المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 929 - بتاريخ: 23 - 04 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٢٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 929

- بتاريخ: 23 - 04 - 1951

ص: -1

‌11 - الدين والسلوك الإنساني

للأستاذ عمر حليق

4 -

الجماعة الدينية:

الوجه الثاني لوظيفة الدين المزدوجة أنها وظيفة سلبية. فإذا كان الدستور المدون للجماعة الدينية يسهل تكافلها ويسعى لتحقيقه ويذود عن حماه إزاء المتشكك والثائر فإن طبيعة هذا التكافل في الجماعة الدينية تفصلها روحيا واجتماعيا عن الجماعات الأخرى التي تعيش في المجتمع الأكبر (الوطن أو العالم بأسره).

فلقد رأينا في مقال سابق من هذا البحث أن السلوك الديني ليس فرديا فحسب، بل هو جماعي كما شرح ذلك علماء الاجتماع والأنثرولوجيا. وحتى لو اقتصر السلوك الديني على الفرد واختياره الخاص فإن ذلك لن يحول بينه وبين أن يصبح جزءا من السلوك العام الذي يشوب حياة الجماعة الدينية التي تؤمن بنفس العقيدة التي يؤمن بها ذلك الفرد وتختبر نفس الاختبار الديني الذي يختبره. بل الواقع أن هذا الاندماج أمر لا مفر منه مهما تعمد الفرد تفاديه.

فعناصر السلوك الديني على نوعين - كما رأينا - روحية واجتماعية. . حتى لو أنكر بعض الناس وظيفة الدين الاجتماعية وقصروها على الاختبار الروحاني (علاقة المرء بربه) فإن المشاركة في الاختبار الروحاني والوجداني تستوجب الاندماج في السلوك الجماعي.

فإذا أعجب أديبان أو أكثر بشاعر أو فنان أو فيلسوف وقرءوا له وحفظوا عنه فإنهم يؤلفون مدرسة فكرية تجمع بينهم في صعيد روحي واحد، وهم ولا ريب مدافعون عن هذه المدرسة الفكرية، مبشرون بمزاياها إذا حدث أن تصدى لها بعض الناس بالنقد والتعريض.

والاختبار الديني أقوى ألف مرة من الإعجاب بشعر أو فن أو فلسفة. ولعلنا نلمس هذه الحقيقة في تصدي بعض المسلمين الذين - لأسباب لا يهمنا معرفتها هنا - لا يقيمون شعائر دينهم للدفاع عن الإسلام إذا تصدى له ناقد أو متحامل.

وكم من مرة شهدت جامعات أمريكا وبريطانيا ومحافلها الأدبية محاولة الطلبة وغير الطلبة من المسلمين دفاعا عن الإسلام وتعاليمه مع أن المدافعين في أكثر الحالات لم يؤدوا لله

ص: 1

ركعة منذ سنين.

وتاريخ الاستعمار الأوربي في آسيا وأفريقيا شاهد على تفضيل المستعمر للعناصر التي تدين بعقيدته الدينية أو تمت إليها بصلة في مسائل التوظيف والمشورة والائتمان على السر، وقد لا يكون الدافع لهذا السلوك سياسة مرسومة بقدر ما هو توافق في الاختبار الروحي وحدة في السلوك الجماعي بين الطرفين.

واقتصار السلوك الديني على الفرد وعلاقته بالله شيء لن يتم منعزلا عن الحياة الاجتماعية. فالحياة الوجدانية لا مفر لها من أن تعبر عن نفسها في المجتمع الذي تعيش فيه.

والمرء في اختباره للحياة الدينية منفردا قد يصمت صمتا طويلا قبل أن يعبر عنها في الحياة الاجتماعية ويشارك أهل ملته في سلوكهم الديني الجماعي. ولكن لا مفر له عاجلا أو آجلا من المشاركة في هذا السلوك.

فطبيعة الاختبار الديني عند الفرد يستوجب صياغة مقوماته الخلقية والعاطفية صياغة تماشي وتتحد وتتفق مع المقومات الخلقية التي تشوب بقية أعضاء الجماعة الدينية التي تختبر مثل ما يختبر. وهذه الصياغة لا تقتصر على توجيه الفكر والوجدان فحسب، بل تشمل أيضاً الحياة العملية والنشاط الاجتماعي.

ولقد عالج هيجل أحد دعائم الفكر الغربي الحديث هذه الناحية الدينية في مقدرة فائقة فتأثر بأن لكل عقيدة دينية (روحاً) تنفرد بها عن بقية العقائد، ومرجع ذلك إلى أن السلوك الديني هو عنصر من أهم مقومات الخلق القومي. ولعل رسوخ الإسلام وتعاليمه في عقليات الشعوب التي دانت به وأثر هذه التعاليم ومبلغ نفاذها إلى صميم الحياة الروحية والاجتماعية لتلك الشعوب على اختلاف حكوماتها الخلقية من عربية وفارسية وهندية وصينية هو الذي خلق هذه الحضارة الإسلامية التي تعرف إلى الآن بها شعوب الإسلام على اختلاف لغاتها وبيانها وظروفها وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

والقول بأن الاختبار الديني يمكن أن ينحصر في السلوك الفردي تنفيه حقيقة أخرى؛ وهي أن كل دين من الأديان الكبرى يبشر بوحدة اجتماعية عالمية تنطوي على توجيه السلوك الإنساني في شتى نواحيه توجيها يتفق والأسس الجوهرية لتعاليم ذلك الدين. وهذه الوحدة

ص: 2

الاجتماعية العالمية التي يدعو إليها الدين نصا وروحا وإن كانت لا تتحدى تحديا مباشر الإيديولوجيات الاجتماعية الأخرى التي تدعو لها الأديان الأخرى، إلا أنها تقف منها موقفا أقل ما فيه أنه سلبي من النوع المشحون بعوامل الانفجار كما قال جورج ميد المفكر الأمريكي الشهير والتاريخ على الأخص - تاريخ الحروب الدينية - ملئ بالشواهد على هذا الصراع السلبي الذي يؤدي فيه الدين دورا خطيرا عند الضرورة.

ومهما أحسن المجتهدون في تعليل سماحة الأديان التي ينتمون إليها فإن اجتهادهم يكاد ينحصر فيما عبر عنه (ماكس ديبر) تعبيرا جامعا حين قال: -

(إن اختبار الجماعات الدينية ينظر إلى العالم بمنظارين، وأحدهما يرى فيه الألوهية والقداسة، والآخر يرى فيه الأشياء وطبائعها المادية، ولو توفرت (التقوى) وحدة الاختبار الديني عند جماعة ما ونظرت إلى العالم - على تنوع أديانه وتشعب جماعاته الدينية - نظرة ملؤها التفاؤل والبشر والسماحة والرضا، إلا فإن مثل هذا التسامح في رأي الوعي الباطن على الأقل لدى تلك الجماعة محصور ومقيد ومقصور عليها (على تلك الجماعة) وعلى العقيدة والسلوك الديني الذي تمتثل له.

وهذا التسامح السلبي قد يتخذ في بعض الأديان لونا رقيقا ويأسف لضلال الكافرين ويطلب المغفرة لهم. وقد يتخذ لونا عنيفا فلا يرى في ذلك الضلال إلا كفرا وزندقة رسولها الشيطان ودستورها الإلحاد ودعوتها الفساد.

وفي كلتا الحالتين فإن العالم ميدان لهذا الصراع. وسواء كان الصراع لرد الكافرين عن ضلالهم أو للحيلولة بين الضلال وبين أن يمس كيان الجماعة الدينية (المؤمنة) فإنه صراع على كل حال، ومهما كان سلبيا فإن الاحتكاك منطو في ثناياه.

وعلى سبيل المثال - ومع مراعاة التفرقة الجوهرية بين العقائد الدينية والنظم الفكرية - فإننا نستطيع أن نستشهد بحاضر الصراع بين المذاهب الفكرية والمعاصرة بين الاشتراكية السوفييتية والديمقراطية الغربية.

فالاشتراكية - وهي بمثابة العقيدة الدينية لأتباعها - لا ترى في خصومها من دول أوربا وأمريكا إلا ضلالاً وشراً. وهذه الدول بدورها ترى في الاشتراكية الماركسية تحديا للأسس المسيحية التي بنيت عليها حضارة ديمقراطيات الغرب فوق أنه تحد للنظم الاقتصادية

ص: 3

والسياسية التي تعيش في تلك الديمقراطيات. ولطالما ادعى أقطاب كلتا الكتلتين السوفييتية والغربية أن في العالم متسعا لكلتيهما، وقد يكون في مثل هذا الدعاء صدق وإخلاص إلا أن طبيعة الصراع السلبي بينهما تدفعهما دفعا إلى الاحتكاك المسلح على النحو الذي نعلمه جميعاً.

وقوة هذا الصراع السلبي بين الجماعات الدينية المتباينة عقائدها وضعفه يتوقفان إلى حد كبير على مبلغ ما تعلمه بعض تلك الجماعات عن عقائد بعض. والمرء كما قال الحكماء عدو لما يجهل.

فالإسلام وأهله مثلا يفخرون بأنه دين التسامح؟ وفي القرآن والأحاديث نصوص بينة على تأمل هذا التسامح في التعاليم الإسلامية، ولكن الميزة الكبرى في الإسلام أنه يشرح في صميم القرآن والحديث والاجتهاد بعض الأسس الجوهرية لليهودية والمسيحية ويعترف ببعض مزاياها وفي طليعتها مزية التوحيد. ويعترف الإسلام كذلك بأنه جاء متمماً لا ناسخا لتعاليم إبراهيم وموسى وعيسى. والمسلم يقرأ الصلاة والسلام على الأنبياء والرسل الذين سبقوا النبي العربي ويخيل إليك وأنت تقرأ ما جاء به القرآن والحديث في هذا الصدد وما سجله المجتهدون المسلمون من بحوث في الإسرائيليات (والنصرانيات) أن هناك رنة أسف يستشعر بها الإسلام نحو الموحدين بالله الذين ضلوا تعاليم موسى وعيسى واستعاضوا عنها بأمور لا يعترف الإسلام بأنها من أصول تلك التعاليم. فهذا الرفق الذي عالج به الإسلام الديانات الأخرى هو من أهم الدوافع لهذا التسامح.

والحديث عن هذا الصراع السلبي بين العقائد الدينية يستدعي الإشارة إلى موقف تلك التعاليم من الحروب. ولقد أساء البعض إلى العقيدة الإسلامية بأنها ترضى عن الحرب وتشترع الجهاد. وقد رد المحدثون من علماء الإسلام العرب على هذا الادعاء ردا معززا بالدساتير القرآنية والأدلة التاريخية، وعالج هذا الموضوع كذلك بعض أئمة المسلمين في الهند والباكستان والعالم العربي معالجة علمية متينة.

ولكن الذي يعنينا من هذه الإشارة أن تشريع الجهاد في الإسلام مقيد بظروف وملابسات لا تختلف مطلقا عن تلك التي شرعتها اليهودية والمسيحية نصا وروحا، وذلك باعتراف التعاليم المسيحية نفسها وعلى ضوء اجتهاد بعض قادة الفكر المسيحي معاصرة وقديمة.

ص: 4

وليس المهم أن نبرر تشريع الجهاد في الأديان فذلك التبرير يجب ألا يكون على أساس فلسفة الدين فحسب، بل على أسس من علم النفس الاجتماعي. وتشريع الجهاد ينطبق وروح الجماعات الدينية ويجري مع سلوكها الجماعي ومع طبيعة العوامل النفسانية (السيكولوجية) التي تصوغ تفكيرها واتجاهاتها وأوضاعها الدنيوية.

والجهاد لا يجد سبيله إلى سلوك الجماعة الدينية إلا إذا تعرضت عقيدتها الدينية إلى الخطر الداهم أو إذا تعرض كيانها الاجتماعي (وهو يشمل المصلحة السياسية والقومية والاقتصادية) إلى الاضطهاد والمذلة. وهذا مثل آخر على تأصل الوظيفة الاجتماعية للدين في السلوك الإنساني.

فمسلمو شمالي أفريقيا والمغرب العربي في هذه الأيام في حالة جهاد وإن عجزوا عن حمل السلاح لأسباب قاهرة. فالخطر هناك لا يقتصر على تعريض الكيان الاجتماعي لمسلمي الجزائر ومراكش وتونس إلى خطر الانهيار والزوال، وإنما يمس صميم التعاليم الدينية وجوهر العقيدة المحمدية.

ولقد أدرك الفرنسيون الوظيفة الاجتماعية للدين الإسلامي في سعيهم لفرنسة مسلمي شمالي أفريقيا فلم يتقيدوا بأساليب الاستعمار التقليدية التي توجه كفاحها الأكبر ضد الوعي السياسي والنضوج الاقتصادي، وإنما عملوا على النيل من صميم العقيدة والتعاليم الدينية للمسلمين هناك لعلمهم بأن الإسلام وهو دين عملي لا بد وأن يوفر لحركة التحرر الوطني ذخيرة قوية تحارب بها ذلك الاستعمار. وغزوة الصهيونيين لفلسطين لم تتم لو لم تشترع القيادة الصهيونية العليا (الجهاد) في أدق وأوسع معانيه.

وليس المقام هنا لبحث علاقة الدين بالقوميات والإصلاح السياسي - فكاتب هذه السطور يأمل أن يستطيع التفرغ لدراسته عما قريب - وإنما ضربنا المثل به هنا للدلالة على أن العقائد الدينية في تشريعها للجهاد والحرب إنما تفعل ذلك دفاعا عن كيانها الديني ووظيفته الاجتماعية. وهي والحالة هذه لا تحتاج إلى تبرير أو اعتذار وشأنها في ذلك شأن أي جماعة من الجماعات الإنسانية الأخرى - السياسية والاقتصادية والإيديولوجية أيضاً - لتي تعلن الجهاد في أنواعه المتعددة مسلحا وغير مسلح دفاعا عن مصالحها ومبادئها وكيانها.

ص: 5

فالحرب من طبائع الحياة سواء أرضينا بها أم كرهنا، ومهما سعينا إلى إزالتها ومعالجة أسبابها ونتائجها، إلا أن ذلك لا يحول بيننا وبين إيضاح علاقة الدين بها على أسس لا تستند إلى التزوير بقدر ما تستند إلى طبيعة الحقائق الاجتماعية.

وخلاصة القول في هذه الوظيفة السلبية للجماعة الدينية أنها تؤثر - خيرا أو شراً - في التكافل الاجتماعي (العالمي) وذلك يتوقف إلى حد كبير على مبلغ ما تستوعبه تلك الجماعة من معرفة منزهة عن الأهواء لتعاليم الديانات الأخرى وبمقدار ما يتضمنه دستورها الديني من أسانيد فيها دعوة صادقة إلى التسامح كما هو الحال في عقيدة الإسلام وتعاليمه.

وبعد فهذه الفصول كانت معالجة مشوشة لبعض وظائف الدين الاجتماعية. ويأمل كاتب هذه السطور أن يستعرض في مناسبات قادمة إن شاء الله ألوانا أخرى من علاقة الدين بالحياة اليومية في أسلوب أدق ترتيبا وأوسع استيعاباً.

نيويورك

(تم البحث)

عمر حليق

ص: 6

‌إسرائيل

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

دولة (لقيطة) ولدت وكان مولدها ثمرة لأكبر جريمة اقترفها الساسة المعاصرون في التاريخ: قديمه وحديثه؛ وإني أعتبرها بحق جريمة القرن العشرين.

ووليد يحتضر وهو يحبو. ولولا مسارعة الدول الديمقراطية لإنقاذه لمات قبل أن يولد، ولكن الدول أرادت له الحياة فكلما دنت ساعته سارعت إلى نجدته فأنقذته من خطر محقق وموت مؤكد.

وأفعى ألقى بها بين أحضان الدول العربية لكي تقلق بالها وتهدد سلامتها وأمنها.

