الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 93
- بتاريخ: 15 - 04 - 1935
العام الهجري 1354
ها هو ذا العام الجديد يهُل، فأين السجل؟ تعال نقرأ ما خطه التاريخ في صفحتنا التي طواها الدهر أمس! هل انفرجت خوانق الأغلال قليلا عن الرقاب العانية؟ هل انجلت غواشي الغفلة عن العيون السادرة؟ هل إنجاب قتام الذل عن النفوس العزيزة؟ هل ائتلفت على عوادي الخطوب هذه القلوب الشتيتة؟ هل اقتنع المعتدون والمستبدون أننا ماض ينبعث، ومجد يستيقظ، وأمة تريد أن تستأنف بلاءها في جهاد الناس، وتستعيد مكانها من صدر الوجود؟
رويك لا تطل النظر فلن تجد فيه وا أسفاه إلا عبر عينيك!! لقد طويت هذه الصفحة كما طويت قلبها تلك الصفحات على بياض غير ناصع! وإن تاريخنا لا يزال يكتب عرضاً في تاريخ الدول، أو لحقا في تاريخ إنجلترا! فليس له في التقويم العربي حساب جارٍ، ولا في سفر العالم فصل مستقل!
لو كنا نسير إلى الوراء لعثرنا يوماً بمجد المصريين والعرب، ولو كنا
نسير إلى الأمام لظفرنا يوماً بمجد الفرنسيين والانجليز، ولكنا سقطنا
من الونَى والوهن في طريق الإنسانية، يخطو فوقنا الركب، ويدور
علينا الفلك، حتى رن في أسماعنا صوت الأجداد يُهيب صارخاً
بالرقود، فنهضنا نهضة المنبت الحائر نستلهم الأعراق، ونستنبئ
الدلائل، ونتملق الأحداث، ونستحث القادة؛ ثم انقضى على هذه النهضة
المتلكئة قرن، وما نزال شملاً يتجمع، وأملاً يتطلع، وعزماً يشب.
متى السير إذن يا هادي المحجة؟! لقد مللنا قرع الطبول ودق البشائر، وقتلنا الزمن في تأييد رأي وتفنيد رأي، وأضعنا الجهد في عقد لواء وحل لواء، وخجلنا من هذا الموقف السلبي الذي يرصد الأهب في الخيال، ويصور الخطط بالشعر، ويطلب النضر في أحلام المنى!
انطوت صفحة العام المنصرم ولم تسجل في أوطان العروبة غير الأسى والألم: سجلت في مصر كما سجلت من قبل أهواء تتصارع، وأطماعاً تتعارض، وفردية تطغى، وأثرة تسف،
وخصومة تكيد، وشعباً يكابد داء الضرائر في زعمائه، ويكاد يستجير بعدوه من أوليائه، وينظر فيرى في يده العتاد وفي طبعه الاستعداد، ثم لا يزال برغم ذلك وضيع الشأن في الحياة، مسلوب الإرادة في الحكم، مبذول المقادة للغاصب.
وفي العراق سجلت أحداثاً ترمض القلوب وتثير دفائن الهم، من دبيب العقارب بين الجيرة، وسعي النمائم بين الاخوة، وتمكين الطائفية للنفوذ الدخيل!
وفي الشام سجلت تفرق الكلمة بالوعود، وتمزيق الجسم بالحيلة، وتسكين الألم بالمرقد؛ كذلك سجلت في المغرب دموعا يمسحها اللاطم بكفه، ووشائج يقطعها الظالم بسيفه، ونفوساً ينزو بها الحفاظ للجنس والدين فتركض في القيد، وتضطرب اضطراب المهيض في القفص.
ثم سجلت في شبه الجزيرة فعل الفقر البئيس في دار الهجرة وملاذ الدعوة، ومطمأن الضريح المقدس.
أما السطور الحمر التي خطتها لفلسطين البائسة، فمن صبيب دمائها كان المداد، ومن نشيج بكائها كان الكَلِم: هي إعلان يبعها القهري في سوق السياسة، يتزايد فيه أهلها العرب بالحق - والحق رأي واجتهاد، وبالقانون - والقانون ورق ومداد؛ ثم يهود العالم كله بالذهب - والذهب إله وشيطان، وبإنجلترا - وإنجلترا أسطول وبرلمان! فالعرب في فلسطين مقضي عليهم بالقتل والتشريد، وإخوانهم في الأوطان الأخرى ينظرون إليهم نظر العواد إلى المريض المشفى، يسعفونه بالدعاء، ويؤاسونه بالبكاء، والدعاء لا يرفع الواقع، والبكاء لا يدفع الموت.
هذه عناوين الصفحة المطوية ليس بينها عنوان جميل، فليت شعري ماذا اتخط أقلام القدر في صفحة العام الجديد؟!
لو كنا ننتفع بالذكريات، ونستفيد من العظات، لما بددنا الجهود في التجارب، وأفسدنا الأمور بالتردد؛ إن لنا تاريخاً إنسانياً حافلاً فيه لكل عظمية ذكرى، ولكل ملمة تجربة؛ وأن لنا دستوراً إلهياً كاملا فيه لكل مضلة هدى، ولكل قضية بينة؛ فاذا التمسنا على الطريقة التي نهجها الرسول، فتوفينا معاً على الغاية، وانتهينا جميعاً عندها إلى الوحدة.
إن الرسالة العربية التي هاجرت مغلوبة من مكة إلى المدنية، سافرت غالبة من الشرق إلى
الغرب، بفضل مبدئها الإلهي الذي قامت عليه ودعت إليه وفازت به، وهو توحيد الله، وتوحيد الكلمة، وتوحيد القوى، وتوحيد الغاية.
وقد استوثق الأمر لأهلها ما استمسكوا به؛ فلما تراخت العرى بينهم وبينه تقاذفتهم السبل، وتقاسمتهم الأطماع، وصار بهم التخاذل والتواكل إلى ما هم عليه اليوم.
احمد حسن الزيات
مساجلة الرمال
للآنسة النابغة (مي)
أفواج عديدة من الرمل تتململ شيئاً فشيئاً، فوجاً بعد فوج، وتتحدث في أواخر الغلس
- الظلام يولي، هارباً، وعمود الفجر يكاد ينشق، عما قليل تشرق الشمس فلا يلبث قرصها أن ينقلب أتوناً يُصلينا نار السعير.
- سيان لدينا الليل والنهار. كل يوم ننتظر من الظلام عذوبةً تحت أنوار الكواكب الواهية. ولكن حرارة الشمس تظلُ مستودعة في كياننا فنلبث في اتقادٍ واضطرام يوماً بعد يوم، وليلةً بعد ليلة.
- إنما جعلتنا الأقدار متحاذيات متلاصقات لنفرش هذه الأرض ونكون منها الصدأة المحترقة. يتهموننا بأن لمسنا يشوي اليد والقدم شياً، ولكن ألسنا نعاني في كياننا المقدور علينا من عذاب السعير؟ وددتُ لو أن لي دمعاً أذرفهُ من فرط السآمة والحنق والألم!
- طالما شهدنا الخلائق تهبط علينا وقد أضناها التعب والوصب، فنفق الحيوان على صدرنا، ومات الإنسان بين يدينا، ووجد كل منها عندنا ملجأ طبيعياً يتلقاهما ويضمهما إليه. ونحن الجائعات الظامئات المتعبات على الدوام، ليس لنا من يرثي لحالنا ويسعفنا. نحن التائقات إلى التفلت من حالتنا الراهنة، ليس لنا أن نمضي في علو ما ونهبط في مستقر غير هذا. واتعبي من هذا الوجود القاحل في ديمومة السكوت والجمود!
- ليست هذه هي الحركة التي ننشد. إن شوقاً عميقاً فينا يتلهف على حركة من نوع آخر.
- كم من حركةٍ مفاجئة خبرتُ عندما عصفت بي السموم في النهار أو الحرور في الليل! زعازع وأنواء انتزعتني في عنفٍ من مقري إلى مقرٍ آخر، فما كنت منتقلةً إلا من الرمضاء إلى الرمضاء حيث السعيرُ دائمٌ والأوارُ مقيم!
- وأنا تلقفتني العواصف غير مرة. فحطت بي يوماً عند ساحل البحر فامتزجتُ بالماء ورسبتُ في القعر. وأغفلني هناك زمناً الدهرُ الوسنان. ثم قذفت بي الأمواج على الشاطئ، فتناولتني الزوبعة الهوجاء، وردتني إلى مستقري في هذه البطحاء!
- وأنا كم حدت بي الريح إلى حيث الينابيع تتفجر والمياه تجري! إلى حيث الأرض كريمة والأشجار ظليلة، وقد نورت الأزهار هنا وهناك وهنالك على صفحة الروض،
وتشابكت الرياحين بمثيلاتها من شذى النباتات فعبق الهواء بأريج العطور!. .
- لا تذكرَن الماء والعطر والظلال لرمال شقية قضى عليها بالمحل والاضطرام والصدى، لا ترهفن فينا أشواقاً تأبى التحقيق!
- أتوق إلى الذوبان في سائلٍ ما، ولو كان ذاياك السائل القاني الذي رأيناه أحياناً على جسد الإنسان أو الحيوان! ولكننا غير قابلات للجرح الذي يغسل قحلنا بنجيع الدماء، ولن نكون يوماً قمينات بابتسامة الحياة وعذوبة الحنان. قضى علينا بأن نكون دوماً في حكم الموتى، وقد حرمنا نعماً يجنيها غيرنا في جنة الأرض.
- أنكون في حكم الموتى ونحن نشتاق ونتعذب؟ ألا ليت كل قافلة عابرةٍ تسير بي إلى حيث ينيخ الركبُ! حيث الخيمة المضيافة والناس يضرمون النار ويأكلون، وينهلون الماء ويرتوون! وا حنيني إلى هناء المضارب! وا حنيني إلى كيانٍ قابل للريّ والارتواء!
- لو كان لي أن أرجو الوصول يوماً إلى تلك الحالة الراغدة لأعانني الرجاء على الاحتمال، وكان لي منه العزاء والسلوى! ولكننا في هذه البطاح الصماء البكماء، إنما وجدنا لنقطع كل صلةٍ بين الحياة والحياة!
- ويك! ماذا تقولين، نحن قاحلات جائعات ظامئآت مشتاقات، ولكننا وجدنا لنكون صلة بين الحياة ولباب الحياة!
- أولا ترين الفجر يتلألأ في الأفق سنياً؟ غبار دقيق من النور يتناثر حولي، كأنه سحيق من الذهب والبلور. هذا يوم عيد.
- لولا هذا اليوم وما ميّزهُ بين الأيام، ما كانت تلك القوافل العديدة، قوافل الحجاج التي نراها منذ قرون وقرون ذاهبةً آئبةً.
- لقد شهدتُ القوافل ذاهبةً آثبةً منذ أن خرجت على الصحراء رملاً، وتعرفت قوافل العرب الرحل وقوافل الغزاة والمحاربين والشعراء والعاشقين. وكم من حداء سمعتُ!
- تلك القوافل تعددت ألوفاً وألوف الألوف منذ أربعة عشر قرناً، وتبدل الغرض من ترحالها منذ أن انبثق من سويداء قلب الصحراء جحفل النصر العظيم. فصارت القوافل قوافل الذكرى والعبادة والسلام، تقبل علينا في عجاجة وردية من قصيّ الابعاد حيث يخيل ان الآفاق تتحرك، وتغادرنا في عجاجةٍ وردية لتتوارى وراء الآفاق التي تحنو على
وديعتها الفريدة الغالية.
- أعرف تلك الوديعة، فقد ساقتني إليها الريح مرة! هناك مثوى ذاك الذي عرف الصحراء يلقي في أرواح الشعوب روحاً حيةً خالدة.
- فتى الصحراء! فتى الصحراء الذي اصطفاه ربهُ ليحمل الكتاب. فهجر دياره، وسلاحه كتاب فغزا به العالمين!
- الفاتح الذي لا يشبهه فاتح! إنه لم يغزُ البلدان والأمصار وكفى، بل غزا القلوب بسره، وفتح النفوس بسحره، يوم خروجه من الديار هو بدء تاريخ الهجرة. وها الناس على توالي القرون، وقد هاموا بجاذبيته النورانية، يهجرون ديارهم وخيراتهم ويقتحمون المفاوز والأخطار ليحجوا إلى البقعة الصغيرة العظيمة التي تجمع عندها معنى الديار والأوطان، وتركزت فيها ثقة اليقين وانبعث منها نور الإيمان!
- سيد الغزاة والفاتحين! إنه فتانا، فتى الرمضاء وفتى الرمال! إنه جاء بمعجزة المعجزات فأخرج الخصب الخصيب من ديار القحط والجدب!
- فتى الصحراء العجيب، ذو العينين الدعجاوين حيث أودعت السماء نطفة الضياء! إن ذكراه لممتزجة بذكرانا!
- نحن الرمال لم يكن وجودنا عبثاً كما زعمنا في أجلنا المديد الأليم! نحن الجامدات، كنا مبعث الحركة والحياة! نحن القاحلات، كنا وما زلنا سبيل الهجرة الخصيبة.
أشرقت الشمس - شمس اليوم الأول من العام الهجري. من الرمضاء تتصاعد أشباح أثيرية تدور رشيقةً في نور النهار الجديد. وقد أصبحت أفواج الرمال القريبة والبعيدة كلها جوقة واحدة تنشد:
نحن الرمال القاحلة،
لا خصب يوازي خصبنا!
نحن الرمال الجامدة
هل من حياةٍ كحياتنا؟
أُمْنيةٌ
للدكتور محمد عوض محمد
ألا منِ لنفَسي - والأماني عزيزةٌ -
…
بأرْضٍ خَلتْ من ظالمٍ ولئيمِ
وصومعةٍ شيدت على رأس رَبْوةٍ
…
مهبِّ رياحٍ: زعزعٍ ونسيم.
تُطِلُّ على بحر يعُبّ عُبابه
…
كصدرٍ لأسرار الزمان كتُومِ؛
ومن خلْفها يُنبوع ماءٍ مسلسلٍ
…
كدُرّ على نحر الصخور نظيمِ
أُطالع منها الكونَ: سِفراً، تزاحمت
…
به الآيُ، قد خطَّتْهُ كفّ حكيمِ،
وأقرأُ منها الغيب سراً محجّباً
…
بقلبٍ بصير بالخفِيّ عليمِ.
وإن زارني فيها الرَّدَىُ متَخَشِّعاً=فأهلاً به مِن زائرٍ ومقيم
محمد عوض
الهجرة
للأستاذ علي عبد الرازق
حينما فكر أولو الأمر من أهل السبق في الإسلام في اختيار مبدأ للتاريخ الإسلامي كانت هنالك حوادث ما يزال ذكرها حياً في أذهانهم، يملؤها روعةً وجلالاً.
هنالك حادث الهجرة غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم الفتح - فتح مكة - وهنالك اليوم الذي أنزل الله تعالى فيه على عباده المؤمنين:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) وغير ذلك أيضاً. كل أولئك وكثير مما لم نذكره، قد كان ماثلاً أمام أولى الأمر من أهل السبق في الإسلام يوم أرادوا أن يختاروا مبدأ للتاريخ الإسلامي، فاختاروا من بين أولئك كله حادث الهجرة - هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة - وبذلك سجلوها ذكرى بين المسلمين متجددة، وأرسلوها فيهم حديثاً مأثوراً وعبرة دائمة.
ما تحسبهم فعلوا ذلك إلا وقد عرفوا لهذه الحادثة من القدر والخطر ما لم يعرفوا لغيرها من الحادثات التي عرفوا، وإن كانت ذات قدر جليل وخطر عظيم.
لقد يبدو غريباً أن يتفق الصدر الأول من بناة الإسلام وأهل السبق والفضيلة فيه على أن ينظروا إلى الهجرة بذلك النظر، وأن يعتبروها أهم الحوادث في الإسلام وأبرزها وأبلغها في نشأته أثراً.
والذين يقرءون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قد يدركون في غير مشقة أن هذه الهجرة كانت في الحق حدثاً ذا شأن عظيم وخطر، فأما أن يبلغ من خطرها أن تكون هي الحادث يغطي على جميع الحادثات، وتغلب ذكراه ذكراها، ويرتفع اسمه فوق أسمائها، فذلك ما قد يبدو غريباً يحتاج إلى شيء من البحث والنظر. بل لقد يبدو لبعض المتعسفين أمر هذه الهجرة وكأنه مظهر من مظاهر الهزيمة، وكأنه عمل من أعمال اليأس والتسليم. وكذلك يظنه بعض الكفار، وكذلك يسميه بعض كتابهم من الإفرنج بالهرب والفرار.
ولعل أولئك الذين يصفون هذه الهجرة بأشنع الصفات، ويدعونها بشر الأسماء، هم الذين سخرهم الله من حيث لا يشعرون ليكشفوا لنا عما أدرك السلف في هذه الهجرة من روعة تتضاءل دونها كل روعة، ومن عظمة لا تدانيها عظمة، ومن حقائق وأسرار ما كنا لنهتدي
إليها لولا أن أتاح الله لنا أولئك الحاسدين ينشرون فضل الهجرة كما تنشر النار طيب عرف العود.
وفي الحق قد كانت هذه الهجرة في ظاهرها نهاية أسيفة لمعركة حامية طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت، ولقي المسلمون فيها بأساً عاصفاً وزلزلوا زلزالاً شديداً. ولعل كُتاب السيرة النبوية لم يستوفوا ما في هذه الحرب المرة من تفاصيل ودقائق، ولم يتوسعوا في وصف ما تخللها من بأس وشدة، ولعلنا لو استطعنا أن نحيط إحاطة شاملة بحقيقة هذه المعركة لوجدنا فيها قصة فريدة لمعركة كانت من أشد ما عرف التاريخ صراعاً بين الحق والباطل، واصطداماً بين كلمة الله العليا وكلمة الكفر السفلى. لسنا نعرف من أمر هذه الحرب القاسية إلا ذلك الذي يكرره كتاب السيرة ويتناقلونه من أحاديث الصحيفة، وأحاديث التعذيب والإيذاء ونحو ذلك، ولكن الذي يدرس طبيعة هذه الحرب، ويحلل ظروف زمانها ومكانها، ويستقصي ما ورد في سياق الحديث عنها في القرآن وفي السنة، وفي كتب التاريخ لا يسعه إلا أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذه المعركة قد كانت عنيفة إلى أقصى درجات العنف، وقاسية إلى أبعد حدود القسوة، وأنها كانت أكبر محنة ابتلى بها المسلمون في صدر الإسلام، وكانت نهايتها أن تشتت المسلمون، وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. وخرج صاحب الدعوة ورفيقه عليهما السلام، كما خرج موسى كليم الله خائفاً يترقب (إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا) وهكذا كانت الهجرة نهاية أسيفة لمعركة طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت.
ثم كانت هذه الهجرة نفسها بداية سعيدة ناجحة لمعركة طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت، وفيها عاد الله سبحانه على المسلمين بالنصر مؤزراً (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله العليا والله عزيزٌ حكيم).
ليس يشق علينا أن يقولوا عن الهجرة إنها كانت هزيمة وكانت فراراً. ولئن كانت الهجرة هزيمة فلقد كان في هذه الهزيمة النصر كل النصر والفوز كل الفوز. ولئن كانت الهجرة عملاً من أعمال اليأس والتسليم، فلقد كان مع اليأس والتسليم أمل باسم، قضى الله أن يتحقق، وغلبة شاملة أراد الله أن تتم؛ ولئن كانت الهجرة هروباً وفراراً، فلقد أعقبها رجعة
على الكفر ساحقة، وكرة كانت القاضية.
وهل يجد المسلمون في تاريخهم، وهل يجد غير المسلمين في تاريخهم، وهل تجد البشرية كلها في تاريخها حادثة غير هذه الهجرة تستحيل فيها الهزيمة نصراً ويرتد اليأس رجاء، ويصير الفرار سلطاناً وتمكيناً؟ أم كان ذلك فضلاً من الله يختص به من يشاء، وكان فضل الله عليك عظيما!
إذا كان المسلمون قد استيأسوا يوم الهجرة وظنوا بالله الظنون، فان المسلمين قد علموا يوم الهجرة أن يد الله الرحيمة، قد امتدت من السماء فتلقت الإسلام تحفظه وتؤيده، وأحاطت بالمسلمين فهدتهم إلى طرق السعادة، وكتبت لهم أن يكونوا هم الفائزين.
لقد علم المسلمون يوم الهجرة أن الله قد كتب لهذا الدين النصر الخالد، ولن يخلف الله وعده؛ ولقد علم المسلمون يوم الهجرة أن الله وحده هو الذي يحمي هذا الدين ويدافع عنه، وأن الله وحده هو الذي يحفظ هذا الدين وينصره (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكتبهم فينقلبوا خائبين، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم).
علي عبد الرازق
آية الهجرة
للأستاذ أمين الخولي المدرس بكلية الآداب
(وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم، وسماكم المسلمين)
(ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة)
من أول خطبة له عليه السلام بعد الهجرة
تخيرت الأمم من عيون أيامها، وأعلام أحداثها، ما جعلته ميقاتاً تؤرخ به؛ فقالت لعام كذا من وفاة الأسكندر، أو غلبة دقيانوس، أو ميلاد المسيح، أو هو من ذاك. فلما تأذن الله أن يتخذ الإسلام ميقاتاً، أبى له أن يكون مولد فلان، أو مهلك فلان، أو تملك مملك، أو مصرع متوج؛ فكل أولئك خفيف عند الله في الميزان؛ وكل أولئك لقد يهون على الزمان.
يرحم الله ابن الخطاب! لقد كره التاريخ بالوفاة؛ نفر منه طبعه، وعافته فيه قوة الحياة، فتجلت بقلبه روح الإسلام مشرقة؛ وسمت له ألمعية لبقة؛ إذ آثر لذلك المبدأ يوم جلاد، واختار له ذكرى جهاد؛ يوم غالب فيه فرد جماعات، وناضلت عزمة عزمات؛ فبينا الباطل في قبائل يتنمر، والموت على يد الأجلاد يرصد ويدبر، تصدى لذلك كله (محمد) وحده يسخر؛ (وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً، فأغشيناهم فهم لا يبصرون). ما عز عليه أن يخلي الأهل والوطن، ولا راعه أن يغترب لغير مستقر، فغلب الحق وظفر، وانتصر الإيمان وقهر، في قلة وروعة وتجرد.
تلك آية الهجرة، وذلك في اختيارها سر الفكرة، ألقاه إلى الدهر عمر، وخلده حين حمله القمر، فجعله في التاريخ تقديراً؛ وإنما بعثه لرسالة الإسلام تفسيراً، يدور مع الأيام، ويتجدد لكل عام. . . . أفيتساءل المسلمون بعد أين الطريق وكيف النجاة؟ وتلك آية الهجرة أول الحياة في تاريخهم وأول تاريخهم في الحياة!
يا شرق. . . إن لك عند القمر معنى تاريخياً، وإن لك فيه لرمزاً حيوياً؛ فإن يبد في الغرب ناحلاً نضو أسفار، فهو الطلعة يرتاد لك طريق الفخار؛ وإن يتألق في الشرق بدراً كاملاً، فهو تاج مجدك، ومثال جدك.
الآن يرزح القمر سجف الغيب عن عام جديد، فيطالع في الشرق وجوهاً ناضرة، إلى ربها ناظرة، تحييها منه إشراقة باهرة، وطلعة نيرة، تجل فيهم ما فهموا من معاني المجد والنبل
في آية الهجرة، ووجوه. . . لا جرى القلم بوصفها، قد غلبت على أمرها. . . لكنها لم تفقد رجاءها، ولم تضعف أملها، فلن تهي ما استمسكت بعروة الإيمان (إن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين). . . أولئك لهم من القمر في إشفاقه الوديع نظرة راجية، ولفتة حانية، وإيماءة نافذة، تثير ذكريات حافزة، تلهمهم معاني المجد والنبل من آية الهجرة.
أمين الخولي
على هامش السيرة
من معجزات الهجرة
للأستاذ علي الطنطاوي
قال:
- هل لك يا سُراقةُ في مائة من الإبل؟
- قال سُراقةُ: ما أحوجني إلى عشرين! فكيف السبيل إلى مائة؟
- قال: ترد على قريش صاحبها، فقد خرج من مكة حين مكرت به قريش وأجمعت على قتله، مهاجراً إلى المدينة، فبثت قريش عيونها في سبل مكة وشعابها، وبعث رسلها فنفضوا الصحراء نفضاً فما وقعوا له على أثر، فعادوا إلى قريش بالاياس منه، فأذنت قريش في العرب، أن من رد علينا محمداً فله مائة من الإبل، وقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفاً، وإني لأراهم طلبة قريش. . . فهل لك أن نلحق بهم فنردهم إلى مكة ونأخذ مائة الناقة فنقسمها بيننا؟
فرقص قلب سراقة فرحاً، ولعب به الطمع؛ وكان سراقة ابن مالك الجعشمي رجلاً متعفرتاً متشيطناً، فعقد النية على أن يستأثر وحده بالغنيمة حتى تكون خالصة له، فقال لصاحبه:
- ما هؤلاء من تريد، هؤلاء بنو فلان ينشدون ضالة لهم.
فصدق الرجل وانصرف، وذهب سراقة فجلس في نَدِىّ قومه كما كان يجلس كل عشية فما اطمأن به مجلس، وما وعى من أحاديث القوم شيئاً، وإنما كان يخيلُ إليه أنه يرى قطاراً طويلاً من الإبل يمر أمامه، ويدور من حوله، فيخفق لمرآه قلبه، وتتحلب أشادقه. . . ثم طمي به الطمع، فبرح النادي إلى بيته، يلوص بعينيه آفاق المستقبل، ويقلب أوجه الممكن ويفكر في مائة الناقة.
أيملكها حتى تكون طوع أمره يصرفها كما يشاء فتلد، وتتكاثر فينحر منها، ويطعم الجائع، ويقري الضيف، ويرفد الوافد فيسير ذكره في العرب، وتنتجعه الشعراء، وتمسي بمدائحه الركبان؟ أم هو لا ينالها، ولا يفيد من سفره إلا لذع الشمس، وبرح العطش، وطول التعب؟. . .
وامتد به التفكير حتى ما يكاد يخرج منه، ولا يكاد يستقر على الرأي لحظة حتى ينتقل إلى
غيره: لم لا أذهب؟ إني سأجدهم فأردهم على قريش. ولكن ألم تعجز رسل قريش عن أن تهتدي اليهم؟ فكيف أجدهم أنا؟. . . بل سأجدهم، إني سالك كل طريق تؤدي إلى المدينة. . . ولكن يا للسخف! ألم تسلك رسل قريش هذه الطرق كلها؟
ولما أضناه التردد أزمع أن يستفتي الحظ، ويهتدي بالمصادفة - فأخرج أزلامه فاستقسم بها، وحاول أن يشتف الغيب من خلالها: إن خرج الزلم الذي أكره (لا يضره) لم تكن النياق لي. وإن خرج الذي أحب (يضره) كانت لي، إن الحكم للأزلام. . .
وضرب بيده فخرج الزلم الذي يكره، فتألم واشتد ذلك عليه، لأنه إنما عمد إلى الأزلام ليستمد منها العزم على الذهاب لا الرغبة في القعود، ثم قال:
إنها أول مرة، وهي للشيطان! وإني ضارب الثانية، إن الثانية لآلهتنا، وضرب الثانية فخرج الزلم الذي يكره. فقال لنفسه: ما لي؟ وهل يقنع امرؤ بمرتين؟ إن المعول على الثالثة. وضرب الثالثة فخرج الزلم الذي يكره. . . فتصبب على جبينه العرق البارد، فألقى الأزلام حنقاً، وأمر غلامه أن يسرج فرسه ويقوده إلى بطن الوادي!
وتريث سراقة حتى إذا تصرم الليل، أسحر سالكاً طريق المدينة فسار فيه إلى الصباح فلم يقع من القوم على أثر. فعاد أدراجه يتبع طريق الساحل فلا يلقى فيه أحداً، حتى زالت الشمس؛ وحميت الظهيرة، وتسعرت الأرض، وأحرق جوفه العطش، وكان ينهزُه الطمع فيعدو فرسه عدواً شديداً، حتى يرى الآكام هي التي تسير عن يمينه وشماله، يأخذ بعضها بسفوح بعض. . . ثم يدركه القنوط فيدع الفرس يمشي متباطئاً متخاذلاً. . . حتى إذا بلغ منه التعب والعطش والجوع واليأس نظر فإذا عند الغار من جبل ثور محمد وصاحبه. . . فصبت القوة في عضلاته، وعادت إليه الحمية والنشاط، فصاح في الفرس، فانطلق نحو الغار كالسهم المرسل؟
قال أبو بكر رضي الله عنه:
. . . فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت
فقال: ما يبكيك؟
قلت: ما والله على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت فرسه في
الأرض إلى بطنها. . .
فلما رأى سراقة ما رأى، وثب عن الفرس، وقد طار الخوف بلبه، وأبرأه الفزع من داء الطمع، وصاح:
- يا محمد! قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنقذه الله. . . وكلمه فكان من قوله له:
- كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟
ورجع سراقة، وقد اجتمعت عليه منذ اليوم المتناقضات من الأفكار والعواطف، وهاج نفسه الطمع والخوف، والأمل واليأس، فجعل يقهقه في هذه البادية، ويصرخ كمن به جنة، ولم لا يجن؟ وقد كان يأمل أن ينال الغنى ففاته ما كان يأمل، وقد فتحت فاها لتبلعه الأرض فنجا، ولم يصدر بعد هذا كله إلا بوعد دونه خرط القتاد، وخرق النار، وخوض البحار. . .
- ماذا؟ أيعدني محمد سواري كسرى، كسرى شاهنشاه ملك الملوك. . . وهو يقطع الصحراء هارباً من قومه، مختفياً في غار.
- ليس معه إلا رجل واحد - أيبتلع هذا الغار ملك كسرى وجبروته وجلاله؟ أتنتصر هذه الصحراء على ملك كسر وجنانه وأنهاره؟ أيغلب هذان المهاجران كسرى على خزائنه وجنوده وبلاده؟ ولو أن العرب اجتمعت كلها، ورمت عن قوس واحدة، ما نالت من كسرى منالاً، على أنها لن تجتمع العرب قط، ومن ذا الذي يجمع مضر بن نزار وقحطان. . . وبكراً وتغلب. . . وعبساً وذبيان. . . وأين يذهب ما بينها من دماء؟
أما إن قريشاً كانت أدرى بصاحبها حين قالت عنه ما قالت فما أراه يعجبه أن ينجو من قريش، ويفلت من أذاها حتى يكون له ملك كسرى. . . إنه والله ما يريد إلا أن يتركنا (نحن أيضاً) مجانين!
وانطلق يقهقه ويصرخ:
ويحٌ لك يا سراقة! ستلبس سواري كسر. . . كسرى شاهنشاه ملك الملوك
والفرس ينفر من صراخه، فيطير على وجهه حتى اختفى وراء الآكام. . .
ومرت السنون
وكان يوم صائف متوقد، ففر سراقة من حره إلى حائط له، فما استقر فيه حتى سمع منادياً ينادي:
- يا سراقة بن مالك الجعْشُمي. . . . يا سراقة. . . .
فصاح: أن لبيك، وانطلق يؤم الصوت، فإذا رسول عمر يدعوه أن أجب أمير المؤمنين
وإذا الشمس بين يدي عمر تأخذ الأبصار ببريقها ولمعانها، وإذا بين يديه تاج كسر ومِنْطَقَتع. . .
قال عمر:
هلم يا سراقة، أتذكر خبر الغار، وسواري كسرى شاهنشاه ملك الملوك؟. . .
- قال: نعم
- قال. قد أذهب الله بالإسلام ملك كسرى، فلا كسرى بعد اليوم. . هات يديك
فألبسه السوارين، وقال ارفعهما فقل:
- الله أكبر! الحمد الله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن مالك، أعرابياً من بني مدلج.
يا سراقة لقد انتصر المهاجرون على كسرى وقيصر، وكان لهما ملك الأرض! يا سراقة! لقد أضاء النور الذي انبثق من بطن مكة الدنيا جميعاً! يا سراقة! لقد ظفر الغار بالعراق والشام، وغلبت الصحراء العالم!
يا سراقة! لقد ملك كسرى وقيصر كبيراً قوياً، ولكن الله مع الذين آمنوا، والله أقوى. . . والله أكبر!
علي الطنطاوي
عضو (المجمع الأدبي) بدمشق
مُحرم
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
يبشّر بالعام الجديد محرّمُ
…
وينعته كلٌّ بما هو يزعمُ
فيوليه من إطرائه مُتفئّلٌ
…
ويكثر من ذٍمّ له متشئمِّ
ولا يعلم الإنسان ماذا به له
…
ومَنْ فيه قد يشقى ومن فيه ينعم
ومن ذا الذي فيه المنايا تغوله
…
ومن ذا الذي منهن ينجو ويسلم
جديدٌ، أجل، عام جديدٌ تجّد في
…
لياليه أحداثٌ بها لست أعلم
فيفرح قلبٌ بالكآبة مثقلٌ
…
ويحزن قلب بالمسرَّة مفعم
وربّ سعيدٍ بالشقاء مهدّدٌ
…
وربّ شقيٍ بالسعادة يحلم
ونفرح بالأعوام إمَّا تصرَّمت
…
على أنَّها من عمرنا تتصرَّم
وددت لو أن العام قال منبّثاً
…
وماذا يقول العام والعام أبكم؟
وللغرب أعوامٌ وللشرق مثلها
…
ولكنهما الأعوام في الشرق تُسئم
وفي الغرب أفراحٌ وفي الشرق غمّةٌ
…
وما الأرض إلاّ جَنّة وجَهنم
شقيقان هذا ليل أبنائه بهم
…
مضيءٌ وهذا يوم أهليه مظلم
وتختلف الأخلاق إلاّ أقلّها
…
ويختلف التفكير والعرق والدّم
بلى اختلفا فالغرب منصرف القُوَى
…
إلى فعله والشرق بالقول مغرم
ونحن تثبّطنا، وهم قد تعجّلوا
…
ونحن تأخّرنا، وهم قد تقدموا
وما كان مجدٌ كان يبنيه أهله
…
كمجدٍ بأيدي أهله يتهدّم
ومن لي بعام لا يشابه غيره
…
أرى فيه أظفار البغاة تقلّم
وأبخل أرضٍ بالرجولة بقعةٌ
…
يضام الفتى فيها ولا يتبرّم
إذا أنت لم تألم من الضغط غاضباً
…
فمن أي شيء في حياتك تألم؟
أدير عيوني في الوجوه فلا أرى
…
سوى الذل مقروءًا ولا أتوسم
ليحزنني أن العنادل آثرت
…
صموتاً وأن الزهر لا يتبسّم
لقد صوّح الزهر الذي كان باسما
…
ولم يبق للصيداح ذاك الترنم
يريدون ألا يشكو الحزن ثاكل
…
وألا يئن المثخن المتألم
من الناس آلافٌ يعضّهم الطوى
…
وفي كل ألفٍ واحدٌ يتنعّم
إذا عجز المكروب عن شرح ما به
…
فعلّ دموع العين عنه تترجم
أمن قام يشكو بثّه فعو مزعجٌ
…
ومّن قال يبغي حقه فهو مجرم!
