المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 927 - بتاريخ: 09 - 04 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٢٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 927

- بتاريخ: 09 - 04 - 1951

ص: -1

‌ربيعك في نفسك

كنت كلما أقبل أبريل بالربيع تلقيته وفي نفسي بهجة الطفل وفي عيني وضاءة الجنة، وفي قلبي صبوة العاشق، وفي حسي نشوة الشاعر، وعلى لساني أغرودة ا. لبلبل. ثم أجدني بعد همود الشتاء وعبوسه قد تجاوبت مع الطبيعة، فأنفر مع الغصن، وأنفتح مع الزهر، وأنطلق مع النسيم، وأمرح مع الطير، وأزدان مع الروض، وأقضي أواخر النهار على ضفاف النيل، وأوائل الليل في ملاهي القاهرة فأجد لكل شيء جمالاً، وفي كل عمل لذة وعلى كل منظر فتنة!

أما اليوم فأنه يقبل به على فلا ألقاه، وإذا لقيته لا أراه! ذلك لآن ستاراً من ظلام النفس يفصل بين عيني ونوره وحجاباً من كآبة العيش يحول بين قلبي وسروره!

فأنا أمشي في شارع فؤاد - أن مشيت - فأرى حياة الربيع من حولي تتدفق باللهو، وتتألق بالجمال، وتتأنق بالزينة، وتتأنق بالزينة، وأنا محمول على عبابها المضطرب ذاهل الوعي بارد الحس خامد الحركة، كأنني جثة قتيل على سطح نهر، تمور الامواء تحتها بالحياة، وتزدهي الشطئان حولها بالنضارة، وهى تجرى إلى مصيرها المجهول لا تتصل بالكون ولا تشعر بالوجود!

وأنا أغشى مسرح اللهو - إن غشيت - فأرى الوجوه تهش، والثغور تبسم والعيون تقول والقلوب تصغي وأنا جالس إلى المنضدة الرخامية لاأجد بيني وبينها فرقاً في الجمود والبرود! فمثلي كمثل الآصم الأصلخ في المرقص الصاخب: يرى أفواها تنفخ في مزامير، وعصياً تضرب علي طبول، وأجساداً تلتصق بأجساد، وشفاهاً تنفرج عن ثغور، ثم لا يسمع أنغام العازفين فيطرب، ولا يدرى كلام الرقصين فينتعش!

لقد خبت وقدة القلب وعادت جمراته رماداً!

أذلك لتقدم السن، أم ذلك لتأخرالصحة؟ لاياصديقي! لا تقدم السن يؤخر الربيع، ولا تأخر الصحة يقدم الخريف مادامت فيك حياة ففيك حياة ففيك شعور، والشعور إن يبلد يدرك الحس في جمال الطبيعة؛ وإن يرهف يدرك الروح في حس الجمال، إنما هي الحياة العفنة التي تحياها اليوم في مصر! مستنقع من الماء الآسن، تنعقد عليه أبخرة خانقة، وتسطح منه روائح خبيثة وتطن

فوقه حشرات سامة. فإذا لم يؤتك الّله المشاعر السحرية التي تجعل الظلام نوراً، والبخار

ص: 1

بخوراً، والطنين شدواً، والكدر صفواً، عناك أن تجد اللذة، وأعياك أن تسيغ العيش! لقد كنا من قبل نبصر الحياة بالقلب والقلب فنان، ونحن الآن نبصرها بالعقل والعقل عالم!

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌9 - الدين والسلوك الإنساني

للأستاذ عمر حليق

الجماعة الدينية:

رأينا أن للجماعة الدينية في النظام الاجتماعي وظيفة مزدوجة فهي تصون ذلك النظام وتنسق اتجاهاته ومثله العليا وتساعد بذلك على توحيد عناصر السلوك الإنساني فيه فتحقق تكاملا اجتماعيا سلمياً. والوجه الثاني لهذه الوظيفة المزدوجة هو فصل تلك الجماعة عن المجتمع الأكبر روحياً واجتماعيا. ولنبدأ بمعالجة الوجه الأول:

للجماعة الدينية دستور مدون وظيفتها الاجتماعية هو كتابها المقدس؛ وعلى مقدار صلاح ذلك الدستور لمواجهة التطور في الزمان والمكان يتوقف استمرار تلك الوظيفة ومبلغ اتقائها لثورات الفكر أو تقيلها لدعوات الإصلاح.

والتكامل الاجتماعي لتلك الجماعة الدينية يتقي كثيراً من الشر إذا فسح المجال لدعوات الإصلاح أو ثورات الفكر أن تجادل وظيفة الدين الاجتماعية على أن يكون سلاح تلك الجماعة مستمداً من روح العصر ولغته وعلومه ومعارفه.

ودفاع الجماعة الدينية عن وظيفتها الاجتماعية لا يكون بوقف باب الاجتهاد وإنما يكون بتصحيح الأخطاء التي تنتج عن سوء اجتهاد المصلحين أو الملحدين فالشك سبيل إلى يقين ومعالجة الشك لا تأتي بطريق الإقناع والشك مرض وأمراض العالم تعالج بأسلحة حديثة وإلا نفلا الناس من الجماعة الدينية نفورهم من الحلاق أو الساحر الذي يعالج المرض بوسائل ما قبل التاريخ والمتشكك المنكر لوظيفة الدين والثائر على الجماعة الدينية إذا عجز عن الاقتناع مثله مثل الذي يأبى التطيب فيموت بعلته.

ولكن من حق الجماعة الدينية إذا عجزت عن إقناع المنكر لها الثائر أن تحاربه بأقصى ما تستطيع من عنف وجهد، وإلا كان مثله مثل الجماعة التي عن علاج المجذوم ثم تتركه ينقل العدوى إلى جسمها الأكبر.

ولقد أعرب جماعة كبار علماء الأزهر عن هذه الحقيقة حين ناقشوا كتاب الأستاذ خالد محمد خالد (من هنا نبدأ) فقالوا (إن لكل فرد من المسلمين (الجماعة الدينية الإسلامية) الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنكوص عنه مع القدرة عليه إثم عظيم.

ص: 3

فسعة الصدر لدى الجماعة الدينية في منقاشه المتشككين والمدعين ضرورية للتكافل الاجتماعي الذي هو من خصائص وظيفة تلك الجماعة. فتاريخ نمو الوعي الديني كتاريخ نمو الوعي السياسي والاقتصادي كان وليد النقاش والجدل والشك والإقناع وإلا فالجمود صفة تلازم الجماعة التي لا تناقش ولا تجادل ولا تنفع المتشكك الثائر.

ومناقشة الجماعة الدينية في وظيفتها الاجتماعية ونهوض تلك الجماعة للدفاع والإقناع وسيلة من وسائل تنشيط الفكر، وتهيئ تلك الجماعة لمواجهة التيارات المستجدة في التفكير والسلوك. فالتطور الفكري غريزة فوق أنه ظاهرة تستمد وجودها من طبيعة الأشياء. فإذا تسلحت تلك الجماعة بسلاح العصر استطاعت أن تكشف في وظيفتها الاجتماعية نواحي جديدة لم يفطن إليها السلف فتزيد بذلك من مكانها في النظام الاجتماعي وتعزز كيانها فتزيد من سلطتها الروحية رسوخاً وقوة فالمشكلة إذن ليست في ميلاد الشك والثورة الفكرية وإنما في مبلغ استعداد الجماعة الدينية للتعرف على حقيقة وظيفتها على ضوء العلم والمعرفة المستمدة من روح العصر.

ويجب أن لا يساء الفهم في تحديد معنى الجماعة الدينية ووظيفتها فالجماعة الدينية لا تعنى أئمة الرأي وحفظة الدين والنخبة الممتازة التي تتخصص في تدريس الدعوة ونشرها بين الناس والقيام على إحياء شعائرها. فقد عرف (هولت) الجماعة الدينية بأن يكون لها (تاريخ خاص وكيان اجتماعي وخصائص خاصة وسلوك وأهداف وغايات خاصة وقد يفهم من هذا أن مفهوم الجماعة ينطبق على جميع المؤمنين الذين يعتنقون العقيدة ويؤمنون بها. وهذا تعريف صحيح؛ ولكن علم الاجتماع وإن كان علم الاجتماع وإن كان يؤمن بصدق هذا التعرف وصوابه يصر على (أن الظاهرة الاجتماعية في العبادات والسلوك الديني مدينة إلى جهود الخاصة من حفظة الدين والمتبحرين في اختباره ودراسته وصيانته تعاليمه من سوء الاجتهاد والتحوير

وهذا يعني أن عبء وظيفته الدين في تحقيق المشاكل الاجتماعية يقع جزء كبير منه على الخاصة من أهل العلم والاجتهاد والأئمة.

فالتحريف في الطقوس والعبادات يعني تحريفاً في أوجه التكامل الاجتماعي الذي يكون للدين ضلع كبير في توطيده وتحقيقه وكلما تعقدت الطقوس وأنواع العبادات ازدادت

ص: 4

مسؤولية الخاصة من حفظة الدين، وبالتالي ازداد أثرهم في توجيه التكامل الاجتماعي خيراً أو شراً تبعاً لاستعدادهم لمواجهة التحدي والفكري (الشك والثورة) الذي يكاد ينحصر في انتقاده للطقوس والعبادات والرمزيات التي تعبر عن العقيدة الدينية لا لجوهرها وكلما كان الدين وتعاليمه وعبادته وطقوسه في متناول الهامة من المؤمنين كان صيانة تلك التعاليم أكثر سهولة.

وظيفة الإمام المسلم في المسجد تختلف عن وظيفة الكاهن في معبد بوذي مثلا فالإمام وظيفته ديمقراطية بمعنى أنه يؤم المؤمنين في أقامه الصلاة بينما وظيفة الكاهن أو الراهب وظيفة مهنية تنحدر إليه بطريقة معينة سلبها وأسسها وشروطها. ذلك لآن الإسلام وقد خلا من الكهنوت ترك الإمامة لأكثر الحضور أهل في إقامة شعائر الدين تجنب بذلك حصر السلطة الدينية في أيدي الخاصة.

ولقد أتبع المسلمون في العصور الحديثة تقليداً يدل على مدى مرونة الإسلام في مجاراته التطور. فأصبحت الإمامة في مساجد لجماعة من الذين تفرغوا لرعاية شعائر الدين على نحو يلائم الحياة اليومية الحديثة التي تتطلب من المؤمنين أن يقوموا بوظائف الحياة الاقتصادية المعقدة فلا تمكنهم ظروفهم من اختيار من يؤمهم في الصلاة كلما دعاهم المؤذن أليها.

ولكن هذا التقليد لم ينف الجوهر الديمقراطي في وظيفة الإمام فهو لا يتميز عن بقية المؤمنين بشيء، ولا تزيد حسنته عند الله مثقال ذرة، ولا يتخذ لنفسه صبغة الاحتكار للشؤون الدينية

والإمام أو الواعظ في الإسلام ليس عمله أن يقيم شعائر الدين بالنيابة عن بقية المؤمنين ولا أن يكون وساطة بينهم وبين الله. فبدون الإمام تقام تلك الشعائر وأقامتها واجبة على كل مؤمن، وإنما وظيفته أن يسهل سبلها بالوعظ والإفتاء والإقامة وأن يشرح لهم ما استعصي عليهم فهمه من أمور الدين؛ فهو إذن لا يتميز عن بقية المؤمنين بمهنة موروثة بمهنة أو درجة معينة فإذا كانت وظيفة حفظة الدين في الإسلام ديمقراطية فإن من واجبها أن تجادل الناس وتثقفهم وأن تستمع إليهم وتد على شكوكهم وتوجيههم توجيها يتفق مع هذه الوظيفة الديمقراطية التي تحفظ التوازن في نطاق المصلحة الجوهرية للأكثرية التي تؤلف الجماعة

ص: 5

الدينية.

ومما يزيد في أهمية هذه الوظيفة الديمقراطية لحفظة الدين في الإسلام أن ردهم وإقناعهم ومنطقهم وتوجيههم مستمد من المادة الأولى (القرآن والحديث والقياس والإجماع) التي هي في متناول جميع المؤمنين. فإذا تكلم المفتي أو الإمام أو الواعظ فإنما يردد ما يقرأه عامة المؤمنين صباح مساء في صلواتهم وأدعيتهم وكتبهم الدينية فالدستور الديني في الإسلام ليس رموزاً ولا طقوساً معقدة الفهم والإدراك.

فوظيفة حفظة الدين في الإسلام كوظفية النائب في البرلمان يتقيد بمواد الدستور وينوب عن الشعب في التعبير عنها ومهما أختلف الناس في إصلاح هذا النائب أو ذاك وفي قدرته وتضلعه في معالجة المشاكل فأن الاختلاف لا يمس جوهر الفكرة الديمقراطية التي بعثت به إلى قبة البرلمان.

إذن فالعلاقة بين حفظة الدين والقائمين على دراسة تعاليمه وشروحه وتفاسيرها ووظائفها الاجتماعية وشرحها بين الناس المؤمنين من الرعية هي علاقة متممة بعضها لبعض. وأسسها ديمقراطي؛ وهي لذلك من أهم الدعائم التي تحفظ التكامل اللاجتماغي ومن الأخطاء التي يقع بعض نقدا الدين أنهم ينتقدونه ممثل في بعض حفظته. ومثلهم كمثل من ينتقد النظام البرلماني لفساد بعض النواب وقصورهم وهذا النقد فرق أنه خاطئ فأنه شر يمس صميم التكامل الاجتماعي الذي هو هدف كل حركة إصلاحية، دينية كانت أم سياسية أم اقتصادية

وقد يزداد شر هذا النقد على أسس ذاك التكامل أن يقوم بعض حفظة الدين بتوليه أنفسهم سلطة ديكتاتورية لم تعترف بها العقيدة ولم تشرعها السنة أو السلف الصالح.

وتفادي هذا الشر لا يكون إلا بترقية أساليب النقد ووسائل الرد عليه. وفي عالم تزداد المعرفة فيه يوما عن يوم فإن على الناقد والمنتقد معاً أن يدركا مقدرة الناس على تميز المنطق المخطئ أو المصيب حين تكون تعاليم الدين سهلة ومبسطة واضحة بينة كما هو الحال فالإسلام.

فإذا عجز حفظة الدين عن تسليح أنفسهم بسلاح المنطق العلمي الحديث والمعرفة والعلوم العصرية فإنهم بذلك يسيئون إلى صميم العقيدة الدينية ويبثون في نفوس بعض الناس شكاً

ص: 6

وارتيابا ما كان ليثار لو أن الإقناع كان باللغة التي يفهما أهل الجبل، وهى لغة تستمد تعابيرها ومنطقها من الحقائق الاجتماعية التي يعيشون فيها ومن مناهج تعليمية، الدروس الدينية فيها قل أن تحظى بانتباه أو أن تعالج بالقدر الذي تستحقه نظراً لأهمية الدور الذي يؤديه الدين في النظام الاجتماعي.

نيويورك

(للبحث صلة)

عمر حليق

مراكش

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

قطر شفيق جريح؛ وكلنا في الهم شرق!

إيه يا شرق! أما لليلك من أخر؟ وهل لفجرك من شروق؟ أنني حيثما قلبت النظر لم أجد ألا شعباً كليما، وحيثما أدرت البصر لم أر إلا هما مقيما!

يا شرق! لقد أتى عليك حين من الدهر كنت تدير الدنيا ونتحكم فيها، وكان العالم يحسب لكلمتك ألف حساب وحساب يتقرب الملوك إلى خلفائك، وتخضع الشعوب طوعا لإرادتك. ثم انقلبت الآية وجاء حين آخر فإذا بك إذا ذكر الأحياء لا تذكر والأمم لا تعيش في ماضيها وإنما تعيش في حاضره ومستقبلها، فهل آن لمجدك أن يعود؟

وأنت أيها الغرب عجبا لك: تؤمن بمبادئك وتكفر بها في وقت واحد؟ فأنت تؤمن بالحرية في بلادك وتكفر بها في غير بلادك. وأنت تؤمن بالمساواة في ديارك وتنكرها على غيرك من الشعوب والمماليك. وأنت تؤمن بالديمقراطية وتطعنها في سائر الأقطار! أما آن لك أن تفي رشدك وأن ترتدع عن غيك! تا لله أنك إن للم تثب إلى عقلك فإن أزمة حامية لن تبقى حامية لن تبقى ولن تذر سوف تقتلع مدينتك وتقضي على حضارتك

وأنت يا فرنسا يا من تقولين إنك مبعث النور والحرية وأم الإخاء والمساواة والديمقراطية! أما تذكرين أنك منذ عشر سنين سقطت تحت أقدام المحتلين من الألمان فداسوا حريتك

ص: 7

وبكى رجالك وشرد نساؤك وأطفالك، ومازلنا وما زال العالم يذكر ديجول وهو يبكي من دار الإذاعة في لندن على حريتك المسلوبة وعلى شعبك المسكين! أما آن لك أن ترتعي عن غيك وأن تحترمي الحرية وأن تقديسها في غير بلادك. فما يعرف طعم الحرية إلا من ذاق ألم السجن، وما يقدر الصحة إلا مريض عوفي من مرضه خبرينا. ماذا دهاك وماذا صنعت بمراكش؟ وعلى أي أسس ومبادئ أنحت لقائدك جوان فعاث فيها فساداً وبطشا وإرهابا وطعن شعبا وأذل سلطانا؟

ثم طلعت جريدة الايكونومست البريطانية منذ أيام تطلب إلى الحكومة البريطانية بمناسبة الحالة في إيران أن ترسل بوارجها إلى المياه الخليج الفارسي لآن الشعوب الإسلامية لا تخاف إلا بالقوة فكأنما نحن الشرقيين نستهدف لحملة مدبرة من الغربيين. ولعل من الخير لنا أن إذن أن نعرف بلادنا وأن نعمل على جمع كلمتنا وأنى هنا أقدم حديثي الأول عن مراكش.