وكارثة نزلت بقوم آمنين يقيمون في بلادهم وادعين، فأخرجوا من ديارهم بغير حق، وجردوا من أملاكهم وشتت شمل نسائهم وأطفالهم، وألقي بهم في البيد والعراء جياعا عراة فأصبحوا لا مأوى لهم ولا ملجأ!! وهكذا تمت الجريمة وقامت الدولة.

ولعلك أيها الصديق الكريم تسألني أكان قيام إسرائيل أمرا طارئا أم كانت مسألة مدبرة؟ وأنا أجيبك بأن السياسة البريطانية لا تعرف المفاجآت وإنما هي سياسة تقليدية تسير وفق خطة موضوعة لا تتغير مهما كان لون الوزراء؛ فوزراء خارجية بريطانيا قد يكونون من المحافظين وربما كانوا من العمال وقد تتغير أشخاصهم ولكن السياسة البريطانية هي السياسة البريطانية لا تتغير ولا تتبدل. وإسرائيل هذه إنما هي ثمرة من ثمرات السياسة البريطانية، وعمل أثيم من تدبير إنجلترا ووزرائها.

وعد

في خلال الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 قام اليهود بخدمات كبيرة لقضية الحلفاء كما زعمت إنجلترا، ونتيجة لهذه الخدمات وعد اللورد بلفور وزير خارجية إنجلترا اليهود بأن يتيح لهم أن ينشئوا وطنا قوميا في فلسطين وكان ذلك في 2 نوفمبر سنة 1917.

ولسنا ندري كيف أباح بلفور لنفسه أن يصرح هذا التصريح وأن يعد اليهود بفلسطين، ولعله لو وعد اليهود بإقطاعهم جزءا من قارة أستراليا مثلا لكان موضع ثناء الناس جميعا، فهناك في أستراليا جهات واسعة غير مأهولة بالسكان، بل إن جميع سكان القارة يبلغ تعدادهم 7 ملايين نسمة، وهي بهذا في حاجة إلى أيد كثيرة لتنهض بها ولتعمل على

ص: 7

استغلال مرافقها؛ ولكنه بدلا من ذلك يعد اليهود بالعودة إلى وطنهم في فلسطين؛ ذلك الوطن الذي طردوا منه منذ آلاف السنين قبل أن يولد المسيح ومحمد صلوات الله عليهما؛ وليتحقق ذلك ولو كان على حساب قوم أبرياء قد استوطنوا هذه الديار منذ آلاف السنين.

وأعجب ما في الأمر أن فلسطين كانت حتى قيام الحرب العالمية الأولى تابعة لتركيا، فلما قامت الحرب وانضمت تركيا إلى جانب الألمان عمدت إنجلترا إلى إثارة العرب ضد تركيا ووعدتهم بتحقيق استقلالهم عقب انتهاء الحرب. وقد شرب العرب من ماء النهر السام دخلت عليهم ألاعيب السياسة البريطانية فعمدوا إلى محاربة الأتراك وتحطمت الإمبراطورية العثمانية وتقاسمت فرنسا وإنجلترا ممتلكاتها، فوضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ووضعت العراق وشرق الأردن وفلسطين تحت الانتداب الإنجليزي؛ وأما مصر فكانت الحماية البريطانية قد أعلنت عليها منذ 1914.

ومما يدعو إلى مزيد من الدهشة أن يصدر بلفور وعده حين آذنت شمس الحرب بالنهاية، وقبل أن يعقد مؤتمر للصلح ليضع الأمور في نصابها، وقبل أن يتقرر أن تكون فلسطين تحت الانتداب البريطاني!!

ومن الطريف أن أذكر ما يذاع من أن اللورد أللنبي قال حين دخل بيت المقدس 1917 (اليوم انتهت الحروب الصليبية) وأما أنا فأرى أن دخول الغربيين بيت المقدس مرة أخرى كان إيذانا ببدء حرب صليبية جديدة!!

مؤامرة

لما عقدت معاهدة الصلح المعروفة بمعاهدة سيفر 1920 وانتدبت بريطانيا لتقوم بالأمر في فلسطين كان المفروض أن تعمل الدولة المنتدبة على تحسين حال الإقليم الذي انتدبت لإدارته حتى يصبح أهلا لتولي إدارته بنفسه، وقد قامت بريطانيا بمهمتها ولكن على طريقة يندى لها جبين الإنسانية وبشكل سوف يكون مثالا للنفاق البشري وللاثم والعدوان، فبدلا من أن تعمل على إصلاح حال عرب فلسطين عملت على إحلال اليهود في بلادهم ويسرت لهم الاستيطان بفلسطين وسمحت لهم بالهجرة إليها وبشراء الأراضي فيها، وأمدتهم بالأموال والآلات اللازمة، وظاهرها اليهود في سائر أنحاء العالم، وقد ثار العرب على بريطانيا واستفحلت ثورتهم في الفترة من 1936 - 1939 وهنا وجدت إنجلترا نفسها أمام

ص: 8

الحرب العالمية الثانية فاضطرت أن تعمل على إرضاء العرب، ومرة أخرى خدع العرب ووثقوا في بريطانيا ووعودها وأخلدوا إلى الهدوء والسكينة؛ وأما الصهيونيون فقد ضايقهم بطئ إنجلترا في تحقيق أمانيهم فلجئوا إلى الغدر والاغتيال واعتدوا على الموظفين الإنجليز في فلسطين، بل إنهم قتلوا وزيرا بريطانيا هو اللورد موين في القاهرة!!

مملكة

وأنتهت الحرب وبدأت إنجلترا تقلب للعرب ظهر المجن وتكشر عن أنياب الغدر فرتبت أمورها وأعدت عدتها وعقدت معاهدة مع شرق الأردن 1946 وبمقتضاها أصبح الأمير عبد الله ملكا لشرق الأردن، وقد اشترط في المعاهدة أن تسمح شرق الأردن لبريطانيا بوضع جنود بريطانيين في أراضيها على قدر ما ترغب بريطانيا أو تراه ضروريا، ومن عجب أن شرق الأردن هذه مملكة لا سواحل لها. ولست أدري كيف تستطيع القوات البريطانية الوصول إلى شرق الأردن ما دامت بريطانيا قد أعلنت أنها ستترك فلسطين؟؟ لكن بريطانيا دبرت وقدرت فهي ستخرج من فلسطين لتعود إليها من جديد وفي شكل جديد، ولن يكون ذلك إلا بقيام إسرائيل.

بعد عمل الترتيبات السابقة أعلنت بريطانيا أنها قد يئست من إصلاح الأمر في فلسطين، وأنها تعلن انتهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو 1948.

وما حل هذا اليوم حتى انسحبت بريطانيا من فلسطين وأصبح العرب وجها لوجه أمام الصهيونيين، وسارعت الدول العربية إلى نجدة العرب وأحرزت قواتها انتصارات رائعة، وفي مدى أيام بانت الجيوش العربية تهدد تل أبيب عاصمة إسرائيل.

وفجأة تتدخل إنجلترا وأمريكا وتأمر الدول العربية بوقف القتال وإعلان الهدنة، وترى الدول العربية نفسها في موقف حرج وتقرر قبول الهدنة. وفي فترة الهدنة تستعد إسرائيل وتنسحب شرق الأردن وتلعب بريطانيا فتمنع السلاح عمن تشاء وتعطي من تشاء؛ ويتجدد القتال وقد تآمرت أمريكا وإنجلترا مع إسرائيل على العرب وينتهي الأمر بقيام دولة إسرائيل!! ويطرد العرب من أوطانهم وتقوم دولة في القرن العشرين على أساس ديني في الوقت الذي ترى فيه الدول الغربية أن مجرد تمسك أمة من الأمم بدينها رجعية لا مبرر لها.

ص: 9

التاريخ يعيد نفسه

أيها العرب: ليست هذه أول مرة تبغي فيها أمم الغرب عليكم وتعتدي على أوطانكم؛ فأنتم جميعا تعرفون أن فلسطين والأقطار الإسلامية قد استهدفت لعدة حملات معروفة باسم الحروب الصليبية وكانت أولاها في المدة من 1097 إلى 1099 وقد نجح الصليبيون في هذه الحرب من فتح سواحل الشام ودخول بيت المقدس. وقد كتب قائدهم إلى البابا يبشره بما أحرزه من نصر فقال (إذا أردت أن تعرف مدى انتصارنا فاعلم أن خيولنا كانت تسبح في بحار من دماء المسلمين؟) وقد حق له أن يقول ذلك فقد قتل الصليبيون أكثر من 70 ألفا من المسلمين وتمكنوا من تأسيس ما عرف باسم الإمارات اللاتينية، وما إسرائيل إلا إمارة لاتينية في القرن العشرين، وما أشبه الليلة بالبارحة!

وقد دام بقاء الصليبين في الشرق قرنين من الزمان؛ ثم طردوا نهائيا من الشرق، وعاد بيت المقدس والأماكن المقدسة فيه إلى يد المسلمين.

ولكن لا تحسن أيها القارئ أن هذا العمل كان مهلا ميسرا بل على العكس كان هذا العمل شاقا عسيرا، ولكن همم الرجال وعزائم الأبطال هي التي مكنت للعرب من استرداد حقوقهم، ويرجع الفضل في ذلك إلى بطلين عظيمين. . هما نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وقد استطاع الأخير أن يعيد فتح بيت المقدس وأن يضيق على الصليبين حتى أصبحت أملاكهم لا تتجاوز شريطا ضيقا من صور إلى يافا. وثم طردهم نهائيا في عصر المماليك.

مقارنة

وجدير بنا أن نذكر أن الصليبين كانوا أكثر إنسانية من الصهيونيين، فبرغم أن الحملات الصليبية جاءت إلى الشرق في العصور الوسطى وهي عصور تعتبر عصورا متأخرة، إلا أنهم لم يقترفوا من الإثم ما اقترفه الصهيونيون. ذلك أن الصليبين لم يطردوا العرب من ديارهم وإنما أبقوا عليهم وتركوهم في ديارهم آمنين مطمئنين، أما في القرن العشرين عصر المدينة والتقدم فقد اقترف الصهيونيون أشنع الإثم وأكبر الجرائم، فطردوا السكان الآمنين من ديارهم وشردوا نساءهم وأطفالهم، وهكذا تكون المدنية والإنسانية؟

ص: 10

المعاملة بالمثل

وقد يطيب لي أن أذكر أن الدول العربية تؤوى في ديرها أعدادا كبيرة من اليهود وهم أصحاب رءوس الأموال الضخمة، ولست أدري ماذا تفعل الدول الغربية لو أن الدول العربية لجأت إلى معاملة اليهود بالمثل فطردتهم من بلادها؟ ما أحسب إلا أن هذه الدول سوف تقوم ثائرتها وسوف ترمي المسلمين بأنهم قوم متعصبون متأخرون وربما تدخلت بالقوة لمنع الدول العربية من تنفيذ مثل هذه الخطوة، أما إسرائيل فلها أن تفعل ما تشاء ولها أن تدل كما تشاء فقد اشترت ذمم ساسة الغرب بأموالها وأعراضها.

وإذا العناية لاحظتك عيونها

نم فالمخاوف كلهن آمان

العدو الصديق

نعم يا أخي إنك لو أنعمت النظر قليلا لرأيت ثم رأيت أمرا عجيبا، فإنجلترا دولة صديقة للدول العربية ما في ذلك شك وهي كذلك دولة حليفة لهم فبينها وبين مصر والعراق وشرق الأردن وغيرها معاهدات تحالف وصداقة، ولكن هذه الدولة الصديقة هي التي أقامت إسرائيل في ديار العرب لتقلق بالهم وتشغل أذهانهم وقلوبهم، وهي التي منعت السلاح عن العرب عند انتصارهم على اليهود، وهي التي دفعتهم إلى قبول الهدنة الأولى بعد أن أصبح النصر أمرا محققا وواقعا ومؤكدا، وهي التي تحتل ديارهم وبلادهم؟؟

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا له ما من صداقته بد

والآن

لا ترع يا صديقي فإن السنين ليس لها حساب في تاريخ الأمم، وقد رأيت الصليبيين أقاموا في الشرق مائتين من السنين، ولا ضير إذن من أن تقوم إسرائيل فمصيرها معروف مفهوم، ولكن ذلك لن يتم إلا إذا كانت الدول العربية في منتهى اليقظة تعمل على جمع كلمتها وتوحيد قوتها وإعداد القوات اللازمة لحمايتها إعدادا حربيا حديثا. وأهم من ذلك أن تؤمن بقضيتها وبعدالة مطالبها. إذا أمكن ذلك وهو ممكن إن شاء الله فستقضي هذه الدول على إسرائيل. أما إن أهملت شؤونها وتفرقت كلمتها فإن إسرائيل ستقضي عليها، وها هي قد بدأت عدوانها على مصر منذ حين وأخيرا على سوريا، ولست أدري كيف ينتهي

ص: 11

الخلاف بينهما، وإنما أرجو ربي أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.

أبو الفتوح عطيفة

مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية

ص: 12

‌مع أبي تمام في آفاقه:

قصيدة النار

- 2 -

للأستاذ محمود عزت عرفة

حرب الروم:

لما أنحى الأفشين بقواه على حصون الخرمية بدا لبابك أن يستثير عزيمة الروم على حرب المسلمين، ليكشف عن نفسه بعض ما هو فيه. فكتب إلى قيصر الروم - توفيل بن ميخائيل - كتابا يذكر فيه (أن ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتلته إليه، حتى وجه خياطه - يعني جعفر بن دينار الخياط - وطباخه - يعني إيتاخ - ولم يبق على بابه أحد. قال: فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك)

فاهتبل قيصر الفرصة وانقض على زبطرة من ثغور المسلمين، بجيش تبلغ عدته مائة ألف أو أكثر. فقتل من أهل هذا الثغر وسبي. ثم أغار على ملطية وغيرها من الحصون ومثل بمن وقعوا في يده. فخرج إليه أهل الثغور من الشام والجزيرة؛ وبادر المعتصم بتوجيه عجيف بن عنبسة وعمرو الفرغاني ومحمد كوته وجماعة من القواد إلى زبطرة معونة لأهلها، فبلغوها وقد انصرف عنها ملك الروم. ولما فرغ المعتصم من أمر بابك سأل عن أمنع بلاد الروم وأقوى حصونهم شوكة. فذكرت له عمورية فوطد العزم على قصدها وتأهب لذلك.

ثم تحركت جيوش الخلافة وفيها من القواد - ممن صحبوا المعتصم أو تقدموه - أشناس، وإيتاخ، ومحمد بن إبراهيم ابن مصعب، وجعفر بن دينار بن عبد الله، وعجيف بن عنبسة، ووصيف، وحيدر الأفشين. وتفرقت هذه الجيوش في المسالك؛ فكان الأفشين أول من أوقع بالروم إذ كان أسبق القوم إلى التوغل في بلادهم؛ ذلك أنه هزم جيش القيصر نفسه في شعبان سنة 223هـ؛ ثم قدم على المعتصم وهو نازل على أنقرة حيث أتعد القواد على الالتقاء. وتحركت الجيوش من هنالك مجتمعة نحو عمورية فحاصرتها. وراح القواد يتناوبون الهجوم عليها حتى سقطت بعد حصار دام شهرين.

ص: 13

وقد كانت الوقعة التي جرت بين الأفشين وملك الروم قبيل ذلك من ألمع الحوادث في هذه الحرب. وزاد من روعتها ما كان مأثورا عن الأفشين من البلاء في حرب بابك وخضد شوكة الخرمية.

قال الحسين بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين ويذكر هذه المواقع:

أثبت المعصوم عزا لأبي

حسن أثبت من ركن إضم

كل مجد دون ما أثله

لبنى كاوس أملاك العجم

إنما (الأفشين) سيف سله

قدر الله بكف (المعتصم)

لم يدع بالبذ من ساكنه

غير أمثال كأمثال إرم

ثم أهدى سلماً بابكه

رهن حجلين نجيا للندم

وقرى (توفيل) طعناً صادقاً

فض جمعيه جميعاً وهزم

قتل الأكثر منهم، ونجا

من نجا لحما على ظهر وضم

وبائية أبي تمام في فتح عمورية أشهر من (قفانبك)، ولكنا نحلى جيد الكلام بشذور منها. قال يخاطب المعتصم:

لبيت صوتا زبطريا هرقت له

كأس السكرى ورضاب الخرد العرب

عداك حر الثغور المستضامة عن

برد الثغور، وعن سلسالها الحصب

أجبته معلنا بالسيف منصلتا

ولو أجبت بغير السيف، لم تجب!

