلق للقيام بأعباء الأعمال العظيمة مضاف إلى هذه الصفات شجاعة القائد وصحته، فإن الصحة الجيدة تزيد الزعيم قوة، وهذه تمكنه من الصبر والجد والإرادة الماضية. ومن الصفات التي كان يتمتع بها (المارشال جوفر) شهيته للطعام وقوته على النوم. وإلى هاتين الصفتين نعزو كسبنا لمعركة (المارن) لأن التوازن الصحي العضوي يشحذ قوي الدماغ (إن الهدوء هو أعظم الصفات التي يجب أن يتصف بها الرجل الذي قدر له أن يحكم) ويذكرنا هذا بما كان يصنعه (جاليني) بعد أن يصدر الأوامر في ساحة القتال، فإنه كان يتناول كتابا فيقرأ وكان (ليوتي) وهو ضابط صغير دهشا من هذا السلوك ولكن (جاليني) كان يجيبه (لقد قمت بكل ما أستطيع، والآن أنتظر ما يحدث، وفيما أنا أنتظر أستطيع التفكير في شيء آخر). ولقد كانت هذه طريقة حسنة لتهدئة خواطره، والتمكن من موقفه. إن الذين تثقلهم أعباء أعمالهم فلا يستطيعون أن ينحوا وساوسهم جانبا ليفكروا فيها بعد، إنما هم أناس لا قيمة لهم.

إن الأخلاق في الدرجة الأولى من الأهمية، لكن الذكاء لا بد منه على كل حال. ومن المستحسن أن يكون القائد واسع الاطلاع. وتزيد دراسة التاريخ والشعر من علمه بعواطف الناس. وإن الثقافة لترد المرء بين آونة وأخرى إلى الرصانة اللازمة، وهي تتيح له فرصا تطلعه على نماذج من النظام والوضوح في الأشياء. وإن قيادة جيش والنهوض بأمة لعمل فيه ولا ريب معنى فني. فالرجل الذي يكتسب حس الجمال مما يقرأ ويطالع يكون أكثر نجاحا في المهمة التي ينهض لها.

ولقد كتب (المارشال فوش) فقال إذا كانت قيمة الدراسات العلمية هي تدريب العقل على أدراك القوانين والأبعاد المادية فإن الأدب والفلسفة والتاريخ تولد الفكر القادر على فهم العالم الحي. وبهذا يشحذ الذكاء ويتسع أفقه ويظل دائم الحيوية والإنتاج عند التفكير في

ص: 28

آفاق اللانهاية. وستزيد أحداث المستقبل حاجة الضابط في الحرب إلى استيعاب الثقافة العامة إضافة إلى اختصاصه الفني.

ومما لا جدال فيه أن المعرفة الفنية شيء ضروري. وعندما نشرت منذ زمن كتابي (حوار في القيادة) كتب إلي (المارشال فيول) كتابا جاء فيه:

إن الرجل يكون ضابطا قديرا إذا كان ذا أخلاق وكان مرهف الذوق، ذا اطلاع واسع عام، ولا يكون ذلك إلا بعد دراسة طويلة. ولا يعلم الناس إلى الآن علما كافيا أن كثيرين من القادة في الحرب الماضية كانوا أساتذة في الكلية العسكرية، فإنني أنا و (فوش) و (بيتان) وكثير غيرنا كنا أساتذة قبل أن نصير جنرالات، وكانت خبرتنا ناتجة عن التدريب العلمي الذي جرى في الكلية، وكان هذا التدريب قائما على دراسة التاريخ والتدريبات العلمية. وقد كنا ندرس الكتب المدرسية والتمرينات التحريرية في الشتاء، ونقوم بدراسة تطبيقية ومناورات عملية في الميادين في الصيف. ولك أن تتصور أن الرجل الذي حل مدة سنوات مشاكل مختلفة في الأساليب العسكرية لا يضطرب أي اضطراب في ساحة القتال. وإنك لن تعجز عن ابتداع حلول للمشاكل إذا كان التدريب واضحا وقائما على أصول منطقية فيجمع النواحي المادية والعقلية والأخلاقية لتؤدي جميعا غرضها بنسب صحيحة. ومما تجب عناية به أن لا تهمل صفة على حساب أختها فإنها جميعا ضرورية.

إن تفكير الزعيم يجب أن يكون بسيطا واضحا فأن العمل يصبح صعبا عندما يكون الدماغ محشوا بالخطط والنظريات المعقدة. والصناعة المنظمة تنظيما بالغا تفقد من المواد اللازمة لها بمقدار ما تستهلك صناعة لا نظام لها. (ولذلك كانت الصناعة القائمة على مشاريع صغيرة يديرها رجل واحد أحسن إنتاجا من الشركات الضخمة لأن تكاليفها أقل، وإنتاجها أعلى قيمة) فالزعيم يجب أن تكون آراؤه قليلة وبسيطة جدا، قائمة على الاختبار مؤيدة بالتجربة. وهذا البناء القائم على الخبرة سيكون ذا غناء كبير فيما ينفذ من أعمال لما ينطوي عليه من المعرفة الموثوقة.

ومن المحتم على الزعيم أن يستطيع الاستفادة من عقول الآخرين. قال (ريشليو)(يجب أن يتحدث المرء قليلا ويصغي كثيرا إذا أراد أن يحكم أمة حكما صحيحا) ولكن الإصغاء إنما يكون لرجال محدودين ذوي معارف صحيحة. ولا ريب أن الصمت صفة ممتازة، ولكن

ص: 29

من الممتاز كذلك أن نحمل ذوي الكلام الفارغ على الصمت.

ومما يجب أن يتمتع به الزعيم أو القائد بديهة حاضرة. فان الوقت عامل كبير في جميع المهمات، والخطة غير الكاملة يطبقها صاحبها في الوقت المناسب أفضل من خطة كاملة تنفذ متأخرة عن موعدها. وتشتد أهمية الوقت أحيانا إلى حد يصبح له المقام الأول. فليس لوزير الطيران مثلا أن يقول. (ما هو الوقت الذي أستطيع أن أبني فيه خمسة آلاف طيارة بما عندي من الرجال والميزانية وبما سيصادفني من المشاكل الإدارية) ولكنه يقول:(إذا كان علي أن أبني خمسة آلاف طيارة قبل حلول الربيع فما هي الميزانية التي يجب أن ألح في طلبها؟ وما هو المجهود الذي يجب أن يقوم به الموظفون لإنهاء المشروع في الوقت المعين)؟ والبطء يمكن أحيانا أن يكون قتالا في جميع الأعمال. فالسرعة لازمة في عمل الملابس كما هي لازمة في الحرب وكما هي لازمة في إدارة بنك أو جريدة. والرئيس هنا يفكر بسرعة ويحيط نفسه برجال ينفذون بسرعة كذلك.