وإني لا أدري وإن كنت دارياً
…
أقومي تعاموا أم عن الحق قد عموا
بني وطني لا تسكتوا عن حقوقكم
…
أليس لكم منكم فمٌ يتكلم
لكم ثروة في الأرض أتعابها لكم
…
وأرباحها للغرب نهبٌ مقسّم
ولا خير في بدء الفتى بجليلةٍ
…
إذا كان عن عجز له لا يتمّم
ولا فخر إلا للذي هو ماجدٌ
…
ولا مجد إلا للذي يتقحّم
وما الحرّ إلا من إذا ضِيم لم يَلن
…
وإن قال حقاً فهو لا يتلعثم
ويا رُبّ فرٍد قد أتى في جهاده
…
بما لم يكن يأتي الخميس العرمرم
وما بال أبناء العروبة أصبحت
…
على الذل أشتاتاً تشبّ وتهرم
وما بال أبناء العروبة سلمت
…
وقد كان عهدي أنها لا تسلّم
لآلام قومي الصَّيد نفسي تألمت
…
لكِ الويل يا نفسي التي تتألم
وما خفقان القلب ما أنت سامعٌ
…
ولكنه آمال قومٍ تَحَطّم
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي
الرجولة في الإسلام
للأستاذ أحمد أمين
لعل من أهم الفروق التي تميز المسلمين في أول أمرهم وفجر حياتهم عن المسلمين اليوم، (خلق الرجولة) فقد غنى العصر الأول بمن كانوا هامة الشرف، وغزة المجد، وعنوان الرجولة.
تتجلى هذه الرجولة في (محمد) إذ يقول: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته). كما تتجلى في أعماله في أدوار حياته، فحياته كلها سلسة من مظاهر الرجولة الحقة، والبطولة الفذة، إيمان لا تزعزعه الشدائد، وصبر على المكاره، وعمل دائب في نصرة الحق، وهيام بمعالي الأمور، وترفع عن سفسافها. حتى إذا قبضه الله إليه لم يترك ثروة كما يفعل ذوو السلطان، ولم يخلف أعراضاً زائلة كما يخلف الملوك والأمراء. إنما خلف مبادئ خالدة على الدهر، كما خلف رجالاً يرعونها وينشرونها، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم من أجلها.
وتاريخ الصحابة ومن بعدهم مملوء بأمثلة الرجولة، فأقوى ميزات (عمر) أنه كان (رجلاً) لا يراعي في الحق كبيراً، ولا يمالئ عظيماً أو أميراً. يقول في إحدى خطبه:(أيها الناس إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه).
وينطق بالجمل في وصف الرجولة فتجري مجرى الأمثال كأن يقول: (يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول: (لا) بملء فيه) - ويضع البرنامج لتعليم الرجولة فيقول:
(علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا، ورووهم ما يجمل من الشعر). ويضع الخطط لتمرين الولاة على الرجولة فيكتب إليهم. (اجعلوا الناس في الحق سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، إياكم والرشا والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب)، ويعلمهم كيف يسوسون الناس ويربونهم على الرجولة فيقول:(ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم).
من أجل هذا كله كان هذا العصر مظهراً للرجولة في جميع نواحي الحياة، تقرأ تاريخ
المسلمين في صدر حياتهم فيملؤك روعة، وتعجب كيف كان هؤلاء البدو وهم لم يتخرجوا في مدارس علمية، ولم يتلقوا نظريات سياسية، حكاماً وقادة لخريجي العلم ووليدي السياسة - إنما هي الرجولة التي بثها فيهم دينهم وعظماؤهم هي التي سمت بهم وجعلتهم يفتحون فتحاً حربياً يعتمد على القوة البدنية وكفى، إنما يفتحون فتحاً مدنياً إدارياً منظماً، يعلمون به دارسي العدل كيف يكون العدل، ويعلمون علماء الإدارة كيف تكون الإدارة، ويلقون بعلمهم درساً على العالم أن قوة الخلق فوق مظاهر العلم، وقوة الاعتقاد في الحق فوق النظريات الفلسفية والمذاهب العلمية، وأن الأمم لا تقاس بفلاسفتها بمقدار ما تقاس برجولتها.
هل سمعت عدلاً خيراً من أن يضرب ابن لعمرو بن العاص - وهو والي مصر - رجلاً مصرياً فيستحضره عمر بن الخطاب وابنه، ثم يأمر المصري أن يضرب من ضربه وأن يضع السوط على صلعة عمرو، ثم يقول له:(مذ كم تعبدتم الناس وقد ولتهم أمهم أحراراً). أو هل سمعت عطفاً على الرعية، وأخذ الولاة بالحزم كالذي روى أن معاوية قدم من الشام على عمر، فضرب عمر بيده على عضده فتكشف له عن عضد بض ناعم. فقال له عمر:(هذا والله لتشاغلك بالحمامات، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسرات على بابك!)
أو هل سمعت قولاً في العدل يحققه العمل كالذي يقوله عمر (إذا كنت في منزلة تسعني وتعجز الناس، فو الله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوة للناس) - أو هل رأيت حزماً في الإدارة كالذي فعله في مسح سواد العراق وترتيب الخراج، وتدوين الدواوين، وفرض العطاء.
حقاً لقد كان عمر في كل ذلك رجلاً، ولئن كان هناك رجال قد امتصوا رجولة غيرهم، ولم يشاءوا أن يجعلوا رجالاً بجانبهم، فلم يكن عمر من هذا الضرب، إنما كان رجلاً يخلق بجانبه رجالاً، فأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص والمثنى بن حارثة، وكثير غيرهم كانوا رجالاً نفخ فيهم عمر من روحه كما نفخ فيهم الإسلام من روحه، وأفسح لهم في رجولتهم، كما أفسح لنفسه في رجولته.
وكان أدبهم في ذلك العصر صورة صحيحة لرجولتهم يتغنون فيه بأفعال البطولة ومظاهر الرجولة.
وخير الشعر أشرفه رجالاً
…
وشر الشعر ما قال العبيد
يعتد الشاعر بنفسه ويسمو بها عن النعماء والبأساء فيقول:
قد عِشْتُ في الناس أطواراً على طرُقٍ
…
شتى وقاسيتُ فيها اللينَ والفَظَعا
كُلاِّ بلوتُ، فلا النعماءُ تُبْطِرُني
…
ولا تخّشْعتُ من لأوائها جَزَعا
لا يملأُ الهوْلُ صدْرِي قبلَ موقِعه
…
ولا أضيقُ به ذَرْعا إذا وَقَعاَ
ويعتز بشرفه وقوته وإبائه الضيم فيقول:
وكنت إذا قوم رمَوْني رميتهم
…
فهل أَنا في ذَايالََ هَمْدَانَ ظاَلِمُ
متى تجِمَع القلبَ الذَّكِيّ وَصارِماً
…
وَأنفاً حَمِيَّا تَجْتَنبِكَ الَمظَالِمُ
ويمدح رجل قوماً فيقول (انهم كالحجر الأخشن إن صادمته آذاك وإن تركته تركك)
ويقول أميرهم: (والله ما يسرني أني كُفيتُ أمر الدنيا كله قيل ولم أيها الأمير، قال لأني أكره عادة العجز) إلى كثير من أمثال ذلك.
وعلى الجملة فأدبهم تام الرجولة، قد شعت فيه الحياة، وامتلأ بالقوة، حتى اللاهي الماجن كأبي محجن الثقفي: كان يغازل، وكان يشرب، ولكن إذا جد الجد وعزم الأمر كان رجلاً يبيع نفسه لدينه، ويبيع كل شيء لشرفه وشرف قومه.
ونستعرض الغزل في الجاهلية وصدر الإسلام، فإذا هو غزل قوي لا مُيُوعة فيه، ولا تخنث، لا يذوب صبابة، ولا يلتاع هياماً، ولا يفقد الرجل فيه رجولته لحبه
وقلتُ لقلبي حين لجَّ به الهَوى
…
وكلَّفنِي مَا لَا أُطِيقُ منَ الْحُبِّ
ألا أيُّها القلبُ الذي قادَهُ الهوَى
…
أَفِقْ لَا أَقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ مِنْ قَلب
وما أنا بالنّكْسِ الدَّنِيِّ وَلَا الذِي
…
إِذا صَدَّ عَنِّي ذُو الَموَدَّةِ أَحْرَبُ
وَلكنّني إِنْ دَامَ دُمتُ وَإِنْ يكُنْ
…
لهُ مذْهَبٌ عَنِّي فَلِي عنْهُ مَذْهَبُ
ولم يضن التاريخ على المسلمين من حين لآخر برجال لفتوا وجه الدهر، وغيروا مجرى الحوادث، ودفعوا عن قومهم الخطوب، وأنزلوا منزل العز والمنعة، تضيق عن وصف أعمالهم الرسائل والكتب.
ثم توالت الأحداث وتتابعت النوب، تفل من شوكتهم، وتفت في رجولتهم حتى رأيناهم بذلوا الشرف للمال، وقد كان آباؤهم ينظرون إلى دينهم وأمتهم، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً يذيق بعضهم بأس بعض، فكانوا حرباً على أنفسهم بعد أن كانوا جميعاً حرباً على عدوهم -
ورضوا في الفخر أن يقولوا (كان آباؤنا) مع أن شاعرهم يقول:
إذا أنت لم تَحْم القديم بحادث
…
من المجد لم يَنْفَعْك ما كانَ مِنْ قبل
وناثرهم يقول: (لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه الآخر إلا بما أَدرك به الأول)
ورأينا خير ما في الأمم حاضرها وخير ما فينا ماضينا.
أريد بالرجولة صفة جامعة لكل صفات الشرف من اعتداد بالنفس واحترام لها، وشعور عميق بأداء الواجب، مهما كلفه من مصاعب، وحماية لما في ذمته من أسرة وأمة ودين، وبذل الجهد في ترقيتها، والدفاع عنها، والاعتزاز بها، وإباء الضيم لنفسه ولها.
وهي صفة يمكن تحققها مهما اختلفت وظيفة الإنسان في الحياة فالوزير الرجل من عد كرسيه تلكيفاً لا تشريفاً، ورآه وسيلة للخدمة لا وسيلة للجاه، أول ما يفكر فيه قومه، وآخر ما يفكر فيه نفسه، يظل في كرسيه ما ظل محافظاً على حقوق أمته، وأسهل شيء طلاقه يوم يشعر بتقصير في واجبه، أو يوم يرى أن غيره أقوى منه في حمل العبء، وأداء الواجب، يجيد فهم مركزه من أمته ومركز أمته من العالم، فيضع الأمور موضعها ويرفض في إباء أن يكون يوماً ما عوناً للأجنبي عليها، فاذا أريد على ذلك قال:(لا) بملء فيه، فكانت (لا) منه خيراً من ألف (نعم) وكانت (لا) منه وساماً تدل على رجولته - يقتل المسائل بحثاً ودرساً، ويعرف فيها موضع الصواب والخطأ ومقدار النفع والضرر، ثم يقدم في حزم على عمل ما رأى واعتقد لا يعبأ بتصفيق المصفقين، ولا بذم القادحين، إنما يعبأ بشيء واحد هو صوت ضميره، ونداء شعوره.
والعالم الرجل من أدى رسالته لقومه من طريق علمه، يحتقر العناء يناله في سبيل حقيقة يكتشفها أو نظرية يبتكرها، ثم هو أمين على الحق لا يفرح بالجديد لجدته، ولا يكره القديم لقدمه، له صبر على الشك، وغرام بالتفكير وبطء في الجزم، وصبر على الشدائد، وازدراء بالإعلان عن النفس، وتقديس للحقيقة، صادفت هوى الناس أو أثارت سخطهم، جلبت مالا أو أوقعت في فقر، يفضل قول الحق وإن أهين على قول الباطل وإن كرم.
والصانع الرجل من بذل جهده في صناعته، فلم يشأ إلا أن يصل بصناعته إلى أرقى ما وصلت إليه في العالم، عشقها وهام بها حتى بلغ بها ذروتها، يشعر بأنه وطني في صناعته
كوطنية السياسي في سياسته، وأن أمته تخدم من طريق الصناعة كما تخدم من طريق السياسة، وأن الصناعة لا تقل في بناء المجد القومي عن غيرها من شؤون الدولة، فهو لهذا يحسن فنه، وهو لهذا يحسن سلوكه، وهو لهذا يرفض ربحاً كثيراً مع الخداع، ويقنع بربح معتدل مع الصدق، وهو لهذا كله كان رجلاً.
بل الرجولة تكون في المعنويات كما تكون في الماديات، فالرأي العام هو الرأي العام اليقظ، شديد التنبه لما يحيط به من مخاطر، يعرف كيف يدفع عنه الأذى إذا نيل منه، ويصد الشر إذا نزل به، صحيح التقدير لأعمال الرجولة، شديد الاحتقار للنذالة، يظهر إعجابه للمحسن أيا ما كان في أشكال تدعو إلى الإعجاب، ويظهر ازدراءه للمسيء أيا ما كان في أشكال تدعو إلى الإعجاب أيضاً، ولا يكون الرأي العام رجلاً حتى تشيع في أفراد الأمة الرجولة وتكثر فيهم البطولة - وفي الرجولة متسع للجميع، فالزارع في حقله قد يكون رجلاً، والتلميذ في مدرسته قد يكون رجلاً، وكل ذي صناعة في صناعته قد يكون رجلاً، وليس يتطلب ذلك إلا الاعتزاز بالشرف وإباء المذلة.
من لنا ببرنامج دقيق للرجولة كالبرنامج الذي يوضع للتعليم، يبدأ يرعى الطفل في بيته فيعلمه كيف يحافظ على الكلمة تصدر منه كما يحافظ على الصك الذي يوقع عليه، ويعلمه كيف يكون رجلاً في ألعابه، فيعدل بين أقرانه في اللعب كما يحب أن يعدلوا معه، ويلاعبهم بروح الرجولة من حب ومساواة ومرح في صدق وإخلاص.
ويسير مع التلميذ في مدرسته، فيعلمه كيف يحترم نفسه، وكيف لا يفعل الخطأ وإن غفلت عنه أعين الرقباء، ولا يغش في الامتحان ولو تركه المعلم وحده مع كتبه؛ وكيف يعطف على الضعفاء ويبذل لهم ما استطاع من معونة.
ويتمشى مع الطالب في جامعته فيعوده الاعتزاز بنفسه والاعتزاز بجامعته والاعتزاز بأمته. ويبعثه على أن يفكر في غرض شريف له في الحياة يسعى لتحقيقه - حتى إذا ما أتم دراسته كان قاضياً رجلاً أو معلماً رجلاً، أو سياسياً رجلاً، وعلى الجملة إنساناً رجلاً.
ويتابع الأمة فيضع لها الأدب الذي يبعث قوة، والأناشيد والأغاني التي تملأ النفس أملاً. ويراقب في شدة وحزم دور السينما والتمثيل والملاهي، فلا يسمح بما يضعف النفس ويلثم الشرف، ولا يسمح بما يحي الشهوة ويميت العزيمة، ويأخذ على أيدي الساسة والحكام
ورجال الشرطة، حتى لا يقسوا على الناس فيميتوهم، ولا يرهبوهم فيذلوهم.
من يبادلني فيأخذ كل برامج التعليم، وكل ميزانية الدولة ويسلمني برنامجاً للرجولة وميزانية لتنفيذه ليس غير.
ولي كبد مقروحة، من يبيعني
…
بها كبداً ليست بذات قروح؟
أحمد أمين
حقيقة المسلم
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لا يعرف التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله، كما تنصب المادة في المادة، لتمتزج بها، فتحو لها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو، وإذا هو صلى الله عليه وسلم وجودٌ سارٍ فيها فما تبرح الإنسانيةُ تنمو به وتتحول.
كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية كأنما وهن من طول الدهر عليه يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشر والمنكر، فابتعت الله تاريخ العقل بآدم جديدٍ بدأت به الدنيا في تطورها الأعلى من حيث يرتفع الإنسان على ذاته، كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته؛ فكانت الإنسانيةُ دهرها بين اثنين: أحدهما فتح لها طريق المجيء من الجنة، والثاني فتح لها طريق العودة إليها. كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان محمدٍ سرُ كمالها.
ولهذا سمي الدينُ (بالإسلام)؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية؛ كأن المسلم ينكر ذاته فيسلمها إلى الإنسانية تصرفها وتعتملهافي كمالها ومعاليها؛ فلاحظ له من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية بها الحظ.
وما الإسلام في جملته إلا هذا المبدأ: مبدأ إنكار الذات و (إسلامها) طائعة على المنشط والمكره لفروضها وواجباتها؛ وكلما نكصت إلى منزعها الحيواني، أسلمها صاحبها إلى وازعها الإلهي. وهو أبداً يروضها على هذه الحركة ما دام حيا؛ فينتزعها كل يوم من أوهام دنياها ليضعها ما بين يدي حقيقتها الإلهية: يروضها على ذلك كل يوم وليلةٍ خمس مراتٍ مسماةٍ في اللغة خمس صلوات، لا يكون الإسلام إسلاماً بغيرها؛ فلا غرو كانت الصلاة بهذا المعنى كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم: هي عماد الدين.
بين ساعاتٍ وساعات في كل مطلع شمس من حياة المسلم صلاة، أي إسلام النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة القائمة على الطاعة للفرض الإلهي، وإنكارٌ لمعانيها الذاتية الفانية التي هي مادة الشر في الأرض، وإقرارها لحظاتٍ في حيز الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها. ومعنى ذلك كله طرقاً تتشتت فيها الأرواح وتتبعثر، حتى تضل روح الأخ عن روح أخيه فتنكرها ولا تعرفها!
وهذا الوجود الروحي هو مبعث الحالة العقلية التي جاء الإسلام ليهدي الإنسانية إليها؛ حالة السلام الروحاني الذي يجعل حرب الدنيا المهلكة حرباً في خارج النفس لا في داخلها، ويجعل ثروة الإنسان مقدرة بما يعامل الله والإنسانية عليه؛ فلا يكون ذهبه وفضته ما كتبت عليه (صنع في مملكته نفسي)؛ ومن ثم لا يكون وجوده الاجتماعي للأخذ حسب، بل للعطاء أيضاً؛ فان قانون المال هو الجمع؛ أما قانون العمل فهو البذل.
بالانصراف إلى الصلاة وجمع النية عليها، يستشعر المسلم أنه حطم الحدود الأرضية المحيطة بنفسه من الزمان والمكان، وخرج منها إلى روحانية لا يحد فيها إلا بالله وحده.
وبالقيام في الصلاة، يحقق المسلم لذاته معنى إفراغ الفكر السامي على الجسم كله ليمتزج بجلال الكون ووقاره، كأنه كائن منتصب مع الكائنات يسبح بحمده.
وبالتوالي شطر القبلة سمتها الذي لا يتغير على اختلاف أوضاع الأرض، يعرف المسلم حقيقة الرمز للمركز الثابت في روحانية الحياة؛ فيحمل قلبه معنى الاطمئنان والاستقرار على جاذبية الدنيا وقلقها.
وبالركوع والسجود بين يدي الله، يشعر المسلم نفسه معنى السمو والرفعة على كل ما عدا الخالق من وجود الكون.
وبالجلسة في الصلاة وقراءة التحيات الطيبات، يكون المسلم جالساً فوق الدنيا يحمد الله ويسلم على نبيه وملائكته ويشهد ويدعو.
وبالتسليم الذي يخرج به من الصلاة يقبل المسلم على الدنيا وأهلها إقبالاً جديداً من جهتي السلام والرحمة.
هي لحظات من الحياة كل يوم في غير أشياء هذه الدنيا؛ لجمع الشهوات وتقييدها بين وقتٍ وآخر بسلاسلها وأغلالها من حركات الصلاة، ولتمزيق الفناء خمس مرات كل يوم عن النفس؛ فيرى المسلم من وراءه حقيقة الخلود، فتشعر الروح أنها تنمو وتتسع. هي خمس صلوات، هي كذلك خمس مرات يفرغ فيها القلبُ مما امتلأ به من الدنيا، فما أدق وأبدع وأصدق قوله صلى الله عليه وسلم:(جُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة).
لم يكن الإسلام في حقيقته إلا إبداعاً للصيغة العملية التي تنتظم الإنسانية فيها؛ ولهذا كانت آدابه كلها حراساً على القلب المؤمن كأنها ملائكةٌ من المعاني؛ وكان الإسلام بها عملاً
إصلاحياً وقع به التطور في عالم الغريزة، فنقله إلى عالم الخلق، ثم ارتقى بالخلق إلى الحق، ثم سما بالحق إلى الخير العام؛ فهو سمو فوق الحياة بثلاث طبقات، وتدرج إلى الكمال في ثلاث منازل، وابتعادٌ عن الأوهام بمسافة ثلاث حقائق.
وبتلك الأعمال والآداب كانت الدنيا المسلمةُ التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم دنيا أسلمت طبيعتها، فأصبحت على ما أراد المسلمون لا ما أرادت هي؛ وكأنها قائمة بنواميس من أهليها لا على أهليها؛ وكان الظاهر أن الإسلام يغزو الأمم بالعرب ويفتتحها، ولكن الحقيقة العجيبة أن إقليماً من الدنيا كان يحارب سائر أقاليم الأرض بالطبيعة الأخلاقية الجديدة لهذا الدين؛ وكأن الله تعالى ألقى في رمال الجزيرة روح البحر، وبعثها بعثه الإلهي لأمره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو نقطة المد التي يفور البحر منها، وكان المسلمون أمواجه التي غسلت بها الدنيا. . .
لهذا سمع المسلمون الأولون كلام الله تعالى في كتابه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لا كما يسمعون القول، ولكن كما يتلقون الحكم النافذ المقضي؛ ولم يجدوا فيه البلاغة وحدها، بل روعة أمر السماء في بلاغة؛ واتصلوا بنبيهم، ثم بعضهم ببعض، لا كما يتصل إنسان بإنسان، بل كما تتصل الأمواج بقوة المد، ثم كما يمد بعضها بعضاً في قوةٍ واحدة.
وحققوا في كماله صلى الله عليه وسلم وجودهم النفسي؛ فكانوا من زخارف الحياة وباطلها في موضع الحقيقة الذي يرى فيه الشيء لا شيء.
ورأوا في إرادته صلى الله عليه وسلم النقطة الثابتة فيما يتضارب من خيالات النفس، فكانوا أكبر علماء الأخلاق على الأرض، لا من كتبٍ ولا علمٍ ولا فلسفة، بل من قلب نبيهم وحده.
وعرفوا به صلى الله عليه وسلم تمام الرجولة؛ ومتى تمت هذه الرجولة تمامها في إنسان رجعت له الطفولة في روحه، وامتلك تلك الطبيعة التي لا يملكها إلا أعظم الفلاسفة والحكماء، فأصبح كأنما يمشي في الحياة إلى الجنة بخطوات مُسددةٍ لا تزيغ ولا تنحرف فلا شر ولا رذيلة، ودنياه هي الدنيا كلها بشمسها وقمرها، يملكها وإن لم يملك منها شيئاً ما دامت في قلبه طبيعةُ السرور، فلا فقر ولا غنى مما يشعر الناس بمعانيه، بل كل ما أمكن فهو غني كامل، إذ لم تعد القوة في المادة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها، بل القوة في
الروح التي تتصرف بطبيعة الوجود، وتدفع قوى الجسم بمثل دوافع الطفولة النامية المتغلبة، حتى لتجعل من النور والهواء ما يُؤتَدَمُ به مع الخبز القفار، كما يؤتَدَمُ باللحم وأطايبِ الأطعمة.
وبذلك لا تتسلط ضرورةٌ على الجسم - كالجوع والفقر والألم ونحوها - إلا كان تسلطها كأنه أمرٌ من قوةٍ في الوجود إلى قوةٍ في هذا الجسم أن تظهر لتعمل عملها المعجز في إبطال هذه الضرورة. وهذا الجنس من الناس كالأزهار على أغصانها الخضر؛ لو قالت: (إن ثروتي في الحياة هي الحياةُ نفسها، فليس لي فقرٌ ولا غنى، بل طبيعةٌ أو لا طبيعة. . .).
ولقد كان المسلم يضرب بالسيف في سبيل الله، فتقع ضربات السيوف على جسمه فتمزقه؛ فما يُحسها إلا كأنها قُبل أصدقاء من الملائكة يلْقونه ويعانقونه!
وكان يبتلى في نفسه وماله، فلا يشعر في ذلك أنه المُرزأُ المبتلى يُعرف فيه الحزنُ والانكسار، بل تظهر فيه الإنسانية المنتصرة كما يظهر التاريخُ الظافرُ في بطله العظيم أصيب في كل موضعٍ من جسمه بجراح، فهي جراحٌ وتشويهٌ وألم، وهي شهادةُ النصر!
ولم تكن أثقالُ المسلم من دنياه أثقالاً على نفسه، بل كانت له أسباب قوةٍ وسمو؛ كالنسر المخلوق لطبقات الجو العليا، يحمل دائماً من أجل هذه الطبقات ثقل جناحيه العظيمين.
وكانت الحقيقةُ التي جعلها النبيُ صلى الله عليه وسلم مثلهم الأعلى، وأقرها في أنفسهم بجميع أخلاقه وأعماله - أن الفضائل كلها واجبةٌ على كل مسلم لنفسه، إذ أنها واجبة بكل مسلم على غيره؛ فلا تكون في الأمة إلا إرادة واحدة متعاونة، تجعل المسلم وما هو إلا روح أمته تعمل به أعمالها هي لا أعماله وحدها؛ المسلم إنسانٌ ممتدٌ بمنافعه في معناه الاجتماعي حول أمته كلها، لا إنسانٌ ضيقٌ مجتمعٌ حول نفسه بهذه المنافع؛ وهو من غيره في صدق المعاملة الاجتماعية كالتاجر من التاجر: تقول الأمانة لكليهما: (لا قيمة لميزانك إلا أن يصدقه ميزان أخيك. .).
ولن يكون الإسلام صحيحاً تاماً حتى يجعل حامله مثلاً من نبيه في أخلاق الله؛ فما هو بشخص يضبط طبيعته، يقهرها مرةً وتقهره مراراً؛ ولكن طبيعةٌ تضبط شخصها فهي قانون وجوده؛ لا يضطرب من شيء، وكيف يضطرب ومعه الاستقرار؟ لا يخاف من
شيء، وكيف يخاف ومعه الطمأنينة؟ لا يخشى مخلوقاً، وكيف يخشى ومعه الله؟
أيها الأسد، هل أنت بجملتك إلا في طبيعة مخالبك وأنيابك. . .؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
الدفاع عن الإسلام
للأستاذ توفيق الحكيم
قرأت لتسع سنوات خلت قصة فولتير التمثيلية (محمد)، فخجلت أن يكون كاتبها معدوداً من أصحاب الفكر الحر. فقد سب فيها النبي سباً قبيحاً عجبت له. وما أدركت له علة، لكن عجبي لم يطل، فقد رأيته يهديها إلى بنوا الرابع عشر بهذه العبارات:
(فلتستغفر قداستك لعبد خاضع من أشد الناس إعجاباً بالفضيلة، إذا تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية. والى من غير وكيل رب السلام، والحقيقة أستطيع أن أتوجه بنقدي قسوة نبي كاذب وأغلاطه؟ فلتأذن لي قداستك في أن أضع عند قدميك الكتاب ومؤلفه؛ وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة. وإني مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القدسيتين)(فولتير 17 أغسطس 1745).
وعلمت في ذلك الحين أن روسو كان يتناول بالنقد أعمال فولتير التمثيلية، فاطلعت على ما قال في قصة (محمد) علني أجد ما يرد الحق إلى نصابه، فلم أر هذا المفكر الحر أيضاً يدفع عن النبي ما أُلصق به كذباً، وكأن الأمر لا يعينه، وكأن ما قيل في النبي لا غبار عليه ولا حرج فيه، ولم يتعرض للقصة إلا من حيث هي أدب وفن. ولقد قرأت بعد ذلك رد البابا بنوا على فولتير، فألفيته رداً رقيقاً كيساً لا يشير بكلمة واحدة إلى الدين، وكله حديث في الأدب. فعظم عجبي لأمر فولتير، وسألت نفسي طويلاً: أيستطيع عقل مثقف كعقل هذا الكاتب العظيم أن يعتقد ما يقول. دين تبعه آلاف الملايين من البشر على مدى الأجيال، هو في نظره حقاً دين كاذب؟ ومبادئ إنسانية كالتي جاء بها الإسلام، هي عنده حقاً مبادئ بربرية؟ أم إنه التملق والزلفى والنفاق. وإن الزمن والتاريخ يضعان أحياناً أقنعة زائفة على نفوس تزعم أنها خلقت للدفاع عن حرية الفكر. . .
منذ ذلك اليوم وأنا أحس كأني فجعت في شيء عزيز لدي: الإيمان بنزاهة الفكر الحر. ولقد كنت أحياناً ألتمس الأعذار لفولتير، وأزعم أنه قال ما قال لا عن مجاملة أو ملق، بل عن عقيدة وحسن طوية استناداً على علم خاطئ بأخبار النبي، ولكن كتابه إلى البابا كان يتهمه اتهاما صارخاً، ويدع مجالاً للشك في دخيلة أمره. إني قرأت لفولتير كتباً أخرى كانت تكشف عن آراء حرة حقاً في مسائل الأديان، وتنم عن روح واسعة الآفاق تكره التعصب
الذميم، فما باله عند عرض لذكر محمد والإسلام كتب شيئاً هو التعصب بعينه، تعصبٌ لدينه، ذهب فيه إلى حد السجود وتقبيل الأقدام، لا لرب العزة والخلق، بل لبشر هو رئيس الكنيسة التي ما أرى أن فولتير كان في ذات يوم من خدامها المخلصين. هي الأطماع التي كانت تدفع فولتير فيما أرى إلى التمسح بأعتاب الملوك والبابوات، ولقد يقدم ثمناً لذلك أفكاره الحرة أحياناً. منذ ذلك الحين وفولتير عندي متهم، ولن أبرئه أبداً، ولن أعده أبداً من بين أولئك العظام الذين عاشوا بالفكر وحده وللفكر. وأحسب أن التاريخ العادل سوف يحكم عليه هذا الحكم، فينتقم للحق بما افتراه على نبي كريم ظلماً وزوراً. على أن الذين يدعو إلى الدهش أكثر من كل هذا أن الشرق والإسلام وقفا من الأمر موقف النائم الذي لا يعي ولا يشعر بما يحدث حوله، فلم أر كاتباً من كتاب الإسلام قام في ذلك الوقت يدفع عن دينه هذا الهراء الذي قال فولتير، ويقذف في وجه هذا الكاتب بالحقائق الباهرة القاطعة، أو أن مؤلفاً وضع كتاباً يبرز فيه شخصية النبي الخيرة العظيمة واضحة جلية. لقد كان الشرق في ليل هادئ بهيم لم تثر فيه حركة فولتير يومئذ ساكناً، ولكن اليوم قد تغير الأمر، ولاجت في أفق الشرق خيوط الفجر، وقام في هذا القرن كتاب يمجدون عقيدتهم وهم يعلمون أن في ذلك تمجيداً للحق وللشرق، فان المسألة ليست مسألة دين فقط، إنما هي أيضاً مسألة جنس وقومية؛ وإذ تقول أوربا:(الإسلام) فإنما تعني في غالب الأحيان (الشرق) إن الحروب الصليبية في حقيقتها لم تكن إلا حرب الغرب على الشرق؛ وإن الفتح الإسلامي عندما بلغ فرنسا وهدد أوربا لم يكن في الواقع إلا حرب الشرق على الغرب. هذا المد والجزر بين الغرب والشرق يفهمه مفكرو الأوربيين تمام الفهم، ويحسبون له الحساب، ويعملون دائماً على أن تكون الغلبة لهم آخر الأمر، أو أن يطيلوا على الأقل أمد غلبتهم إن كان لابد من تبدل الحال ومن دوران الفلك طبقاً لناموس أعلى لا قبل لهم به. فالدفاع عن شخصيتنا وعقيدتنا دفاع عن حياتنا، وإن الكتابات التي توجه لهذا الغرض النبيل ينبغي أن يكون لها علينا حق المؤازرة والتعضيد؛ وإني لست بناقد منقطع للنظر في أعمال المؤلفين وتقدير ما يكتبون، ولكني أريد أن أشير إشارة سريعة إلى ثلاثة أساليب مختلفة من أساليب الكتابة، اتجهت في العصر الحديث إلى هذه الغاية، كل في دائرته.
ففي الكتابة الدينية: (الرد على هانوتو) للأستاذ الإمام محمد عبده، فلقد نشر هانوتو الكاتب
والوزير الفرنسي يوماً مقالة جاء فيها:
(لقد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية، اخترق المسلمون أبناء آسيا شمال القارة الأفريقية بسرعة لا تجاري حاملين في حقائبهم بعض بقايا البيزنطيين (يونان الشرق) ثم تراموا بها على أوربا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدنية يرجع أصلها إلى آسيا، بل أقرب في الصلة إلى المدنية البيزنطية مما حملوه معهم، ألا وهي المدنية الآرية المسيحية، ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحد الذي إليه وصلوا، وأكرهوا على الرجوع إلى أفريقية حيث ثبت فيها أقدامهم أحقاباً متعاقبة) ثم قال في موضع آخر:(وقصر فريق منا بحثه وحكمه على ما شاهده من المناقضات والخلافات بين الدينين المسيحي والإسلامي، فرأى في الإسلام العدو الألد والخصم الأشد. قال جذام فشا بين الناس وأخذ يفتك فيهم فتكاً ذريعاً، بل هي مرض مريع وشلل عام، وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء، ويدمن على معاقرة الخمور، ويجمح في القبائح، وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجئهم إلى الأتيان بمظاهر الهستريا (الصراع) العامة والذهول العقلي، وتكرار لفظة الله إلى ما لانهاية، والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية ككراهية لحم الخنزير، والنبيذ، والموسيقى، والجنون الروحاني، والليمانيا، والماليخوليا، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات) الخ الخ
أمثال هذا الكاتب يعتقدون أن المسلمين وحوش ضارية، وحيوانات مفترسة (كالفهد والضبع، كما يقول المسيو كيمون (وأن الواجب إبادة خمسهم) كما يقول أيضاً (والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع ضريح محمد في متحف اللوفر) وهذا أيضاً قوله (. . وهو حل بسيط وفيه مصلحة للجنس البشري. . أليس كذلك؟ ولكن قد برح عن خاطر الكاتب أنه يوجد نحو 130 مليوناً مسلماً، وأن من الجائز أن يهب هؤلاء (المجانين) للدفاع عن أنفسهم والذود عن بيضة دينهم. . الخ الخ)
فما ظهر هذا الكلام في صحيفة المؤيد، حتى قام الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده لساعته مجرداً قلمه وكتب نحو أربع مقالات هي أقوى ما قرأت دفاعاً عن الإسلام، وإظهاراً لحقيقة مبادئه الخافية على أغلب الأوربيين. وقد ورد على هانوتو فيما أوردنا صائحاً: (ما هذا
التمدين الآري الذي كانت عليه أوربا عندما انتقص أطرافها المسلمون؟؟)
هل كانت تلك المدنية هي التسافك في الدماء، وإشهار الحرب بين الدين والعلم، وبين عبادة الله وبين الاعتراف بالعقل، نعم هذا هو الذي كان معروفاً عند الغربيين وقت ما ظهر الإسلام.
