المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 928 - بتاريخ: 16 - 04 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٢٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 928

- بتاريخ: 16 - 04 - 1951

ص: -1

‌10 - الدين والسلوك الإنساني

للأستاذ عمر حليق

التعاليم الدينية والقانون:

القوانين الخلقية للجماعة تؤلف جزءا أصيلا جوهريا للنظام الاجتماعي الذي تعيش عليه والذي يستوحي الفرد منه سلوكه ويعتمد عليه في صلاته مع الناس. فالقوانين الخلقية هي أسبق من العادات والتقاليد والنظم والشرائع القانونية (المدنية) في توجيه السلوك الإنساني. وقد يأتي حين من الدهر تمتزج فيه هذه العناصر جميعها لتؤلف الأسس الجوهرية للنظام الاجتماعي، ولكن القوانين الأخلاقية تظل محتفظة بمكانتها الرئيسية، مهيمنة على بقية العناصر التي يتألف منها النظام الاجتماعي.

والدارس للمجتمعات البدائية يدرك كيف أن القوانين الأخلاقية (الدينية) تجد من يعبر عنها في الحكم والأمثال التي تلعب دورا كبيرا في تلوين السلوك الإنساني بطابع الرشاد والطهارة والعمل الصالح.

فالحكم والأمثال والأقوال السائرة نوع من التفلسف يستمد أصوله من القوانين الدينية؛ وهذه كما رأينا في مقال سابق من هذا البحث تستند إلى الغريزة الروحانية التي تعيش في كيان الإنسان.

فالحكم في القرآن والحديث مثلا على نوعين: -

(1)

نوع يعالج الأخلاق والفلسفة العملية في السلوك الإنساني.

(2)

نوع يتوسع في الوعظ والإرشاد ويلجأ إلى الأمثال الشعبية المستمدة من صميم الحياة اليومية وعبر الأيام والحوادث قديمها ومعاصرها ليعزز الحكمة الخلقية والفلسفية القرآنية العملية بشروح ميسرة مبسطة تجد سبيلها إلى قلوب الخاصة وعقول العامة من الناس في لغة مستمدة من شتى أوجه النشاط الإنساني الدنيوي.

فالنوع الأول إذن يعالج المشاكل الخلقية الروحية على أسس منطقية، العقل والروح من أسلحتها. والنوع الآخر يتمم الاجتهاد فيضرب الأمثال بالحياة العملية وعبر التاريخ، وبجمعها في أسلوب محسوس ملموس، والإقناع فيه يستند إلى اختبار الناس وما يتواردونه من أنباء وحوادث، وما يلاحظونه من خير أو شر في نشاطهم الدنيوي.

ص: 1

وكلا النوعين في الإسلام متمم للأخر، وكلاهما قوام على نشر رسالة الدين على أوسع ما يكون الانتشار، وحافظ للأسس الجوهرية والتفصيلية للوظيفة الدينية التي جاء بها القرآن وشرحها الحديث وتراث السلف الصالح.

ومن هذا التمازج استمد أهل الاجتهاد العون على استنباط التشريع الذي صاحب نمو الجماعة الدينية واتساع حاجاتها الدنيوية، وتطور أوضاعها الاقتصادية والسياسية، وازدياد حياتها الاجتماعية تعقدا وتشويشا. وهذا التطور الطبيعي الذي لا مفر منه هو الذي استدعى أكثر فأكثر تحديد العقيدة الدينية، والسعي لإحاطتها بسياج من الوقاية تحول دون التحريف والتأويل وتستهدف صيانتها من سوء الاجتهاد الذي كثيرا ما يلتبس عليه تحديد جوهر العقيدة في خضم هذه الذخيرة الطائلة من الحكم والأمثال والعبر الذي استشهد بها القرآن والدين والسلف الصالح في معرض شرحهم لذلك الجوهر.

ولعل هذا الالتباس هو السبب في ضلال بعض الكتاب المعاصرين الذين يحاولون تطبيق النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة على تعاليم الإسلام، أو تبرير هذه النظم على ضوء الحكمة والفلسفة الإسلامية.

فهذا النوع من الاجتهاد يتطلب تحفظا بالغا في البحث والاستقراء، والمنهج العلمي الصادق لا يقتبس الفقرة من سجل مجردة عن المعنى الشامل الذي استعملت فيه تلك الفقرة، والأمانة في الاقتباس والاستشهاد تستوجب استعراض المجال الواسع الشامل الذي جاءت منه تلك الآراء أو المعاني أو الحكم التي اقتبست واستشهد بها. فبعض كبار الأئمة مثلا يراعي شرح أسباب نزول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قبل أن يجيزوا بفتوى أو يدلوا برأي له بالعقيدة الدينية مساس مباشر.

ولقد رأينا أن الاجتهاد والتشريع يصاحبان نمو الجماعة وتطورها التاريخي، فينشأ إلى جانب الفلسفة الدينية بمعناها الشامل فلسفة اجتماعية تستمد عناصرها من التطور الجديد وما يخلقه من محاسن أو مساوئ. وقد تكون التعاليم السماوية قد حددت وظيفة الدين إزاء هذه العناصر المستجدة تحديدا بينا واضحا، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن للتعاليم السماوية أن تتحمل سوء الاجتهاد. وقد يحدث أن تكون إشارة التعاليم السماوية إلى العناصر المستجدة في التطور الاجتماعي إشارة مستترة؛ التعرف عليها يتطلب مزيدا من الاجتهاد

ص: 2

والبحث والاستقراء. ومثل هذا الوضع يلقى على أمانة المجتهد والباحث عبئا جليلا لا يكفي للقيام به مجرد الاقتباس والاستشهاد المجرد من المعنى الشامل للنص الأصيل كما يبدو مع الأسف عند كثير من الذين حاولوا معالجة التطور الاجتماعي على ضوء التعاليم السماوية. ودراسة النصوص الدينية في ناحيتها الاجتماعية عمل خطير، والاستعداد للقيام به يتطلب - بالإضافة إلى إخلاص النية والنزاهة العلمية وصواب منهج البحث - تعرفا على طبيعة المجتمعات التقليدية التي نزلت عليها تلك التعاليم. ولقد وفر علم الأنثروبولوجيات لنا في هذا العصر أسلحة نستطيع به أن ندرس - على قدر الإمكان - عقلية تلك المجتمعات ونظمها وأساليب تفكيرها ومعيشتها وألف نوع ونوع من هذه المميزات التي تتباين بها المجتمعات الحديثة عن المجتمعات القديمة.

والسلوك الإنساني في جوهره متماثل في الجماعات البدائية والجماعات المتقدمة وإن اختلفت أساليب ذلك السلوك بفضل التطور الحضري. ووظيفة الدين الاجتماعية في جوهرها لم تتأثر بالتطور الحضري، إذ أن الدين - كما رأينا في مقال مضى من هذا البحث - من الخصائص الغريزية التي ولدت في النفس البشرية كالأكل والشرب والتزاوج. وقد ارتقت أساليب الناس في إشباع هذه الغرائز الجسمانية بارتقاء الحضارة، إلا أن جوهر تلك الغرائز لا يزال كما كان عليه منذ طرد آدم وحواء من الجنة. ومثل هذه الحقيقة تنطبق بشكل أدق وأصدق على الحياة الدينية الروحانية والحياة الدينية في جميع مراحل التاريخ الديني، مستندة إلى اتجاهين كلاهما يعزز الآخر.

أولهما: - التطلع إلى الخالق الأعظم الذي بيده الحياة والموت وهو على كل شيء قدير.

وثانيهما: - الامتثال إلى تعاليم ومثل وقيم أخلاقية توجه السلوك الإنساني وتعدد للحياة الصالحة السعيدة في الدنيا والآخرة. ومن الصعب جدا كما قال الأستاذ (برات) أن نفرق بين هذين الاتجاهين.

فإذا سمحنا لأنفسنا بأن نصف الاتجاه الأول بأنه العقيدة الدينية، والثاني بأنه الوظيفة الاجتماعية للدين، فإن على الباحث في وظيفة الدين الاجتماعية أن يراعي أشد المراعاة تمازح ذينك الاتجاهين، وإلا فإن أسلوبهفي البحث لا يحقق النفع ولا يتمشى مع حقائق الوضع الاجتماعي، ولا يأخذ بعين الاعتبار جوهر السلوك الإنساني بمعناه الشامل وهو

ص: 3

أصدق المعاني وأقربها إلى الحقائق الاجتماعية التي شرحها لنا (دير كهايم).

إذن فاستنباط التشريع الجديد من التعاليم السماوية واجتهاد الباحثين في علاقة تلك التعاليم بالحقائق الاجتماعية يجب أن يتقيد بهذا التمازج الطبيعي الذي لا مفر منه بين العقيدة الدينية والحقيقة الاجتماعية.

وبمثل هذا المنطق يمكننا أن نعالج موقف الجمود الذي يقفه بعض حفظة الدين في العصر الحاضر إزاء التطور الاجتماعي الذي صاحب نمو الجماعة الدينية. فدراسة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة ومساوئها يستوجب على حفظة الدين أمرين: -

أحدهما التسلح بعلوم مستجدة كعلم الأنثروبولوجيات وعلم النفس الاجتماعي وعلم التاريخ الثقافي وغيرها من ألوان المعرفة الحديثة المتشعبة لزيادة تبحرهم في العلوم الدينية وتسلحهم بألسنة العلم الحديث لنشرها بين الناس والدفاع عنها إزاء العبث وسوء الاجتهاد. والآخر يستوجب تفهما صادقا للمشاكل الجوهرية في التطور الذي ألم بحياة الجماعة في شتى أوجه النشاط الإنساني. فتحت لواء هذا التطور تنطوي أصناف من المحاسن والمساوئ خلقتها الفلسفة والثورات الصناعية وتطور الأوضاع السياسية والاقتصادية وما خلفته عن عقد ومشاكل، وما وفرته من أسباب المتعة والإغراء ومن أسباب التفكير الحديث، وكل ذلك خصائص لم تختبرها المجتمعات القديمة التي نزلت عليها التعاليم السماوية في العصور الغابرة. ولما كان الإسلام يصلح لكل زمان فإن وزر القصور في إعادة فتح باب الاجتهاد بأسلحة العلم الحديث وزر خطير، والقصور عن القيام به مع القدرة عليه إثم عظيم.

وخلاصة القول بصدد هذه النقطة من البحث أن في علوم العصر معاول جديدة لتفهم الحقيقة الدينية ووظيفتها الاجتماعية في عالم مضطرب، ومن العبث الذي لا طائل منه أن ينساق المصلحون والمشرعون الاجتماعيون للنيل من العقيدة الاجتماعية والتصدي لحقائقها. فهذه الحقائق تستمد وجودها من الغريزة الدينية، والغريزة الدينية تلعب دورا رئيسيا في أي لون من ألوان الإصلاح الاجتماعي بمعناه الشامل.

ومن العبث أن نحارب الحياة الدينية لأن بعض مظاهرها قد تحمل ألوانا من الشذوذ لا

ص: 4

يستسيغه السلوك الإنساني في عصر الرادار والطاقة الذرية. فالحقائق الاجتماعية التي تركن وراء تلك المظاهر لم تندثر ولن تندثر لأنها سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلا. والإصلاح الصادق النافع لا يستهدف معالجة الظواهر وإنما يدلف إلى الجوهر؛ عندئذ يسهل التوجيه وتزداد الرغبة في الإصلاح بين المصلح والذي يرغب في إصلاحهم.

وهذا العبث يصح إطلاقه كذلك على جمود بعض حفظة الدين في التهيب من فصل بين سلامة العقيدة الدينية وبين الاجتهاد في إعادة الدرس في وظيفة الدين الاجتماعية على ضوء التطور الذي استجد في حياة الجماعة الدينية المعاصرة. فجوهر العقيدة الدينية لا خوف عليه لأنه من الغرائز التي لا تندثر، إنما الخوف أن يزداد نفور الناس من الامتثال إلى التعاليم الاجتماعية لتلك العقيدة فيفقد الدين إحدى دعائمه القوية وهي الوظيفة الاجتماعية التي هي جزء من ذلك الاتجاه المزدوج في الحياة الدينية؛ ألا وهو التطلع إلى الخالق عز وجل كمصدر للحياة الروحانية، والسير على الأرض بنور تعاليمه السماوية.

نيويورك

(للبحث صلة)

عمر حليق

ص: 5

‌إيران

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

منطقة من مناطق البارود في العالم، وميدان من ميادين التنافس الدولي، وأمة قامت تحاول أن ترد إلى نفسها ما أغدقته عليها الطبيعة من موارد قيمة.

نعم! هنا في إيران منطقة من مناطق البارود وميدان من ميادين التنافس الدولي، ذلك أن روسيا وإنجلترا تقفان لبعضهما بالمرصاد في هذه المنطقة وتحاول كل منهما أن تفوز بالغنيمة. وأي احتكاك بين الدولتين قد يؤدي إلى الحرب العالمية الثالثة التي بات الناس يتوقعون نشوبها بين لحظة وأخرى.

وقد روع الناس منذ أيام بنبأ اغتيال رئيس وزراء إيران على يد أحد الإيرانيين من أعضاء جمعية فدائيان إسلام، وقد كانت التهمة التي وجهت إلى رئيس الوزراء هي تعاونه مع الأجانب وتفريطه في حقوق الوطن؛ وقد تتابعت الاغتيالات حتى توقع الناس أن يسمعوا كل يوم نبأ اغتيالات جديدة؛ الأمر الذي يؤسف له أشد الأسف، فإن الاغتيالات لا يمكن أن تنصر قضية شعب مظلوم أو ترد إلى وطن ضائع حقوقه، وإنما الطريق إلى تحقيق مطالب الوطن يكون بفهم الشعب كله لقضيته وإيمانه بها وعمل جميع أفراده على تحقيقها واتحاد كلمتهم.

وكذلك استرعى انتباه الناس أمر لا يقل خطورة عن الأمر الأول، وهو أن البرلمان الإيراني قرر تأميم البترول الإيراني. وقد ثارت إنجلترا لهذين الأمرين، ولعل الأمر الثاني كان السبب لثورتها واهتمامها. وقد أمرت ثلاث قطع من بوارجها بدخول الخليج الفارسي للمحافظة على أرواح رعاياها وأموالهم، وأنذرت حكومة إيران بالويل والثبور وعظائم الأمور إن هي سارعت إلى مشروع التأميم.

وطلعت على الناس جريدة الإيكونومست تقول: (على إنجلترا أن تأمر بوارجها بدخول الخليج الفارسي لأن الشعوب الإسلامية لا تخاف إلا بالقوة) كأن المسلمين قوم قد فرض عليهم الذل وفرضت عليهم العبودية، وكأن إنجلترا قد فرضت نفسها سيدة لهم بل وللناس جميعا، أو كأن البرلمان الإيراني قد قرر تأميم البترول في بريطانيا ذاتها!

هذا من ناحية إنجلترا؛ أما روسيا فقد حشدت قواتها على الحدود الإيرانية وبذلك أصبح

ص: 6

الموقف حرجا للغاية. فالإمبراطور حائر لا يدري ماذا يفعل؟ ولو تقدمت إنجلترا داخل إيران أو أراضيها لتقدمت روسيا بدورها مما قد يؤدي إلى حرب عالمية.