حتى تركت عمود الشرك منقعرا

ولم تعرج على الأوتاد والطنب

لما رأى الحرب رأى العين (توفلس)

والحرب مشتقة المعنى من الحرب

غدا يصرف بالأموال جريتها

فعزهُ البحر ذو التيار والعبب

السخط على الأفشين ومحاكمته

أحرز الأفشين هذا المجد كله، وبلغ تلك الذروة الرفيعة من تقدير المعتصم ومحبته؛ مع إعجاب العامة وإجلال الخاصة، وتمكن أسباب الجاه والنعمة، والاتسام بالجد الموفق والنقيبة الميمونة، وأنه سيف الخلافة الذي ذاد عن ركنيها وقصم ظهور أعدائها - بلغ هذا كله ليهبط منه فجأة إلى حضيض الذل والمهانة، ثم يقتل قتلة الخائن المارق، والعدو المنابذ.

ص: 14

وإذا نحن تجنبنا نسبة القضية كلها إلى عوامل الحسد والغيرة التي أكلت قلوب النظراء - وخاصة العرب ومن يحطب في حبلهم - ثم إلى تمكن شهوة الانتقام عندهم من الرؤساء الأعاجم جميعا، في شخص هذا الذي أعيا كل عربي وعجمي أن يشق له غبار - فليس يفوتنا أن ننبه إلى ما تجلى من عوامل الحسد والغيرة ورغبة التشقي والانتقام كدوافع بارزة حركت القضية منذ بدايتها؛ وسارت بها إلى غايتها المرسومة من إهدار دم الأفشين.

وكان الذي أجرى محاكمته، بأمر المعتصم أو على الأصح بموافقته، الوزير محمد بن عبد الملك الزيات وشهدها معه أحمد بن أبي داود وإسحاق بن إبراهيم المصعبي وغيرهما من أعيان العرب. وكان المناظر له أبن الزيات.

على أن بوادر الانقلاب على الأفشين لم تظهر إلا بعد عودته من حرب الروم. إذ كان إلى ما قبل ذلك يتمتع بثقة الخليفة التامة حتى لقد دفع إليه بالعباس بن المأمون بعد ما ظهر من تدبيره خطة الانقلاب على المعتصم أثناء حصار عمورية. وظل بيده إلى أن قتل خلال العودة، في مدينة منبج من أعمال الشام.

بل لقد شفع الأفشين في هرثمة بن النضر وكان العباس قد سماه في عداد من انضموا إليه، فعفا عنه المعتصم وولاه الأفشين حكم الدينور.

وعلى كثرة من انغمسوا في المؤامرة من القواد كان الأفشين بعيدا عنها فلم يعلق به من جانبها شبهة ومع ذلك نجده محاطا بالأراجيف مأخوذا بالتهم منذ نجم أمر (مازبار بن قارن) كما سنشير إليه بعد. ثم نرى المعتصم يعزله عن الحرس ويوليه إسحق بن يحي بن معاذ. وبعد قليل تجري محاكمة الأفشين على الوجه الذي أشرنا إليه. والتهم التي ووجه بها كثيرة، ونحن نوجزها فيما يلي:

1 -

أنه حرض مازيار بن قارن الحاكم بطبرستان على منابذة الطاهر أصحاب خراسان، ثم الخروج على المعتصم ولما قبض عليه أقر لدى المعتصم أن الأفشين كاتبه وحسن له الخلاف ووضع معه خطة لإحياء المجوسية. وفي رواية للطبري وابن الأثير أن المازيار زعم أن أخا الأفشين واسمه (خاش) كتب إلى أخيه (قوهيار) بذلك. وفي رواية ثالثة لأبي الفداء في البداية والنهاية أن المازيار: لما أوقف بين يدي الخليفة سأله عن كتب الأفشين إليه فإنكرها، فأمر به فضرب بالسياط حتى مات.

ص: 15

2 -

ولي منكجور الأشروسني - أحد أقاربه - على بعض أعماله في أذريبجان فاغتصب أموالا وجدها هنالك من كنوز بابك، ثم خلع الطاعة وأعلن الثورة على المعتصم، حتى غدر به أصحابه وأسلموه، فحبس واتهم الأفشين في أمره.

3 -

وجه بهدايا وأموال كثيرة إلى مسقط رأسه في أشروسنة، على أن يلجأ إلى هنالك فيما بعد فيستقل بملك آبائه، وكان الذي كشف أمر ذلك عبد الله بن طاهر، وقد كان يحمل الضغينة للأفشين ويتتبع عوراته: وطاهر بن الحسين أبوه هو ابن عم إسحق بن إبراهيم المصعبي الذي اشترك في محاكمة الأفشين.

4 -

أمر بجلد بعض المسلمين في أشروسنة ممن حولوا بيتا للأصنام إلى مسجد للصلاة.

5 -

كان يأكل لحم المخنوقة ويحمل على أكلها شهد عليه بذلك الموبذ، وكان مجوسيا أسلم أيام المتوكل.

6 -

قال لهذا الموبذ في حديث جرى بينهما: قد دخلت لهؤلاء القوم - يعني المسلمين - في كل شيء أكرهه، حتى أكلت الزيت وركبت الجمل والبغل. غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة! ولم أختتن!

7 -

وجد في بيته كتاب قد حلاه بالذهب والجوهر، فيه كفر بالله تعالى. . .

8 -

يخاطبه أهل بلده أشروسنة بعبارات التقديس. ويبدءون كتبهم إليه بقولهم: إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان - شهد عليه بهذه التهمة المرزبان بن تركش أحد ملوك السغد. وكيفما كان الأمر في هذه التهم فقد دفعها الأفشين عن نفسه، وعلل بعضها بعلل معقولة فإنكر علاقته بحادثتي منكجور ومازيار. ونفى نية الوثوب بأشروسنة أو إحياء ملك آبائه فيها؛ وعلل قصة المسجد هناك بأن بينه وبين ملك السغد عهدا بأن يترك كل قوم على دينهم. وقال عن الكتاب المحلى بالجوهر: هو كتاب ورثته عن أبي، فيه من آداب العجم، وكفر. . . فكنت آخذ الآداب وأترك الكفر، ووجدته محلى فلم أحتج إلى أخذ الحلية منه، وما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.

وقال عن الموبد في صداد تهمتيه: أخبروني عن هذا، أثقة هو في دينه؟ قالوا: لا. قال: فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا تعدلونه؟

ويروون أنه حين أخرج بقول أبن أبى دؤاد له: قد بلغ أمير المؤمنين أنك يا حيدر أقلف؛

ص: 16

أجاب: نعم. . ثم قال فيما بعد لحمدون بن إسماعيل وهو يزوره في سجنه: إنما أراد أن يفضحني؛ إن قلت له نعم لم يقبل قولي وقال لي: تكشف فيفضحني بين الناس. والموت كان أحب إلى من أن أتكشف بين يدي الناس.

وأما ما اتهمه به المرزبان من مخاطبة قومه إياه بإله الآلهة فقد قال عن ذلك: هذه كانت عادتهم لأبي وجدي، ولي قبل أن أدخل في الإسلام. فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتسقط علي طاعتهم.

والحق أنه لم يثبت على الأفشين إلا تهمة واحدة هي أنه كان يعد العدة لكي يهرب قبيل القبض عليه ومحاكمته. فقد عثروا في قصره على أطواف وآلات للركوب كان أعدها ليعبر عليها نهر الزاب ثم يصير - كما زعموا - إلى أرمينية فبلاد الخزر ثم إلى بلاد الترك ومنها إلى أشروسنة. . . قالوا (ثم يستميل الخزر على أهل الإسلام). ونسكت عن الجملة الأخيرة. . . وهي لم تثر أثناء محاكمته - لنقول إن نية الهرب أمر طبيعي، بل تدبير حكيم سديد، لمن كان في مثل موقفه.

ونحب أن نسجل هنا كلمة للأفشين - دون أن نناقشهاأيضاً - وهي قد تعطينا فكرة عن حقيقة شعوره قبيل القبض عليه، بل قد تبرر في نظرنا ما شغل به نفسه من نية الهرب. . .

أرسل الأفشين إلى المعتصم من سجنه، على لسان بعض زائريه، يقول في عقب كلام طويل: إنما مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين كرجل ربى عجلا حتى أسمنه وكبر. وكان له أصحاب يشتهون أن يأكلوا من لحمه فعرضوا بذبحه فلم يجبهم. فاتفقوا جميعا على أن قالوا: لم تربي هذا الأسد، فإنه إذا كبر رجع إلى جنسه؟ فقال لهم: إنما هو عجل. فقالوا: هذا أسد. فسل من شئت. وتقدموا إلى جميع من يعرفونه وقالوا لهم: إذا سألكم عن العجل فقولوا له أنه أسد وكلما سأل إنسانا قال: هو سبع. فأمر بالعجل فذبح. وإني أنا ذلك العجل، فكيف أقدر أن أكون أسدا؟ الله الله في أمري!

(يتبع)

محمود عزت عرفة

ص: 17

‌4 - الفارابي

في العالم الإسلامي وفي أوربا

بمناسبة مرور ألف عام على وفاته

للأستاذ ضياء الدخيلي

هذا ما نقله في كتابه الدكتور توفيق الطويل مدرس الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول ولكني قرأت في مفتاح السعادة (ج1ص259) ثناء عاطرا على الفارابي إذ قال المولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده (ومن جملة أساتذة الحكمة الفارابي الحكيم المشهور صاحب التصانيف في المنطق والحكمة وغيرهما من العلوم وهو أكبر فلاسفة الإسلاميين لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، وتخرج أبن سينا بكتبه وبعلومه، وانتفع في تصانيفه. وعدد مصنفاته من الكتب والرسائل سبعون كلها نافعة ولا سيما كتابان في العلم الإلهي والمدني لا نظير لهما، أحدهما المعروف (بالسياسة المدنية) والآخر (بالسيرة الفاضلة) وصنف كتابا شريفا في إحصاء العلوم والتعريف بأعراضها لم يسبق إليه أحد، ولا ذهب أحد مذهبه ولا يستغني أحد من طلاب العلم، وكذا كتابه في (أغراض أفلاطون وأرسطو) اطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علما أن وبين كيف التدرج من بعضها إلى بعض شيئا فشيئا، ثم بدأ بفلسفة أفلاطون يعرف بغرضه منها ثم أتبع ذلك بفلسفة أرسطو ووصف أغراضه في تواليفه المنطقية والطبيعية فلا أعلم كتابا أجدى على طالب الفلسفة منه) فأين هذا المديح من ذلك التهجم القبيح، وكيف اجتمع النقيضان في صعيد واحد. .؟ ولقد أمسى هذا الفيلسوف هدفا للمؤلفين في كل العصور؛ فلئن انتقده القدامى لفساد عقيدته واختلالها (كما يرون) فإن المتأخرين الذين لم يتطبعوا على فهم لغة القدماء الصعبة المسالك الغامضة الأغراض على أبناء العصر الحديث - لم يمنعهم التريث عن التحامل عليه رحمه الله، فقد أخذ المتأخرون يطعنون في أسلوب الفارابي ويلحقون به مسبة الغموض والاضطراب، وإذا كان بعض هؤلاء النقاد لا يسلم إهابه من وخز البيت القائل:

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

ص: 19

فإن الباقين ممن نجل مكانتهم ونعلي شأنهم. ولكني في الحقيقة كيف يدعي الكتاب المحدثون فهم كتب أبن سينا والفارابي بلغتها واصطلاحاتها المهجورة؟ وقد كنا معذبين من شيوخ أساتذتنا في النجف الأشرف فكانوا يقفون عند كل كلمة وينشرون لنا ما فيها من بطون وما علق عليها أصحاب الحواشي والشارحون فإذا عثروا بكلمة (فتأمل) وقفوا عندها وأطالوا البحث شارحين وجه التأمل وقد كان له (فإن قلت قلنا) ميدان واسع يجول في مجاله فرس الشيخ الوقور ويصول، فمن أفهم شباب العصر أسرار (فتأمل) ومن غاص بهم في أعماق العبارات؟ وهل تقوى عيونهم على قراءة الحواشي الدقيقة الخطوط المتعرجة وهي على الأخص في مطبوعات إيران ذات أشكال غريبة؛ فمنها ما نضد ونظم على شكل (الباذنجان) ومنه ما جاء على شكل (أوراق الورد) أما الخطوط فما غرب تعليقات لدارسين فيها فهي تتلوى بين السطور كالأفاعي، فكيف فهم العصريون تلك الكتب الغامضة التي أظن أن المتنبي قصدها بقوله:

ملاعب جنة لو سار فيها

سليمان لسار بترجمان

فكيف فهم الأستاذ إسماعيل مظهر (أسفار ملا صدرا) حتى أخذ يحدثنا في كتابه (ملقى السبيل) عن أحيلة الملا صدر الدين الشيرازي وأوهامه في أسفاره ونحن في النجف الأشرف لا نقرأ كتاب الأسفار إلا بعد أن يدرس الطالب علم المنطق بكتبه القديمة مثل حاشية الملا عبد الله على منطق التهذيب، وشرح الشمسية، وشرح المطالع، وشرح منظومة الشيخ هادي شليله، وشرح منطق إشارات ابن سينا، ثم يقرأ في علم الكلام شرح التجريد والأصل لنصير الدين الطوسي والشرح لتلميذه العلامة الحلي أو شرح الملا علي القوشجي عليه، ويدرس في الفلسفة شرح إشارات ابن سينا لنصير الدين الطوسي وردوده على (الفاضل الشارح) فخر الدين الرازي مدافعا عن الشيخ الرئيس و (محاكمات الداماد) الذي أقام نفسه حكما يفصل بين الشارحين، ويدرس شرح منظومة السنرواري في الحكمة، ويدرس الشفاء لابن سينا ثم يدرس بعد كل هذا أسفار الملا صدر الدين الشيرازي، ونسيت عد الشوارق للملا عبد الرزاق اللاهجي في الكلام. ولأغرب من هؤلاء المدعين فهم تلك الكتب الصفراء - ادعاءات المستشرقين الأجانب فهمهم تلك الكتب الوعرة المسالك وكنا لا نتورط في مجاهلها إلا بدلالة من أساتذة بارعين نشأوا وشبوا وشابوا على خوض غمارها

ص: 20

فكيف تسنى لأمثال (دي بوير) الهولندي أن يفهم مذاهب فلاسفة الإسلام؟ وكيف تهيأ ذلك وتيسر لجيوم الإنجليزي ونلينو الإيطالي؟ وكيف ترجم أسلافهم هذه الكتب إلى اللغات الأوربية؟ إني أكاد أجزم بفساد تلك التراجم وشيوع الأغلاط فيها. وبعد هذا ألا يحق لنا أن نعذر المرحوم الأستاذ مصطفى عبد الرزاق على وصفه الفارابي في ما كتبه بالغموض والاضطراب إذ قال في كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) وبعد الكندي أبونصر الفارابي المعلم الثاني المتوفى سنة 335هـ (والمعروف أن سنة وفاته 329هـ) فعرض لتجديد معنى الفلسفة وعرض للإحاطة بأقسامها وذكر الغاية منها والفرق بين الدين والفلسفة في بيان أفصح وأبسط لكنه فرق هذه الأبحاث في مواضع من كتبه لمناسبات، ولم يعمد إلى جمعها في نسق ولم تخل أقواله على بسطها من اضطراب وغموض في بعض الأحايين).