أين تقع مراكش

هناك في شمال غرب قارة أفريقيا توجد مراكش وهي تطل البحر الأبيض وتشرف على المحيط الأطلنطي وتتكون من سهول ساحلية خصبة تتدرج في الارتفاع في الداخل حتى تنتهي إلى جبال مراكش وبها أنهار قصيرة تصب في البحر الأبيض والمحيط الأطلنطي ومناخها صيفا حار جاف وشتاؤها دافئ ممطرة تتغذى أنهارها صيف على ذوبان الثلوج فوق الجبال.

وفي السهول يشتغل السكان بالزراعة فيزرعون القمح والشعير والخضر والزيتون والفاكهة. وعى الحشائش تربى الأغنام والماعز وعلى الجبال توجد غابات البلوط والفلين. وبها من المعادن الفوسفات والنحاس والرصاص والزنك

ويشتغل كثير من السكان باستخراج الإسفنج وصيد السمك، وأما الصناعة فما زالت متأخرة؛ ومعظم الصناعات تعتمد على الإنتاج الزراعي والحيواني مثل دبغ الجلود وعمل المصبوغات الجلدية الرقيقة وصناعة البسط والأغطية الصوفية واستخراج الزيت.

ولعلك تسألني متى دخلت مراكش في الإسلام وما هو الدور الذي لعبته في تاريخه؟ وأنا أجيبك بأنها دخلت الإسلام منذ تم فتحها في عهد الوليد بن عبد الملك ومنها خرج الجيش

ص: 8

العربي بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير لفتح بلاد الأندلس وقد مراكش من بلاد الدولة الفاطمية حين تم تأسيسها ومن بلاد المغرب كانت تخرج سفن العرب فتملأ قلوب سكان إيطاليا فزعا ورعبا ثم خضعت للدولة العثمانية واستقلت عنها وقد حافظت على استقلالها حتى أوائل هذا القرن.

الحماية:

في نهاية القرن التاسع عشر انتابت أوربا حمى عنيفة من الاستعمار ووضعت كل من فرنسا وألمانيا عينها على مراكش. وكانت مراكش بلاداً متأخرة وكان سكانها من البربر يتحدون السلطان في عاصمة فاس. وقد بلغ من سطوتهم أن أحد زعمائهم خطف مندوب بريطانيا 1906 مما اتخذته الدول دليلا على عجز السلطان عن حماية الأجانب في بلاده وذلك ما اتخذته الدول جميعا سببا للقضاء على حرية الشعوب واستعبادها.

وقد حاولت الدول أن تنشئ علاقات تجارية معها وكانت أسبقها فرنسا، فكانت تستورد منها الليمون والصمغ وجلود الماعز المراكشي الشهيرة ثم أقرضت السلطان دينا وبدأت القصة التي أدت إلى الاحتلال. في 1904 عقد الاتفاق الودي بين إنجلترا وفرنسا على أن تطلق إنجلترا يد فرنسا في مراكش وتطاق فرنسا يد إنجلترا في مصر. وفي 1905 زار القيصر وليم الثاني إمبراطور ألمانيا ميناء طنجة وألقي خطبة ندد فيها سياسة فرنسا الاستعمارية وأيد استقلال سلطان مراكش للمحافظة على مصالح ألمانيا الاقتصادية ودعا إلى تسوية المسألة في مؤتمر دولي فعارضت فرنسا وكادت المسألة تؤدى إلى حرب.

وقد أجتمع المؤتمر الدولي في الجزيرة 1906 ووافقت الدول على استقلال مراكش واتفقت على أن تحافظ على الأمن الداخلي كل من فرنسا وأسبانيا.

وفي 1911عادت ألمانيا فأثارت المشكلة المراكشية من جديد ذلك أن فرنسا احتلت فاس عاصمة مراكش بدعوى المحافظة على النظام فأعلنت ألمانيا أن ذلك خروج على اتفاقية الجزيرة وأرسلت المدعوة (باثر) إلى ميناء أغادير. وتوترت العلاقات بين فرنسا وألمانيا وانضمت إنجلترا إلى فرنسا وكادت الحرب تقوم ولكن ألمانيا قبلت ما عرضته عليها الدول. فقد عوضتها فرنسا عن مطامعها في مراكش ببعض أراضيها في وسط أفريقيا واعترفت ألمانيا بحماية فرنسا لمراكش.

ص: 9

وتنقسم مراكش حاليا إلى الأقسام الآتية:

أولا: مراكش الفرنسية وهي تشمل معظم مراكش ويحكمها سلطان وطني.

ثانيا: مراكش الأسبانية وتعرف بالمنطقة الخلفية نسبة إلى خليفة سلطان مراكش ومركزه تطوان وتعرف هذه المنطقة ببلاد الريف.

ثالثا: طنجة وهي ميناء دولي.

السطان الأسير:

وقد نزعت مراكش أخيرا إلى الاستقلال عن فرنسا وشجع الحركة سلطانها الحالي محمد بن يوسف فثارت فرنسا وأرعدت وقام قائدها جوان المقيم العام يثير القبائل على السلطان ويهدده وأمام التهديد قبل السلطان ما فرضه جوان!

وقد ذهب صحفي مصري أخيرا لمقابلة جلالة السلطان وتمت المقابلة وكان يجلس بجانب الصحفي المصري أثناء المقابلة المستشار الفرنسي ويقول الفرنسيون بعد هذا إن السلطان ينعم بتمام الحرية

أبو الفتوح عطيفة

المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية

ص: 10

‌2 - الفاربي في العالم الإسلامي وفي أوربا بمناسبة

‌مرور ألف عام على وفاته

للأستاذ ضياء الدخيلي

لا ريب أن قيام الفارابي بشرح الكتب اليونانية الطارئة قد أدى خدمة جلى لليقظة العربية، ولو لم يقم هو ومن حذا حذوه بشرح غوامض الفلسفة التي وفدت على بلاد العرب من دون سابق ألفة لما نهضت صروح تلك الحركة الفكرية ولم نثبت في هذه البيئة الجديدة روحيا وماديا وإذن فإن شرحه للتراث اليوناني كان تلبية لنداء الحاجة التي اقتضتها الظروف القاهرة ولعله شغل بالشرح عن الابتكار والإبداع على أن الشرح لا ينقص من مكانته ولا أجد فرق كبير بين الشارح والمؤلف فأن الأول إذا فهم أهدافه الثاني وعرف أفكاره فقد حلق في نفس الأجواء التي يبسط المبتدع جناحيه فيها وتابعه في طيران وكان معه في مستوى واحد إلا أن المبتدع يتقدم فيتلوه الشارح ولقد كانت بركة الفارابي شاملة غير المسلمين والعرب فإن الأمم الأعجمية عندما نهضت واستشرفت معالم الفلسفة اليونانية وجدت في الفارابي وتلاميذه من يأخذ بيدها إلى الصواب في متاهة أفكار الفلاسفة فلذلك عمدت إلى آثاره فترجمتها إلى لغاتها قال (جورج في كتابة المدخل إلى تاريخ العلم ترجم إلى اللغة اللاتينية (جون) و (جرارد) كتاب إحصاء العلوم للفاربي (وهو من النصف الأول للقرن العاشر الميلادي) وقال (سارتون) إن كتاب (المبادئ) الباحث في الفلسفة والسياسة الذي ألفه الفارابي في النصف الأول من القرن العاشر في دمشق (عام 942 م) وراجعه وأعاد النظر فيه في القاهرة بين عامي (948 - 949 م) قد ترجم إلى العبرية عام 1248 م تحت عنوان وترجمها إلى العبرية (موسى بن تبون الذي ولد في مرسيليا وكان قد ترجم إلى العبرية جملة كتب عربية لابن رشد والفارابي وغريهما وكان من أعظم المترجمين في العصور الوسطى وكان رياضيا وطبيبا وفلكيا وقال سارتون أن إسحاق البلاغ كان فيلسوفا ومترجما من العربية إلى العبرية وقد ترعرع في شمال إسبانيا في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي وبداية القرن الرابع عشر، وقد سعي ليوفق بين علم اللاهوت اليهودي والثقافة الأرسطاطاليسية الصافية الأصيلة وفي خلال دحضه ونقضه وتفنيده آراء الغزالي و (موسى بن قدم ملاحظة تقول بأن أغلاطهم أي أغلاط أتباع ابن

ص: 11

ميمون نشأت من أخذهم فلسفة أرسطو بصورة غير مباشرة ولم يتهيأ لهم أن يقتبسوها من معينها الأصيل ذلك لأنهم أخذوها من شروح الفارابي وابن سينا ولآخرين. وإذن فإن هذا الفيلسوف اليهودي يرى أن الفارابي وتلميذه ابن سينا لم يفهما أرسطو على حقيقته. وهذه دعوى نظنه انفرد بها ولم يشاركه فيها أحد من البشر وقد تجشمها لأجل تقريب إمكان التوفيق بين اليهود وتعاليم أرسطو ساعيا ليجعل الصعوبة التي وجدها محاولوا ذلك التوفيق ويرجعها إلى أن الفلسفة التي بأيديهم المنسوبة لأرسطو مشوهة وممسوخة أما فلسفة ارسطو الحقيقية فإنها لا تتعارض مع اليهودية ليت شعري ما الذي حمله على كل هذا التمحل والتكلف؟ ومن قال له إن كل ما قاله أرسطو حق مستقيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأظن هذا اليهودي التائه لو بعث اليوم من مرقده ورأى كيف أن الفلسفة العصرية هدمت هياكل فلسفة أرسطو وإخوانه من اليونان لسخر من أتعابه وجهوده في تقويم المعوج في العصور الوسطى، ولا بأس أن نشرح كلمة مرت عليك قبل أسطر هي فقد شرحها لنا قاموس إذ قال إن منسوب إلى أي موسى بن ميمون الذي عاش (1135 - 1204م) وكان من أعظم فلاسفة اليهود في القرون الوسطى، وكانت مدرسته تتوخى الجمع والتوفيق بين فلسفة أرسطو والتعاليم اليهودية.

أقول وهذا نظير ما سعى إليه (إخوان الصفاء وخلان الوفاء) من الجمع بين الإسلام والفلسفة اليونانية وكل ذلك ناشئ من إكبار فلاسفة العصور الوسطى لفلاسفة اليونان فأخذ كل فريق يؤيد بالتوفيق بينه وبين فلسفة اليونان، ظنا منهم أن الذي يتفق مع أرسطو الذي كان نابغة خالدة يضمن له الرسوخ والثبات ولماذا؟ وقد جاء وفق ما اهتدت أليه العباقرة من اليونان أو أن هذه المساعي كانت ضرورة ملحة استجابة لتبلبل الأفكار حيث اصطدمت في نفوسهم عقيدتان فلابد من التأليف بين ما أختلف منهما؟ وإلا فإن اصطدامهما يودي بإحداهما. غير أن طائفة من المتزمتين ثاروا في وجه الفلسفة وحرموها وقاوموها وأعلنوا بطلانها وسفهوا أحلام الفلاسفة وظنوا أنهم استراحوا فكانت النتيجة أن بقوا سخرية الأجيال المتعاقبة وفي طليعة هؤلاء أبن تيمية وابن قيم الجوزية وابن الصلاح. والذي يهم موضوعنا اليوم مما تقدم أن هذا اليهودي العنيد يرى أن الفارابي شارح أرسطو قد خلط وخبط ولم يهتد إلى سواء السبيل ولم يفهم حقيقة فلسفة أرسطو. ولنتركه واعتقاده ونعرض

ص: 12

لك شخصية أوربية أثنى عليها (سارتون) في كتابه وادعى أنها كانت تضع ثقتها كلها في صاحبنا الفارابي وتلميذه ابن سينا، أجل قال (سارتون) في ترجمة (البرت الذي ولد عام 1193م في (لوينجن وتعلم ودرس في ثم علم ودرس في مختلف المدارس الربانية المسيحية في ألمانيا سنة 1228م وما بعدها ودرس في باريس من عام 1245م إلى عام 1248م وكانت مؤلفاته تقوم على مدرسة أرسطو، وكانت نوعا من تفاسير وشروح لما كتبه أرسطو، ولكنه أقحم فيها حشوا كثيرا مأخوذا من الفلسفة الإسلامية واليهودية ومصادر أخرى مختلفة، وزج فيها أيضا ملاحظاته الشخصية يقول (ثارتونا)، إن البرت الكبير وهذا قد اعتمد من شراح فلسفة أرسطو ولتبع بصورة رئيسة خطوات الفارابي وابن سينا وكان على الأغلب لا يرتضي أقوال ابن رشد وابن يهوذا (ابن جبيرول الذي اعتبره من الفلاسفة المسيحيين الذين قاوموا فلسفة أرسطو، وقد مال (البرت الكبير) ميلا قويا إلى فلسفة موسى ابن ميمون واعتمد عليها ولكنه حافظ على استقلاله. وابن ميمون هذا هو الرئيس الحاخام موسى بن ميمون ولد في قرطبة من عائلة يهودية معروفة وأكره بسبب الاضطهاد الديني على مغادرة إسبانيا فذهب أولا إلى فاس ثم إلى عكا ثم إلى القاهرة حيث توطن. وكان مشهورا لا في الطب فحسب بل في الفلسفة والدين ويبالغ اليهود في احترامهم له. وكان ابن ميمون طبيب صلاح الدين الأيوبي ثم طبيب الملك الأفضل وطبيب أشراف الدولة، وقد تراكمت عليه الأشغال حتى كان أحيانا يأخذه التعب فيعالج بعض المرضى وهو مستلق على الديوان. وكانت معظم تأليفه في اللغة العربية وقلما كتب في العبرانية وقد ترجمت كتبه إلى العبرانية ثم إلى اللاتينية أما شهرة موسى بن ميمون فلم تأت من الطب ولكن من محاولته التوفيق بين الاعتقاد والبرهان، وبين الدين والعلم. واتته أيضا من تعاليمه التي وعاها في كتابه (دلالة الحائرين) الذي دون فيه نظراته في تقريب الفلسفة اليونانية والعربية من التعاليم الدينية في زمانه ولهذا اتهمه المعاصرون من خصومه بالهرطقة وسموا كتابه (ضلالة الحائرين) رغماً من أنه كان يشغل أكبر مركز ديني عند اليهود في القاهرة وقد ترجم هذا الكتاب إلى العبرانية ثم إلى اللاتينية وكان ذا أثر عظيم على النظريات الفلسفية في القرون الوسطى وما بعدها حتى أننا لنجد أثر هذه التعاليم في فلسفة (سبينوزا) و (كانت) ونعود إلى صاحبنا الفارابي فنلفت نظرك إلى أن من المأمول

ص: 13

والمترقب أن لا ينجو أبو نصر من حملات الغزالي على الفلسفة وأقطبها، وإن المسيحيين الذين خاصموا الفلسفة أجمالاً قد أستعانو بخصوم الفلسفة نمنن المسلمين فموقف الغزالي العقلي والديني قد راق علماء المسيحيين منذ الحظه التي تيسر لهم فيها الإطلاع على كتبه ولا يزالون مهتمين بدراسة أبحاثه والعناية بها والمعروف أن الغزالي قد هاجم الفلسفة وذهب في هجومه عليها إلى تكفير أهلها، من أفلاطون وأرسطو إلى الفارابي وابن سينا وقد مهد لدراستها بكتابه (مقاصد الفلاسفة) ثم حمل عليها في كتابه (تهافت الفلاسفة) وسرعان ما راج كتابه الثاني عند خصوم الفلسفة من المسيحيين فنلاحظ أن (ريموند مارتن، الذي يحتمل أن لا يكون لعلمه بمؤلفي العرب نظير في أوربا بأسرها حتى العصور الحديثة - فيما يقول جيوم - قد نهض بعد ممات القديس (توما) بمقابلة فلاسفة الإسلام وعلمائه، واستجاب لمطلب (بنافورـ رئيس هيئة الدومنيكيين في وضع كتابه (الدفاع عن الأيمان) وأدخل فيه الكثير من آراء الغزالي ومنذ ذلك الحين أفاد الكثيرون من علماء المسيحية من آراء الغزالي، وانتفع القديس (توما) الذي عاصر (مارتن) برسالة في (الاقتصاد في الاعتقاد) في وضع كتابه المعروف (الخلاصة الفلسفية في الرد على الأمم غير المسيحية) الذي وضعه استجابة لطلب رئيس هيئة الدومنكين السالف الذكر. وأوجه الشبه بين آراء توما والغزالي كثيرة

ونلاحظ أن الغزالي كان ويلا على الفلسفة عند اليهود والمسيحيين على السواء وكان له الأثر الهدام في فلسفة العالم الإسلامي وكان أثر كتابه (تهافت الفلاسفة) عند هؤلاء جميعا أعمق - فيما يلوح - من أثر (تهافت التهافت) الذي فند فيه ابن رشد موقف الغزالي من الفلسفة. وقد قسم الغزالي الفلاسفة في كتابه (المنقذ من الضلال) إلى ثلاثة أصناف: دهرين وهم الزنادقة لأنهم جحدوا الصانع المدبر العالم القادر وزعموا أن العالم لم يزل موجود بنفسه. . . ثم طبيعيين وهم الذين سلموا بوجود قادر حطكم مطلع على غايات الأمور ومقاصدها ولكنهم أنكروا معاد النفس وجحدوا الآخرة والحساب فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ولا للمعصية عقاب، وهؤلاء زنادقة. ثم الإلهيين وهم المتأخرون منهم كسقراط وأفلاطون وأرسطوا وقد هاجموا الدهرية والطبيعيين ولكنهم استبقوا من رذائل كفرهم بقايا فوجب تكفيرهم وتكفير متبيعهم من متفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهما.