ولعلك أيها القارئ تريد أن تسألني عن أهمية موقع إيران وكيف صارت وطنا إسلاميا، وعن مقدار ما تنتجه من البترول وغيره. وأنا بدوري أجيبك لأننا قد اتفقنا منذ حين على أنه خير للشرقيين أن يعرفوا أوطانهم وأن يعملوا على توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم للوقوف في وجه الاستعمار.

تقع إيران في منطقة اصطلح الناس على تسميتها بالشرق الأوسط، ويحدها من الشرق باكستان وبلوخستان، ومن الغرب العراق، ومن الشمال الاتحاد السوفيتي، ومن الجنوب البحر العربي والمحيط الهندي. ولعلك تسألني ما أهمية هذا الموقع؟ إن موقع إيران مهم من عدة نواح: أولا: إن روسيا تسعى دائما للوصول إلى البحار الدافئة ولن يتحقق لها ذلك إلا إذا استولت على إيران. . وثانيا أن إنجلترا شديدة الحرص على إبقاء روسيا حبيسة في داخل القارتين أوروبا وآسيا. وثالثا لأن روسيا إذا استولت على إيران تصبح خطرا محققا على الهند، وإنجلترا كانت وما زالت حريصة على الهند وسلامتها ومنع وقوعها في يد دولة معادية لأن الهند سوق هامة للمصنوعات البريطانية، وهي كذلك مورد هام من موارد الخام اللازمة للصناعات البريطانية. من هنا نشأ حرص بريطانيا على سلامة الهند فعملت على التدخل في شؤون مصر واحتلتها علم 1882 وما تزال إلى اليوم تماطل في الجلاء عنها حتى أصبح يخيل للناس أن يوم الجلاء يوم الحشر، مجتمعان متلازمان، وحتى ضاقت بنفوس المصريين الصدور! ولسلامة الهند نرى إنجلترا كذلك تمنع روسيا من احتلال إيران وأفغانستان.

ودولة إيران تشمل الجانب الأكبر من الهضبة المعروفة بهضبة إيران وتعرف حافتها الشمالية بجبال البرز، وتمتد شرقا إلى جبال هندكوش، أما الحافة الجنوبية فسلاسل جبلية متوازية تحف بسهول العراق وتقترب من سواحل الخليج الفارسي.

والسهول الساحلية ضعيفة وأكثرها خصوبة السهول المجاورة لبحر الخزر. وتجري في إيران عدة أنهار قصيرة تنتهي إلى بحيرات داخلية ما عدا نهر قارون الذي يجري غربا حتى يصب في نهر شط العرب. وتستمد المجاري المائية مياهها من الجليد المتراكم فوق

ص: 7

الجبال.

ومناخ إيران قارس البرد شتاءا، وتسقط بعض الأمطار شتاء بتأثير أعاصير الرياح العكسية وتشتد الحرارة صيفا وبخاصة في السهول.

ويبلغ عدد سكان إيران 5ر15مليونا وهم مسلمون. وقد دخل الفرس في الإسلام عقب الفتح العربي عام 642م ثم اعتنقوا المذهب الشيعي وكان لهم آثر كبير في تاريخ الإسلام فبتأثيرهم سقطت الدولة الأموية وعلى أكتافهم قامت الدولة العباسية.

ويشتغل الإيرانيين بالرعي والزراعة فيربون الأغنام والماعز. ومقادير الصوف الناتجة عظيمة؛ وتصنع منه السجاجيد الفاخرة والبسط والشيلان. ولسجاد إيران (العجمي) شهرة عالمية وتصدر منه ما قيمته مليونا جنيه ونصف. ويزرع الإيرانيون كميات وفيرة من القمح والشعير والأرز والخشخاش والقطن وقصب السكر، ومن الفواكه العنب والبلح، وتزرع أشجار التوت وتربى دودة القز.

البترول: وثروة إيران المعدنية عظيمة ففيها الفحم والحديد: على أن أكثر المعادن أهمية هو البترول تمتد مواطنه على حدود إيران الغربية وفي منطقة بحر الخزر وتستغل الآن المناطق القريبة من الخليج الفارسي. وتمتد أنابيب البترول مسافة 230 ك م إلى معامل تكريره في عبدان عند مصب شط العرب وفيها منشآت شركة الزيت الإنجليزية الإيرانية.

إيران مشكلة دولية

أخذت روسيا منذ عهد بطرس الأكبر تعمل على توسيع رقعتها والوصول إلى البحرين: البحر الأسود وبحر البلطيق، والاستيلاء على القسطنطينية. وقد نجحت روسيا في تحقيق بعض مطامعها فاستولت على شواطئ بحر البلطيق الشرقية وشواطئ البحر الأسود الشمالية ولكن أطماعها في تركيا وفي الاستيلاء على القسطنطينية أثارت عليها الدول وخاصة إنجلترا وفرنسا مما أدى إلى قيام الحرب المعروفة بحرب القرم 1853 - 1856 وكان السبب الرئيسي في نشوبها سعى القيصر في تقسيم تركة (الرجل المحتضر)(تركيا) وقد هزمت روسيا في هذه الحرب فولت وجهها شطر آسيا ومدت نفوذها حتى وصلت إلى ميناء فلاديفوسك 1858.

ثم تطلعت إلى إيران؛ وهنا قام نزاع خطير بينها وبين إنجلترا، ولكن الدولتين اتفقا أخيرا

ص: 8

على أن تعملا على قض المشاكل الآسيوية بطريق المفاوضة الودية. وقد كان قيام ألمانيا الحديثة 1870 وظهور نواياها الاستعمارية الدافع الأكبر على فض النزاع القائم بين الدولتين.

وطبقا للاتفاق سالف الذكر قسمت إيران إلى ثلاث مناطق نفوذ، فأطلقت يد روسيا في الشمال، وأطلقت يد إنجلترا في الجنوب، وبقى القسم الأوسط على الحياد يحكمه الإمبراطور. وخول لأصحاب رؤوس الأموال من الروس والإنجليز حق استغلال أموالهم كما يشاءون.

وقد حاولت روسيا بعد أن عقدت الاتفاق الودي مع فرنسا1893 أن تستولي على طهران، ولكن إنجلترا عارضت ونصحت فرنسا حليفتها روسيا بالعدول عن رغبتها فعدلت.

وفي أوائل القرن العشرين تألفت شركة البترول الإيرانية الإنجليزية لاستخراج البترول وقد أصبحت هذه الشركة أعظم شركات البترول العالمية وأغناها.

وقد كان تغلغل النفوذ الإنجليزي والنفوذ الروسي في إيران سببا في ثورة الإيرانيين على ملكهم. وكان من أهم نتائج هذا الانقلاب تولى رضا بهلوي عرش إيران وهو والد الإمبراطور الحالي.

وقد هال الإمبراطور الجديد ما حصلت عليه الشركة من امتيازات، فقد كان للشركة حق استغلال آبار البترول في الجنوب. وتحصل الحكومة على 10 % من الأرباح. ومن أجل هذا تقدم الإمبراطور يطلب تعديل الامتياز وفي 1933 اتفق الطرفان على أن تكون حصة إيران 14 % من الأرباح ومد أجل الامتياز إلى 1991.

إن كل قطرة من البترول تعادل قطرة من الدم، وإنجلترا من أجل هذا حريصة على أن تبقى آبار البترول في إيران تحت يدها ويضاف إلى هذا ما تربحه بريطانيا من أموال طائلة. والإيرانيون الآن يرون أن بلادهم تفيض ذهبا ولكن هذا الذهب لا يذهب إلى جيوبهم وإنما يذهب إلى جيوب غيرهم من الأجانب، ومن ثم قاموا يطالبون حكومتهم بتصحيح الأوضاع ورد بضاعتهم إليهم، ولن يكون ذلك إلا بإلغاء امتياز شركة البترول الإيرانية الإنجليزية التي زاد إنتاجها في العام الماضي عن 20 مليون طن من البترول وتأميم البترول، أي أن تصبح آباره مرفقا عاما من مرافق الدولة الإيرانية وموردا من

ص: 9

مواردها؟ ألست ترى معي أنهم على حق؟

وبدأت الحركة باغتيال رئيس الوزراء وقرر البرلمان الإيراني موافقته على مشروع التأميم وثارت إنجلترا وأرسلت بوارجها إلى الخليج الفارسي وحشدت روسيا قواتها على حدود إيران وما يزال الموقف مضطربا للغاية. وما يعلم إلا ربي وربك كيف تكون النهاية.

أبو الفتوح عطيفة

مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية

ص: 10

‌1 - في الحديث المحمدي

للأستاذ محمود أبو رية

نستخير الله اليوم في أن نفي بما وعدنا به قراء الرسالة الغراء فننشر فصولا مختصرة من بحث مستفيض قصرناه على الكلام (في الحديث المحمدي) والله نسأل أن يعصمنا من الزلل ويلهمنا التوفيق في القول والعمل

محمود أبو رية

مما لا يكاد يختلف فيه اثنان، أو يحتاج في إثباته إلى برهان، أن للحديث المحمدي من جلال الشأن وعلو القدر، ما يدعو إلى العناية به، والبحث عنه، حتى يدرس ما فيه من دين وأدب، ويعلم ما يحمله من أخلاق وحكم.

وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة، والمنزلة الرفيعة، فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون برجال الحديث يتداولونه بينهم ويدرسونه على طريقتهم. وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل. فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث - على قدر الوسع - في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحا أو غير صحيح، معقولا أو غير معقول، أي أنهم وقفوا عند البحث فيما يتصل بالسند فقط، أما المتن فلا يعنيهم من أمره شيء

ثم جاء المتأخرين فقعدوا وراء الحدود التي أقامها من قبلهم، لا يتجاوزونها ولا يحيدون عنها، وبذلك جمد علم الرواية منذ القرون الأولى لا يتحرك ولا يتغير، ووقف هؤلاء وهؤلاء عند ظواهر الحديث كما أدت إليه الرواية مطمئنين إليها آخذين من غير بحث ولا تمحيص بها.

وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث روايته حتى قيل: (أن علم الحديث قد أنطبخ حتى احترق) فإنهم قد أهملوا جميعا أمرا عظيما يجب أن يعرف قبل النظر في كتب هذا العلم ودرس ما فيها، وذلك هو البحث عن النص الصحيح لما تحدث به النبي (ص)، وهل كتبه عند إلقائه كما فعل بالقرآن؟ أو أهمله ونهى عن كتابته! وهل دونه الصحابة ومن بعدهم أو أمسكوا عن تدوينه؟ وماذا كان أمرهم في روايته؟ وهل ما روي

ص: 11

منه قد جاء مطابقا لحقيقة ما نطق النبي به - لفظا ومعنى - أو كان مخالفا له؟ وما هي العوامل التي تدسست إليه من أعدائه، والمؤثرات التي أصابته من أهواء أوليائه، حتى رشيت بما ليس منه، وتسرب إليه ما هو غريب عنه! ثم في أي زمن أبتدأ تدوينه؟ وهل اتخذ ما دونوه - في أول الأمر - طورا واحدا لم يتغير على مر العصور، أو تقلب في أطوار متعددة! وفي أية صورة خرج أخيرا للناس في كتبه المعتمدة، وماذا كان موقف علماء الأمة منه، وما مبلغ ثقتهم به، ومدى اختلافهم فيه! بعد أن عراه ما عراه، وتأثر بما تأثر به؟ وما إلى ذلك من الأمور المهمة التي يجب أن يعرفها كل مسلم أو باحث قبل النظر فيه، والأخذ بما تؤدي إليه ألفاظه ومعانيه

أما هذا كله وغيره مما يتصل بحياة الحديث وتاريخه فقد انصرف عنه العلماء والباحثون، وتركوه أخبارا في بطون الكتب مبعثرة، وأقوالا بين ضمائر الأسفار مستنسرة، لا يضم نشرها كتاب، ولا يعنى بتصنيفها باحث.

نهي النبي عن كتابة حديثه وعمل الصحابة بذلك:

كان رسول الله صلوات الله عليه مبينا ومفسرا للقرآن بفعله وقوله، ولكن أقواله في هذا البيان أو في غيره لم تحفظ بالتدوين كما حفظ القرآن، وقد تضافرت الأدلة النقلية الوثيقة، وتواتر العمل الصحيح على أن أحاديث الرسول (ص) لم تكتب في عهده كما كان يكتب القرآن، ولا كان لها كتاب يقيدونها عند سماعها والتلفظ بها كما كان للقرآن كتاب معروفون يقيدون آياته عند نزولها، بل جاءت أحاديث صحيحة وأثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة أحاديثه صلوات الله عليه إذا أوردناها كلها طال بنا القول فلنجتزئ يذكر ذرو قليل منها:

روى مسلم وأحمد وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه)

وأخرج الدارمي عن أبي سعيد كذلك: أنهم استأذنوا النبي (ص) في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم

وروى الترمذي عن أبي سعيد قال: استأذنا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا.

وعن أبي وهب قال: سمعت مالكا يحدث أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب الأحاديث أو

ص: 12

كتبها ثم قال: (لا كتاب مع كتاب الله)

وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في المدخل عن عروة: أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك - ورواية البيهقي - فاستشار فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله - (وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا) ورواية البيهقي (لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا)

وروى الحاكم عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلب - قالت فغمني كثيرا فقلت لشكوى أو لشيء بلغه! فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها وقال: خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها حديث عن رجل ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدثني فاكون قد تقلدت ذلك. زاد الأحوص بن الفضل بن عنان في رواية: أو يكون قد بقى حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله

والأخبار في ذلك كثيرة جدا لا نستزيد بإيرادها كلها رغبة الصحابة عن رواية الحديث ونهيهم عنها:

إذا كانت الآثار الصحيحة قد جاءت في نهي النبي (ص) عن كتابة حديثه، والأخبار الوثيقة قد ترادفت بأن صحابته رضوان الله عليهم قد استمعوا إلى نهيه، ولم يكتبوا حديثه بعد موته، - كما علمت مما مر بك - فإنا نجد هؤلاء الصحابة كانوا يرغبون عن رواية الحديث بل كانوا ينهون عنها! وأنهم كانوا يتشددون في قبول الأخبار تشديدا قويا.

روى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ قال ومن مراسيل ابن أبي مليكة أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا؛ فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. وروى ابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف قال: والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق - عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر - فقال: ما هذه الأحاديث التي أنشيتم عن

ص: 13

رسول الله في الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال: أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم، نأخذ منكم ونريد منكم، فما فارقوه حتى مات.

وروى السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة (لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس أي (إلى بلاده) وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة.

ونهاهما كذلك عن الرواية عثمان بن عفان

وكان عمر يقول: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به. ولا غرابة في أن يفعل عمر ذلك لأنه كان لا يعتمد إلا على القرآن والسنة العملية، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه لما حضر النبي (أي حضرته الوفاة) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي:(هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده) فقال عمر إن النبي غلبه الوجع وعندكم كتاب الله فحسبنا كتاب الله.

وروى ابن سعد في الطبقات عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال: فما سمعته يحدثنا عن النبي حديثا حتى رجع، وسئل عن شيء فاستعجم وقال:(إني أخاف أن أحدثكم واحدا فتزيدوا عليه المائة). وسعد هذا من العشرة المبشرين بالجنة ومن كبار الصحابة.