للكلام بقية

محمد أديب العامري

ص: 30

‌كوريا

للأستاذ أبو الفتوح عطية

قبلة الطامعين وموطن الصراع بين المتنازعين ومقبرة المحاربين من كلا الفريقين. معركة بدأت ولكن لا تبدو لها نهاية. كلما آذنت شمسها بالأفول عادت إلى التجدد والاشتعال، وكلما صرع قوم من البشر جئ بآخرين فأكلتهم المدافع ولم تبق منهم ولم تذر!!

هنا في كوريا التقى الدب الروسي بالحمل التركي. لقد كان الدب شديد الهجوم على الحمل في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وكان الناس ما يكادون ينتهون من سماع أنباء حرب بين الدب والحمل إلا عادوا إلى قصة أخرى وغارة أخرى فكان النزاع والصراع دائمين يتجددان في كل لحظة ويبدآن بين فترة وفترة. ثم خفت النزاع وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وعاد الشوق إلى الدب الروسي فأراد أن يرتشف من دم الحمل التركي وعز عليه اصطياده في الشرق الأوسط، ولكن الحمل ألقى بنفسه بين يدي الدب الروسي في كوريا فتلقاه الدب فرحا متهللا وهناك شرب الدب من دم الحمل وارتوى بعد أن طال به الظمأ!

قبلة الطامعين:

ولعلك تسألني ما قصة هذه الحرب وكيف بدأت؟ لقد تنفس الناس الصعداء منذ سنين خمس حين أفلت شمس الحرب العالمية الثانية وظنوا أنهم سينعمون بالسلام طويلا وبأن الرخاء سيعود إلى العالم من جديد بعد أن مزقته سيوف الحرب وقنابلها الذرية. ولكن هذا الحلم الجميل لم يتحقق، فما يدري الناس أهم في حرب أم في سلم أم أنهم في هدنة قد تؤدي إلى الحرب، ذلك أنه للآن لم تعقد معاهدة للصلح كما جرى العرف عقب انتهاء كل حرب، وزاد الطين بلة أن حلفاء الأمس أصبحوا اليوم أعداء بعضهم لبعض. فقد وقف الروس بجانب الإنجليز والأمريكان للقضاء على طاغية القرن العشرين هتلر، فلما فرغوا من عدوهم تنازعوا أمرهم بينهم وانقسم العالم إلى كتلتين إحداهما شرقية والأخرى غربية لكل منهم مطامعها وأمانيها، واستيقظ الناس على دوي المدافع تؤذن بحرب جديدة وكان الميدان كوريا.

أين تقع:

ص: 31

هنالك في أقصى شرق القارة الآسيوية تقع الجزائر اليابانية أو أرض الشمس المشرقة وفي مواجهة هذه الجزائر تقع شبه جزيرة كوريا وهي مفتاح القارة الآسيوية ولا تستطيع أية حكومة يابانية أن تطمئن على نفسها إلا إذا كان هذا المفتاح في يده أو في جيبها فإن من يملك كوريا يهدد اليابان.

وفضلا عن هذا الموقع الحربي الهام فإن كوريا تتمتع بثروة اقتصادية: زراعية ومعدنية عظيمة كانت اليابان في أشد الحاجة إليها، فهي تنتج كميات وافرة من الأرز والشعير وفول الصويا والتبغ والقطن كما تزرع أشجار التوت وتربي الماشية، وثروتها المعدنية عظيمة ففيها مناجم الذهب والحديد والفحم والجرافيت.

ومن أجل هذه العوامل مجتمعة تطلعت اليابان إلى الاستيلاء عليها مما أدى إلى قيام حروب أهمها: الحرب الصينية اليابانية والحرب الروسية اليابانية.

الحرب الصينية - اليابانية 1894

ظلت اليابان دولة متأخرة حتى إذا كان منتصف القرن التاسع عشر استيقظت من نومها فزعة على أصوات المدافع الأمريكية والإنجليزية لترى مدى تأخرها وضعفها، فهبت من رقادها وقامت تعمل على إدخال المدنية الحديثة في بلادها ولم تمض سنون طويلة حتى كانت اليابان دولة متحضرة قوية تقاتل بأسلحة الغرب وتنافسهم في ميداني العلم والصناعة.

هنا وجدت اليابان نفسها في حاجة إلى توسيع تجارتها وإيجاد أسواق لها ونافست سفنها وتجارتها الأوربيين في الأصقاع المجاورة لها؛ بل إن تجارتها لاقت رواجا أكثر من التجارة الأوربية والأمريكية.

على الشاطئ الآسيوي المقابل وجدت كوريا. كانت كوريا دولة مستقلة وقد سبق أن غزتها اليابان في القرن السادس عشر ولكن تمكن الكوريون بمساعدة الصينيين من طرد اليابانيين واستردت كوريا استقلالها وقد اتفقت الدولتان على تقسيمها إلى منطقتي نفوذ فظلت موضوع تنافس بين الدولتين.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر احتلت التجارة اليابانية في كوريا مكانة أثارت الحقد في نفس الصين مما أدى إلى قيام الحرب بينهما 1894. وفي هذه الحرب انتصرت اليابان لأنها كانت تقاتل بالأسلحة الحديثة بينما كان الصينيون من أشد أعداء المدينة

ص: 32

الحديثة وأدواتها وآلاتها، وطرد الصينيون من كوريا وانتقل ميدان القتال إلى منشوريا واستولت اليابان على ميناء بورت آرثر.

استنجدت الصين بالدول ولكن هذه لم تنجدها فاضطرت الصين إلى عقد معاهدة شيمونسكي وفيها اعترفت الصين باستقلال كوريا ولكن هذا كان معناه انتقال كوريا إلى اليابان وسلمت الصين ميناء بورت آرثر وجزيرة فرموزا لليابان.

على أن الدول وخاصة روسيا لم تلبث أن تدخلت لمنع اليابان من وضع قدمها في القارة الآسيوية وكانت روسيا تطمع في هذه المنطقة فأنذرت اليابان بإخلائها. ولما كانت اليابان قد أرهقتها الحرب مع الصين. فقد اضطرت إلى قبول مطالب الدول وأخلت منشوريا وميناء بورت آرثر.

وهكذا انتهت هذه الحرب وحكم على الصين بغرامة مالية تدفعها لليابان. وقد احتاجت الصين إلى المال للوفاء بدينها فلم تجده إلا لدى روسيا.

الحرب الروسية اليابانية 1904

كان من نتائج مساعدة روسيا للصين أن ارتمت الصين في أحضانها وانتهزت الفرصة روسيا فعملت على نشر نفوذها في منشوريا وكوريا، ففي 1895 أنشئ بنك روسي صيني وسمح لقيصر روسيا بمد خط حديدي عبر أراضي الصين في منشوريا إلى فيلاديفوستك وسمح له أيضا بوضع جنود في منشوريا لحماية السكة الحديدية.

وفي 1898 استأجرت روسيا ميناء بورت آرثر لمدة 25 سنة وبدأ الروس يعملون على تحصينه وأنشئوا خطا حديديا إلى حزبين ليتصل بسكة حديد سيبيريا وهكذا تحقق حلم روسيا فأصبح لها على المحيط الهادي ميناء لا تتجمد مياهها شتاءا.