ص: 14

ويرى الغزالي أن مجموع ما صح من فلسفة أرسطو بحسب ما نقله الفيلسوفان (ابن سينا والفارابي) ينحصر في ثلاثة أقسام قسم يجب التكفير به وقسم يجب التبديع به (أي اعتباره بدعة) وقسم لا يجب إنكاره أصلا.

للكلام صلة

ضياء الدجيلي

ص: 15

‌المهلب بن أبي صفرة

للأستاذ حمدي الحسيني

ولد المهلب لأبى صفرة سيد الأزد في اليمن قبيل وفاة النبي (ص) ببضع سنين ففتحت عيناه في نور الإسلام وأشرقت نفسه بإشراقة الهدى ودين الحق، فنشأ سيداً ماجداً وحراً مستقلا في أمة حرة مستقلة ومؤمناً مجاهداً في صفوف المؤمنين المجاهدين، وبطلا عظيما منتصراً في ميادين المجد والشرف.

هبط أبو صفوة البصرة على اثر حرب من حروب الردة اليمن، فعاش المهلب هناك ولم يلبث حتى أصبح سيد العراق بما آتاه الله من صفات السيادة والتفوق على الأقران بالفضائل قدم المهلب على عبد الله بن الزبير الخليفة البطل أثناء خلافته في الحجاز والعراق وهو يومئذ في مكة، فخلا به عبد الله يشاوره فدخل عليه عبدا لله صفوان فقال: من هذا الذي شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا؟ قال. أما تعرفه؟ قال (لا) قال هذا سيد العراق، قال فهو المهلب بن أبي صفرة؟ قال نعم.

أجل هذا هو سيد الأزد وبطل العراق المهلب بن أبي صفرة يخلو به الخليفة عبد الله بن الزبير ويشاوره في اشد أزماته وأعقد مشكلاته وأدق مواقفه وأخطر حوادثه. أليس الزمن عصيباً والموقف حرجاً؟ أليس صولجان الحكم الإسلامي مضطرباً بين يدي عبد الله بن الزبير في الحجاز وعبد الملك ابن مروان في الشام؟ كل منها يجذبه من صاحبه بما عنده من قوة. أليس العراق وما يجاور العراق من الأقطار الإسلامية كرة تتقاذفها قوات الحجاز والشام تصبح لهذا وتمسى لذلك؟ أليس هؤلاء الخوارج ينكرون على عبد الله بن الزبير وعبد الملك ابن مروان خلافتيهما كما أنكروا على علي بن أبي طالب ومعاوية ابن سفيان خلافتيهما من قبل فيتقبلون في أنحاء البلاد من البصرة إلى الموصل إلى الأهواز إلى كرمان يقتلون العباد ويهدمون البلاد ويقيمون على الأشلاء والأطلال ممالك وحكومات أجل إن الأمر لخطير، ولابد فيه لعبد الله بن الزبير من المشورة، وهل أرجح من المهلب عقلا وأعلى همة وأوسع معرفة وأعظم نفوذاً حتى يستشيره عبد الله بن الزبير دون المهلب؟ إذا لابد لابن الزبير من استشارة المهلب، ولا بد له من أن يوليه على خراسان حمل المهلب عهد ابن الزبير له على خراسان وتوجه به نحوها عن طريق العراق ووصل البصرة

ص: 16

فرأى البصرة تلهب بنيران الحرب القائمة بين قوات ابن الزبير والخوارج، ورأى أن الخوارج قد تفوقوا على قوات الخلافة تفوقا ألقى الرعب في قلوب أهل البلاد.

ولكن ما شأن المهلب في هذا الأمر وهو سائر في طريقه إلى خراسان ليكون والياً؟ إذاً عليه أن يترك هذه النار المشتعلة تلتهم أكباد المسلمين ويمضي إلى عمله.

هذه خطة صحيحة لو كان صاحب هذه الخطة غير المهلب أما وهو المهلب صاحب البصرة وسيد العراق فلابد له من البقاء بجانب بلده وقرب أهله ليحمي حماهم من الخوارج فنقضهم من فتك أولئك الشجعان الذين لعبت العقيدة في نفوسهم فخلقت منهم أبطالا في الحروب لا يهابون الموت ولا يخشون الردى.

أليس البطل في نظر قومه مدخرة يستعينون بها على الشدائد في الأيام الحالكة؟ وأية شدة أدعي لاستنجاد قوات المسلمين بالمهلب من هذه الشدة المدمرة التي تكاد تطبق على المسلمين بسيوف الخوارج؟ إذا لا والله ما لهذا إلا المهلب فخرج أشراف الناس فكلموه ليتولى قتال الخوارج فقال لا أفعل.

هذا عهد أمير المؤمنين معي على خراسان فلم أكن أدع عهده وأمره. رفض المهلب أن يجيب الناس إلى طلبهم في قتال الخوارج لأن المهلب رجل نظام وطاعة، فلم يشأ أن يخرج عن قاعدته في النظام وعن عادته في الطاعة، وهو رجل عسكري والنظام والطاعة قوام الحياة العسكرية. إذا لابد من أمر يصدره الخليفة للمهلب يلغي عهد خراسان ويثبت قيادة الجيوش لمحاربة الخوارج. ولكن أين أبن الزبيب الآن من المهلب وكيف يحتمل الصبر تدور المخابرات الرسمية دورتها وهؤلاء الخوارج على الأبواب لا يبلعون الناس ريقهم ولا يدعوهم يهدأ روعهم من الفزع. إذا لابد من الحيلة والحيلة في مثل هذه المأزق مستحبة. . فرأى قائد قوات ابن الزبير مع أهل البصرة أن يكتبوا على لسان ابن الزبير كتابا يأمره فيه بمقاتلة الخوارج ويعده بعد النصر بالولاية على خراسان فأخذ المهلب الكتاب بنفس راضية مطمئنة ونهض للأمر العظيم. والغريب في أمر هذا البطل أنه كان فوق الأحزاب في ذلك الزمن القائم على الحزبية العنيفة مما يدل دلالة واضحة على أنه كان جندياً مسلماً قد وقف حياته على المصلحة الإسلامية العامة ورصد بطولته على مجد الإسلام وعزته وكرامته. لا يعنيه من يكون الخليفة ولا يكون سواء عنده أكان الخليفة

ص: 17

علي بن أبي طالب أم معاوية بن أبي سفيان أم عبد الله بن الزبير أم عبد الملك بن مروان. وسواء لديه أكان مقر الخلافة الحجاز أم الشام ولهذا فقد رأيناه جندياً غازيا لسمرقند في جيش معاوية بن أبي سفيان ثم رأيناه موضع ثقة أبن الزبير يعهد له بالولاية على خراسان ثم يوليه القيادة لحرب الخوارج ثم رأيناه موضع ثقة عبد الملك بن مروان فيعهد له بجباية الأهواز ثم رأيناه موضع ثقة الحجاج بن يوسف الثقفي فيوليه على خراسان

ونعتقد أن وصيته لأبنائه الغر الميامين قبيل وفاته صورة واضحة لنفسيته الكبيرة التقية وأخلاقه الطاهرة الرضية وعقيدته الإسلامية القوية. لنسمع الآن المهلب يوصي أبناءه وقد جمعهم إليه وهو على فراش الموت يودعهم ويوصيهم ويفرغ نفسه في نفوسهم ويضع عقله في عقولهم ويصب همته في همهم: دعا المهلب بسهام فحزمت وقال (أفترونكم كاسريها مجتمعتاً؟ قالوا (لا) قال أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا (نعم) قال فهكذا الجماعة أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإن صلة الرحم تنشئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنها كم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار وتورث الزلة والقلة، فتحابوا وتواصلوا وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا وتباروا تجتمع أموركم، وعليكم بالطاعة والجماعة وليكن فعلكم أفضل من قولكم فأني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللسان فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته ويزل لسانه فيهلك.

اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكره له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرب فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف الصنيعة عنده؟ عليكم في الحرب بالأناة والكيد فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قبل أتى الأمر من وجهه ثم ظفر فحمد، وأن لم يظفر بعد الأناة قيل ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وأدب الصالحين وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم)

حمدي الحسيني

ص: 18

‌بطل عرفته

عبد القادر الحسيني بمناسبة ذكرى استشهاده

للأستاذ كامل السوافيري

يهتف بي الوفاء أن أذكر صديقاً وفيا، قائدا عربيا في مناسبة كريمة. أما ذلك الصديق فهو بطل العروبة المجاهد المرحوم عبد القادر الحسيني، وأما المناسبة فهي ذكرى استشهاده المجيدة إذ سقط في حومة الشرف في الثامن من أبريل سنة 1948 وليس البطل بالرجل المجهول الذي يحتاج للتعريف، أو المجاهد المغمور الذي يتطلب الشهرة، فهو النجم المتألق في سماء الجهاد، والكوكب المشرق في أفق الوطنية، والسيف البتار في ثورة الحرية.

عرفت الشهيد إبان الثورة الوطنية الكبرى في فلسطين سنة 1936 وهو يخوض المعارك الدامية ضد الجيش البريطاني المجهز بأحدث الأسلحة مع نفر من المجاهدين الأبرار فيسير النصر في ركابه، ويعود من المعركة وهو مكلل بأكاليل الفخر ثم توثقت بيننا أواصر الاخوة والصداقة وكلما امتدت الأيام بصداقتنا زدت إعجابا برجولته وتقديراً لشخصيته. ولعل أعظم نواحي إعجابي بالفقيد أنه قضى طفولته يمرح في أعطاف البشر، ويختال في رياض الأنس، وترعرع في أحضان النعيم حيث الثراء الواسع والجاه العريض، والمحتد الكريم، والمنبت العريق، وهذه العوامل تدفع الناشئ إلى الجنوح للدعة والركون للراحة والاستقرار، والنزوع نحو الرغبات والملذات، ولكنها لم تؤثر على عبد القادر، إذ تمرد على بيئته وانتقل من الحياة الناعمة حيث الفراش الوثير والماء النهير والطعام الشهي إلى الحياة القاسية حيث يفترش الصخر، ويتوسد الحجر ويطوى جوفه على الجوع ويهجر الرقاد ويمتطي الأهوال سعيداً بذلك طيب النفس قرير العين.

وأذ كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسام

ولقد كان البطل كامل الرجولة واضح المعالم في كل أمر من أموره، ينطق بالحق ويؤمن بالصدق ويدين بالعدل ويفي بالوعد ويواجهك بما فيك، ويصارحك بالأمور وقد جنت عليه صراحته إذ خلقت له الخصوم والأعداء، ولكنه لم يعبأ بهم ولم يحفل بخصومتهم لأنه كما يعتقد أرضى خالقه، وأراح ضميره.

وقد سطر له التاريخ أنصع صفحات التضحية والبذل، التضحية بالنفس والمال والراحة لقد

ص: 19

حرمت عليه بريطانيا دخول فلسطين جزاء اشتراكه في حربها عليها سنة1931 وعاش الفقيد بعيدا عن بلاده يطارده الاستعمار الظالم من قطر إلى آخر وتلاحقه جنود الظلم وأعوان المستعمر، وتضع في طريقه العراقيل وتحوك المؤامرات مما جعله يقضي فترة من حياته في غياهب السجون فتعود إليه العلل والآلام التي أصابته في جسمه خلال جهاده المجيد ضد بريطانيا. ولقد تنقل البطل في عواصم العروبة كلها من دمشق إلى بغداد ومن الرياض إلى القاهرة وكان في كل حاضرة من هذه الحواضر يترك أطيب الأثر، وأجمل الذكر ولقد أنجب أبناءه الثلاثة موسى وفيصل وغازي في أقطار مختلفة في سبيل ذلك شداد المحن وعظائم الزمن، فلم تلن له قناة، ولم يهن له عزم

ولقد كان عبد القادر يرى أن الدفاع عن الوطن واجب مقدس لا يجوز أن يأخذ عليه العامل أجراً، ولذلك ما كان يستبيح لنفسه أن يتقاضى مرتباً إلا إذا أناخ عليه الفقر، وقسا عليه الدهر. وقد ضرب في ذلك أروع الأمثلة في العفة والنزاهة، واحتقار المادة ونعى على الذين يتخوف الوطنية ستاراً لجمع الأموال طريقهم الملتوي وسبيلهم المعوج

ورغم أن عبد القادر كان قائدا مظفرا لم يعرف عنه أنه هزم في معركة فقد كانت تشرق في نفسه جوانب الإنسانية فهو من أشد الناس تأثرا بمظاهر البؤس والحرمان، واكثر الناس عطفا ومواساة البائسين والمعوزين. ولست أذيع سرا إذا قلت إن عبد القادر طالما جفف دموعا ومحا آلاما، وأعاد البهجة والرواء إلى وجوه عابسة ونفوس حزينة

ولم يكن البطل لأسرته فحسب أو لفلسطين وحدها؛ بل كان سيفا للعروبة وفارسا للإسلام. سألته يوما قبيل توليته قيادة منطقة القدس عقب قرار التقسيم المشئوم: ماذا تريد أن تفعل بعد تحرير فلسطين من الاستعمار البريطاني والصهيونية؟ فأجاب على الفور: أترك فلسطين وأسافر إلى شمال أفريقيا لأحارب الاستعمار الفرنسي كما حاربت الاستعمار البريطاني وأرجو أن يحقق الّله أمنيتي وهي أن أفوز بنعمة الشهادة.