وعن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة فما سمعته فيها يحدث عن رسول الله، ولا يقول قال رسول الله؛ إلا أنه حدث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه، قال رسول الله! فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدر عن جبينه ثم قال: إن شاء الله إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما دون ذاك)

وأخرج أحمد وأبو يعلي عن دجين قال: قدمت المدينة فلقيت أسلم مولى عمر بن الخطاب فقلت حدثني عن عمر فقال: لا أستطيع، أخاف أن أزيد أو أنقص! كنا إذا قلنا لعمر، حدثنا عن رسول الله قال أخاف أن أزيد أو أنقص.

وأخرج الدارقطني عن عبد الله بن عامر، قال: سمعت معاوية على منبر دمشق قال:

(إياكم وأحاديث رسول الله إلا حديثا ذكر على عهد عمر. إن عمر كان يخيف الناس الله - ورواية الدارمي - اتقوا الروايات عن رسول الله إلا ما كان يذكر منها في زمن عمر، إن

ص: 14

عمر كان يخوف الناس في الله تعالى)

المنصورة

للكلام صلة

محمود أبو رية

ص: 15

‌3 - الفارابي في العالم الإسلامي وفي أوربا

بمناسبة مرور ألف عام على وفاته

للأستاذ ضياء الدخيلي

قال الغزالي (المتوفى سنة 505 هـ الموافقة سنة 1111 م) في كتابه تهافت الفلاسفة: ثم المترجمون لكلام أرسطا طاليس لم ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل محوج إلى تفسير حتى أثار ذلك أيضا نزاعا بينهم، ن وأقوامهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة في الإسلام الفارابي أبو نصر وابن سينا، فنقتصر على إبطال ما اختاروه ورأوه الصحيح من مذهب رؤسائهم في الضلال فإن ما هجروه واستنكفوا من المتابعة فيه لا يتمارى في اختلاله، ولا يفتقر إلى نظر طويل في إبطاله.

وقال الغزالي في (المنقذ من الضلال): رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلاهيين ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم بقايا لم يوفق للنزوع عنها فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهما. . . على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من المتفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين وما نقله غيرهما لا يخلو من تخبط وتخليط يتشوش فيه قلب المطامع حتى لا يفهم وما لا يفهم كيف يرد أو يقبل؟ ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في ثلاثة أقسام: قسم يجب التفكير به، وقسم يجب التبديع به، وقسم لا يجب إنكاره أصلا فلنفصله.

فترى الغزالي في التهافت قد أثنى على ما نقه الفارابي من فلسفة أرسطو ووسمه بالاستقامة، وفي المنقذ كفره مع إطرائه جهوده في النقل.

ومن المنتظر أن لا يعف عن الطعن في أبي نصر وفلسفته من اتبع خطوات الغزالي وسار في ركابه كابن العماد الحنبلي الذي حمل عليه في (شذرات الذهب) مقتطفا كلمات للغزالي دعم بها هجومه على هذا الفيلسوف الجليل فقال عنه الفارابي ذو المصنفات المشهورة في الحكمة والمنطق والموسيقى التي من ابتغى الهدى فيها أضله الله. وكان مفرط الذكاء، وقال ابن الأهدل قيل هو أكبر فلاسفة المسلمين لم يكن فيهم من بلغ رتبته وبه أي بتأليفه تخرج ابن سينا. وكان يحقق كتاب أرسطاطاليس وكتب عنه في شرحه سبعين سفرا ولم يكن في

ص: 16

وقته مثله ولم يكن في هذا الفن أبصر من الفارابي. ويقال إن آلة القانون من وضعه. قال الفقيه حسين هؤلاء الثلاثة متهمون في دينهم يعني الفارابي والكندي وابن سينا فلا تغتر بالسكوت عنه. انتهى ما أورده ابن الأهدل ملخصا. استمر الحنبلي في حديثه قائلا: وبجملة فأخبره وعلومه وتصانيفه كثيرة شهيرة؛ ولكن أكثر العلماء على كفره وزندقته حتى قال الإمام الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال): لا نشك في كفرهما أى الفارابي وابن سينا. وقال فيه أيضا وأما الإلاهيات ففيها أكثر أغاليطهم وما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوا في المنطق ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذهب الإسلاميين الفارابي وابن سينا ولمن مجموع ما يخلطون فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في ثلاثة منها وتبديعهم في (17) ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت. وقال الغزالي في (المنقذ من الضلال) القسم الثلث الإلاهيون وهم المتأخرون مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون، وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس وهو الذي رتب لهم المنطق وهذب العلوم وأوضح لهم ما كان أنمحى من علومهم. وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم. ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن قبله من الإلاهيين ردا لا يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم إلا أنه استبقى من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق بالنزوع عنها فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من الإسلاميين كابن سينا والفارابي على أنه لم يقم بعلم أرسطاطاليس أحد من المتفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين وما نقله غيرهم ليس يخلو من تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم ما لا يفهم كيف يرد أو يقبل. . .؟ ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في ثلاثة أقسام: قسم يجب التفكير به، وقسم يجب التبديع به، وقسم لا يجب إنكاره أصلا وبعد ما أورد ابن العماد الحنبلي هذا في كتابه (شذرات الذهب) أردفه بقوله انتهى ما قاله حجة الإسلام الغزالي فرحمه الله تعالى رحمة واسعة. فانظر ما يجر إليه علم النطق وما يترتب عليه التوغل فيه ولهذا حرمه أعيان الأجلاء كابن الصلاح النواوي والسيوطي وابن نجيم في أشباهه وابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم وإن كان أكثر الحنابلة على كراهته. قال الشيخ في غاية المنتهى ما لم

ص: 17

يخف فساد عقيدة أي فيحرم. . .

وأقول إن ما أورده ابن العماد الحنبلي هذا لا يمثل وجهة نظر عامة المسلمين وإنما هو مما تحجرت عليه أدمغة الحنابلة والرجعيين والجامدين فلا يتخذن أعداء الإسلام من هذا الهذيان منفذا للطعن فيه بأنه دين يكره التفكير الحر والمنطق ورحم الله الإمام محمد عبده فقد كفانا في جولاته وصولاته مع من حاول ذلك الطعن في الإسلام من أمثال فرح أنطون صاحب كتاب (ابن رشد وفلسفته) الذي جمع فيه مقالاته التي طعن فيها الإسلام بضيق صدره بالفلسفة وقد نشرها في صحيفة (الجامعة) ورد عليه الإمام المذكور في كتابه (العلم والمدنية في الإسلام والنصرانية) وحين ذكر الفارابي - ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ في كتابه (البداية والنهاية) لم ينس أن يطعن في عقيدته فقال: الفارابي التركي الفيلسوف كان حاذقا في الفلسفة ومن كتبه تفقه ابن سينا. وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجثماني ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف بها المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين. مات بدمشق فيما قال ابن الأثير في كامله (ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته فالله أعلم. . .) ويقصد بهذا الشتم القبيح من شاد صرح الفلسفة الإسلامية المعلم الثاني ابن نصر الفارابي فتأمل. . .

والحق أن هذه الهجمات العنيفة من خصوم الفلسفة قد آذت الفارابي وشوهت سمعته في العالم الإسلامي فصارت أبحاثه رمزا للانحراف عن الإسلام وزيغان العقيدة كما توضح لك ذلك القصة التالية: جاء في كتاب (السلوك لمعرفة دول الملوك) لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي: أنه في سنة 595هـ عظمت الفتنة في عسكر غياث الدين محمد ملك الغورية وكانت بلاد الغور تقع بأفغانستان بين هراة وغزنة وكانت مملكة إسلامية مستقلة بشؤونها منذ أوائل القرن الخامس الهجري ثم فتحها محمود الغزنوي سنة 411هـ واستمرت تابعة للدولة الغزنوية وصاهر ملوكها سلاطينهم حتى سنة 536هـ حيث قضى التركمان على الدولتين الغزنوية والغورية معا ثم جاء غيث الدين بن بسام فأسس ملكا جديدا على أنقاض الدولتين سنة 569هـ. . . وكان سبب هذه الفتنة أن الإمام فخر الدين محمد ابن عمر الرازي الفقيه الشافعي المشهور كان قد بالغ غياث الدين في إكرامه وبنى له مدرسة بقرب

ص: 18

جامع هراة ومعظم أهلها كرامية، والكرامية إحدى الفرق الإسلامية. ويذكر المقريزي أنها أتباع محمد بن كرام (بتشديد الراء) السجستاني وكلهم مجسمة زعموا (أن الله جسم وله نهاية من جهة الأسفل الخ) قال تقي الدين المقريزي وأن أهل هراة أجمعوا على مناظرة الرازي وتجمعوا عند غياث الدين محمد معه وكبيرهم القاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر بن القدوة فتكلم الإمام فخر الدين مع ابن القدوة واستطال عليه وبالغ في شتمه وهو لا يزيد على أن يقول (لا يفعل مولانا. لا آخذك الله؛ استغفر الله) فغضب الملك ضياء الدين له وهو ابن عم الملك غياث الدين وكان أشد الناس كراهة للفخر الرازي ونسب الإمام الرازي إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة وقام من الغد الخطيب بالجامع وقال في خطبته (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين. أيها الناس أنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله، وأما علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها فلأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ. الإسلام يذب عن دين الله وسنة نبيه؟ وبكى وأبكى فثار الناس من كل جانب وامتلأت البلد فتنة فسكتهم السلطان غياث الدين وتقدم إلى الإمام فخر الدين بالعود إلى هراة فخرج إليها ثم فارق غياث الدين ملك الغورية مذهب الكرامية وتقلد الشافعي رحمة الله)

وهذه القصة توضح لنا كيف أن اسم فلسفة الفارابي كان مقرونا بالإلحاد والخروج على قواعد الإسلام في دنيا المسلمين وهذه من نتائج حملات الرجعيين الشنيعة على الفلسفة وأقطابها، فهذا طاش كبرى زاده المتوفي عام 962هـ (1554) يقول في مفتاح السعادة ومصباح السيادة (كما نقل عنه صاحب كتاب قصت النزاع بين الدين والفلسفة): وإياك أن تضن أن الحكمة المموهة التي اخترعها الفارابي وابن سينا ونقحها نصير الدين الطوسي - ممدوحة، هيهات هيهات، إن ما خالف الشرع فهو مذموم سيما طائفة سموا أنفسهم حكماء الإسلام عكفوا على دراسة ترهات أهل الضلال وسموها الحكمة وربما استهجنوا من عرى منها. . . قيل فيهم

وما انتسبوا إلى الإسلام إلا

لصون دمائهم عن أن تسالا

فيأتون المناكر في نشاط

ويأتون الصلات وهم كسالى

للكلام صلة

ص: 19

ضياء الدخيلي

ص: 20

‌ذكرى الشاعر الفنان

الطبيعة في شعر الرصافي

للأستاذ أنيس الحوراني

الطبيعة العراقية لوحة فنية رائعة، رسمتها ريشة مفن أصيل، صورتها في أحسن تصوير، وكونتها في أبدع تكوين: زاخرة في مفاتنها ومباهجها؛ في أنهارها الجارية وجداولها السارية، في تخيلها السامق وحقولها الخضراء، في مروجها الفيح وحدائقها الغناء، في صحرائها المترامية وهضباتها الرابضة، في رمالها الحمراء وحصاها المتماوج. . حيثما تولي وجهك ترى الجمال فيها هنا وهناك يتراءى لك في ألوان شتى وأشكال مختلفة!

تحت هذه الظلال الوارفة، وعلى جنبات هذه الشواطئ المخضلة: ترعرع شاعرنا الرصافي وشب، فترعرع معه حبه للطبيعة وشب وإياه تعشقه لجمالها الساحر الفتان. . فراح يتملئ من مفاتنها ويستلهم سرها الدفين، فيستجلي الصور الرائعة الفريدة، ويرسلها شعرا رقيقا عذبا ينساب كالغدير الصافي فوق أفواف الزهر؛ ثم نراه يطفر هنا وهناك كالبلبل الغريد ينشد ويغرد بحرارة ونشاط!

فالرصافي إذن ابن الطبيعة البار، ابنها الوفي الأمين الذي اعتز بوعده لها، فخلدها في أسمى المعاني وأرق البيان، وكثيرا ما نراه يفزع إليها بعد إخفاق الأماني، ليسري عن نفسه، وينفس عن كربه، فتسعفه بأروع ما عندها من ذخائر ونفائس. . فنراه عند ذاك كالرسام البارع الأصيل الذي يكتفي بألوان قليلة لرسم الصورة التي تمر أمامه، فيخرجها للناس بإطارها الوضاء، حيث يسكب فيها شعوره الفياض ممزوجا بمعاني النور والظلال والتجاوب النفسي في تذوق الجمال الفني الذي تأتلف فيه الطبيعة ائتلافا دقيقا. .

هذه ناحية قيمة من شعر الرصافي تجاهلها النقاد فلم يعطوها حقها، وذلك لابتعادهم عن الاندماج في نفسية الشاعر وتذوق شعره؛ فهو قبل كل شيء معبر وجداني، وشعره مرآة نفسه المتجاوبة مع عناصر الحياة وتكوينها، وأن أدبه أدب القوة والإبداع والخلود!.

وهذه الطبيعة الراقصة في شعره، يمكننا أن نتلمسها في قصائده الكثيرة منذ صباه حتى شيخوخته، فنجدها ذات روح وثابة قوية، روائعها الفنية ناطقة في غير بيان. والذي جعل شاعرنا يبدع في ذلك هو غرامه الذي لا حد له في المحسنات اللفظية والجمال البديعي، مما

ص: 21

يجعلنا نقرأ قصيدته ونستعيدها مرة إثر مرة حتى نقف على أبعد مراميها فندرك سر بيانها، وإن شعره في كثير من الأحيان يسيل رقة وعذوبة، ويتفجر عن ينابيع ثرة دافقة. .

استمع إليه في قصيدة (الغروب) يقول فيها:

نزلت تجر إلى الغيوب ذيولا

صفراء تشبه عاشقاً متبولا

تهتز بين يد المغيب كأنها

صب تململ في الفراش عليلا

ضحكت مشارقها بوجهك بكرة

وبكت مغاربها الدماء أصيلا

يصف الرصافي الشمس في هذه القصيدة، وهي تجر مطارفها بخفر وحياء وقد أضربها السقم كالعاشق الواني الذي سئم رقدة الفراش؛ فنراه هنا وقد اكتفى بخطوط قليلة وألوان زاهية لإبداع لوحته الفنية، ثم صورها عند الشروق ضاحكة باسمة، وعند الأصيل مولولة جازعة تتشح بردائها الأحمر القاني الذي خضبته الدماء.

وفي قصيدته (وقفة في الروض) يقول:

ناح الحمام وغرد الشحرور

هذا به شجن وذا مسرور

في روضة يشجي المشوق ترقرق

للماء في جنباتها وخرير

ما قد انعكس الصفاء بوجهه

وصفاه لاح كأنه بلور

ومنها:

وتسلسلت في الروض منها جداول

بين الزهور كأنها سطور

حيث الغصون مع النسيم موائل

فكأنها معاطف وخصور

تأملوا يا لله! في خيال الشاعر العبقري الواصف تجدوه كمن اطلع على أسرار الطبيعة وما تزخر به من حجب وتكهنات فراح يقتنص الشوارد بأدق المعاني وأرق الأحاسيس؛ فيشعر بمصاب الحمام وهو ينوح من شجن وعذاب، ويشارك الشحرور في تغريده لفرحته ومسرته! ثم يلتفت هنا وهناك وكأنه يستشف غور الأعماق، فينتقي سادرا في صفحة الماء الجلواء، حتى يتخيل إليه أنه يرى مدى بعدها لصفائها، وكأنها استطابت مكوثه في هذه الأرض فرقة له واستسلمت إليه، فكشفت له عن كنهها ومخابئ صدرها من جمال وروعة!.