استاءت اليابان من احتلال روسيا لمنشوريا وبورت آرثر وهي مناطق كانت تطمع فيها ثم زاد الطين بلة أن روسيا أخذت تعمل على نشر نفوذها في كوريا فاحتجت اليابان.

أعلنت الروسيا أكثر من مرة عزمها على إخلاء منشوريا ولكنها لم تفعل وأعلنت روسيا احترامها لاستقلال كوريا ومع ذلك بدأت تتعدى عليها.

في صيف 1903 ضاق صدر اليابان فطلبت من روسيا إيضاح نواياها في منشوريا وكوريا فلجأت هذه إلى المماطلة والتسويف فاضطرت اليابان إلى إعلان الحرب في 5

ص: 33

فبراير 1904.

كانت اليابان قد أعدت عدتها وهي قريبة من الميدان فحطم الأسطول الياباني الأسطول الروسي في بورت آرثر وكذلك هزم الأسطول الروسي في فلاديفوستك وأصبحت لليابان السيطرة البحرية في الشرق الأقصى.

ثم نزل اليابانيون إلى البر وتمكنوا من حصار بورت آرثر وطاردوا الروس إلى مكدن وفي أول يناير 1905 اضطرت بورت آرثر إلى التسليم.

وأقبل الشتاء فتحمل الروس خسائر فادحة، وفي 9 مارس 1905 سلمت مكدن وخسرت روسيا 40 ألف قتيل و100 ألف جريح.

وقد أبدى اليابانيون في هذه الحرب بسالة نادرة ودقة في النظام كانت مضرب الأمثال وأثارت إعجاب العالم عامة والشرقيين خاصة لأنهم كانوا يرون في انتصار اليابان انتصار لهم. وقد خلد شاعر النيل هذه الحرب في قصيدته التي مطلعها:

أساحة للحرب أن محشر؟

ومورد الموت أم الكوثر؟

وهذه جند أطاعوا هوى

أربابهم أن نعم تنحر؟

قد أقسم البيض بصلباتهم

لا يهجرون الموت أو ينصروا

وأقسم الصفر بأوثانهم

لا يغمدون السيف أو يظفروا

فمادت الأرض بأوتادها

حين التقى الأبيض والأصفر

وأثمنتها خمرة من دم

يلهم بها الميكاد والقيصر

والبيض لا ترضى بخذلانها

والصفر بعد اليوم لا تكسر

فما لتلك الحرب قد شمرت

عن ساقها حتى قضى العسكر

ويختتمها قائلا:

تسوءنا الحرب وإن أصبحت

تدعو رجال الشرق أن يفخروا

أتى على المشرق حين إذا

ما ذكر الأحياء لا يذكر

ومر بالشرق زمان وما

يمر بالبال ولا يخطر

حتى أعاد الصفر أيامه

فانتصف الأسود والأسمر

فرحمة الله على أمة

يروى لها التاريخ ما يؤثر

ص: 34

وقد حاولت روسيا إنقاذ الموقف فأرسلت أسطولا من بحر البلطيق فوصل في مايو 1905 إلى مياه كوريا حيث حطمه اليابانيون بقيادة الجنرال توجو. وإلى هذا يشير حافظ بك إبراهيم بقوله

وذلك الأسطول ما خطبه

حتى عراه الفزع الأكبر

ظن به طوجو فأهدى له

تحية طوجو بها أخبر

تحية من واجد شيق

أنفاسه من حرها تزفر

فهل درى القيصر في قصره

ما تعلن الحرب وما تضمر

فكم قتيل بات فوق الثرى

ينتابه الأظفور والمنسر

وكم جريح باسط كفه

يدعو أخاه وهو لا يبصر

وكم أسير بات في أسره

نفسه من حسرة تقطر

وأخيرا تدخلت الولايات المتحدة وطلبت فتح باب المفاوضة للصلح وأمضيت معاهدة بورتموث وبها:

(1)

اعترفت روسيا بالنفوذ الياباني في كوريا واعترفت اليابان باستقلالها ولكن في 1907 أرغم إمبراطورها على اعتزال عرشه وضمت لليابان.

(2)

قرر الفريقان إخلاء منشوريا وبورت آرثر ولكن تقرر أن تنتقل الحقوق التي نالتها روسيا إلى اليابان.

وهكذا انتهت الحرب.

الحرب الحالية:

ظلت اليابان في تقدمها وأخذ نفوذها يزداد ووقفت بجانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى ولكن في الحرب الثانية غيرت خطتها ودخلت الحرب بجانب ألمانيا وإيطاليا وانتهى الأمر بهزيمتها وباحتلالها إذا احتلها الأمريكان 1945.

أما كوريا فقد قسمت إلى إقليمين كوريا الشمالية وهذه تدين بالشيوعية وتعتبر منطقة نفوذ روسي، وكوريا الجنوبية وهي تعتبر منطقة نفوذ أمريكية. حاول الشيوعيون ضم كوريا الجنوبية فلم توافق أمريكا واعتبرت هذه عدوانا عليها وهكذا تجددت المأساة؛ فالأمريكان في اليابان يرون الآن ما رأته اليابان منذ نصف قرن وأكثر من أن وجود كوريا في يد

ص: 35

دولة معادية خطر عليهم ومن هنا قامت الحرب الحالية وهي ما تزال سجالا بين الفريقين.

أبو الفتوح عطية

مدرس أول العلوم الاجتماعية بمدرسة سمنود الثانية

ص: 36

‌رسالة الشعر

الوطن المكبل

للأستاذ إبراهيم الوائلي

إلى الشعوب التي تتطلع إلى الحرية والاستقرار فيجرها

المستعمرون وأذنابهم إلى الهاوية وهي لا تستطيع الدفاع

تنقلي تنقلي على بساط المخمل

واستقبلي الربيع في موكبه المخضل

فنسمة عطرية من نسمات الشمأل

ونغمة حالمة من نغمات البلبل

وزهرة نافحة من زهر القرنفل

تنقلي على الربى وفي ضفاف الجدول

وانطلقي مع الصباح والضحى والطفل

في عالم مجنح يسمو على التخيل

من دوحة وارفة إلى غدير سلسل

لك الحقول فامرحي وزهرها فقبلي

وكل ينبوع جرى في السهل أوفى الجبل

لك الفضاء والمروج والجمال فاحفلي

ولى وهل في الكون شيء لا أقول: ذاك لي؟

لي الشعور ثائراً وهو سلاح الأعزل:

ولي كآبة الرجاء وانطفاء الأمل

تنقلي على (الفرات) فهو عذب المنهل

و (دجلة) اصدحي على ضفافها وهللي

لك العراق روضة يانعة لم تذبل

فحومي على (الخليج) واخفقي في (المعقل)

ص: 37

وحلق في (بابل) إن شئت أو في (الموصل)

لك الرحيق فاشربي من صفوه المسلسل

وعللينا بالخيال من بقايا الوشل!

يا ضيفة الحقل الذي حف بمن لم يبخل

تنقلي ما شئت في أوطاننا واهتبلي. .