ولكن أبن العبرى المتوفى سنة 385هـ وكان قد عاصر وعاشر نصير الدين الطوسي في مراغة قال في تاريخه (مختصر الدول) يثني على أسلوب الفارابي ويصفه بلطف الإشارة وصحة العبارة إذ ذكر (أن الفارابي استوطن بغداد وقرأ بها العلم الحكمي على يوحنا بن حيلان المتوفى في أيام المقتدر واستفاد منه وبرز في ذلك على أقرانه وأربى عليهم في التحقيق وأظهر الغوامض المنطقية وكشف سرها وقرب متناولها وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبهة على ما أعفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وإنحاء التعاليم فجاءت كتبه المنطقية والطبيعية والإلهية والسياسية - الغاية الكافية والنهاية الفاضلة) فترى ابن العبري لا يجد الغموض والاضطراب الذين وصم أقوال الفارابي بهما صاحب كتاب (لتمهيد لتاريخ الفلسفة) ولعل العلة من صنع الزمن؛ فإن ابن العبري من أبناء القرن السابع الهجري ولغة كتب الفارابي (المعقدة) لغة عصره العلمية - تقريباً لتشابه العصرين في لغة التأليف. والحق أنك لتجد كتب المؤرخين طافحة بالإعجاب بفضل الفارابي والإعلاء من مكانته ولئن كان إطراء بعض هؤلاء عديم القيمة لجهله الفلسفة فهو بلا ريب مرآة لآراء العارفين. قال ابن الأثير المتوفى سنة 630هـ (وفيها توفى أبو نصر الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف فيها وهذا الشيخ زين الدين عمر بن الوردي من القرن الثاني الهجري يقول في تاريخه عن الفارابي وألف في بغداد معظم تصانيفه ثم دخل مصر ثم دمشق وأقام بها أيام سيف الدولة بن حمدان فأكرمه وكان

ص: 21

على زي الأتراك، وحضر يوما بدمشق عند سيف الدولة وعنده فضلاؤها فما زال كلام الفارابي يعلو وكلامهم يسفل حتى صمتوا ثم أخذوا يكتبون ما يقول وقد نقل قصة دخوله على سيف الدولة هذه وكيف أن العلماء أخذوا يتلقفون فرائد كلماته ويسجلونها في دفاترهم أبو فداء المتوفى سنة 732هـ ولعل هذه الأقصوصة المتواضعة هي أصل تلك القصة الفضفاضة التي تنسب للفارابي البراعة الخارقة في الموسيقى التي استطاع أن يلعب بها بسيف الدولة وندمائه من إضحاك وإبكاء وترقيد، كل ذلك بسحر الموسيقى. ولعل تلك القصة تتحدث عن موقعة ثانية فقد جعل القصاص مسرحها حلب وهذه وقعت في دمشق. ويختصر ابن تغري بردي الأتابكي في النجوم الزاهرة ويلخص إجلاله للفارابي بأن يقول. . وأبو نصر الفارابي صاحب الفلسفة ويحق لأبي نصر أن تعزى إليه الفلسفة فهو من أول بناتها في دنيا الإسلام أما صلاح الدين بن أيبك الصفدي فيقول عنه في الوافي بالوفيات. أبو نصر التركي الفارابي الحكيم فيلسوف الإسلام. وتلاحظ أن المؤرخين تسالموا تقريبا على أنه تركي غير عربي وإن كان من تلاميذ المدرسة العربية في الفلسفة. وقد جرت تركيته الشعوبيين أن يجدوا فجوة وثغرة لغمز القومية العربية، قال الأستاذ العقاد في كتابه عن (أثر العرب في الحضارة الأوربية)(وقد أتخذ الشعوبيون من كون الفارابي وابن سينا من غير العرب - ذريعة للطعن في الذهنية العربية، وأن من ضروب التجني التي لا تحمد من العلماء أن يقال إن العقل العربي لن يستطيع التفلسف بحال من الأحواللأن الفارابي وأبن سينا كانا من سلالة فارسية (كذا) على أشهر الأقوال ولم يكونا من سلالة عربية أو سامية كأنما كانت للفرس قبل ذلك فلسفة فارسية أو كان لهم عذر كعذر العرب في هجر البحوث الفلسفية طوال العهود التي مرت بهم في الحضارة والعمران؟. . على أن الكندي عربي أصيل وفلاسفة الأندلس كانوا من العرب الخ. ونؤاخذ الأستاذ العقاد على اعتباره الفارابي فارسيا وهو تركي وكم من البون الشاسع بين القوميتين؟ ويقول عنه جرجي زيدان في تاريخآداب اللغة العربية (ج2ص213) وكان فيلسوفا كاملا درس كل ما درسه من العلوم وفاق في كثير منها وخصوصا في المنطق وألف كتبا في مواضيع لم يسبقه أحد إليها ككتابه في (إحصاء العلوم) وكتاب (السياسة المدنية) وهو من قبيل الاقتصاد السياسي الذي يزعم أهل التمدن الحديث أنه من مخترعاتهم وقد كتب فيه الفارابي منذ ألف سنة. وأصلح

ص: 22

ما بقى من الترجمات غير مصلح ولخصها. أوعز إليه بذلك منصور ابن نوح الساماني فأجاب وسمى كتابه (التعليم الثاني) ولذلك سموه المعلم الثاني كما في كشف الظنون (ج1ص448) ومن مؤلفاته الباقية إلى الآن نحو (12) كتابا في المنطق متفرقة في مكاتب أوربا، بعضها منقول إلى اللاتينية أو العبرانية أكثرها في الأسكوريال، وبعض الترجمات اللاتينية مطبوع في البندقية وغيرها الخ. وقد طعن العقاد فيما يدعيه بعض المؤرخين من هذه الصلة بين الفارابي ومنصور بن نوح الذي يرى العقاد أنه صار ملكا بعد موت الفارابي بإحدى عشرة سنة كما تقدم. أما تلقيبه بالمعلم الثاني فإن دي بوير في كتابه في (تاريخ الفلسفة الإسلامية) يرى له وجها آخر إذ قال ولم يتعين حتى الآن الترتيب التاريخي لمؤلفات الفارابي، وإذا صح له أن رسائل صغيرة نحن فيها منحى المتكلمين والفلاسفة الطبيعيين، وإذا صح أنها كانت على هذه الصورة التي انتهت إلينا فهي مؤلفات كتبها للجمهور أيام صباه؛ فلما أوغل في الدرس انتقل إلى دراسة مؤلفات أرسطو ولهذا سماه أهل الشرق المعلم الثاني، فهو إذن قد اكتسب هذا اللقب الجليل بشروحه لمؤلفات المعلم الأول.

ويقول العقاد في رسالته عن الفارابي. . ومهما يكن من شيء فإن عناية الفارابي بالمنطق واهتمامه بشرح آراء المعلم الأول وبيان فلسفته وتقريب فهمه إلى معاصريه جعل له عند العرب مكانة لا تداني حتى أنهم لقبوه بالمعلم الثاني. وقد فهم (هامر خطأ أن الفارابي سمي بالمعلم الثاني لأنه كان ثاني فلاسفة المسلمين، المبرزين، ونحن نجد هذه التسمية لأول مرة عند البيهقي ثم نجدها بعد ذلك عند الشهرزوري. وقد ذهب طاشكبرى زاده وحاج خليفة إلى أن لهذه التسمية سببا هو أن الفارابي صنف كتابا سماه (التعليم الثاني) هذب فيه وصحح ما ترجمه الأوائل من كتب المعلم الأول الخ. . . ومهما تعددت الروايات في سبب تسمية الفارابي (والأصح تلقيبه) بالمعلم الثاني فإنهما جميعا تتلاقى في الدلالة على ما كان له من عظيم القدر ورفيع المكانة.

للبحث صلة

ضياء الدخيلي

ص: 23

‌الحاج خواجة كمال الدين

(1870 - 1932)

للأستاذ أرسلان بوهدانو وكز

بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي

(الأستاذ أرسلان بوهدانو وكز كاتب هذا المقال الرائع، مسلم بولندي، قد تخصص في التاريخ الإسلامي، وهو مؤرخ نابه، وكاتب ذائع الصيت. . . نشره في عدد ديسمبر سنة 1949 في مجلة إسلامك ريفيو بمناسبة مرور 18 عاما على وفاة خواجا كمال الدين، ترجمناه لقراء الرسالة الغراء بمناسبة سماح الجمعية الإسلامية في وكنج - لندن - لنا بترجمة كتاب خواجه كمال الدين (النبي المثالي) إلى اللغة العربية، وكذلك كتابيه الآخرين (مصادر الديانة المسيحية) و (لماذا اختار الإسلام دينا).

ومجلة الرسالة المجاهدة في خدمة الإسلام أحرى المجلات، بأن يتلاقي القراء على صفحاتها ببطل من أبطال الإسلام الخالدين، الذين تنحى أمام بطولتهم وأعمالهم الخالدة الرؤوس).

ع. م. سرطاوي

قال الخواجه كمال الدين في تعليقه على شرح بعض آي الذكر الحكيم:

(الحب الصحيح يبدو في شعور الإنسان وأعماله التي تنير ما حوله من ظلام، وتدفعه إلى التحليق في آفاق الخير بكل ما يستطيع من عزيمة).

وهذا التعليق يصدق إلى حد بعيد على ما قام به من أعمال، وعلى ما يحمل له الناس في قلوبهم من إكبار عميق، في الحدود الضيقة التي تستطيع لغة الإنسان المحدودة التعبير فيها عن أروع ما في الحياة الإنسانية من جمال وسمو بعيد. . . ولكم يجد من المصاعب إنسان ضعيف مثلي، وهو في سبيل التحدث عن أعمال وحياة عبقري، لم حياته حياة الآخرين؛ ولكنني وأنا أقتحم هذا المسلك الوعر، لا يدفعني إلى ذلك واجب الوفاء لذكراه فحسب، ولكن لأملئ جوانب نفسي بالإيمان، وأنا أصف حياة إنسان كان المثل الرائع لما يجب أن يكون عليه كل مسلم. ولكنني وأنا أتحدث عن ذكرى المؤمن الذي أسس في عاصمة

ص: 25

الإنجليز مسجد (وكنج) ومجلة (إسلامك ريفيو) أتطلع إلى اليوم الذي ينهض لمثل هذا العمل الجليل من هو خير مني وأقدر على تصوير هذه الحياة وأعماله الباهرة التي ألقى على أكتافنا عبء الاستمرار فيها، تلك الأعمال التي نهضت بديننا الحنيف الذي يهدف لخير الإنسانية.

حياته:

ولد الحاج خواجة كمال الدين سنة 1870 في البنجاب، من أسرة كشميرية ذات مكانة في المجتمع الهندي؛ اشتهر ماضيها بخدمة الإسلام. كان جده عبد الراشد شاعرا مشهورا، جلس على منصة القضاء لإسلامي في مدينة لاهور رئيسا للقضاء أثناء حكم السيخ، وكان أخوه الأكبر خواجا جمال الدين المسؤول عن نشر التعليم بين المسلمين في كشمير وإمارة جامو؛ لذلك نستطيع أن نعزو إلى الوراثة من أسرته، أقباسا من تلك العزيمة الجبارة التي جعلته داعيا لا يشق له غبار في خدمة الإسلام.

وابتدأ تعليمه في كلية (فورمان) المسيحية في لاهور، وإلى هذه الكلية تعزي معرفته العميقة بأسرار الديانة المسيحية، وأدق التفاصيل في الكتاب المقدس، وكان لهذا الاطلاع العميق أثره المباشر في التغلب على رجال الدين من المسيحيين في المناظرات العامة التي كانت تقام بينه وبينهم في لندن. وحصل على درجته الجامعية (ب. ع.) عام 1895، وتسلم وسام جامعة البنجاب في العلوم الاقتصادية، وهذا النجاح مهد إليه الطريق لكرسي الأستاذية في التاريخ والاقتصاد في الكلية الإسلامية في لاهور، وبقى هناك أربع سنوات أصبح في نهايتها مديرا لهذه الكلية. وبعد حصوله على بكالوريوس الحقوق عام 1898 اشتغل محاميا ناجحا في بشاور مدة سنوات ست، وعاد عام 1903 إلى لاهور حيث أصبح من المحامين الممتازين في محكمة البنجاب العليا، كان فيها موضع احترام القضاة والناس بلا استثناء، وبقى في لاهور حتى شد الرحال إلى بلاد الإنجليز عام 1912.

وفي بداية هذه الفترة من حياته الأخيرة في لاهور، أخذ يحس إحساسا عميقا بالهوة التي ينحدر إليها الإسلام تدريجيا من الانحلال والتراخي، ولهذا السبب راح يستعمل ما عنده من أوقات الفراغ فيطوف في أرجاء الهند ملقيا المحاضرات عن الإسلام. ولم يمض على عمله هذا غير وقت قصير حتى اعترفت الجامعة الإسلامية في إليجات أداه للإسلام من خدمات

ص: 26

فقررت منحه عضويتها، وأصبح في نفس الوقت أحد أمناء مجلسها العلمي.

السفر إلى الشرق:

كان في قمة النجاح عام 1912، وكان ذلك النجاح يبشر بمستقبل باهر عظيم، ولكنه وهو في رأس تلك القمة، استمع إلى نداء يدوي في أعماق شعوره، فلبى النداء، وأشاح بوجهه عن الذهب الذي كان يتساقط على أقدام مجده في بلاد الهند، وأقبل على طريق مملوء بالأشواك وعلى مستقبل غامض لليقصر ما بقي له من تلك الحياة على خدمة الإسلام. ولكي يستطيع القيام بذلك على أحسن وجه اختار طريقا موحشا لا أنيس فيه، فبدلا من البقاء بين مواطنيه، قرر أن يغترب مدافعا عن قضية الإسلام في المكان الذي كان يتلاعب بمقدرات العالم الإسلامي يصرفها كما يريد. . . قرر أن يذهب إلى أوربا واختار مدينة لندن مركزا دائما لذلك النشاط الذي تكاد تطل عليه أطياف عابسة منه من وراء آفاق الغيب.

إن المؤرخين الذين كتبوا عنه بعد وفاته عام 1932، والذين كان ينقصهم التعمق في الدرس ليصلوا إلى الحقائق المجردة من التاريخ، لم يعطوا هذا القرار ما يستحقه من تقدير، ولكننا ونحن في نهاية سنة 1949، وقد حصل كل قطر إسلامي تقريبا على استقلاله السياسي، ولا سيما في الهند، تستطيع أن ندرك خطورة ذلك القرار بإعلان الجهاد عن طريق الدعوة إلى مبادئ الإسلام، وأن نعطيه ما يستحقه من أصالة رأي وعبقرية فذة، ولعله كان إلهاما من الله ليتم على يده المعجزة في بلاد الإنجليز. ولكي ندرك تمام الإدراك أخطر هذا القرار علينا أن نعرف ماذا كان يعني عام 1912 في تاريخ الإسلام والمسلمين.

أفاق العالم الإسلامي مظلمة عام 1912

تعتبر سنة 1912 ابتداء ذلك العصر المظلم في تاريخ الإسلام الذي انتهى عام 1918 بالقضاء على استقلال آخر دولة إسلامية هي تركيا؛ فإن هذه الدولة بعد خسارتها طرابلس آخر أملاكها في أفريقيا سنة 1910، كانت على وشك خسارة مماثلة في أوربا عام 1912 نتيجة مباشرة لحرب البلقان الدامية. فإذا أضفنا إلى ذلك قيام حركة وطنية، في تلك الآونة، أخذت تمكن لنفسها في تركيا، مندفعة وراء مبادئ مخالفة لتعاليم الإسلام، استطاعت هذه التعاليم بعد سنوات عشر أن تبعد تركيا عن زعامة العالم الإسلامي، أدركنا تمام الإدراك

ص: 27

التيارات العتيقة التي كانت تبعث بفلك العالم الإسلامي والمسلمين في ذلك الوقت.

إن قرار خواجة كمال الدين في الدعوة إلى الإسلام في أوربا يبدو محيرا غريبا لأولئك الذين لا تدرك بصائرهم وراء مظاهر الأشياء والحوادث، ولذلك لا يبدو محيرا ما جره عمله الجريء هذا عليه من عداء أولئك الذين في قلوبهم مرض، وأولئك الذين يريدون خدمة الإسلام بأضعف الإيمان، وبأقل من ذلك، بأمور ووسائل لا تتجاوز الصلاة وجلب المنافع لأنفسهم عن طريق هذا الدين.