ومن هذا الوصف المفتن ما جاء في قصيدة (ذكرى لبنان) إذ يقول فيها:

برزت تميس كخطرة النشوان

هيفاء مخجلة غصون البان

ص: 22

ومشت فخف بها الصبا فتمايلت

مرحاً فاجهد خصرها الردفان

جال الوشاح على معاطفها التي

قعدت وقام بصدرها النهدان

تستعبد الحر الأبي بمقلة

دب الفتور بجفنها الوسنان

ومنها:

لم أنس في قلبي صعود غرامها

إذ نحن نصعد في ربي لبنان

حيث الرياض يهز عطف غصونها

شدو الطيور بأطرب الألحان

لبنان تفعل بالحياة جنانه

فعل الزلازل بغلة الظمآن

نراه هنا نتمشى مع الطبيعة جنبا إلى جنب، فيعطيها نصيبها الوافر من الإبداع والتشبيه، مع خيال شعري سليم، وموسيقى شجية، ليس فيها أي تكلف مصطنع، بل جاءت فريدة من صميم نفسه الشاعرة المراهقة.

وقوله لاستغلال مادة الطبيعة في بساطة ساحرة:

البحر رهو والسما صافية

والفخت في الليل شبيه السديم

والبدر في طلعته الزاهية

قد ضاحك البحر بثغر بسيم

والصمت في الأنحاء قد حيما

فالليل لم يسمع ولم ينطق

والبدر في مفرق هام السما

تحسبه التاج على المفرق

أغرق في أنواره الأنجما

وبعضها عام فلم يغرق

والبحر في جبهته الصافية

قام طريق للسنا مستقيم

لم تحف في أثنائه خافية

حتى ترى منه اهتزاز النسيم

تلك هي قصيدته (محاسن الطبيعة) التي أجاد في صياغتها وتوشيحها، فكانت طرفة خالدة من طرائفه الفنية النفسية!. يصف فيها سكون البحر وهدوئه، والليل وصمته، تظللهما سماء جلواء صاحية الأديم؛ وقد وثب القمر في طلعة مشرقة وضاءة، ليداعب البحر في فرحة ومسرة، وكأنه تاج من سنى الضياء، على مفرق السماء!

وقوله:

أنظر إلى تلك المعلقة التي

سترت ظلام الليل بالأضواء

قطع من البلور محدقة بها

يحكين شكل أصابع الحسناء

ص: 23

فكأنها بدر تلألأ في الدجى

وكأنهن كواكب الجوزاء

بل قد يمثلها الخيال كأنها

قمر أحيط بهالة بيضاء

قال هذه الآبيات مرتجلا في (معلقة) وقد برع في وصفها مجنحا إلى آفاق رحبة من الخيال المطلق. والذي نتلمسه الآن في شعره هو أن الطابع الوصفي يغلب على شعره في الطبيعة والذي يصاحبه الجرس واللون والخيال المجنح؛ وقد يمتزج أحيانا بفلسفة الحياة والعاطفة والوجدان.

ونراه بعد حين يرتد طرفه عن مباهج الحياة وزخارفها، ليرى وطنه وقد لعبت به أيادي الحدثان، وارتفعت في أرجاءه سياط الطغيان، فأنشد يقول ودمعه لا يرقأ:

نظرت إلى عرض البلاد وطولها

فما راقني عرض هناك ولا طول

ولم يبد لي فيها معاهد عزها

ولكن رسوم رثة وطلول

أأمنع عيني أن تجود بدمعها

على وطني إني إذن لبخيل

لنشاركه في هذه النظرة التي ألقاها على البلاد، حيث تتجلى فيها دفقة الحس وفيض الشعور، لنرى وإياه بعين المتأمل الخبير (فما راقني) يا للعجب!. تلك البلاد التي استهوته بجمالها؛ وأسرته بمفاتنها، يعود فيراها على صورة غير التي كان يعهدها منذ قبل. . (ولكن رسوم رثة وطلول)، وكأننا نحس ونشعر بما يرمي إليه الشاعر، فيغمرنا الألم ويحز في نفوسنا، فنشاركه دموع الحزن والأسى لما أصاب الوطن الجميل. . ثم ماذا؟! (إني إذن لبخيل)، وهنا تتم اللوحة التصويرية في أجل معانيها وأنبل غاياتها، فتدفع بالروح المتطلعة إلى أبعد حدود الذات، إلى الانطلاق الحر، إلى ثورة النفس الصاخبة التي يرمي إليها الشاعر في هذا الهمس البسيط يبغي من وراء ذلك تحطيم القيود وهدم السدود، ودك صروح الغزاة المعتدين!!

هذا هو الرصافي في شعر الطبيعة، ذلك الشعر الذي يتراءى لنا من خلال سطوره وقدة النفس في طموحها في سبيل الاعتزاز بهذه الأرض الطيبة الساحرة الجميلة!.

والرصافي الآن في مقدمة موكب الخالدين، وشعره هذا سيبقى سفرا قيما للتاريخ التصويري للطبيعة العراقية!

بغداد

ص: 24

أنيس الحوراني

ص: 25

‌مع أبي تمام في آفاقه:

قصيدة النار

للأستاذ محمود عزت عرفة

المعتصم والفقشين:

لم يكن المعتصم رجل علم كأخيه المأمون، وإنما كان جنديا قديرا يحسن اصطفاء القواد وتخير رجالات الحرب. وقد وصف نفسه في بعض مجالسه بأنه (الخليفة الأمي) فلم يعد وجه الحق في شيء.

وكان موقف الدولة العباسية وعوامل تكوينها قد قضت علها أن تستجلب العناصر الغريبة إلى جيشها، من فرس وترك وغيرهما، تستعين بهم على كبح جماح العرب من فلول بني أمية وأشياع بني هاشم.

فلما جاء أبو إسحاق المعتصم أرنى في ذلك على أسلافه، حتى لأسقط أسماء العرب من ديوان الجيش مكتفيا بالأتراك والأبناء، وبجند اجتلبهم من فرغانة وأشروسنة.

ولما نبت بغداد بأولئك الجند، وآذوا أهلها وتأذوا بهم، اختط لهم المعتصم حاضرته الجديدة سامرا، وأبانهم بالأزياء الجديدة عن سائر جنده، ورفع من مراتبهم وأقدارهم، وجعل بأيديهم مستقبل الخلافة.

وكان الأفشين (حيدر بن كاوس) أحد هؤلاء الذين اصطفاهم المعتصم، وهو فارسي الأصل من أبناء أشروسنة. ولقب الأفشين كان يطلق على كل من ملك في تلك الناحية.

والثابت أن الأفشين من أبناء الملوك الذين حكموا هنالك؛ وقد كانت منزلته رفيعة لدى قومه حتى اليوم الذي قتل فيه، بل إن إفراطهم في الولاء له كان إحدى التهم التي ووجه بها وأدت إلى أن يسلب نعمته ويصلب.

ويرجع اتصال الأفشين بالمعتصم إلى ما قبل توليه الخلافة بسنوات. ففي عام 213هـ عقد المأمون لأخيه لواء الولاية على الشام ومصر. وفي نفس السنة أندلع بمصر لهيب الثورة. ووثب عرب القيسية واليمانية بعامل المعتصم فقتلوه، وهو عميرة بن الوليد الباذغيسي الذي رثاه أبو تمام بإحدى بواكير شعره وهو بمصر فقال:

أعيدي النوح معولة أعيدي

وزيدي من بكائك ثم زيدي

ص: 26

وقومي في نساء حاسرات

خوامش للنحور وللخدود

هو الخطب الذي ابتدع الرزايا

وقال لأعين الثقلين: جودي

ألا رزئت خراسان فناها

غداة ثوى عمير بن الوليد!

ومرت بمصر أحداث جسام استدعت أن يأتي المعتصم بنفسه فيسكن من ثائرها. ولما غادرها تجددت أسباب الفتنة فلم يجد بدا من أن يبعث إلى مصر بأفضل رجاله عنده وهو الأفشين. فقدمها في ذي الحجة عام 214هـ.

ولا تكاد كتب التاريخ تشير إلى الأفشين بشيء قبل أن تجري هذه الحوادث؛ فمما لا شك فيه أن تلك أول مهمة خطيرة يعهد إليه المعتصم بها.

وقد استمر بمصر يقاتل القوم في وثبات متتابعة حتى قدم إليها المأمون بنفسه في المحرم من عام 217هـ.

وتنقطع أخبار الأفشين بعد هذا. ولعله كاد في ركاب المأمون، ثم التحق بموضعه من حاشية أميره المعتصم. على أن المأمون توفى في رجب سنة 218هـ، وخلفه المعتصم بعهد منه. فخاض غمار حربين كبيرتين استغرقتا أعوام حكمه: أولاهما حرب الخرمية في الشرق، وقد انتهت بفتح (البذ) معقل بابك الخزمي واعتقاله وقتله والثانية حرب الروم في الغرب - وكانوا قد تحركوا على صدى حوادث الخرمية - وتمث هزيمتهم بفتح (عمورية) أقوى حصونهم على حدود المملكة الإسلامية في آسيا الصغرى.

وكان الأفشين هو بطل الخلافة المجلى وفارسها المعلم في هاتين السلسلتين من الحروب.

حرب الخزمية:

والخرمية قوم من المجوس كانوا يدينون بمذهب التناسخ، ويبيحون المحرمات من تناول الخمر وزواج ذوات المحارم وسائر ما تستجيب إليه الأهواء.

وكان رئيسهم جاويدان بن سهل صاحب جبال البذ، الذي خلفه عند موته بابك بن بهرام مدعيا أن روح جاويدان حلت فيه. وقد حدث هذا في سنة 201هـ والمأمون لا يزال في أوائل حكمه مقيما بمدينة مرو لم يبرحها بعد إلى بغداد.

ويقول ابن الأثير في تاريخه (الكامل) إن تفسير جاويدان: الدائم الباقي، ومعنى (خرم) الفرح. . قال: وهي مقالات المجوس. والرجل منهم يتزوج أمه وأخته وأبنته، ولذا يسمونه

ص: 27

دين الفرح، ويعتقدون بمذهب التناسخ، وأن الأرواح تنتقل من حيوان إلى غيره.

وقد جد المأمون في حرب بابك حتى استعصى عليه أمره؛ وأشخص إليه جندا كثيفا على دفعات؛ فانهزم أمامه من قواد الخلافة على التوالي، بين ناج وقتيل وأسير: يحيى بن معاذ، وعيسى بن محمد بن أبي خالد، وعلي بن صدقة، وأحمد بن الجنيد الإسكافي، وإبراهيم بن الليث بن الفضل، ومحمد بن حميد الطوسي. وكان ذلك في الفترة ما بين عامي 204، 214هـ

ومن هنا نفهم معنى ما سجله المأمون في وصاته وهو يحتضر، لأخيه أبي إسحاق المعتصم حيث يقول: والخزمية فاغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة. فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك. واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجيا ثواب الله عليه.

ولم يأل المعتصم في محاربة الخرمية جهدا، فسير إليهم قائده إسحق بن إبراهيم المصعبي سنة 218هـ وعقد له الولاية على الجبال، فأوقع بفريق منهم في همذان وعاد ومعه منهم أسرى. وأعقبه المعتصم بالأفشين حين تبين له استفحال خطبهم، وانضواء الكثيرين تحت لواء دعوتهم. فأوقع بهم عند حصن (أرشق)، ونجا بابك هاربا إلى (موقان) ثم أرسل إلى البذ فجاءه جند تقوى بهم وعاد إلى حصنه.

وما زال الأفشين يتنقل من موضع إلى موضع، وهو يسد المسالك، ويستجلب الميرة، ويرم الحصون، ويبث الأرصاد والعيون، حتى أوفى على حصن البذ فحاصره، واستولى عليه في رمضان سنة 222هـ.

وقد كان لهذا النصر أثره المدوي في نفوس المسلمين، فشرقت به مدائح الشعراء وغربت تنوه بفضل الأفشين وقواده ممن أعانوه على هذا العمل الجليل.

يقول أبو تمام - باقتراح من عبد الله بن طاهر - في وصف بلاء الأفشين، وعظم تدبيره في هذه المواقع:

لقد لبس الأفشين قسطلة الوغى

مخشا بنصل السيف غير مواكل

وجرد من آرائه حين أضرمت

له الحرب، حدا مثل حد المناصل

وسارت به بين القنابل والقنا

عزائم كانت كالقنا والقنابل

ص: 28

رأى بابك منه التي لا سوى لها

سوى سلم ضيم أو صفيحة قاتل

ويقول في مدحه بعد عودته ظافرا، من نونية مطلعها: بذ الجلاد البذ فهو دفين:

قاد المنايا والجيوش فأصبحت

ولها بأرشق قسطل عثنون

فتركت أرشق وهي يرقى باسمها

صم الصفا، فتفيض منه عيون

لو تستطيع الحج يوما بلدة

حجت إليها كعبة وحجون

لاقاك بابك وهو يزأر، وانثنى

وزئيره قد عاد وهو أنين

لاقى شكائم منك (معتصمية)

أهزلن جنب الكفر وهو سمين

ويقول في مدح أبي سعيد محمد بن يوسف الطائي - أحد قواد الأفشين - وكان قد أنزله بموضع يقال له (خش):

أبلغ محمدا الملقى كلاكله

بأرض خش أمام القوم قد لبجا

ما سر قومك أن تبقى لهم أبدا

وأن غيرك كان استنزل الكذجا

أضاء سيفك، لما اجتث أصلهمو

ما كان في جانبي تلك البلاد دجى

ويوم أرشق والآمال مرشفة

إليك، لا نتبغى عنك منعرجا

أرضعتهم خلف مكروه فطمت به

من كان بالحرب منهم قبله لهجا

ثم يصف مداهمته بابك في موقان حتى تخلى عنها هاربا إلى البذ، كما ذكرنا قبل:

وفي موقان كنت غداة ماقوا

أشد قوى من الحجر الصلود

مشت خببا سيوفك في طلاهم

ولم يك مشيها مشي الوليد

سيوف عودت سيقا دماء

بهامة كل جبار عنيد

ويوم البذ لما يبق حقد

على الأعداء، في قلب حقود

حططت بابك فانحط لما

رأى أجل الشقي مع السعيد

فما ندري؛ أحدك كان أمضى

غداة (البذ) أم حد الحديد؟

ويقول مخاطبا ابن يوسف أيضا من دالية أخرى:

عططت على رغم العدا عزم بابك

بعزمك حط الأنحما المعضد

وموقان كان الدار هجرته فقد

توردتها بالخيل أي تورد

حططت بها يوم العروبة عزه

وكان مقيما بين نسر وفرقد

ص: 29

ويخاطبه في دالية ثالثة:

تركت منهم سبيل النار سابلا

في كل يوم إليها عصبة تفد

كأن بابك بالذين بعدهمو

نؤى أقام خلاف الخى أو وتد

وأهل موقان إذ ماقوا فلا وزر

أنجاهمو منك في الهيجا ولا سند

لم تبق مشركة إلا وقد علمت

إن لم تنب، أنه للسيف ما تلد

ويقول أبو تمام في مدح أبي دلف - القاسم بن عيسى العجلي - وكان قائد فرقة المطوعة تحت إمرة الأفشين:

إن الخليفة والأفشين قد علما

من اشتفى لهما من بابك وشفى

في يوم أرشق والهيجاء قد رشقت

من المنية رشقا وابلا قصفا

فكان شخصك في أغفالها علما

وكان رأيك في ظلمائها سدفا

نضوته دلفيا من كنانته

فأصبحت فوزة العقبي له هدفا

وكان بابك قد نجا بنفسه بعد سقوط معقله، ومضى هاربا إلى بلاد الروم عن طريق أرمينية، فأذكى الأفشين وراءه العيون وبث الأرصاد في كل مكان حتى قبض عليه. وإلى هذا يشير أبو تمام بقوله:

ورجا بلاد الروم فاستعصى به

أجل أصم عن النجاء حرون

هيهات لم يعلم بأنك لو ثوى

بالصين لم تبعد عليك الصين!