ماذا حمل الإسلام إلى أوربا، وما هي المدنية التي زحف عليهم بها فردوها؟ زحف عليهم بما استفاد من صنائع الفرس وسكان آسيا من الآريين، زحف عليهم بعلوم أهل الفرس والمصريين والرومانيين واليونانيين. نظف جميع ذلك ونقاه من الأدران والأوساخ التي تراكمت عليه بأيدي الرؤساء في الأمم الغربية المتسكعين الذين كانوا في ظلمات الجهالة لا يدرون أين يذهبون.
إني أكيل لمسيو هانوتو إجمالاً بأجمال، والتفصيل لا يجهله قومه، وكثير من منصفيهم لم يستطع إلا الاعتراف به.
إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوؤها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها مدة قرون فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. واليوم يرعى أهل أوربا ما نبت في أرضهم، بعد ما سقت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة).
ثم رد الامام في موضع آخر: (يجب على الباحث في الإسلام أن يطلبه في كتابه، كما يجب عليه أن يطلب آثاره والإسلام إسلام، والمسلمون مسلمون، ولو استشم مسيو (كيمون) الذي استشهد هانوتو بكلامه ريح العلم لما استفرغ ذلك القذر من فيه، ولا حاجة إلى الكلام فيه، فسخافة رأيه وقلة أدبه تكفيه.
من أين أُتى المسلمون وكيف دخل عليهم في عقائدهم بالتشبيه، وفي عوائدهم بالتمويه؟ وممن تعلموا الافتراس، وعمن أخذوا الضراء بالشهوات؟ أنا أعلم ذلك وأهل العلم يعلمون، والله من ورائهم محيط.
اتبع المسلمون سنن من قبلهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى سقطوا في مساقطهم، وطارحوا الأوهام حتى انجروا إلى مطارحهم، وباءوا بما كان لهم وما عليهم.
حدثت في الدين بدع أكلت الفضائل وحصدت العقائل، وترامت بالناس إلى حيث يصب عليهم ما استفرغه (كيمون).
أما لو رجع المسلمون إلى كتابهم واسترجعوا باتباعه ما فقدوه من آدابهم لسلمت نفوسهم من العيب، وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم الله إليه في تنزيله على لسان نبيه، ومهده لهم سلفهم وخطه لهم أهل الصلاح منهم، واستجمعت لهم القوة ودبت فيهم روح الفتوة، وكان ما يلقاه هانوتو وكيمون من دين صحيح شراً عليهما مما يخشونه من دين شوهته البدع.
يرى كيمون أن تخلى وجه الأرض من الإسلام والمسلمين، ويستحسن رأيه هانوتو لولا ما يقف في طريق ذلك كثرة عدد المسلمين؛ وبئسما اختارا لسياسة بلدهما أن يظهرا ضغنهما، ويعلنا خطل رأيهما وضعف حلهما.
أما فليعلم كل من يخدع نفسه بمثل حلمهما أن الإسلام إن طالت به غيبة، فله أوبة، وإن صدعته النوائب فله نوبة، وقد يقول فيه المنصفون من الانكليز مثل (اسحق طلير) وهو قس شهير ورئيس في كنيسة:
(إنه يمتد في أفريقيا ومعه تسير الفضائل حيث سار، فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة والاقدام من أنصاره).
بهذا القلم وهذه المعرفة وهذا الذهن، وقف رجل الإسلام الحديث محمد عبده يذود عن بيضته أمام عدوان جهابذة الفكر والقلم من الأوربيين.
أما في الكتابة الأدبية، فأذكر (على هامش السيرة) للدكتور طه حسين، ففي هذا الكتاب دفاع عن الإسلام كما يستطيع الأدب البحت أن يدافع. فهو لا يسلك الطريق المستقيم في الكلام عن الإسلام، ولا يلجأ إلى التدليل العقلي، إنما يخلق جواً شعرياً يحبب إلى النفس سيرة النبي وبيئته؛ وقد عمد الدكتور طه حسين إلى الأساطير ينسج منها هذا الجو الأدبي الجميل، وتلك وسيلة الأدب والفن، ومن ذا يقرأ هذا الوصف لبلاد النبي ولا تأخذه روعته؟:
(هنالك دعت (آمنة) إليها من حضرها من نساء بني هاشم، فأسرعن إليها وقضين معها ليلة لا كالليالي، أنكرن فيها كل شيء وأعجبن بكل شيء، أنكرن حتى أنفسهن، فقد رأين ما لم ير أحد، وسمعن ما لم يسمع أحد، وأحسسن ما لم يحس أحد. ولم تكن آمنة أقلهن إنكاراً
وإكباراً وإعجاباً - فقد كانت ترى وهي يقظة غير نائمة أن نوراً ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها، ويزيل الحجب عن عينيها، وكانت تنظر فترى قصور بصري في أطراف الشام، وكانت تنظر فترى أعناق الإبل تردى في أقصى الصحراء، وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن ينكرن ما تقول، وأن يظنن بها الظنون، وكانت هذه من صاحباتها لا تمد طرفها إلى شيء حتى تراه نوراً كله، لا ظلمة فيه وإنما هو مشرق مضيء، أو هو الإشراق الخالص، وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر، فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض وتمد إليها أشعة قوية نقية باهرة ساحرة، وإنها لتدنو وتدنو حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وتقع عليه).
لقد دافع طه حسين عن الإسلام في كتابه (على هامش السيرة) وإن كان لم يقصد إلى ذلك. فان الأدب الصرف والفن الصرف لا يقصدان أحياناً إلى شيء، ولكن في مجرد صوتيهما أبلغ الكلام.
أما في الكتابة العلمية فها هو ذا كتاب (حياة محمد) للدكتور محمد حسين هيكل بك. ولو أني أعتقد أن أسلوب الدكتور هيكل في (حياة محمد) يدخل أيضاً في منطقة الكتابة الأدبية، فان هذا الكتاب يعتبر في نظري من كتب (التراجم والسير) التي يضعها الكتاب الأدباء، لا من البحوث العلمية التي يؤلفها المؤرخون العلماء ويعنون فيها بإضافة شيء جديد إلى العلم المعروف، أو استكشاف وثيقة من الوثائق التحريرية أو الآدمية، أو تحقيق مصدر من المصادر. على أن كتاب هيكل هو بلا نزاع أول سيرة نبوية خليقة أن تمثل تطور العقلية الإسلامية في هذا العصر الحديث.
وما أشق انتظارنا هذه الأجيال الطويلة لهذه السيرة الحديثة نضعها إلى جانب سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية وطبقات ابن سعد وغيرها من السير القديمة حتى يستطيع عصرنا أن يجهر بأنه فعل شيئاً من أجل الإسلام.
ولو ان الأستاذ الشيخ محمد عبده حي اليوم لاستقبل هذا الكتاب بمثل ما استقبله به الأستاذ الشيخ المراغي، فرحاً بهذا القلم الجديد ينهض لخدمة الحق والإسلام.
ولقد ذكرت هذه الكتاب وهذه الأساليب الثلاثة بالذات لما رأيته فيها من نظرة جديدة إلى محمد والإسلام. نظرة ملؤها الاكبار الصادر عن فكر حر لا عن تعصب أعمى. ان الناس
لم تعد تعني بتلك الكتب المفعمة بالثناء الأجوف والألقاب الطويلة يحاط بها اسم النبي، وهو في عظمته أجل من أن يحتاج إليها. إنما تريد الناس اليوم حقيقة مجردة ناصعة هي في تجردها أجمل وأسمى وأبلغ في النفوذ إلى القلوب، وهذا ما صنع هيكل بك في كتابه (حياة محمد) على نحو خليق بالثناء، فلقد أسقط من حياة النبي تلك المعجزات التي لا تغني من الحق شيئاً ما دمنا في مجال التدليل العقلي، وأظهر شخصية النبي عظيمة في بشريتها السامية، وأبان عن غرض النبي والدعوة إلى دين جوهره اقتناع النفس بالحقيقة العليا. ان هذه النظرة الجديدة فيها إجلال للنبوة. وان أولئك السفهاء الذين كانوا يطلبون إلى الأنبياء أن يثبتوا نبوتهم بالمعجزات قد أثموا في حق الفكر البشري قبل أن يأُثموا في حق الدين.
ان المعجزة: أي الإتيان بعمل خارق للمعتاد لا يدل على شيء ولا يثبت نبوة ولا يدحضها. فان من الكهان أو بسطاء الناس من يملكون أحياناً تلك القوى الخارقة في أجسامهم أو عقولهم أو أرواحهم دون أن يكونوا من أجل ذلك أنبياء. إن النبي ليس في حاجة إلى معجزة كي يكون نبياً. إنما النبي من حمل رسالة علوية لا ينصرف عن الحياة بغير ذلك، فقد بلغهم رسالته واعتمد في إثباتها على العقل المجرد.
ولقد جاء في كتاب هيكل بك: (لما جهد المسلمون عطشاً أثناء مسيرة جيش العسرة إلى غزوة تبوك ثم أمطرتهم السماء ذهب بعضهم إليه (إلى النبي) يقول إنها معجزة، فكان جوابه:(إنما هي سحابة مارة)؛ ولما كسفت الشمس يوم اختار الله ابنه إبراهيم إلى جواره قال الناس: (إن هذا الكسوف معجزة) فكان جوابه: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته) هذا جواب محمد الذي قيل إنه نبي كاذب!!! فهل يمكن أن يكون هذا جواب نبي كاذب؟؟
ان في كتاب هيكل صفحات تصلح رداً بليغاً على فولتير. إن محمداً هو أعظم من فهم حقيقة النبوة، ووعى معنى الحقيقة العليا، وأدرك أن أكبر معجزة في هذا الكون هي انه لا يوجد في الكون معجزات، وأن كل شيء يسير طبقاً لنظام دقيق. وإذا قيل نظام قيل قانون، وإذا قيل قانون قيل عقل مدبر، وهذا العقل واحد أحد تبدو سعته في إدارة الأجسام غير المحدودة في الصغر، ذات اليد العلوية وعين أثرها في كل شيء، يد واحدة لا تتغير وقانون واحد لا يتغير. إن محمداً كما يبدو في وصف الدكتور هيكل قد تأمل الطبيعة كثيراً،
وفكر ملياً في نظامها العجيب فكشف عن بصيرته وبصره فامتلأقلبه بالله، كما اقتنع عقله بوجوده، فجاء دينه ديناً كاملاً، صادقا في نظر القلب والعقل معاً. ولئن كان على الأرض نبي أحب العلم، ولم يخش دينه العلم، ولم يضطهد العلماء، فهو (محمد) الذي قال:(فضل العلم خير من فضل العبادة)(اطلب العلم ولو في الصين) وكثيراً من الأحاديث التي تثني على العلم وتحض عليه. ذلك أن مصدر اقتناع العلم ومصدر اقتناع محمد واحد: الكون وملاحظة ما فيه من إبداع ينم عن يد الخلاق العظيم.
في كتاب حديث العالم انشتين فصل ذكر فيه رأيه في الدين، قال إنه يعتنق ما يسميه (الديانة الكونية) تلك الديانة التي تملأ قلب كل عالم انقطع لتأمل (ذلك التناسق العجيب بين قوانين الطبيعة وما يخفي من عقل جبار لو اجتمعت كل أفكار البشر إلى جانبه لما كونت غير شعاع ضئيل أقرب القول فيه انه لا شيء).
لا ريب عندي أن إحساس انشتين نحو الكون والله هو عين إحساس محمد يوم كان يتحنث في غار حراء قبل نزول الوحي. لنما الأنبياء والعلماء قلوب واعية تشعر بجلال الله. ولا يمكن لنبي أن يكون نبياً إلا أن يشعر من تلقاء نفسه بعظمة الخليقة ويتحرق شوقاً إلى معرفة صانعيها، ولا يزال الشوق بقلبه حتى يكشف له الصانع الأعظم عن بعض نوره، ويوحي إليه بنشر هذا النور على الإنسانية. أني كلما تأملت شخصية محمد مجردة ثبت إيماني بأن الخصومة المعروفة بين العلم والدين ليس لها في الحقيقة وجود، وان الدين الحق لا يتعارض والعلم الحق. . . بل إن الدين والعلم شيء واحد، كلاهما يطلب نور الله ويريد وجه، وكلاهما يعي ويؤمن ويلهج بتناسق الوجود ووحدة قوانينه ودلالة وحدة الوجود على وحدة الخالق. ولم يظهر نبي حق ولا عالم حتى شعر بغير ذلك. إنما الفارق بين العلم والدين في السبل التي يسلكها كل في الدنو من الله. ومن قال إن وسائل العلم ينبغي أن تماثل وسائل الفن أو وسائل الدين؟؟؟
إن الطرائق والسبل يجب أن تظل مختلفة مميزة لا يختلط بعضها ببعض، إنما المصدر واحد دائماً والغاية واحدة. فما الدين والعلم والفن إلا خيوط ثلاثة كتب على بشريتنا القاصرة العمياء أن تتمسك بها لتهتدي إلى ذلك النور الذي لا بداية له ولا نهاية: الله
إن الإسلام وهو أحدث الأديان، وهو الذي لم يخاصم العلم، وهو الذي أتسع صدره لكل
شيء يصلح فيما يرى الدكتور هيكل لمعالجة أزمات العالم الحاضر، الروحية والاجتماعية والاقتصادية. وهو رأي صادق إذا قيض الله للإسلام رجالاً ذوي نظرة وذهن مستنير واطلاع واسع، يبرزون فضائله بأساليب جديدة، ويتولون إذاعته والدفاع عنه بأقلام ذكية قديرة. ولقد صنع هيكل كثيراً في هذا السبيل بأسلوبه الجديد في (حياة محمد). ولئن كان قد أثم في دنياه فلقد اشترى بكتابه آثامه!!! ولسوف يتقدم يوم الدين وكتابه بيمينه يشفع له في دخول الجنة!!! ولسوف يدخلها بأذن الله متأبطا ذراع طه حسين بما قدمت يمناه هو أيضاً من كتاب أدبي جميل (على هامش السيرة)، كان له ولا ريب الأثر في حمل الناس على استمراء أخبار النبي، ولهما بعد ذلك ولأمثالهما ممن دافعوا ويدافعون عن الإسلام خير التحية: فإني قلتها وأقولها دائماً: ليس الأمر أمر عقيدة وديانة، إنما هو إلى جانب هذا أمر حياة تلك الكتلة التي يسميها الغربيون: الشرق. وما الدفاع عن الإسلام إلا الدفاع عن الشرق.
توفيق الحكيم
صفحة من التاريخ - ليسمع العلماء
مشايخ الأزهر والسياسة في القرن الثامن عشر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
حدث غير مرة في تاريخ العالم أن تصدى رجال الدين أو رجال العلم للسياسة ولم يكونوا في ذلك مختارين، بل كانت الظروف تدفعهم إلى موقف يجدون فيه أنفسهم مسئولين عن التدخل في أمر السياسة. فلا يجدون مفراً من أن يضطلعوا بحملهم، حدث أن بابا (روما) وجد نفسه حيال حكومة غالبة في إيطاليا من قوم أجانب عن أهلها جنساً ولغة، وذلك عندما استولى القوط على إيطاليا ونزعوها من سائر الدولة الرومانية. وكان البابا بغير شك زعيم القوم في أمور الدين، فكان الغالبون من القوط يلجأون إليه فيما يمس قومه لكي يلتمسوا عنده رضا أهل البلاد. وكان أهل البلاد في الوقت عينه يتطلعون إليه لكي يقف على رأسهم ويحفظ عليهم كيانهم وتقاليدهم، ويتوسط عند أهل الدولة فيما يمس مصالحهم وأمور دنياهم. فكان لا غنى للبابا عن النظر في أمور الدولة، ولا مندوحة له عن التدخل في أمور السياسة. وكان هذا هو شأنه عندما ذهبت دولة القوط وحكمت إيطاليا دولة اللمبارديين، فان البابا وقف الموقف عينه، ووجد نفسه بطبيعة الظروف القاهرة ممثل الإيطاليين وزعيمهم والناطق بلسانهم إذا ما احتاج الأمر إلى من ينطق بلسان أهل البلاد في وجه الدولة اللمباردية الحاكمة. وكذلك كان الحال عند ما جاء الروم إلى مصر وفتحوها وأقاموا بها الحكم على المصريين، فان بطريق المصريين كان يحكم مركزه الديني زعيماً في قومه في أمور الدين، فلما جاء الروم صار ذلك الزعيم الديني مضطراً إلى أن يمثل قومه عند الحكام وينطق بلسانهم ويتصدى لأمورهم، حتى لقد أصبح بطريق المصريين في آخر الأمر هو الممثل القومي للمصريين؛ وكم وقف البطارقة على رأس الشعب المصري في وجه الحكم الأجنبي الروماني، ومن هؤلاء البطريق الأكبر بنيامين الذي ناله من التصدي لأمور السياسة أكبر الأذى، وتحمل النفي والخوف، وتحمل أتباعه من رجال الدين ألوان العذاب في سبيل استقلال مصر كما كانوا يفهمونه.
إذن لم يكن لمصر أن تخرج عن هذه السنة الطبيعية، فإنها كانت في القرن الثامن عشر تحكمها حكومة على رأسها الباشا ممثل السلطان التركي، ويعاونه الأمراء المصريون الذين
هم من أجناس غير مصرية الأصل. فكان لابد لهذا النظام أن يتجه إلى ممثلي الشعب وزعمائه، وكان لابد له أن يلجأ إليهم في كثير من الأحوال لكي يسترضي ذلك الشعب ويتحبب إليه ويسهل بذلك طريق الحكم. وكان لابد كذلك للشعب من أن يتخذ له ممثلين من صفوفه وأن يجعل له زعماء يهرع إليهم إذا آذاه شيء من جانب الحكومة الأجنبية التي تحكم البلاد.
وكان علماء الأزهر الطبقة المستنيرة من الشعب، وهم الذين يعرفون تقاليد الحكم الإسلامي في الدول الماضية، وهم الذين يعرفون العرف الذي جرت عليه الأجيال الماضية في أيام الحكومات المستقلة الجليلة التي حكمت البلاد من قبل. فكان من الطبيعي أن يتصدر هؤلاء العلماء في الحوادث، وأن يلجأ إليهم أهل مصر عندما تلم بهم ملمة يطلبون إليهم أن ينادوا بالحق الذي يبيحهم إياه القانون، وأن يطالبوا بالحريات التي كفلها لهم العرف والدين في الأجيال المتعاقبة. ولقد تصدر جماعة من هؤلاء العلماء وقاموا بما وجب عليهم في ذلك قياماً محموداً؛ وإنا لذاكرون هنا بعضهم اعترافاً بما كان من فضلهم على البلاد.
ولو شئنا أن نفصل مواقف مشايخ الأزهر في أمور السياسة لما اتسع لذلك مجال القول هنا. ولهذا سنجتزئ بذكر ما كان منهم في موقف واحد في تاريخ مصر في القرن الثامن عشر في الوقت الذي اشتد فيه عبث مراد وابراهيم بالمصريين.
بلغت محاولات مصر نحو الاستقلال قصاراها في عهد علي بك الكبير، ثم قضي عليها إذ كان الوقت لم يحن بعد للاستقلال الدائم، إذ أن الاستقلال لا يمكن أن يدوم إلا إذا قام على دعامة قوية من الشعب، وهذا ما كان ينتظر حدوثه حتماً في يوم من الأيام. غير أن الملك المصري الذي حكم بعد علي بك الكبير لم يكن بأقل منه قدراً، ولا بأهون منه خطراً، ولا بأهدأ منه حماسة للاستقلال. وقد أراد الله ألا تطول أيامه فمات والبلاد في أشد الحاجة إلى وجوده ليقوم على ملكها ويسيطر على زعماتها. فوقعت السلطة في أيد طائشة ليس لها خبرة بالحكم ولا مكانة في القلوب، وأصبح الأمر في يد مراد وإبراهيم وهما من مماليك أبي الذهب، ولكنهما لم يكونا بعد قد صفوا وجربا وظهرا في الحوادث بالمظهر الذي يرشحهما ترشيحاً صادقاً لحكم البلاد، فحكما وكان حكمهما تجربة قاسية.
كان الشعب المصري قد خضع لعلي بك الكبير ولمحمد بك أبي الذهب منذ رأى فيهما
ملكين عظيمين قادرين على حمايته وحكمه، ولكنه لم يجد في مراد وإبراهيم غير طاغيتين متجبرين لا ينظران من الحكم إلا إلى النفع، ولا يعرفان من أساليبه إلا الكبرياء والسطوة. ومنذ رأى في الحاكمين الجديدين هذا تحرك واضطرب ووقف على استعداد للدفاع عن مصلحته وكرامته ثابتاً متنبهاً.
وكان مشايخ الأزهر هم الطبقة المستنيرة من أبناء مصر الصميمين، جاءوا جميعاً من قراها وأريافها ومدنها، فكانوا من بين صفوف الشعب وأبناء الأرض يحسون ما يحسه الناس وينظرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم. وقد زادوا على إخوانهم ميزة كبيرة بأنهم حفظوا في صدورهم نصوص الشريعة والآراء المختلفة في أحكامها وحفظوا ما تخلف من تراث القرون من عرف وما يبيحه القانون الإسلامي لأفراده من حقوق وحريات. فكان من الطبيعي أن يقفوا من الشعب المصري موقف الزعامة في كل حادث جليل، وأن ينطقوا باسمه ويعربوا عما في قلبه من الآمال والآلام. فوقفوا على رأس الشعب في كل خلاف قانوني حاول فيه الطغاة أن يخرقوا حرمة القانون، وانتصروا في كل وقفة من وقفاتهم فنصروا فيها القانون والحق، ثم وقفوا يمثلون الشعب في ديوان الحكم فنطقوا باسم مصر وأعربوا عن آمالها وعن شخصيتها، وانتصروا في وقفتهم فأعلوا من اسم الشعب الذي يمثلونه ورفعوا رأسه، ثم وقفوا على زعامة الشعب في نضاله مع الطغاة في سبيل إصلاح الحكم، وانتصروا مرة ثالثة وساروا بشعبهم في سبيل الحصول على ماله من الحقوق والحريات؛ وما كان أجدرهم أن يبلغوا به الغاية والقصد ويقيموا في مصر حكومة وطنية صالحة قائمة على احترام حقوق الأفراد والسعي إلى ما فيه مصلحتهم. وما كان أحراهم لو طال بهم الزمن أن يبلغوا بمصر قصارى ما تصل إليه الأمم الحريصة على حقوقها الساعية إلى الإصلاح.
بعد مضي سنة واحدة من حكم الطاغيتين مراد وإبراهيم ثارت مسألة في خلاف على وقف، ولم يكن للمسألة في ذاتها خطر خاص، بل كان الأمر نضالاً على مبدأ وقف فيه بعض الأمراء يلوحون بالقوة والطغيان، ووقف فيه بعض أفراد الشعب يعتصمون بالحق والشريعة. والتجأ الجانبان إلى المحكمة فحكمت حكمها في الخلاف. وكان في مصلحة الأفراد على رغم ما يريده الأمير المدل بالقوة، فأبى الأمير الإذعان، وأصبح الأمر معلقاً
بين أن ينتصر القانون وبين أن تجتاح القوة كل سياج وكل حرمة. فأدرك العلماء أن واجبهم يناديهم بالمحافظة على القانون، ولم يترددوا لحظة، بل هبوا لينصروا الحق لم يتخلف منهم واحد، وكان على رأس الحركة الشيخ الدردير رحمه الله وطيب ثراه. أرعد الأمير وأبرق، وأرغى وأزبد، ونهر وتوعد، غير أن العلماء وقفوا وثبتوا، وأرغوا وأزبدوا في سبيل الحق والقانون. وقام الشعب من ورائهم يؤيدهم، وكانت مظاهرة كبرى، فأغلق الناس حوانيتهم انتصاراً للعلماء والشرع، وأوشك الأمر أن يفضي إلى فوضى شاملة. فجزع عقلاء الأمراء المصريين من تلك الحال وأشفقوا أن تسيل الدماء وأن تعطل المصالح. فاجتمعوا وتشاوروا ثم أرسلوا إلى الأمير المعاند فاحتجوا على موقفه وأمروه بالنزول على ما أراد القانون، فأذعن وهو كاره بعد مشادة عنيفة، ولم يرض العلماء أن يتركوا الأمر يفلت من أيديهم بغير حق مسجل يكتسبونه للناس، فكتب لهم صلح رسمي به شروط على الأمراء وتعهد من الحكام بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه العرف. وهكذا كان العلماء يكسبون للشعب حقوقه حقاً حقاً ويبنون في دستور مصر حجراً بعد حجر وإن كانوا في ذلك يسيرون في تؤدة وبطء.
وإنا إذا ذكرنا اسم السيخ الدردير فلسنا نذكره إلا لأنه كان علم القوم وزعيمهم. ولقد كان معه عدد كبير من إخوانه يستند إليهم وينتصر بإمدادهم. وفي الحق إن العلماء بمثل هذه الهمة لم ينزلوا ولم يسمحوا لأنفسهم أن ينزلوا إلى موضع المهانة في تلك الأيام التي يصفها البعض بأقسى النعوت. بل لقد كانوا أكفاء لأعلى الرؤوس في الدولة؛ ثارت مرة مناقشة حادة بين بعضهم وبين أمير من كبار الأمراء في مسألة قانونية، فخرج الأمير الغاضب عن حدود الأدب بأن قال للعالم:(والله أكسر رأسك) فكان جواب العالم الغاضب أشد وأقسى، إذ قال له صارخاً:(لعنك الله ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن جعلك أميراً) وتوسط من كان بالمجلس من الأمراء فيما بينهما. ولم يجد الأمير بداً من الإذعان لما يقضي به الشرع حسب ما رآه العلماء.
وكان بيت العالم حرماً لا يعتدي عليه مهما كان الباعث على ذلك، فقد كان بعض الأمراء يهربون خوفاً من انتقام منافسيهم فلا يجدون ملجأ يهربون إليه ويعتصمون به إلا بيت العالم يدخلونه ليأمنوا فيه. وقد طلب من أحد العلماء مرة أن يسلم جاره الأمير الذي دخل بيته
ملتجئاً فلم يرض أن يسلم اللاجئ إلى بيته، ولم يجرؤ أحد على دخول منزلة عنوة خوفاً من أن يكون في ذلك جرح لكرامة زعيم الشعب.
وقد زاد نفوذ العلماء في أيام هذا الاضطراب وعلا صوتهم فأصبح مسموعاً دوياً في الحوادث الكبرى، كما أصبح مسموعاً داوياً في الديوان الذي كان ينعقد بالقلعة لحكم البلاد، وكان فيه الأمراء والرؤساء وأكابر العلماء يمثلون الشعب. وأصبح صوت العلماء في ذلك الديوان يمثل المعارضة وينادي بما فيه نفع لمصر وما فيه مصلحة أبناء مصر.
ثم أرسلت تركيا جيشاً بقيادة القبطان حسن باشا لتأديب الطاغيتين مراد وإبراهيم على سوء حكمهما فخرج العلماء على رأس وفد لمقابلة القائد التركي ليذكره بضرورة الاحتراس والاحتياط في حربه الأمراء حتى لا يؤذي مصالح الناس ولا يضحي بأموالهم. قال الجبتي يصف ذلك: (فتعين لذلك الشيخ أحمد العروسي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد الحريري، ومن الأجاقلية إسماعيل أفندي الخلوتي وإبراهيم أغا الورداني وذهب صحبتهم سليمان بك الشابوري. . . . . . . . . على أنهم يجتمعون به (بالباشا القائد) ويكلمونه ويسألونه عن مراده ومقصده ويذكرون له امتثالهم وطاعتهم. . . ويذكرونه حال الرعية وما توجبه الفتن من الضرر والتلف).
وقد بلغ من ذعر ابراهيم ومراد وخوفهما من حركة الشعب أن جعلوا في ذلك الوقت يتملقون المشايخ خوفاً منهم أن ينتهزوا الفرص فيثيروا على حكمهم ثورة عندما تقبل جنود الدولة العلية من الشمال. قال الجبرتي: (فذهب إبراهيم (في عيد الفطر) إلى الشيخ البكري ثم إلى الشيخ العروسي والشيخ الدردير وصار يحكي لهم وتصاغر في نفسه جداً وأوصاهم على المحافظة وكف الرعية من أمر يحدثونه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت فإنه كان يخاف ذلك جداً).
وقد كسب العلماء للمصريين حقاً جليلاً في أثناء هذه الحوادث فإنه بفضل سعيهم أصدر القائد التركي حسن باشا عندما دخل مصر قانوناً كان يقضي بأن أهل مصر لا يمس أحد منهم إلا بمقتضى القانون الشرعي وأن لا سبيل على أحد منهم إلا بمقتضى ذلك القانون وحده. ثم لم يتردد العلماء بعد ذلك في الوقوف إلى جانب القانون ولو كان وقوفهم في وجه الباشا القائد المنتصر نفسه. فانه عقب انتصاره أحب أن ينكل بالمنهزمين من الأمراء
المصريين فأراد أن يبيع نساءهم، مع أن القانون الشرعي لا يبيح بيع الجارية المملوكة إذا صارت أما أو أصبحت حرة، فوقفوا في وجه ولم يمكنوه من ذلك لمخالفته المكفولة للأفراد في الشريعة الإسلامية.
أما في جلسات الديون فلم يكن صوت العلماء أضعف جرساً، فكانوا يعارضون في كل شيء يمس مصالح المصريين حتى في الأمور الخاصة بالدولة ذاتها، فقد عرضت مرة مسألة الديوان خاصة بالاستعانة بجنود من بلاد الدولة العثمانية، فوقف الشيخ العروسي فقال:(إن الأمر لا يحتاج إلى ذلك، فان العساكر الرومية (التركية) لا تنفع بين العساكر المصرية، والأولى استجلاب خواطر الجند بالإحسان اليهم، والذي تعطونه للأغراب أعطوه لأهل بلادكم أولى) وقد أخذ الديوان برأيه في ذلك اليوم.
ولكن العلماء اظهر تمثيلاً للشعب المصري، وأكثر جلالاً في وقوفهم على رأس مظاهرات العامة كلما جد أمر يدعوا إلى الاحتجاج، أو حدث حادث فيه تعرض للحقوق والحريات. ولم تكن تلك الحركات قليلة، كما أنها لم تكن مقصورة على القاهرة، فقد ثارت ثورات في القاهرة، وثارت مثلها في رشيد، ومثلها في طنطا وفي بلبيس. وكان العلماء دائماً على رأس تلك الثورات الشعبية، يظلون كذلك حتى ينتهي الأمر بإذعان القوة للحق. قال الجبرتي في وصف ثورة من ثورات الشعب في الحسينية:(وحضروا إلى الأزهر ومعهم طبول، والتف عليهم جماعة كثيرة من أوباش العامة، وبأيديهم نبابيت ومساوق، وذهبوا إلى الشيخ الدردير فونسهم وساعدهم بالكلام، وقال لهم: أنا معكم) واستقر العزم عند ذلك على جهاد الأمراء الظالمين وإيقافهم عند حد القانون بالقوة ما لم ينتهوا بالقول. وحدث مثل ذلك في طنطا وكان الشيخ الدردير كذلك على رأس المتظاهرين ضد الظلم هناك، قال الجبرتي:(فركب بنفسه وتبعه جماعة من العامة حتى التقى بالأمير، فكلمه ووبخه، وهو راكب على بغلته، وقال لهم: انتم ما تخافون الله) وحدث اصطدام أثناء ذلك بين العامة والحاكم وأتباعه، أصيب فيه جماعة من الجانبين، وضُرب الحاكم نفسه ضرباً شديداً.
وحدث مرة أخرى أن اعتدى موظف إداري وهو (الوالي) أحمد أغا على بعض أهالي الحسينية، وأشتد في مطالبة أحمد سالم الجزار، وأراد القبض عليه مخالفاً في ذلك العهد الذي تعهد به الباشا من قبل، ألا يمس أحد إلا بمقتضى الشريعة الإسلامية. فثار أهل
الحسينية ثورة هائلة، والتجأوا إلى الشيخ العروسي يلتمسون عنده الحماية من الظلم (وكان الشيخ الدردير قد توفي إلى رحمة الله) فقام الشيخ العروسي بأمر الوساطة في شأنهم، وانتهى الأمر بعد مشادة طويلة بعزل الوالي وتولية والي آخر. قال الجبرتي: ونزل الوالي الجديد من الديوان إلى الأزهر، وقابل المشايخ الحاضرين واسترضاهم. ثم ركب إلى بيته وأنفض الجمع، وكأنها طلعت بأيديهم والذي كان راكباً حماراً ركب فرساً).
وأشتدت مرة وطأة أحد الأمراء على أهل بلبيس في تحصيل الأموال، فالتجأ الفلاحون إلى الشيخ الشرقاوي ليحميهم، فبدأ الشيخ بمخاطبة مراد وإبراهيم، فلما لم يجد لمسعاه أثراً في إصلاح الحال بالسعي السلمي، دعا إلى الثورة فأجتمع له كثير من أهل القاهرة ومن أهل الأطراف، وأوشك الأمر أن يكون ثورة دموية مدمرة، وقضت القاهرة ثلاثة أيام في اضطراب وخوف، قال الجبرتي:(ثم حضر الباشا إلى منزل إبراهيم بك، وأجتمع الأمراء هناك، وأرسلوا إلى المشايخ، فحضر الشيخ السادات والسيد النقيب والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير. . . . . . . . . ودار الكلام بينهم وطال الحديث، وأنحط الأمر على انهم (الأمراء) ثابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم، وأنعقد الصلح. . . . . . . . . وان يكفوا اتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس. . . . . . . . . ويسيروا في الناس سيرة حسنة. . . . . . . . . وكان القاضي حاضراً بالمجلس، فكتب حجة عليهم بذلك، وفر من عليه الباشا، وختم عليها ابراهيم بك وأرسلها إلى مراد بك فختم عليها ايضاً، وانجلت الفتنة ورجع المشايخ وحول كل منهم وأمامه وخلفه جملة من العامة، وهم ينادون حسب ما رسم سادتنا العلماء).
وبعد فما الذي بين هذا الحال وبين بناء صرح الحريات المصرية كاملاً متماسكاً؟ لقد كان العلماء يبنون ذلك الصرح حجراً حجراً، وكان الشعب من ورائهم يطالب بحقوقه ولا يتنازل عن شيء منها مطالبة المصر على الحياة الكريمة العازمة على التمتع بإنسانيته تمتعاً تاماً. وما كان لمثل هذا الشعب أن ينتهي به السير إلا عندما يريد من العزة والكرامة.
غير ان الله لم يرد ان يكون هذا في ذلك الوقت، فقد نزلت بمصر كارثة الغزوة الأجنبية، غزوة الحملة الفرنسية التي عاقت ذلك السير المجيد وحفرت هوة عميقة بين ماضي مصر المجيد وحاضرها، وبين سعيها في القرن الثامن عشر وسعيها اليوم.