والآن، وبعد مرور سبعة وثلاثين عاما، والإسلام يحتل المركز اللائق به في شؤون العالم السياسية، أصبح من اليسير الحكم على صواب ما رأى وما عمل خواجة كمال الدين. ومن المحقق أن عظمته الحقيقية ما كانت لتبدو على فطرتها لو لم يتخذ مثل هذا التصميم في خدمة الإسلام. ومن حسن الحظ أنه لم يكن من ذلك الطراز الذي يجري وراء الحوادث، وإنما كان من ذلك النوع الذي تجري الحوادث لاهثة متعبة وراء قدميه. لقد استبق معاصريه بخطواته الجبارة، فكان الفذ الذي لا يجارى، والسباق الذي لا يشق له غبار، والبطل الذي تزيل إرادته الجبال، فاضطلع بتلك الأعمال الخطيرة ورسم المستقبل واضحا لغاية كريمة واضحة.

والواقع أن العالم الإسلامي عام 1912 كان في حاجة ماسة إلى تقوية نفوذه في أوربا مركز الاستعمار، الذي كان يتوقف عليها مصيره، وبعبارة أخرى كان هذا العالم في حاجة إلى سفير في تلك القارة لا يمثل أمة أو بلدا من بلاد الإسلام، وإنما يمثل ما في روح الإسلام من مثل إنسانية رائعة لا يعزفها الناس هناك. ويحسن ونحن نتحدث عن أوربا أن نذكر كيف كان الناس هناك ينظرون إلى الإسلام والمسلمون. ولكي يأخذ الإسلام المكانة اللائقة به، لم يكن هنالك مناص من إثارة عظمة الإسلام وأمجاده في نفوس المسلمين أولا، وأن يؤمن أولئك المسلمون الذين امتلأت ضمائرهم وقلوبهم بمركب النقص، من جبروت الاستعمار وظلم المستعمرين وفقدان الكيان السياسي، بأنفسهم إيمانا صحيحا صادقا. وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف كانت هنالك ضرورة ملحة تتعلق بشباب المسلمين الذين هرعوا في القرن العشرين إلى جامعات الغرب يتلمذون على الحضارة الغربية، والذين راحوا تحت تأثير هذه الحضارة يتحللون من كل ما يفرضه عليهم الدين الإسلامي من

ص: 28

واجبات وما ينهاهم عنه من محرمات. لذلك كان من الضروري مقاومة هذه الأمور الخطيرة في المكان الذي تنتشر منه، وباللغة التي تنتشر بها، وأصبح من الضروريأيضاً أن يفهم الشباب المسلمون الخطر الذي يتواري وراء مادية الغرب والتطور الصناعي الجارف، والميل إلى التحلل من كل ما يمت للإنسانية بصلة، وما ربحته في جهادها الطويل، والمثل الروحية التي أدى الإسلام دورا خطيرا في بثها وإشاعتها في الوجود وأخيرا أصبح من الضروري أن يقام في أوربا الغربية مركز يجتمع فيه المسلمون للصلاة دون أن تحول بينهم الفوارق القومية أو الطائفية.

وإذا كان اتخاذ قرار خطير يتطلب شجاعة عظيمة، فإن تنفيذ مثل هذا القرار يتطلب صفات أخرى لا تقل أهمية عن اتخاذ القرار نفسه، قلما وجدت مجتمعة في شخص واحد، يجيد الخطابة والكتابة، والتنظيم، والاقتناع، ذي جلد على العمل الذي يحطم الأعصاب، وأن تسند كل ذلك ثقافة عميقة شاملة، واطلاع واسع المدى. ولكن إرادة الله شاءت أن تجتمع هذه الصفات في خواجة كمال الدين. لقد كان، رحمه الله، فارسا من فرسان البيان، ولسانا من ألسنة الحق، ومنقطع النظير في البلاغة وقوة الحجة والاقتناع، ولقد ترك من الآثار الأدبية تراثاً رائعاً عظيماً سيأتي الحديث عن بعضه في مكانه من هذا المقال.

لقد كان الطريق إلى النجاح الذي وصل إليه في أوربا مملوءا بالأشواك، ولكنه لم يبال بكل ذلك، ولم يكتف بالوصول إلى درجة لا تبلغ في عمقها وشمولها من الثقافة الإنجليزية، واللغة التي تحمل هذه الثقافة، وإنما هضم الفلسفة الأوربية هضما لم يتيسر لإنسان قبله، فكان يحاضر أرقى الطبقات في أعقد مشاكل الفلسفة الألمانية في سهولة ويسر وبراعة لا يشق لها غبار.

أما قدرته على العمل فكانت شيئا لا تحتمله الطبيعة البشرية، وأدى ذلك الإجهاد إلى موته في غير أوانه. وإذا قيس العمل بالنتائج كان عمله معجزة من أثاره قدرة الله. وعلى الرغم من وصوله القمة في ذلك النجاح، لم ينقطع عن مواصلة السعي في خدمة الإسلام، حتى في سنواته الأخيرة التي قضاها محطم الأعصاب، خائر القوى. ولقد مات، رحمه الله، وجزاه عن الإسلام خير الجزاء وهو يكتب تعليقا على بعض سور لتنشر في العدد التالي من المجلة التي أسسها، مجلة إسلامك ريفيو.

ص: 29

أما مقدرته الخطابية فتبدو جلية في سيطرته على الجماهير المثقفة من الإنجليز نسوا الساعات الطويلة وهو يتحدث عن الإسلام وكأنها مسحورة، تحملها نشوة جارفة إلى آفاق من الحق والخير.

ولما وصل إلى لندن، استقر به المقام، بادئ ذي بدء، في (ريشموند) وبدأ في الحال يلقي المحاضرات، والخطب، ويشترك في اجتماعات الجمعيات اللاهوئية الإنجليزية، وينشر المقالات في الصحف والمجلات، وما لبث أن احتل مركزا ممتازا بين رجال اللاهوت في العاصمة البريطانية. وقبل أن تواتيه الظروف لتحقيق هدفه العظيم في نشر الإسلام في بريطانيا، مدت العناية الإلهية يدها إليه في تلك الوحدة، فعلم بوجود مسجد في ضاحية (وكنج) وقد استطاع الاستيلاء عليه في الحال، فكانت هذه الحادثة بداية الطريق إلى نجاحه العظيم.

للكلام صلة.

علي محمد سرطاوي

ص: 30

‌اللغة العامية في القرن الحادي عشر

للأستاذ علي العماري

في مقال قيم نشرته الرسالة بعنوان (الألفاظ الأيوبية في كتاب تقويم النديم) جاء ذكر كتاب (هز القحوف) للشربيني، على إن صاحبه نسج على منوال صاحب تقويم النديم، فأحببت أن أتحدث عن هذا الكتاب، كتاب هز القحوف.

مؤلفه: لم أقرأ عن مؤلف هذا الكتاب قليلا ولا كثيرا، فليس لديه من المراجع ما يعينني على ذلك، ولكني سأرسم له صورة استقيتها من كتابه هذا.

هو الشيخ يوسف بن محمد بن عبد الجواد بن خضر الشربيني، أحد علماء الأزهر، وقد تلمذ للعالم الكبير الشيخ شهاب الدين القليوبي، وكان يعظ الناس، ويعقد لهم مجالس في طريقه إلى الحج، وهو من قرية شربين كما تدل عليه نسبته، ولكن آبائه لم يزاولوا ما يزاوله رجال القرى من الفلاحة، وهو شاعر يقول القصيد والرجز والمواليا، وله شعر لا بأس به، وبالرغم من أنه أكثر في كتابه من الألفاظ العلمية إلا أنه حين يكتب بالعربية يجيد وهو يلتزم السجع على طريقة أهل عصره، ومن قوله: وقد ناب مؤلف هذا الكتاب من كيد الدهر نائب، ورمته الليالي بسهام المصائب. فأصبح بعد الجمع وحيدا، وبعد الأنس فريدا. يسامر النجوم، ويساور الهموم، يسكب على فراق الأحبة الدموع، ويرجو عود الدهر وهيهات الرجوع.

يا ليت شعري والدنيا مفرقة

بين الرفاق وأيام الورى دول

هل ترجع الدار بعد الأنس آنسة

وهل تعود لنا أيامنا الأول

لكن الصبر على غدرات الأيام، من شيم السادة الكرام.

والمؤلف تارة يصف نفسه بالفقر والخلاعة، وتارة يذكر أنه من آباء أمجاد، يجالسون عظماء الدولة، وأنه كان يعظ الناس في طريق الحج. وقد ذهب إلى الأرض المقدسة مرتين في سنة 1074، وسنة 1075، على ما ذكر في كتابه. وهو كثير التطواف في البلاد، فمرة في الصعيد، وأخرى في دمياط، وثالثة في بلده شربين، ثم يرحل منها إلى القاهرة. . . وهكذا.

موضوع الكتاب: عنوان الكتاب (هز القحوف في شرح قصيد

ص: 31

أبي شادوف) ويقول المؤلف في مقدمته (وبعد فيقول العبد

الفقير إلى الله تعالى يوسف بن محمد. . . كان الله له، ورحم

سلفه، أن مما مر على من نظم شعر الأرياف، الموصوف

بكثافة اللفظ بلا خلاف، المشابه في رصه لطين الجوالس،

وجرى ذكره في بعض المجالس، قصي أبي شادوف، المحاكي

لبعر الخروف أو طين الخروف، فوجدته قصيدا يا له من

قصيد، كأنه عمل من حديد، أو رص من قحوف الجريد،

فالتمس مني من لا تسعني مخالفته، ولا يمكنني إلا طاعته، أن

أضع عليه شرحا كريش الفراخ. أو غبار العفاش وزوابع

السباخ. يحل ألفاظه السخيمة، ويبين معانيه الذميمة، ويكشف

القناع عن وجه لغاته الفشروية، ومصادره الفشكلية، ومعاتيه

الركيكة، ومبانيه الدكيكة، وأن أتمه بحكايات غريبة، ومسائل

هبالية عجيبة. وأن أتحفه بشرح لغات الأرياف، التي هي في

معنى ضراط النمل بلا خلاف، وأشعارهم المغترفة من بحر

التخابيط، واشتقاق بعض كلماتها التي هي في الصفات تشبه

الشراميط، وذكر فقهائهم الجهال، وعلمهم الذي يشبه ماء

النخال، وفقرائهم الأجلاف، وأحوال الأوباش منهم والأطراف.

ص: 32

الخ)

ومن هذا التقديم نستطيع أن نفهم ما يشتمل عليه الكتاب، وقد قسمه مؤلفه إلى جزء ين، جعل أولهما تمهيدا للثاني، وشرح في الثاني قصيد أبي شادوف، ولئن كان صاحب كتاب تقويم النديم قد جاء بمقامة (طافحة من أولها إلى آخرها بضروب من الأحماض، والفحش والمجون الذي لا يستساغ نشره) فإن الشربيني قد أسرف في ذلك، ولكن هذا لا يمنعنا أن نشير إلى ما يمكن أن يستفيده الباحثون من هذا الكتاب.

في هذا الكتاب أمور على جانب كبير من الأهمية، فهو قد سجل اللغة العامية في عصره، وشرح معاني مفرداتها وما تدل عليه شرحا وافيا، وهو قد تعرض للحالة الاقتصادية بإسهاب، كما أنه وصف حال الحكام مع الشعب وحال الشعب مع الحكام أدق وصف، وفي أثناء الكتاب فوائد أدبية، قصص، وأشعار، وأخبار من الأدب الرفيع، وفيه شرح لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وهكذا. . .

والمؤلف كعلماء عصره، مغرم بالبديع كل الإغرام، فهو لا يترك مناسبة تمر دون أن ينبه فيها على نوع من أنواع البديع، ويظهر أنه كان واسع الإطلاع فهو يذكر كثيرا من الكتب، وينقل عنها، ويعنى عناية خاصة بذكر خواص الأطعمة وفوائدها ومضارها، ولا سيما أطعمة أهل الريف.

اللغة العامية: كتب أبو شادوف قصيدته باللغة العامية،

وضمنها شكوى زمانه، وإخوانه، وحكامه، وأمنيات كثيرة في

تشهي بعض الأطعمة، وتعرض الشارح لكل ذلك بالعامية

مرة، وبالعربية الفصحى أخرى. والذين يعنون بدراسة العامية

وتطورها يجدون في هذا الكتاب غناء لهم أي غناء. ويمتاز

هذا المؤلف عن غيره بأنه إذا ذكر كلمة شرح مدلولها شرحا

وافيا، وإذا كان مدلولها في بلاد مختلفة شرح مدلولها في كل

ص: 33

مكان، وإذا ذكر نوعا من الطعام الريفي بين طريقة صنعه في

كل إقليم، وقد يذكر طريقة صنعه في القاهرة. وهو دائما يذم

الريفيين وطعامهم، ويمتدح طعام القاهرين، ولا سيما طعام

الأتراك، ونراه يقول في ص179 (أما القطايف فإنها تعمل في

بلاد المدن من الدقيق الأبيض الخاص المقطب، وتصب على

صواني يقال لها الرقع من حديد أو من نحاس إلا أنها صغيرة

مثل القرصة، وهي ألذ هذه الأنواع وأطيبها خصوصا إذا

قليت بالسمن، وصب عليها عسل النحل، والله الحمد أكلنا منها

مرارا، وتلذذنا بها، ونسأل الله تعالى أن يطعمها لإخواننا

الفقراء، ويعمهم بأكلها)

ويمكن بدراسة الكتاب دراسة دقيقة أن تعرف تطور بعض الكلمات العامية، فمثلا (الكشك كان يطلق في عصر المؤلف على المحل الخارج من البناء المرتفع المركب على الأخشاب تجعله الأكابر للجلوس. والزربون كان يطلق في عهده على ما يلبسه الفلاح في رجله، وهو في قرانا له إطلاق آخر. وهكذا.

الحالة الاقتصادية: يخيل إلى أن المؤلف وضع كتابه لهذا

الغرض، فهو لا يزال يذكر في كل مناسبة ما لا يلاقيه

الفلاحون من ضيق العيش، وما يكابدون من الفقر، ويذكر

على ألسنتهم قصصا تصور سوء أحوالهم. وقد اتخذ من الجزء

الخاص في قصيدة الناظم بهذا الأمر، موضوعا للشرح

ص: 34

والتطويل، على أنه من أول الكتاب يضغط على هذه الناحية،

ويوليها عناية خاصة، فهو يذكر أن بعض الفلاحين شمخ بأنفه

وتاه على أخدانه، ونال السعادة يوما، وذلك أنه استحضر

لزوجه سقطا، في يوم عيد، فطلبت منه رائحة فقال ما معي

فلوس، فقالت له زوجه: من خلى شيء لعقب الزمان ينفعه، أنا

خليت بالصومعة أربع بيضات، خذهم ولا تقل لحد فإن الناس

تحسد الناس وخصوصا اليوم عيد وأنت اليوم في نعمة كبيرة،

ثم يذكر الرجل أن السعادة تمت لهم حين لقي هو وزوجه في

كرش الجدي شوية فول صحيح، ولكن الرجل ما يكاد ينتهي

من ذكر قصته للناس حتى يقولوا له متعجبين مما ناله من

السعادة: زمانك يا أبوعفرة ولى وراح، ومات الناس، وجار

علينا الظالمون.