وكان الذي قبض على بابك سهل بن سنباط - أحد بطارقة أرمينية - عند اجتيازه بأرضه متخفيا:

وأزمع نية هربا فحامت

حشاشته على أجل بليد

تقنصه بنو سنباط أخذا

بأشراك المواثق والعهود

ولولا أن ريحك ذربتهم

لأحجمت الكلاب عن الأسود

ولكي نعرف حقيقة ذكر الكلاب والأسود هنا نقول إن الأفشين كان قد ألح على ملوك أرمينية وبطارقها بوجوب التحري عن كل من يجتاز أرضهم وحثهم على القبض على بابك ووعدهم في ذلك ومناهم. . فلما مر بابك بأرض ابن سنباط عرف حقيقته ولكنه جبن عن القبض عليه. فتملقه بالخضوع والطاعة واستضافه في حصنه، ثم كاتب الأفشين

ص: 30

بخبره. فأرسل الأفشين من استوثق له من صحة ذلك ثم بعث بأبي سعيد مع جند فقبضوا عليه. ولما تحقق بابك خيانة ابن سنباط أغلظ في شتمه وقال له: بعتني لليهود بالشيء اليسير. لو أردت المال وطلبته لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء.

ولما مضوا ببابك سير معه ابن سنباط ابنه معاوية (فأمر له الأفشين بمائة ألف درهم، وأمر لسهل بألف ألف درهم استخرجها له من أمير المؤمنين، ومنطقة مغرقة بالجوهر، وتاج البطرقة. فبطرق سهل بهذا السبب)

وقال صاحب النجوم الزاهرة: كان المعتصم قد جعل لمن جاء به حيا ألفى ألف درهم، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم. فجاءه به سهل البطريق فأعطاه المعتصم ألفي ألف درهم، وحط عنه خراج عشرين سنة.

أما بابك - وقد شبهه أبو تمام في بيته بالأسد - فكان مملوء النفس من كبر، مأخوذا بداء العظمة التي وصلت به إلى حد التأله. ولما وصل إلى الأفشين كتاب المعتصم بالأمان لبابك، وهو متوار قبيل القبض عليه، عرضه على بعض من استأمن إليه من أصحاب بابك - وفيهم ابن له كبير - على أن يستقصوا موضعه ويوصلوه إليه. فلم يجرؤ أحد منهم على ذلك. قال الأفشين لبعضهم: ويحك، إنه يفرح بهذا! فقال: أصلح الله الأمير، نحن أعرف بهذا منك!

ولما وصل الكتاب إلى بابك على يد اثنين ضمن لهما الأفشين النفقة على عيالهما إن قتلا - ضرب بابك عنق أحدهما وشد على صدره الكتاب مختوما لم يفضه. وفض كتابا آخر كتبه إليه ابنه يحسن له التسليم ثم أطلق الرسول الثاني وحمله إلى ابنه كلاما كله سب وإفحاش، وفيه قوله: إنك من جنس لا خير فيه، وأنا أشهد أنك بابني. تعيش يوما واحدا وأنت رئيس خير أو تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل؟؟

وحمل الأفشين بابك إلى سامراء فأمر المعتصم بقتله، ثم صلب بموضع يقال له العقبة، في شهر صفر سنة 223هـ

(يتبع)

محمود عزت عرفة

ص: 31

‌من حديث الشعر

الكتاب الثاني

صديقي العزيز. . .

رأيتني أزدرى الشعر وأصف الشعراء بالجهل والسذاجة. فأحفظك هذا الوصف، وغاظك هذا الازدراء. فهببت تذود عن الشعر والشعراء. ولكنك لم تسلك في هذا الدفاع طريقا سواء، وإنما التوت بك السبل فخلطت وأفسدت الأمر على نفسك وعلى الشعر والشعراء، ذلك أنك قد زعمت أن الشعر متنوع مختلف. منه ما يعتمد على الواقع، ومنه ما يعتمد على الخيال، ومنه ما يعتمد على الواقع والخيال جميعها، وأنك أنت لا تؤثر هذا الشعر الذي يسترسل فيه صاحبه مع الخيال، ويسرف في ذلك فيتورط في المبالغات وألوان الغلو، وإنما تؤثر هذا الشعر الذي لاحظ فيه للخيال ولا الاختراع، وإنما هو وصف صادق مطابق للحق الواقع، وأن مذهبك في ذلك مذهب العرب الأوائل الذين قال قائلهم:

وإن احسن بيت أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا

وإذن فأنا مسرف مبالغ حين أزعم أن الشعر جهل وسذاجة لأنه يعتمد على الخيال ولا يعنى بالحقائق، وأين يقع شعر أبي العلاء من الخيال؟ بل أين تقع حكم المتنبي وحكم أبي تمام من الخيال؟ وعلى هذا النحو مضيت في دفاعك عن الشعر والشعراء، فأفسدت الأمر - كما قلنا - على نفسك وعلى الشعر والشعراء. ذلك أن ما تسميه شعرا يعتمد على الحق الواقع ليس من الشعر في شيء، وإنما هو من النظم في كل شيء. . وإذن فمن الخير لي ولك أن نتفق على تعريف الشعر حتى لا أسمي نظما ما تسميه شعرا، ولا تسمي شعرا ما اسميه نظما.

وأنا حين أعرض لتعريف الشعر لا أحب أن أتحذق وأتكلف، وأضع لك جملا غريبة كأنني أحدد أصلا من أصول الفلسفة العليا، أو كأني استنزل وحيا من السماء، ولست في الوقت نفسه أريد أن أخترع أو أن أبتكر، وإنما أريد أن آخذ الأشياء كما هي، وأتمثلها كما يتمثلها المستنيرون من الناس. وأظنك معي في أن الشعر والنظم كلاهما كلام موزون مقفي، ولكن الشعر يمتاز عن النظم أنه يصدر عن الشاعر كما يصدر التغريد عن الطائر الغرد، وكما ينبعث العرف من الزهرة الأرجة، وكما ينبثق الضوء من الشمس المضيئة، فتأثير الإرادة

ص: 33

وتأثير الروية فيه ضئيل جدا، ولعله أن يكون معدوما. أما النظم فتأثير الإرادة وتأثير الروية فيه واضح جدا، أوضح من أن نعرفه أو ندل عليه ولعله أن يكون إرادة كله، وروية كله، ومن هنا كانت العاطفة وحرارتها هي كل شيء في الشعر، ولعلي أن أقول إن الشعر عاطفة كله، ومن هنا أيضا كان العقل ونتاجه خطرا جدا على الشعر يفسده أو يكاد يفسده إفسادا لا حد له. وإذا كان الشعر عاطفة فيجب ألا تنظم هذه العاطفة نظما في الكلام، وإنما يجب أن تصور تصويرا فنيا جميلا. وكيف أعد شعرا قول القائل: أنا محزون جدا، أو أنا مسرور جدا، دون أن يصور لي حزنه أو يصور لي سروره؟ بل كيف أعد شاعرا من قال لي في كلام موزون مقفى: إنه محزون أو إنه مسرور؟ يجب إذن أن تكون العاطفة مصورة - ولكن تصوير العاطفة ليس شيئا إذا لم يكن تصويرا فنيا جميلا. وكيف أستطيع أن أطلق على إنسان اسم الشاعر والريشة تضطرب في يده والألوان تختلط في لوحته؛ والفن والجمال يحتضران بين يديه؟ يجب إذن أن تكون العاطفة مصورة تصويرا فنيا جميلا - ولكن التصوير الفني لا يعتمد على العقل والملكات المفكرة، وإنما يعتمد على الخيال والملكات الخالقة المبتكرة. وهل الاستعارة والمجاز والتشبيه إلا مظاهر من مظاهر الخيال؟ وهل هي في الوقت نفسه إلا ألوان من ألوان التصوير الكلامي الفني الجميل؟ فكيف تقول لي إذن: إن الشعر بعضه يعتمد على الواقع، وبعضه يعتمد على الخيال، وبعضه يعتمد على الواقع والخيال جميعا؟ وهل من فرق بين أن تقول لي هذا وبين أن تقول لي: إن الشعر بعضه يعتمد على التصوير وبعضه لا يعتمد عليه؟ وإذا لم يكن الشعر تصويرا فلعمري ماذا يكون؟ أيكون تحليلا كتحليل العلم أم يكون شرحا كشرح الفلسفة؟ إن أبا العلاء - يا صديقي - لم يكن شاعرا في كل ما نظم، ولكنه كان شاعرا حينا وكان ناظما حينا آخر، وكان يجيد مرة ويتورط في الرديء مرة أخرى. وإن أبا الطيب وأبا تمام لم يكونا يحشران الحكم حشرا بين أبيات القصائد، وإنما كانت حكمهما في كثير من الأحيان تكملة للصورة الفنية التي يرسمانها، وأنت إذا فتشت في هذه الحكم رأيتها مبالغات وخيالات دفعت إليها العاطفة المنفعلة دفعا، فلابد في الشعر إذن من عاطفة، ولا بد لهذه العاطفة من تصوير كلامي منظوم، ولا بد لهذا التصوير من جمال فني، ولا بد لهذا الجمال من خيال. فنحن الآن نستطيع أن نفهم أن الكلام المنثور وإن احتوى على عاطفة وتصوير

ص: 34

وجمال فني وخيال ليس شعرا لأنه فقد النظم، وأن نفهم أن الكلام العاطفي المنظوم الذي لا تصوير فيه للعاطفة ليس شعرا لأنه لا تصوير، ومن ثم لا جمال ولا خيال، وأن نفهم أن الأفكار التي توضع في كلام موزون مقفى ليست شعرا لأن الأفكار لا تحتمل التصوير الشعري الجميل وإنما هي محتاجة إلى الدقة وإلى التشدد في الدقة وإلى أن تسمى الأشياء بأسمائها

وأنا أكتب إليك هذا وبين يدي كتاب في الأدب المقارن لزميل من زملائك أساتذة البلاغة والنقد الأدبي، وهو يعرف الأدب - ومنه الشعر طبعا - بأنه فكرة مصورة مزجاة بعاطفة. وإذا صح أن نعرف النثر بأنه فكرة فإنه يستحيل علينا أن نعرف الشعر بأنه فكرة. على أن النثر ليس فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، فقد يكون النثر فكرة محضة وقد يكون عاطفة محضة، وقد يكون فكرة مزجاة بعاطفة، وقد يكون عاطفة مزجاة بفكرة، وعلى أن هذه الفكرة ليست مصورة دائما، وإنما قد تكون مصورة مرة، وقد تكون محللة مرة أخرى، وقد تكون مشروحة مرة ثالثة وعلى هذا النحو، وكلها مع هذا نثر، ونثر فني. على أننا لا نحب أن نناقش الأستاذ الفاضل في هذا، وإنما الذي نريد أن نقوله: هو أن الشعر ليس فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، وإنما الشعر عاطفة مصورة، لأن نتاج العقل لا يحتمل التصوير الشعري، وإنما هو في حاجة إلى الدقة في التعبير. وماذا يقول الأستاذ الفاضل في هذه العواطف المصورة تصويرا فنيا جميلا، والتي لا تحمل في طياتها فكرة من الأفكار؟ أيسقطها من الأدب لأنها ليست فكرة؟ أم ماذا يصنع بها؟

على أن من الحق أن نقرر أن زميلك الفاضل قد احتاط لنفسه حين عرف الأدب بأنه فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، احتاط لنفسه احتياطا فهو يفرق بين الفكرة بمعناها العلمي المحض، والفكرة بمعناها الأدبي، ويرى أن الفرق بينهما هو الفرق بين (العالمية) و (الفردية) أو بين (الموضوعية) و (الذاتية) فالفكرة العلمية حقيقة واقعة تفرض نفسها على الناس جميعا، ولا تفقد صحتها إلا إذا قام البرهان العلمي على فسادها. أما الفكرة الأدبية فليست حقيقة واقعة وإنما هي حقيقة في رأي الشاعر. وقد يراها الناس وهما كاذبا وخيالا باطلا، فهي فردية ذاتية وليست عالمية وموضوعية. هو يريد أن يقول: إن الأدب يصف الخواطر النفسية والعواطف الإنسانية، ولكنه لم يقل هذا فيريح ويستريح، وإنما لف ودار فتعب وأتعب

ص: 35

الناس معه ولم يصب المرمى بعد هذا التعب وهذا الاتعاب، لأن الخواطر النفسية ليست أفكارا وإن وصفها بالذاتية ووصفها بالفردية، وإنما هي خواطر، وخواطر ليس غير. ماذا أقول؟ بل أن الأدب ليس أفكارا ذاتية وأفكارا فردية ليس غير، وإنما هو ولا سيما إذ كان نثرا فنيا أفكار علمية وحقائق واقعة لم تصغ صياغة علمية جافة، وإنما صيغت صياغة أدبية جميلة أبعدتها عن جفاف العلم وجفوته. وكيف أقول إن النثر الفني أفكار ذاتية أو فردية وهو لا يرقى إلا في الأمم التي أوتقت في الحضارة وتقدمت في الحياة العقلية، وأخذت من العلم والفلسفة بنصيب لا بأس به. أنا إذن عاجز عن افهم أن الأدب فكرة مصورة مزجاة بعاطفة. وعاجز أيضا عن أن أفهم هذا الفرق بين الفكرة العلمية والفكرة الأدبية. ذلك لأني إن فهمت أن النثر فكرة فلن أفهم أن الشعر فكرة، وإن فهمت أن الفكرة الأدبية ذاتية وفردية فلن أفهم أن النثر الفني أفكار ذاتية فردية، وإذن فالأستاذ مطالب بأن يوضح لي رأيه في الأدب عامة وفي النثر خاصة وفي الشعر بنوع أخص

على أننا قد ابتسمنا حين رأيناه يكلف نفسه شططا ويرهقها عسرا لإثبات أن الأدب ومنه الشعر فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، ولعله كان يلمح أن الشعر ليس فكرة، وإنما هو عاطفة وشعور. فهو يقول إن العاطفة لا توجد وحدها بل توجد مدفوعة بفكرة، أو هي بطبيعتها تنتهي متى تملكت صاحبها إلى فكرة من الأفكار. وأنا أحب أن أناقشه في هذا الكلام، لأن العاطفة قد لا توجدها فكرة من الأفكار وقد لا تنتهي حين تتملك صاحبها إلى فكرة من الأفكار. ومن المحقق أن المخزون لا يفكر في الحزن أولا حتى يحزن، ومن المحقق أيضا أن المخزون إذا تملكه الحزن لا ينتهي حزنه إلى فكرة من الأفكار، وإنما ينتهي به إلى البكاء، وقد ينتهي به إلى العويل.