ألا فلتقطع ألسنة الذين يقولون إن دستور مصر كان منحة مهداة، أو أن حريات مصر كانت عطية مسداة. فلقد كان شعب مصر لا يني يسعى إلى تلك الحريات، ويحمي تلك الحقوق، مضحياً في ذلك بكل شيء، حتى بالدماء!
محمد فريد أبو حديد
عبرة الأندلس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ليس في تاريخ الإسلام كله صفحة أدعى إلى الشجن والأسى من تاريخ الأندلس، ففي الأندلس وحدها بادت أمة إسلامية عظيمة، ومحيت حضارة إسلامية زاهرة، ولم تبق ثمة من تلك الصفحة الباهرة سوى ذكريات دارسة.
وقد زالت دولة الإسلام في الأندلس ومحيت صفحته وأبيد أبناؤه منذ أربعة قرون، وقام فوق الأرض شعب غير الشعب، ودين غير الدين، وحضارة غير الحضارة، ولكن المأساة ما تزال حية في صدر كل مسلم يستعرض هذه الصفحة، وما زالت تثير في النفس بالغ الحسرات.
عاشت دولة الإسلام في الأندلس زهاء ثمانية قرون، ولم يكن غريباً أن تغيض في هذا القطر النائي المنعزل عن باقي الأقطار الإسلامية، بعد أن لبثت قروناً تمزق بعضها بعضاً، ولكن الغريب هو انها استطاعت رغم جراحها الدامية أن تصمد للعدو الخالد المتربص بها مدى قرون.
على أن تاريخ الأندلس نفسه يقدم إلينا سر هذا الفناء البطيء الذي سرى إلى الدولة الإسلامية منذ قيامها، سنحاول أن نستعرض في هذه اللمحة السريعة بعض العلل الجوهرية التي أصابت المجتمع الإسلامي في الأندلس منذ تكوينه، وغدت بمضي الزمن داء ذريعاً يقضم أسسه ويقوض دعائمه، وما زالت به استنفدت قواها وحملته إلى هاوية الانحلال والعدم.
كان فتح العرب لأسبانيا فاتحة عصر جديد وبدء تطور عظيم في حياتها العامة وفي نظمها الاجتماعية. ومع أن العرب شغلوا حيناً بتوطيد الفتح الجديد ودفع حدوده، فأنهم استطاعوا في أعوام قلائل أن يقمعوا عناصر الشر والفوضى وأن ينظموا إدارة البلاد المفتوحة، وأن يبثوا في الجزيرة روحاً جديداً من الأمل والحياة.
وقد قضى الفتح على سلطان الطبقات الممتازة، وتنفس الشعب نسيم الحرية، وفرض المسلمون الضرائب بالمساواة والعدل بعد أن كان يفرضها حكم الهوى والجشع، وأمن الناس على حياتهم وحرياتهم وأموالهم، وترك الفاتحون لرعاياهم الجدد حق أتباع قوانينهم
وتقاليدهم، والخضوع لقضائهم. أما في شأن الدين وحرية العقائد والضمائر فقد كانت السياسة الإسلامية مثلاً أعلى للتسامح، فلم يظلم أحد أو يرهق بسبب الدين والاعتقاد، وكانت تأدية الجزية هي كل ما يفرض على الذميين من النصارى واليهود لقاء الاحتفاظ بدينهم وحرية شعائرهم، ومن دخل الإسلام سقطت عنه الجزية وأصبح كالمسلم سواء بسواء في جميع الحقوق والواجبات. وفي ذلك يقول العلامة دوزي:(لم تكن حال النصارى في ظل الحكم الإسلامي مما يدعو إلى الكثير من الشكوى بالنسبة لما كانت عليه من قبل. أضف إلى ذلك أن العرب كانوا يتصفون بكثير من التسامح، فلم يرهقوا أحد في شئون الدين. . . ولم يغمط النصارى للعرب هذا الفضل، بل حمدوا للفاتحين تسامحهم وعدلهم وآثروا حكمهم على حكم الجرمان والفرج) ثم يقول دوزي عن آثار الفتح الاجتماعية: (كان الفتح العربي من بعض الوجوه نعمة لأسبانيا، فقد أحدث فيها ثورة اجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعاينها البلاد منذ قرون. . .).
غير أن هذه الدولة الجديدة التي بعثها الإسلام في أسبانيا، كانت تحمل منذ البداية جرثومة الخلاف والخطر، وكان المجتمع الجديد، الذي جمع الإسلام شمله ومزج بين عناصره يضطرم بمختلف الأهواء والنزعات، وتمزقه فوارق الجنس والعصبية. كانت القبائل العربية ما تزال تضطرم بمنافساتها القديمة الخالدة، وكان البربر الذين يتألف منهم معظم الجيش يبغضون قادتهم ورؤساءهم من العرب، وينقمون عليهم استئثارهم بالسلطة والمغانم الكبيرة، وكثيراً ما رفعوا لواء العصيان والثورة. وكان المسلمون الأسبان، - وهم المولدون أو البلديون - محدثون في الإسلام يشعرون دائماً بأنه، رغم إسلامهم أحط من الوجهة الاجتماعية من سادتهم العرب. ذلك أن العرب، رغم كون الإسلام، يسوي بين جميع المسلمين في الحقوق والواجبات ويمحو كل فوارق الجنس والطبقات، كانوا يشكون في ولاء المسلمين الجدد، ويضنون عليهم بمناصب الثقة والنفوذ، هذا إلى أن العربي في الأقطار القاصية التي افتتحها بالسيف لم يستطع أن يتنازل عن كبرياء الجنس التي كانت دائماً من خواص طبيعته، فكان مثل الإنكليزي السكسوني يعد نفسه أشرف الخليقة. على أن الخلاف بين العرب أنفسهم كان أخطر ما في المجتمع الجديد من عوامل التفكك والانحلال؛ فقد كانت عصبية القبائل والبطون ما تزال حية في الصدور، وكان التنافس بين الزعماء
والقادة يمزق الصفوف ويجعلها شيعاً وأحزاباً، وكانت عوامل الغيرة والحسد تعمل عملها في نفوس القبائل والبطون المختلفة. وأشد ما كانت تستعر نار الخلاف والتنافس بين اليمنية والمضرية، وذلك لأسباب عديدة ترجع إلى ما قبل الإسلام، منها أن الرياسة كانت لعصور طويلة قبل الإسلام في حمير وتبًع أعظم القبائل اليمنية، وكانت لهم دول ومنعة وحضارة زاهرة، بينما كانت مضر بدواً خشنين يخضعون لحمير ويؤدون لهم الجزية؛ وكان بينهما خصومات وحروب مستعرة طويلة الأمد؛ ولنا في (أيام) العرب ووقائعها المشهورة أمثلة رائعة من هذا النضال. قال ابن خلدون (واستمرت الرياسة والملك في هذه الطبقة اليمانية أزمنة وآماداً بما كانت صبغتها لهم من قبل، وأحياء مصر وربيعة تبعاً لهم - فكان الملك بالحيرة للخم في بني المنذر، وبالشام لغسان في بني جفنة ويثرب، وكذلك في الأوس والخزرج، وما سوى هؤلاء من العرب فكانوا ضواعن بادية، وأحياء ناجعة، وكانت في بعضهم رياسة بدوية، وراجعة في الغالب إلى أحد هؤلاء. ثم نبضت عروق الملك وظهرت قريش على مكة ونواحي الحجاز؛ فاستحالت صبغة الملك اليهم، وعادت الدول لمضر إلى بينهم، واختصت كرامة الملك بالنبوة منهم، فكانت فيهم الدولة الإسلامية كلها إلا بعضاً من دولها، قام بها العجم اقتداء بالملة وتمهيداً للدعوة). وهكذا أسفر، النضال لظهور الإسلام عن تحول في الرياسة، وانقلبت الآية فأصبحت المضرية تعمل على الاحتفاظ برياستها، واليمنية تجاهد في انتزاعها منها. وكانت مسألة اللغة أيضاً من أسباب ذلك الخلاف. ذلك أن لسان الحمير كان أصل اللغة العربية التي اعتنقتها مضر، وأسبغت عليها آيات من الفصاحة والبيان، ونزل بها القرآن الكريم على النبي القرشي المضري، فكانت اللغة من مفاخر مضر تغار عليها، وتحافظ على سلامتها ونقائها، أضف إلى هذا وذاك ما كان بين الفريقين من تباين شديد في الطبائع والخلال مما كان يذكي بينهما أسباب التنافس والتباعد، وقد كان الإسلام مدى حين عاملاً قوياً في جمع الكلمة، ولكن العصر الأول ما كاد ينقضي حتى هبت كوامن الخصومة والنضال من مرقدها وعادت تعصف بوحدة المجتمع الإسلامي، وكان هذا الخلاف أخطر وأشد في الأقطار القاصية التي افتتحها الإسلام بالسيف، ففتحت أمام القبائل والأجناس المختلفة التي تعمل تحت لوائه مجالاً واسعاً للتنافس والتطاحن؛ وكان هذا هو بالأخص شأن المجتمع الإسلامي المضطرب الذي قام بأسبانيا.
وكان البربر الذين اشتركوا في فتح الأندلس واستعماره عنصراً خالداً في إذكاء هذا الخلاف؛ فكانت هذه المعركة المزدوجة: العرب فيما بين أنفسهم، ثم العرب والبربر، هي قوام المجتمع الأندلسي.
كان هذا الخلاف يقضم أسس المجتمع الأندلسي الفتي، ولم يمضي على قيامه أربعون عاماً حتى تحولت الأندلس إلى بركان مضطرم من الحروب الأهلية؛ واستمرت هذه المعارك الداخلية زهاء قرن ونصف، ولم يقف تيارها قيام دولة أموية جديدة، ولم تتخللها في ظل هذه الدولة سوى فترة يسيرة من السكينة والتوطد، منذ الناصر إلى المنصور. بيد أن خطراً جديداً كان خطر المملكة النصرانية الأسبانية، التي نشأت صغيرة متواضعة ونمت بسرعة مدهشة، وأخذت تنافس المملكة الإسلامية، وتتحين فرص الإيقاع بها، ولم تفطن الأندلس إلى هذا الخطر الداهم؛ وما كاد صرح الدولة الأموية ينهار، حتى وثب المتغلبون على أشلاء الأندلس يقتسمونها، وقامت دويلات الطوائف في المقاطعات والمدن، تنافس بعضها بعضاً، وتحاول كل منها أن تنتزع ما بيد الأخرى، وألفى عدو الأندلس الخالد - أسبانيا النصرانية - فرصته السانحة، فأخذت تؤلب دويلات الطوائف بعضها على بعض؛ وملوك الطوائف يرتمون في أحضان النصارى، ويلتمس كل محالفتهم على خصمه ومنافسه. وكادت الأندلس يومئذ تسير مسرعة إلى قدرها المحتوم، وانتزع النصارى كثيراً من قواعدها وأراضيها، لولا أن ظهر في الميدان عامل جديد، هو قيام الدولة المرابطية فيما وراء البحر، ومقدم أميرها يوسف بن تاشفين إلى الأندلس على رأس جنوده البربر، ملبياً داعي الغوث من جانب ملوك الطوائف؛ فهنا استطاعت الدولة الإسلامية أن تنسى خلافها مدى لحظة، وأن تلقي على النصرانية بمؤازرة المرابطين هزيمة حاسمة في سهول الزلافة؛ ثم افتتح المرابطون الأندلس، وأقاموا بها دولة جديدة، ولكن الصرح القوي الباذخ كان قد أخذ ينهار؛ ولم يدم تماسك الدولة المرباطية طويلاً، فقامت بالأندلس ملوك طوائف بربرية جديدة، وعادت الأندلس تسير إلى فنائها، وجاء الموحدون بعد المرابطين، فوصلوا دولة البربر بالأندلس مدى حين.
ثم كانت دولة بني الأحمر بغرناطة، وكانت أندلس جديدة، ولكن صغيرة لا تعدو القطر الجنوبي المسمى بهذا الاسم؛ وكانت أسبانيا النصرانية قد نمت واتسع نطاقها، واستولت
على قواعد الأندلس وثغوره العظيمة: قرطبة مهد الإسلام، وطليطلة، وأشبيلية، ومرسية، وبلنسية، وسرقسطة وغيرها، وسطعت في مملكة غرناطة، مدى حين، لمحة من عظمة الأندلس الذاهبة وحضارتها الزاهرة، واجتمعت أشلاء الدولة الأندلسية العظيمة في هذه المملكة الصغيرة المتواضعة، وشغلت الممالك النصرانية الشمالية مدى حين بخلافها الداخلي. ولكن الأندلس كانت تشعر بمصيرها شعوراً قوياً، واستطاع رجال مثل ابن الخطيب وابن خلدون أن يستشفوا ببصرهم الثاقب ذلك المصير المروع الذي تسير إليه مملكة غرناطة. ذلك أن نفس الخلاف الداخلي الذي قامت عليه الدولة الإسلامية منذ البداية، واستمر يدفع الأندلس إلى مصيرها خلال القرون، كان يعصف أيضاً بهذه المملكة الصغيرة، ولم يمض بعيد حتى أخذت تمزقها المعارك الداخلية، ويثب أمراؤها بعضهم ببعض، ويستعدون خلال هذه المعركة الخطرة، العدو الرابض المتربص بهم جميعاً.
وكان مصرع الأندلس خلال إحدى هذه المعارك الداخلية، وما زالت قصة السلطان أبي الحسن، وأخيه الزغل، وابنه عبد الله أبي محمد، وانشقاق المملكة الصغيرة في أدق ساعات الخطر إلى شطرين، والتجاء أبي عبد الله إلى ملك النصارى لينصره على أبيه وعمه، ثم انتهاز النصارى هذه الفرصة لإيقاع ضربتهم الأخيرة بتلك المملكة التي مهدت لهم سبل الظفر بتمزيق بعضها بعضاً، وتلك الأمة المسلمة التي لم تعرف قط أن تواجه الخطر متحدة الكلمة والقوى - ما زالت هذه كلها عبرة العبر، وكان مصرع الأندلس هذه المرة يسيراً محققاً، فسقطت قواعدها الباقية تباعاً في يد النصارى، وسلمت غرناطة أخيراً، ووقعت النتيجة المحتومة، وطويت صفحة الدولة الإسلامية في الأندلس، ولم يمض جيل أو اثنان حتى طويت صفحة الإسلام كله، وكل آثاره وذكرياته من أسبانيا.
وقد كانت مأساة الأندلس وما زالت عبرة بالغة ودروساً خالداً للعالم الإسلامي كله. ولكن العالم الإسلامي لم يعتبر بهذه العبرة، ولم يع هذا الدرس، وما زال التفرق يمزق أوصاله حتى التهم الغرب الجشع معظم أشلائه، وأضحى الإسلام ذليلاً في أرضه تخفق عليها أعلام النصرانية.
فإني يسير الإسلام؟ ومتى يدرك العالم الإسلامي قوة الاتحاد؟
محمد عبد الله عنان المحامي
الشهيد الغريب
عثمان بن مظعون
للأستاذ محمد سعيد عريان
بات (عثمان بن مظعون الجمحي) ليلته يقلب الرأي، ويستلهم الفطنة؛ وإن الهم ليصطرع في رأسه، وأن الشك ليتلجلج في صدره، وإن بين عقله وعاطفته لحرباً مشبوبة ومعركة طاحنة أحق ما يقول محمد بن عبد الله؟ فما هذه اللاتُ والعُزَّى، ومَناةُ الثالثة الأخرى؟ وما ديننا الذي أورثنا آباؤنا ومضى عليه أسلافنا؟ أذلك الحق أم دين محمد؟
إني لأعرفه مذ كان - أصدق العرب حديثاً وأعظمها أمانة؛ أفيكذب حين يبدو الشيب في صدغيه، ثم لا يكون كذبه إلا افتراءً على الله. . .؟
أما ورب الكعبة لقد جاء محمد بأمر عظيم، إن يكن الصدق فما يقعد بي أن أكون في السابقين إليه. . .؟
فلما أسفر الصبح غدا عثمان على محمد في مجلسه ليسمه منه؛ فما هو إلا أن تلا عليه آياتٍ من الكتاب حتى اهتزت نفس عثمان، ونفذت السماء إلى قلبه، وغمره النور الإلهي، وشرح الله صدره للإسلام، فتمت به عدة المؤمنين أثنى عشر. . .
وانطلق عثمان إلى أهله يدعوهم إلى الله؛ فما تلبث أخواه (قدامة وعبد الله) أن آمنا بما آمن، وآمن من بعدهم بضع عشرة من بني عمه وولده؛ وإذا المؤمنون يزيدون ويكثرون، وإذا الدين الجديد يتنقل نبؤه في همس من فم إلى أذن، وينفذ في رفق من قلب إلى قلب، ثم يتدافع في قوة حتى ينتظم الأربعين من شباب قريش وكهولها. ثم إذا هو من بعدُ نداءٌ عام، يدعو إليه رسول الله من فوق (الصفا)، فيفشو أمره، ويتحدث به الناس، وتتناقله القبائل، وتتقاذفه فلوات شبه الجزيرة؛ فما ينكر على محمد دعوته إلا الملا من أشراف العرب. . .
أكنت ترى السادة من قريش أهل الرفادة والسقاية - ينزلون عن جاههم وسلطانهم بهذا لهوان لمحمد؛ أم تحسبهم يتركون ما كان يعبد آباؤهم مختارين انقياداً لهذا الداعي؟
إن كبرياء النفس البشرية هو إيمانها بنفسها؛ فما يغلبها على كبرياءها إلا الإيمان الأكبر؛ وما إن تبلغ هذا الإيمان إلا مقهورة عليه، نازلة على سلطانه الأقوى، من قادة له انقياد الرضى والاستسلام؛ فإذا هي بلغت ذاك فقد تبدلت النفس غير النفس؛ فما تتكبر إذ تتكبر
بنفسها ولكن بما تدين، وما تفاخر حين تفاخر بخصائصها الذاتية، ولكن بقوة العقيدة التي اعتنقت؛ ويعود تعصبها لنفسها تعصباً للحق الذي آمنت به، وأخلصهم في طاعته، وأشدهم استبسالاً في الدعوة إلى دينه والذياد عنه؛ فكانت هذه المعجزة الإنسانية الكبرى التي انبثق لها هذا الفجر الضاحك فأشرق بالسلام على البشرية كلها، وامتد امتداد القدر يقبض راحته على الدنيا، وانبسط انبساط الأمل بتناول كل ما في الوجود، ورسم للانسانية حدود سعادتها في معاني الإخاء والمساواة والحرية!
تذامر الملاُ من أشراف مكة على محمد وأصحاب محمد ليفتنوهم عن دينهم، فآذوهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وأخذوا بكل نكال، حتى بلغوا من تعذيبهم الغاية ولم يبلغوا من مسلم أربا؛ ورأوا أمر الله أغلب من أمرهم في هذه القلوب، فمضوا يقتنون في الكيد لهم ما يتورعون من شر. وأيقن المستضعفون من المسلمين أن لا مقام لهم على هذا الهوان خوف الفتنة، فجلوا عن أراضيهم وديارهم فراراً إلى الله بدينهم. . .!
وأنطلق عثمان بن مضعون يقدم الفوج الأول مهاجرين إلى الحبشة، تفيض أعينهم من الدمع حزناً، أن تركوا أموالهم وأولادهم وعشيرتهم، منهم الراجل قد ثقلت عليه نفسه، والراكب قد ناء بما يحمل من همه. حتى انتهوا إلى البلد الذي أرادوا.
وأمنوا الفتنة، يروحون ويغدون في ظل ملكٍ كريم. أتراهم على ذلك قد اطمأنت بهم الدار؟ ومن أين للغريب النازح عن أهله وأحبابه أن تستقر به الدار!
وطال بهم الحنين إلى بلدهم والى مشرق النور من وجه النبي الكريم، يستروحون من كل نسمة تهب من أرض الحجاز ذكرى تشوق وحنيناً يستجد. فما كذبوا أن جاءهم بشير بإسلام قريش، فقفلوا آملين مستبشرين، وما منهم إلا مشرق الوجه تحدثه نفسه حديث المبعد يوشك أن تستقر به النوى ويلقى عصاه بين أحبته وأهله وملاعب صباه!
ثم ما هي إلا أن دانوا مكة وبدت لهم أعلامها وهبت عليهم نسماتها، حتى انكشف لهم أن إسلام قريش لم يكن إلا أمنية. . . فألقوا على الوطن المهجور نظرة اللهفان فاتته المنى، ثم لووا عنان الركب عائدين إلى المهاجر، وإن قلوبهم لتتلفت مودعة وما سعدت باللقاء. . .!
وتحدرت دمعتان على وجه عثمان إذ حضرته صورة المصطفى من الله، فهفت نفسه إلى لقائه، وهان عليه مايستهدف له من أذى المشركين ما دام سعيداً بطلعة النبي، يراه في كل
غدوة ورواح، ويتمتع به كلما حلا له أن يستمتع.
ودخل مكة في جماعة من المهاجرين مستخفين على حذر ورقبة، حتى لقيه (الوليد بن المغيرة المخزومي) فأستظل بجواره وأمن عثمان عدوان المشركين في حماية أعز قريش وأمنعها، ومن ذا يجرؤ أن يستبيح ذمة الوليد في جاره؟ فأنه ليغدو ويروح لا يناله شر ولا يعرض له أحد بسوء. . .
وخرج عثمان مرة لبعض شأنه، فإذا هو يبصر رجل من أصحاب رسول الله مطروحاً على الرمضاء عارياً في حر مكة وقد حميت الظهيرة وقد وضعت على صدره صخرةُ ينوء بها الفحل، تعذيباً له بما آمنة بمحمد!
واهتزت نفس عثمان مما رأى، وبرح به الألم مما ينال أخاه المسلم فلا يستطيع له دفعاً، فصغرت نفسه في عينه، ومضى والهم يجثم على صدره أثقل من صخرة العذاب على صدر أخيه!
ومشى خطوات، فإذا هو يشاهد شراً مما رأى: هذا أبو بكر، يلقاه سفيهُ من سفهاء مكة فيحثوا عليه التراب، وأولاء جماعةُ من المشركين يشهدون سفاهة صاحبهم فيضحكون ويسخرون.!
وزاد الهم بعثمان، وغشيته غاشية من الحزن والألم! إنه ليحس التراب على رأسه، وإنه ليشعر بمثل حر الرمضاء يشوي جسده هو، وإن قلبه ليفيض غماً. إنه ليرى نفسه في جوار سيد قريش، فما يمنعه ذلك أن يلقي من آلام النفس فوق ما يلقى صحابته من آلام الجسد!
وسار مثقل الرأس، يحمل همه على كفيه، ضيق الخطى كأنما يطأ الشوك. وإذا واحدٌ من المسلمين يلقاه فيحدثه بما لقي (آل ياسر) من أذى بني مخزوم: لقد مات (ياسر) في العذاب وماتت زوجه (سمية) طعيناً بيد أبي جهل، وهذا (عمار بن ياسر) لا طاقة له بدفع ما يلقى من أذى بني مخزوم، وما أراه إلا موشكا أن يلحق بأبويه. . .!
واشتد به الهم إذ سمع ما سمع بعد إذ رأى ما رأى، ومضى يتحدث إلى خواطره، فإذا هو على الأمان والطمأنينة في عذابٍ أشد مما يلقى إخوانه المستضعفون. وقال لنفسه: والله إن غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء
والأذى في الله ما لا يصيبني - لنقصٌ كبير في نفسي! إنه والله الفرارُ من الأجر والمثوبة، وإن لهم عند الله لمنزلة هيهات أن يعزيني عن فقدها أنني في سلامة الأذى. بل إنه الفرار من حمل أثقال حمل الإيمان، وإنه لأرْوَح لقلبي أن ألقي ما يلقى إخواني في الله، فأني لأوشك أن يغلظ قلبي فما آمن على نفسي من أوضار الشرك!
يا نفسي، ما برهانك على أنك مؤمنة إذا لم تحملي أثقال الحياة راضية؟
ما دليلك على أنك قاسيت في سبيل دينك وإنك لتفرين فرار المتمسك بدنياه؟
ماذا قدمت - يا نفس - لله من حظك وراحتك فيكون لك في الآخرة أن تدعي وتستطيلي؟
ألا إن الإيمان هو أن ينالك ما نال المؤمنين، وإن عذاب الناس لهو ثواب الله، وما يصدق الخبر عن بسالة الجندي إلا أن تشهد له جراحه، وما أنا رجلاً إن لم أكن الآن رجلاً. . .!
ومشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: (يا أبا عبد شمس، وَفَتْ ذمتك، وقد رددت إليك جوارك!)
قال الوليد: (يا ابن أخي، لعله آذاك أحد قومي. .؟)
قال عثمان: (لا، ولكني أرضى بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره. .!)
قال الوليد: (فانطلق بنا إلى المسجد فاردد علي جواري علانيةً كما أجرتك علانية)
فانطلقنا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد:(هذا عثمان قد جاء يرد على جواري)
وقال عثمان: (صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني قد أحببن ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره!)
ثم افترقا. وجلس عثمان يستمع إلى إنشاد (لبيد بين ربيعة) في مجلس من قريش، فقال لبيد:(ألا كل شيءً ما خلا الله باطل)
قال عثمان: (صدقت!)
قال: (وكل نعيم لا محالة زائل!)
قال عثمان: (كذبت. . .!)
وأعاد لبيد، وعاد عثمان يقول:(كذبت؛ نعيم الجنة لا يزول أبداً)
فغضب لبيد وقال: (يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم؛ فمتى حدث هذا فيكم؟)
قال رجل من القوم: (إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا؛ فلا تجد في نفسك من
قوله!)
ورد عليه عثمان حتى شرى الشر بينهما، فقام الرجل فلطم عين عثمان فاخضرت، والوليد بين المغيرة بمجلس قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال:(أما والله يا ابن أخي، إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة!)
قال عثمان: (والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر!)
فقال له الوليد: (هلم يا ابن أخي، فعد إن شئت إلى جوارك!)
قال عثمان: (لا. . . . . . . . .)
وسار في سبيله عامر القلب بالإيمان، طيب النفس بما يبذل في سبيل الله، قرير العين بأنه لم يلجأ إلا إليه. . .
ومضى المشركون في عدوانهم لا رفق ولا هوادة؛ وآذى النبي ما يلقى صحابته، فدعاهم إلى اللحاق بمن سبق من المهاجرين إلى الحبشة.
وخرج عثمان فيمن خرج، عائداً إلى المهاجر النائي طاعةً لرسول الله. فأقام هناك ما أقام، ضيق النفس على سعة من العيش، مكروباً من الغربة على الأمان والأذى!
وتصرمت السنون عاماً بعد عام وهو يكافح الشوق والحنين، حتى أذن له أن يفارق الحبشة بعد ست سنين، لا إلى مكة الحبيبة إليه، ولكن إلى المهجر الثاني، إلى المدينة، من مغترب إلى مغترب. فما مضى عام وبعض عام على مقامه حتى مل غربته، فودع دنياه إلى الوطن الباقي بقاء السموات والأرض، إلى جوار الله. ومات أول من مات من المهاجرين بالمدينة!
وقبله النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي وعيناه تذرفان، ووسده الثرى ونفض يديه من ترابه، ولكن ذكراه ظلت حية في قلبه؛ فلما مات ولده (إبراهيم) زوده بالتحية إلى الشهيد الغريب، وودع ولده الواحد وهو يقول:(ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مضعون!).
يا ابن مضعون، فرغت من أمر الدنيا وآلامها، بعد أن قضيت أيامك على الأرض تتقاذفك الفلوات من غربة إلى غربة. ولم تبك، وبكت لك دموع النبوة؛ دموع تقدمك إلى الله يثيبك، وتقدمك إلى التاريخ يترحم عليك. وفي الوقت الذي يسلب الملوك فيه تيجانهم وضع عليك التاج. . .!
طنطا
محمد سعيد العريان
مجد الإسلام
وقفة على طلل
للأستاذ محمود غنيم
مَالي وللنَّجْم يرعاني وأرعاهُ!
…
أمسى كلانا يعافُ الغمضَ جَفْنَاهُ
ليِ فيكَ يا ليلُ آهاتٌ أُردِّدُها
…
أَوَّاهُ لو أجْدَت المحزونَ أوّاه
لا تحْسبَنَّي محبِّنا يشتكي وَصَباً
…
أَهوِنْ بما في سبيل الحب ألقاه
إِنّي تذكِّرْتُ - والذكرى مُؤَرِّقةٌ -
…
مجداً تليداً بأيدينا أضَعْنَاه
أَنَّي اتجهتَ إلى الإسلام في بلدٍ
…
تجدْه كالطير مقصوصاً جَناَحاه
وَيح العرُوبة كان الكونُ مسرحَها
…
فأصبحت تتوارى في زواياه
كم صرَّفَتْنَا يدٌ كنا نصرِّفُها
…
وبات يملكنا شعبٌ مَلَكْناه
كم بالعراق وكم بالهند ذو شَجَنٍ
…
شكا فردَّدت الأهرامُ شكواه
بني العمومةِ إنَّ القُرْحَ مَسَّكمو
…
ومسَّناَ. نحن في الآلام أشباه
يا أهلَ يثْربَ أدْمتْ مقلتيَّ يدٌ
…
بدرِيَّةٌ تسألُ المصريَّ جدواه
الدِّينُ والضادُ من مغناكم انبعثا
…
فطبَّقا الشرق أقصاهُ وأدناه
لسنا نمدُّ لكم أَيماننا صِلَةً
…
لكنما هو دَينٌ ما قضيناه
هل كان دينُ ابنِ عَدنْانٍ سوى فَلَقٍ
…
شقَّ الوجودَ وليلُ الجهلِ يغشاه؟
سَلِ الحضارةَ ماضيها وحاضرَها
…
هل كان يتَّصل العهدان لولَاه؟
هي الحنيفةُ عينُ الله تكلؤُها
…
فكلَّما حاولوا تشويهَهَا شاهُوا
هل تطلبون من المختار معجزةً
…
يكفيه شعبٌ من الأجادثِ أحياه
مَنْ وَحَّدَ العُرْبَ حتى كان واترُهم
…
إذا رأى ولدَ الموتور آخاهُ
وكيف كانوا يداً في الحرب واحدةً
…
من خاضها باع دنياه بأخراه
وكيف ساس رعاةُ الابل مملكةً
…
ما ساسها قيصرٌ من قبلُ أو شاهُ
وكيف كان لهم علمٌ وفلسفةٌ
…
وكيف كانت لهم سُفْنٌ وأمواه
سَنُّوا المساواةَ لا عُرْبٌ وَلا عَجَمٌ
…
ما لامرئ شرفٌ إلا بتقواه
وقررت مبدأ الشورى حكومتُهم
…
فليس للفرد فيها ما تمناه
ورَحَّبَ الناس بالإسلام حين رأوْا
…
أنَّ السلامَ وأن العدلَ مغزاه
يا من رأى عُمَرًا تكسوه بردتهُ
…
والزيت أُدْمٌ له والكوخ مأواه
يهتزُّ كسرى على كرسيّه فَرَقاً
…
من بأسه وملوكُ الروم تخشاه
سلِ المعاليَ عنا إِننا عرَبٌ
…
شعارُنا المجدُ يهوانا ونهواه
هي العروبةُ لفظ إِن نطقت به
…
فالشرقُ والضادُ والإسلام معناه
استرشد الغربُ بالماضي فأرشَدَهُ
…
ونحن كان لنا ماضٍ نسِيناه
إِنّا مَشَيناَ وراء الغرب نقبسُ من
…
ضيائه فأصابتناَ شظاياه
بالله سل خلفَ بحر الروم عن عزَبٍ
…
بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهوا؟
فان تراءتْ لك الحمراءُ عن كثَبٍ
…
فسائل الصَّرْحَ أين المجدُ والجاه
وانزلْ دمشقَ وسائل صخرَ مسجدها
…
عمن بناه لعل الصخرَّ يَنعاه
وطُفْ ببغدادَ وابحثْ في مقابرها
…
علَّ امرَ أمن بني العباسِ تلقاه
هذى معالم خُرْسٌ كلَُ واحدةٍ
…
منهنَّ قامت خطيباً فاغراً فاه
إِني لأشعر إذ أغشى معالمهم
…
كأنني راهبٌ يغشى مُصلاه
الله يعلم ما قلَّبتُ سيرتَهم
…
يوماً وأخطأ دمع العين مجراه
أين الرشيد وقد طاف الغمامُ به
…
فحين جاوز بغداداً تحدَّاه
مُلْكٌ كملك بني التاميز ما غربت
…
شمس عليه ولا برْقٌ تخطَّاه
ماضٍ نعيش على أنقاضه أُمما
…
ونستمدُّ القوى من وَحْي ذكراه
لا دَرَّ دَرُّ امرىْ يُطري أوائلَه
…
فخراً وَيُطْرِقُ إِن ساءلته ما هو
ما بالُ شمل بني قحطانَ منصدِعاً؟
…
ربَّاهُ أدرك بني قحطان ربَّاه
عهد الخلافة في البسُفُور قد دَرَستْ
…
آثارُه طيّب الرحمنُ مثواه
عرشٌ عتيدٌ على الأتراك نعرضُه
…
ما بالُنا نجد الأتراكَ تأباه
ألم يرَوْا كيف فدَّاه معاويةٌ
…
وكيف راح عليٌّ من ضحاياه
غالَ ابنَ بنتِ رسولِ اللهِ ثم عَدَا
…
على ابن بنتِ أبي بكر فأرداه
لما ابتغَى يدَها السفاحُ أمْهَرَها
…
نهراً من الدم فوق الأرض أَجراه
ما للخلافة ذنبٌ عند شانِئِها
…
قد يظلِمُ السيفَ من خانته كَفّاه
الحكْمُ يَسلس باسم الدين جامحُه
…
ومن يَرُمْهُ بحدَّ السيفِ أعياه
يا رُبَّ مولًى الأعناقُ خاضعةٌ
…
وراهبُ الدَّيْرِ باسم الدِّين مولاه
إني لأعتبرُ الإسلام جامعةً
…
للشرق لا محضَ دين سنَّهُ اللهُ
أرواحُنا تتلاقى فيه خافقةً
…
كالنحل إِذْ يتلاقى في خلاياه
دستورُه الوحْيُ والمحتارُ عاهِلهُ
…
والمسلمونَ - وإن شتُّوا - رعاياه
لاهُمَّ قد أصبحت أهواؤنا شيعاً
…
فامنن علينا براعٍ أنتَ ترضاه
راعٍ يُعيدُ إلى الإسلام سيرته
…
يَرْعَى بَنيهِ وعينُ اللهِ تَرْعاهُ
(كوم حمادة)
محمود غنيم
من الفلسفة الإسلامية
عينية أبن سينا أو قصة الروح
للأستاذ زكي نجيب محمود
ادْنُ مني يا صديقي واستمع إلى هذه القصة الممتعة الرائعة التي يرويها ابن سينا عن الروح. وما أدراك ما الروح؟ هذا السر العجيب الذي سري واستكن بين أحنائك فلا تكاد تدري من أمره شيئاً! وهل يداخلك شيء من الريب في أنك مزيج من مادة وروح؟ فأما المادة فهي هذا اللحم والعظم، وأما الروح فهي تلك الفكر الرائع والخيال البارع وتلك الحركة المتوثبة الدافعة، حتى إذا جاءك يوماً قضاؤك المحتوم، انطلق كل من العنصرين إلى سبيله! فأنى لك هذا السر المكنون، وأيان يذهب بعد الموت؟ ذلك ما يرويه ابن سينا في قصيدته وما أنا محدثك به الآن - قال ابن سينا:
هَبَطَت إليك من المحلِّ الأرفع
…
ورقاءُ ذاتُ تَعَزَّزٍ وتمَنُّع
فقد كانت تعيش الروح أول أمرها مطلقة مجردة في الرقيق الأعلى، ثم كتب عليها أن تهبط إلى هذا الدرك الوضيع؛ ولقد آثر فيلسوفنا الشاعر لفظ الهبوط على السقوط لأنها في رأيه لم تسقط إلى هذا الحضيض من علٍ كما يسقط الحجر الجماد سقوطاً لا شعور فيه، أو كمن ينتكس من أوج الجبل إلى سفحه انتكاساً يقربه من الجماد المرغم على السير في طريق بعينها لا يملك لنفسه شيئاً، إنما هبطت إليك الروح؛ وفي لفظ الهبوط معنى الشعور والإدراك، من محلها الأرفع، حيث تسبح العقول المجردة روحانية خالصةً لا تشوبها شائبة من مادة. . . ولكني عهدتك يا صديقي عنيداً ملحاحاً لا ترضى بالقول يرسل إرسالاً، بل تقتضي محدثك الأمثلة يضربها توضيحاً لما يريد. وكأني بك تسائلني أو تسائل الشاعر: وكيف كان ذلك الهبوط؟ فهو يجيب: إن شئت للروح في هبوطها مثلاً مما تعلم من ألوان الحركة، فهي أشبه بالطير سابحةً في أجواز الفضاء، محومةً صاعدة هابطة، وماذا ترى بين الأشياء التي تتحرك بالإرادة أشد شبهاً بالروح من الطير في خفته ولطف جوهره، وفي هبوطه وصعوده؟ لعمري لقد وفق فيلسوفنا، بل لقد وفق أصحاب الفن منذ أقد العصور في تصويرهم للملائكة أو ما يتصل بالملائكة من كائنات روحانية بالجسوم المجنحة إدراكاً منهم بهذه الرابطة القوية الصادقة بين خفة الأرواح ولطفها، وبين رشاقة
الطير ورقته. ولكن فيلسوفنا الشاعر لا يرضيه تشبيه الروح في هبوطها بالطير على عمومه، بل أجال بصره في عالم الطير لعله يجد بينها نوعاً خاصاً يكون أقربها صلة بالروح، فما أسرع أن ساقه صدق شعوره وكمال إحساسه إلى الحمائم، وهل تستطيع أن تدلني على طير هو أشد من الورق استئناساً ووداعة، وأطول من الورق حنيناً وأصدق بكاء؟! وإذن فما أشبه الروح بالورقاء، فهي قد نشأت في عالم قدسيٍ رفيع، مجردة عن ملازمة المادة ومواصلتها، فلما كان لها أن تهبط إلى الجسد المادي، طال ترددها واشتد تعززها وتمنعها، وكانت فيما أحست من ألم كمن ينتحب بالبكاء، حنيناً إلى عالمها ذاك، ونفوراً وازوراراً من الأخلاط الجثمانية التي كتب لها أن تهبط إليها فتعيش بينها فترة من زمان محجوبةٌ عن كل مقلة ناظرٍ وهي التي سفرت ولم تتبرقع.