الحالة السياسية: أو حالة الفلاحين مع حكامهم، والمؤلف كذلك

يولي هذه الحالة عناية فائقة، ويستطيع من يريد البحث أن يجد

صورة وافية لظلم الحكام في عصر المؤلف، ومعاملته

للفلاحين، بل إن جملة واحدة يذكرها المؤلف تدلنا أبلغ الدلالة

على ما كان يعانيه الفلاحون، فهو يقول: ولكن نحمد الله الذي

ص: 35

أراحنا من الفلاحة وهمها ولم تكن لآبائنا ولا أجدادنا، فالفلاحة

على كل حال بلية أعاذنا الله والمحبين منها. ويقول في موضع

آخر: فلا بد على كل حال من تغليق المال، ولو حصل من

ذلك الهم والنكال، كما في المثل الذي اشتهر وعم: مال

السلطان يخرج من بين الظفر واللحم، وما دام على الفلاح

شيء من المال فهو في هم شديد، ويوم السداد عند الفلاح يوم

عيد. وهو يصف الكاشف ونزوله البلد، كما يصف الملتزم

وأفعاله، من إلزامه الفلاح ولو كان فقيرا بإطعامه وإطعام

أصحابه الذين معه، وإطعام دوابه. وقد يربي الفلاح الدجاج

ولا يأكل منه شيئا - ويحرمه على نفسه وعياله، وكذلك

السمن والدقيق يبقيه لأجل هذه (البلية) على حد قول المؤلف،

وهو وصف مؤثر جدا لا يغنى فيه إلا الإطلاع عليه.

وفي الكتاب لمحات دقيقة، ونقدات لاذعة لبعض البدع كبدعة طواف الميت، وهو يحمل على الدراويش حملة عنيفة، كما يصف بعض خطباء المسجد وصفا لطيفا مضحكا.

وقصارى الأمر أنه لولا ما في الكتاب من إفحاش لكان من الكتب التي يجب أن تنشر وتذاع، ومع ما فيه فهو في النواحي التي ألمنا إليها وثيقة لها قيمتها.

علي العماري

ص: 36

‌رسالة الشعر

صارحيني!

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

(كتبت تقولين. . . في رسالتك الأخيرة المريرة: (لم أعد

أعرف بأي الأسماء أناديك! فاعذر حيرتي!) فإليك. . . يا

أنت!. . . إهداء هذه القصيدة)

الشاعر الحائر!

صارحيني بما لديك من الأس

رار، أن أنفضُ على يديك شجوني

صارحيني بما لديك، وإن كا

ن رهيباً. . . كالخنجرْ المسنون

صارحيني، فذاك أهونُ عندي

من شكوكي وَحيرتي وظنوني!

حدثيني عما لديكِ لقلبي

من شعور مستبهم مكنون

أهو حب كأنه الشفق المل

تاع من فرقة الغروب الحزين؟

أهو حب كأنه الأفق النش

وانِ من خمرة السنا والسكون؟

أهو عطف ورأفة وانعطاف

كانعطاف القرين نحو القرين؟

لست أدري! وذاك سر عذابي

وَشقائي وَحيرتي وَجنوني!

حدثيني عن الغريب الذي جا

ءك يسعى في لهفة وَحنين

من وراء الصحراء يقتحم الهو

ل، ويرتاد مستراد المنون

حدثيني أكان يبغي دفاعاً

عن حماك المعذب المسكين؟

أم وصالا في ظل عشق عنيف؟

أم لقاء في ظلِ حُب حنون؟

لست أدري! وذاك سر عذابي

وشقائي وغيرتي وجنوني!

حدثيني عن الأماني التي كا

نت. . . وزالت لما عرفت شؤوني

حدثيني ما سر تلك الأماني؟

ولماذا تدرينها أنت دوني

حدثيني علام صمتك عني؟

بعد ما بحتُ بالذي يضنيني؟

ص: 37

ولماذا زعمت أني سعيد

وشقائي مَسطر في جبيني؟

أسعيد من كان يحيا أسيراً

مثل طير معذب مسجون؟

أسعيد من كان يحيا بعيداً

عن ديار الهوى، ومَهد الفتون؟

أسعيد من كلما رام شدواً

لم يفض قلبه بغير الأنين؟

ويح قلبي! ماذا صنعت بقلبي

يوم أحرقته بنار الشجون؟

جئت أبغي الهوى، وما كنت أدري

أنني عائد بقلب طعينُ!

يا غراماً وهبته كل عمري

فطواه، وقال: لا يكفيني!

كم تمنيت لو نسيتك، لكن

كيف أنسى، وأنت في تكويني!؟

صدقيني يا مَن صنعت عذابي

ونسيت الهوى، ولم تذكريني

وزرعت السهاد ناراً بقلبي

وضلالاً تنام حول جفوني

صدقيني لقد يئست من الحب

(م) ومن شجوهِ الذي يحتويني

صدقيني لقد يئست من الحب

(م) ومن نارهِ التي تكويني

وتمنيت حين هان على قل

بك قلبي وحبهُ. . . أن تهوني!

بل تمنيت حين فاضت بي الأش

جانِ، أن لم أكن، وأن لم تكوني!

لا تلومي على الذي كان مني

وأعذري ثورة الهوى، وأعذريني

واذكري حين قلت. . يا أنت!. . يوماً

أنني في هواك غير أمين!

قلت هذا حتى يقوم لكِ العذ

رُ إذا شئتِ في الهوى أن تخوني

تستطيعين أن تخوني، ولكن

أنتِ مهما فعلتِ لن تخدعيني

واسأليني عن النساء، فعندي

بقلوب النساء علم اليقين

واسألي عني النساء اللواتي

كن يوما ملكي، وطوع يميني

اسألهن تعرفي من صفاتي

أنني مُلهم بكل دفين

واذهبي! لا أريدُ منك وداعاً

وَدعيني فقد يئست. . . دعيني

إن يأساً يريحني. . . هو خير

من خداع الأوهام لي كل حين

ما غناء السراب عندي إن لم

بك يوماً بمائهِ يرويني؟

إبراهيم محمد نجا

ص: 38

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

فلم (ظهور الإسلام):

عرض أخيرا في سينما استديو مصر بالقاهرة، فلم (ظهور الإسلام) الذي أخذ من كتاب (الوعد الحق) لمالي الدكتور طه حسين باشا، وقد أخرجه الأستاذ إبراهيم عز الدين، وشاركه المؤلف في إعداد (السيناريو)، وانفرد معاليه بكتابة الحوار باللغة الفصيحة، لغة طه حسين العربية المبينة العذبة الرشيقة.

يبدأ الفلم بظهور أخوة ثلاثة يبحثون عن أخ لهم فقدوه، فلما يئسوا من العثور عليه لم يروا بدا من العودة إلى دارهم بتهامة اليمن، ومروا بمكة وقد أضناهم الجهد، فنزلوا بها، فرآهم أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي، فدعاهم إلى داره حيث نزلوا في ضيافته وكانوا موضع إكرامه؛ وقد وكل لخدمتهم أمة سوداء ناضرة الشباب، هي سمية بنت خياط، وقد أقبلت الفتاة على خدمة ياسر بن عامر - وهو أحد الثلاثة - خاصة في خفة ونشاط، فوقع حبها في نفسه، وحببت إليه الإقامة بمكة، فخالف أخويه وتخلف عن الرحيل معهما. وفي مآبه من توديعهما التقى بأبي حذيفة قريبا من المسجد، فأنهى إليه أنه آثر الإقامة بمكة في أمن الحرم وجوار البيت. وتم الأمر بينهما على الحلف، إذ يكون ياسر في حمايةأبي حذيفة ويكون حربا على من حارب وسلما على من سالم. وتمر خمس وثلاثون سنة، وإذا نحن نرى مع ياسر وزوجه سمية وولدهما الشاب عمار بن ياسر يحدثهما بحديث وضع الحجر الأسود عندما اختلفت قريش على من ينل شرف وضعه، فحكموا أول داخل عليهم فكان محمدا الأمين الذي افترش رداءه ووضع الحجر فيه لتأخذ كل قبيلة بطرف منه. . . إلى آخر القصة المعروفة. ثم تظهر الدعوة الإسلامية، فنرى ياسرا يغشى نادي مخزوم، فيلقاه القوم بفتور، ثم يتجه إليه عمر بن هاشم ويغلظ له في القول، ويتبين أن سبب ذاك الفتور وهذه الغلظة أن عمار بن ياسر قد أسلم. ثم نرى عمارا وقد أخذ والديه الذين انفتح قلباهما للإسلام قاصدين إلى دار الأرقم ابن أبي الأرقم حيث يجتمع رسول الله (ص) بمن هداهم الله إلى الدين القويم. وما يعودون إلى دارهم حتى يفاجئهم أبو جهل عمر بن هشام في فتية من أحرار مخزوم ورقيقها فيغلوا أيدهم ويجروهم إلى حيث يحبسون، ويشعلون النار في

ص: 40

دار ياسر. ثم نرى جمعا من قريش في المسجد يتحدثون عن هذا الحدث الذي أتاه أبي جهل في البلد الحرام الذي يأوى إليه الناس فيجدون به الأمن والسلام، وينكر بعضهم علىأبيجهل فعلته، ويؤيده آخرون فيما ذهب إليه من تعذيب الرقيق والأحلاف الذين اعتنقوا الإسلام، ليكونوا عبرة لغيرهم من ذوي العشائر التي تقوم دونهم إذا أرادهم أحد بمكروه.

ويمعن أبو جهل في التنكيل بآل ياسر ويذيقهم ألوان العذاب، ويلح عليهم أن يذكروا محمداً بسوء وآلهة قريش بخير، فيأبون كل الإباء، فيقتل أبو جهل سمية ويلحق بها زوجها ياسرا، ولكنه يبقي على حياة عمار ليذيقه العذاب.

وتتسع حركة التعذيب فتشمل آخرين من المسلمين المستضعفين، أرقاء وأحلافا، كبلال وصهيب وخباب بن الأرث، وكلهم يظهر الجلد ويصبر على العذاب.

وتتوالى الحوادث فيبايع النبي صلى الله عليه وسلم أهل يثرب، ويهاجر المسلمون إلى المدينة، ثم يهاجر الرسول وصاحبه الصديق، ويتبعهما المشركون ثم يعودون خائبين، ويبلغ النبي وصاحبه المدينة فيتلقاه الأنصار والمهاجرون بالغبطة والاستبشار، ثم تقع غزوة بدر ويقتل فيها أبو جهل، ويعرض بعقب مناظر بدر، منظر جيش المسلمين في فتح مكة ودخولهم إليها من شعاب مختلفة وتحطيم الأصنام وصعود بلال إلى ظهر الكعبة يرفع صوته قائلا: أشهدأن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

والذي ألاحظه - وقد قرأت كتاب الوعد الحق ثم شاهدت فلم ظهور الإسلام - أن الفكرة الأولى في الكتاب أصابها بعض التحوير في الفلم، فقد تناول الكتاب جماعة من الأرقاء والأحلاف الذين يعيشون في كنف سادة قريش بمكة، تناولهم تناولاً إنسانيا رائعا، سبق التاريخ إليهم: فإن التاريخ لم يعرفهم إلا عند بدأ الدعوة الإسلامية، أما مؤلف (الوعد الحق) فقد استعمل هذا التاريخ المعروف ريثما يرسل خياله إلى الوراء عشرات من السنين، يتقصى الظروف والأحوال التي طرأ فيها أولئك الأخلاط على مكة، ويعرض علاقاتهم بالبيئة الجديدة، ويسوق حديث نفوسهم ومشاعرهم نحو السادة الذين يعايشونهم، وهم أحيانا يرضون بشيم هؤلاء السادة وما يبسطون لهم من ظل فيحرصون على ولائهم والوفاء لهم، وأحيانا أخرى - وهي كثيرة - يبدون الضجر والسخط على القيود التي يعانونها من الرق الظالم ومن أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية التي يحرمون بمقتضاها ما يستمتع به من لا

ص: 41

كفاية لهم غير ما يعتبرونه من شرف المولد والنسب. وهم من خلال ذلك يتوقعون تحول هذه الأوضاع، وفيهم من أوتى علم ذلك عن طريق الأحبار في خارج الجزيرة فهو يلزم هذا الحرم حتى تبزغ منه الشمس المرتقبة. . . ثم تبزغ هذه الشمس فيهرع إلى دفئها أولئك الضعفاء، وهنا يدخلون في طورهم الثاني الذي عرفهم فيه التاريخ، وهو طور الإيمان القوي الذي يحتمل عنف الإيذاء ويتقبل الاستشهاد في غبطة وسرور، ويأتي هنا التصوير الصادق البارع للعراك بين الأرستقراطية الشامخة الضالة وبين الإنسانية الضعيفة في أصلها، القوية بإيمانها المهتدية إلى صراط الحق المستقيم. أما الطور الثالث فهو تحقيق الله وعده للذين استضعفوا أن يمكن لهم في الأرض ويجعلهم أئمة، فقد انتصر الإسلام، وساوى بين الناس، لا فرق بين عربي وحبشي إلا بالتقوى، وظفر أولئك المستضعفون بالحرية وبالمنزلة الاجتماعية الرفيعة، فصاروا من أئمة المسلمين وولاة أمورهم وأهل الرأي فيهم، بل ظفروا بما هو خير من ذلك كله، وهو خلود الذكر وحسن الجزاء في الآخرة.

وقد أخذ الفلم من ذلك صوره على أوضاع مختلفة تهتم بإبراز دعوة الإسلام قبيل ظهورها، وعند ظهورها وانتصارها، ولم يهتم بالتتبع الإنساني والاجتماعي لأولئك الأبطال بقدر ما اهتم بالظروف العامة، فهو مثلا لم يبرز الثورة التي كانت مكبوتة في نفوسهم تجاه الطبقة التي تسودهم، ومنجيي الإسلام للقضاء على أسباب هذه الثورة وتنظيم المجتمع على أساس جديد، وقد اعتمد الفلم في تصوير الجو الذي قصد إليه على إظهار أولئك الأبطال بالقدر الذي احتاج إليه لا بالقدر الذين يحتاجون هم إليه في التحقيق والتحليل على نحو ما في الكتاب، فلم يظهر غيرهم من أعيان المسلمين أمثال حمزة وأبي بكر وعمر، فهؤلاء - أولاً - لم يكونوا من غرض الكتاب، ولو كان غرضه (ظهور الإسلام) ما أهملهم. أما ثانيا فلا يخفى أنه من غير السهل إظهارهم على الشاشة لاعتبارات يصفونها بأنها دينية ويعنون بذلك (رجال الدين) وهنا مهزلة عقلية عجيبة! كيف يباح. تمثيل بلال وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وأمثالهم، ثم يحظر إظهار حمزة وأبي بكر وعمر وأمثالهم. .؟ ألم يسو الإسلام بين الجميع. .؟ أليس لأولئك اعتبار كهؤلاء إن كان الاعتبار يمنع الظهور في ثوب التمثيل؟ إن معنى هذا التفريق أننا نستشعر تلك الجاهلية ونصطنع تلك الأرستقراطية

ص: 42

ونعد أولئك الأبطال لا يزالون أرقاء ومستضعفين. .؟

ومهما يكن من شيء فقد حقق الفلم غايته وصور ذلك الجو الذي قصد إليه أبدع تصوير وأروعه، وكان جهد المخرج والممثلين في ذلك ظاهرا رائعا، فمناظر الفلم وحركات الممثلين فيه وقوة تعبيرهم تنقل المشاهد إلى زمان الأحداث وأماكنها، وتشعرهم جلالها وروعتها، وخاصة مناظر التعذيب التي تبدو فيها الأجسام تعذب والوجوه مطمئنة إلى ما وعد الله، لا يظهر عليها أي أثر للألم، وقد مثلت غزوة بدر وصورت في صدق وروعة من حيث تنظيم الصفوف والمبارزة ثم الاشتباك ورمي السهام من الأقواس. . . الخ.

ذلك، ولم يكن من اللائق في هذا الفلم أن تظهر راقصتان في بعض أندية قريش، ترقصان على نحو لا يتفق وجو الفلم والغاية التي يرمي إليها، وهو فلم نظيف فلا تتفق نظافته مع هذا الرقص. على أن المنظر لم يكن موفقا أيضاً من ناحية الصدق الواقعي التاريخي، فهو رقص مصري عصري، وزي الراقصتين كذلك مصري عصري لا يميزه عن المصرية العصرية إلا السراويل.