سوانح اللذة في مجالها المفضل

ولا تخاف حارسا فكلهم في شغل

في نهم ليس له من آخر وأول

تقاسموا بقية من فضلة لم تؤكل

مما تبقى منك يا (ضيفة) هذا المنزل

فهذه قصورهم مع الغيوم تعتلي

حافلة بكل ما نيل وما لم ينل

وهذه بطونهم تشكو من الترهل

مما ارتشوا أو نهموا من عالم (مغفل)

يا ضيفة الحقل وما سواك بالمدلل

ترنحي في وطن مشتت مضلل

وعششي وأفرخي فيه وما شئت افعلي

وسخري أذنابه لسحق رب المنجل

وغارس متشح بطمره المهلهل

وعامل كفنه نسج دخان المعمل

وخاضعين كم جثوا لصنم أو هيكل

يسوقهم سيدهم سوق النعام الهمل!

يا ضيفة الحقل اهتفي على الربى ورتلي

أغنية ساخرة بالوطن المغلل

واتخذي من جهله للنهب خير السبل

ص: 38

فإنه في شغل عنك بداء معضل

بفرقة حزبية قامت على التكتل

و (نزعة) عابثة تسقيه مر الحنظل

ترن في أوصاله مثل رنين المعول

تثيرها سياسة مملوءة بالدغل

ويمتطيها نفر باسم الكتاب المنزل

من الألى ما احترقوا الدين لحل مشكل

كم حللت أهواؤهم ما ليس بالمحلل

وكم أذاعوا وافتروا على النبي المرسل

واتخذوا من دينه القيم شتى الحيل

لكي تعيش حفنة أكراشها لا تمتلي

من كل من لولا هوى مستعمر لم يصل

ولم ينل غير الذي ترمي ثقوب المنخل

لكنها سياسة ذات رتاج مقفل

إلا لمن يمدها منه بحبل موصل

وينحني في بابها انحناءة التسول

ليشتري منصبه بالوطن المكبل

بكل ما يملك من ماض ومن مستقبل

بالشعب. ما الشعب سوى قطيع ضأن مهمل!

ببائس بمعدم بثاكل بمعول

بساعة يصرفها في حكمه المزلزل

لله يا شعب الألى مدوا رواق الأزل

في بابل و (نينوى) وفي عهود الرسل

وفي تراث خالد كان رواء المجتلي

وأمة كم هدرت بصوتها المجلجل

ص: 39

ما للفراتين يسيلان على تمهل؟

وفي الضفاف (شوكة) تحز كل مفصل

جاء بها في غفلة عهد الولاة الأول

فأوغلت ممتدة في القطر شر موغل

ولن تزال هكذا تصيب كل مقتل

ما بقيت (حثالة) في مأمن وموئل

تسود شعبا جائعا من الحفاة العزل!

فيالجرح ناغر في الشرق لم يندمل

وأمة حائرة من عيشها في مجهل

يحكمها من لم يكن منها ومن لم يسأل

فمن ظلام مدبر إلى ظلام مقبل

وفترة ضاق بها كل أديب أمثل

ولم تدع من أمل لشاعر مؤمل

أما لفجر باسم من رعشة في المقل؟

إبراهيم الوائلي

ص: 40

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

الأستاذ توفيق الحكيم:

صدر مرسوم ملكي بتعيين الأستاذ توفيق الحكيم مديرا لدار الكتب المصرية، وقد سرني ذلك، لأمرين:

الأول ما يدل عليه هذا الاختيار من حسن التفات الدولة إلى الكفايات الممتازة والانتفاع بها فيما يناسبها من الأعمال، فهو اختيار خالص ممحض لوجهته، وشخصية توفيق الحكيم إنما تقوم على ساقين متينتين من الأدب والفن، لم يستند إلى من يقدم، ولم يسر في ركابه، ولم يصطنع غير إنتاجه، فامتداد وعي الدولة إلى خلوته يدعو إلى الارتياح الذي شعر به الجميع إزاء هذا التعيين.

الأمر الثاني ما يرجى على يده في دار الكتب، وسيرى الأستاذ الحكيم في الدار نوعين من موظفيها جديرين بالالتفات، النوع الأول جماعة من (الأفندية) يحسنون (الهنكرة) ينقلون الكلام ويلفقونه ويوقعون بين الناس، ويتقربون بذلك إلى من بيده الأمر، متخذين وسائل الملق وحسن السمت وفرط الأدب. . . حتى لا ينقض أحدهم إلا الفرجون يمسح به. . . وهذه الفئة تسد الطريق في وجه النوع الثاني. لأنها تستقبل الفوائد فتلقفها، ولا يكاد يصل شيء إلى القابعين في محاريب العلم والعمل. . . وأقصد بهؤلاء - وهم النوع الثاني - أولئك العاملين في خدمة العلم والأدب في دار الكتب، وخاصة بالقسم الأدبي، وكثير منه مضت عليه عشرات السنين هناك وخرجت على يده نفائس الكتب وذخائر الأدب محققة منسقة أدق تحقيق وأجمل تنسيق، وهم مع ذلك مرزوءون في أرزاقهم، حتى انسدت نفوسهم من الإهمال وسوء التقدير.

وليست المسألة كلها متعلقة بأشخاص أولئك العاملين في خدمة العلم والأدب في دار الكتب، وبمن يعولون، إنما هي - إلى ذلك - مسألة العلم والأدب، مسألة العمل في إخراج الكتب، فقد كاد هذا الجهاز النافع الذي كان ناشطا في ذلك المضمار جادا في تنقية موارد الفكر - كاد هذا الجهاز يشل، لعدم إيلائه ما يستحق من عناية ورعاية. وقد جعل الناس منذ سنين يتساءلون عما جرى لدار الكتب. فأقعدها عن مواصلة إخراج أمهات الكتب ومراجع

ص: 41

الأدب. وتبلغ الآذان بعض المعاذير من ظروف الحرب وغلاء الورق. . . ولكن ذلك قد طال حتى فقد ما يحمل على تصديقه. . . والداء كله في (سد النفس) وها قد صار الأمل كله مناطا بالحكيم. . .

الشعر في مجلة المصور:

في عدد الأسبوع الماضي من مجلة (المصور) جاء ذكر قصيدة (عندما يأتي المساء) في موضوع من موضوعاتها، فنسب المحرر هذه القصيدة إلى الأستاذ أحمد رامي، وهي من شعر الأستاذ محمود أبو الوفا، ومن أغاني فلم (يحيا الحب) للأستاذ محمد عبد الوهاب، وقد قالها أبو الوفا وغناها عبد الوهاب منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وسجلت في (أسطوانة) وكثيرا ما تذاع، ولم تتكرم الإذاعة مرة واحدة فتذكر اسم قائلها ولو على أسلوبها المعروف بمثل قولها (من كلمات فلان!) ثم جاء محرر المصور فرمى الرمية إلى رامي!