ألا ما أعجب الروح! إنها تلازمك أينما حللت، لا تفارقك إلا يوم تكون أنت لست اياك، فهي قريبة منك، بل هي أنت؛ تسري في دمائك، وتدب في كل عضو من أعضائك، ثم هي مع ذلك تمتنع عن النظر وتستعصي على الادراك! فاذا ما حاولت رؤيتها تحجب وأسدلت حول نفسها قناعاً صفيقاً لا ينفذ منه شعاع من بصر، لماذا؟ لأنها تذكر ماضيها الجليل، يوم كانت في العالم الأقدس الرفيع، فتأخذها العزة والكبرياء، وتتعالى عن إدراك العيون! وكيف تردها على الظهور أمام مقلتيك وهما لم تخلقا إلا لرؤية الأجساد المادية وحدها؟ فأما هذه الماهية المجردة فهيهات أن تدركها بالنظر؛ وكل محاولة منك في هذه السبيل صائرة حتماً إلى فشل وإفلاس، ولكن لا تيأس يا صاحبي، فثم سبيل لإدراكها غير هذه المقل، وغير هذه الحواس جميعاً، انظر إليها بعين العقل تجدها واضحة سافرة كاشفة عن وجهها لا تسدل من دونه البراقع والستور، فهي إن كانت تأبى أن تبدو للحواس فذلك لأنها تعلو بنفسها عن هذا الدرك الخسيس، وهي إنما تتضح وتجلو لكل عاقل من الناس، يبحث عنها بعقله في آثارها ودلائلها. إذن فالروح مع كمال خفائها وشدة غموضها عن العين، يمكن إدراكها بالعقل لمن يريد معرفتها بالدليل والبرهان.
وَصَلَتْ على كرهٍ إليك وربما
…
كرهت فراقك وهي ذات توجع
لقد علمت أن الروح قد اتصلت بهذا الهيكل الجثماني متأبية مقهورة مكرهة، ولكنها من عجيب أمرها عادت فكرهت أن تفارق هذا الجسد الذي أرغمت على الحلول فيه أول الأمر
إرغاماً، أما كونها جاءت مكرهة فلأنها حين هبطت إليك كانت تعلم أنها إنما تتصل بكتلة من المادة. ليس بينها وبينها تآلف وتجانس، إذ ليست هي في تجردها وروحانيتها شبيه بالجسد في ماديته، وهل تستطيع أن تظفر بأنس من رفيقك إذا لم يكن بينك وبينه تجانس في الصفات؟ فإن أرغمت على هذه المرافقة إرغاماً على ما بينكما من تنافر وتناكر، فأنت لاشك غاضب كاره؛ وأما كونها تعود فتكره فراق الجسد فذلك لأنها قد تمكنت منه وسرت في أنحائه سرياناً شديداً، فتشبثت به تشبثاً قوياً متيناً ليس انحلاله أو زواله هنة هينة، وأنت تستطيع أن تلتمس ذلك في نفسك إذا هممت بالانتحار، فلن تجد من نفسك إقبالاً على الموت ورضى به واطمئنانا اليه، ومعنى ذلك أن روحك قد استطابت مقامها الجديد بعد نفور، ولكن حذار أن يذهب بك الظن إلى أنها قد ارتبطت بالجسد ارتباطا بلغ من القوة والمتانة حد الاندماج، بحيث إذا زال الجسد زالت الروح تبعاً له، كلا، إنما ترتبط الروح بالجسد ارتباطاً يقع بين القوة الشديدة والضعف الشديد، فلا هو إلى القوة التي تدمجها فيه ادماجاً، ولا هو الضعف الذي ييسر لها سبيل الفرار. ولكني لم أحدثك بعد عن علة كرهها لفراق الجسد، وقد جاءته مكرهة أول الأمر. أما ذلك فلأنها رأت أنها تستطيع أن تتخذ من هذا الجسد أداة للخير والفضيلة، لقد كانت في حياتها المطلقة الأولى خالية من الصفات الإيجابية جميعاً، وها هي ذي قد رأت في الحواس سبيلاً قومية تحصل بها من الأخلاق والعلم حظا موفوراً، وإذن فاتصالها بالجسد قد جعلها عارفةً بعد سذاجة وجهل، متحركةً بعد خمول وسكون، فهل تدهش بعد هذا إذا رأيت الروح جازعة فازعة حين يدنو منها الأجل المحتوم الذي يفصل بينها وبين زميلها انفصالاً ليس بعده من لقاء؟ وهل تعجب إذا رأيتها حين اتصالها بالجسد تدافع جهدها عنه لتدفع ما يتهدده من علة أو مرض، وتحرص وسعها أن يكون موفور الحظ من السلامة والعافية؟
أنِفَتْ وما أَنِسَتْ فلما واصلت
…
ألِفَتْ مجاورةَ الخراب البلقع
إذن لقد هبطت الروح إلى هذا الهيكل معرضةً عنه مزدريةً له صلفاً منها وتيهاً، وحق لها ذلك، فهي خالدة لا تخضع للفناء، وهو وضيع يتعاوره الكون والفساد، لهذا أنفت منه ولم تأنس له بل استكبرت عليه وأبت أن تنزل بنفسها إلى حضيضه الأسفل، وظل النفور بينهما حيناً من الدهر لم يطل، حتى عرفت أنه أداة قويمة صالحة لتحصيل الفضيلة
والخير، عندئذ أنست به ورضيت بالإقامة معه في إخاء وائتلاف، وما هي ألا أن وضح أمامها الطريق وقام الدليل قاطعاً على أنها ستحقق بالجسد مرادها من الكمال، فقومت العلاقة واشتدت الملازمة على الرغم من علمها أن هذا الذي ترافقه وتزامله لن يلبث حتى ينقلب خراباً بلقعاً لا غناء فيه، إذ هو صائر إلى الفناء بعد حين يقصر أو يطول. ولعلك تلاحظ أن فيلسوفنا قد عبر هنا عن العلاقة بينهما بلفظ المجاورة قاصداً متعمداً، لأنه أراد أن تعلم أنها ليست من الجسد بمثابة الأبصار من العين مثلاً، يكادان يكونان شيئاً واحداً، ولكنهما منه كالملاح من سفينته يديرها ويدبر أمرها. ثم هو بعد يستطيع أن يستقل بوجوده بعيداً عنها، فهي علاقة تجاور لا علاقة وإدغام.
وأظنها نسيت عهوداً بالحِمى
…
ومنازلاً بفراقها لم تقنع
نعم: لقد اطمأنت إلى الجسد بعد صدٍ ونفور، وأنست به بعد وحشة، وبلغ بها الاطمئنان والأنس حداً نسيت معه تلك العهود والمواثيق التي أخذت عليها أيام كانت في عالمها الرفيع السامي، وركنت إلى غير جنسها ركوناً لا تحب معه الفراق، وقد بلغ منها ذلك النسيان لمنازلها الأولى حد الغلو والإسراف، فهي لم تقنع بمجرد فراقها لعالمها الأول، بل زادت عليه عشقها للعالم الجديد، وهنا كأنما تحس من فيلسوفنا إشفاقاً على الروح أن تكون قد رضيت بالأدنى عن الأعلى لتغيرٍ في صفاتها وتحولٍ في إدراكها وفسادٍ في طبيعتها
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها
…
من ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاءُ الثقيل فأصبحت
…
بين المعالم والطلول الخُضَّع
يا ويح النفس! والله لكم أخشى أن تكون الروح قد مازجت المادة حتى فسدت عنصراً، فهي لم تكد تهبط من أبعد الذرى لتمس عالم المادة حتى علقت به وهو بعد لا يأتلف إلا من الخسيس الكثيف الذي يندر أن يكون سبيلاً إلى الكمال (ذات الأجرع هي المادة الأرضية الكثيفة أي البدن)، نعم، لم تكد تهبط الروح، وتدب في مادة الجسد حتى علقت بها هذه المادة الجثمانية وأحلتها بين أجزائها وطي ثناياها، بين معالم الجسد وأطلاله الخربة المتداعية. بين عظامه وغضاريفه ولحمه وشحمه، التي تخضع للفناء وتؤول للبطلان وتنقلب إلى الدثور. ولكن لعلها قد دبت بين أجزاء الجسد الفانية لا لتجري مجراها. ولكن لتستخدمها في تحصيل المعارف والفضائل.
تبكي إذا ذكرت عهوداً بالحمى
…
بمدامع تهمي ولم تتقطع
لقد حم القضاء ووقعت الواقعة، فقد حان للروح حين فراقها وجاء أجلها، وها هي ذي قد فصلت عن رفيقتها وخلفته وراءها رماداً وتراباً، فهي إذا ما ألقت بنظرها إلى هذه الأوصال المفككة، والى هذا البيت المعمور، وقد دب فيه الخراب والدمار، عظم عليها الوجد وجل في عينها الخطب، وقد تتزاحم أمامها ذكريات الماضي أيام كانت تنعم بزمالة هذا البدن المحطوم في شتى ألوان النعيم، فتتفجع وتتوجع وتحزن وتأسى، فان كانت روحاً خيرة فاضلةً كانت فجيعتها أن افتقدت أداة الخير والفضيلة إذا افتقدت الجسد، وإن كانت روحاً شريرة خبيثة مستهترة كانت حسرتها أن سلبت وسيلة اللذة والمتاع - ألا وهي الجسد كذلك.
وتظل ساجعة على الدِّمن التي
…
درست بتكرار الرياح الأربع
ولا تحسبن الروح بعد فراقها للجسد قد غفلت عنه وأنسيته بل أنها تتردد إليه الحين بعد الحين، فتقف بازائه باكية نادبة، وقد أبت قريحة الشاعر الفيلسوف إلا أن تصور الروح، وقد جاءت تنشد أطلال الجسد فتجد منه بقية باقية يهيج منظرها ما كان كامناً فيها من شجون، وإنما تعظم الحسرة إذا بقيت من منازل الأحباب آثارها لما تثيره في النفس من ألم وحنين، أما تلك الرياح الأربع التي ما فتئت تهب على مادة الجسد حتى درستها درساً، فيغلب أن تكون الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة التي لا تنفك، تعتور الصخور الصلدة حتى تفتتها هشيماً تذروه الرياح هنا وهناك، فتنطمس المعالم الأولى لك يا صديقي أن في هذا البيت تصريحاً من الفيلسوف بخلود الروح بعد الموت، فهي باقية خالدة تروح وتغدو، ويستحيل عليها التحلل والفناء.
إذ عاقها الشّرَكُ وصَدَّها
…
قفصٌ عن الأوج الفسيح المِرْبَع
ولكن ليت شعري فيم بقاء الروح بين هذه الأطلال الدارسة باكيةً نادبةً، وماذا يعوقها أن تعلو وتصعد إلى حيث العقول المجردة في الملأ الرفيع؟ أليس في ذلك فكاك لها من شوائب المادة ونقائصها، وتحرير من قيود الحس وأصفاده الثقيلة الباهضة إلى حيث تسبح في تلك الأرجاء الفسيحة تتسرح فيها تسريحاً مطلقاً لا يصدها ضيق ولا تزاحم؟ لعمري إنها الدنيا التي تجتذبها كما يجتذب الشرك سوابح الطير الطليق بما يلقى فيه من حب، فهذه اللذة
والشهوة والمتاع كفيلة أن تغري النفس إغراءً يكون لها غلاً ووثاقاً، وليس شرك الدنيا الذي تطوقُ به النفوس تطويقاً من ذلك الضرب الهين الخفيف الذي تحطم قضبانه وسلاسله في سهولة ويسر ولكنه شركٌ عاتٍ قوي كثيفٌ يحوك حول السجين آلافاً من الحبائل والحوائل التي يتعذر منها الخلاص إن لم يستحل وإذن فهذا الجسد للروح بمثابة القفص للطير القنيص، لا تستطيع أن تغادره أو تجاوز حدوده إلا إذا أراد لها ذلك واضعها، ولكنه قفص على ما ضربه حولها من سياج منيعُ مشبكُ القضبان فيه من نوافذ ما يسمح للسجينة أن ترسل خلالها الفكر والبصر إلى أرجاء الكون، وما تلك المنافذ التي تتسلل منها الروح إلى أنحاء الوجود إلا الحواس من بصر وسمع وما إليهما، وإلا العقل تتقصى به أطراف الأرض والسماء.
حتى إذا قَرُبَ المسيرُ إلى الحِميَ
…
ودنا الرحيلُ إلى الفضاء الأوسع
وغَدت مُفارقةً لكلِّ مُخلَّفٍ
…
عنها حليفَ التُّرْبِ غيرُ مشيَّع
هكذا ارتبطت الروح بالجسد ارتباطاً مكيناً. حتى إذا دنت ساعة الرحيل وحان أجل الفراق لهذا البدن إلى حيث تنطلق في الفضاء الرحب الفسيح، وأخذت تقطع ما بينه وبينها من صلات وعلائق وأسباب، وهو تلك الكتلة المادية المخلفة المعطلة المطروحة بعد المفارقة تحت أطباق الثرى دون أن يلتفت إليه أو يعني بشأنه احتقاراً له وازدراء، بعد أن خلفته الروح وخلعته، نقول إذا دنت ساعة الرحيل وفارقت الروح جسدها. . .
هَجعتْ وقد كُشف الغطاءُ فأبصرتْ
…
ما ليس يُدركُ بالعيون الهُجَّع
عندئذ يزول عنها حجاب البدن فينكشف الغطاء فتدرك ما كان يستحيل عليها إدراكه أيام اتصالها به، ذلك لأن الأرواح المتلبسة بالأجساد إنما تكون رقوداً هجعاً أو كالرقود الهجع لأنها إذ تكون عالقة بالأبدان تكون محجوبة عن الإدراك الذي تحصله النفوس المجردة كما يحتجب النائم عن إدراك ما يدركه اليقظان، إذن فالروح عندما تلقي الجسد وتطرحه تكون كأنما تكشف عن بصيرتها غطاء طالما حال بينها وبين مطالعة الرفيق الأعلى بما يغمسها فيه من عرضٍ مادي زائل باطل مصيره إلى الفناء، أما إذا فارقت البدن فقد خلصت من أغلالها وانحسر عن بصرها الغشاء فأبصرت أسرار الحق صافية خالصة وانكشف لها الغيب وأيقنت أنها كانت أثناء حياتها مع الجسد غافلةً راقدةً وقد تنبهت الآن واستيقظت.
وغدت تغرِّد فوق ذِروة شاهق
…
والعلمُ يرفع كل من لم يُرفع
فإذا كانت قد نفضت عن نفسها ما كان لحقها من غفلة ورقاد، إذن فقد تجردت من قيود المادة وأصفادها وغدت عنصراً عقلياً صرفاً لا تشوبه شائبة من كدورة أو نقص، مبرأةً عن حاجات البدن التي تجذبها إلى أسفل، واتصلت بالعالم الروحاني المجرد، فأحست بالنشوة والسعادة وغردت سروراً لما ظفرت به بذلك الاتصال؛ ولعلك هنا تحتج على الفيلسوف وتعترض حديثه، فما لهذه الأرواح قد صعدت إلى العالم الأقدس ولم تلبث حول أجسادها محومة باكية راثية إلفها الحبيب، فهو يجيبك إنما ترتفع إلى هذه الذروة الشاهقة السامية، تلكم الأرواح التي كسبت من العلم صدراً محموداً وحظاً موفوراً، وإن العلم لجد كفيل أن يرفع إلى حالق ما من شأنه أن يكون في الحضيض الأخس فضلاً عما يكون له بطبيعته اتصالٌ وقربى بالعالم الأشرف الرفيع.
فلأي شيء أُهبطت من شامخ
…
عالٍ إلى قصر الحضيض الأوضع
ولكن قف!! أأنت محدثي يا صاح فيم هذا العناء كله إن كان مصير الروح في نهاية أمرها أن تعود إلى حيث بدأت السير؟ فلقد زعمت لي أنها هبطت من علٍ فحلت بالبدن حيناً من الدهر ثم أخذت سبيلها آخر الشوط إلى مستقرها الذي صدرت عنه وفاضت منه! ما هي الحكمة الباعثة للنفس أن تهبط من ذراها هاوية إلى الدرك الأسفل؟
إن كان أهبطها الآله لحكمة
…
طويت عن الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها لاشك ضربة لازب
…
لتكون سامعة لما لم تسمع
هكذا تساءل صاحبي في دهشة وعجب، قال: إن كان الله جل وعلا قد أهبطها لحكمة خفيت عن بصائرنا، واستعصت على إدراكنا، بل طويت عمن بلغ منا من الحكمة أروعها وأبعدها غوراً، فلا ريب في أن الله تعالى في هذا العالم الأرضي توفق إلى اكتساب المعرفة، واستيفاء أسباب الكمال، إذ كانت في أول أمرها جاهلة ساذجة غافلة، فأهبطها لتسمع ما لم تكن قد سمعت به من العلوم والأخلاق؛ وسبيلها إلى ذلك هي الحواس والعقل.
وتعود عالمة بكل خفيَّة
…
في العالَميْن فخُرقُها لم يُرقَع
فاللهم إن كانت هذه رسالتها التي هبطت من أجلها، أعني أنتعود بعد زيارتها إلى الدنيا عالمة بالأسرار الخفية في العالمين - عالم الغيب والشهادة - فلا سبيل إلى تحقيق ما
جاءت من أجله؛ لأنها مهما حصلت من فروع العلم وجوانب الأخلاق؛ ومهما أسرفت في التحصيل فهي قاصرة مقصرة، وكيف سبيلها إلى ذلك والعلوم لا تنتهي عند حد، وحتى إن أمكن تحصيلها فلا تكفي لها مدة الحياة على قصرها؛ ولكن ليكن هذا فليس الفشل فيما نظن مما ينتقص من نبل الغاية المقصودة ويحط من شرف الوسائل المؤدية إلى تلك الغاية.
قال صاحب: لقد زعمت أو زعم فيلسوفك ابن سينا أن الروح إنما هبطت فسرت في البدن ففارقته وعادت أدراجها، والله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، إذا كان ذلك لم يكن لهواً ولا عبثاً؛ فلأي شيء هبطت فتعلقت بالجثمان لتتخذه وسيلة إلى الكمال على شرط أن تكون من أصحاب الفضيلة والخير. قال: وإن كانت الروح من الملأ الأعلى فكيف تكون ناقصة وقد حدثتني في صدر الحديث أن ذلك الملأ مجردٌ مطلقٌ كاملٌ كمالاً محضاً، وأنه خير خالص، كما حدثتني إلى جانب ذلك أن عالمنا هذا شر - أو على أكثر تقدير مزيج بين الخير والشر فما قولك الآن إن الروح قد هبطت من ملأها الأعلى إلى هذه الأرض تنشد عن طريق الكمال؟! وهل يكون الشر وسيلة إلى الخير والكمال؟ لعمري لو كانت العناصر المجردة لا يتم كمالها إلا إذا اتصلت بالمادة فما أوجب أن يهبط عالم الأرواح كله ليمتزج بالأرض ومادتها؟ قلت: جوابك يا صاحبي في هذا البيت الآتي:
وهي التي قطَعَ الزمانُ طريقَها
…
حتى لقد غَرُبَتْ بغير المطلع
فقد كان مراد النفس وأملها أن تبلغ حد الكمال بما يرتسم في صفحتها من الصور العقلية، لكن الزمان لم يمهلها وا أسفاه! فقطع عليها السبيل وصدها عما كانت تسير نحوه، وذلك بإهلاكه للبدن وهو أداتها في تحقيق رغبتها، ولكنها إلا تكن قد ظفرت بكل شيء، فهي لم تفقد كل شيء، لأنها لم تغرب - حين غربت - ساذجةً جاهلة كما أشرقت أول الأمر بل عرفت الكمال وعرفت النعيم الذي يكون لها لو بلغت هذا الكمال، وكفاها بهذه المعرفة حافزاً قد يدفعها إلى متابعة السير يوماً آخر.
فكأنه برق تألق بالحمى
…
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
أنعم برد جواب ما أنا فاحص
…
عنه فنار العلم ذات تشعشع
ولكن فيلسوفنا الشاعر يعود فيوافقك يا صديقي إلى حد كبير، إن النفس عند فراقها للبدن تكون في الحقيقة كأنها لم تفد شيئاً وكأنها لم تصحب البدن قط، وما أسرع ما انقضى زمن
إقامتها فيه، فقد اختفت سريعاً كالبرق الخاطف، وعادت كأن لم تكن بالأمس شيئاً مذكوراً. وإنه ليختم حديثه معك بحفزك وإثارة الطلعة في نفسك لعلك تمعن في التفكير والنظر لترى جواباً لهذا السؤال المربك: فيم هبوط الروح للوصول إلى كمالها، ثم فصلها قبل أن تصل؟ قال محدثي: اني لأرى شبها قويا بين هذه القصة التي قصصها علي عن ابن سينا وبين ما رويته لي بالأمس عن فلسفة أفلاطون من أن النفس كانت تسبح في عالم المثل صافية سعيدة مفكرة، ثم حلت بالجسم وتعلقت به، فإذا وافت الإنسان منيته عادت من حيث أتت، قلت نعم ولعل لي معك في هذا حديثا آخر.
زكي نجيب محمود
مقتل عمر بن الخطاب
نقلها عن جرائد ذلك العهد الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
اختلف المؤرخون في مقتل عمر رضي الله عنه، فمنهم من قال إن أبا لؤلؤة حقد عليه لأنه لم يخفف عنه الخراج الذي ضربه عليه سيده المغيرة بن شعبة؛ وقال آخرون بل ائتمر به الهرمزان وهو قائد فارسي أظهر الإسلام وأضمر الغدر، وجفينةُ وهو من نصارى نجران الذين أجلاهم عمر عن جزيرة العرب. وقد فاتني - لسوء حظي - أن أشهد الحادثة الضخمة وتأخرت عنها أكثر من ثلاثة عشر قرناً. ولو حضرتها لعرفت كيف أقول! ولكنه لا يجدي الأسف على شيء فات؛ وما لا يدرك كله لا يترك كله؛ وقد وقعت لي (أعداد) من (صحف) ذلك الزمن، مثل جريدة (يثرب)، وجريدة (دار الهجرة)، وجريدة (العذراء)، وغيرها من الصحف الأولى التي كانت تصدر - صباحاً أو مساءً - في صدر الإسلام. وأكبرها جميعاً (يثرب)، وكانت تظهر في الفجر، فيتخطفها الناس وهم خارجون من صلاتهم بالمسجد، وكان لها مكاتبون في الأمصار قاصيها ودانيها، يوافونها بأخبارها وأحوالها، وسيرة ولاتها وعمالها، وجلهم - أي المكاتبون - ممن دخلوا مع رسول الله مكة، واشتركوا في حروب الردة، وقاتلوا مع سعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة، وخالد بن الوليد، في فتوح العراق وفارس والشام، ومن أجل هذا كانت الثقة بأنبائهم عظيمة، والاطمئنان إلى الرواية تاماً؛ ولا عجب بعد ذلك إذا كانت (يثرب) كبرى الصحف في ذلك العهد وأوسعها انتشاراً، وأوثقها حالاً. ومما ينبغي أن يذكر من مفاخر هذه الجريدة أن العرب إلى عهد عمر رضي الله عنه كانت تتعامل بالنقود الفارسية والرومية فدعت (يثرب) إلى ضرب نقود عربية وألحت في ذلك؛ ورأى عمر رضي الله عنه أنها على حق، فأمر فضربت الدراهم على شكل النقود الفارسية، فلم تقنع (يثرب) بهذا، وطلبت أن ينقش اسم الله تعالى واسم رسوله تمييزاً لها عن نقود الفرس، فاستحسن الخليفة رأيها، فأمر فكتب على الدراهم:(الحمد الله) على وجه، و (محمد رسول الله) على الوجه الآخر. وقد زعم حاسدوها وشانئوها - من الفرس المغلوبين على أمرهم - أنها ما دعت إلى ذلك إلا ليسهل بيعها، فينشر أمرها ويعظم ربحها، وقالوا: ألا تراها قد أشارت بضرب الدراهم ولم تذكر الدنانير قط؟ فذاك لأن الدراهم خسيسة، ولأن النسخة من جريدة (يثرب) تباع بدرهم! ولكن هذا
طعن الفرس الموتورين فلا يسمع في العرب.
على أن من المحقق أن حاجة (يثرب) إلى سنة تؤرخ بها، هي التي أملت عليها الدعوة إلى وجوب الاتفاق إلى سنة معينة للتاريخ منها، غير عام الفيل وعام الفجار وما أشبه ذلك مما لا آخر له، فكان أن استشار الخليفة أصحابه في ذلك فأشار عليه علي كرم الله وجهه - على رواية (يثرب) - باتخاذ السنة التي هاجر فيها الرسول إلى المدينة مبدأ للتاريخ الإسلامي.
بعد هذا الاستطراد الذي لم نر منه بداً للتعريف (بيثرب) ورفعة مقامها وعلو منزلها، نقول إنا وجدنا فيما عندنا من أعدادها وصفاً مفصلاً لجريمة مولى المغيرة، فرأينا أن ننقله بحروفه حسما للخلاف، وإحقاقاً للحق.
قالت في ملحق أصدرته ضحى الأربعاء 26 ذي الحجة سنة 23 هجرية تحت العنوانات الآتية المكتوبة بالخط الجليل على سبعة أعمدة: (غلج فارسي يطعن أمير المؤمنين وهو يقيم الصلاة - ويصيب 13 رجلا ثم ينتحر - أهي مؤامرة فارسية نصرانية؟ - تحريات مندوبي يثرب الخصوصيين).
ثم قالت الجريدة:
(لم نكد نفرغ من طبع العدد الأخير من (يثرب) وندفع به إلى الباعة، ونذهب إلى المسجد للصلاة، حتى فوجئنا باعتداء أثيم مروع من علوج فارس على حضرة صاحب الجلالة أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الفاروق عمر بن الخطاب وهو يسوي الصفوف في المسجد ويهم باقامة الصلاة. وهو اغتيال دنيء وغدر خسيس تنكره الشهامة ولا تعرفه العرب، ولو أن مائة من أمثال هذا العلج الزنيم تصدوا لجلالته، وهو يراهم لخلط عظمهم بلحمهم وأكلهم وتأدم بآبائهم وأجدادهم إلى قابيل، ولكن هذا العلج جاءه من وراء ظهره، وأخذه غدراً وطعنه غلية، وهو رافع يديه يكبر للصلاة.
وقد سبق لنا أن حذرنا الحكومة من هؤلاء الفرس والنصارى الذين يفدون على مدينة الرسول؛ فإنها - على وفرة الماء فيها بالقياس إلى غيرها من بلاد العرب - يابسة الضرع، وغيرها من الأمصار التي فتحها أخصب، والعيش فيها أرغد، فمجيء هؤلاء الأغراب الموتورين إلى المدينة وإقامتهم فيها أمر مريب، فما يعقل أن يطيب لأمثالهم فيها
عيش، وهو الذين نشأوا في ظلال الدعة وألفوا حياة اللين والترف، وهذا ما جناه السماح لهم بالإقامة بين ظهرانينا.
ودعوا مراراً إلى اتخاذ الشرطة والحراس، والعسس بالليل، ومراقبة الأجانب، وقلنا إن خروج الخليفة وليس معه حارس، ولا في يده سلاح، ونومه في الأحيان الكثيرة في ظل شجرة أو جدار لا يخلو من الخطر، وأنه تعرض لا تؤمن مغبته، ولو أنه ليس بالمدينة إلا العرب لما أشفقنا، ولكن الأغراب كثروا بيننا، وهو من بلاد داستها جيوشنا، ودوخت أممها، وثلت عروشها، فهم حاقدون مضطغنون، لا يؤمن غدرهم ولا يتقي شرهم إلا بالحيطة والتحرز منهم. وقد صدق ظننا مع الأسف، وليته خاب ألف خيبة، نسأل الله اللطف فيما وقع).
ثم فصلت الجريدة الحادث كما وقع فقالت:
(دخل جلالته المسجد ليصلي بالناس على عادته، وكانت في يده الدرة التي لا تفارقه، فاخترق الصفوف والناس يفسحون له، ويحيونه بأحسن من تحيته، حتى صار إلى الصدر فاستقبل الناس ليقوم صفوفهم، وذاك دأبه، فان جلالته يكره الفوضى ويحب النظام، ثمألقى الدرة من يمينه - وكان يسوي بها الصف ويشير للمتقدم أن يتأخر، وللمتأخر أن يحاذي الذي بجانبه، ثم اتجه إلى القبلة ورفع يديه وكبر، ولم يكد صوته الجهوري يرتفع بالتكبير حتى هجم عليه رجل - ظهر فيما بعد أنه غلام المغيرة - وفي يده خنجر وضربه به في كتفه، فانحنى أمير المؤمنين قليلاً من عنف الصدمة وقوة الضربة على غير توقع منه، فمال معه المجرم وكاد يسقط، غير أنه اعتمد بيسراه على ظهر جلالته ونزع الخنجر الذي أصاب عظمة الكتف، وكان جلالته قد تمالك، وذهبت عنه دهشة المفاجأة فدار ليواجه المعتدي عليه، فعاجله الجاني بطعنة في خاصرته، وأسرع فنزع، وتشدد جلالته فضربه بجمع يده في صدره وهو يقول: (تريد قتلي يا ابن الفاعلة؟) فارتد المجرم خطوات، ثم كر عليه بالخنجر يطعنه طعناً سريعاً فسقط أمير المؤمنين على الأرض.
وكان الناس قد اذهلتهم هذه المباغتة، وأصابتهم منها لأول وهلة كالرعب، فتراجعوا والتوت صفوفهم، ثم أفاقوا، فصاح بعضهم يطلب الشرطي - وأين هو حتى يلبي النداء؟ - وهجم منهم عليه رهط، فأعمل فيهم خنجره يضرب يميناً وشمالاً كالمجنون، فأصاب منهم
ثلاثة عشر رجلاً، وألهم الله بعضهم فألقى عليه برنسا - كما تلقى على الجواد الجامح ثوباً - فأعماه وشل حركته، ثم تكاثروا عليه، وأيقن هو أنه هالك لا محالة فطعن نفسه فمات!
وأقبل الناس بعد ذلك على أمير المؤمنين واجمين محزونين - حتى الجرحى منهم - فردهم جلالته عنه باشارة وسأل:
(هل فيكم عبد الرحمن بن عوف؟)
فتلفت الناس ينظرون، فإذا ابن عوف يفرقهم ويقول:
(نعم يا أمير المؤمنين)
فقال جلالته: (تقدم، فصل بالناس)
فكانت دهشة، ولكن عمر هو عمر، لا يشغله خطب عن دينه وواجبه، ولا يجرؤ أحد على خلافه من هيبته، فصلى ابن عوف بالناس صلاة خفيفة، وعيونهم على جلالته، وهو ساكن وادع معتمد على الأرض بمرفقه، يصلى معهم بشفتيه، ثم أقبلوا عليه فحملوه، يريدون أن يذهبوا به إلى داره، فقال:
(مهلاً، ناولتي درتي يا هذا)
فناولوه إياها، فأخذها وهو يقول وعلى فمه ابتسامة:
(أرأيتم ماريشالاً بلا عصاه؟)
فابتسموا لابتسامته، ولكن دموعهم كانت تساقط على لحاهم وأيديهم التي خضبها دمه الزكي، فنظر اليهم يبكون وقال يزجرهم:
(بل الحمد الله الذي لم يجعل منيتي بيد مسلم)
أما الجاني فهو أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة، وأصله فارسي من نهاوند، وقد كتب الينا مندوبنا القضائي يقول:
منذ بضعة أيام جاء فيروز هذا إلى أمير المؤمنين يشكو إليه أن مولاه المغيرة بن شعبة يشتط في الخراج الذي ضربه عليه ويرهقه بما يتقاضاه منه، وسأله التخفيف عنه.