وبعد فقد مضى عبد القادر ومضى قبله وبعده شهداء أبرار، وإن أرواحهم لتطل على العالم العربي اليوم وتدعوه في حرارة أن يحترم هذه الدماء الزكية وتنشده بيت أمير الشعراء:

وللحرية الحمراء باب

بكل يد مضرمة يدق

يا أبا موسى! طيب الله ثراك، وأحسن مثواك فلقد أديت الرسالة وذات لأمتك ووطنك أغلى

ص: 20

ما تملك

عليك سلام الله وقفا فإنني

رأيت الكريم الحر ليس له عمر

كامل االسوافيري

ص: 21

‌جي دي موبسان

بمناسبة مرور مائة عام على ولادته

للأستاذ إسكنندر كرباج

ولد جي دي موبسان في قصر ميرومنسيل في نور منديا. وهو من جهة أبيه ينتسب إلى أسرة شريفة مفلسة، ومن جهة أمه إلى عيلة وضيعة من الفنانين. وكان والده رجلا فاسقا وأمه امرأة فاضلة. وعندما أخذ الابن يلاحظ ما بين أبيه وأمه من التناقض في الأخلاق والنزعات، أدرك وهن اتحادهما الذي هو إحدى ثمراته وراح يرتاد البحر ويود اقتحام غمرتنه، لاعتقاده أنه يمثل كل ما في الحياة من خير وشر، وبؤس ونعيم، فكان يقضي معظم أوقاته متجولا في السواحل برفقة كلبين كبيرين وكان من أحب الأشياء إليه الاشتراك مع قرويي نور منديا في الألعاب الرياضية تحت سماء غائمة وفي مهب الرياح الباردة، والرقص مع الصبايا على نغمات الرباب وفى ظل أشجار التفاح المزهرة وكان يجلس مع النوتية على صخور الشاطئ، ويقضي وقتا طويلا وهو ينظر بمنظاره إلى الأفق البعيد، متمنيا أن يتجه بزورقه في صباح نير من أيام فصل الربيع إلى ما وراء تلك الشواسع المائية من الموانئ المجهولة.

وأرادت أمه أن يترهب فأدخلته أحد الأديرة إلا أن موبسان لم يكن راغباً في الترهب فصرف المدة التي قضاها في الدير ثائراً متمرداً، لا يخضع لنظام ولا يتقيد بقاعدة وفى ذات يوم كسر غطاء أحد دنان الخمر وراح يكرع منها مع رفاقه التلامذة وعندئذ عيل صبر رئيس الدير فأمر بطرده.

ثم انصرف موبسان إلى درس الحقوق غير أن نشوب الحرب بين فرنسا وألمانيا عام 1870 اضطر إلى هجر المدرسة ودخل في دائرة تموين الجيش. وبينما كان الجيش الفرنسي يتراجع أمام هجوم الألمان العنيف، وكان موبسان يطالع كتب شوينهور وينظم الأشعار في الحب، ويعلل النفس بالانتقام من العدو الذي أجتاح أرض بلاده، وداس حرمة أمته. ومن برودة الانتقام وحرارة الحب تكون مزاج هذا الكتاب الفني ولما انتهت الحرب بانتصار ألمانيا، قصد موبسان باريس على أمل أن يجيد عملا يساعده على متابعة دروسه فدخل موظفا في إحدى الدوائر البحرية ولم يكن بين رؤسائه ورفاقه من يعتقد بأن ذلك

ص: 22

الأسد الثائر يتحول إلى حمل وديع.

أما باريس وشعبها وأنديتها وكبار شخصيتها فكانوا لا يعرفون عن هذا الفتى شيئا وعبثا كان يقصد ليلا إلى البوليفار، ويأخذ في التطلع إلى أوجه المارة، وعلى نور مصابيح الغاز الضئيل لعله يكتشف بينهم روحا شقيقة لروحه، فيأنس إليها ويبثها ما في قلبه من حنين وشجن. وأخيرا وجد نهر السين ضالته المنشودة فأحبه وأنس به وركن إليه، لاعتقاده إنه الصديق الذي لا يخون، والرفيق الذي لا يراوغ.

فكان يقضي أيام الآحاد بكاملها ماخرا بزورقه في مياه نهر السين محاولا تبريد ما يستمر في نفسه من ميول وأهواء وكانت برودة رياح ذلك النهر الذي هو أشبه بقطعة من البحر تنسيه غبار المصلحة التي يشتغل فيها، ورائحة المقاهي التي يرتادها وضمات الغواني اللواتي يجتمع بهن وجملة القول أنه اتخذ من ذلك النهر عشيقة ورفيقه ونجيه ومهدهد أحلامه ومن قفوله في انصرافه إلى تلك الحياة البوهيمية:(لا عمل لي سوى التجديف والاستحمام، وقد اعتادت الجرذان والضفادع رؤية نور مصباح زورقي الضئيل كل ساعات الليل، وعندما أقبل عليها ترفع أصواتها لاستقبالي أما أصدقائي المجدفون فكان يدهشون عندما أطل عليهم في منتصف الليل، وأشاركهم في احتساء كأس من الشراب)

ثم تعرف مومبسان إلى الكاتب المشهور جوستاف فلوبير وكان هذا الأديب العبقري قد حوكم وقوطع بسبب روايته (مدام بوفاري) وبات منعزلا في بيته كركب فرضت عليه المراقبة الصحية، لا أحد يجسر على الدنو منه. غير أن هذا الكاتب الكبير ولم يحزن لما أصابه، أو يهتم لأنه أصبح وقتئذ لا يرسم من صور الحياة إلا بقايا ما في شخصيته التعبة من رؤى وأشباح لقد كان كملك مخلوع، قبع في هيكل للفن لا أحد يعرف مدخله سواه.

وكان فلوبير في ذلك العهد يفتش عن تلميذ نبيه، وموبسان يفتش عن أستاذ خبير يمكنه الاتكال عليه. فتفاهما وتصادقا ومزجا روحيهما في روح واحدة. وظل موبسان خلال سبعة أيام يرتاد بيت أستاذه في أيام الآحاد، حاملا إليه ما يكون قد حبره في أيام الأسبوع لكي يصلحه له. وكان الأستاذ يقلب نظره في تلك الأوراق المكتوبة، وهو يشطب بقلمه الرصاصي الأزرق ما يراه شاذا أو خطأ. ولم يطل أن اكتشف التلميذ سر فن الأستاذ، وراح ينشب سهام سخريته السامة في أكاذيب الحياة ورياء المجتمع.

ص: 23

وفي خلال السنوات السبع التي قضاها موبسان صديقا لفلوبير، وأرشده هذا إلى طريقة تضمن له الفوز في حياته الأدبية، وهذه الطريقة هي أن يلاحظ، أولا وثانيا وثالثا، وكل ما يحيط به ويقع تحت نظره، من مشاهد الحياة وحوادث المجتمع ولما توفي فلوبير قصد موبسان إلى بيت صديقه وأستاذه المتوفي، وعملا بوصيته له أخذ يلاحظ أولا وثانيا وثالثا، غسل الجثمان وإعداده للدفن، وحمله إلى المقبرة وإنزال التابوت إلى الحفرة. كان موبسان يقاسي صداعا لا يحتمل، ولكي يخفف من هذا الألم كان يلقى بنفسه في مياه نهر السين الباردة. ثم كان يقترب من الشاطئ ليسمع الذين تجمعوا هناك للتفرج عليه كل كلام بذيء. وكان يروي لرفاقه الموظفين قصصاً يحمر لها وجه الفضيلة خجلا، ويلقى في مسامع السيدات والأوانس اللواتي يجتمع بهن في الحفلات والمراقص كل قول ملتبس. وكانوا يتحدثون عنه ويقولون أنه أوقح رجل عرفته باريس. نعم لقد كان أوقح رجل عرفته باريس، ولكنه كان في الوقت نفسه من أكثر رجال تلك المدينة ذكاء وعبقرية. ولربما كانت هذه العبقرية نفسها سبب ما كان يعانيه في حياته المضطربة من ألم وضيق. وكان الباريسيون يتحاشونه، ويتخلفون عن مشاهدة ما كان يمثله من الروايات المشبوهة في مختبر لرسام عرف بتعشقه هذا النوع من التمثيل، ورجال الأمن يعنفونه بشدة كلما أطلعوا له على قصيده مجونية منشورة في مجلة تعني بمثل هذه المواضيع وكان كلما أشتد صداعه، ولا سيما في أيام الشتاء الباردة، يقف أمام المرأة ساعات كاملة، محدقاً إلى عينيه كأنه يريد أن يكتشف فيهما أسباب ذلك الألم وقد كتب مرة إلى أمه قائلا:(إن شهر ديسمبر يخفيني ويبعث قلبي في اليأس. إنه شهر قاتم ومشؤوم ولا سيما في منتصف ليلة آخر السنة وعندما أجلس وحيدا إلى منضدتي ومصباحي أمامي يلقي علي نوره الكئيب أشعر بانحطاط قواي إلى درجة لا أعرف معها إلى أين أتجه) ولكنه كان يتجه دائما إلى روايته وقصصه، ملتقطا مواضيعها من أفواه الصيادين والقرويين والممثلات والغواني والموظفين وغيرهم.

وأجتمع مرة بفئة من رجال الفكر والقلم في منزل إميل زولا وكانوا يتباحثون في مبادئ المذهب الأدبي الجديد الذين يريدون اعتناقه والتبشير به. وفي أثناء ذلك اقترح أحدهم وضع كتاب عن الحرب التي نشبت بين فرنسا وألمانيا، ولكن ليس كالذي اعتاد المؤرخين

ص: 24

والسياسيون وضعه عن الحروب، بل كالذي يضعه الألبسة في الجحيم، وينقضه البشر على الأرض، أي أن يكون خاليا من الأوهام والمزاعم، لا غرض منه سوى إظهار البطولة الحقيقية. وكان من نتائج هذا الاقتراح صدور رواية لموبسان بعنوان (كرة الشحم) وقد جاءت كما أرادها صاحب الاقتراح.

لقد أظهر موبسان في هذه الرواية احتقاره وبغضه لبلادة الرجل. ولكن هذا البغض يتحول إلى شفقة في الروايات الأخرى، ولاسيما في روايته (الحلية) التي هي في نظر أئمة النقد من روائع الفن القصصي الفرنسي

كان موبسان يكثر من تنشق الأثير لكي ينسى آلامه المبرحة بما تحدثه أبخرته في رأسه من الأحلام. وكان ينفق ما يقتصده لقضاء أيام عطلة الصيف خارج باريس على شراء المسكنات. وقد كان لجوئه إلى هذه الواسطة للتخلص من أوجاعه الدائمة صورة جلية للجمال الوثني. ومن قوله: ومن قوله: (أحب الفضاء كالعصفور، والغاب كالذئب، والصخور كالغزال، والمروج كالجواد، وأحب المياه الصافية التي تطيب لنا فيها السباحة. كالسمك وأحب العالم كما تحبه هذه كلها، لا كما تحبونه أنتم أيها البشر أحبه دون إعجاب، وأنشده وأتغنى به دون شعوذة. إني أحبه حبا عميقا وحيوانيا، حبا دنيويا ومقدسا في وقت معا) وكان يظهر قلة شفقته على البشر مع أن رواياته تكذبه.

ومن قوله: (أريد أن أفتح رأس أحد الشعراء لكي أرى ما فيه).

ولكنه كان يبكي لآلام الحيوانات الخرساء ويشقي. فصياح الذئب الجريح يدمى قلبه، ومشهد جثة البغل مطروحة على بضع خطوات من المرج، الذي كثيرا ما تمنى أن يرعى فيه ويسرح، يذيب حشاشته، ونباح الكلب الجائع يسيل عبراته. وله في شقاء الكلب قصة جد مؤثرة.

ومن قوله عن مملكة الإنسان، أو الحيوان الأصغر، أن القدر يتسلط على الإنسانية

بوحشية الإنسانية في تسلطها على البغال والكلاب.

وقد نفخ في نفوس قرويي روح نورمنديا روح الحياة، وكان يتصل بهذه النفوس البسيطة لا عن طريق الروح، بل بالشعور والفطرة والشم، وقد كانت هذه الحاسة الأخيرة قوية فيه كما هي في بعض الحيوانات البرية. فكان يقف بواسطتها على تأثراتهم وغرائزهم وأفكارهم

ص: 25

ونوع معيشتهم. حتى إن الحياة التي تختلج في صفحات كتبه كانت عابقة بمختلف الروائح ولا سيما المنتنة منها. لأن موبسان لم يكن ينظر إلى الحياة إلا من ناحيتها المنتنة فيقبض على هذه الناحية بكلتا يديه، في دعكها وعصرها إلى أن يمسخها أو يدميها.

وكان يستخدم في إعداد قصصه، حتى الشنيع منها، أسلوبا خاصا، لأنه لم يكن يرى فيما يريد أن يكتبه سواء أكان عن الأمراء أم القرويين، شيئا من التفكه أو الزهور، ومع ذلك فقد أرتفع في وصفه الألم والبلادة والسخافة إلى أعلى ذرى الفن. وكانت قصصه شبيهة بامتثال لافونتين وراويات بوكاسيو الرائعة ومن خصائص فنه القصصي تجريد أشخاص رواياته من النفس ومن أية تعزية دينية. ومع ذلك فتشاؤمه وضآلة علمه وأسلوبه المدرسي البسيط، كل ذلك يدل بأجلى بيان على أنه خير ممثل لجيله الجديد.

لم يتقيد موبسان في حياته بأي مذهب من المذاهب الفلسفية المعروفة. ومن قوله في هذا الصدد: (في العالم من الحقائق بقدر ما فيه من البشر فلكل منا فكرة خيالية للعالم. من هذا الفكر ما هو عاطفي، ومنها ما هو فرح وكئيب ودنس، أي حسب طبيعة كل واحد. ففكرة الجمال هي اصطلاح إنساني بسيط، وفكرة القبح رأى بسيط قابل للتغيير، وكذلك فكرة الحقارة التي يتعشقها الكثيرون، وأعاظم الفنانين هم الذين يستطيعون إرغام الإنسانية على اعتناق أفكارهم الخاصة)

كان موبسان كثير التخوف من الموت ومن قوله فيه: (أنا لا اعتقد باضمحلال كل كائن يموت)

وكان يخاف من الجنون وقد قال مرة لمدعويه: (يهمني كثيرا أمر الجنون، وسأكتب قصة عن رجل جن تدريجيا) ولشدة خوفه من هذا المرض كان يقضى لياليه عند عشيقاته كي لا ينام في غرفته وحيدا. وليس ما نطالعه في رواياته وقصصه من مواقف شاذة وأشباح مرعبة، سوى صورة جلية لما كان يقاسيه في سويعاته السرية من خوف وإرتعاب.

وعكف على درس كتب الطب وكان كلما اجتمع بطبيب يرهقه بالأسئلة عن أعراض بعض الأمراض حتى تبادر إلى أذهان الكثيرين من الأطباء أن موبسان يجمع معلوماته عن الطب لكي يضع رواية يحمل فيها عليهم وعلى علومهم.

وتسلط عليه أخيرا مرض رؤية نفسه فكان يرى ذاته أحيانا كما لو ينظر في المرأة ودخل

ص: 26

فأبصر طيفه جالسا على كرسيه يطالع كتابا كان قد تركه منذ دقائق قليلة وألف قصة عن رجل كان طيفه يتعقبه بصورة دائمة وفيما يكتب ذات يوم جاء طيفه وجلس أمامه بالذات، وأخذ يملي عليه ما كان يكتبه فأرتاع من شدة الخوف وصاح رافعا يده يريد طرد تلك الرؤية الغريبة.

وكان في أيام الشتاء يجلس إلى الموقد وهو يرتعش من شدة البرد حتى إنه أيام الحر كان يحتفظ بنار موقده مستعرة. وكان يفكر في الذباب الذي يعيش بضع ساعات، وفي الحيوانات التي تعيش بضعة أيام، وفى البشر الذين يعيشون بضع سنوات وفي العوالم التي تعيش بضعة قرون. ثم كان يتساءل: فما الفرق بين الحشرة والكون؟

بضعة شروق شمس لا أكثر ولا أقل!

وكان لشدة خوفه من الموت يقول: (إن الموت يقترب مني أريد أن أمد إليه يدي وأبعده عني. إني أراه في كل مكان: ففي الحشرات المدوسة على الطريق، وفى الأوراق المتساقطة على الأرض، وفى الشيب الذي يجلل رأس هذا الصديق! إن هذا كله يدمي قلبي ويصيح قائلا لي: أنظر! إنه يقضي على كل ما تفعله وكل ما تنظره وتأكله وتشربه وتحبه! إنه يحرمني رؤية شروق الشمس، وبزوغ البدر، وتقلب أمواج البحار، وجريان مياه الأنهار ونسمات العصر البليلة التي ينعشنا تتنشقها!)

وساءت حالته الروحية بعد فقد أخيه (هرفه) على أثر نوبة جنون أنتابته. ولكنه ازداد نشاطا وانعكافا على الكتابة وتأليف القصص والروايات، حتى إن هذا الدور كان من أكثر أدوار حياته إنتاجا، كما لو لأن السموم التي تفسد دمه، استخرجت أفضل ما فيه قبل أن تقضي عليه. وكان يترآى له كل ما في منزله من أثاث وأدوات يتحول إلى حيوانات كانت تدخل غرفته ثم تخرج منها وتنزل الدرج إلى الشارع. ووقف مرة أمام صليب كبير كان قائما في إحدى الساحات وقال لخادمه: أنظر يافرنسوا لقد كان في الثالثة والثلاثين عندما صلب، وأنا الآن أقترب الحادية والأربعين!