وفي عدد هذا الأسبوع من مجلة المصور أيضا (23 مارس سنة 1951) نشرت كلمة لسعادة عبد الرحمن حقي باشا وكيل وزارة الخارجية إلى جانب صورته بعنوان (أنا) قال سعادة الباشا في هذه الكلمة:

(وإذا سئلت الآن أن ألخص تجاربي في عبارة قصيرة جامعة لم أجد خيرا من البيتين الاثنين علقا بذاكرتي من أيام الصغر، وهما:

أحبب حبيبك هوناً ما

عسى أن يكون بغيضك يوماً ما

وابغض بغيضك يوماً ما

عسى أن يكون حبيبك يوماً ما

وهكذا كتب الكلام في صورة بيتين من الشعر، ولعل عذر الباشا أن الكلام علق بذاكرته منذ الصغر، فلو كان من محصوله في الكبر لتنبه إلى أنه نثر. . . أضف إلى ذلك أن (ما) في نهاية الفقرات تشبه القافية!

ذلك عذر الباشا. . . فما عذر المجلة ورئيس تحريرها الأستاذ الكبير فكري أباظة باشا الأديب الذي كان ينظم الشعر في صباه؟ أو ليس في دار الهلال مراجع أديب يعرف الكلام المنثور من الموزون، ويضبط الخطأ في ذلك إن جاز على محرر أو سكرتير تحرير؟

إنها سقطة أرجو أن تنبه عليها مجلة المصور لتلافي ما قد يستقر في أذهان قرائها الكثيرين من أن ذلك الكلام شعر.

ص: 42

وبعد فيذكرني ذلك بالأعرابي الذي قام بخطب الناس ليحثهم على الجهاد فقال: أيها الناس، قال الله تعالى:

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جر الذيول

صاحت الدجاجة صياح الديك

في يوم من الأسبوع الماضي حفلت قاعة فاروق الأول في نادي نقابة الصحفيين بجمهور كبير أكثره من السيدات والآنسات المطالبات بالحقوق السياسية للمرأة، وذلك لسماع محاضرة الدكتورة درية شفيق في (الثقافة الشعبية كوسيلة للنهضة النسوية) وهي إحدى المحاضرات العامة التي تنظمها الجامعة الشعبية.

تحدثت الدكتورة كثيرا جدا عن مساواة المرأة بالرجل وعن المعركة التي تخوضها المرأة لنيل الحقوق السياسية، وتحدثت قليلا جدا عن أثر الثقافة في النهضة النسوية وهو موضوع المحاضرة. . . فجاءت المحاضرة فرصة لمظاهرة من هذه المظاهرات التي قامت بها أخيرا الأحزاب النسوية في مصر، ولم تحقق شيئا مما يتطلبه الباحث عن ثقافة المرأة المصرية ممثلة في هؤلاء (الزعيمات) وكم أود أن تدلل المرأة العصرية على استحقاقها ما تطالب به بثقافة ممتازة وعمل مجيد.

والذي يهمني الآن من هذه المحاضرة هو ما سادها من اللحن الكثير والخطأ اللغوي الفاحش، حتى خيل أن (كان وإن) وأخواتهما - مثلا - يكدن هن أيضا ينهضن للمطالبة بحقوقهن في رفع المرفوع ونصب المنصوب. . . ويدعوني هذا إلى أن اقترح على الجامعة الشعبية إنشاء قسم خاص بها لتعليم أعضاء الأحزاب النسوية اللغة العربية باعتبارها عنصرا من الثقافة الشعبية.

وأريد أن أعدي عن كل ذلك إلى أمر آخر، أريد أن أغض عن جر المنصوب وفتح المضموم، وعن مثل قول المحاضرة (ماءة في الماءة) لأقف عند ظاهرة أخرى. . . كانت الدكتورة درية شفيق تعبر عن نفسها بالمذكر وترجع ضميره إلى النساء، فقد قالت:(هأنذا) وكانت تعبر عن تعليم الجامعة الشعبية النساء فتقول إنها تعلمهم وتهذبهم بدلا من تعلمهن وتهذبهن! وفشا ذلك كثيرا في المحاضرة حتى وصلت عداوه إلى الأستاذ علي الجمبلاطي المشرف على تنظيم محاضرات الجامعة الشعبية في تعقيبه على المحاضرة. . وتدرك

ص: 43

مقدار هذا التأثير إذا علمت أن الأستاذ من رجال الأدب واللغة!

فهل كانت الدكتورة تفعل ذلك قصدا إلى المساواة في اللغة وإزالة الفوارق بين المذكر والمؤنث؟ وهل لنا أن نقول: صاحت الدجاجة صياح الديك.؟

درس في الجامعة الشعبية:

كان منتصف الساعة السابعة من مساء الأربعاء الماضي، موعدا معينا لندوة المكتبة بالجامعة الشعبية، وكان المقرر أن يتحدث في هذه الندوة الأستاذ أحمد الشرباصي عن كتاب (التصوير الفني في القرآن) للأستاذ سيد قطب، ونشر ذلك في (الأهرام) وتوافد الجمهور لحضور الندوة، ولكن كان كل من يقبل ويقصد إلى قاعة المحاضرات يفاجأ بمحاضرة أخرى تلقى فيها حيث كان الدكتور محمد بلال يتحدث عن (رسالة النائب في المجتمع) ووقف الأستاذ الشرباصي ومن معه بالفناء كمن حكم عليهم بالإخلاء ولا يجدون مأوى. وأقبل الأستاذ سيد قطب، فانضم إلى الحائرين. وجاء بعض القائمين بالأمر هناك يعتذرون ويستمهلون. ولكن محاضرة النائب طالت، فأخرج الأستاذ سيد قطب الدعوة الموجهة إليه ووقع عليها بالأسف لعدم قدرة الجامعة الشعبية على تنظيم أوقات محاضراتها؛ وأعاد الدعوة - التي ليس لها مكان - إلى أصحابها، وانصرف. . .

وبقى الأستاذ الشرباصي حتى فرغ المحاضر في منتصف الثامنة، ودعي إلى القاعة وقدمه أحدهم إلى من تبقى من الجمهور على ظن أنه سيلقي محاضرته، ولكن الأستاذ وقف فقص على الحاضرين ما حدث، ثم روى الحديث الشريف (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه) وقال: إن الأستاذ سيد قطب عرف قدر نفسه فانصرف، وأنا أيضا لا أرى من كرامتي أن تكون محاضرتي ذيلا لمحاضرة أخرى. . .

وسمعت واحدا من الجمهور يقول لزميله في منصرفهما:

لقد جئنا لسماع المحاضرة، ولكن سمعنا ما هو أوقع منها. .

- ليت كل من يخطئ في هذا البلد المسكين يجد من يلقي عليه مثل هذا الدرس!