فسأله جلالته: (كم خراجك؟)
فقال: (درهمان في كل يوم)
فسأله: (أو كثير هذا عليك؟)
قال: (نعم، وحقك)
قال جلالته: (دع هذا، وقل ما صناعتك؟)
قال الغلام: (نحاس ونقاش وحداد)
فقال جلالته: (ثلاث صناعات في يديك، وتشكو رقة الحال وتستكثر درهمين؟ كلا ليس خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال) وأعرض عنه.
وقد يؤخذ من هذا أن فيروز حقدها على جلالته، وأسرها في نفسه، وأضمر أن ينتقم، ولكنا لا نعرف أن الناس يقتل بعضهم بعضاً من أجل درهمين، فكيف باغتيال خليفة؟ ثم إن تحرياتي تدل على أن الأمر كان مبيتاً بليل، فقد حدثني عبد الرحمن ابن أبي بكر - وهو ثقة - أنه رأى عشية أمس الهرمزان الفارسي وجفينة النصراني وأبا لؤلؤة هذا، وهم يتناجون، فلما رأوه اضطربوا، وسقط من أحدهم خنجر له شعبتان، يقول ابن أبي بكر أنه هو نفس الخنجر الذي ضرب به أبو لؤلؤة أمير المؤمنين. فبماذا كانوا يتناجون في غلس الليل، وهذا فارسي أعجمي، وذاك نصراني عربي وثالثهم مملوك للمغيرة؟ وماذا جمع العربي النصراني، والفارس المجوسي وإن تظاهر بالإسلام؟
ومعروف أن الهرمزان هذا كان من قواد الفرس الذين هزمهم سعد بن أبي وقاص، وقد أظهر الإسلام لينجو بجلده، وخان المسلمين مراراً ثم زعم أنه تاب، ومثله خليق أن يبطن العداوة للعرب وألا يغفر لهم أنهم مزقوا عرش الأكاسرة وغلبوهم على بلادهم مجوسيتهم، وسووا بين الناس فلا سيد ولا مسود، ولا شريف ولا وضيع.
أما جفينة فأمره مشهور، وهو نصراني من نجران، أتى به سعد بن أبي وقاص ليعلم الناس الكتابة - فيا سوء ما أتى به سعد من هذا! وقد كان أمير المؤمنين خاف انتقاص النصارى في نجران عليه، وهو في حرب الفرس والروم، فأجلاهم عن جزيرة العرب ثم عوضهم وأوسع لهم من الأرض في الشام والعراق، وأعطاهم خيراً مما تركوا، ثم هزم المسلمون جيوش هرقل وهو حامي النصرانية، فجفينة لا ريب مضطغن لذلك؟ وقد وجد في الهرمزان حليفاً ونصيراً، وفي فيروز وهو فارسي كالهرمزان، أداة لارتكاب الجريمة المدبرة.
وهذا هو الذي عليه الرأي العالم، ولو ترك الناس لرأيهم وخلى بينهم وبين ما يريدون
لفتكوا بالفرس والنصارى وشربوا دماءهم، فان النفوس فائرة، والصدور مضطرمة، ولكنهم يكبحون أنفسهم ويحملون عليها ويردونها على مكروهها احتراماً لأمير المؤمنين وانتظاراً لما يفعل، شفاه الله وعافاه.
بل هذا هو رأي أمير المؤمنين نفسه، فقد اجتمع إلى جلالته في داره بعد أن حمل إليها، المهاجرون والأنصار، فقال لابن عباس وكان معه:
(أخرج إليهم فاسألهم أعن ملأ منهم ومشورة كان هذا الذي أصابني؟)
فعاد إليه ابن عباس يقول إن القوم يقولون (لا والله، ولوددنا أن زاد الله في عمرك من أعمارنا).
فقال جلالته: (إذن أبرق إلى العراق وفارس وأنبئ العمال بما كان، وحذرهم أن ينتقض الناس على غرة منهم، فما يدريني ويدريك، لعله تدبير من هناك.)
وقد أرسلت البرقيات اللاسلكية إلى عمال الأمصار بالاستعداد لكل طارئ فلا خوف من هذه الناحية فان قوتنا كافية لقمع ما عسى أن ينجم من الفتن.)
وعند مثول هذا الملحق للطبع أبلغنا مندوبنا ما يأتي تليفونياً:
عرفتم أن المجرم أبا لؤلؤة عليه لعنة الله وملائكته، أصاب ثلاثة عشر من المصلين بخنجره، كانوا يحاولون القبض عليه وانتزع الخنجر منه، فالآن أقول إن سبعة منهم كانت جراحهم خطيرة، فتوفوا من النزف، وسيجهزون للدفن وتشيع جنازتهم بعد صلاة العصر باحتفال كبير يمشي فيه المهاجرون والأنصار والبدريون، وقد أمر جلالة الخليفة بأن ينوب عنه في تشييع الجنازة، صهيب.
أما الستة الآخرون فجراحهم خفيفة، وقد بعث إليهم جلالة الخليفة بابنه عبد الله بن عمر ليعودوهم ويستفسر عن حالهم، فشكروا له هذا العطف السامي ودعوا الله أن يعجل بشفائه
هذا وقد فحص الطبيب الشرعي الخنجر فتبين أنه مسموم فلا حول ولا قوة إلا بالله
وأذيعت نشرة طبية موجزة جاء فيها أن الإصابات ست في الكتف والخاصرة والظهر، وإن النزف منها شديد، وقد سقى جلالته لبناً فخرج من إحدى الطعنات أبيض كما هو، فنصح الطبيب لجلالته بأن يعهد، تولانا الله برحمته.
صدر العدد التالي من (يثرب) مجللاً بالسواد، وفيه نعت أمير المؤمنين إلى العالم
الإسلامي، ورثته رثاء طويلاً، ولخصت سيرته في الجاهلية والإسلام، ولا نحتاج أن ننقل من هذا شيئاً فإنه معروف، ووصفت تجهيزه للدفن، وتشييع جنازته والصلاة عليه بالمسجد، وحمله على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفنه معه إلى جانب أبي بكر الصديق، وسردت أسماء المشيعين من الأنصار والمهاجرين وغيرهم، وروت فيما روت أن علياً وعثمان تقدما للصلاة عليه فردهما ابنه عبد الرحمن وقال منكراً عليهما ذلك:(لا إله إلا الله! ما أحرصكما على الإمرة! أما علمتما أن أمير المؤمنين قال ليصل بالناس صهيب؟) وأثبتت تصريحاته قبل موته، لابن عباس، ووصيته لمن يخلفه، وقالت إنه دفع بها إلى ابنه عبد الله وقال له:(إذا اجتمع الناس على رجل - أي أمير المؤمنين - فادفع إليه هذا الكتاب وأقرئه مني السلام). وما أمر به في اختيار خليفته، وما أوصى به أبا طلحة الانصاري والمقداد بن الأسود، وكل هذا مشهور فلا داعي لنقله.
ولكن حادثاً وقع بعد ذلك، تعد (يثرب) مسئولة عنه، فقد ذهب إلى أن قتل عمر كان عن تآمر من جفينة النصراني والهرمزان الفارسي، وأنهما هما اللذان أغريا أبا لؤلؤة بقتله، وروت ما شهد به عبد الرحمن بن أبي بكر وغيره في ذلك، وأيدت ذلك بالدليل العقلي، فهاج عبد الله بن عمر، ومضى إلى ابنة أبي لؤلؤة فقتلها، ثم إلى جفينة والهرمزان فألحقهما بها، انتقاماً لأبيه؛ ولم يكن الذين وكل إليهم التشاور في أمر الخلافة قد فرغوا، فبعث صهيب عمرو بن العاص إلى عبد الله، وكان عمرو داهية، فلم يزل يحاوره ويداوره ويمسح منه في الذروة والغارب حتى سكنت نفسه، فأخذ منه سيفه، ثم جاء سعد بن أبي وقاص فقبض عليه وحبسه في داره.
ولما تولى عثمان بن عفان الخلافة، استشار أصحابه في أمر عبد الله بن عمر، فأشار بعضهم بقتله فيمن قتل، ولكن آخرين استنكروا أن يقتل الأب أمس ويقتل الابن اليوم، ووجد عمرو بن العاص مخرجاً من هذه الورطة، فقال لعثمان:
(يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان، ولك على المسلمين سلطان، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك).
أي قبل أن تكون خليفة، فمال عثمان إلى الرأفة، ورفض رأي علي بن أبي طالب، وكان يذهب إلى قتل عبد الله بن عمر، وقال عثمان: (أنا وليهم، وقد جعلتها دية واحتملتها في
مالي).
وقد أثنت يثرب على مشورة ابن العاص، ومروءة عثمان بن عفان، وقالت إن هذا درس عسى أن ينفع العجم والنصارى فيصرفهم عن التآمر مرة أخرى ولكن فريقاً من الأنصار كتبوا إليها يفندون رأيها، ويقولون إن الواجب كان أن يقتل ابن عمر؛ فكان هذا أول خلاف في عهد عثمان.
ولم ننقل هذا إلا لأن الفريق الذي طالب بقتل ابن عمر كذب ما روته (يثرب) في ملحقها من أن أبا لؤلؤة قاتل عمر انتحر لما كثر عليه الناس وأيقن من الهلاك، وأكد أنه لم ينتحر، وإنما ثار رجل من المصلين فقتله وأخذ منه الخنجر.
وكذب أيضاً أن الخنجر كان مسموماً، ولم يحفل ما قاله الطبيب الشرعي في ذلك، وقال إن ستة ممن طعنهم أبو لؤلؤة بخنجره هذا شفوا ونجوا، ولو كان الخنجر مسموماً لماتوا، وإنما مات من مات لإصابته في مقتل، أو من شدة النزف.
وطال الجوار والأخذ والرد بين (يثرب) ومخالفيها في الرأي حتى لأنكروا عليها أن الحدث كان عن تآمر، واستهجنوا منها أن تحض على اضطهاد العجم والنصارى، وقالوا إن هذا التحريض من سوء الرأي، وإنه خليق أن يفسد أمور الدولة ويخلق لها متاعب هي في غنى عنها في عهد التأسيس، وأنه توجد عصبيات لا يؤمن شرها في المستقبل، وتفاقم الخلاف بين الفريقين حتى لدعا علي كرم الله وجهه، الخليفة إلى إغلاق يثرب، أو على الأقل تعطيلها حتى تقر الفورة وتهدأ النفوس، ولكن الخليفة شق عليه أن يصيب حرية الرأي في عهده أي سوء، فاكتفى بالنصح لجريدة (يثرب) ألا تسرف في دعايتها، وأن تتقي اللجاجة وما قد تجر إليه من الفتنة.
وقد آثرنا التخليص، لأن النقل يطول، والقارئ أدرى بالصحف وكيف تبدئ وتعيد حتى تعكر الجو وتضجر وتغشى. وقد بلغ من تفرق الرأي في ذلك الوقت أن الناس كانوا يجلسون في المسجد حلقات وفي أيديهم أعداد (يثرب)، فهذا يؤيد، وذاك يعارض ويكذب، حتى خيفت الفتنة وحسبنا هذا القدر.
إبراهيم عبد القادر المازني
الفلسفة الإسلامية ودراستها
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
قد يكون من عبث القول أن نحاول اليوم إثبات وجود فلسفة إسلامية انفردت بما لها من خصائص ومميزات؛ فقد انقضى الزمن الذي ادعي فيه (رينان) ومن نحا نحوه أن فلاسفة الإسلام اكتفوا بترديد نظريات (أرسطو) دون أن يغيروا فيها شيئاً. هناك فلسفة إسلامية، كما أن هناك فلسفة مسيحية، أو بعبارة أخرى تقابل المدرسة الفلسفية العربية في الشرق، المدرسة اللاتينية في الغرب. ومن هاتين الفلسفتين مضافاً إليهما الدراسات اليهودية يتكون تاريخ البحث النظري في القرون الوسطى. للإسلام فلسفة قد امتازت بموضوعاتها وأبحاثها، بمسائلها ومعضلاتها، وبما قدمت لهذه وتلك من حلول وأجوبة. فهي تعني بمشكلة الوجود والتعدد ، والصلة بين الله ومخلوقاته التي كانت مثار جدل طويل بين علماء التوحيد المسلمين. وتحاول أن توفق بين الوحي والعقل، بين العقيدة والحكمة، بين الدين والفلسفة، وأن تبين للناس أن الوحي لا يناقض العقل في شيء، وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفس وثبتت أمام الخصوم، وأن الدين إذا تآخي مع الفلسفة أصبح فلسفياً، كما تصبح الفلسفة دينية. وقد وصل الفلاسفة المسلمون في كل هذه النقط إلى نتائج جديرة بالتقدير والإعجاب.
لا يستطيع باحث أن ينكر أن هؤلاء الفلاسفة قد أخذوا عن (أرسطو) معظم آرائه، وتأثروا بأفلاطن + 270) إلى حد كبير. ومن ذا الذي لم يتتلمذ على من سبقه، ولم يقتف أثر من تقدموه؟. . . وها نحن أبناء القرن العشرين لا تزال عالة في كثير من المسائل على أبحاث الأغريق والرومان. غير أن الفلسفة الإسلامية، وإن بنيت على أفكار السابقين، تشتمل على نظريات جديدة؛ فهي فلسفة أنتجتها البيئة والوسط، وأملتها الظروف المحيطة بها؛ وتلك سنة من سنن التاريخ، وأصل من أصول الاجتماع. على أنا إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة الفرد، وجدنا القانون لا يتغير، ولاحظنا أن الفكرة الواحدة إذا تناولها بالبحث أشخاص متعددون، ظهرت في مظاهر متباينة. لفيلسوف أن يقترض من آخر بعض آرائه، ولن يمنعه ذلك من أن يأتي بنظريات خاصة وفلسفة متميزة. (فاسبينوزا + 1677) مثلاً، رغم متابعته الواضحة (لديكارت + 1950)، يعد بحق صاحب مذهب فلسفي مستقل.
وكذلك (الفارابي + 950) و (ابن سينا + 1037) و (ابن رشد + 1192)، الذين كانوا تلامذة مخلصين (لأرسطو)، قد اعتنقوا آراء تمتاز كثيراً عما جاء به أستاذهم. وإذاً استطاع العالم الإسلامي أن يكون لنفسه فلسفة تلتئم وظروفه الدينية والاجتماعية.
بيد أن الفلسفة الإسلامية، في تاريخها، في نظرياتها، في رجالها، لم تدرس الدرس اللائق بها، ولا تزال الحلقة المفقودة في تاريخ الفكر الإنساني، فحتى الساعة لم يبين الباحثون بدقة أصل نشأتها، وتاريخ تكوينها، والعوامل التي أدت إلى نهوضها، ولا الأسباب التي انتهت بانحطاطها والقضاء عليها، ولم يناقشوا نظرياتها واحدة واحدة ليوضحوا ما اشتملت عليه من أفكار الأقدمين، وما أنتجت من ثروة جديدة. وأما رجالها فغرباء في أوطانهم، مجهولون لدى أقرب الناس إليهم؛ ولا أدل على ذلك من أن كثيرين منا يعرفون عن (روسو + 1778) أو (سبنسر + 1903) ما لا يعرفون عن (الكندي + 870) أو (الرازي + 932)، ولو لم يقيض الله لفلاسفة الإسلام جماعة من المستشرقين وقفوا عليهم جزءاً من أبحاثهم ودراساتهم، لأصبحنا ونحن لا نعلم من أمر الفلسفة الإسلامية شيئاً.
إلا أن هذه الدراسات وتلك الأبحاث قليلة ومعيبة من وجهين: أولاً إهمالها للجانب الفلسفي واشتمالها على كثير من الأخطاء اللغوية والفنية والتاريخية. ولعل سر ذلك أن أغلب من كتبوا في تاريخ الفلسفة الإسلامية لا يجدون العربية، ولا يحيطون تمام الإحاطة بتاريخ الثقافة الإسلامية؛ أو إن عرفوا ذلك فهم يجهلون تاريخ الفلسفة العامة، ولم يتوفر لديهم التفكير الفلسفي المنتظم؛ ولسنا في حاجة إلى سرد أمثلة، فإن هذا الحكم ينطبق، إذا استثنينا طائفة محدودة، على عامة الكتب المتصلة بتاريخ الفلسفة والفلاسفة المسلمين. وأما العيب الثاني فميل شديد إلى الاختصار يكاد يخل بالغرض المطلوب، ويحول دون القارئ والنفوذ إلى صميم ما يقرؤه. ومن أوضح الأمثلة على ذلك مختصر قيم حقيقة للعالم الهولاندي (دي بور)؛ غير أن عيبه الهام يرجع بالتحديد إلى اختصاره المبالغ فيه؛ وفوق هذا فان هذه الكتب في جملتها قديمة العهد، قد ألفت في زمن ما كان يعرف فيه عن التاريخ الإسلامي إلا الشيء القليل. أما اليوم وقد تقدمت معلوماتنا تقدماً محسوساً في هذه الدائرة، فنحن في حاجة ماسة إلى أبحاث تتناسب مع مصادرنا الجديدة، ومع ما استكشفنا من مخطوطات ومؤلفات للفلاسفة والعلماء المسلمين.
لا يقاس انتشار صوت مفكر أو مخترع بمقدار ما أحدث من آراء ومخترعات فقط، بل بدرجة نبوغ الوسط الذي يعيش فيه والشعب الذي ينتمي إليه. فالأمم النبيلة تزيد أبناءها عظمة على عظمتهم، وتعمل على رفعتهم بقدر قد لا يصلون إليه وحدهم. ورب نظرة عادية لاقت مشجعين فنموها، وأخذوا بيدها حتى صعدت إلى عنان السماء؛ ورب فكرة ممتازة صادفت منبت سوء فماتت لساعتها. عرفت ذلك الشعوب الناهضة، فأشادت بذكر علمائها وفلاسفتها، وخدمت في الوقت نفسه العلم والثقافة الإنسانية. فهي تخلد ذكرى رجالها بمختلف الوسائل، وتعمل على نشر آثارهم ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. فمن تماثيل مقامة في المدن والقرى، ومن جمعيات نشر وترجمة وتأليف قد أخذت على عاتقها إذاعة ما أنتج السلف من أفكار. فهل آن لنا أن نحتذي بهذه المثل الصالحة، وأن نعرف لتاريخنا حقه كي نعرف وننال منزلتنا تحت الشمس؟ متى يكتب عن (الفارابي) بقدر ما كتبوا عن (موسى بن ميمون + 1204)؟ ومتى تعرف مؤلفات (ابن سينا) كما عرفت كتب (سان توما + 1274)؟ ومتى يدرس (الغزالي + 1111) بقدر ما درس (ديكارت)؟
إن دعوتنا هذه موجهة إلى كل بلاد الشرق، وبوجه خاص إلى مصر التي تستطيع بحكم مركزها الاقتصادي والاجتماعي والعلمي أن تخدم البحث والتأليف. فإلى أبناء مصر عامة، أفراداً خاصة، نتقدم بكلمتنا هذه آملين أن يعبروا تاريخ الفلسفة والبحث العقلي في الإسلام جانباً كبيراً من الأهمية. إن ميدان العمل فسيح، وإن سبله عديدة، ولسنا الآن بصدد أن نرسم خطة شاملة، أو أن نبين منهجاً مكتمل المواد، وإنما نريد أن يتولى الشرقيون بالدرس فلاسفة الإسلام على النحو الذي درس به الغربيون رجالهم. لنترجم لمفكرينا ترجمة مستفيضة، ولنصف وصفاً دقيقاً نواحي حياتهم المتعددة؛ لنبحث عن أصول نظرياتهم لدى حكماء الإغريق والهند والعراق، ولنقارن هذه النظريات بما جاء به اللاتينيون في القرون الوسطى، ولنبين وجوه النسبة بينهما وبين الأفكار الحديثة. إنا لا ننكر أن هذه الأبحاث مملوءة بالمصاعب، إذ تستلزم معرفة عدة لغات: قديمة وحديثة، شرقية وغربية، وتستدعي الاطلاع على مصادر لا حصر لها، ولكن إن لم يكن في هذه الدراسة إلا أنها عمل جديد من نوعه لكفي مرغباً في مزاولتها والإقبال عليها.
وأخيراً لنعمل على طبع ونشر مؤلفات الفلاسفة المسلمين، فإنّا لا نستطيع أن نفهمهم فهماً
حقاً دون أن نقرأهم بلغتهم وفي كتبهم؛ وهنا نتجه بصفة خاصة إلى الجامعة المصرية التي سلكت في هذا الباب مسلكاً تحمد عليه، فقد بدأت منذ زمن، متبعة سنة الجامعات الأوربية، في أحياء المخلفات العربية، وجمع المخطوطات الإسلامية وطبعها. وعلها تخطو في هذه السبيل خطوات أخرى حثيثة ومتتابعة. إنه لمحزن أن يبقى قدر من مؤلفات (الفارابي) مخطوطاً حتى اليوم، وموزعاً بين مكاتب أوربا المختلفة: ليدن، باريس، والاسكريال. على أن ما طبع من كتب هذا الفيلسوف العظيم مملوء بالأخطاء. فهل لنا أن نسعى إلى جمع مؤلفاته في شكل وطبعها كلها طبعاً مناسباً، مصحوباً بوسائل التحقيق والإيضاح الضروري. الفكرة تخامرنا منذ زمن؛ وقد أشرنا إليها في كتابنا على (الفارابي)، ونحن نرحب بكل من ينضم إلينا في تنفيذها. وليس (ابن سينا) بأعظم حظاً من سلفه وأستاذه؛ فان كتابه الأكبر في الفلسفة:(الشفا)، قد طبع طبعة مشوهة في طهران منذ خمسين سنة. وقد أهمل الناشر الجزء الأول منه، الخاص بالمنطق، والذي اهتدينا إليه أخيراً في مخطوطة بالبرتش ميوزيم وأخرى بالأنديا أوفس وإنا لنأمل أن نوفق يوماً لنشر هذه المخطوطة وضمها إلى الجزأين الآخرين في طبعة جديدة مستقيمة.
تلك سلسلة من الأعمال تبين نواحي النقص في دراسة الفلسفة الإسلامية، وهناك ملاحظات كثيرة متعلقة بكبار فلاسفة الإسلام الذين لم نشر إليهم قد أرجأناها إلى فرصة أخرى.
وكلنا رجاء أن تتضافر الأيدي على حرث وزرع هذا الحقل المترامي الأطراف، وأن نتعهده متكاتفين حتى يؤتى أثماره الطيبة.
إبراهيم بيومي مدكور
دكتور في الآداب والفلسفة
بلالٌ يؤذن
للدكتور عبد الوهاب عزام
كاد الليل ينسلخ عن النهار، وبشرت بالصبح أنفاس الأسحار، والدجى مهود وسنان، سيفزعه عما قليل ذنب السرحان والناس هاجدون وكأنهم أيقاظ ينتظرون صلاة الصبح؛ وكأن آذانهم مصيخة تلقاء المسجد. تتحين دعاء المؤذن، وكأن قلوبهم إبر المغناطيس ترصد قطبها، وتتجه إلى إمامها، والأمام هاجد يرعاه ربه، تنام عيناه ولا ينام قلبه. وملء الأرض والسماء السكينة والسلام.
وسرى في أحشاء الليل كطيف الخيال، اتخذ من الليل جلباباً، وطوى من الصبح قلباً وجاباً، (آدم شديد الأدمة، نحيف طوال أجنأ، له شعر كثير، خفيف العارضين، به شمط كثير) تحمل جمته الشمطاء، تباشير الصباح الوضاء.
ويرتقي جدار المجلس، فيجلس مقلباً وجهه في السماء، ثم ينتفض قائماً، فيضع سبابتيه في أذنيه، فيبعث في حواشي الظلماء، صوتاً يجلجل في الأرجاء: الله أكبر الله أكبر - الله أكبر الله أكبر! أترى فلول الظلام مذءودة تلوذ بالباطل المنهزم، أم ترى الباطل مذعوراً يلتف في تلك الظلم؟ ذلك النور المنبثق من الأفق الشرقي بسمة الفجر الصادق لهذا الصوت الإلهي، بل ذلك النور الوضاء، استجابة النهار لهذا النداء. فما الفجر إلا صوت نوراني، يتلألأ بنغمات ذلك النور الصوتي؛ ليت شعري أيهما الصباح، وأيهما أذان بلال بن رباح؟ ويمضي بلال يصدع قلب الظلام، بشهادتي الإسلام: أشهد أن لا أله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم يحيل بالصلاة والفلاح، ثم يعيد التكبير في تمديد، فيختم بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله!
ويحسب بلال أن صوته لم ينفذ إلى القلوب، فلم تتجاف عن مضاجعها الجنوب، فيثوب بالقوم: الصلاة خير من النوم.
يتهلل وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لصوت الحق مدوياً في أعقاب الباطل، ويبتسم لصوت الحق عالياً طليقاً يملأ ما بين الأرض والسماء، والمشرق والمغرب. يبسم حين يسمع دعوة الحق في قلب الجزيرة العربية على لسان عبد حبشي. وهل في شرعة الإسلام عبد وحر؟ وهل في سنة محمد عربي وحبشي؟
وتنبعث في كل أذن من هذا الصوت نغمة، وفي كل قلب من هذا النور إشراق. فيهب الأصحاب من مراقدهم، تقشعر جلودهم، وتطمئن قلوبهم. فتستيقظ كل دار بأهبة الصلاة من الرجال والنساء والولدان والولائد.
وينزل بلال فيقف بباب الحجرة النبوية قائلاً: (حي على الصلاة، حي على الفلاح. الصلاة يا رسول الله).
ويسفر النهار وتنثال الجموع إلى المسجد فانظر من ترى:
يخرج نفر إلى المسجد من خوخات في دورهم، فهذا الآدم الربعة عظيم العينين ذو البطن سيف الله الغالب علي بن أبي طالب، يخرج من حجرة فاطمة. وهذا الآدم الطويل الجسيم الأصلع عمر الفاورق، وهذا الأسمر الرقيق البشرة ضخم المنكبين كثير شعر الرأس عظيم اللحية عثمان ذو النورين، والصديق كان في السُّخْ هذه الليلة فيقدم مسرعاً فتراه أبيض نحيفاً معروق الوجه غائر العينين خفيف العارضين أجنأ. ويقبل من دور بني زهرة بجانب المسجد ثلاثة: أحدهم قصير دحداح ذو هامة عظيمة، شثن الأصابع، كثير الشعر يخضب بالسواد، هو سعد بن مالك بن أبي وقاص، والثاني آدم نحيف قصير له شعر يبلغ ترقوته، يلبس ثوباً ناصع البياض، تضوع منه ريح الطيب، يمشي في وقار وسمت، هو عبد الله بن مسعود، والثالث ضخم طويل الجسيم خالد بن الوليد، وهذا القصير الأبلج الأدعج عمرو بن العاص، وفي أثرها رجل جميل عظيم الهامة مكتحل يخطر في مشيته هو معاوية بن أبي سفيان، وبجانبه رجل نحيف طوال معروق الوجه خفيف اللحية اجنأ أثرم الثنيتين هو أبو عبيدة ابن الجراح. ويقبل من ناحية الحرة الشرقية رجلان: سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج؛ ويأتي رجل طويل نحيف كثير الشعر عليه سيما الحزن هو سليمان الفارسي، ووراءه رجل ربعة أحمر شديد الحمرة كثير شعر الرأس، يخضب بالحناء هو صهيب الرومي؛ وانظر بين الجمع طلحة والزبير وأبا موسى الأشعري وأبا أيوب الأنصاري. ويأتي بنو الصحابة، فهذا الغلام الطويل الأحمر عبد الله بن عمر، وهذا الغلام الطويل الأبيض المشرب بالصفرة الجسيم الوسيم الصبيح الوجه عبد الله ابن العباس، وهذا الصبي الذي يشبه أبا بكر عبد الله بن الزبير.
ويخرج رسول الله صلوات الله عليه، فيقيم بلال الصلاة: الله أكبر الله أكبر الخ، فيسوي
الرسول الصفوف، ويسد الفرج فيها ويكبر فيكبرون. ويذهب هذا التكبير نغمة متسقة بين ضوضاء العالم وجلبته في الأرجاء طمأنينة لقلوب، ورعدة لقلوب، ورجاء لقوم، وخوفاً لآخرين، يبشر الضعفاء والمظلومين بملكوت الله في الأرض، وينذر الجبارين والظالمين بالقصاص العادل. إنما مزق شمل الظالمين هذه الصفوف لا صفوف القتال، وإنما زلزل عروش الجبارين ذلك التكبير لا وقع النبال.
ويقرأ الرسول في الركعة الأولى آيات من سورة النور منها: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).
ويقرأ في الركعة الثانية آيات من سورة الحج منها:
(إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور. أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربُّنا الله، ولولا دفع الله الناسَ بعضَهم ببعض لهدّمت صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدٌ يذكر فيها اسمُ الله كثيراً. ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوّي عزيز. الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوُا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور).
هذه جماعة يمحصها الله ليورثها أرضه، ويعلمها لتقوم بين الناس بعدله. وهذا الصف من العُبّاد يجمع خلفاء الأرض وأمراءها وولاتها وقضاتها ومعلميها وقوادها وجندها، وتلك الشرذمة من الزهاد هم ورثة العروش والتيجان عما قليل، الذين يقسم الله رزقه بأيديهم، ويصرف حكمه في الأرض بألسنتهم. جماعة تضمهم جُدُر المسجد اليوم ولا يسعهم العالم غداً، جماعة في أرض فقيرة بين لابتين، سينشرون بين المشرقين والمغربين، وستجفُ الأرض بحملاتهم، وتقر بعدلهم، وتضيء بإيمانهم قضيت الصلاة وانتشر المصلون.
لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده. قد فتحت بهذه الجماعة الأقطار، وعمرت بهم الأمصار، هذا عمر في الشام قد أزال عنها سلطان الروم، ثم جاءها ليبرم العهود، ويتفقد الرعية؛ وهذا بلال في جيش المجاهدين غازياً؛ ينظر عمر إلى بلال يود أن يسمع آذانه، ويهاب أن يستمع لمؤذن رسول الله. ويقول الناس لعمر: لو أمرت
بلالاً أن يؤذن! ويقترح عمر على بلال الآذان، فينهض الشيخ ابن السبعين تحت أعباء السنين، فيدوّي في الأرجاء: الله أكبر، الله أكبر. . .
لقد كان آذان الشام تصديق آذان المدينة. . . . أجل أجل لقد صدق الله وعده!!
ولكن انظر إلى عمر، ألا تراه ينشج؟ ألا ترى دموعه تبلّ لحيته؟ ألا ترى القوم في بكاء ونحيب؟ ما دهاهم؟ ما أبكاهم؟ لقد نصرهم الله ومكن لهم في الأرض، وأغناهم وأعزهم. فما دهاهم وما أبكاهم؟ يبكون إذ رأوا المؤذن ولم يروا الإمام! يبكون إذ سمعوا مؤذن رسول الله، ثم نظروا فلم يجدوا رسول الله!
عبد الوهاب عزام
ألحان الفجر
بقلم أمجد الطرابلسي
(ترفع إلى مجد الهجرة وفجر الإسلام)
في هَدْأَةِ الكونِ وَصَمتِ الورى
…
قامَ يُوالي في الظلام اللُّحونْ
يدعو لشكرِ اللهِ صَرعى الكرى
…
والناسُ في أحلامِهم مُغرِقون
يا مُنشداً في السَّحَرِ الرائقِ
…
رَدَّد عليَّ النَّغماتِ العِذابْ
لعلَّها تَفْثأُ عن خافِقي
…
بَرْحَ العوادي وَمُمِضَّ العذاب
مؤذَّنَ الفجرِ عداك الأذى
…
أصّمنا عنكَ غرورُ الحياهْ
أسمَعْتَ لو يَسمعُ أهلُ البِلى
…
فكَفْكِفِ الدَّمعَ وناجِ الإِله
سبَّ فإن الكونَ تحتَ الحَلَكْ
…
سبَّحَ للهِ وأبدَى الخشوعْ
وابعَثْ أغاريدَكَ تشْجي الفَلَكْ
…
وإن أثارَت في شؤوني الدموع
وارَحمتاَ للناس وارحَمتاَهْ
…
من عَبَثِ الدنيا ومن شرِّها
ضلوا مع اليقَظَةِ كَُنْهَ الحياة
…
فساَءلوا الأحلَام عن سرِّها
تعدو على الفجرِ عوادِي الدُّجونْ
…
والفجرُ من بعدِ الدُّجى يسطَعُ
والناسُ في ليْلِ الُمنى مُدْلِجُون
…
يَرجونَ فجراً وهو لا يَطلُع
هل نحنُ في الدنيا سِوى قافِلة
…
تَعبُرُ في الليلِ صَحارَى الحياةْ
تمضي كهذي الأنجم الآفِلةْ
…
من قبلِ أن يبَلغَ فردُ مناه
تَخُطّ في الرَّملِ رسومَ اُْلخطى
…
وتملا الجوَّ برَجْعِ الحُداءْ
فتَطمِسُ الرَّيحُ خُطوطَ السُّرى
…
ويُطفيُّ الضَّجَّةَ رَحْبُ الفضَاءْ
يا فجرُ إني قد أطَلتُ النَظَرْ
…
في الكوكبِ المضطربِ الساهمِ
وقلتُ عَلَّي اسْتَشِفُّ القَدَرْ
…
وراَء هذا الأُفقِ الحالمِ
حَدَّقتُ! لكن ما عسى أن أرى
…
والبصرُ الظامئُ في الافْقِ تاهْ
كونٌ هَنيءٌ في خِضَمَّ الكَرَى
…
يَحلُم مَغموراً بَعطْفِ الإلهْ
لا هُمَّ أغراني وهاجَ الخيالْ
…
تثاؤُبُ الأكوانِ بعدَ الرُّقادْ
ربّاه، ربّاه، أفضتَ الجمالْ
…
حتى ازدَهى الحيُّ ورَفَّ الجمادْ
في كلَّ ما نُبْصِرُه نَفْحَةٌ
…
من حُسنِكَ الضافي ومن لُطفِكا
ربَّ وفي كلَّ صدَى نَغْمةٌ
…
تَشْدو بآلائِكَ أو عطْفِكا
ربَّ تجلَّيتَ لأرْوَاحِناَ
…
في ثَبَجِ الدَوَّ وشُمَّ الجبالْ
وفي مآسينا وأفراحِنا
…
وبَسْمَةِ الفجْرِ وَصَمتِ اللّياليْ
وفي اصطِخَابِ الَمْوجِ إذ يَصْطَخِب
…
وفي سكونِ اليَّم إذ يسكُنُ
وفي هزيمِ الرّعد إما غضِبْ
…
وفي نُوَاحِ الطيرِ إذْ تَحْزَنُ
والقرْيةِ الهادئةِ الحالِمَهْ
…
والرَوْضةِ الفَوّاحةِ الناضِرَهْ
والليلةِ المقمِرَةِ الباسِمهْ
…
والأنجُمِ البرَّاقةِ الحائرَه
لا هُمَّ إن السكوْنَ ذا مَعْبَدُكْ
…
أرْنُو فلا أُبصرُ فيه سِواك
وكلُّه ألْسِنَةٌ تَحْمَدُكْ
…
تَشدو بما يَغْمُرُها من نَداكْ
وارَحمنا رَبَّ لمن لا يراكْ
…
هَل يَعرِفُ السلوَى تُرَى قلبُه؟
ما حالُه إن طوَّقَتْه الشَّرَاك
…
وآدَهُ من دَهرِهِ خَطبُه؟
يا زَوْرَقَ الأكوانِ فِضْ بالمُنى
…
واجرِ رُخاءً في خِضَمَّ الأبد
واعزِفْ بِمِجْدَافِكَ لحنَ الهنَا
…
بين رُؤَى الأمسِ وآمالِ غَدْ
سِرْ آمِناً في لُجَّهِ حالَمِا
…
فإن رُبَّانَكَ جَمُّ الحَنانْ
قد وسِعت رَحمتُ العالَما
…
مُذ أبدعَ الكَوْن وأجرى الزمان
يا رَوْعةَ الفجرِ أطَلتِ السكون
…
تحتَ الدياجي وأطَلتِ الوُجومْ
فزَحْزحي عن منْكَبَيْكِ الدّجونْ
…
فقد نَزَتْ فيَّ خَوابي الهموم
غَشَّت على عينيَّ سُحْب الضَّجَرْ
…
حتى كأني أبداً في ظلَمْ
مِنْ أين تأْتينَيَ سُحْب الضَّجرْ
…
حتى كأني أبداً في ظلَمْ
مِنْ أين تأْتينيَ سُودُ الفِكرْ؟
…
من أينَ يَنْصَبُّ عليَّ الأَلم؟
ما حيلتي والقلب مُستعبِرُ
…
جمُّ الأسى حَفَّ بهِ غَيْهب
أرجو له البِشْرَ فلا يَحْبَرُ
…
وأنشُد السلوى فلا يَطْرَبُ
ربَّاه قد أضنى فؤادي الأسى
…
وآن للجاهِدِ أم يستريح
أكلما افترَّتْ زُهور المنى
…
طاحت بها في حَوْمةِ اليأسِ رِيح
ربَّاه كم نُؤْتُ بما أحمِلُ
…
وكنت يا ربَّ مَناطَ الرجاءْ
رباه لولا عطفُكَ الُمسبَلُ
…
ما ساغَ لي طولَ حياتي عزاء
لا همَّ أفعَمتَ الدُّنا بالضياءْ
…
وانجابَ عنها ليلُها الأغبَرُ
فاسكُب على قلبيَ نورَ الرَّجاء
…
من قبْلِ أن يَطوِيَه المَقبَرُ
(دمشق)
أمجد الطرابلسي
النظرية الموسيقية عند العرب
بقلم حسين سراج
ما هي الحقائق المختصة بنظرية الموسيقى العربية؟
تقول الآنسة إن علم الموسيقى الذي تطور على أيدي العرب تطوراً عظيماً - يعزى اقتباسه من الفرس الذين غلبهم العرب إلى أمر النبي، وإذا أردنا زيادة في التدقيق قلنا إنه أخذ من اليونان.