وأنا أحب أن أترك زميلك الفاضل، فأنا لا أكتب إليه هو، وإنما أكتب إليك أنت. وأكبر ظني أننا الآن قد اتفقنا على تعريف الشعر؛ فهو عاطفة مصورة تصويرا فنيا جميلا في كلام موزون مقفى، وإذا قلنا مصورة تصويرا فنيا جميلا فقد ذكرنا الخيال القومي المبتكر. فنحن إذن لم نعد الحق حين قلنا إن الشعر لغة الحس والشعور والخيال. وهذه الملكات التي تنشأ مع الفرد والجماعة وتنضج وترتقي قبل أن ينضج العقل ويرتقي التفكير. ولم نعد الحق أيضا حين قلنا إن الشعر أول مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة الحس

ص: 36

والشعور والخيال، وأن النثر آخر مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة العقل ومظهر التفكير. ولم نعد الحق أيضا حين قلنا إن الشعر جهل وسذاجة لأنه يعتمد على الخيال الذي يمضي حيث يشاء ويصور الأشياء كما يشاء، لا كما تشاء الأشياء أو كما تشاء الطبيعة. وأنت مخطئ يا صديقي إن ظننت أني حين أصف الشعر بالجهل والسذاجة أغض من شأنه أو أحط من قدره. فوصف الشعر بالجهل والسذاجة مدح له وثناء عليه. لأن الشعر الذي يوصف بالعلم والعمق نظيم كله لا أثر فيه للشاعرية ولا للخيال. الشعر جهل وخير له أن يظل جهلا، لأنه يفقد فنيته كلما اترك الخيال المبتكر وجنح إلى الحقائق الواقعة. والشعر سذاجة وخير له أن يظل سذاجة؛ لأنه يفقد فنيته وجماله كلما ترك هذه السذاجة وجنح إلى التفكير والعمق. على أني أحب أن تطمئن ويطمئن الشعراء ويطمئن الذين يحبون الشعر ويشفقون عليه ويجدون شيئا من اللذة الفنية في قراءته وبتغنيه، فلن يستطيع هذا الحديث أن يميت الملكات الشعرية في نفوس الشعراء. ولن يستطيع هذا الحديث أن يقطع السبيل بين عشاق الشعر وبين قراءة الشعر واستظهاره، والتماس اللذة الفنية في قراءته واستظهاره. بل اذهب إلى ابعد من هذا فأزعم لهم أن الشعر إذا اضمحل في مصر في هذا العصر الذي ارتقت فيه الحياة العقلية ارتقاء كبيرا، فإنهم لن يفقدوا اللذة الفنية إذا التمسوها في النثر الفني. ففي هذا النثر يجدون حياة أدبية مشرقة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة الشعرية الجاهلة الساذجة.

وأراني قد أطلت عليك، وإن كنت لم أحدثك عن كل ما أريد أن أحدثك عنه فأنا مضطر الآن إلى أن أفرغ من هذا الحديث، وإلى وقت آخر.

كمال بسيوني

ص: 37

‌المقامة العرفانية

للأستاذ إبراهيم الابياري

مكن الله له ومكن به

أساغ لنا وردا تورد ماءه

مياسير قد أعطوا ورد المحرب

ويا بينونة ما بين الشارب ولشرب، ومن يسوي بالبشم السغب. وهل يحمد الري مثل ظماء، أو يشكر الشبع إلا على خواء.

وقديما نكر الناكر على جساس ألا يغيث كليبا بشربة، وفيل المفيل أن تمنع عامر الماء معبد بن زرارة، وأذموا عبسا على غدير فلهى حين ردت عنه ذبيان عطشى، وأثموا ابن زياد في صده ابن الزهراء عن الشريعة.

وهل عندك أن ثمود ضنت أن تعاض بماء لبنا، وأبت أن تشرك في بئر الناقة، وأن فتاة ابن قبيصة لم تذكر إلا ماءة صداء حين سئلت أن تقايس بين لقيط ومن بنى بها بعده، وأن العرب حين تمثلوا الماء جعلوا الزمام إليه فقالوا: الماء ملك آمر.

وأصيخ إليك تشعر منكرا:

فما ظمأ نشكو ولا الماء نفقد:

ثم تنثر مرقدا: وكيف يصدي في يمينه هذا النهر يجمع، أو مع العشرين وفي ظل الحاضرية تخوفنا ألأنميه، واين منا هذا الورد المحلأ، والحوض غير الموطأ.

ويحضرني قيك:

عدوت مرادي سبط هيمان فاقصد

لقد لغبت عشيرتك والماء تحت أرجلها، وحيل بينها وبينه وخريره في آذانها.

وتحجوني أومئ إلى عهد لم يأتك نبؤه في كتاب، فما في المنقول أن قلا مما أقول كان بله كثره

وفي واعيتك أنا ذرء الفيض والخصب، لا القحط والجدب، والوسيع لا يتضيق

وجازك أن شاهدي حاضر في زرافات لا تفتأ على الصدى، تعرفهم في اللسان المعقول، والعقل الخرف، واليد الخرقة.

وعلمك أن الظمأ ولا يدي. وتجري في إثر من وصفت لك فتحصى منهم فوق ما أحصيت فتهتال، وتسألني أي ظمأ هذا؟

ص: 38

هذا ظمأ القرن الموفى على العشرين لا ظمأ القرون الأولى. أعوزهم الماء فربطوا به حلهم وترحالهم، حربهم وسلمهم، ولو عبدوا غير الله لعبدوه وهو لا ينقع إلا غلة الأجواف

ويعوزنا للعلم ورد نروده

شكت ظمأ منه النفوس اللواغب

وكيف تقاس بغلة الأنفس غلة، أو كيف نحرص على أرماق للجهالة وذماء للضلالة؟ وما للأغمار تسأل الأعمار، وغيرك من لا يختار زيادة يوم على أثرة من علم.

ثم ألا ترى أني لم أعد الصواب حين حركتك بالماء، وأني لم أبعد حين جمعت بين ورد وورد

وأعدك بعد أني لم أجنح إلى التلميح، ولن تلقاني إلا على صريح.

إبراهيم الابياري

الرسالة:

المقامة رياضة أدبية، كما أن الأحجية رياضة عقلية، تلك تمتحن بها فهمك. والصبر في كلتا الحالتين هو المفتاح.

ص: 39

‌رسالة الشعر

من الموشحات

(ما لتلك المعالم انطمست)

للأستاذ أبي الوفاء محمود رمزي نظيم

أتراه يحنو على الصبِ

أهيف القدِ

أي وجد أثار في قلبي

آه يا وجدي

من لوعة وجراحْ

لو رآها لرق

أخذتني بالسحر صورته

فأنا المضنى

لا تقولوا كالغصن قامته

إن مشى غصنا

لا تقولوا كالبدر طلعته

وجهه أسنى

لا تقولوا كالسحر نظرته

نزهوا الحسنا

إن حسن الملاح

مبعت للأرق

وصف من أهواه لا أرضاه

أنا صب غيور

لم يزل حاضراً وعيني تراه

فهو فيها النور

غاية الوهم هجره وجفاه

لست بالمهجور

في فؤاد مثاله وسناه

بدد الديجور

فحياتي صباح

والظلام انمحق

كنت ميتاً والحب أحياني

ياله من حياه

هو نور أضاء وجداني

بشعاع سناه

وخلود للنفس روحاني

عند من تهواه

نحن نبقى والهيكل الفاني

في الثرى مثواه

قد قضى وارتاح

كالهشيم احترق

لا تظنوا دنياكمو شيا

إنها أوهام

حملتني همومها حيا

وعذاب السقام

ص: 40

وكوتني بنارها كيا

دائب الآلام

وطوتني سنيها طيا

يا لها أحلام

تخدع الأشباح

حلمها ما صدق

والثرى يهضم الجسوم فلا

يبقى منها شى

لجت كل من بها نزلا

يبتلى بالعى

لا تثر في مآلنا جدلا

لا يرح الحى

خل من لم يزل يجد أمل

غافلا في الحى

لا هيا بالراح

بين نفح العبق

أين أيامنا التي سلفت

في قديم العصور

ما لتلك المعالم انطمست

ولذاك النور

بالأرض بأهلها شقيت

حكمة المقدور

مالها في خصبها نكبت

خصبه المشهور

هل طوته الرياح

ثم جفت الورق

وطن قام فيه (رمسيس)

فأذل الأمم

أين (خوفو) وأين (احميس)

وبناة الهرم

ذهبت بالكرام (منفيس)

وأقام العدم

واستباح النفوس ابليس

فأباد الشمم

وقضى واستباح

وبغى وسرق

لم يعد من مجدنا باقي

فأزل كربى

واملأ الكأس أيها الساقى

وأرح قلبى

فخمور تذيب أشواقي

بلسم الحب

ساء عيشي ما بين أوراقي

ليس ذا ذنبى

فاملأ الأقداح

من ورود الشفق

أيها النائمون في الشرق

في ضلال الخمول

إن سيل الغرب لا يبقى

ويبيد الأصول

ص: 41

قد خدعتم بلمعة البرق

يا لها من عقول

رضيت بالصغار والرق

في حياة تزول

كلها أتراح

كالشراب اندفق

وافترقتم في أرضكم شيعا

سميت أحزاب

وكل قوم لحزبه تبعا

ثم صاح الغراب

وحدة ركنها قد انصدعا

فتح الأبواب

شكر الطامعون ما صنعا

وشربنا العذاب

يزهق الأرواح

ويزيد القلق

كل جهاد لنا يروح سدى

ونحن في استعباد

وكيف يلقى أخو الجهاد هدى

وقومه الحساد

لا تتبعوا غير قائد أبداً

لكل قوم هاد

كل افتراق بين الشعوب بدا

يمزق الأكباد

وتدوم الجراح

ويتم الغرق

(منيل الروضه)

محمود رمزي نظيم

ص: 42

‌في الربيع

للأديب محمد مفتاح الفيتوري

ربوتنا اعشوشبت

وكوخنا الممحل

وإبلنا أنتجت

وشاؤنا مطفل

والقمح في حقلنا. . .

قرطه السنبل

واختال في أرضنا

المحراث والمنجل

وكرمة المنحنى. . .

ناءت بما تحمل

وامتلأت بالندى

القناة والجدول

والورد في دربنا

عاطفه الصندل

وحام في جونا

البازى والأجدل

وعاد شحرورنا

الجميل والبلبل. . .

ونسمات المسا

تحكى وتسترسل

كأنها في الدجى

شاعرة تغزل

وجدت ريشها

الحمائم الهدل

ولاح وجه الربيع

حيث نستقبل

قد كان في فصله

ميعادنا الأول

حبيبتي استيقظي

فإنه مقبل. . .

لبى نداء الصبا

أيتها الراعيه

وكحلي مقلتيك

بالرؤى الصاحيه

وجردى عنك ذى

الغلالة القاسيه

واستقبلي ركبه

فتانة عاريه

فأنت عند الربيع

زهرة ساميه

والزهر يهوى الفضى

ويكره الآنيه

هيا بنا للمروج

والربى الحاليه

نهتز في خفة الـ

السخائل اللاهيه

ص: 43

ونهد أشواقنا

للسفح والرابيه

ونبن أحلامنا

بالرملة الصافيه

مدائننا. . . أو قصورا

. . . أو دمى زاهيه

أو نقطف الزهر كي

تلقفه الهاويه

أو نسرق الشهد من

خلية الجانيه

أو نختبئ من زوايا

المرج في زاويه

أو نجذب الشمس من

شعورها ألدانيه

أو نحبس الضوء في

سلالنا الواعيه

أو نضطجع في ظلال

الغيمة الساريه

أو نتأرجح على

ضفائر الداليه

أو نستحم بماء

البركة الساجيه

أو ننظم الشعر أوزانا

. . . بلى قافيه

استيقظي استيقظي

يا زهرتي الغافيه

وابتسمي للحياة

إنها فانيه. . .

وإنما الخالدو

ن نحن غانيه

أنت بفصل الربيع

زهرة ناميه. . .

وكلما استغرقت

أيقظها ثانيه. . .

وأنا في نايه

أنشودة ساريه

فلننس آلامنا

الكبيرة الداميه

وأمسيات الشتا

وريحه العاتيه

ولننس دنيا الورى

الضاحكة الزاريه

وحسبنا ذلك

الخلود يا غاليه

محمد مفتاح الفيتوري

ص: 44

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

رفاعة فرنسية جديدة

كان الفرنسيون قد قالوا: إن الأنباء التي نشرتها الصحف المصرية عن حوادث مراكش الأخيرة غير صحيحة، وإن حملة الصحافة المصرية على فرنسا معتسفة ومتعسفة، وراحوا يلقون علينا دروسا في أصول المهنة التي تتطلب تحري الحقائق واستقاءها من مصادرها، واقترحوا على نقابة الصحفيين المصريين أن تبعث وفدا منها إلى مراكش للوقوف على حقيقة الحال هناك. وكان هذا الاقتراح مدهشا. . . فليس مثل هذا التسامح معهودا من فرنسا في المغرب، إذ جرى عمالها هناك على منع أشعة المشرق من النفوذ إليه، حتى لا تقتل جراثيم الاستعمار. .

ومع ذلك فقد قابلت النقابة الاقتراح بالترحيب، إما بسلامة نية، وإما متابعة للكاذب إلى داره. . . وسافرت البعثة الصحفية المصرية إلى المغرب، وبلغت طنجة، فلما أرادت دخول مراكش تلبية لدعوة الفرنسيين منعها الفرنسيون! ألغى وزير فرنسا في طنجة إجازة (تأشيرة) وزير فرنسا في مصر. . . وهذا يذكرنا بالنادرة التي تروى عن عمدة بخيل يستقبل زواره بالترحيب ثم ينادي الخادم قائلا في صوت جهوري:(قهوة يا ولد) وهو يرفع يده مشيرا بإصبعه إشارة أفقية يفهم منها الخادم أن لا قهوة. . . فالوزير الفرنسي يوافق على دخول الصحفيين المصريين مراكش وكأنه يشير إلى زميله في طنجة أن لا دخول. . .

وليس منع الفرنسيين هذه البعثة وأمثالها غريبا، بل الغريب أن يسمحوا لها بدخول تلك البلاد المنكوبة بهم، ولا بد أن تسأل بعد ذلك: أين (الرقاعة) في ذلك التصرف ما دام طبيعيا لا غرابة فيه؟ الرقاعة - أو لا وكما قلت من قبل - فن يجيده الفرنسيون، والإبداع الفني أو (الإشراق الرقاعي) في هذا الموضوع، هو أن الفرنسيين هم الذين طلبوا سفر البعثة وهم الذين منعوها! وغيرهم يستطيع أن يطلب فقط أو يمنع فقط، أما عبقرية الرقاعة التي تجمع بين الأمرين فهي مقصودة على الفرنسيين.