لقد كان موبسان رسام النفس البشرية الأكبر. كان يرسم بدون بغض وبدون حب وبدون غضب وبدون شفقة كان يرينا ما في هذه النفس من شوائب وعاهات بلباقة وإتقان يحملاننا على الاعتقاد بأنها حقائق ننظرها بأعيننا ونلمسها بأيدينا.

ص: 27

وبعد منتصف ليل رأس السنة بساعات قليلة، تناول مسدسا وأطلقه على رأسه بحركة جنونية. ولما رأى أن المسدس كان فارغا أخذ يطعن عنقه بشفرة للحلاقة إلى أن سالت دماؤه ثم أخذ ينظر إلى فعلته هذه بصورة تدل على قلة الاكتراث ولما أسرع الخادم إليه صارخا قال له: أتنظر يافرنسوا ماذا فعلت؟ إنه الجنون بعينه!

وقدم الأطباء وضمدوا جراحه وفي اليوم التالي حملوه إلى البحر لعل رؤية يخته تعيد إليه وعيه. فحدق قليلا في اليخت، ثم حرك شفتيه كطفل ولم يقل شيئا وعادوا به إلى البيت حيث توفى، وقد كان ذلك في عام 1893.

(العصبة)

إسكندر كرباج

ص: 28

‌3 - فن القيادة

للكاتب الفرنسي أندريه موروا

بقلم الأستاذ محمد أديب العامري

وفي الختام لابد للزعيم من أن يجمع في حسبانه بين والتقاليد والعادات. اجل إن الحياة عنده والبقاء فضيلة، ولكنه يبني بناء المستقبل من مواد الماضي المتينة، فيسكبها في قوالب تخضع لحاجات الحاضر، لكنه لا ينبذها. ولقد أوضح (كبلنغ) في قصة رائعة كيف يعاقب آلهة النهر بنائي الجسور الذين يخرجون على القوانين القديمة في الأعمال. إننا نحن رجال القرن العشرين المسلحون تسليحا عجيبا للتغلب على العالم لكن للعالم أساليب شنيعة في الانتقام لنفسه، ولا يسهل علينا دائما أن نبصر جرائر أعمالنا. ففي الثورة مثلا يقوض الناس وسائل الدفاع المعهودة في البلاد غير أن هذا الرأي لا ينكشف إلا في النهاية. فالثورة الفرنسية انتهت بعهد الرجمة إلى الماضي أما الزعيم الحكيم فلا ينسى أن ما ينشره العراف لا تلتئم أطرافه بعد أن يكون السحر قد فعل أفاعيله.

ومهما يكن مركز الزعيم، وزيرا أو مديرا، أو رئيس مكتب، أو بناء، فأنه يتصل بتابعيه بطرق ثلاث: بالأوامر التي يصدرها والتقارير التي يتلقاها والتفتيش الذي يجربه. أما الأمر فيجب أن يكون واضحا، إن التخيل والتفكر يمكن أن يكون غامضا، والخطة التي لم تنفذ بعد يمكن أن تحمل في تضاعيفها آثار الرؤيا. أما الأمر فيجب أن يكون واضح المعالم، وجميع الأوامر يمكن ان يساء فهمها. لكن الأمر الغامض لا سبيل إلى فهمه قط. قال (نابليون):(إذا أردت أن تقوم بعمل قياما حسنا فأده بنفسك) ولكن هذا غير صحيح. أما القائد الحصيف فيعترف بأن الذين يدركون الأمور من الناس قليل، وأن جميعهم على وجه التقريب ينسون، فليس من الممكن إذن أن يقنع الآمر بإصدار الأمر، وإنما يجب أن يراقب تنفيذه وأن يتبصر عند إصدار الأمر بأي سبب يمكن أن يعوق تنفيذه، ولا جد لبلادة الناس ولا لسوء الطالع، ولذا يتوقع الزعيم دائما حدوث ما لا ينتظر. والزعيم الذي يسعى للحيلولة دون عوامل الخطأ ويحتاط لنقاط الضعف في الخطط؛ أقوى على تنفيذ ما يريد عندما يواجهه الناس بغبائهما وتعارضه الصدف السيئة، من زعيم آخر لا يحتاط لهذه الأمور.

ص: 29

والحاجة إلى هذه الاحتياطات تكون أقل إذا فاز القائد بجماعة من حوله علمته التجارب أنه يستطيع الاعتماد عليهم ولكل زعيم وطني وزارته كما لكل قائد عسكري أركان حربه.

وهؤلاء المساعدون يعرفون خصائص زعيمهم كما يعرفون سبيلهم إلى خدمته، وهم لذلك يدركون تعليماته في سرعة متناهية ويراقبون تنفيذها إلى آخر حرف فيها، غير أن عدد الذين يمكن الاعتماد عليهم من الناس في هذا العالم قليل. وقد روى عن (الرئيس ولسون) قوله: إنه كان يثق بالبشرية، ولكنه كان لا يثق بالرجال جميعا أما القائد الصحيح فيشك بالبشرية ويثق بعدد قليل من الرجال.

وكيف السبيل إلى اختيار هؤلاء الرجال؟ إن أول واجبات الزعيم أن يتعرف إلى جماعات منهم يستطيع أن يختار منها أعوانه، ومن الصفات القوية في (المارشال بيتان) التي برزت عندما تولى قيادة الجيش الفرنسي كانت أستاذيته السابقة في الكلية العسكرية التي مرت على يديه فيها أجيال من الضباط الأحداث وكان (جامبيتا)

يتجول في كل ناحية من فرنسا ليتعرف إلى القضاء في دوائره.

والرجل الذي يكتسب شرف القيام بحكم بلاد يجب أن يحاول اكتشاف أحسن الرجال لأهم الدوائر الحكومية - وليس عليه أن يستفيد مما يجد بين فحسب ولكن واجبه يقضي عليه كما تقضي عليه مصلحته أن يخلق مواد جديدة. وتقوم الأحزاب السياسية خارج فرنسا بهذه المهمة. فالمحافظون مثلا في إنجلترا يصنعون هذا. إنهم يرقبون يقظة الجامعات الكبرى يرجون أن يجدوا فيها شبابا يتحولون في المستقبل إلى ساسة، وهنالك كلية خاصة فإذا أثبتوا ذكائهم فإن الحزب يكسبهم مقاعد في البرلمان كما يحاول رئيس الوزراء أن يقدم للأحسن منهم الفرص الممكنة فيبوئهم مراكز لمساعدة كوكلاء في البرلمان ولابد لزعيم الحزب من أيجند للحزب من حزبه رجالا يصلحون للحكم. وهذا الواجب يقع كذلك على مديري الأعمال الكبيرة ولا ريب أن بعض هؤلاء يدركون هذه الناحية فمدارس (كروسو) مثلا تدار بمهارة تدعوا للإعجاب فتهيئ لكل طالب الفرصة اللازمة ليتبوأ على المراكز التي تؤهله لها ملكاته

ومن الصعب في غالب الأحيان إيجاد التفاهم التام بين المساعدين إذ من الضروري هنا نفي التعصب أو التحزب المحلي في أية دائرة لتنسجم تلك الدائرة مع المصالح الأخرى،

ص: 30

ففى السكة الحديد مثلا حيث تنشأ الخلافات بين الإدارة والأقسام الفنية أو في قيادة الجيش حيث ينشأ التشاحن بين مركز القيادة والضباط في الميادين في هذه الحالات يجب أن يدرك كل إنسان أن الجيش أو المعمل أو البلاد تشبه جسماً حياً قائما برأسه وأن أي اضطراب يقع بين أعضائه إنما يكون انتحارا محضا.

وكثيراً ما يقع أن المساعدين الذين يعجبون برؤسائهم ويخلصون في العمل لهم يتغلب عليهم الحسد بعضهم مع بعض بشره عنيف في التماس رضاهم، فيجب أن يحسب لهذه الحالات المتعبة حسابها وأن يعالجها المعالجة اللازمة لأنها ذات خطر كبير في نظام العمل، وكما يستطيع السائق الماهر الخبير أن يعرف بالإصغاء إلى آلة سيارته أن إحدى أسطواناتها لا يقع فيها اشتعال كما يجب، كذلك الزعيم الموهوب يعرف أن مساعديه لا يؤدون الخدمة اللازمة له، فيفتش عن السبب ويتوصل إلى معرفته وكثيراً ما يكون السبب تافها - قد يكون شيئا من الاتساخ في آلة الاشتعال، وقد يكون هزة للأكتاف لا تزيد عند تحليلها على حركة عصبية تؤول على أنها تحقير مقصود.

ويتلقى الرئيس تقارير عن نشاط موظفيه ونتائج التعليمات التي أصدرها إليهم وهو يطالع هذه التقارير في حذر وشك ولقد أعرف رئيسا لمصنع كان يقول أن جميع التقارير كاذبة. وكان على حق لأن كل شيء فيها تقريبا عرضة للمبالغة والتشويه والطريقة الوحيدة لتجنب الخطأ في الحقائق هي أن يجري المسؤول تفتيشا خاصا بنفسه من آن لآخر، ويكون لهذا التفتيش نتائج فعالة للغاية كما تكون الفكرة الناتجة عنه صحيحة ومدعاة لتصحيح للتقارير التي ترد فيما بعد، ويذكر (المارشال بيتان) حكاية وقعت في سنة 1951 عندما عين قائدا في إحدى القطاعات التي طالبت فيها القيادة العامة بالهجوم مرات متوالية كانت البلاغات الصادرة تدل على تقدم بطيء وخسارات فادحة فلما شك (بيتان) في الامر شخص إلى الجبهة ومعه المراصد اللازمة فوجد البلاغات قد شوهت لغاية إرضاء القيادة العليا وأن الانتصارات كانت خيالية لا أساس لها من الصحة والتقارير التي ترفع لأولي الأمر تكون دائما مرضية أو تقدم على شكل يرجع النظريات التي يؤمن بها صاحب التقرير

والقائد الذي يطالب موظفيه بما يريد يستطيع دائما أن يكسب عطفهم أكثر من قائد لا يبالي

ص: 31

بالأمور. وأمثل الطرق لفرض الحزم في العمل هو أن يحيط القائد نفسه بالأشخاص الذين يجد فيهم من الصفات ما يرضيه ومن العادة أن يتقبل أي إنسان النقد إذا لم يكن هذا النقد موجها إلى خلفه أو إلى ذكائه والخطة الحكيمة في هذا الصدد أن يعرب المسؤول في سرعة وقوة عما يحس إحساسا قويا. وإذا وجه توبيخ قاس بسرعة فإنه يكون أقل إيلاما من الإبانة عن عدم الرضا المشحون بالكراهية. ويجب أن يدرك المأمورون أنهم عرضة للعقوبة إذا لم يقوموا بتنفيذ الموجه إليهم، كما يجب أن يعلموا حق العلم أنهم معفون من جريرة تنفيذ الأوامر التي تؤودي إلى تهلكة والقائد الحكيم يتحمل دائما المسؤولية الكاملة فيما يقوم من أعمال

والقائد المدافع الطبيعي عن شعبه ضد عدوان المعتدين. ومن اللازم أن يراقب قائد عماله أو جنوده أو يجاريه ليستوثق من أن المعاملة التي توجه إليهم من رؤسائهم عادلة محترمة. وهذا أصعب واجبات القائد، إذ يجب عليه أن لا يضعف من سلطة مساعديه ولا يصبر على التصرفات المسيئة التي يقترفها أصحاب السلطة منهم. وليس من قاعدة هنا يمكن سنها، وإنما يحاول المسؤول أن يرفع كفة ويرجح أخرى حتى يحفظ التوازن المطلوب ومن واجبات الزعيم أن يتنبأ ما استطاع بالتذمر الذي يمكن أن يقع فيعالجه كما يعالج الظلم قبل تقديم الشكايات. وللوصول إلى ذلك من الاتصال المستمر بالرجال الذين يعملون معه وهذا يعنى أن ينزل إلى الخنادق إذا كان قائدا عسكريا وأن يراه العمال قائما بينهم زائرا لهم آونة وأخرى إذا كان مديرا لعمل. ولابد للزعيم من خيال يسعفه فالاطلاع على حياة الآخرين شيء ضروري له لكي يتمكن من حماية الذين يكابدون المتاعب منهم. وسر الوصول إلى محبتهم أن يشعر معهم وأن يستطيع مساعدتهم في أعمالهم بالقدرة التي يستطيعون القيام بها هم أنفسهم. والناس يصبرون على تلقى الأوامر بل يحبون ذلك إذا كانت هذه الأوامر تلقى صحيحة واضحة.

ويختلف الحكم على القيادة في الفن اللازم لهما زمن السلم فالقيادة تعني إيصال جماعة من الناس تحت نظام صارم إلى غاية معلومة. والضابط في الجيش يعلم أن رجاله يطعيون إلا في الحالات النادرة من العصيان الخطير. وهو يحيط إحاطة تامة بالغاية التي يرمي أليها سواء كانت دفاعية أو كانت للاستيلاء على مقاطعة معينة. ورئيس مشروع تجاري كبير

ص: 32

مثلا يعلم أنه يجب أن ينتج بضاعة من البضائع بسعر معين ومقادير محددة كما يعلم أن فشله يؤدى إلى دمار المشروع والى تعطل موظفيه وعماله ومن المعتاد أن يكون قادرا على السيطرة على الموقف مادام يتبع الأنظمة إلا في حالات يضطرب فيها النظام الاجتماعي والحاكم المطلق كالقائد العسكري يقود ولا يحكم.

أما رئيس الحكومة في أمة حرة فيوجه البلاد إلى أهداف متغيرة ويدير أعمال جماعات من الناس غير مكلفين بالطاعة ألا بعامل الخوف من الفوضى. وهذا العامل غير موجود في أيام السلم. ولا يستطيع أن يقوم بأي عمل دون أن يوجه أليه خصومه النقد بقصد إحلال رجل آخر مكانه في غير لين ولا رحمة ومساعدوه في هذه الحالة لا يبدون له الاحترام اللازم فإنهم أكفأ له وإن منهم خلفاءه في المستقبل.

وهنا يرد السؤال: ما هي الصفات التي نتطلبها في رجل تلقي أليه أعباء إدارة شؤوننا؟ وأول ما في هذا الباب هو إحساسه بما يمكن وما لا يمكن. وفى الأعمال السياسية يعتبر من العبث أن يخطط القائد لمشاريع عالية عظيمة إذا كانت حالة البلاد لا تأذن بتنفيذها. إن دوافع الشعوب الحرة تشبه متوازي القوى، فالسياسي العظيم يدرك كل الإدراك ماهية القوى ويخاطب نفسه دون أن يرتكب خطأ شنيعا فيقول:(أنني أستطيع أن أمضي إلى هذا الحد لا غير) ولا يسمح لنفسه أن ينحاز إلى طبقة متجاهلا رد فعل الذي يحدث عند الجماعات المهملة. والطبيب الحصيف لا يداوي مريضا من شكوى خفيفة عابرة بعلاج يولد مرض في الكبد. والسياسي العادل لا يرضي الطبقة العاملة على حساب الطبقة البرجوازية، ولا يطلق العنان للبرجوازيين على حساب الطبقة العاملة. وهو يجهد أن ينظر إلى الآمة نظرة إلى جسم حي كبير تعتمد أعضاؤه بعضها على بعض. وهو حرارة الرأي العام كل يوم، فإذا ارتفعت هذه الحرارة أعد العدة لتلافى الأمر وإراحة الأمة.

وهو يدرك الإدراك كله قوة الرأي العام ولكنه كسياسي ماهر يعرف انه يستطيع أن يؤثر فيه بسهولة فأنه يعرف قوة الشعب على عدم الاكتراث بمجهوده، وأن للناس ساعات يبدو فيها منهم العنف، وحق لهم أن يفعلوا إذا كانت الحكومة تجلب لهم الفقر وتحرمهم ما ألفوا من حرية أو تتدخل في حياتهم الخاصة. غير أنهم يرضون أن يسير بهم رجل يعرف إلى أين يتجه ويبدى لهم بوضوح اهتمامه الصميم لمصالح الأمة وأنهم يمكن أن يركنوا أليه

ص: 33

ويعتمدوا عليه.

أما القدوة على معرفة ما يمكن وما لا يمكن فليست تعني استحالة بعض الأشياء لأن هذه صفة سالبة، ولكنها تعنى وقوع الأحداث التي تظهر عسيرة جداً. إن الرجل السياسي العظيم لا يقول لنفسه (هذه الأمة حفيفية) ولكنه يقول هذه (الأمة نائمة وأني سأوقظها) إن القوانين والأنظمة والمؤسسات من صنع الناس ولذلك أستطيع أن أغيرها عند الحاجة.