جوائز المجمع اللغوي:

احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية، في الأسبوع الماضي بقاعة الجمعية الجغرافية

ص: 44

الملكية، بإعلان نتيجة المسابقات الأدبية لسنة 1950 - 1951. وقد بدأ الاحتفال بكلمة الأستاذ أحمد حسن الزيات التي نشرتها (الرسالة) في الأسبوع الماضي، وقد تضمنت رأيا في القديم والجديد وموازنة في ذلك بين الأدب العربي وغيره، وقدم الأستاذ الشعراء المجازين فوصف أشعارهم وعرف بهم. ثم تلاه الأستاذ إبراهيم مصطفى بك فألقى كلمته عن البحوث الأدبية، وقد بدأها بنبذة عن الدراسة اللغوية وتطورها، ثم عرف بالكتابين الفائزين، فقال إن كتاب (الفصحى في ثياب العامية) نظر فيما بين العامية والعربية من صلة وقربى في الألفاظ وفي وسائل الدلالة؛ وفي الكناية والتشبيه والاستعارة، وفي أساليب الاستفهام والتأكيد والذكر والحذف، وفيما يعتري الحروف من إبدال وتسهيل وإسكان وتحريك. وقال إن كتاب (الأسس المبتكرة لدراسة الأدب الجاهلي) يكشف عما يحيط بالعصر الجاهلي من الغموض والجهالة، وقد جعل المؤلف أساس العمل فيه سلاسل الأنساب المروية التي كان العرب يعتزون بها ولا يعدون العالم عالما حتى يكون بصيرا فيها، وعاد إلى أخبار الملوك المدونة وإلى الحوادث المؤرخة ليختبر نظريته ويؤيد نتائجها، وانتهى إلى أصل يعتمد عليه في تحقيق كل سلسلة من سلاسل النسب وفي تاريخ كل شاعر وزمن حياته.

وبعد ذلك أعلن الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي مراقب المجمع، نتيجة المسابقات مفصلة كما يلي:

1 -

الشعر: منح الأستاذ كمال النجمي الجائزة الأولى وقدرها 200 جنيه عن ديوانه (الأنداء المحترقة) ومنح الأستاذ محمود محمد صادق 100 جنيه عن مجموعة شعره المقدمة للمسابقة، ومنح الأستاذ فريد عين شوكة 100 جنيه عن ديوانه (وحي الشباب)

2 -

البحوث الأدبية واللغوية: منح الأستاذ سليمان محمد سليمان الجائزة الأولى وقدرها 200 جنيه عن بحث (العامية في ثياب الفصحى) ومنح الأستاذ عبد العزيز مزروع الأزهري 100 جنيه عن كتاب (الأسس المبتكرة لدراسة الأدب الجاهلي)

وكان قد قدم لهذه المسابقات عشرة دواوين، وأربعة بحوث، وست قصص لم يلف فيها ما هو جدير بالجائزة، وبحث عن ابن سينا لم يجز.

عباس خضر

ص: 45

‌البريد الأدبي

إذن لقد استيقظ الشرق

دفعني لكتابة هذه الكلمة القصيرة ما نقلته إلينا محطات الإذاعة ووكالات الأنباء حول تأميم صناعة البترول في إيران. . . فلقد جمعني مجلس ضم خمسة أشخاص يمثل كل منهم جنسية ما. كان ذلك قبل الميعاد المحدد لإحدى المحاضرات في أحد المعاهد. . . خمسة أشخاص. سيدة أمريكية تبلغ من العمر الستين عاما وفتاة بولونية وسيدة فرنسية وشاب إيراني وآخر إنجليزي.

بدأ الحديث حول إضراب عمال (المترو والأتوبيس) في باريس وما الوسيلة التي حضر بها كل منا إلى المعهد؛ فمن قائل في إحدى سيارات الجيش التي خصصتها الحكومة لتنقلات السكان، ومن قائل أتيت راكبا قطار رقم 11 - على حسب تعبير الفرنسيين - وهو يعني بذلك قدميه، وكيف أنه قطع المسافة في ساعة ونصف نظرا لبعد مسكنه. . .

ثم انتقل الحديث إلى نظام العمل والتأمين الاجتماعي والصناعات المؤممة فتحدث كل من الحاضرين عن ذلك في بلده. ولما جاء دور الشاب الإيراني وذكر موافقة البرلمان الإيراني على مشروع تأميم صناعة البترول بإيران قالت له السيدة الفرنسية أليس للروس دخل في ذلك؟ فقال إن الحزب الشيوعي ضعيف في إيران وإنما حركة التأميم هي حركة تمثل رغبة الشعب الإيراني. . . فقالت السيدة الفرنسية ومصر تريد تأميم شركة قناة السويس؟ ولقد استمعت عن رغبة العراق في تأميم شركة البترول العراقية الإنجليزية. . . عند ذلك قالت السيدة الأمريكية (إذن لقد استيقظ الشرق) وهنا تنهد الشاب الإنجليزي - بحرقة أثارت انتباهنا جميعا والتفاتنا إليه - وقال: (مسكينة إنجلترا. . . كل هذا ضدنا. . .) فقلت له أرجو أن تسمح لي أن أقول لقد اشتغلت إنجلترا هذه الثروات وربحت منها كثيرا منذ زمن طويل. وأعتقد أن الوقت قد جاء ليستفيد أصحاب الثروة من ثروتهم.

ويأخذ أصحاب الحق حقهم. . فتنهد الإنجليزي مرة أخرى وصمت. . . وهنا أحسست إحساسا عميقا بأن سيطرة بريطانيا وجبروتها قد أخذ ينكمش ليتلاشى. . .

وعادت السيدة الفرنسية إلى الكلام قائلة لقد حملنا إلى الشرق أشياء كثيرة، أقول ذلك كأوربية لا كفرنسية فحسب؛ حملنا الثقافة ومبادئ الحرية وغير ذلك كثير. . .

ص: 47

وهنا ثار الشاب الإيراني واحمر وجهه وقال لم تحملوا إلينا شيئا. . . فأسرعت قائلا لأتمم كلام زميلي الإيراني.

الحرية!! كلمة ناديتم بها ولكن للأسف لم نحسها نحن معشر الشرقيين إلا عبودية منكم لنا فكانت دعوتكم منطقا معكوسا. . . ولم يسمح لي (الجرس الكهربائي) أن أتم كلامي إيذانا ببدء المحاضرة وهبا قالت السيدة الفرنسية ونحن نتأهب للقيام لقد كانت الحضارة القديمة في مصر وفارس وهي اليوم في أوربا وربما عادت إلى الشرق مرة أخرى فتلك دورة الزمن! وعندئذ وجدتني أرتل قوله تعالى: وتلك الأيام نداولها بين الناس. . .

(باريس)

سالم عزام

أعذب الشعر أكذبه!

أورد الأستاذ الأديب عبد القادر رشيد الناصري في مقاله الطريف (الدخان في الشعر) هذه الكلمة الموروثة (أعذب الشعر أكذبه) مستدلا بها على كذب المرحوم الشاعر معروف الرصافي حين يذم الخمر، وهو الذي كان لا تفارق الكأس شفتيه وكان كما قال أستاذنا الكبير الزيات: همه من الحياة شرب العرق ولعب الورق واستباحة الجمال)!