(كوكتيل) باكستاني

ص: 45

قدم إلى مصر في الأسبوع الماضي وفد صحفي من الباكستان،

تلك الدولة الحبيبة التي يجمعنا بها الإسلام. وقد لقي الضيوف

الكرام ما يليق بهم من الحفاوة والتكريم، فإضافتهم الحكومة

المصرية، ورحبت بهم الشخصيات والجماعات المختلفة،

واهتمت الصحف بأنباء تنقلاتهم وما يقام لهم من حفلات، وقد

تتبعت ما نشر عنهم باهتمام وسرور، ولكن شيئا واحدا نغص

على هذا الشعور، إذ قرأت بأهرام الخميس (541951) في

سياق ما أعد لهم من برنامج في ذلك اليوم، ما يلي: (وفي

المساء يقيم لهم معظم على مندوب وكالة أسوشييندبرس

الباكستانية، حفلة كوكتيل في داره).

وقفت عند حفلة الكوكتيل هذه مندهشا! فهؤلاء الإخوان من الباكستان التي نتصورها أمة مسلمة محافظة على شعائر الإسلام، ونغتبط بهذا التصور الذي تكونه في أذهاننا قرائن ومظاهر مختلفة، منها ما تعلنه حكومة الباكستان من أن دستورها يقوم على تعاليم الإسلام، وما يبديه ممثلوها في الهيئات العالية من الدفاع عن الإسلام ومناصرة المسلمين، وما يترامى إلينا من تمسك الشعب الباكستاني بأهداب الدين، ولعل قراء الرسالة يذكرون ما كتبته منذ أسابيع بعنوان (هل نحن مثقفون بالثقافة الإسلامية) على لسان باكستاني كبير تحدث إلى مقارنا بين الروح الإسلامية في مصر وفي الباكستان.

لذلك دهشت إذ رأيت إخواننا من مسلمي الباكستان يتداعون

إلى شرب الخمر في برنامج ينشر على الناس. . . فتوقعت

ص: 46

بدافع ميل النفس إلى خير الاحتمالات - أن يكون في ذلك

الذي نشر خطأ أو لبس، وأن لا بد من استدراكه في اليوم

التالي، ولكن زادت دهشتي عندما قرأت في العدد التالي من

الأهرام (641951) ما يلي: (وفي المساء أقام لهم السيد معظم

على المراسل الخاص لوكالة الأسوشيتدبرس الباكستانية

بالقاهرة حفلة كوكتيل).

إذن فقد تحقق الأمر ووقع المحظور. وأنا حائر في هذا الموضوع. . . هل هو يستحق التدقيق للاعتبارات التي سلفت، وأن ذلك يستوجب توجيه العقاب إلى أولئك الإخوان، أو إلى سفارة الباكستان بالقاهرة التي ينبغي أن يتدخل نفوذها الأدبي في مثل ذلك؟ أو أنه يجب أن تكون (عصريين) فلا ندقق وندع الإخوان يصيبون شيئا من الحظ والمراح. . وخصوصا أننا في مصر (المسلمة أيضا) نفعل مثل ذلك وإن كنا نتحرج من إعلانه ونشره. . . عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا بليتم فاستتروا) ولكني لا أشك في أن إخواننا الباكستانيين يعرفون هذا الحديث كما نعرفه. وقد يقال إن الأهرام هي التي نشرت؛ ولكنها نشرت في يومين، وكان يمكن الاتصال بها وخاصة من جانب السفارة - لنشر عبارة (دبلوماسية) تغطي ما كشف. . . وكان يمكن أيضا أن ترى الأهرام من تلقاء نفسها أن نشر ذلك غير لائق، ويلاحظ أنها فقط التي نشرته!

حتى البرنامج الأوربي

تحدث إلي أستاذ إيطالي زار مصر أخيرا، وقد جاء ذكر الإذاعة المصرية، قال إنه استمع في فترات مختلفة إلى البرنامج الإيطالي من قسم الأوربي في الإذاعة المصرية، فلاحظ أن المادة التي تذاع أكثرها اسطوانات وتسجيلات موسيقية يمكن الاستماع غليها من محطة إيطالية، فليس فيما يذاع للجالية الإيطالية ويبلغ عددها في مصر 45 ألف نسمة - ما يكون صورة ثقافية لمصر الوطن الذي يقيمون فيه، فهنا كثير من المسائل المتعلقة بمصر، مثل

ص: 47

السودان، والمسألة العربية، والحركة الوطنية، والاتجاهات الإنشائية للحكومات المتعاقبة - كل هذه المسائل وأمثالها لا يعرف المثقف الإيطالي المقيم بمصر عنها شيئا. . .

هذا، ومصر تنفق آلاف الجنيهات للدعاية في الخارج أليست الدعاية لمصر بين جماهير الأجانب المقيمين في أولى؟ وخاصة إذا كانت لا تكلف كثيرا ولا تحتاج إلى جهد كبير؟

الأجانب واللغة العربية

وقد استطر ذلك الأستاذ في الحديث قائلا: لماذا لا تذاع دروس لتعليم اللغة العربية في البرنامج الأوربي بالإذاعة المصرية، كي يستطيع المواطن الأجنبي في خلال شهور التفاهم بها أو قراءة جريدة عربية؟

والواقع المؤلم أن مصر مقصرة أشد التقصير في تعليم لغتها للأجانب، فليس هذا التقصير خاصا بالإذاعة، فإن الأجنبي لا يجد في بلادنا معهدا يتعلم فيه اللغة العربية على نفقة الحكومة، على حين نرى الدول الأخرى تنشأ المعاهد التي تعلم الأجنبي لغتها لا في داخلها فقط، بل في البلاد الأخرى ولا تدخر وسعا في نشرها بمختلف الأقطار. وأن المصري الذي يسافر إلى لندن أو باريس مثلا لا يلبث أن يجيد الحديث بالإنجليزية أو الفرنسية، على حين نرى الأجنبي يستوطن مصر ويمضي فيها سنوات دون أن يلم بلغتها، فإن فعل لم يتجاوز العامية الجارية على ألسنة الشعب، فلا يعرف شيئا عن ثقافة البلاد وآدابها، بل هو لا يقرأ من الصحف والمجلات إلا ما يصدر باللغات الأجنبية.

مسرحية (المتحذلقات)

استأنفت فرقة المسرح المصري الحديث موسمها الثاني لهذا العام على مسرح الأوبرا الملكية يوم السبت الماضي، وقد بدأت بتمثيل مسرحيتي (المتحذلقات) و (مريض الوهم) وأقصر حديثي اليوم على المسرحية الأولى التي تعرضها الفرقة لأول مرة، أما الثانية فقد كتبت عنها من نحو شهرين عندما مثلتها الفرقة على مسرح حديقة الأزبكية.

تعرض المسرحية أربعة متحذلقين: اثنتين وأثنين، ويعديني جو هذه الرواية فيحملني على أن أصطنع شيئا من (الحذلقة النحوية) فأسأل: لماذا غلب جانب التأنيث على جانب التذكير في العنوان (متحذلقات) على خلاف القاعدة العربية المعروفة التي تحتم تغليب المذكر على

ص: 48

المؤنث في الجمع فيكون جمع مذكر إذا كان فيه ولو رجلا واحدا مهما كان عدد النساء. . .؟ ثم أجيب عن هذا السؤال بأن هناك اعتبارا آخر سوغ تغليب التأنيث، وهو أن المتحذلقتين هما الأصل والحذلقة فيهما لازمة، أما المتحذلقان فقد اصطنعا الحذلقة لتدبير مؤقت يظهر في متابعة المسرحية.

ولا تحسبن أنني قدمت هذا التحذلق النحوي عبثا. . . فهو يشبه موضوع المسرحية مع فارق واحد، هو أن هذا النوع النحوي خشن غليظ، أما الحذلقة التي شهدناها على المسرح ففيها تأنق وتظرف وتنعم وكل (تفعل) من هذه المعاني يرجع في أصله إلى التكلف، طلبا للشهرة واسترعاء الأنظار. . .

(كاتوس) و (مادولون) فتاتان نشأتا في الريف ثم قدمتا إلى باريس وقد امتلأ خيالهما بما يسمعان عما يجري في مدينة الحب من مغامرات وما يسود مجتمعاتها من رشاقة الحركات وحسن اختيار العبارات، فهما تعترضان على أبيهما (جورجيبوس) إذ يناديهما: كاتوس؛ مادلون. . . هذا وتطلبان أن يخاطبهما بإسمين من أسماء التدليل الناعمة بدلا من هذين الاسمين القديمين وتوبخان الخادمة لأنها تطلب الإذن لزائر بعبارات عامية وإنما يجب أن تستأذن في عبارة أدبية عالية، وكأن تقول: هل من المستطاب يا سيدتي في هذا الوقت أن تستقبلي المركيز. . . وعندما تريدان التزين تطلبان من الخادمة (مستشارة المحاسن!) وتحار الخادمة. . ولكنها يجب أن تتعلم أن مستشارة المحاسن هي المرآة. . .

ويتقدم لخطبة الفتاتين شابان طبيعيان: ليسا من أهل الحذلقة، فتقابلانهما بفتور وإعراض واحتقار. ويضيق بهما أبوهما (جورجيبوس) ويسألهما عن سبب إعراضهما عن الشابين، وهنا تلقى المتحذلقتان درسا ممتعا عن الحب والزواج، إذ يجب أن يبدأ الشاب بالغزل الرقيق وإنشاد الشعر العالي ثم يذهب بفتاته إلى الأركان الهادئة بالحدائق، ويتخلل ذلك تأوهات وتنهدات. . . وأخيرا يصارحها برغبته في الزواج، أما المصارحة بطلب اليد من أول الأمر - كما صنع الشابان - فلا تليق إلا بالصفقات التجارية التي لا تحسن بأهل الظرف والكياسة. . .

ويغتاظ الشابان من مسلك الفتاتين تجاههما، فيدبران أمرا. . . ثم يظهر على المسرح (المركيز ماسكريل) و (الفيكونت جودليه) في زيارة الفتاتين المتحذلقتين، يدخل (المركيز)

ص: 49

أولا غاية التأنق والتظرف و. . . التحذلق، ويعرض على الفتاتين بضاعته (الغالية) من الحذلقة (الرفيعة) ويوهمهما أنه بالتأوهات ذات المدلولات التي يفسرها لهما طبقا لأصول الحذلقة، فتعجبان به غاية الإعجاب؛ ثم يلحق به صديقه (الفيكونت) ويأخذ معه بنصيب من الحذلقة ومن إعجاب الفتاتين.

وحين تبلغ الحذلقة تمامها، تفاجأ الفتاتان بمنظر عجيب، إذ يدخل الخاطبان اللذان أعرضتا عنهما فينهالان ضربا على المركيز والفيكونت. . . ويتبين أن هذين خادما الشابين الخاطبين مثلا دوريهما للعبث بالمتحذلقتين، ليسخر الشابان بهما وينتقمان منهما.

المسرحية لموليير، وهي كسائر مسرحياته تقدم نماذج غريبة من الناس وتصورهم في سخرية، وتضحك من تصرفاتهم وما يلابسها من مفارقات. وقد أخرجها الأستاذ زكي طليمات، وأهم ما يستلفت النظر في الإخراج هو اتجاه كل شيء على المسرح نحو هدف المسرحية واستخدامه في تصوير جوها، من حركات الممثلين ونبرات إلقائهم وترتيب المناظر والإضاءة. . . الخ، غير أني ألاحظ أن شخصية الأستاذ زكي تنعكس على الممثلين فتفيد في أكثر الأمور إذ تضفي حيويته الفنية عليهم، ولكن ظلالا خفية جدا من هذه الشخصية تجعل الممثلين يتماثلون في طابع واحد، ويتجلى ذلك في أصواتهم عندما (يزومون).

أما الممثلون والممثلات فقد أجادوا جميعا، وكانت البطولة البارزة في هذه المسرحية لعبد الغني قمر (ماسكريل) فوفق في تمثيل الحذلقة توفيقا يستدعي الإعجاب، وقد جاراه في ذلك أحمد الجزيري (جودليه)، ومثلت سناء جميل إحدى المتحذلقتين (مادلون) وسناء فتاة قديرة على التعبير البليغ، وقد برعت في هذا الدور براعة تشبه ما أبدته في دورها الخالد بمسرحية مريض الوهم. ومثلت سميحة أيوب المتحذلقة الأخرى (كاتوس) فاستطاعت أن تجاري سناء في دورها، وقد لاحظت تقدمها و (لحلحتها) في هذه المسرحية وأيضا في مسرحية (مريض الوهم) أكثر من قبل.

عباس خضر

ص: 50

‌الكتب

زبدة الحلب من تاريخ حلب

ألفه كمال عمر بن أحمد بن العديم ونشره الدكتور سامي

الدهان

للأستاذ إبراهيم الابياري

أكاد أعرف التاريخ العربي في مظهرين عام وخاص، فهو إلى العموم حين يعرض للحياة يقول فيها لا يحد نفسه بمكان أو زمان ولا يخص بيئة دون بيئة، ولا يقف عند أناس دون أناس. بل هو سالك الأزمان كلها في سلك واحد يبدأ من حيث بدأ الله خلقه، ثم يجري في إثر من نسل أبو البشر يقص مالهم ويروي ما وعي عنهم حتى يدرك شهر زاد الصباح.

وما كان منه إلى الخصوص فهو ذلك الذي فرغ لسير الأفراد يجمعها ويلم نوادها ومتفرقاتها فتجتمع لك حياة الفرد من شبه إلى دبه ناطقة بما كان له وما كان عنه تغنى بها عن الرجوع إلى أماكن مختلفة من المظان. ومن هذا الخاص كتب في التاريخ عقدت لسير البلاد لا الأفراد تقدم علي ابن العديم فيها الخطيب البغدادي بكتابه تاريخ بغداد، وابن عساكر بكتابه تاريخ دمشق. والتاريخ في سير الأفراد أقرب إلى التوفيق منه في سير البلاد. فأتت تقرأ للمؤرخين في سيرة الفرد الحياة الخاصة والعامة، وفي كلتيهما ما يعوزك لترى رأيك وتحكم حكمك، ولكنك في سير البلاد واقف في أولها عند كلمة عن طبيعة البلد وما خصه الله به وما قيل به ثم منتقل إلى الحديث عن الناس الذين تربطهم بهذا البلد صلات. وقد يبدو في هذا شيء من الخصوص ولكنه ليس الخصوص كله كما هي الحال في سير الأفراد؛ فالفرد في الأولى هو الذي يدور حوله الحديث، والبلد في الثانية لا يختص من الحديث بغير نزول فلان إليه ونزوحه عنه، وتولى هذا للحكم وذاك للقضاء دون شيء يكشف لك في وضوح واتصال عن حياة هذا البلد في مظاهره مع الأيام وتداولها.

هذا شيء في الحق أعوز هؤلاء المؤرخين الذين عقدوا كتبا في سير البلدان، لم يخصوا البلد فيها إلا بالمقدمة ثم هم بعد ذلك قائلون في سير الأفراد الذين تربطهم بالبلد صلات

ص: 51

ظانين أن هذا كل ما يعني القارئ لسيرة البلد، أما عن خطوات البلد في الحياة وما أمسى عليه وما أصبح، وحياته العلمية والسياسية والاجتماعية من تلك الأمور التي بدأ يلتفت إليها المؤرخون المحدثون. فذلك شيء لم يخطر لهم ببال.

من أجل ذلك عددت كتب المؤرخين في سير البلاد ليست من الخاص إلا في عنوانها ومقدمتها وتلك الصلة التي جوزت سرد تلك الجمل من التراجم.