وثمة ملاحظة أخرى وأخيرة، وهي أن الممثلين لم تكن تتغير سيماهم في الأعمار المختلفة، وخاصة كوكا في دور سمية، فقد كانت هي إياها تقريبا في شبابها وشيخوختها، وكذلك كانت نضارة الشباب على وجه ياسر وهو في شيخوخته، حتى لقد كان أنضر من ابنه عمار. .

وبعد فإن هذا الفلم يكفر عن فن السينما ويضع كثيرا من أوزاره، ونرجو أن يكون ظهوره فارقا بين عهد جاهلي قديم وبين مستقبل جديد قويم.

تأبين عبد العزيز فهمي باشا

أحتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بتأبين المغفور له عبد العزيز فهمي باشا يوم السبت الماضي بدار الجمعية الجغرافية الملكية. وكان خطيبا الحفل معالي الدكتور طه حسين باشا وسعادة الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا.

تحدث الدكتور طه حسين باشا عن الفقيد العظيم محللا جوانب شخصيته ونواحي حياته المختلفة، ومما قاله معاليه: كان تلاميذه وأصدقاؤه يظنون أنه مخلد، وكانت قوة قلبه وعقله تعينهم على هذا الظن، فقد شاخ جسمه ولكنه ظل شاب العقل والقلب. كنا نسعى إليه حين

ص: 43

عجز هو عن السعي إلينا، فنسمع منه ما يمنحنا القوة والجلد. كان ذكاؤه لا حد له، يفطن إلى دقائق الأشياء، ويفهم في سرعة، وقلما يخطئ فيما يفهم بسرعة، وكان إذا اقتنع بشيء مضى إليه كالسهم، كان لا يعوج في تفكير أو قول أو عمل. امتاز في أثناء الطلب وبعد التخرج في الحقوق وفيما تولى من مناصب، حتى إذا كانت الحركة الوطنية كان أسرع الناس للاستجابة إلى دعوة الوطن حين دعا أبناءه إلى الجهاد والكفاح، وكان العقل المدبر في الحركة الوطنية، جاهد مع أصحابه ما وسعه أن يجاهد معهم ثم حالف بعض الشيء فلم يداهن ولم يعوج، وإنما مضى فيما يراه حقا. كان في خصومته عنيفا أشد العنف لأنه كان في اقتناعه عنيفا أشد العنف. كان يرى رأيه قطعة من نفسه إذا سلم فيه سلم في قطعة من نفسه، ولم يسلم في رأيه حتى أسلم نفسه للموت، وكان عنيفا في حبه عنيفا في بغضه، يحب فيرى أن من يحبه كأنه قطعة من نفسه، وإذا أبغض فحظ من يبغضه كحظ من يحبه في العنف والتطرف. وكان مثقفا كأوسع ما تكون الثقافة وأعمقها، كان الناس يرونه إماما في الفقه والقانون، ولكنه كان كذلك إماما في اللغة والأدب، لم يكتف هو وصديقه لطفي السيد بما سمعا في المدارس وما سمعاه من شيوخ الأدب، بل كانا يقرآن ويدرسان. ولقد كان يدهشنا نحن المعممين - أن نراهما - وهما من المطربشين - يدرسان القرآن والتفسير دراسة تفطن وتعمق. وقد سمعته مرة يفسر سورة الطور لجماعة من أهل بلده، وينبه إلى أسرار فيها لم يلتفت إليها أحد من المفسرين، ويقول إن جو السورة يمتاز بالحركة السريعة والصور المتلاحقة، وكان يمثل في قراءته آيات السورة هذه الحركة. وأذكر أني أهديت إليه نسخة من كتابي (جنة الشوك) عند ظهوره، وفي اليوم التالي اتصل بي وقال أنه فرغ من قراءة الكتاب ويريد أن يلقاني، فذهبت إليه، وتحدثنا فعرفت أنه قرأ الكتاب من ألفه إلى يائه، وأبدى ملاحظاته فيه وهي ملاحظات دقيقة منها ما يختص بإطناب حيث أحسن الإيجاز وإيجاز حيث يستدعي المقام البسط والتطويل، ومنها ما يختص بوضع كلمة مكان أخرى. . . الخ، ثم دفع إلي النسخة وقد كتب هذه الملاحظات عليها؛ كي أنظر فيها عند إعادة الطبع، ولا زلت أحتفظ بهذه النسخة.

ثم قال الدكتور طه باشا: إننا يوم شيعنا عبد العزيز فهمي إنما شيعنا الجانب الخير الممتاز من حياتنا، فقد كان شطرا خطيرا من حياتنا المصرية التي يجب على الأجيال القادمة أن

ص: 44

تدرسها لتنهج على منوالها.

ثم ألقى سعادة الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا كلمته في تأبين الفقيد، فابتدأ بقوله: إن الرجل الذي نؤبنه اليوم كان يمثل جيلا كاملا، بما ينطوي عليه هذا الجيل من علم ووطنية وأدب وثقافة وتفكير، وإن جوانبه المتعددة كانت تصدر جميعها عن وحدة تتمثل في شخصية قوية عنيفة، إذا هي أحسنت قوتها امتلأت إباء وأنفة، وإذا هي واجهت الأحداث التهبت عنفا وثورة. وكان في الفقيد كبرياء وتواضع، كلاهما يصدر عن أصل واحد هو هذه الشخصية القوية العنيفة، ترفع رأسها تيها على الأقوياء، وتخفض جناحها رحمة بالضعفاء. وبعد أن تحدث عن قوته وعنفه ومكافحته في حياته القانونية والسياسية، قال: وهو قوي عنيف مكافح في حياته الأدبية والفكرية يوم نادى أن تكون الكتابة بالحروف اللاتينية، ويوم ثار على مبدأ تعدد الزوجات، ويوم نفر ممن قال إن القانون الروماني مأخوذ من الفقه الإسلامي، فعكف في آخر حياته على الكتابة في القانون الروماني وهو أجف مادة في القانون. وقال: كان الفقيد أديبا من ذلك الطراز القديم، له أسلوب عربي رصين عريق في عربيته، يصعد إلى الأصول الأولى من العربية، ويحلق في سماء الأدب كما هو مسطور في كتبه الأصيلة، وبقيت ملكة الشعر تختلج في نفسه فيقرضه حتى في أواخر أيامه.

وأفاض سعادة السنهوري باشا في الحديث عن حياة الفقيد القانونية وأثره في المحاماة والقضاء وجهاده في سبيل إلغاء الامتيازات الأجنبية وما تخلل ذلك من مواقفه المظفرة المشرفة، ثم اختتم هذه الكلمة الفياضة بقوله: كان الفقيد يؤمن بالله إيمانا عميقا، ولكنه كان يؤمن بقلبه وبعقله، وهذا هو إيمان الرجل المفكر القوي، يتحدى به إيمان الرجل المستسلم العاجز. والآن وقد رحل إلى عالم الخلود، أتراه كشف عن هذا السر المستور الرهيب، الذي كان يجيل فيه عقله القوي، فلا يكاد يهتدي إلى شيء بغير معونة من قلبه، أم تراه علم أن هذا العقل البشري لا غناء فيه لدى عالم قيم الأشياء فيه وطبائعها تغاير ما عرفناه بعقولنا من قيم وطبائع. كان الفقيد يمثل جيلا كاملا مباركا على مصر، باكورته محمد عبده زعيم النهضة الدينية، وسعد زغلول زعيم النهضة الوطنية، وقاسم أمين زعيم النهضة الاجتماعية، وكان هو من خواتيم هذا الجيل، زعيم النهضة القانونية.

ص: 45

منوط به ومناط به:

قرأت ما كتبه في العدد الماضي من (الرسالة) الأستاذ محمد محمد الأبشيهي، منكراً على قولي:(وها قد صار الأمل كله مناطا بالحكيم) ذاهبا إلى أن كلمة مناط لم تصح في اللغة العربية بهذا المعنى وأن الصحيح (منوط به) فقط، مستندا إلى ما رأى في المصباح المنير والقاموس المحيط من ورود الفعل (ناط) ومشتقاته دون (أناط).

وإني أشكر له تحيته وأدبه في المناقشة، وأقول: ليس من السهل أن يحكم المرء بأن كلمة ما لم تصح في العربية، وليست اللغة كلها في المصباح المنير والقاموس المحيط. جاء في أقرب الموارد:(أناط به إناطة: علقه) وجاء في المنجد: (إناطة إناطة بكذا: علقه) فمناط من الفعل (أناط) الوارد في هذين النصين، ولا حرج.

عباس خضر

ص: 46

‌رسالة الفن

حول النحت الفرنسي المعاصر

للأستاذ أحمد محمد حسنين

منذ أسابيع قليلة أتيح لنا أن نشاهد معرضا للنحت في قاعة (الليسيه فرانسيه) تضمن مجموعة غير قليلة من أعمال النحاتين الفرنسيين المحدثين وبعض أعمال طائفة من النحاتين المصريين. والأمر الذي يثير الدهشة حقا هو عدم احتفال معظم نقادنا وكتابنا بالكلام - مجرد الكلام - عن النحت الفرنسي بالرغم من أن فرصة مناسبة قد سنحت للمقارنة بينه وبين النحت المصري. ونود قبل أن نجري حديثا عابرا عن النحت الفرنسي المعاصر أن نوجه الشكر إلى معالي الدكتور طه حسين باشا صاحب الفضل الأول في تهيئة هذا المعرض النادر. ولعلنا في غير حاجة إلى التكلم عن عراقة فن النحت والتطور الذي أصابه على مر العصور نتيجة للتطور الاقتصادي والاجتماعي الذي عرفته شعوب العالم. ومن المعروف أن المذهب (الكلاسيكي) قد ظل سائد خلال القرن الثامن عشر، وأن الثورة الفرنسية قد أثرت في النحت تأثيرا كبيرا على نحو ما أثرت في سائر الفنون والآداب. وإن المثال الفرنسي (ريد) ليجئ في مقدمة المثالين الذين استجابوا للأثر العميق الذي أحدثته الثورة في النفوس. وإنا لنلحظ ذلك - بصفة خاصة - في تمثاله المعروف (سفر المتطوعين) الذي يجسد بعض شخصيات عصره ويحملها بالرمز لكي يؤكد فكرة مستوحاة من الثورة الفرنسية. ولقد كان القرن التاسع عشر أحفل عصور التاريخ بالنشاط الفني المتعدد المذاهب والاتجاهات. ولئن كانت التماثيل ذات الموضوعات التاريخية قد سيطرت في ذلك الحين - بدلا من التماثيل ذات المضمون الأسطوري - فليس من شك في أن حركات التجديد قد ولدت خلال هذه الفترة أيضا. ولقد بذل الكثيرون من النحاتين أمثال (دالو و (رودان أعظم مجهود في سبيل ربط النحت بالحياة ومشاعرها العميقة بدلا من التاريخ وأحداثه العامة، وإن روح هذا المتجه قد أثرت في كثير من المثالين وفي مقدمتهم (فريمييه و (بورديل وأخذ عنصر (الحركة) يظهر في المنحوتات حيث وصل إلى أقصى غاياته في تماثيل وتصاوير المصور المثال (إدجار ديجا وبالرغم من وجود أنصار للمدرسة الفرنسية التقليدية التي تنشد مثالياتها في الفن الإغريقي بجماله ورقته واتصاله

ص: 47

الشديد بالطبيعة، أو الفن الروماني بمظهره القوي المترف، فقد ظلت حركة التجديد مستمرة قوية شديدة الطموح لا تقف عند حد. ومن الصعب أن نحصي أسماء المجددين ونوضح مقومات فنهم، ولذلك نكتفي الآن بمجرد إشارات سريعة إلى بعض هؤلاء الفنانين.

فهناك النحات الرسام فرانسوا إتيان كابتيه (وقد مات حوالي سنة 1902) الذي أنتج عدة تماثيل معبرة عن مختلف الأفكار والعواطف والحالات النفسية ونذكر من بينها تماثيل (آدم وحواء، والطوفان الأخير، واليأس). وهناك المثال (جوست بيكيت)(وقد مات حوالي سنة 1907) الذي نبه ذكره منذ عرض بعض تماثيله في معرض (الصالون الفرنسي) حوالي سنة 1857، والذي حاول في عدة تماثيل أن سيتلهم الفن الفرعوني ويزاوج بينه وبين الفن الحديث وذلك بإدخال عنصر الحركة. وأما المثال الشهير (أوجست رودان) فمن الأسماء التي أكدت وجودها في عالم النحت. فمنذ عرض تمثاله (الأنف المكسور) حوالي سنة 1870 أثار عاصفة من الجدل لم تلبث أن اشتدت حين عرض تمثالي (القبلة) و (يد الله). ولقد وجهت إليه أعنف سهام السخرية وأقسى أحكام النقد ولكنه لم يعبأ بشيء ومضى في عناد يحقق وجهة نظره في النحت. كان (رودان) مشغوفا بالتعبير لا بالجمال فحسب ولذلك فقد كان يجسم - وقد يبالغ - عواطف البشر ومشاعرهم وأفكارهم العميقة. وهو بعمله ذاك يصنع (الشخصية) في النحت. وهي شخصية بطولية إن لم تقم بطولتها على العضلات المفتولة والجسد المتين البناء (على نحو ما نجد في تماثيل ميكل إنجلو) فقد قامت على تعبير نفسي أو فكري يرهق الكائن البشري.

وأما المثال (أنطوان بورديل) فقد بدأ حياته الفنية متأثرا بنفوذ أستاذه (فالجيير) ثم لم يلبث أن خرج عليه وثار على الفن (الأكاديمي). وأخذ يعمل مع المثال (رودان) منذ عام 1896 ثم مضى في النهاية يحقق أسلوبه الشخصي الذي يميل إلى البناء وفي نفس الوقت يعطي صورة هندسية لما يحتفظ به المثال من ظلال رومانسية. وهو لم يتخل عن عنصر الحركة وعن كل ما هو (درامي) ولكنه يحقق التوازن فيما يختار من العناصر والقيم الفنية.

أما (أرستيدل مايول أستاذ النحت المعاصر الحقيقي - فهو يركز كل مواهبه في (البناء) على نحو يؤكد الإحساس بعناصر الحياة الأصلية في الكون، وفضلا عن ذلك فهو يثبت قيم النحت الأساسية التي أدركها الفراعنة والإغريق. لقد استطاع في براعة أن يضع الحسد

ص: 48

الفاصل بين القديم والجديد، وأن يمهد السبيل الحقيقي للنحت الحديث وساعده على ذلك ميله الشديد (للفورم) النسوي. وإنه ليخضع كما يقول الأستاذ. أ. هربلان) بتواضع لاحترام قوانين عالم النحت.

ونستطيع أن ندرك قيمة التجديد الذي أعلنه القرن العشرون حين نتأمل مجموعة تماثيل الفنانين المعاصرين أمثال جوزيف برنار و (بومبو والأول قد مارس التشكيل المباشر على نحو جديد شديد التأثر بالاتجاه العصري. والثاني أكثر جرأة وأقل احتفالا بالقيم الكلاسيكية، وهو قد ذهب بعيدا منذ أرجع (السلويت) الحيواني إلى أوضاعه المبسطة فساعده ذلك على الانتقام من التجسيم الأولى إلى التجسيد الهندسي وإلى المناظر التخطيطية. والحق أنه قد أختار الموضوعات المناسبة تماما لأسلوبه القائم على التبسيط. . . . أختار بعض الطيور كالدجاجة والوزة في أكثر وضعاتها ألفة وأقلها (دراماتيكية).

ولئن كان هؤلاء الذين أشرنا إليهم قد وضعوا أسس التجديد فإن أمثال (زادكين وليبشيتز ولورا وجارجالو قد حاولوا الوصول إلى أبعد آماد التجديد. فهم قد نفروا من كل ما هو محسوس وأعرضوا تماما عن الحياة الحسية وآثروا مجال الإطلاق (لفن عقلي بحت). ويرى (هربلان) أن استعمالهم مختلف الخامات (كالحديد والصلب المضروب والخيوط المعدنية) قد سهل عليهم إنتاج ما سماه (بالتركيبات المجانية) أي التي لا هدف لها). وإنه ليرى - أيضاً - أن تأثيرات التكعيبية والفن الرنجي معا قد جعلت بعض الفنانين يميلون إلى اعتبار النحت من مسائل (التشكيل البحت).