وإيراد تلك الكلمة الموروثة على هذا الوجه في ذلك المقام تحريف لها عن معناها الأدبي الرفيع! ولقد أعجبني تحليل أستاذ العربية المرحوم مصطفى صادق الرافعي لها؛ إذ جاء في كتابه القيم وحي القلم جـ3 ما نصه:

(ولعلماء الأدب العربي كلمة ما أراهم فهموها على حقها، ولا نفذوا إلى سرها! قالوا: أعذب الشعر أكذبه؛ يعنون أن قوام الشعر المبالغة والخيال، ولا ينفذون إلى ما وراء ذلك؛ وما وراء إلا الحقيقة رائعة بصدقها وجلالها! وفلسفة ذلك أن الطبيعة كلها على الحواس الإنسانية؛ وأن أبصارنا وأسماعنا وحواسنا هي عمل شعري في الحقيقة، إذ تنقل الشيء على غير ما هو في نفسه، ليكون شيئا في نفوسنا؛ فيؤثر فيها أثره جمالا وقبحا وما بينهما!

وما هي خمرة الشعر مثلا؟ هي رضاب الحبيبة؛ ولكن العاشق لو رأى هذا الرضاب تحت المجهر لرأى. . . لرأى مستنقعا صغيرا. . . ولو كان هذا المجهر أضعاف الأضعاف مما

ص: 48

يجهر به لرأيت ذلك الرضاب يعج عجيبا بالهوام والحشرات التي لا تخفى بنفسها، ولكن أخفاها التدبير الإلهي بأن جعل رتبتها في الوجود وراء النظر الإنساني رحمة من الله بالناس! فأعذب الشعر ما عمل في تجميل الطبيعة، كما تعمل الحواس الحية بسر الحياة، ولهذا المعنى كان الشعراء النوابغ في كل مجتمع هم الحواس لهذا المجتمع)!

وللأستاذ الناصري أخلص الشكر، وأطيب التحيات.

محمود محمد بكر هلال

المدرس بمدرسة سوهاج الأميرية القديمة للبنين

إلى الأستاذ كمال بسيوني

مقالك أيها الأديب عدوان على الشعر وإجحاف بالشعراء، فقد جعلت من سمة الذوق الحي، والفطرة المهذبة، لغة بدائية، النطق بها جمود، والاحتفاء بها تأخر. مع أن العقل المنطبق لا يقول بأسبقية الشعر وهو. مقيد بالوزن، منغم بالقافية على النثر وهو مطلق حر لا يعقله إسار. ولا شك أن الإنسان إذا أراد له الله أن يعلو على الحيوان باللسان كانت ألفاظه كالحب قبل أن ينتظمه العقد، وظل كذلك حتى ارتقى وتهذبت أحاسيسه، ورقت نفسه فزين قوله بالشعر. . . وبدهي أن هناك فرقا واسع الأبعاد بين البدائي وهو يحس بجسمه وأعصابه، والمتحضر وهو يشعر بقلبه وأعماقه. ولقد صدق شوقي حين قال. (أنتم الناس أيها الشعراء).

القاهرة

بركات

ص: 49

‌القصص

ليلة في مقبرة

عن جي دي موباساق

بقلم الأستاذ رمزي مزيغيت

لقد أحببتها حب جنوني. . ولا تسلني لماذا يحب المرء، وهو إذا ما أحب تغيرت حاله وبات لا يرى من الناس إلا شخصا واحدا، ولا يختلج قلبه إلا برغبة واحدة، ولا تهمس شفتاه إلا اسما واحدا يتصاعد من أعماق الروح كما تتصاعد المياه من الينابيع. . اسما واحدا يردده العاشق على الدوام ويهمس به حيثما كان كالصلاة.

سأروي لك قصة حبنا، وما قصتنا إلا قصة الحب الخالدة التي لا تتغير أبدا الدهر. .

لقد قابلتها يوما وأحببتها. . هذا كل ما جرى. . ثم عشت معها حولا كاملا ذقت خلاله صفو الحياة وانطلقت بدنيا الحب ألحق بأجواء الغرام، أغرد في أنس وأسكن في أمن. . فكان لي من حبها دنيا جعلتني سعيدا خليا لا أبالي بمقامي أو مآلي. .

ثم ماتت. . كيف ماتت. . لست أدري. .!؟ كل ما أعلمه أنها عادت إلى البيت ذات ليلة ماطرة مبللة الثياب. وفي اليوم التالي انتابتها نوبة من السعال أخذت حدتها تشتد يوما بعد يوم. ومضى أسبوع على هذا الحال فلزمت الفراش. . أما ما حدث بعد ذلك فلا أذكر منه إلا أن الأطباء حضروا وفحصوا الداء ووصفوا الدواء، وجاءت بعض النسوة لرعايتها وتمريضها. . كانت يداها ملتهبتين وجبينها يشتعل نارا وعيناها لامعتين حزينتين، وكنت أحدثها وتحدثني. . أما ماذا كنت أقول وماذا كانت تجيب فلست أدري. . فقد نسيت كل شيء. . ولست أذكر سوى أنها ماتت، وسوى تلك الآهة الواهنة التي انفلتت من بين شفتيها ساعة انطلقت روحها إلى بارئها.

وحضر الكاهن وسمعته يقول لي. . (أهذه خليلتك؟) فخيل إلي أنه يسيء إليها وينتهك حرمة الموت فطردته شر طرد، وجاء غيره وكان وقورا طيبا، فراح يحدثني عنها بلطف واحتشام ومقلتاي تهرقان الدمع مدرارا. .

وجاء المشيعون، وأودعوها نعشها، وثبتوا غطاءه بالمسامير ثم حملت إلى المقبرة - مثواها

ص: 50

الأخير - وواروها في جثوة ضيقة عميقة باردة. . وأذكر أني هربت، ورحت أعدو من شارع إلى شارع كمن به مس من الجنون، حتى بلغت البيت. . وفي اليوم التالي رحلت.

وقد عدت يوم أمس. . ولما دخلت غرفتها ورأيت أثاثها وكل ما خلفته وراءها مر بخاطري شريط متتابع الصور من الأمس الحبيب، فعاودتني الأحزان وعصرت قلبي عصرا، وشعرت برغبة ملحة في أن أقذف بنفسي من النافذة. .

ولم أستطيع البقاء بين تلك الأشياء وبين تلك الجدران التي كانت تحتويها، فقد كنت أشعر بأنفاسها مازالت عالقة بجو الغرفة. . فاختطفت قبعتي واندفعت هاربا. . وفي طريقي إلى الباب مررت بالمرآة الكبيرة القائمة في البهو - تلك المرآة التي وضعتها هي هنا لتتأمل فيها نفسها وتصلح من شأنها كلما أزمعت الخروج.

واقتربت من تلك المرآة التي طالما انعكست صورتها على صفحتها، وخيل إلي أنها مازالت هناك. . فانتابتني الرعدة وجرى في جسدي تيار بارد، وتعلقت عيناي بالمرآة - ذلك الزجاج المنبسط الفارغ الذي طالما احتواها وملكها بكليتها كما ملكتها يوما وملكتها عيناي. . وشعرت كأني أحب ذلك الزجاج الأملس فمددت يدي إليه فإذا هو بارد لا حياة فيه. . آه منك أيتها المرآة الفارغة الرهيبة! وآه من تلك الأحزان القاتلة التي تبعثينها في قلوب الرجال!