وأهم من ذلك كله أنه يتبع العزيمة والتصميم أعمال لا أقوال فقط. إن صغار الأحلام من السياسيين ينفقون معظم أوقاتهم في رسم الخطط والدعوة إلى المذاهب. إنهم يتحدثون عن الإصلاح والبناء ويخترعون أنظمة اجتماعية معصومة من الخطأ ويسنون خططاً لسم دائم ولقد قلنا عند بحثنا في فن التفكير أن المشروع شيء والعمل شيء آخر إن السياسي الصحيح يعرف عند الحاجة كيف يحترم في خطبه العامة النظريات الحديثة ويصرح بعبارات جذابة بفائدة الرجال الذين يحرسون أبواب المعابد، ولكنه من حيث الواقع إنما يعمل لسد الحاجات الحقيقية التي تحتاج أليها الأمة. فهو يقول مثلا. إن فرنسا سنة 1939 ينبغي أن تؤمن السلام قبل أي شيء آخر وأن تنشئ لنفسها دفاعا جويا بإنشاء عدداً أكبر من الطيارات وأن تزيد إنتاجها من الصناعات الأخرى، وأن تنظم أحوالها المالية تنظيما وطيداً. وهو يعمل على إنجاز هذه الأهداف الواضحة الصحيحة بأحسن الطرق التي يراها فإذا صادف عقبات في سبيله فأنه يدور حول هذه العقبات أما الغرور والكبرياء الثقافي والشعور بالحاجة الشديدة إلى نظام شديد زائد فأنها موانع خطيرة في وجه السياسي. وبعض زعماء الأحزاب على استعداد لتضحية بلادهم من أجل نظرية أو مجموعة من المبادئ. أما الزعيم الحقيقي فيقول: فلنتنح عن المبادئ ولنخلص البلاد) هل يكون علمه مبتورا؟ هل يعقب ذلك ظلم؟ إنه يدرك أن هذه ممكنات، وكل عمل معقد لا يتم بكامله. وفي كتاب (لجورج برنادو) يحاول كاهن مسن أن يعلم كاهنا صغيرا أن القديسين أنفسهم لا يستطيعون أن يحولوا ديرا إلى مجموعة من الأولياء ذوى الاستقامة والصدق التامين ولكي يدلل على هذا يروى الشيخ حكاية امرأة بلجيكية أرادت أن تحول كنيسة غير نظيفة إلى معبد نظيف مشرق النظافة فقامت على مهمتها وأخذت تزيل الغبار المتراكم ولكن طبقة من الغبار الجديد كانت تتراكم كل صباح كما كان العشب يبت هنا وهناك وتنسج العناكب

ص: 34

خيوطها في الزوايا غير أن المرأة لم تيأس واستمرت في التنظيف والغسل، فأخذ الطحلب ينمو على رؤوس الأعمدة وتراكم الوسخ في الكنيسة أيام الآحاد. أما أيام الأعياد فقد أرهقتها وذهبت بقوتها واستمر الرجل المسن يقول (ولقد كانت مجاهدة ولا شك، ولكنها كانت مخطئة، وخطؤها لم يكمن في حملتها في سبيل النظافة ولكن محاولتها التخلص من الوسخ بتاتا، كأن شيئا مثل ذلك ممكن. إن الكنيسة مكان لابد من أن يظل متسخا.

والقارة أشد اتساخا من ذلك،

وخاصة إذا كانت قارة عجوزا مثل أوربا، غزتها طوال أجيال عديدة أعشاب والنمال بالكراهية والمرارة. وكان (ولسون) أشبه ما يكون بالمرأة البلجيكية فقد أراد أن يحيل هذه الأرض العتيقة المغبرة في سرعة مفاجئة إلى حلف من المحامين، كانت فكرة بديعة ولا ريب ولكنها كانت مستحيلة التنفيذ كما يستحيل اليوم أن نحاول تنظيف أوربا على أساس الواقع فيها مرة واحدة والى الأبد. والسياسي العظيم مثل الخادم البارع يعلم أن التنظيف عملية يجب أتتم كل صباح وهو يرى الشجار شيء طبيعي فيتحمله بصبر لأن شجارا آخر سيحدث على أثر ما يهدأ الشجار الأول، وهو يوافق على إجراء تسوية مؤقتة وإن كانت لا تكفل له ما يرد، لأنه يعلم أن لاشيء في الحياة البشرية يكفل لأي إنسان كل ما يريد بصورة دائمة. والسلم عالمية أو اجتماعية لابد أن تجئ وإن حالت ذلك عقبات متكررة فتمر سنوات عشر أو عشرون يتم خلالها عمل الجيل ثم يتبع ذلك جيل آخر يمارس حياته اليومية من جديد.

ومن حق الزعيم الذي ينال لقبه عن جدارة أن يكون مطاعا. فالمجتمع البشري الذي لا يستطيع أن يولي زعماءه الذين أختارهم الاحترام اللازم مجتمع مقضي عليه، لأنه لا يستطيع العمل. ولا مانع بالطبع من أن يفضل المجتمع نظاما من الحكم على نظام ففي زمن الحرب مثلا يضطر إلى أن يستبدل بالنظام المدني النظام العسكري، فإذا تم ذلك وجبت الطاعة للزعماء الجدد. أما عدم النظام فيحتم الهزيمة في الجيش والدمار في الصناعة وأما المجتمعات التي تقع تحت رحمة الأنظمة المتضاربة فتنظيمها سيئ فمن ذلك أن يتقسم العمال داعيتان مختلفان، صاحب العمل والنقابة. وهنا يجب أن تعرف حدود صاحب العمل وحدود النقابة معرفة واضحة. فإذا تم ذلك كان لكل منهما سلطان مطلق في

ص: 35

الناحية التي يختص بها: وقد دلت التجربة في إنجلترا والبلاد الاسكندنافية على أن ذلك ممكن.

ومن حق الزعيم أيضا أن يحافظ على زعامته، إذ كيف يستطيع زعيم أن يصل إلى نتائج حسنة دون أن يكون لديه الوقت الكافي. وقبل أن يعهد إلى رجل بإعادة تنظيم مستعمرة أو تأسيس مصنع للطيران، من المحتم أن يجرى بحثا واسعا وأن نثق أن هذا الرجل هو أحسن الناس للمركز المطلوب: لكن إذا اختير الرجل كان من الواجب إفساح المجال له وإطلاق يده إلا في الحالات إلى يتضح فيها أن خطأ وقع في الاختيار، وأن الرجل غير جدير بالثقة. إن الوقت يتيح للإنسان إنشاء علاقات لا حصر لها ويسهل له الاضطلاع بأعباء السلطة.

وكيف يستطيع المرء أن يوفق بين الإدارة الحازمة والوقت اللازم لها وبين حق الناس في الانتقاد بحرية؟ ألا يتحول قائد له سلطات مطلقة لا كابح لها إلى رجل عسوف أو مجنون؟ أما (الدوس هلسكي) فقد أخترع أخبار (لعبة القيصر) فنظر في أصدقائه على أساس ما يصنع منهم كقيصر لو أسندت إليه السلطة العليا فلم ينجح في الاختبار إلا عدد قليل. ومن الواضح أن النقد ضروري ولكن السؤال هنا هو ماذا يستطيع النقد أن يفعل وإلى أي حد أن يذهب؟

أما في الجيش وفى الأعمال التي تتطلب أجراء مباشرا فتجب الطاعة العمياء ويجئ النقد هاهنا. من القادة أنفسهم أما في الحالات العادية من حياة الناس الحرة فإن كل إنسان يملك حق النقد في حدود يعينها الاختبار، فإذا أجمعت الأمة كان من الواجب أن يتغير قادتها من وقت إلى أخر لكن يجب أن لا يشهر بهم ولا أن يتغيرا مرات عديدة أو يسيرهم رجل الشارع وفى إنشاء الحرية الصحيحة يجب أن يقوم ذلك لا على قوانين عادلة فحسب ولكن على أخلاقية قويمة أيضا وعلى درجة استحقاقنا للحرية كشعب تقررها قدرتنا على احترام الزعيم النظامي وعلى الموافقة على المعارضة والإصغاء إلى ما تقول به وأن نضع صالح الأمة فوق صالح الأحزاب والنفع الخاص وليست الحرية شيئاً غير قابل للضياع إنها منحة هامة ولكنها عسيرة المنال ويجب أن نتمسك بها دائما أبداً.

هذه التربية الخلقية التي أشرنا أليها أشد ضرورة للذين كتب لهم أن يقودوا الناس إذ

ص: 36

بالإضافة إلى قدرة الزعيم على ضبط رفاقه فإنه يجب أن يكون ذا إحساس قوى بالواجب وهو لا يستطيع الاحتفاظ بمركزه إلا إذا أثبت كل يوم أنه جدير به. وليس زعيما قط من إذا وضع على رأس جماعة أو مشروع حاول أن يجلب النفع لنفسه وليس زعيما من يرضي بقيادة في جيش ويجعل لذاته فوق واجباته. وليس زعيما كذلك من يقع فريسة الغضب أو التحيز، ولا من يضحي وهو ممثل دبلوماسي بمنفعة بلاده الخارجية في سبيل المؤامرات والمشاحنات الداخلية. إن مجال الطبقة الحاكمة هو الإدارة أي توجيه البلاد في سبيل الشرف والعمل. والقيادة ليست ميزة ولكنها أمانة وشرف.

محمد أديب العامري

ص: 37

‌رسالة الشعر

فلسطين الضائعة

للأستاذ كمال النجمي

خلت فلسطين من سادتها

وأقفرت من بنى آبائها الشهب

طارت عن الشاطئ الخالي حمائمه

وأقلعت سفن الإسلام العرب!

يا أخت أندلس بذلا وتضحية

وطول صبر على الأرزاء والنوب

ذهبت في لجة الأيام ضائعة

ضياع أندلس من قبل في الحقب

وطوحت بينك الصيد نازلة

بمثلها أمة القرآن لم تصب

ذادوا عن الدار حتى ذادهم قدر

عدا على الدار والأسوار والرحب

يا أخت غرناطة عزا وقرطبة

في مواق من شباب الدهر مختلب

سلبت من يد أهل الحق مثلهما

بسيف منهك للحق مستلب!

أهلوك أين همو؟ شطت مهاجرهم

وأسلموا كخماص الطير للعطب

عاشوا جياعا فلما حان حينهمو

جادوا بأنفسهم حري من السغب

باتوا رماماً جفاه الذئب من شفق

ورحمة وعداه الصقر من أدب

تجوزه ساريات الريح معولة

عويل ثاكلة مرت علي الترب

اللاجئون بأهليهم وصبيتهم

والتائهون بهم في كل مضطرب

والنازحون عن الأوطان شتتهم

بطش العدو وبأس الحادث والحزب

نأوا بأطفالهم خوفا كأنهمو

حمائم هاجرت بالأفرخ الزغب

ويقتل النفس من غم ومن كمد

فناؤهم وهمو منا على عثب

ديارهم كيف باتت بعدما نزحوا

عنهاوباتوا على الأحجار والكثب؟

منازل خفتت أضواؤها ونأت

أطلاؤها وخلت لليوم والغرب!

يحلق الشهداء الأوفياء على

ركامها نحبا في ربعه االخرب

كم مسجد بعدهم عاث اليهود به

نشوى رءوسهم من سكرة الطرب

وبيعة سكرت فيها بناتهمو

وما خجلن وأخجلن أبنة العنب

معابد لا الدعاء السمح منطلق

منها ولا لغة القرآن والأدب

ص: 38

آضت طلولا يلم الرسل من جزع

برسمها وينوح الصحب من حرب!

وكم كعاب أذيلت في طهارتها

وطفلة فجعت في عرضها وصبى

ورب طفل بكى اهتزت لدمعته

وصائل البيت ذي الأستار والحجب

بكت له الملة الغراء وإلهة

وأجهشت ملة الرهبان والصلب

يا آل يعرب في مصر وجيرانها

ملأتمو سمع هذا الكون بالصخب

لما تكلم صهيون بلهذمه

جاوبتم السيف بالأسجاع والخطب

أضعتمو بلدا عاش الخليل به

وأنزل الله فيه أول الكتب

مشى البراق على بطحائه وسرى

بأحمد فوق مسرى الريح والسحب

فليهنأ العرب بالنصر الذي غنموا

وليغمد القضب الأبطال في القرب

ضحية الغدر، اسلبنا مدامعنا

بريئة كدموع المزن لم تشب

أجرت عليك مآق غير كاذبة

دمعا تنزه مسفوحا عن الكذب

إن لم يعنك على عاد فمعذرة

لأخوة لم يضنوا بالدم السرب

فقد تحكم فيهم أجنب شرس

مسيطر فوقهم بالقهر والغلب

يمينه سامة عرب أبالسة

أزرى بهم كلف بالحكم واللقب

مافيهمو غير خوان لأمته

مضيع لحقوق الشعب مغتصب

يسير في خيلة الأبطال منتفخا

يهز في يده سيفا من الخشب

يجر أذيال ألقاب منمقة

يختال فيهن كالطاووس ذي الذنب

أخيذة الغرب هل في الشرق من رجل

مثوب في سبيل الحق معتصب

ذي مرة لم يشب أخلاقه دنس

ولا أطباء هوى اللذات واللعب

يقود يعرب نحو المجد منطلقا

في مهيع واضح عالي الصوى اللحب

لا تيئسي فرحاب الصبر واسعة

والحظ في صعد آنا وفي صببي

ولن تكوني لصهيون ودعوته

إلا جهنم فاضت منه بالحطب

هل بين هارون أو موسى وبينهمو

من واشج يصل الأرحام أو نسب؟

ما قوم موسى كليم الله شرذمة

تبيع أعراضها للناس بالذهب!

يا فلذة من فؤاد الحق قد قطعت

بصارم من دم الأعزال مختضب

ص: 39

لم يبق غير رماد منك محترق

مبدد كرماد النار منتهب

هنا إليك صلاح الدين مدكرا

خالي الوقائع من تاريخك العجب

أطل فوقك شوقا وانثنى ولها

بدمع غارق في الدمع منتحب

يدعو إليك أسود الله ضاربة

تعدو على مهج الأبطال والقصب

دعاء ليث له في كل معترك

طعن القنا وزئير الضغيم الغضب

ماض على سنة الآباء مقترب

لله مقترب في الله محترب

بما أدرت لبوءات الفلاة غذا

أعراقه ونما في خيسها وربى

يا بوم حطين عد للشرق ثانية

واخلع على العرب من أثوابك القشب

أعد إلينا صلاح الدين في أجم

من القنا وخميس زاخر لجب

كائن للجن في حطين مزدحما

منه يمس قلوب الجن بالرعب

ساورا كتائب للرحمن داعية

بالبيض تغمر وجه الأرض واليلب

يفرجون عن الإسلام كربته

ويمنعون كريم المجد والحسب

ويقهرون العدا إما التقوا بهم

في ساحة رحبة أو معقل أشب

القاحمون على الآساد معقلها

والواثبون وثوب الجن في اللهب

والقارئون كتاب الله في رهب

والواردون حياض الموت في رغب

سادوا الدنيا في ظلال الله راضية

وغادروها فنالوا أجر محتسب

إيه فلسطين والأيام راكضة

بنا تقطع قلب الدهر بالخبب

ماذا سقتك يد الأيام من غصص

أليمة ورماك الدهر من كرب

لما سقطت بكى القرطاس من وله

عليك وأنشق صدر السيف من غضب

يبكى عليك بنو الإسلام من عدن

إلى الرياض إلى مصر إلى حلب

قد ذاب كل فؤاد حرق وجوى

وانشق كل جماد منك لم يذب

بي منك جرح فتى ضيمت عروبته

ومسلم حيز منه عرضه وسبي

ولم أزل كأبي أهفو إليك أسى

وينثنى لا عج الأشواق نحوك بي

قاسمت فيك الأسى شعري فقاسمني

حتى وهيت وضج الشعر من لغب

(القاهرة)

ص: 40

كمال النجمي

الرجوع إلى النيل

للدكتور زكي المحاسني

ماذا تركت من الهوى لفؤادي

من بعد تسهادي وطول ودادي

خل التواصل للأحبة كلهم

كان الهوى أقوى على الأبعاد

خالفت في أهل الصبابة حكمهم

فهمو أرادوا الحب في الآحاد

لكنني أبغي الغرام شراكة

فاحمل معي عبء الهوى المنآد

كل يحب الشمس فاسكب ضوءها

في العين والأضلاع والأكباد

إنا نزلنا مصر، لا في زورة

محسوبة الأيام والميعاد

فسل الزمان يجبك: هذي دا

رنا أيام كان الفتح بالأجداد

فإذا عشقنا أرضها وسمائها

وهفا النخيل بنا على الآباد

فلقد رأيناها مرايا عزنا

عكست دمشق وملتقى بغداد

فأعذر حبيبك إن أتاك مكاثرا

يحدوه نحوك باشتياق حادي

خلق الجميل لكي يحب ويشتهي

ويقول من يلقاه ذاك مرادي

يا مصر يا بنت الخلود جديدة

وقديمة، يا كعبة القصاد

هذي وفود الشام أقبل جمعها

ليراك بين مطارف الأبراد

مهد الكنانة أنت بل دار الندى

شهد الوفاء عليك هذا النادي

فأعجب بكل معلم من أهله

نذر الحياة لحكمه وسداد

وأشرب كؤوسك من رحيق نيله

يشفي من الأدواء والأحقاد

وإذا رجعت إليه يوما مثلما

رجع الطيور صدى إلى الأوراد

فقل الذي أسكرتموه بنيلكم

أنتم كتبتم عوده لمعاد

زكى المحاسني

الملحق الثقافي السوري بمصر

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

قطع العلاقات الأدبية:

أصدرت الحكومة قرارا يقضى بخطر تصدير الورق المطبوع وغير المطبوع، علاجا لأزمة الورق الحاضرة، حتى يتوافر في داخل القطر ما يرد منه. ويتضمن ذلك منع إصدار الكتب التي تطبع في مصر إلى سائر البلاد العربية. . وهذا قرار بالغ الخطورة! أهون منه حل جامعة الدول العربية وكل ما ينشأ بين الحكومات العربية من خلاف وسوء تفاهم. . . فالكتاب هو السفير بين البلاد، وهو سفير يعمل على توطيد المودة وتعزيز القرابة بين أهلها، وهو سفير صامت يعمل في غير تظاهر ومآدب وحفلات، لا يخطب بكلام يرن بين الأركان ثم يذهب في الفضاء، وإنما يتحدث إلى العقول والقلوب فتستكين إليه ويستكين بها، فأن ذهب تسرب إلى قرار النفوس وبواطن المشاعر.