ولتسمح لي الآنسة أن أقول بصراحة إنه لا مبرر للرأي القائل إن النبي أمر بشيء كهذا. والحقيقة - كما يعرفها المستشرقون - هي أن الغناء في الإسلام كان ولا يزال معدوداً من الملاهي المحرمة، وأن كل فرقة من المذاهب الأربعة قررت حرمة السماع، أو على الأقل جعلته غير لائق ديناً، وقد كتبت مئات من الرسائل في أحاديث النبي عن تحريم الغناء.
لم تنشأ الثقافة العربية ولا الحضارة البدوية مع البدو الرحل أو الإسلام - كما افترضت الآنسة وإنما تجد منذ أوائل العصر الألفي الثاني قبل الميلاد أخباراً من مملكة عرب الجنوب، حيث نتلمس حضارة زاهية تضاهي ثقافة البابليين والآشوريين، وفي الحقيقة أن اليونان مدينون ثقافة للعرب، ويعتقد (همل) وآخرون أن من المرجح أن يكون اليونان قد أخذوا عن عرب الجنوب لا (أبولو (وليتو و (ديونيسوس و (هرمس فحسب، بل (الفاء) و (السين) من حروف الهجاء أيضاً.
وقبل الإسلام بزمان طويل نقرأ في ثنايا الكتب عن الكفاية الموسيقية عند العرب القدماء، ومن الإجحاف أن ندعي أنه لم تكن عندهم نظرية موسيقية إذا واجهنا أو قابلنا بين ما نعرفه من الثقافة العامة عند الكلدان والمعينيين والسبئيين والنبطيين والتدمريين، وبين من جاء بعدهم من اللخميين والغساسنة.
وتتبع الآنسة المدرسة القديمة القائلة - قبل قرن أو أكثر - إن العرب لم تكن عندهم نظرية موسيقية غير ما اقتبسوه من الفرس أو اليونان، وتسترسل في القول أن كلا الشعبين (اليونان والفرس) كانت لهما نظم موسيقية خاصة بهما، ولم يكن عند العرب حتى هذا الوقت نظام يستطيعون أن يجعلوه نظرية. ولدينا عبارة مماثلة لهذا القول في كتابها (رسل أسرة الكمنجة) (ص 397 - 398) إذ تقول: (أفتتح العرب فارس في القرن السادس، ومن
سجلاتهم نقرأ أنهم وجدوا نظام الفرس الموسيقى أرقى بكثير من نظامها، فاقتبسوه ودرسوه درساً عميقاً على أساتذة وطنيين).
أما الحقيقة فهي أن العرب حين افتتحوا فارس في القرن السابع، وكان لهم نظام صيروه نظرية قبيل فتح فارس.
ونجد المغنين العرب من حين إلى آخر يفاخرون بالتقاليد الموسيقية التي تحدرت إليهم من عصور الجاهلية مثل المغنية الجاهلية (رائقة) معلمة (عزة الميلاء). وكان العرب في هذه الحقبة التي ظن فيها حدوث هذه العارية الأجنبية حذرين من أي تعد على ذلك الشيء المقدس وهو القومية العربية. وهل يتساهل العرب في دخول الطرق والعادات الأجنبية بهذا القدر وكل كلمة من عمر تدعو إلى الجامعة العربية؟
ولئن قلنا إن العرب لم يكن عندهم نظام موسيقى في هذا الوقت (أي وقت فتح فارس) ليبنوا عليه نظرية لا تتفق مع الحقيقة، فلدينا شواهد كثيرة على وجود موسيقى وغناء في عصور الجاهلية، ويكاد يكون مستحيلاً أن نتصور هؤلاء القوم الذين كانت الموسيقى لهم من الحاجات الضرورية، والذين استطاعوا تهذيب أشعارهم كما نراها في المعلقات والحماسة والمفضليات، غير قادرين على تنظيم غنائهم.
ومن حسن الحظ أن حفظ لنا الفارابي مطولات عن نظام جاهلي في سلم الطنبور البغدادي كان يتوصل إليه بتقسيم طور الوتر إلى أربعين قسما؛ ويرجح أن عرب الجزيرة ورثوا هذا السلم عن الكلدان الذين ورثوه عن الآشوريين والبابليين، وحينما حل محله النغم الفيثاغوري في الشرق الأدنى وفارس كما حل بين عرب سوريا والحيرة، عاش هذا الطنبور في أرجاء الحجاز واليمن القاصية ووجد له عشاقاً حتى القرن العاشر بعد الميلاد.
كانت الحيرة في أيام الجاهلية المركز الأعظم للآداب العربية ومنها انتشر الشعر في أنحاء شبه الجزيرة. وبما أننا نعلم الصلة الشديدة بين الشعر والموسيقى فمن الممكن أن نتصور أن الموسيقى نفقت سوقها كالشعر، وفي الحقيقة يجب أن تكون الحيرة على ثقافة موسيقية عالية متى علمنا أن ملك الفرس العظيم بهرام غور (430 - 438م) أرسل إلى بلاط اللخميين العرب في تلك المدينة ليثقف، وهناك تعلم الموسيقى بين الآداب العربية الأخرى. وكان هذا قبل أن يتغلب العرب على الفرس. ولربما سأل سائل: ما الذي اضطر يزدجرد
الأول والفرس إلى إرسال الأمير الصغير إلى شعب ليس له أسلوب خاص فني فيطلعه عليه (كما تقول الآنسة ومن المستغرب أيضا أن فارس وهي النبع المشهور للنظام الموسيقي العربي تفتقر تحت حكم بهرام غور إلى مغنين محترفين يرسلون إليها من الخارج.
ويضع الطبري بين سقطات النعمان الثالث (580 - 602م) آخر ملوك اللخميين ميله للغناء. ومن الحيرة اقتبس العرب حوالي آخر القرن السادس الميلادي ذلك الغناء الذي حل محل (النصب) والعود والمزهر.
أما أن العرب كان لهم نظام موسيقي محلي فيثبت جلياً بحجج عديدة. وأما أن يكون هذا النظام قد تأثر بنظريات الفرس والبيزنطيين وفيما بعد بالأصول اليونانية القديمة فرأي يسهل قبوله؛ كذلك لا ينكر أن الفرس والبيزنطيين تأثروا جميعا بالنظرية الموسيقية العربية (ولو كانت التسمية مرشداً لقلنا إن النظرية الفارسية مبنية بالكلية على الأصول العربية).
كان التأثير الأجنبي على الموسيقى العربية سطحياً ولم يكن له في البدء أثر على النظرية. قرأنا عن المغنين المتقدمين أمثال طويس وسائب خاثر اللذين قلدا أسلوب الفرس في الغناء وفي نفس الوقت وجدنا مغنياً فارسياً كنشيط يدرس أسلوب العرب في الغناء. ليس هنالك تعقيد نظري وجل ما هناك هو اقتباس شعب من آخر شكلاً خاصاً أو أسلوباً غنائياً.
على أن تبعة الظن بوجود صبغة موسيقية أجنبية تلقى على ابن خلدون الذي يقول في مقدمته إن اتصال المغنين من الفرس والروم بالحجاز ولعبهم على العود والطنبور والبربط والمعزف والمزمار قاد العرب إلى اقتباس ألحان الفرس والروم في أشعارهم.
هذا القول لا يتفق مع أقوال المؤرخين الأول كابن عبد ربه والأصفهاني والمسعودي أولاً: لأن هذه الرواية تضلل الناس وتجعلهم يعزون بغير حق الفخر للفرس والبيزنطيين بإدخال هذه الآلات إلى البلاد العربية. وفي الواقع أنها كانت عند العرب من قبل. ثانياً: لم يذكر كتاب الأغاني وهو أعظم مصدر لأخبار الغناء عند العرب مغنياً رومياً واحداً. وإذا استثنينا نشيطاً فمن المرجح أن كل من يدعون بالمغنين الفرس ولدوا بالجزيرة أو تثقفوا فيها
والحقيقة أن المغنين البارزين الذي أتوا من غير الحجاز في هذا الزمن أربعة: نشيط الفارسي، وأبو كامل الغزيل الدمشقي، وابن الطنبورة اليمني. وحنين الخيري؛ ولهذا نرى
أن أي تأثير خارجي في الموسيقى العربية حتى بالطريقة العرضية التي ألمعنا إليها أتى على أيد عربية.
لم يقرر المؤرخين نهائياً ولا في موضع ما اقتبس العرب من الفرس والبيزنطيين في قضية النظرية. دعونا قبل كل شيء نحرر أذهاننا من الظن بأن العرب أقروا بأن الفرس كان لهم نظام موسيقى أرقى بكثير من نظامهم. ثم فيما يتعلق بالرسائل فان أقدم كتاب فارسي في الغناء مؤلف في القرن الثاني عشر الميلادي. ولكن عندنا رسائل في الموسيقى العربية يرجع تاريخها إلى القرن التاسع (الكندي توفي سنة 874م): ولدينا دليل على تآليف مصنفة في القرن الثامن (يونس الكاتب توفي سنة 760م والخليل بن أحمد توفي سنة 791).
وفي الحقيقة أن كل ما نعرفه عن الموسيقى الفارسية الأولى أتى من مصادر عربية، والمرجع الوحيد الذي يعالج هذه القضية بتوسع هو المسعودي (توفي سنة 956م) فهو يقول - مستشهداً بقول ابن خرداذبة (القرن التاسع) وهو كاتب متقدم - (اخترع الفرس النغم والتوقيعات والمقاطع والطرق الملوكية ولكي نقدر تماماً قيمة هذه الفقرة علينا أن نتذكر أن الغناء كان محرماً عند المسلمين وأن المؤرخين لم يكونوا مهتمين بالتماس عذر لمن يتجاوز مصدراً محلياً لشيء (منكر) كالغناء كما يطلق عليه المتشرعون من المسلمين.
ويجب ألا ننسى أن عصر الأمويين عصر ساد فيه الشعور القومي فعظمت فيه المثل الوثنية العربية وهذبت أكثر التأثيرات الأجنبية في الموسيقى العربية، وقد أشار إليها (لاند بقوله:(ما استورده العرب من الفرس والرومان لم يحل محل الموسيقى الوطنية بل طعم على جذر عربي وبقي له شكله الخاص).
ما أخذ العرب من الفرس لا يمكن التأكد منه بالضبط، وجل ما نعرفه أن الفائدة التي نشأت من الاحتكاك الفارسي هي من جهة الآلات الموسيقية. فمثلا كلمة (دستان فارسية استعملها العرب لمواضع الإصبع على لوحة رأس العود الخشبية أو الطنبور. ومن المؤكد أن العرب لم يأخذوا السلم الفارسي. لأننا نجد أنهم انتقدوا لاستعمالهم الأنغام الفارسية التي كانت متمثلة في سلم الطنبور الخراساني، فأدخل (زلزل) أحد المغنين في عصر العباسيين شكلاً جديداً من العود حل محل العود الفارسي وسمي هذا العود بعود (الشبوط
وهنالك أسباب تحملنا على الاعتقاد بأن العرب عدلوا دوزان (عودهم) على النمط الفارسي. فقد كان الدوزان العربي القديم كما يظهر - ولكن بدخول النمط الفارسي لحن على - ولعل هذا يوضح لنا الأسماء الفارسية (زير) و (بم) المرموز للوترين الأول والرابع بينما الوتر الثاني والثالث اللذان لم تصبغهما الفارسية ظلا محافظين على أسميهما العربيين وهما: المثنى والمثلث.
أما الخطة التي سار عليها البيزنطيون في قضية النظرية الموسيقية فليس لنا بها علم، فمنذ القرن الرابع حتى القرن الحادي عش الميلادي - وهو يشمل القسم الأكبر من عهد البيزنطيين - لم تصلنا مؤلفات بيزنطية. ومن المرجح أنه لم يكتب شيء بالنظر إلى الحالات الثقافية التي نعرفها، ومن المؤكد أن اللاتينيين (امدوا وو وفي القرنين الخامس والسادس، ولكنهم لم يدونوا نظرية معاصريهم، كلا ولا خبرة اللاتين لأن تأليفهم عبارة عن مجموعات للمشتغلين بالأمور النظرية من اليونان القدماء. أما الشيء القليل الذي نعرفه في هذه الحقبة عن نظرية البيزنطيين ومزاولتهم للموسيقى، فقد أتى إلينا من مصادر عربية وسريانية.
ليس لدينا رسائل بيزنطية أو فارسية تثبت وجود الموسيقى حتى القرنين الحادي عشر تقريباً. ولكن حق للعرب أن يفاخروا بعشرات من الرسائل القديمة. ويجب علينا قبل كل شيء أن نكون حذرين في قبول الروايات المختصة بما اقتبس العرب من الفرس والبيزنطيين. أما أن يتسرب شيء من التأثير من هذين المصدرين فمن الممكن تجويزه.
وأول خبر لدينا عن تأثير فارسي وبيزنطي محدود في الموسيقى العربية، هو ما ذكره الأغاني عند كلامه عن ابن مسجح الذي يعزى إليه إدخال الأنغام الموسيقية الأجنبية على الفن المحلي.
يقول صاحب الأغاني: (وفي سورية تعلم ابن مسجح الألحان الرومية وتلقى إرشادات الباربطية والأسطوخسية. وبعد ذلك انقلب إلى فارس فأخذ بها غناء كثيراً وتعلم الضرب ثم رجع إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النغم وحذف منها ما استقبحه من النبرات والنغم والتي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم خارجة من غناء العرب.
فما اقتبسه العرب فيما بعد من البيزنطيين والفرس لا يمكننا إثباته بالتحقيق، ومن المحتمل
أن النظاميين المعروفين (بالمجربين كانا من أصل بيزنطي أو لعلهما عرفا بين تعاليم الساميين أما الأصول العامة للأسطوخسية البيزنطيين فلم يأخذها العرب، وإذا كان هنالك شيء قليل لأن مخطوطة الكندي التي ألمعنا إليها قبلاً تقول إن مبادئ الأسطوخسية الرومية تختلف عن المبادئ العربية.
أما مسألة الإيقاع والقيم القياسية فنحن نعلم أن العرب كان لهم نظام منذ أوائل القرن السابع الميلادي فقد كتب الخليل ابن أحمد (كتاب الإيقاع) في القرن الثامن. ونجد في القرن التاسع نظاماً يصفه الكندي جيداً بقوله (وهنا لدينا قسم موحد من الموسيقى العربية نظامه - كما يظهر - تطور وفقاً لنظام محلي) وقد اقتبس الفرس توقيعاتهم وقوافيهم من العرب.
ولقد غير إسحاق الموصلي (767 - 850) شكل النظرية العربية القديمة في وقت ترجمت فيه النظريات اليونانية القديمة إلى العربية ولكن هذا التغيير حدث بدون الاستعانة بكتاب اليونان. يقول صاحب الأغاني: (كان إسحاق أول من ضبط الألحان والتوقيعات وقسمها بطريقة لم تعرف من قبل، وكان العالم المتقدم يونس الكاتب المتوفى سنة 760 قد أشار إليها. ويقال إن إسحاق توصل في عمله إلى نتائج أقليدس والأوائل الذين كتبوا عن علم الموسيقى، ولكنه توصل إلى هذه النتائج بتجاربه الخاصة المنفردة بدون معرفة كتاب واحد من كتب الأوائل) أما أن إسحاق لم يعرف شيئا عن المشتغلين بالنظريات من اليونان القدماء فمثبت في فقرة أخرى. وكان نظام إسحاق شائعاً في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الميلادي. وقد وضح هذه العبارة بجلاء تام صاحب الأغاني ويحيى بن علي الذي ميز هذا النظام من نظام اليونان.
فاستندنا إلى ما فصله الكندي وغيره من الكتاب كصاحب الأغاني في تعريفه النظام العربي القديم قبيل زمن الشراح اليونان كاف لأن يثبت لنا أن هذا النظام كان يختلف عن نظام فارس والروم واليونان.
أما في تاريخ الأنغام ففي استطاعتنا معرفة ما اقتبسه العرب من فارس وبيزنطة.
كان لدى الهنود - على رأي (راميانا - سبعة وهي أشبه بالرقص ويقول أمين (كان للفرس سبعة أنغام إلا أنها في أيام خسرو ابرويز (590 - 628) أصبحت أثنى عشر نغماً). ويسجل (بارهبروس السرياني) هذه الإثني عشر لحناً للفرس. ومع أن بعضا منها
قلده العرب على أصله أو بتحريف قليل فيما بعد، نتذكر أيضاً أن العرب استعملوا أنغامهم الوطنية زمناً طويلاً قبل هذا التقليد.
ففي القرن الثامن الميلادي ألف يونس الكاتب (توفي سنة 760م) والخليل بن أحمد (توفي 791م) كتاب النغم. ونقرأ في كتاب الأغاني (كتب في القرن العاشر) ثماني نغمات لم توضع لها أسماء خيالية كما هي في الفارسية واليونانية، وإنما هي أسماء بعد أصابع. وكان للسريان أيضا (آحادهم ومثلهم اليهود، ولكنها (أي الأنغام) لم تكن كالأنغام اليونانية، وهي حالة يجب أن ننعم النظر فيها. أما النغمات العربية والفارسية والبيزنطية في القرن التاسع فكانت مختلفة، كما ثبت في الرسالة المنسوبة للكندي التي أشرت إليها قبلاً. ويظهر جلياً أن للنظام الأساسي لكل من هذه الشعوب مزية هامة. يقول أخوان الصفا:(. . . إذا تأملت فلكل أمة من الناس ألحان ونغمات يستلذونها ويفرحون بها ولا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم مثل غناء الديلم والأتراك والعرب والأكراد والأرمن والزنج والفرس والروم وغيرهم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والعادات).
وقد نجد في تأثير النظام العربي القديم على أوربا الغربية ما يدعم قولي ويزيده إيضاحا. على أني وإن لم أهيئ العدة تماما للإعراب عن هذا التأثير. فإني أجتزئ باليسير من آراء كتاب غربيين عن هذا التأثير:
(مما لا ريب فيه أن أوربا الغربية شعرت على العموم بتيار الثقافة العربية من جراء الاحتكاك السياسي وأرى أن الموسيقى الأوربية تأثرت في هذه الناحية بتجوال المطرب العربي أو المغربي.
كان اكثر ما اقتبسه الغرب من الشرق في هذه الناحية هو الآلات، قال (كارانجل (لما أتى العرب أوربا في ابتداء القرن الثامن كانوا أكثر تقدماً من الشعوب الأوربية في الثقافة الموسيقية، أو على الأقل في تركيب الآلات الموسيقية. وهكذا لا يسعنا إلا تقدير تأثيرهم الموسيقي الرائع).
وهم كما يقول (فارمر أول من أتحفونا بوصف علمي حقيقي للآلات الموسيقية. . . (وما كان لدينا من نظم في تعليم الآلات في العصور الوسطى فمقتبس من العربية.) وتسلم الآنسة أن للعرب فضلاً على أوروبا في العصور الوسطى في مسألة الآلات الموسيقية
ولكنها تنكر أن أوروبا - أخذت أي نظرية منهم، وهذا القول يتجاهل تأثير نقطتي الاحتكاك الثقافي العربي وهما:
(1)
الاحتكاك السياسي الذي ابتداء في القرن الثامن وانتشر في الخارج خصوصاً على أيدي العازفين.
(2)
الاحتكاك الفكري الأدبي الذي ابتدأه العقليون
إذن يمكنني أن أستنتج - استناداً على ما أدليت من الحجج - أن العرب كان لهم نظام موسيقي قديم يختلف عن نظام الفرس والروم واليونان القدماء، وأن القائلين بنسبة هذا النظام الموسيقي العربي إلى فارس وغيرها، جديرون بالعدول عن أقوالهم أمام هذه البراهين.
بيروت
حسين سراج
من تراثنا الأدبي
إحياء مخطوطات
للأستاذ محمد كرد علي عضو مجمع اللغة العربية الملكي
وعدت أن أتكلم على الكتب التي نشرها العلامة كرينكو، ومنها هذه الثلاثة الكتب المهمة. أولها كتاب التيجان لوهب بن منبه والثاني أخبار عبيد بن شرية، والثالث كتاب الحماسة لابن الشجري. ويهمنا أن نعرف أولاً من هو وهب بن منبه. كان وهب من علماء التابعين، وهو من الأبناء أبناء فارس المبعوثين مع سيف ابن ذي يزن لقتال الحبشة في اليمن، فهو على الأرجح فارسي الأصل، وكتاب التيجان كما قال فيه ابن خلكان ترجمة بذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم. وهو رواية أبي محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس بن سنان عن جده لأمه وهب بن منبه. وتوفي وهب في صنعاء اليمن في سنة عشر وقيل أربع عشرة وقيل ست عشرة ومائة.
ذكر ابن سعد صاحب الطبقات الكبير في ترجمة وهب بن منبه أنه قال: لقد قرأت أثنين وتسعين كتاباً كلها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس، وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلا قليل، وجدت في كلها أنه من أضاف إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر. قال: وفي مقدمة كتاب التيجان: قرأت ثلاثة وسبعين كتاباً مما أنزل الله على الأنبياء، فوجدت فيها أن الكتب التي أنزلها الله على النبيين مائة كتاب وثلاثة وستون كتاباً: أنزل صحيفتين على آدم بكتابين: صحيفة في الجنة وصحيفة على جبل لبنان، وعلى شيث بن آدم خمسين صحيفة، وعلى أخنون وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى نوح صحيفتين، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وعلى موسى خمسين صحيفة وهي الألواح.
بدأ وهب كتابه بأحوال خلق العالم، ونسب ولد سام وحام ويافت، وملك حمير ووائل والسكسك ويعفر وعامر ذي رياس، والمعافر بن شداد وشداد بن عاد ولقمان بن عاد، والهمال بن عاد والحارث بن الهمال والصعب ذي القرنين، وأبرهة والعبد بن أبرهة وعمرو بن أبرهة، وشرحبيل والد وهب وملك بلقيس وملك رحبعم بن سليمان وغيرهم من المتوجين من ملوك غسان، وغيرهم من ملوك اليمن والتبابعة وقصة النار التي تعبدها حمير إلى آخر من ذكر من الملوك المتوجين.
وأهم ما في الكتاب هذا القسم التاريخي. ومن قرأ القصائد الواردة فيه بإمعان يستنتج منها مادة تاريخية، بيد أن كتاباً عرف مؤلفه بإكثاره لا يخلو من مسائل نعدها اليوم ترهات، وربما كانت في عصره وقطره حقائق مسلمة.
أما الكتاب الثاني، فقد نقل عن عبيد بن شرية من المعمرين من أهل اليمن أيضاً. كان وفد على معاوية بن أبي سفيان في الشام، فلما رآه معاوية آية في تاريخ اليمن وملوك العرب والعجم يروي أخبارهم مشفوعة بأشعار، أمر كتابه أن يدونوا ما يتحدث به عبيد بن شرية في كل مجلس سمر فيه مع معاوية، فعبيد هذا كان الراوية والمدونون كتاب معاوية.
وفي هذا الكتاب حديث هلاك عاد وثمود وجرهم وخروجهم من اليمن إلى الحرم، وناشر النعم بن عمرو بن يعفر بن عمر، وشمر يرعش بن افريقيس بن أبرهة بن الرائش، وتبع الأقرن وهو ذو القرنين، وملكي كرب بن أسعد ابن تبع الأكبر، وأسعد أبو كرب الأوسط. وتتخلل كل ذلك قصائد عليها مسحة السذاجة والبداوة، والغالب أنها أو بعضها من شعر الجاهلية القريب العهد بالإسلام، كان ينقل من الصدور ثم دون في السطور.
ذكر ابن النديم صاحب الفهرست أن معاوية لما أمر بتدوين ما يرويه في مجلسه عبيد بن شرية أمر أن ينسب إليه، وأن لعبيد عدة كتب. وكان معاوية يعجب بحفظ عبيد ويستزيده، وقال له مرة:(خليق يا عبيد أن يكون هكذا، فزادك الله علماً وفهماً، وزادنا بك رغبة وعليك حرصاً فأنا لا نحصي أياديك، فزادك الله فضلاً إلى فضل وهدى إلى هدى).
وفي تدوين معاوية روايات عبيد دليل بأن التدوين حدث منذ القرن الأول، فقد ذكروا أن زيد بن ثابت ألف كتاباً في علم الفرائض، وأن عبد الله بن عمر كان يكتب الحديث وألف كتاب في قضاء علي في عهد ابن عباس، وأن وائلة بن الأسقع من أهل الصفة المتوفى سنة ثلاث وقيل خمس وثمانين، كان يملي على الناس الأحاديث وهم يكتبونها بين يديه. وكل هذا يدل على أن القوم بدأ تدوينهم في عصر الصحابة، وإن لم يدونوا ما أفرد في التأليف إلا في القرن الثاني للهجرة.
أما عبيد بن شرية هذا فهو من الإخباريين، ولناشر كتابه الأستاذ كرينكو رأى فيه. كتب إلي يقول: (إنك تعتقد كما اعتقد قبلك ياقوت الحموي وابن خلكان أن عبيد بن شرية كان رجلاً أخبارياً بالحقيقة، وأنا أخالف رأيك، ورأى من سلف، وأعتقد أن روايته من
موضوعات محمد بن إسحاق مؤلف السيرة، ومن الدلائل على هذا أن أكثر المصنفين الذين تكلموا في هذا الكتاب لم يروه، بل نقلوا ما وجدوه في الكتب التي تداولوها، وكثرة الأشعار الركيكة التي لا معنى لها فيه تخالف أسلوب الشعر القديم كما نجدها في دواوين القدماء البدويين والحضريين مثل حسان بن ثابت وأقرانه. ولم يكن لي غير نسختين كلتاهما مكتوبة في صنعاء، وهما من أصل واحد بلا شك، إذ أغلاطهما واحدة، وما كان عندي يوم تصحيح كتاب التيجان سوى نسختين، نسخة مختصرة في خزانة برلين، والنسخ الثلاث الأخرى مكتوبة في اليمن. ولو أنعمت النظر في الكتابين كتاب التيجان ورواية عبيد تجد أن مؤلفهما كتبهما ليزيد مفاخر اليمن على النزارية، وليثبت أن مجد اليمن أقدم وأكبر مما كان مجد النزارية، وهذا تعصب من قريش، ولهذا لم تكن لهما سوق في سائر بلاد العرب؛ وتجد كثيراً من أساطير اليمانيين مختلطة بالآثار الصحيحة. وقد نقل الهمداني كثيراً من الروايات غير المحققة في كتاب الإكليل، ولا سيما في القبوريات؛ ثم جاء عبد الملك بن هشام مع تعصبه لليمانية فشوش الكتاب كما شوش السيرة، ولم ينبه عليه أحد؛ إلا أن المحدثين كلهم يضعفون أبا إسحاق ويسمونه أخبارياً لا محدثاً، وقد أبنت رأيي في ذلك في أطروحة باللغة الإنجليزية نشرتها قبل طبع التيجان في مجلة الثقافة الإسلامية
أما الكتاب الثالث، فهو كتاب الحماسة لهبة الله بن الشجري المتوفى سنة 542، فهو سفر صغير في نحو ثلاثمائة صفحة، أورد فيه أطايب من شعر الجاهليين والمخضرمين والمحدثين على مثال حماسة أبي تمام وحماسة البحتري. وابن الشجري معروف عند الأدباء بأمياله، وأماليه طبعت في مصر، وهي كأمالي المرتضى في اللغة والأدب والنحو والبيان، ولا تشبه أمالي القالي، وهي في شعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين.
وقد كسر ابن الشجري حماسته على أبواب وفصول، فساق في الأبواب أشعار الحماسة واللوم والعتاب والمرائي والمديح، والهجاء والأدب، والنسيب والحنين إلى الأوطان، والارتياح عند هبوب الرياح، والاشتياق عند لمعان البروق، والنزاع عند نوح الحمام، والشوق عند حنين الإبل، والطيف والخيال؛ وساق مقطعات من غزل جماعة من المحدثين وصفات النساء والتشبيهات؛ وأورد في الفصول (طيب النكهة وعذوبة الريق) و (طيب الريح) و (وصف العين والنظر) و (حسن الحديث وطيبه) و (المضاجعة وشدة الالتزام) و
(وصف النار) و (وصف التنائف، والوحش والإبل والركب، وأخبية السفر)، والصفات والتشبيهات في الليل، والنجوم والمجرة والهلال والصبح، والصفات والتشبيهات في الرياض والمياه والنبات، والصفات والتشبيهات في السحاب والبرق والغيث، وصفات آلة الحرب وتشبيهاتها، وصفات الكتب والخط وآلته، وصفات الشعر، وصفات الشيب والباب والخضاب، والتشبيهات الخمرية، والتشبيهات في الغناء وآلته والمغنين، والتشبيهات الغزلية، وتشبيهات المدح، وتشبيهات الهجاء، وتشبيهات وصفات في معان مختلفة. وختم الكتاب بباب الملح وبالأشعار المزيدة على الأصل. ودونك طريقته في الاستشهاد، وقد يحل بعض العويص والغريب من المفردات حلاً مختصراً مقبولاً، قال في صفات آلة الحرب وتشبيهاتها:
(قال امرؤ القيس يصف فرساً)
وقد اغتدى والطير في وكناتها
…
بمنجرد قيد الأويد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معاً
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
له ايطلا ظبي وساقا نعامة
…
وارخاء سرحان وتقريب تتفل
وقال البحتري:
أراجعتي يداك بأعوجي
…
كقدح النبع في الريش اللؤام
بأدهم كالظلام أغر يجلو
…
بغرته دياجير الظلام
ترى أحجاله يصعدن فيه
…
صعود البرق في جون الغمام
ترى أحجاله يصعدن فيه
…
صعود البرق في جون الغمام
وله وكان وصافاً للخيل
أما الجواد فقد بلونا يومه
…
وكفى بيوم مخبراً عن عام
جاري الجياد فطار عن أوهامها
…
سبقاً وكاد يطير عن أوهامه
جذلان تلطمه جوانب غرة
…
جاءت مجيء البدر عند تمامه
واسودّ ثم صفت لعيني ناظر
…
جنباته فأضاء في اظلامه
مالت جوانب عرفه وكأنها
…
عذبات أثل مال تحت حمامه
وكأن فارسه وراء قذاله
…
ردف فلست تراه من قدامه
لانت معاطفه فخيل أنه
…
للخيزران مناسب بعظامه
في شعلة كالشيب تم بمفرقي
…
غزل لها عن شيبه بغرامه
وكأن صهلته إذا استعلى بها
…
رعد تقعقع في ازدحام غمامه
مثل الغراب مشى يباري صحبه
…
بسواد صبغته وحسن قوامه
وله:
وأغر في الزمن البهيم مخجل
…
قد رحت منه عن أغر محجل
كالهيكل المبني إلا أنه
…
في الحسن كصورة في هيكل
ذنب كما سحب الرداء يذب عن
…
عرف وعرف كالقناع المسبل
جذلان ينقض عذرة في غرة
…
يقق تسيل حجولها في جندل
تتوهم الجوزاء في إرساغه
…
والبدر فوق جبينه المتهلهل
فكأنما نفضت عليه صبغها
…
صهباء للبردان أو قطربُّل
وتخاله كسى الحدود نواعماً
…
مهما تواصلها بلحظ تخجل
وتراه يسطع في الغبار لهيبه
…
لوناً وسراً كالحريق المشعل
هزج الصهيل كأن في نغماته
…
نبرات معبد في الثقيل الأول
ملك العيون وأن بدا أعطيته
…
نظر المحب إلى الحبيب المقبل
وأهدى البحتري إلى عبد الله بن خاقان فرساً وكتب إليه:
ماذا ترى في مدمج عبل الشوا
…
من نسل اعوج كالشهاب اللائح
يختال في شية يموج ضياؤها
…
موج القتير ٍعلى الكميّ الرامح
لو يكرع الظمآن فيها لم يمل
…
طرفاً إلى عذب الزلال السائح
أهديته ليروح أبيض واضح
…
منه على جذلان أبيض واضح
فيكون أول سنة متبوعة
…
أن يقبل الممدوح رفد المادح
وقال عبد الله بن المعتز:
وخيل طواها القود حتى كأنها
…
أنابيب سمر من قنا الخط ذّبل
صببنا عليها ظالمين سيوطنا
…
فطارت بها أيد سراع وأرجل
إلى آخر الفصل. . .