ومهما يكن الأمر فإن استعمال هذه الخامات الجديدة (في النحت) قد أظهر هذا النوع من النحت الذي لا يشغل مسافة ثابتة في الفضاء وإنما يترك الفضاء لينساب من بينه. ويقول هربلان (إن النحت الشفاف الذي نراه عند (ليبشيتز) والأشكال المفرغة عند (زادكين) لا تستبعد الغنائية ولا الروحية، بل إن تمثال (النبي) القفصي الصنع (لجارجالو) يعتبر من الروائع. ويضيف (ويبدو أن بيكاسو - وهو الرسام العجيب - قد اختار أن ينسى عبقريته ليقتصر على استثارة ما هو واقعي وممكن الحدوث، وذلك في تركيباته اللغزية وبواسطة تفصيل واحد موحي كعين أو خد أو أنف ممسوح أو ساق تخرج على المعقول في نسبها. . .

ص: 49

ويبقى العقل حائرا أمام هذه البحوث التي لا تجد فيها الحواس حقها المشروع. . . وحتى العقل لا يتقبل النتائج إلا في شكل إحصائي وباعتبارها نتائج مرحلية لا آثارا فضلا عن أن تكون آثارا رائعة) وعلى الجملة فإن النحت الفرنسي قد قفز فيما بين 1900 - 1950 قفزة غير عادية لعل الأذهان (العامة) لم تتهيأ بعد لفهمها. . . لقد انتهى عهد النحت النظري والمطابق للطبيعة وكذلك النحت التشكيلي البحت، وجاء عهد النحت الذي يطلقون عليه اسم النحت (الموسيقي المتحرك. .؟). ومهما يكن الرأي في هذا النحت الجديد فهو قد أعطى للفكر فرصة لم تتح له من قبل. ونرجو أن نعود في فرصة أخرى إلى تفصيل موضح.

أحمد محمد حسنين

ص: 50

‌البريد الأدبي

أحبب حبيبك هونا ما

كتب الأستاذ محمد عبد الله السمان في الرسالة يقول، إن كلمة أحبب حبيبك هونا ما. . هي حديث شريف رواه الترمذي عن أبي هريرة، وذكر أنه نقل ذلك عن كتاب إحياء علوم الدين للأمام الغزالي. ونحن نقول أن هذا الحديث رواه غير الترمذي عن أبي هريرة وغيره ولكنهم تكلموا في كثير من رجاله. ويبدو أنه من قول علي رضي الله عنه فقد رواه عنه موقوفا الدارقطني وابن عدي والبيهقي.

وقد جاء عن الحسن: أنتقوا الأخوان والأصحاب والمجالس، وأحبوا هونا، وأبغضوا هونا فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا، وإن رأيت دون أخيك سترا فلا تكشفه.

وفي كتاب الإحياء كثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.

المنصورة

محمود أبو رية

تعقيب على نسبة بيت

عقب الأستاذ محمد الجندي على الكلمة (طرابلس وليست ليبيا) المنشورة بعدد الرسالة الغراء السالف بشأن نسبة بيت المتنبي الذي ورد بها، وأن المراد بطرابلس المذكورة فيه إنما هي طرابلس الشام الخ، وكنا نورد من الأستاذ الكاتب أن يذكر لنا المصدر التاريخي في تصحيح هذه النسبة حتى نطمئن إلى ما يقول. وإذا كان قد عثر على هذا النص فعليه أن يقوم بمقارنة بينه وبين ما ورد في معجم البلدان ليخرج منها بمقدمات تنتج هذا الرد أو العدول عنه. فياقوت أورد هذه الأبيات وهو بصدد ذكر طرابلس الغرب. وذكر أنها مقولة في الممدوح المذكور المغربي، لا أنها في الخلكان الشامي. وكنت أحب للمدرس الفاضل - وهو بسبيل الرد على النصوص التاريخية - ألا يبني تعليقه على مجرد الحدس والتخمين. وأخيراً تحياتي إليه.

مختار محمد هوليسه

ص: 51

تصويبات لغوية

1 -

يقف يعضهما لبعض بالمرصاد

. . هذا تصويب عبارة للأستاذ الكبير أبي الفتوح عطية في مقاله عن (إيران) بالعدد (928)، وقد أوردها هكذا:(ذلك أن روسيا وإنجلترا أتتفقان لبعضهما بالمرصاد). . وأحب أن ألفت النظر إلى أن هذه غلطة شائعة تصدر كثيرا عن أقلام الكاتبين، فلا معنى لأن يقال: إن روسيا وإنجلترا مجتمعين تقفان لروسيا وحدها، أو لإنجلترا وحدها، وإنما يقف بعضهما لبعض). .

2 -

حيثما تولي وجهك تر الجمال

. . هكذا توجب قواعد اللغة بحذف الياء من (تولي) وحذف الألف من (تر) لأنهما فعلا الشرط وهما مجزومان بحذف حرفي العلة، وبهذا يتضح أن تعبير الأستاذ أنيس الحوراني في مقالة عن (الطبيعة) في هذا العد المذكور خطأ إذ قال (حيثما تولي وجهك ترى الجمال) وصوابه ما قد رأيت. .

3 -

وإنما الخالدون نحن يا غائبة

. . هذا بيت من الشعر ورد في قصيدة الأستاذ محمد الفيتوري بالعدد المذكور وقد سقطت منه (يا) النداء، ووزن البيت يقتضيهما كما رأيت، لأن القصيدة من بحر (المنسرح) المجزوء المعروض والضرب فوزن البيت (متفعلن مفعلا) في كل من الشطرين، وإسقاط (يا) يكسره كما يفقه ذلك من له دراية بعلم العروض. .

محمد محمد الأبشيهي

ص: 52

‌القصص

يوم المعجزات

للشاعر الألماني: هزيك هايني

بقلم الأستاذ عبد اللطيف حسين الأرناؤوط

. . . أطلت الأم من النافذة، ومدت طرفها إلى الطبيعة الهادئة الساكنة وتمنت لنفسها الطمأنينة والسكينة. وكادت أن تتمتع بهما لولا ابنها الوحيد الذي أخذ يتقلب على سرير الحسرة والألم بعند ما فقد الأمل والرجاء من مليكة قلبه ومسرة روحه التي كانت هدفه في هذه الحياة. . .

إنه شاب في مقتبل العمر. . . دغدغ الحب بأنامله الناعمة أوتار قلبه لأول مرة، شأن كل شاب عندما يفتح عينه لحياة جديدة. . . حياة الحب. . . فيلمس أن قوته تنهار ويشعر أن عزيمته تهن أمام هذا الهيكل الجبار الذي لم يدع قلبا من الجنسين إلا توغل فيه واستقر في إحدى زواياه هادئا. . . مستكينا. فلا يشعر المصاب به إلا بعد ما يفارق حبيبه. . . عندئذ يحس كأن كابوسا جثم فوفه فملك عليه حواسه. .

ولم يطل مكوث الأم أمام النافذة حتى أحست أن ابنها الوحيد (ولهلم) قد استيقظ من سباته العميق. . . وابتعد عنه ذلك الكابوس الذي استولى عليه سواد الليل. . . ولم يفارقه بالرغم من المحاولات التي بذلتها نحوه. .

وسارت إليه بخطى وئيدة واقتربت منه وأقتعدت كرسيا بجانب السرير وسألته بصوت ملؤه الحنان والرأفة بعد ما أوشك الدمع أن يطفر من عينيها الذابلتين:

أي بني. . ألا يمكنك أن تنهض؟ ها هو الصباح قد تغلب على ظلام الليل بجيوشه البيضاء. .

ها هو قد أخذ يلوح لنا بشعاعه الرقيق. لنا نحن التعيسات حيث نشارك الليل مخاضه. . . وقلوبنا تقف حائرة بين أضلعنا. . لا ندري ما يخبئ لنا الدهر. وما يضمره الغد.

ها هي تباشيره تبدو على الأفق البعيد. . . ألا يمكنك أن تخرج معي (يا ولهلم) ألا تستطيع أن تشارك الطبيعة بهذا اليوم. .؟ أنه يوم مفعم بالمسرات والمعجزات. . . فهو عيد الآلهة

ص: 53

العظيم عيد الجمال. عيد الحسان. عيد المعجزات والخوارق. .

لا يخفى عليك يا بني أنه سيمر موكب الكهنة من الشارع القريب منا. . . وستشاركه فرق الموسيقى. . . وستصدح بموسيقاها العذبة وألحانها الندية حتى تحيي في قلوب العذارى الطاهرات أملا وعزيمة لاستقبال الحياة الباسمة. . . ولتبعث في نفوسهم رجاء للمضي في سبيل العيش الهنيء. .

هؤلاء العذارى اللواتي حباهن الله بالطهر، وألبسهن ردأ العفة، سيمررن اليوم وعلى يد كل واحدة منهم سلة ملئت بالورد والزهر. . . كي تنثره على الجماهير التي ستحتشد على جانبي الشارع إكراما لهذا اليوم. . وتبجيلا للعيد العظيم. .

حاول يا بني. . حاول أن تنهض. حاول أن تقف على قدميك، حتى يبسم قلب أمك ويضحك فؤادها المكلوم. . فآنت قرة عينها الوحيد بعدما ترملت بعد أبيك. . أنت البلسم الشافي لجرح أمك العميق الذي لن يندمن من حزنها وألمها على أبيك. . فلا تدع الحسرة تستقر في قلبك، هذه الحسرة التي جعلتك طريح الفراش، حسرة الحب والهيام. .

فأجابها (ولهلم) بصوت تكاد الزفرات تخنقه: بالله عليك. . يا أماه دعيني. . دعيني وشأني. . فليس في مقدوري أن أنهض. . ولا أريد أن أسمع شيئا، لأنني أكاد لا أفهم ولا أميز أي شيء. . كأنني يا أماه أرى النور ظلاما. . وأشعر السرور عذابا. . إذ أحس بنار تتأجج في صميم قلبي. نار خفية لا أدري ما كنهها. . ولا أعلم ما سببها إلا أنني أعتقد أن مصدرها موت حبيبتي جريتش. جريت. .

وكاد الصوت يخونه عندما لفظ اسمها ولكنه تمتم مردفا: أنا اليوم يا أماه. لا أفكر إلا بها. . فبموتها قد أظلم عالم الحياة الهنيئة عالم الحب البهيج، وأقفرت وديانه، وتبددت أخيلته، وافتضحت أوهامه. فاستحال مقبرة موحشة لا حياة فيها. . وذلك بعد ما غادرتني حبيبتي إلى دنيا السعادة الهانئة، وتركتني على فراش الألم والحسرة.

وما إن سمعت أمه ذلك حتى تسرب إلى قلبها الخوف والهلع وغمرها الأسى. . فصاحت من أعماق فؤادها: ولهلم. . رحمة بقلب أمك، ورأفة بحياتها. . أنت عزاؤها الوحيد. أنت هناؤها وسعادتها. رفقا بأمك. . انهض. . وتوكأ على ذراعي وجرب أن تخرج معي حاملا مسبحتك البراقة ومرافقا كتاب الصلاة. . أنهض كي نذهب ونرتل معا. ونصلي أمام هيكل

ص: 54

الله. . فهذا هو الموكب قد حان وقت خروجه، موكب العيد. . عيد الإله العظيم. . الذي لا ريب أن يرحمك اليوم. . ويعطف عليك. . ويشفيك من مصابك الأليم. .

هيا انهض يا ولهلم. . ها هي الموسيقى قد ارتفعت في الأجواء. وأخذت تشنف الآذان. . ها هو ذا الموكب يقترب من الشارع. .

وشعر ولهم كأن قوة خفية توغلت بنفسه بعد ما أنصت لحديث أمه فتحامل على نفسه وجمع فلول قوته. . واستند إلى ذراع أمه. . وخرج برفقتها من البيت. بيتما كانت الشمس تتهادى في صفحة السماء وهي تلقي على الطبيعة أشعتها الناعمة كأنها توقظ الكون وتبعث فيه الحياة من جديد.

كانت الأعلام المقدسة تتراءى من بعيد وهي تخفق وتترنح في الفضاء كأنها تحيي الجماهير المحتشدة المتحمسة لهذا اليوم العظيم. . فقد غادرت منازلها وخرجت إلى الشارع زرافات ووحدانا وأخذت ترتل الأناشيد بينما كانت الموسيقى تصدح مرافقة أصواتهم فتمتزج بها في الفضاء وتسير مع الأثير إلى أن تستقر أخيرا في آذان الجماهير فتبعث فيهم روحا فياضة بالنضال والكفاح والأمل. وأبت أفواج العذارى الطاهرات إلا أن تشارك الموكب كعادتها لتنثر الورود والزهر على الناس وتوزع الابتسامات العذبة عليهم. .

انه يوم العيد. . يوم فريد في حياة الأمة. . بل في حياة ولهلم المسكين. وفي حياة هؤلاء العجزة والمرضى الذين ابتاع كل فرد منهم شمعة من كاهن ثم أوقدها وتأهب لغرسها في الحوض الرملي الواسع الذي أقيم في الساحة الكبرى تجاه هيكل الإله العظيم. .

ٍكانت الأم تشق طريقها بين الجموع الزاخرة بعدما ابتاعت شمعة ناصعة البياض وقدمتها إلى وحيدها وقالت له:

خذ يا ولهلم هذه الشمعة. . وأوقدها ثم اغرسها في الحوض الرملي تجاه الهيكل العظيم. . ثم صل هناك، وابتهل إلى الله واجث أمامه فلا بد من أن يستجيب لك فيشفيك من سقمك. لا بد يا بني في هذا اليوم الأغر. . في هذا اليوم المقدس من أن تظهر المعجزة. . معجزة من معجزات الإله الرائعة. . فيريحك من عذابك وينقذك من مرضك. . وتناول ولهلمالشمعة من يد أمه شاكرا لها صنيعها وأرشادها وانطلق بها صوب الهيكل. . فأوقدها وغرسها في الحوض الرملي الواسع كما أشارت عليه أمه. . وجثا على الروض

ص: 55

المعشوشب. . وأخذ يبتهل إلى ربه ويناجيه بقلب محطم. . بينما كانت الدموع قد أخذت سبيلها إلى الانطلاق. الهي. . . لقد ماتت حبيبتي. . وغادرتني بعد ما سلبت مني السعادة والهناء. . فتركتني في دنيا مظلمة. .

إلهي. . . ماتت حبيبتي جريتش وخلفت في قلبي جرحا عميقا يأبى أن يندمل. . فباسمك يا الهي. . . أصنع المعجزة واشف قلبي الجريح. . وخذني حيث هي الآن. . . أشفني رحمة بأمي المسكينة. . لا رحمة بنفسي يا الله. . .

واستغرق في صلاته فترة. . . بينما كانت الأم من ورائه تتمتم: لا بد من المعجزة. . لا بد أن تجد السعادة يا وحيدي. .

وقفل ولهلم وأمه إلى البيت؛ وما ولج الباب حتى أسرع إلى سريره واستلقى فوقه ينشد السكون والراحة وينتظر المعجزة. . ولحقت به أمه، ودنت منه، وانحنت عليه، فإنتقض ولهلم في هذه اللحظة في سريره ومد ذراعيه إلى أمه ثم صاح في نشوة جذلي. وفرحة جنونية: لقد وقعت المعجزة يا أماه. . الآن أرى حبيبتي جريتش! هاهي قد لفت ذراعها حول عنقي. . . إنها تناديني لأرافقها إلى فردوسها العلوي. . . الوداع يا أماه. . . أنا الآن مرتاح مع حبيبتي جريتش. . . لقد وقعت المعجزة. . فلا تحزني علي. . ولا تذرفي الدمع. .

ورفت أهدابه كجناح طير. . وأسبل عينيه. . وصعدت روحه إلى بارئها لتستقر في جنة السعادة والهناء مع حبيبته جريتش. . .

دمشق

عبد اللطيف حسين الأرناؤوط

ص: 56