فالكتاب بين البلاد العربية أساس وحدتها وقد سبق (البرتوكولات) بل مهد لها وقامت عليها. فليت شعري كيف ينزع الأساس ويظل البناء قائما!

والعجيب أن ذلك القرار يشمل منع الكتب عن جنوب الوادي: السودان! وهنا معنى سياسي لست أدرى كيف خفي على من أعدوا القرار. . . وهناك أيضا نواح عملية لست أدري أيضا كيف خفيت عليهم، فلنا في السودان مدارس تصرف لها الكتب من مصر. . ولدار الكتب المصرية فرع في الخرطوم من الطبيعي أن تمده بما يجد من الكتب، وكذلك هناك مكتبة النادي المصري بالخرطوم. وإخواننا السودانيين على العموم يحفلون بالمؤلفات المصرية ويستقبلونها من لدنا كما نستقبل من لديهم ماء النيل.

والعجب يبلغ أشده كلما أنعمنا النظر في ذلك القرار. . والظاهر أن الموظفين الذين فكروا فيه وأعدوه إنما نظروا إلى الناحية المادية والتجارية المحضة، نظروا إلى الكتب على أنها بضاعة كالأرز والبصل يمنع إصدارها لتكثر في الأسواق المحلية ولم يخطر ببالهم أن قطع الكتب إنما هو قطع العلاقات الأدبية وصد للتيار الفكري بين البلاد العربية، بل أقول إن النظرية المادية التجارية نفسها غير سليمة، فمستهلكو الكتاب المصري في مصر قليل، وهو يعتمد على قراء البلاد العربية الأخرى، فمنعه من التصدير معناه الكساد وما في هذا

ص: 43

الكساد من القضاء على الحركة الفكرية في مصر. ولندع الحركة الفكرية ونستمر في المناقشة الاقتصادية إن المواد يمنع من التصدير لتقوم بالحاجة المحلية، فماذا نصنع بالورق الذي يستعمل في طبع الكتب، والكتب قد حكم عليها بالكساد. .؟

وهناك - من الناحية الاقتصادية والاجتماعية أيضا دور النشر والطباعة وعمالها. . أليس في الحسبان ما يصيبهم من أضرار وتعطل؟ هل من النظر الاقتصادي السليم أن تحل أزمة بأزمة. . فيدير توافر الأوراق بتوافر البطالة في البلاد.

أن ذلك القرار من أين أتيته وجدت فيه الخطر والعجب والمخلص الوحيد منه أن يتداركه أولوالأمر، وفيهم من لا تخفى عليه دقائقه.

فلم (ليلة غرام):

كنت قد أخذت نفسي - في فترة مضت - بتتبع ما يعرض في الأفلام المصرية، والكتابة عنها، قاصدا بذلك أن أسلك طريقا أو أساهم في طريق يؤدى إلى حسن استخدام صناعة السينما في نفع المجتمع وخير الناس من حيث معالجة المسائل القومية والاجتماعية، وتهيئة أسباب المتعة الفنية البعيدة عن التبذل والإسفاف وقد رأيت - إذ ذاك إزاء خطر هذا الفن باعتباره أكثر الوسائل اتصالا بالجمهور - أنه ينبغي أن نصبر على ما في البضاعة من تفاهة وغثاثة، وأن نولي هذه الناحية اهتماما لا بالنظر إلى المعروض، بل نظرا إلى المثال المرجو منها وأيدني في ذلك بعض القراء وخالفني آخرون قائلين: ما هذا الذي تكتبه عن شكوكو وكاريوكا وإسماعيل يس؟ اعدل بنا يا رجل عن هذه الأشياء إلى الأمور ذات البال. .

وحين وصل إلى سمعي ذلك القول كان صبري قد نفذ وضقت ذرعا بتلك الأفلام، فعدلت عنها واكتفيت بتتبع الروايات التمثيلية ذات القيمة الأدبية التي تمثل على المسرح الراقي

وأخيرا علمت أن هناك فلما أخرج من قصة (لقيطة) التي ظفر كاتبها الأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله عنها، بجائزة مجمع فؤاد الأول للغة العربية منذ سنوات، وقد سمى الفلم (ليلة غرام) على اعتبار أن اللقيطة كانت ثمرة لتلك التي التقى فيها أبوها حرام. شاهدت الفلم لمكانة قصته وصاحبها من الادب، ولنلق أولا نظرة على مجمل القصة قبل الكلام عليها: يعرض الفلم حياة إنسان من حقه أن يكون له بذاته اعتبار في المجتمع ولكن

ص: 44

المجتمع يضطهده ويأبى عليه هذا الحق لذنب جناه غيره، ذلك الإنسان هو (اللقيطة) التي قذفت بها الأقدار عقب ولادتها إلى ملجأ اللقطاء حيث نشأت لا تعرف لها أبا ولا أما، ثم خرجت منه بعد أن شبت إلى ميدان الحياة وكانت في الملجأ تعانى شعورها بحرمان الأبوين، فلما أتيح لها شيء من الاستقرار والنجاح في معترك الحياة جعلت تصارع لؤم الناس وسوء نظرهم أليها لأنها لقيطة فقاست ألوانا من الألم والبؤس صبرت عليها في إيمان ثابت يغذيه ويقويه في نفسها (السيد الأمير) وهو رجل من علماء الإسلام مستنير العقل واسع الأفق، كان مبدأ صلتها في المستشفى الذي كانت تعمل ممرضة فيه وكان هو يعالج هناك، ولما يئست هي وخاطبها الطبيب الشاب الذي أحبها وأحبته، من موافقة أبيه الثرى على زواجهما، لجأ إلى السيد الأمير الذي استطاع بقوة وشخصيته الدينية أن يقنع الوالد بأن البنت لا ذنب لها جناه أبواها المجهولان، وكان الحل الأخير أن يتبنى السيد الأمير الفتاة، ويتم الزواج ليس الموضوع - وهو الدفاع عن اللقيط البريء ضد المجتمع الذي يظلمه - ليس هذا الموضوع جديدا، وليس حتما أن يكون الموضوع جديدا، فالعبرة بالمعالجة وطريقة التناول وقد عالجه المؤلف علاجا حسنا، وتناوله من نواح واقعية، وصوره في صورة حية، وربما بينها بخيال محبوك الأطراف وبذلك خرج هذا الفلم عن المدارات المتشابهة التي تدور عليها الأفلام المصرية، وجانب المبالغة التي تعرضها قصدا إلى الإثارة، وليس بهذا الفلم فراغ كالذي يسد في الأفلام الأخرى بمناظر التهتك وعرض المتباذل، ففيه موضوع يشغله عن ذلك وقد أخرج الفلم أحمد بدرخان فأحسن إخراجه، بتنسيق المناظر وتوجيه التمثيل، والمحافظة على ما في القصة من معان أدبية جميلة، بل بترجمة هذه المعاني إلى لغة السينما ووسائلها فجمع مثلا بين مناظر الشروق والغروب وبين خواطر البطلين في الأمل واليأس، وكانت شخصية السيد الأمير موحية بكثير من المعاني الروحية القوية، وكانت وسيلة لمعالجة المشكلة من وجهة النظر الإسلامية

وفى القصة كثير من المصادفات التي استعين بها على تسلسل الحوادث وحبكها، وهي مقبولة لأنها لا تخرج كثيرا عن الواقع، وأرى لهذه الكثيرة أن إظهار الأم مريضة في المستشفى للتعارف هي وأبنتها اللقيطة، وكان صدفة مفتعلة زائدة علي ما أشبعت به القصة من مصادفات، وكان يمكن الاستغناء عن هذا المنظر دون أن يخل ذلك بمجرى الحوادث.

ص: 45

التصوير الفني في القرآن

أشرت في الأسبوع الماضي إلى المحاضرة التي كان مقررا أن يلقيها الأستاذ أحمد الشرباصي في الجامعة الشعبية، عن كتاب (التصوير الفني في القرآن) للأستاذ سيد قطب. وحالت بعض الظروف دون إلقائها. وأذكر الآن أن الأستاذ ألقى هذه المحاضرة في جمعية الشبان المسلمين يوم الثلاثاء الماضي. أستهل المحاضرة بمقدمة عن سوء التفاهم بين الرجال الفن ورجال الدين، ولتمسك الأولين بالتحرر والانطلاق والتزام الآخرين التزمت والتقيد، وقال إن كلا منهما يغالي في طرفه، ولو أن الفريقين تركا هذا التغالي لالتقيا عند هدفهما الواحد وهو طلب الجمال الروحي وعد المحاضر كتاب (التصوير الفني) أول عمل صريح في سبيل ذلك الهدف، وقال إن المؤلف هو أول من كشف عن القاعدة التي بني عليها كتابه، وهى أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن فهو يعبر بالصورة المحسسة المتخيلة عن المعني الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية ثم يرتقى الصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة ثم أتى المحاضر بأمثلة من الكتاب تطبيقا لهذه القاعدة ومما قاله أن بعض الناس أدعى انه سبق المؤلف إلى هذا الموضوع وهى دعوى مردودة لأن الأستاذ سيد قطب كتب مقالا - قبل إخراج الكتاب - في مجلة المقتطف بعنوان (التصوير الفني في القرآن) سنة 1938 أي في الوقت لم يكن أحد فيه قد كتب شيئا متصلا بهذا الموضوع

ثم أبدى المحاضر بضع ملاحظات تتلخص فيما يلي:

1 -

تمنى لو أن المؤلف كتب فصلا عن معنى كلمة (التصوير) وكلمة (الفني) بالنسبة للقرآن لأن الاصطلاح جديد.

2 -

قال إن المؤلف كان يعيب على الرافعي أسلوبه لأنه يعبر بالصورة الحسية عن المعاني الذهنية، على حين أنه يثني على هذه الطريقة في تعبير القرآن.

3 -

ذكر أن المؤلف أستعمل تعبير (سحر القرآن) وتمنى لو أنه أستخدم بدلا منه (جاذبية القرآن) أو (روعة القرآن) لأن السحر في الأغلب بدل على المعنى الخداع والتغرير، وهو الذي كان يقصده الكفار حين وصفوا به القرآن الكريم.

ص: 46

4 -

لاحظ على فصل (المنطق الوجداني) في القرآن أن المؤلف يقول: أن العقيدة تقوم على وجدان، وقال: إن الوجدان يجئ سابقا حقيقة ولكن العقل ولكن العقل يتدخل بعد ذلك ليبرهن على ما تأثر به الوجدان.

5 -

أعترض على عبارة في الكتاب جاء فيها (أدركنا سر الأعجاز في تعبير القرآن) قائلا بأن سر الأعجاز في القرآن لا يدركه فرد ولا يدركه جيل.

وختم الأستاذ الشرباصي محاضرته بالإشادة بقيمة الكتاب ومكانة موضوعه الجديد من الدراسات الإسلامية، مقترحا أن يدرس هذا الموضوع في كليات الأزهر وكليات الجامعة التي تدرس اللغة العربية

وقد تحدثت بعد ذلك مع الأستاذ سيد قطب وسألته عن رأيه في الملاحظات فشكر جهد الأستاذ الشرباصي في المحاضرة وعبر عن أثرها الطيب في نفسه، ثم رد الملاحظات واحدة واحدة، وقال عن الأولى: أحسب أنني شرحت عبارة (التصوير الفني) ولكن في غير صورة التعريف والتبويب فالكتاب كله إنما هو شرح وتمثيل وتطبيق، وفى مقدمة فصل (التصوير الفني) ما يغني، وقد تتابعت فصول الكتاب كلها لتشرح هذه القاعدة الكلية وتمثل لها وتوضحها.

وقال عن الملاحظة الثانية: لا أذكر أن هذا كان مأخذي على أسلوب الرافعي، بل أذكر أنه كان العكس، فقد كنت آخذ عليه الألاعيب الذهنية في التعبير، والجمل التي ينبع ذيلها من رأسها، والعكس، والتي يحسبها القارئ ماشية (تتقصع!) وتضع يديها في خصرها على الطرس! وليس شيء من هذا كله بسبيل من ذلك الأسلوب القرآني الذي أبنت عنه في الكتاب وقال عن الثالثة: رأى أنه مادام المعنى اللغوي يحتمل هذا ويحتمل المعنى الآخر وهو لطف المدخل والجاذبية فإن العرف الأدبي إذن هو الذي يحدد، وعرفنا الأدبي الحاضر لا يعتبر سحر البيان معناه الخداع والتغرير، بل وصف استحسان وقال عن الرابعة: أحسب أنني كنت معنى خاصا حينما قلت (المنطق الوجداني) فأنا لم أعن مجرد التأثر الوجداني بل (المنطق الوجداني) فقد أردت أن أفرق بين هذا المنطق وبين (المنطق الذهني) والمنطق الوجداني هو الذي يقوم على الانطباعات الوجدانية والمقدمات الوجدانية والتأثرات الوجدانية ولكنه (منطق) وليس مجرد تأثر، أي أنه حكم تسبقه مقدمات من نوع

ص: 47

معين، وأما المنطق الذهني فهو الذي يقوم على الأقيسة المجردة الخالية من الانطباعات والتأثرات. ثم جعلت للذهن وظيفته المحدودة في بناء العقيدة، ولم أنفه من مجالها بتاتا

وقال عن الملاحظة الخامسة: أحسب أن معنى إدراك سر الأعجاز في التعبير القرآني لا يعني الكشف عن إعجاز القرآن، فأجاز القرآن فقط في تعبيره، بل خصائص أخرى كثيرة ترجع إلى صميم الأفكار والمبادئ التي تضمنها، وأما إعجاز التعبير فكل جيل يدرك سره كما يراه، ولا يمنع هذا أن يأتي جيل آخر فيدرك هذا السر من زاوية أخرى.

عباس خضر

ص: 48

‌الكتب

كتاب (من أسرار اللغة)

تأليف الدكتور إبراهيم أنيس

الأستاذ بكلية دار العلوم

للأستاذ عبد الستار أحمد فراج

لو أن كل متخصص في نوع من العلوم أو لون من الفنون قدر قيمة درس وأخلص في خدمة ما أهلته الحياة أو الدولة له لظفر العلم والأدب بأوفى نصيب من الإنتاج ولجنت الدولة والأمة أينع الثمرات. ولكن تختلف والبواعث تتفوات لهذا اختلفت القيم وتباينت الشخصيات

وكم سافر أناس في بعثات بعد أن اختارتهم الدولة وآثرتهم الأمة فمنهم من أنشغل بمآرب قضاها الشباب هنالك، ومنهم من عاد فأعجب بالمنصب مع زخرف اللقب ولم يفعل غير ذلك، وقليل منهم من وهب الرشد وقوة الجلد فلم يكن من هؤلاء ولا من أولئك.