وابن العديم من الذين حاولوا أن يفردوا حلب بسيرة متأثرا في ذلك بمن ألف في سير البلدان قبله. فوضع كتابه البغية أو التاريخ الكبير على نهج من سبق، خص حلب بشيء قيل مثله في دمشق وبغداد، ثم أردف يجمع تراجم من لهم بحلب صلة.

ويلتفت ابن العديم فيرى أنه لم يوف سيرة حلب بما فعل وأنه لا بد للمؤرخ في سير البلدان من نهج غير هذا، يخص فيه البلد بحديث موصول الحلقات، فيقبل على كتاب البغية يحور فيه ويشكل ويخرج على الناس منه بهذا الكتاب الذي أسماه زبدة الحلب من تاريخ حلب.

وفي الحق لقد قارب ابن العديم أن يكون في هذا الكتاب كاتب سيرة حلب. فقد أرخ لها في ظل الملوك والقضاة وعرض لما واجهت من فتوح واستقبلت من غزاة وما عانت من حروب، كل ذلك خلال سرده لحيات الأفراد الذين حكموا وولوا. ولو أنه ألتفت قليلا إلى حلب نفسها فحدثنا عن مظاهر الحياة فيها في إفاضة وتوسع لو في غرضه وأكمل نهجه. ولكن الكتاب يعرفه كل مفيد أنه مع البقية تاريخ حلب الذي عليه معتمدهم ومنه إفادتهم.

هذه موجزة في التاريخ والمؤرخين، وأما عن النشر والناشرين فذلك شيء حبيب إلى نفسي الحديث عنه، فالصلة به قديمة ومشاركتي فيه متنوعة.

وإذا ذكرنا النشر فإنما نعني ذلك النهج القويم الذي طلع به علينا الغربيون على مختلف أممهم فكانوا فيه بحق أساتذة تلك المدرسة الذين بينوا السبيل وخطوا الخطة.

ثم كانت للشرق في أثرهم خطوات موفقة لكنها يعوزها الأناة والصبر؛ ثم بسطة من المال والشيء من التشجيع وعندي أن هذا العمل الخطير جدير أن يرعاه رجل خطير يدعم أركانه، فما أحوج الناشر إلى من يمكنه من المخطوطات المبعثرة هنا وهناك في جهة العالم المختلفة، وإلى من يرزقه على جهد سنين متصلة، وإلى من يجزيه جزاء فيه عوض وبه رضى.

ص: 52

وتكاد دور النشر لا تتهيأ لهذا؛ فالناس تجر راغبون في الغم والناشر غير راغب في أن يجوع ويعرى، وفي التوفيق بين الرغبتين ما يسيء إلى تلك الصناعة ويعوقها عن المضي قدماً في السبيل المستقيم.

وبيننا جلة من العلماء مهروا في النشر وحذقوه يعوزهم التمكين والتشجيع ليرزقوا الصبر والأناة، وعندنا دار للكتب في وسعها أن تمكن، كما عندنا دار لإحياء التراث في وسعها أن تشجع لو أوتي قانونها سعة توفر لها مالا تعوض به هؤلاء لعلماء؛ ثم بعد هذا نحن في حاجة إلى تنظيم تلك الأداة وتوجيهها في حاجة إلى أن نلتفت إلى ذلك الماضي بتراثه الذي لا يزال كثره مخطوطا لا ينتفع إلا بقلة، فنرى في نشره رأيا سليما مرسوما، في حاجة أن ننشئ مع العلماء ناشئة، فالقدر يختطف منهم ولا تجد من يخلفهم، في حاجة إلى هذا وغيره إذا كنا نؤمن أنا مفيدون من هذا التراث وأنا لا بد متولون نشره ومشاركون فيه.

ذكرت بالأمس القريب شيئا من هذا لكبير علينا فسبقني إلى ما أردت أن أنتهي إليه وقال في عاطفة الموطن الموقن: إن الآمال معقودة بأستاذ الجيل معالي الدكتور طه حسين باشا، فعلى يديه سيمكن الله للنشر وإليه تتجه كل نهضة علمية داعية راجية

وأعود إلى هذا الجهد المشكور الذي بذله الدكتور سامي الدهان في زبدة الحلب فإني أعرفه صبورا ذا أناة قد خص هذا العمل بالوقت الذي يتسع لمثله، وأعرف له زوراته المختلفة للمكتبات في البحث عن النسخ المختلفة المتنوعة، وأعرف له صلته القديمة بالنشر؛ ولا زلنا نذكر له أبا فراس، والوأواء، والسياسة تلك الكتب الثلاثة التي عرفتنا به ناشرا محققا.

وما اجتمعت الاشراط على مشروط إلا ضمن السلامة وأمن الزلل. وإنك حين تنظر في كتابه الجديد (الزبدة) تعجبك الدفتان وما بينهما. فله في الأول مقدمة الدارس المفيض الموفي، لم يترك مدونة لم يجمعها ولا شاردة لم يقبض عليها، فكان فيها مؤرخا كتب لنا سيرة ابن العديم جامعة شاملة. وله في الآخر إثبات تشير إلى الأعلام والبلدان والكتب، وأخير قبل فيه بين السنين الميلادية والهجرية. وله ما بين الأول والآخر متن وفق التوفيق كله في تحريره وتصويبه والتعليق عليه وإكمال نقصه من المظان التي هداته الخبرة الطويلة.

وما أحب أن أزيد فقد أعود إليه متحدثا عن أثر له آخر هو طبقات الحنابلة

ص: 53

رزقه الله جهد الصابرين وكتب له التوفيق في كل ما يأخذ فيه

إبراهيم الابياري

ص: 54

‌البريد الأدبي

طرابلس وليست ليبيا

في كلمة تحت هذا العنوان أورد الأستاذ مختار محمد هويسة قول أبي الطيب:

أكارم حسد الأرض السماء بهم

وقصرت كل مصر عن طرابلس

فيما أورده من أدلة على وجوب تسمية ليبيا باسم طرابلس

والمراد بطرابلس هنا: طرابلس الشام لا طرابلس الغرب - كما ظن الكاتب. والبيت من قصيدة للمتنبي يمدح بها عبيد الله خلكان وآباءه وقد كانوا من أهل المدينة الشامية، وهي الآن للبنان وإليها ينتهي فرع من أنابيب زيت البترول العراقي

محمد الفاتح الجندي

مدرس بأشمون الثانوية

مذهب جديد

قرأت في العدد (923) من الرسالة الزاهرة مقالا للأستاذ كمال بسيوني يدعو فيه إلى (مذهب جديد) تعرض فيه إلى الشعر والشعراء فكان ساخرا متهكما في أسلوبه، قاسيا عنيفا في أحكامه، زاعما أن الشعر والشعراء لم تعد بهما حاجة في عصر يزخر بالمعجزات العلمية والنظريات الفلسفية، وما الشعر على حد قوله إلا حديث خرافة وخيال، وما كلام الشعراء إلا ضرب من (اللهو واللغو) ليس ألا - بل ما هو إلا إسفاف ما دام شعرهم لا يتعرض للحقائق العلمية ويصوغها في قواف وأوزان.

لقد أنكر الأستاذ بسيوني وجود الشعراء وأنكر عليهم تفكيرهم ونعتهم بالجهل والسذاجة وأنهم يكفرون بالحياة العلمية والعقلية وليس هم من سكان هذا الكوكب - بل هم يعيشون في عالم خيالي غير منظور وأنهم بعيدون عن الحياة الواقعية التي يحياها العلماء. إذن فالحياة كما يريدها الأستاذ بسيوني حياة علمية صرف لا تعترف بالفن والحب والجمال. ما قيمة الحياة يا أستاذ بسيوني إذا خلت من هذه الألوان؟ أني (أشفق) عليك يا أستاذ بسيوني (وأشفق) على (مذهبك الجديد)(ودعوتك الجريئة) التي لم يسبقك بها أحد حتى من العلماء الذين دافعت عنهم

ص: 55

العراق - الهندية

قاسم غازي الجنابي

بين الشعر والنثر

قرأت في العدد 923 من مجلة (الرسالة) الغراء المقال القيم الذي موضوعه (من حديث الشعر) للأستاذ كمال بسيوني، والحقيقة أن الأستاذ البسيوني قد أصاب كبد الحقيقة حين قال (الا فليعلم الناس أني ما سمعت أن فلانا شاعرا حتى فهمت أنه لم يزل في الطور الأول من أطوار الأدب وأنه أبعد ما يكون عن هذه الثقافة الواسعة العميقة الخ. . .) والشواهد على ذلك كثيرة؛ فالشاعر العراقي معروف الرصافي لم يكن يملك في حياته مكتبة تظم شتات الكتب، ولذلك جاءت مؤلفاته النثرية خاوية الوفاض من كل مادة دون أن تستند إلى دليل، ولذا كانت موضع سخط الطبقات المثقفة المستنيرة. وقد أنتقدها كتاب مصر الأفاضل على صفحات الرسالة الزاهرة مبينين خطل رأيه وسوء تفكيره، بخلاف شعره الذي لم ينتقد لعدم احتياجه إلى ثقافة واسعة. ومعالي الدكتور طه حسين باشا بدأ حياته شاعرا وبعد أن ارتشف مناهل الأدب الغزير، وسبر غور العلم الكثير، انصرف عن الشعر إلى النثر الفني الذي جعل منه عالم فاضلا وأديبا عبقريا يحلق في سماء الخلود. والأستاذ عباس محمود العقاد قرض الشعر قبل أن يتمتع بهذه الشهرة الواسعة التي أسبغت عليه ثوب العالم بمؤلفاته التي أصدرها في السنين الأخيرة. إذا فليزدهر العلم وليكثر الكتاب والعلماء وليلفظ الشعر أنفاسه غير مأسوف عليه.

بغداد

عبد الخالق عبد الرحمن

أحبب حبيبك هونا ما. .

جاء في باب الأدب والفن من عدد الرسالة الفائت تحت عنوان (الشعر في مجلة المصور) أن سعادة عبد الرحمن حقي باشا وكيل وزارة الخارجية قال في مجلة المصور.

وإذا سئلت الآن أن ألخص تجاربي في عبارة قصيرة جامعة لا أجد خيرا من البيتين اللذين

ص: 56

علقا بذاكرتي من أيام الصغر وهما:

أحبب حبيبك هونا ما

عسى أن يكون بغيضك يوما ما

وابغض بغيضك يوما ما

عسى أن يكون حبيبك يوما ما

وعلق الأديب المتمكن الأستاذ عباس خضر بما نفى الشعر عن هذا النثر - وأود أن أزيد على تعليق الأديب الفاضل بأن هذا الكلام الذي أعتبره الباشا شعرا إن هو إلا حديث شريف رواه الترمذي عن أبي هريرة كما جاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي الجزء الثاني، في كتاب (آداب الألفة والأخوة والصحبة. .) وللأديب الفاضل تقديري وتحياتي

محمد عبد لله السماق

مدرس بمدرسة أمير الصعيد الابتدائية بالمنيرة

منوط به لا مناط به

في مقال الكاتب القدير الأستاذ عباس خضر بالعدد (926) من مجلة الرسالة الزهراء وردت عبارة: (وها قد صار الأمل كله مناطا بالحكيم، بمعنى معلق. . وكلمة مناط لم تصح في اللغة العربية بالمعنى الذي يقصد إليه ولكنها هكذا (منوط به) لأنها اسم مفعول من الفعل الثلاثي (ناط) لا أناط، وقد قرأت في المصباح المنير ما نصه:(ناطه نوطا من باب قال - علقه -) وفي القاموس المحيط: (وهذا منوط به - معلق). . . وللأستاذ الكبير وافر الإعجاب، وعظيم التقدير

محمد محمد الابشبهى

ص: 57

‌القصص

مكتب البريد

للقصص الروسي تشيكوف

بقلم الأستاذ حسين أحمد أمين

ذهبنا بالأمس نشيع جنازة زوجة وكيل مكتب البريد، سلادكوبرزوف؛ وبعد أن دفنا المتوفاة قصدنا جميعا - كما هي عادة آبائنا وأجدادنا من قبل - إلى مكتب البريد، نتذاكر محاسن السيدة

وعندما وضعت الفطيرة أمامنا على المائدة صاح وكيل المكتب العجوز بمرارة: ألا ترون كيف يشبه هذا اللون الأحمر للفطيرة خدي زوجتي الحبيبة؟

وأمنت الجماعة على قوله: (أجل. . هذا حق. . لقد كانت جميلة فاتنة!) قال: (نعم لقد ذهل كل من رآها لجمالها. . ولكن، أيها السادة، لا تحسبوا أنني أحببتها لجمالها أو لرقة شمائلها؛ فهذه الصفات تعلق دائما بطبيعة المرأة؛ وكثيرا ما نجدها واضحة في أكثر النساء. . إنني أحببتها لصفة أخرى فيها. . أحببتها - رحمها الله - لأنها على رغم حيويتها ومرحها وعبثها - ظلت مخلصة لي. . مخلصة لي وأنا في الستين وكانت هي في العشرين.

وتنحنح الحانوتي - وهو جالس إلى الطعام معنا - حين سمع هذا القول. . فاستدار إليه وكيل المكتب العجوز وقال: (أخالك لا تصدق ما أقول. .) فأجاب الحانوتي في اضطراب وتلعثم: معاذ الله يا سيدي أن أكذب قولك. . غير أن النساء الصغيرات كما تعلمون - قد أصبحن ولاهم لهن إلا اجتذاب العاشقين إليهن)

قال الأرمل: إنك لا تصدق. . ولكني سأثبت لك صحة قولي. . لقد ضمنت وفاءها لي بطرق استراتيجية مختلفة. . فبسلوكي وحيري أصبحت زوجتي غير قادرة على خيانتي. . والحيلة هي الوسيلة التي اتبعتها لكي أصون فراش الزوجية من الدنس.

ففي جعبتي بضع كلمات إذا تفوهت بها كان لي أن أنام هانئا مطمئنا إلى أن زوجتي لا تخونني. .)

(وما هي هذه الكلمات؟)

ص: 58

في منتهى البساطة. . لقد نشرت بنفسي إشاعة خبيثة في لبلد - وأنا موقن أنكم تعلمونها - فكنت كلما قابلت مخلوقا قلت له: (إن زوجتي أليونا عشيقة إفان ألكسيفيتش رئيس البوليس.! وكانت هذه الكلمات كافية لأن تبعد الرجال أجمعين عن مغازلة أليونا خوفا من غضب رئيس البوليس. . وكلما كان يلمحها رجل في الطريق كان يجري خوفا على حياته كي لا يشك فيه الكسيفيتش. . ها. . ها. . ها. . وأنتم تعرفون ما يحدث لمن يشك فيه الكسيفيتش. إنه إذا ما رأى قطة لكم في الطريق كتب عنها تقريرا للسلطات وكأنما هي قطيع ضال من الغنم. .)

قلنا جميعا في صوت منخفض وقد ملكنا العجب. (إذن فزوجتك لم تكن عشيقة إيفان ألكسيفيتش؟.)

(كلا. . لقد كان هذا من وحي خيالي. . ها. . ها. . ها. . لقد سخرت منكم أيها الشبان.)

ومضت ثلاث دقائق ونحن في صمت، وشعرنا جميعا بالخدعة المهينة التي وقعنا فيها بمهارة ذلك الرجل العجوز الأحمر الأنف.

وتمتم الحانوتي قائلا: أرجو من الله أن يتزوج هذا الرجل مرة أخرى. .)

حسين أحمد أمين

ص: 59