سعيد ذلك الرجل الذي يستطيع أن ينزع من قلبه كل ما احتواه ويسدل على أمسه سترا ويكفن ماضيه ويواريه حفرة نائية، يا إلهي لشد ما أتعذب.!

وخرجت من البيت دون ما شعور أو تفكير ورحت أضرب في شوارع المدينة على غير هدى، حتى وجدتني أتجه إلى المقبرة. . وهناك وجدت قبرها البسيط وعليه صليب أبيض من الرخام حفرت عليه هذه الكلمات: -

(أحبت وأحبت، ثم ماتت). . .

نعم ماتت، وهاهي هنا تحت الثرى وقد تعفنت وحالت إلى تراب. . يا لله. . وبكيت طويلا ورأسي مسند إلى قبرها. . ثم بدأ الظلام يرخي سدوله. واكتسحتني رغبة جنونية - رغبة العاشق اليائس - في أن أقضي آخر ليله بجانب قبرها. ولكني خشيت أن يبصر بي أحدهم، فما العمل.؟ ليس أمامي إلا الحيلة. . فرحت أتجول في مدينة الموتى وأتنقل من

ص: 51

هنا إلى هناك. . ولشد ما بدت لي هذه المدينة صغيرة بالنسبة لمدينة الأحياء. . ولكن ساكنيها ولا شك أكثر عددا وعديدا. . ومع ذلك فهم يقنعون بهذه البيوت الوضيعة بينما نحنو الأحياء نطلب القصور العالية والشوارع الواسعة والمأكل الشهي والمشرب العذب، لنعود في النهاية إلى التراب وننظم إلى أجيال الموتى التي سبقتنا؛ ويطوينا المجهول وإياها بردائه.

وقادتني قدماي إلى طرف المقبرة حيث تقوم القبور القديمة المتآكلة الصلبان والتي حالت أجساد ساكنيها إلى تراب لا يلبث أن يصبح مهدا للمزيد من الأموات. . وكانت الأزهار في هذا الركن تقف على سيقانها سقيمة الحسن ذاوية البهجة.

ولا عجب، فأنها ترتوي من ماء الأبدان. . ولم يكن في هذا الجزء أحد من الأحياء، فتسلقت شجرة عتيقة واختبأت بين أغصانها، ومكثت هناك طويلا متعلق في جذع الشجرة كما يتعلق الغريق بحطام السفينة.

وأخيرا نفض الليل على المكان حالكات نقابه، فنزلت من مخبأي وأخذت أسير ببطء وحذر فوق تلك الأرض المليئة بالموتى. . وتجولت بين القبور دون أن أهتدي إلى قبرها. . فسرت باسطا ذراعي أمامي أتحسس طريقي، ولكني لم أعثر على قبرها. . وأعدت الكرة فلم أترك شيئا إلا ولمسته. . الصلبان والأحجار والأسوار الحديدية وأكاليل الزهر الاصطناعية وأكاليل الزهر الذابلة اليابسة، وقرأت أسماء أصحاب القبور بأطراف أصابعي، ولكن دون جدوى. . يالها من ليلة. . فقد كانت ليلة ضريرة النجم والقمر، ملأت قلبي رعبا وفزعا وأنا أتنقل في الممرات الضيقة بين القبور. ولم يكن هناك سوى قبور. قبور في كل مكان. . ومن ثمة جلست على واحد منها بعد أن نال مني التعب وتملكني اليأس. وكنت أسمع دقات قلبي بوضوح وأنا جالس هناك وحيدا مرتعدا. . ثم طرق أذني صوت آخر غامض انبعث من جوف الظلام أو باطن الأرض المزروعة بأجداث الموتى. . فتلفت حولي وأنا أكاد أختنق من الخوف والرعب. وفجأة شعرت أن السطح الرخامي الجالس فوقه قد أخذ يتحرك كأن يدا تدفعه. . فوثبت إلى قبر مجاور ونظرت إلى القبر الذي كنت جالسا عليه فرأيت الحجر يرتفع ومن تحته هيكل بشري يدفعه بظهر متقوس وبرغم الظلام الحالك فقد كنت أراه بوضوح، وقرأت على صليب قبره هذه الكلمات -

ص: 52

(هنا يرقد جاك أوليفانت الذي توفى عن 51 عاما وكان محب لأسرته لطيفا شريفا، ومات في محبة الله.)

وقراء الهيكل أيضا ما كان مكتوب على قبره ثم انحني والتقط حجرا صغيرا مدببا وراح يمسح ما كتب عنه بكل عناية حتى طمسها جميعا، وأخذ ينظر إلى ما فعل من محجريه الأجوفين. . وبخط أشبه بما يكتبه الأطفال على الجدران بالطباشير راح يكتب بعظمة إصبعه هذه الكلمات (هنا يرقد جاك أوليفانت الذي مات عن 51 عاما، ولقد عجل بوفاة والده بسبب معاملته الفظة وطمعه في الحصول على الإرث. . وكان يعذب زوجته وأولاده ويخدع جيرانه ويسرق، وفي النهاية مات تعيسا شقيا)

وبعد أن فرغ الهيكل من كتابته أنتصب بعظامه يحدق فيما خطت يده، وعندما تحولت بنظري عنه شاهدت أن جميع القبور قد فتحت وانسلت منها هياكل ساكنيها وراح كل منهم يمسح ما كتب الأقارب والخلان على صليبه ويكتب مكانها بنفسه ما يعرف عن حقيقة نفسه. ولشد ما كانت دهشتي حين تبين لي أنهم كانوا جميعا كذابين منافقين، حاسدين أفاقين، معذبين لأزواجهم وخادعين لجيرانهم، سارقين، ارتكبوا كل منكر وشائن. . . كانوا جميعا الآباء الطيبون منهم والزوجات الوفيات والأبناء البررة والبنات العفيفات والتجار الأمناء، يكتبون على عتبات مثواهم لأبدي حقيقة أنفسهم المروعة تلك الحقيقة التي لم يكن أحد غيرهم يعرفها أو كان يعرفها ويتجاهلها عندما كانوا أحياء يرزقون.

وخطر لي عند إذن ربما تكون هي الأخرى قد كتبت حقيقة نفسها فرحت أعدو بين القبور المنشورة وسط الهياكل والأجداث إلى حيث يوجد رمسها. ولم أجد صعوبة في الاهتداء إليها هذه المرة، وعرفتها في الحال رغم اختفاء وجهها تحت ملاءة بيضاء. . وعلى الصليب الرخامي حيث قرأت منذ حين (وأحبت ثم ماتت) طالعتني هذه الكلمات - (خرجت ذات يوم غزير المطر لتخون حبيبها فأصيبت بنزلة برد وماتت. .) ويبدو أنهم عثروا علي فجر اليوم التالي ملقى على القبر مغشيا علي. .

رمزي مزيغيت

ص: 53