أقول هذا بمناسبة ما ألفه أستاذنا الدكتور إبراهيم أنيس من كتب متعددة في موضوعات مختلفة كانت كلها ثمار غرس أحسن القيام عليه والعناية به على ضوء ما درسه وتخصص فيه فأسرى وأمثاله، وأنتج وأشباهه خاملون. وأخر ما جلته قريحته هذا الكتاب الذي جعل عنوانه (من أسرار اللغة) عاد أستاذنا من إنجلترا 1942 ونحن إذ ذاك طلبة في السنة الرابعة بدار العلوم فدرس لنا فقه اللغة وكنا على طريق نقيض نحن متعصبون للقديم من آراء اللغويين لا نريد منه فكاكا وهو متشبع بالأبحاث الحديثة لا يؤثر عليها قيودا، ومازال يداورنا فلتزمت ونقف في طريقة فينساب ولكنه احدث في جمودنا ثقوبا شعت منها أضواء بعد أن جعلناه يلتفت شيئا ما إلى الوراء ثم دارت الأيام ونفذ أستاذنا إلى خفايا الكتب العربية ليعيد فيها النظر على أضواء خبرته ودراسته وبدأت جهوده المتوالية المباركة تؤتى ثمارها كتباً قيمة ومحاضرات ناضجة بنيت على أحدث النظريات مدعمة بكثير من أقوال العلماء السابقين إن فصول الكتاب وأبوابه، وطريقه عرض الأفكار وتسلسلها، تعجب القارئ وتمتعه ويلذ له ما فيها حتى لو كان بعض ما فيها من استنتاج مبنى على افتراض

ص: 49

يخالف بعض ما أطمئن إليه القارئ من الآراء، وقد يدعوه بقوة حجته إلى التأمل فيما قرأ من كتب أو كون من معلومات كما تبدو للقارئ ظاهرة أخرى قوية تلك هي الاستنتاج المبني على الإحصاء الدقيق الذي يدل على تعمق في البحث واستيعاب لما يريد أن يخوض فيه من حديث، وكل ذلك في أسلوب خلا من التكلف والغموض ولا يكون هذا الإيضاح تلك العذوبة ألا بعد هضم للمعلومات ووضوح الغرض في النفس وتميز الغاية التي يهدف أليها الكاتب المبين.

وكنت أحب أن أنقل بعض فقرات من الكتاب لولا أنني وجدت كل ما فيه متخير ووأنه - كما يقولون - آخذ بعضه بحجز بعض، أحتوى على طرائف من دراسة البلاغة التي امتزجت بدراسة مفردات اللغة ولهجاتها، ونحوها وصرفها، وأدبها من شعر ونثر مع مقارنة باللغات الأخرى ولهجاتها متوجا ذلك كله باستعراض أساليب القرآن المختلفة التي توضح أفكاره وترجحها

لهذا كان على كل أديب ولغوى وباحث أن يقرأ الكتاب، وسيجد فيه مصداق ما أقول ولقد أبدع أستاذنا فيما كتب وأحسن فيما ألف فلهو تهنئتي وتقديري راجيا أن يواصل الجهد ويوالي الإنتاج لينفع إخوانه وتلاميذه وليبعث في أولئك القاعدين والخاملين النشاط والحياة والله يتولى العاملين.

عبد الستار أحمد فراج

المحرر بالمجمع اللغوي

ص: 50

‌القصص

بين المقابر

للقصصي الروسي تشيكوف

بقلم الأستاذ حسين أحمد أمين

(الريح تعصف، والظلام يزحف علينا. . أليس من الأفضل أن نعود؟)

كانت العاصفة تنساب بين الأشجار الطويلة القديمة عابثة بأوراقها الصفراء المتهالكة، وكان البرد يتساقط بغزارة على جماعتنا. . فإذا بواحد منا ينزلق على الأرض الموحلة فيمسك بصليب كبير يمنعه من السقوط. .

وبدأ الرجل يقرأ ما كتب على الصليب: (أيجور جريا سنورا كوف. . فارس ومستشار خاص. . أنني اعرف هذا الرجل لقد كان يحب زوجته. . ولم يقرأ في حياته كتابا واحدا وكان حسن الهضم وحياته جديرة بأن تعاش. . إنه لم يكن في حاجة إلى أن يموت. . غير أنه - ويا للأسف - مات ضحية لعبقريته وحبه للملاحظة والمراقبة، فبينما كان ينصت من ثقب الباب ذات مرة إذا برأسه يصطدم صدمة عنيفة مات بسبها. . فتحت هذا الصليب يرقد رجل كان يكره الشعر منذ أن كان في المهد. .

أرى شخصا قادما نحونا. .)

وتقدم منا رجل حليق الوجه في معطف قديم وتحت إبطه زجاجة من الفودكا وفى جيبه ربطة من السجق

وسألنا في صوت أجش (أين قبر موشكين، الممثل؟)

وقدناه إلى القبر وكان موشكين قد مات منذ عامين. . وسألناه: هل أنت موظف حكومي؟

- (كلا أنني ممثل وإنه لمن الصعب في أيامنا هذه أن نميز الممثل من الموظف الحكومي. . هذا شيء غريب وهو بلا شك لا يشرف الموظفين. .) كان قبر موشكين مختلفا عن سائر القبور وكانت الأعشاب تغطيه وعلى سطحه صليب صغير رخيص الثمن قد أتلفه الثلج وقرأنا على الصليب: الصديق المنسي. . موشكين. . وكانت الكتابة غير واضحة لتقادم الزمن عليها.

ص: 51

وتمتم الرجل وهو ينحني على الأرض فتلمس ركبتاه الطين المبلل: (لقد جمع الممثلون والصحفيون مالا لكي يقيموا له نصبا تذكاريا. . فإذا بهم بعد ذلك يبتلعونه)

(ماذا تعنى بقولك أبتلعوه؟)

(أعنى أنهم جمعوا المال لأقامة النصب ثم دسوا المال في جيوبهم. أنني لا أقول ذلك لائما لهم بل مقررا لحقيقة واقعة. . والآن سأشرب نخب صحتكم ونخب ذكراه الخالدة. .)

(إن الصحة لن تأتينا بشربك نخبها. . . والذكرى الخالدة أمر محزن. . لتكن الذكرى مؤقتة دائما فهذا خير للبشر. .)

(هذا حق. . لقد كان موشكين رجلا شهيرا. . وقد حمل الناس خلف نعشه عشرات من الأكاليل. . ومع ذلك فقد طواه النسيان في مدى عامين. . لقد نسيه من أحبوه. . أما من أساء إليهم فما زالوا له من الذاكرين إنني لن أنساه ما حييت. . أبدا، أبدا، لأنني ما تلقيت منه سوى الإساءة. . أنني لا أحبه. .)

(كيف أساء إليك؟)

تنهد الممثل وقد بدت على وجهه المرارة والألم: (إساءة كبرى. . لقد كان الرجل - طيب الله ثراه - وغدا لصا فبالنظر إليه والاستماع له أصبحت ممثلا. . وبفنه أغواني فتركت بيتي إلى الأبد وقد غرني المجد الفني. . وعدني بالكثير ولم يمنحني سوى الحسرة والدموع. . هكذا المصير الكئيب الذي ينتظر الممثل. . لقد فقدت كل شاء الشباب والعاطفة وشبهي بالآلهة وليس الآن في جيبي مليم واحد. وحذائي بال وملابسي ممزقة. . لقد سلبني الإيمان. . هذا اللص. . ومنحني التفكير الحر والحماقة دون أن يكون لدى أية موهبة. . إن الجو أيها السادة فهلا شاركتموني في الشراب؟ إن الزجاجة ما يكفينا جميعا. . فلنشرب نخب رقود روحه في سلام، أنني لا أحبه. . إنه الآن ميت. . ومع ذلك فلم يكن غيره في هذه الحياة. . وكان لي كأحد أصابعي. هذه هي آخر مرة أراه فيها فأطباء يقولون أنى سأموت قريبا لفرط الشراب. . وقد أتيت هنا لأودعه وأقرئه السلام والعفو عن أعدائنا واجب علينا

وتركنا الممثل ليتحدث إلى موشكين وسرنا وفى الجو رذاذ منعش. . . وعندما بلغنا الطريق العام جنازة تمر بنا وقد حمل النعش أربعة يلبسون أحزمة بيضاء وأحذية قذرة. .

ص: 52

وكانوا يسرعون في الظلام وهم يتعثرون في مشيتهم. . .

(لقد مكثنا هنا ساعتين فقط أدخلوا خلالهما ثلاث جثث إلى المقبرة. .

حسين أحمد أمين

ص: 53

‌البريد الأدبي

طرابلس وليست ليبيا

بمناسبة استقلال الشعب الطرابلسي وفوزه بالحرية المنشودة كثر خوض الصحف في ذكر أسم رددته ألسنة العامة والخاصة ولم يقتصر الأمر على هذا وذاك بل وتعداه إلى المحاضر الرسمية باسم ليبيا وتعنى القطر الطرابلسي بأقاليمه الثلاثة (فزان وبرقة وطرابلس) ومن الغريب أن الرأي السائد عند أهلها يساير هذا الإطلاق أيضا. وهو وأن لم يكن خطأ في الجملة من ناحية فهو ليس بصحيح على وجه العموم من ناحية أخرى على ما سأبينه أما ليبيا. فقد قال عنها ياقوت في معجم البلدان ج7ص341 (لوبية - ليبيا - مدينة بين برقة وإسكندرية) وأهمل ياقوت ضبط موقعها الجغرافي على غير عادته في دقة التحديد بالدرجات والدقائق القوسية. وهذه المدينة لم يبق لها أي أثر يذكر الآن ويقول اليوزباشي محمد إبراهيم لطفي المصري في كتابه (تاريخ طرابلس الغرب) ص8 ما معناه: أن ليبيا هذه هي الصحراء المتاخمة لحدود مصر الغربية وسميت بذلك نسبة للوبى ابن حام بن نوح عليه السلام؛ فقد كانت تسكن هذه الصحراء قبائل من نسله فنسبت إلى جدهم الأكبر؛ وطلبا للخفة وبحكم التطور عرفت فيما بعد بليبيا. ويلاحظ شيء فارق بين هذا وما ذكره ياقوت

وقال ياقوت ج6ص34 عن طرابلس - بألف وبدونه - وذكر أن معناها - مركبا - ثلاث مدن عند الإغريق والرومان وهى مساحة تشغل ما لا يقل عن ثلاثمائة من الكيلومترات ثم أفاض في وصف محاسنها وخيراتها بما يشرف هذا القطر العزيز وانتهى إلى قوله: (وهذا يدل على أنها ليست مدينة بعينها وأنها كورة) أي أنها قطر. وأنها أعم اسما من ليبيا، ثم ذكر طائفة من مشاهير أدبائها ومؤرخيها وذكر في كل نسبة إما الأطرابلسي أو الطرابلسي وأغفل النسبة إلى ليبيا لأي أحد منهم. ومن مؤرخيها العظام (أبو الحسن على عبد الله بن مخلوف الطرابلسي - ولم يقل الليبي - له اهتمام بالتاريخ. . .

وصنف تاريخنا لطرابلس الغرب. . . وقال أبو الطيب يمدح:

لو كان فيض هديه ماء غادية

عز القطا في الفيافي موضع اليبس

أكارم حسد الأرض السماء بهم

وقصر كل مصر عن طرابلس.

ص: 54

وقال شاعرها المحارب أحمد بن خراسان الطرابلسي

أحبابنا غير زهد في محبتكم

كوني بمصر وأنتم في طرابلس

أن زرتكم فالمنايا في زيارتكم

وأن هجرتكمو فالهجر مفترسي

ومن هذا كله يتبين أن أسم طرابلس أشمل وأعم من ليبيا وفى نفس الوقت له ما يستند إليه الأسماء الوجودية وأملنا في العهد الجديد كبير في أن يصحح هذه الأوضاع بتعميم اسم طرابلس على جميع القطر رسميا بدلا من ذلك الاسم الحاير - ليبيا - هذا ونحن نهيب بمن يعثر على التاريخ المشار إليه آنفا أن يدل عليه شباب هذا القطر حتى ينتفع به ويكون بذلك قد أستجاز الثناء وأستوجب الشكر من القطر العربي العريق

مختار محمد هويسة

حتى تموت العصبية القبلية:

في عدد مجلة المصور. . . الذي صدر يوم الخميس 29 من مارس 1951 قرأ الناس قصة عراك نشب في بلدة حلوان بين فريق من أهل البلدة وفريق من أهل دمياط سببه أطفال صغار كانوا يلعبون بكرة أمام منزل أحد الحلوانيين وراح ضحيته رجل في مقتبل العمر خلف وراءه في يد الأقدار أفراخا لما ترش بعد وزوجته مكلومة يقطر قلبها بالدم فذكرتني تلك الحادثة بأخرى تماثلها حدثت في مدينة السويس منذ عام بين جماعة من أهل الإسكندرية جاءوا بقضهم وقضيضهم من مصنع السماد الذي يعملون فيه وجماعة من أهل السويس وتجمعوا لملاقاة السكندريين وكانت معركة رهيبة أغمدت فيها السكاكين في الجسوم وتفجرت الدماء غزيرة في منظر بشع تقزز منه النفس ولا أظن أن كان لتلك الحادثة سبب أقوى من السبب في الحادثة الأولى بل هو كالذي وصفته المجلة بقولها (يعملها الصغار ويقع بها الكبار) أو كما هو معروف من المثل الشائع (وأول النار من مستصغر الشرر) فهذان الحادثان وأمثالهما مما يقع عادة بين العائلات وخاصة في الريف، لا يجوز للعاقل أن يسميها بالحوادث الطارئة التي تحتمها ظروف خاصة قهرية وتتمخض سريعة في نفس اللحظة التي يولد فيها السبب والدافع ثم لا تلبث أن يضيع آثرها أما أن تركت ذيولا وأثارا فذلك ما ردت من القارئ أن يشاطرني فهم نتائجه فهما صحيحا وهل

ص: 55

خليق بتلك الذيول أن تعمل عملها في الناس وتثير بينهم مثل هذه النوازع إلى الشجار العنيف المميت؟ أم أن الناس جبلوا على أن يتناولوا المبدأ القديم (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما) تناولا عماده الجهل وعدم تقدير للعواقب كما كان العرب يتناولونه ويطبقونه في تصرفاتهم قبل شروق الإسلام وأخذ المسلمين به بعد تبنيه من الرسول عليه السلام؟ الحق الذي لا مراء فيه هو أن الأسباب مادامت متهالكة واهية والمقدسات ركيكة متداعية فإن النتائج تكون أوهى أو هي وأضعف وليست ذا بال. . . فلنخلص من ذلك إلى كلمة نسم بها تلك الحوادث المخجلة المخيفة (وهى النتائج الفادحة لمقدسات تافهة لا قيمة لها وعمل الشعوب المتدني الحديثة) فنقول: إنها العصبية القبلية والمنهجية البغيضة التي طالما سمعنا وقرأنا عنها وهى تفعل أفاعيلها بين أهل الريف من قرى الصعيد وكثر من قرى الوجه البحري حيث يفنى بعضهم بعضا ويحكم بعضهم على بعض بالإعدام تارة بالرصاص وأخرى بالذبح وثالثة بالشنق والخنق، وهل بعيدة عنا تلك الحوادث الدامية التي دارت رحاها بين قبيلتي (الهوارة والفلاحين) في مركز دشنا؟ وأنا لنرى متعجبين أن حياة النازحين من أهل الريف إلى القاهرة والإسكندرية والسويس مثلا برغم تبدلها بانتقالهم من بيئة خشنة جافة في الريف إلى أخرى لينة ناعمة في العواصم فلم تبرح تلك العصبية تتملك أزمتهم وتحيا في رؤوسهم حتى بات الأخذ بالثأر القانون الأول في دستور ابن الريف. ولا ندرى متى تنتهي تلك العصبية القبيحة البالية؟ ومتى تحل محلها عصبية أخرى من المحبة والسلام والخير والجمال؟ ليت شعري هل يكون صاحب الدم نفسه أول من يستجيب فيرضي الله مخلصا بالتسامح والعفو، فيضع حدا لسفك الدماء حقنا لها وإبقاء على حياة البرآء الآخرين؟

(السويس)

محمد عبد الرحمن

ص: 56