وروى فيها فصل صفات الكتب والخط وآلته
قال الكندي يصف الدفاتر:
خرس تحدث آخرً عن أول
…
بعجائب سلفت ولسن أوائلا
سقيت بأطراف اليراع بطونها
…
وظهورها طلا أحم ووابلا
تلقاك في حمر الثياب وسودها
…
فتخالهن عرائساً وثواكلا
وتريك ما قد فات من دهر مضى
…
حتى تراه بعين فكرك مائلا
وقال آخر:
نعم المحدث والنديم كتاب=تلهو به إن ملّك الأصحاب
لا مفشياً سراً إذا استودعته
…
ولديه ما تحيا به الألباب
وقال الهلبي يصف كتاباً:
وفضضته فوجدته
…
ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والجباه ال
…
بيض زينت بالشعور
وكنظم در كالثغو - ر وكالعقود على النحور
أنزلته مني بمن
…
زلة القلوب من الصدور
وقال أبو تمام يصف كتابا:
فضضت ختامه فتبلجت لي
…
غرائبه عن الزهر الجني
وضمن صدره ما لم تضمن
…
صدور الغانيات من الحليّ
ووقال آخر في وصف كتاب:
مداد مثل خافية الغراب
…
وأقلام كمرهفة الحرب
وقرطاس كرقراق السراب
…
وألفاظ كأيام الشباب. . . الخ
هذا ما نشره الأستاذ كرنيكو من كتب العرب وهو ينشر اليوم في القاهرة كتاب (المؤتلف والمختلف) للآمدى، و (رسالة ابن الجراح) وما بقى من معجم الشعر للمرزباني، وفي هذا الكتاب أخبار لا توجد في الكتب التي بأيدينا فضلاً عما حوى من الشعر القديم. وبعد هذا ألا نشكر لعلماء المشرقيات غيرتهم على نشر كتب العرب وإظهارها بمظهر التحقيق الدقيق يغبطون عليه.
القاهرة
محمد كرد علي
أثر الفن الإسلامي في فنون الغرب
للدكتور زكي محمد حسن الأمين العلمي لدار الآثار العربية
ورث الإسلام فنون رومة وبيزنطة وإيران وكلديا وأشور وتأثر المسلمون بالأساليب الفنية في البلاد التي خضعت لهم وانتشر فيها دينهم، فظهر في عالم الوجود فن بل فنون إسلامية أثرت بدورها في فنون الغرب، وتركت فيها ذكريات قل أن تخفى على من لهم دراية بتاريخ الفنون في العالم.
والواقع أن العالم المتمدن في القرون الأولى بعد الميلاد كان قد سئم الفن اليوناني القديم، وتاق إلى نوع التجديد ينقذه من منتجات هذا الفن التي أعوزها التنوع والابتكار، فتطلع إلى تقاليد فنية أعظم أبهة وأكثر حرية في الزخارف والموضوعات لا يعدل فيها من خيال ساحر وجاذبية ومفاجأة عظيمتين إلا ما تمتاز به من أسرار في مزج الألوان تملأ البصر وتبهج الخاطر. تلك الأساليب الفنية المنشودة وجدها العالم المتمدن عند الساسانيين أولا، ثم في الفنون الإسلامية بعد أن امتدت الإمبراطورية العربية واتسعت أرجاؤها. أما حلقتا الاتصال بين الشرق والغرب، والمعبران اللذان اتخذتهما الأساليب الإسلامية للوصول إلى أوربا، فهما الأندلس، والحروب الصليبية.
ففي الأندلس أينعت المدنية الإسلامية، وأدخل العرب صناعة الورق، وأصبحت قرطبة في القرن العاشر أكثر المدن في أوروبا ازدهاراً وأعظمها مدنية؛ وكان عصر ملوك الطوائف باعثاً على تعدد مراكز العلم والأدب والفن في شبه الجزيرة، وجاء ملوك المرابطين والموحدين فكان اضطهادهم للمستعربين من بني الأندلس سببا في هجرتهم إلى الشمال، فزاد بذلك محيط المدنية الإسلامية اتساعا، ونقل هؤلاء المستعربون إلى مهجرهم الجديد كثيرا من عادات المسلمين وأزيائهم وصناعاتهم، وما لبث نجم المسلمين في الأندلس أن أذن بالأفول، فتقدمت فتوحات المسيحيين، وأخذ نفوذ العرب في التقلص، ودخل كثير منهم تحت السلطان المسيحي، فصاروا يعملون للملوك والأمراء الأسبان، وتعلم منهم غيرهم، فانتشرت أساليبهم الفنية؛ وكان سقوط طليطلة سنة 1085، وقرطبة سنة 1236، وأشبيلية سنة 1248، أكبر عامل على امتزاج الصناع العرب أو المستعربين بغيرهم. ثم كان سقوط غرناطة سنة 1492 خاتمة هذا الطور الذي تعلم فيه صناع الغرب عن المسلمين كثيراً من
أسرار صناعاتهم في العمارة والفنون الفرعية؛ ولعل أهم مظهر لهذا الطور والطرز الأسباني الذي ينسب إلى المدجنين أو المسلمين الذين دخلوا خدمة المسيحيين بعد زوال دولة العرب؛ وقد نشأ هذا الطرز في طليطلة واشتغل الصناع (المدجنين) بزخرفة الكنائس ودور الخاصة في أنحاء أسبانيا، ونبغوا في الفنون الفرعية كصناعة الخزف والمنسوجات والنقش على الأخشاب، وكانت لهم في ميدان العمارة آثار تذكر، وأهمها قصر أشبيلية ' الذي بنوه سنة 1360 والذي ظل مقرا للأسرة الملكية حتى إعلان الجمهورية منذ سنوات فأصبح متحفاً يعجب الزائرون بعمارته العربية وبما جمعه ملوك أسبانيا من تحف جمهورية منذ سنوات فأصبح متحفا يعجب الزائرون بعمارته العربية وبما جمعه ملوك أسبانيا من تحف إسلامية نادرة.
أما الحروب الصليبية فلا يعنينا من نتائجها إلا أنها كانت كالأندلس وجزيرة صقلية وسيلة إلى نزاع دائم تتبعه علاقات متواصلة بين المسيحية والإسلام، وأوجدت هذه الحروب منفذاً لتجارة الجمهوريات الإيطالية الناشئة كجنوا والبندقية وبيزا، وكان من النتائج العملية لتأسيس المملكة اللاتينية في بيت المقدس نمو تجارة هذه الجمهوريات وإنشاء معاقل لها في الشرق الأدنى.
وإن صح القول بأن الأندلس وجزيرة صقلية لعبتا الدور الأكبر في نشر الثقافة الإسلامية في المغرب، وان فضل الحروب الصليبية في هذا الميدان لم يكن كبيراً نظراً لأنه لم يكن في الشام في عصر الحروب الصليبية مدينة تعادل مدينة الأندلس أو صقلية فضلا عن أن هذه الحروب لم تكن مرتعاً خصيباً للدرس والتحصيل وتبادل الثقافة، نقول إن صح ذلك في ميدان العلوم والآداب فإنا نعتقد أن الدور الذي لعبته الحروب الصليبية في نقل الصناعات والفنون الإسلامية إلى أوربا خطير لا يستهان به. ولعل استعمال الرنوك عند أمراء المسلمين في الحروب الصليبية كان أكبر عامل في تطور علم الرنوك والأشعرة عند الغربيين فأصبحت له اصطلاحاته الدقيقة وقواعده الثابتة؛ وكانت الحروب الصليبية أيضا وما تبعها من انتشار التجارة الغربية السبب فيما فعله البنادقة من صك نقود ذهبية للتعامل مع المسلمين وعليها كتابات عربية وآيات قرآنية فضلاً عن التاريخ الهجري، وظل هذا حتى احتج البابا أنسونت الرابع سنة 1249.
وليس خفياً أن العمارة كانت أجل الفنون عند العرب فبلغوا فيها شأواً بعيداً، وأخذوا من الأمم التي اختلطوا بها ما أخذوا، وابتدعوا أساليب جديدة غاية في الجودة والإبداع، ثم أخذت عنهم أوروبا كثيراً من هذه الأساليب. ولكن العلماء ليسوا على اتفاق في هذا الرأي، فبعضهم يرى أن العرب لم تكن لهم عمارة خاصة، وإن صح أن هناك أوجه شبه بين طرزهم المعمارية وبين الطرز الأوربية فإنما ذلك لأن مصدر هذه الطرز كلها واحد. ومهما يكن من شيء فإننا نفضل ألا نعرض للعمارة في هذا المقال مكتفين بالتحدث عن الفنون الفرعية أو المنقولة كما اصطلح بعضهم على تسميتها.
ولسنا نذهب إلى أن المسلمين وصلوا في هذه الفنون الفرعية إلى ما وصل إليه الغربيون. ولكنا لا نشك في أنهم تفوقوا في بعضها تفوقاً خاصاً وبلغوا في صناعة الزخارف مبلغاً يشهد بعبقرية نادرة وخيال واسع.
ولما كان تصوير المخلوقات مكروهاً في الإسلام، فقد أصبح عماد الزخارف الإسلامية الأشكال الهندسية والرسوم النباتية مضافاً إليها عامل جديد هو حروف الكتابة بالخط الكوفي أو بالخط النسخي أو بغيره من الخطوط، ونحن نعلم كيف اهتم المسلمون وخاصة الفرس بتحسين الخطوط وزخرفتها؛ وقد فطن إلى ذلك صناع الغرب، فأخذوا أحياناً يقلدون الكتابة العربية على مصنوعاتهم، ومن أمثلة ذلك صليب أيرلندي من البرونز المذهب يرجع عهده إلى القرن التاسع، وهو محفوظ الآن بالمتحف البريطاني وعليه بالخط الكوفي (بسم الله)، وفي المتحف البريطاني أيضا عملة ذهبية ضربها الملك حكم مرسية من سنة 757 إلى 796، وهذه العملة نقلها الملك المذكور عن دينار عربي ضرب سنة 774 فنقل فيما قلده التاريخ الهجري والعبارة العربية المكتوبة عليه، ولا نشك أنه في الحالتين لم يفقه العمال الغربيون معنى الكتابة العربية، فنقلوها كزخارف فحسب، وقلدهم في ذلك كثيرون من بعدهم.
وقد كان للخزف الإسلامي أثر كبير في تطور صناعة الخزف في أوربا، وقد كان الغربيون ينسبون اللونين الأزرق والأبيض الصيني في هذه الصناعة إلى بلاد الشرق الأقصى، ولكن الحقيقة أن الصينيين كانوا يسمون هذا اللون الأزرق بالأزرق الإسلامي، لأنهم أخذوه عن إيران الإسلامية في القرن الخامس عشر.
ومن المعروف أن صناعة الخزف ذي البريق الذهبي قد ارتقت في أسبانيا رقياً عظيماً، فكانت مصانعها تشتغل لحساب كثير من البابوات والكرادلة والأسرات النبيلة في أسبانيا والبرتغال وإيطاليا وفرنسا، ويرون أن الكردينال اكسيمينز قال عن هؤلاء الصناع (الكفرة):(ينقصهم إيماننا وتنقصنا صناعاتهم).
وقد ظلت صناعة الخزف الأسباني العربي - في الأندلس حتى القرن السادس عشر، وتعلمها الإيطاليون في القرن الخامس عشر، فتأثروا في الصناعة والزخارف والأشكال بما كانوا يستوردونه من أسبانيا، وأصبح أنموذجاً للصناع في وو وأطلق على هذه المصنوعات اسم مايولكا نسبة إلى جزيرة مايوركا من جزائر البليار الأسبانية
هذا وقد وصل إلى الفنون الغربية من إيران وتركيا رسوم بعض الزهور التي لم تكن معروفة فيها حينئذ إلا بفضل رسومها على الخزف الإسلامي الوارد من الشرق الأدنى منذ القرن الرابع عشر.
ولم يكن أثر صناعة المعادن الإسلامية في أوروبا بأقل من أثر صناعة الخزف؛ ولن يستغرب ذلك من يعرف ما وصلت إليه هذه الصناعة من التقدم في عصر الفاطميين والمماليك ومن قرأ ما دونه القريزي عن كنوز المستنصر بالله.
ومما أخذ الأوربيون عن الشرق الإسلامي الاسطرلاب، وهو آلة فلكية لقياس بعد الكواكب. اخترعها الإغريق وحسنها بطليموس الجغرافي ثم علماء الفلك من المسلمين، حتى أخذها عنهم علماء الغرب في القرن العاشر. وفي المتحف البريطاني أقدم إسطرلاب عليه تاريخ صنعه أحمد ومحمود ابنا إبراهيم الإسطرلابي الأصفهاني سنة 1260 - وقد ظل البحارة يستخدمون الإسطرلاب في مراقبة الجو وشؤون الملاحة، حتى خلفته اختراعات أخرى في القرن السابع عشر.
وقد كان للأوربيين في القرون الوسطى نوع من أواني المياه كانوا يستعملونه في غسل أيديهم قبل الأكل وبعده، وأطلقوا عليه اسم ولا ريب أن صناعته متأثرة بما كان عند المسلمين من أوان مماثلة على شكل طيور أو حيوانات من البرونز والنحاس، ولعل أحسن مثل مكبر لتلك الأواني - وإن كان عظم حجمه يفرقه عنها - هو ذلك العقاب النحاسي الكبير المحفوظ الآن بالكامبو سانتو بمدينة بيزا في إيطاليا، والذي يظن أنه من عصر
الفاطميين بدليل ما عليه من نقوش كوفية وزخارف هندسية، وصور حيوانات، وليس معروفاً من الذي نقله إلى إيطاليا، ولا في أي المناسبات كان ذلك.
وقد صنع المسلمون الثريات والأواني والصناديق والكراسي والتنانير والمباخر من النحاس المكفت بالفضة والمذهب، وكثر الإقبال على هذه التحف في أوروبا، وخاصة بعد أن عظمت تجارة الجمهوريات الإيطالية في الشرق منذ الحروب الصليبية، وبلغت أوج عزها في القرن الخامس عشر.
والواقع أن اضمحلال هذه الصناعة بدأ في الشرق منذ القرن الخامس عشر بعد ظهور المغول وغارة تيمورلنك على دمشق سنة 1401، ولكن المدن الإيطالية وخاصة البندقية ورثتها عن الشرق؛ وظهرت في المدينة الأخيرة مدرسة من رجال الفن عملت على التوفيق بين ذوق الغربيين في عصر النهضة، وبين الصناعة والزخارف الإسلامية. ومن المعروف أن صناعاً من الشرق اشتغلوا بصناعات أجدادهم في البندقية وجنوه وبيزا وفلورنسا. وفي المتاحف والمجموعات الأثرية أمثلة كثيرة من التحف الفنية النفيسة المصنوعة في إيطاليا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والتي تشهد بحسن الذوق وجمال الزخرف ودقة الصناعة. هذا ولا يفوتنا الإشارة إلى ما في اللغة الإيطالية وغيرها من اللغات الأوربية من الألفاظ الاصطلاحية المنسوبة إلى المدن الإسلامية في صناعة المعادن كدمشق وبلاد العجم. وكان لصناعة الزجاج المموه بالمينا شأن كبير عند المسلمين كما يتجلى من مجموعة المشكاوات النفيسة المحفوظة بدار الآثار العربية بالقاهرة، والتي يرجع عهدها إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
وقد تقدمت صناعة الزجاج في البندقية منذ القرن الثالث عشر تقدماً كبيراً، وبدأ البنادقة منذ القرن الخامس عشر يقلدون صناعة الزجاج عند المسلمين، فما لبثوا أن برعوا مثلهم في تمويه الزجاج بالمينا، وانتشرت هذه الصناعة من البندقية إلى غيرها من المدن الأوربية، وظهرت زخارف وطرز جديدة دون أن تزول القرابة بينها وبين النماذج الإسلامية الأولى.
أما أساليب المسلمين في نقش الخشب وزخرفته وتطعيمه، فقد ظهر تأثيرها في فنون البلاد الأوربية التي كان لها بالعرب اتصال مباشر كالأندلس وجنوب فرنسا وصقلية، ولكن هذا التأثير لم يكن كبيراً، لأن هذه البلاد لم تكن أحوالها الجوية تستدعي ما اضطر إليه
المسلمون من استعمال طريقة المربعات بله أن رسم الخطوط والزخارف الهندسية لم يكن ليلعب فيها الدور الكبير الذي لعبه في بلاد الإسلام.
وكذلك قلد البنادقة صناعة التجليد الإسلامية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ونقلوا بعض أساليبها، ونقلها عنهم غيرهم من صناع الغرب، فلا عجب إن وجدنا حتى الآن في صناعات التجليد الأوربية المختلفة كثيراً من تفاصيل الصناعة الإسلامية وزخارفها. ومعروف أيضاً أن بعض المجلدين المسلمين نزحوا إلى البندقية وعلموا البنادقة اختراعات المسلمين في هذا الميدان. ولا يزال (اللسان) المعروف في صناعة التجليد العربية موجوداً في تجليد بعض الكتب الأوربية، ولا سيما المحاسبين وأصحاب المصارف. ومما أشتهر به المسلمون في الأندلس وصقلية صناعة الصناديق من العاج، وفي المتاحف أمثلة عديدة منها، وبينها وبين أمثالها من صناعة أوربا في القرون الوسطى قرابة تنبئ عن تأثير الصناعة الإسلامية.
بقي أن نتحدث قليلاً عن المنسوجات في البلاد الإسلامية وعن أثرها الكبير في صناعات النسيج الأوربية ولسنا نجهل أن صناعة النسيج كانت زاهرة في فارس ومصر وسورية قبل الفتوح العربية، ولكن تعضيد الخلفاء والأمراء، وتولي الحكومة إدارة المصانع، وعادة الخلع التي كان يمنحها الملوك وأولوا الأمر، كل هذا جعل الصناعة تخطو في سبيل الكمال خطوات واسعة، وكثر الإقبال على المنسوجات الإسلامية وتهافت على شرائها التجار فعمت شهرتها أوربا في العصور الوسطى، وأصبحت أكثر أنواع المنسوجات في ذلك العهد تحمل أسماء شرقية أو تنسب إلى مدن إسلامية. ولما رأى التجار ذلك هب كثير منهم لإنشاء المصانع في أنحاء أوروبا المختلفة لمنافسة مصانع الشرق الأدنى والأندلس، وكان العرب قد أقاموا في صقلية مصانع شهيرة للنسج ظلت عامرة بعد أن تقوض سلطان المسلمين في الجزيرة، فتعلم الإيطاليون في هذه المصانع أسرار النسيج الإسلامي ودقائقه ونقلوه إلى بلدان إيطاليا المختلفة، وحفلت المنسوجات الحريرية الإيطالية في القرن الرابع عشر بالزخارف الشرقية حتى الكتابات العربية منها.
وبدأ النساجون الأتراك والإيطاليون منذ القرن السادس عشر ينافس كل منهما الآخر ويقلده، حتى لقد يصعب أحيانا التفرقة بين مصنوعاتهم؛ وظهرت في الأسواق بعد ذلك أحزمة من
القماش من صناعة أوروبا على الطراز الشرقي وأطلق عليها اسم الأحزمة البولونية نسبة إلى بولندة حيث كثرت صناعتها.
وكان السجاد أيضاً مما أخذه الأوربيون عن الشرق منذ القرن الرابع عشر، فتعلم الصناع الغربيون صناعته من المسلمين واحتفظوا مدة طويلة بالأساليب العربية في زخارفه.
وأما أثر المسلمين في النقش والتصوير الأوربي فيكاد لا يستحق الذكر، وما نقله الغرب في هذا الميدان من أساليب في تصوير الحيوان ليس إسلامياً في جوهره؛ وإنما يرجع إلى الفنون القديمة في الشرق الأدنى؛ وليست لدينا أمثلة لمصورين مسلمين اشتغلوا في أوربا في القرون الوسطى، اللهم إلا أولئك الذين عملوا في بلاط روجر الثاني ملك صقلية في أوائل القرن الثاني عشر لنقش بيعة في بالرمو تعرف باسم الكابلا بلاتينا.
هذا وقد أثرت الزخارف الإسلامية على الزخارف في شمال أوربا؛ ولا عجب فقد كان هناك اتصال بين أمم الشمال وبين الشرق الإسلامي، وكان كلاهما يناهض أمم أوربا الوسطى والجنوبية، بيد أن هذه الشعوب الجرمانية الشمالية لم تكن فقدت تماما ذكرى تجوالها في آسيا قبل أن تغزوا أوربا ويسير بعضها حتى يصل إلى شمال أفريقيا.
ولا يسعنا أن نختم هذا المقال قبل الإشارة إلى الأثر التركي الذي نراه في كثير من زخارف أمم البلقان وسكان جزائر بحر الأرخبيل، فقد كان استيلاء تركيا على هذه الأقاليم وحكمها إياها قروناً من الزمان أكبر عامل على طبع فنونها والحياة الاجتماعية فيها بطابع شرقي لم يزل كله بعد.
زكي محمد حسن
العلامة المستشرق كراتشكوفسكي
للأستاذ محمود تيمور
في عصر يوم من الأيام نحو عشرة أعوام ذهبت لزيارة المرحوم. والدي - كما كنت أفعل دائماً - بمنزله الخاص بالزمالك حيث كان يسكن وحيداً بين كتبه معتزلاً العالم. دخلت عليه في حجرة عمله فوجدته أمام مكتبه بين أكوام من الكتب والدفاتر - شأنه دائماً - يطالع ويقيد. فلما أحس بوجودي رفع رأسه وأزاح نظارته (الخاصة بالقراءة) ودعاني إلى الجلوس. ووقع نظري على صورة لقبر إسلامي كانت ضمن الأوراق العديدة التي يزدحم بها مكتبة. فسألته، فابتسم وقال: هذه صورة قبر الشيخ طنطاوي المدفون في روسيا. وعجبت لأمر هذا الطنطاوي الذي اختار بلاد الروس مدفناً له. فاستوضحته الأمر. فأخذ يحدثني عن هذا العالم المصري الذي نزح إلى روسيا في العصر الماضي ليدرس اللغة العربية وآدابها في جامعة بطرسبرج - كما كان اسمها في ذلك العهد - وكيف أقام فيها حتى وافاه الأجل فدفن بها. ثم كيف قام اليوم من بين الأساتذة المستشرقين من يعنى بهذا العالم المصري فيحقق أمره ويؤلف رسالة عنه تخليداً لذكراه.
واستهواني هذا الحديث، وجعلت أنظر إلى الصورة وأنا معجب فخور بهذا الأستاذ المستشرق الذي انبرى لعالم من علمائنا المنسيين ينشر حياته على الملأ ويشيد بذكراه. فينشر معه صفحة من صفحات تاريخنا المغمور ويشيد بذكرى بلادنا بين أصدقائنا البعيدين. ورفعت رأسي ونظرت إلى والدي مستفهماً. فقرأ في عيني ما يجول بخاطري وقال:
- إن صاحب هذا البحث هو الأستاذ كراتشكوفسكي الروسي
في هذه اللحظة أحببت الأستاذ كراتشكوفسكي وشعرت في صميم قلبي بأنه ليس غريباً عني. وشاهدت صورته فيما بعد فراعني منها مسحة الوقار المنطبعة على محياه، وذلك الإشعاع العجيب الذي يشع من عينيه - إشعاع الطيبة والإخلاص. واتصلت بالأستاذ عن طريق المراسلة، فعرفت فيه رجلاً ذا خلق متين وعزيمة صادقة وأدب جم، فقد وهب حياته منذ نحو ثلاثين عاماً لخدمة اللغة العربية وآدابها. فلم يهن ولم يتراجع بل ثابر وثابر حتى امتلك ناصيتها وتبحر فيها، فأصبح علماً راسخاً من أعلامها؛ وقوة من قواها العتيدة.
وإني لا أنسى أول خطاب جاءني من الأستاذ، فقد وقفت أمامه حائرا مبهوتاً: خط عربي جميل ونظيف يماثل في وضوحه وتنسيقه خطوط الآلة الكاتبة. تسوده روح لطيفة من سلامة الذوق في التعبير والبساطة والهدوء. كل ذلك في سلاسة عجيبة وصفاء غريب. وغمرني شعور لطيف فيه شيء من الزهو لوجود مثل هذا الصديق الكبير لنا - معشر العرب - في بلاد نائية قد وقف حياته على خدمة آدابنا وإعلاء كلمتنا.
وازداد اتصالي بالأستاذ فتوالت الرسائل بيني وبينه. وأهدى إلى كثيراً من مؤلفاته بالروسية، ومضت الأعوام ومعرفتي بالأستاذ تزداد اتساعاً. وكلما عرفت عنه شيئاً جديداً قويت محبتي له وعظم تقديري إياه.
بدأ الأستاذ دراسته للعربية وبعض اللغات السامية الأخرى كالحبشية والعبرية في جامعة بطرسبرج عام 1908. ثم رحل إلى الشرق فزار مصر وسورية، وأقام فيهما أكثر من عام انكب أثناءه على دراسة الأدب العربي القديم والحديث. واهتم بالشعر وعلم البيان بنوع خاص. وما إن عاد إلى روسيا حتى أخذ ينشر مقالات عن الأدب العربي. وظهر له بحث مستفيض عن القصة التاريخية في الأدب الحديث وهو بحث نقدي تحليلي عن روايات جورجي زيدان ويعقوب صروف وفرح أنطوان وجميل مدور. (صاحب كتاب حضارة الإسلام في دار السلام) وتوالت بعد ذلك أبحاثه القيمة. ومن أعماله المشهورة إصداره ديوان أبي الفرج الوأواء الدمشقي باللغة العربية مع ترجمة روسية ومقدمة مسهبة عن الشعر في العصر العباسي تعد من أنفس ما كتبه العلماء في ذلك الموضوع؛ كذلك يجب ألا ننسى بحثه التاريخي عن حياة الشيخ طنطاوي، وهو بحث فذ مبتكر حقق فيه بطريقته العلمية المعروفة كثيراً من النقاط الغامضة التي تكتنف حياة هذا العالم المصري (المنسي). ومن أعماله الهامة إصداره كتاب البديع لابن المعتز باللغة العربية مع مقدمة للكتاب بالإنجليزية، وهذا الكتاب يعد من أنفس الكتب التي عالجت علم البديع في الأدب القديم. هذا خلاف رسائله الأخرى التي والى ويوالي إصدارها، وآخر ما صدر له ترجمة بالروسية لكتاب الأيام للدكتور طه حسين، مع مقدمة عن مؤلفات وتعليقات عن الكتاب.
أكتب هذه الكلمة الصغيرة بمناسبة الاحتفال بتكريم الأستاذ في روسيا أحييه فيها أصدق تحية، معبراً له عما يكنه العالم العربي عامة والأمة المصرية خاصة من عواطف الولاء
والشكر له. فان رجلاً قصر حياته على نشر ثقافتنا العربية في العالم الغربي، وأوسع لنا الطريق لنتبوأ مكاننا بين آداب الأمم العالمية لجدير بأن يحتل في قلوبنا أكبر مكانة.
محمود تيمور
على هامش السيرة
نزيل حمص
للدكتور طه حسين
قال عمير بن عبد الله السلمي لمحمد بن نصر الكلابي: إن الله فيما يأتي من الأمر لحكمة بالغة يفهمها الناس حيناص ويقصرون عن فهمها في كثير من الأحيان. وإن الرجل الرشيد خليق أن يتعظ بما يفهم، وألا يلح في تأويل ما لم يفهم، وأن يطمئن قلبه إلى أن حكمة الله بالغة، وإلى أن قضاءه منته إلى الخير دائماً.
قال محمد بن نصر لصاحبه: هو ذاك، وما أظن أن أحداً منا ينكر ذلك أو يماري فيه فما تحدثك به؟ وما هذا التفكير العميق الذي أرى آثاره بادية في وجهك؟ وكانا هذان الرجلان من فتيان قيس، شديدي البأس، قد ملأ قلبهما إيمان قوي بالله، وحفاظ قوي للعرب، واعتزاز قوي بالنفس، وحب قوي للجهاد. وكانا قد مضيا مع الصائفة غازيين حتى بلغا ثغراً من ثغور الروم، فأمعنا في الغزو ولقيا فيه من الجهد والشدة، واحتملا فيه من المشقة والبلاء شيئاً عظيما، لم يزدهما إلا إيماناً على إيمان، وحفاظاً إلى حفاظ، وحباً للجهاد إلى حبهم القديم للجهاد، وكان الله عز وجل قد قضى لهما أن يعودا من هذه الغزوة موفورين، فلما بلغا مأمنهما مع الجيش في بلاد المسلمين نذرا لئن مد الله في حياتهما حتى ينقضي الشتاء، وتستأنف الصائفة من قبل غارتها على بلاد الروم ليكونن لهما في هذه الغارة بلاء، وليضعن كل واحد منهما نفسه في مقدمة الجيش المغير، وكانا قد أزمعا من أجل ذلك ألا يبعدا في الرجوع إلى موطنهما، وأن ينفقا فصل الشتاء في مدينة من مدن المسلمين هذه المنبثة في الشام، والتي ترابط فيها الجنود، قد قسمت بينها تقسيماً، ووزعت عليها توزيعاً، ولم يكونا من أصحاب الديوان في جند من أجناد الشام، وإنما كانا رجلين قد باعا أنفسهما من الله وتطوعا في الجهاد، وأقبلا يبتغيان المثوبة، فلحقا بالصائفة فيمن يلحق بها من المتطوعين؛ ولم يصرفهما عن حمص أنها لم تكن للمضرية داراً، وما يريدان إلى المضرية أو إلى اليمنية، وهما إنما يمران بهذه المدينة مروراً ينتظران أن ينقضي فصل من فصول العام ويقبل فصل آخر ليستأنفا نشاطهما وليقبلا على ما يبتغيان من ثواب الله مجاهدين؟
فلما استقر بهما المقام في حمص أياماً وأسابيع أخذا يدوران فيها ويتعرفان بعض أمرها،
ويسمعان إلى ما كان يجري على ألسنة أهلها من بعض الحديث. وقلما كان أحدهما يخرج منفرداً، إنما كانا أكثر أوقاتهما متلازمين كأن ما دفعها إلى الهجرة من أوطانهما قد جمع بين نفسيهما في الجهد والبأس، كما جمع بين نفسيهما في الرخاء واللين. فقلما كانا يفتقران أثناء الغارة على اختلاف الظرف وتباين الخطوب التي كانت تعرض للجيشين وتلم بالمغيرين. وهما الآن لا يفترقان أو لا يكادان يفتقران، وقد أظلهما الأمن وضمنتهما سلم لا يخافان معها شدة ولا بأساً ولا فراقاً. ولكنهما في هذا اليوم لم يكادا ينفتلان من صلاة الغداة حتى فرقت بينهما حركة الناس وازدحامهم مسرعين كأن هناك أمراً ذا بال يروعهم ويدعوهم إلى الازدحام ويدفعهم إلى أن يشهدوا مشهداً يجب أن يشهده الناس. وقد دفع محمد بن نصر مع المزدحمين وأسرع مع المسرعين، لم يكن له في ذلك رأي أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن حمد ما أدركه من ذلك، فمضى مع الماضين مختاراً لا كارهاً، وحرص على أن ينتهي إلى حيث كانوا يريدون أن ينتهوا. وقد سمع في أثناء ذلك ما سمع، ورأى ما رأى، وامتلأ قلبه بالعظات والعبر، وشغل عقله بالتفكير المتصل العميق، حتى إذا تفرق الناس وكلهم يملأ نفسه العجب عاد إلى صاحبه يحدثه بما سمع ويحدثه بما رأى، ويبدأ حديثه بهذا الكلام الذي أوجزته لك آنفاً فلما سأله صاحبه عما به قال: لقد شهدت اليوم أمرا عظيما: شهدت جنازة رجلا ملأ قلوب الناس حبا وبغضا، ورضى وسخطا، وأثار في نفوسهم كثيرا من الحفيظة، بل حفيظة لا تنتهي، وأثار في نفوس الناس كذلك إعجاباً وإكباراً، وأطلق ألسنة الناس بالذم الشنيع، وأطلق ألسنة الناس بالثناء الكثير، ورسم على وجوه الناس آثار الموجدة المنكرة، ورسم على وجوه الناس كذلك آثار الاعتراف بالجميل، ورسم على وجوههم بين ذلك ابتسامات فيها سخرية وازدراء، وفيها عطف وإشفاق؛ ثم رأيت الناس يعودون من تشييعه إلى قبره، وإن الحيرة لتملأ قلوبهم، وإن الشك ليضطرب في نفوس كثير منهم، وإنهم على هذت كله ليقولون فيما بينهم مثل ما كنت أقوله لك منذ حين، وانهم على هذا كله ليظهرون الثقة بحكمة الله البالغة والاطمئنان إلى عفوه الذي ينال به من يشاء.
قال عمير بن عبد الله: ما رأيت كاليوم رجلا يؤثر التلميح على التصريح، ويقصد إلى الغموض دون الوضوح، فحدثني بحديثك لا أبا لك ولا تطل، فما تعودت منك إطالة ولا
إملالاً. قال محمد بن نصر: فالله يعلم ما آثرت تلميحاً، ولا اجتنبت تصريحاً، ولا قصدت إلى غموض، ولا تنكبت وضوحاً، وإنما أصور لك نفسي كما أجدها، وما أدري كيف أتحدث إليك بهذا الحديث، وما أعرف من أين آخذه. آخذه من مبتدئه أم آخذه من منتهاه، أم آخذه مما بين ذلك، فإن كل موضوع منه تملؤه العبرة والعظة، وتظهر فيه هذه الروعة التي تتأثر لها القلوب، وتفكر فيها العقول. إنه رجل لم يعرف الناس من أول أمره إلا أنه كان عبد حبشياً لسيد من سادات قريش في مكة، هو جبير بن مطعم، وكانوا يرونه فتى شديد البأس عظيم الأيد شجاعاً جريئاً، يعمل لسيده فيما يعمل فيه الرقيق، ولو أن الرق لم يعرض له لكان خليقاً أن يسود في بلده وبين قومه هؤلاء السود. ولكن الرق عرض له كما عرض لكثير من أشراف الروم والفرس فألقاه إلى هذا الحي من قريش، وفرض عليه ما يفرض على الأرقاء، من الخنوع، والخضوع، ومن الذلة والهوان، ومن العمل فيما لا يعمل فيه أصحاب النجدة والمروءة من الناس. وكان هذا الفتى ضيقا بحياته أشد الضيق، منكراً لها أعظم الإنكار، جامحاً حين يتاح له الجموح، شامساً حين يتهيأ له الشموس، لا يخفي بغضه للرق وطمعه في الحرية مهما يكلفه ذلك من غضب سادته وزجرهم، ومن إعناتهم له وإلحاحهم عليه بالإعنات. وكانت قريش قد لقيت من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جهدا شديداً يوم بدر، وفقدت جماعة من سادتها وأشرافها، وذاقت الهزيمة المنكرة، وذاقت فقد الأحياء، وذاقت هذا الذل الذي يكره العرب أن يذوقوه، ذل الموتور الذي لم يدرك وتره؛ وكانت قريش تتجهز لإدراك الوتر والأخذ بالثأر، وشفاء حزازات النفوس، وإرضاء قتلاها من أهل الحفير؛ وكان جبير بن مطعم قد فقد عمه طعيم بن عدي يوم بدر، وكان حريصا على أن يثأر به وينتقم له من قاتله. ولم يكن قاتله إلا حمزة ابن عبد المطلب عم النبي، وأسد الله، وشجاع قريش، وحامل لواء المسلمين لأول ما عقد اللواء. قال عمير بن عبد الله: فإنك إنما تتحدث عن وحشي، فما خطبه وما الصلة بينه وبين هذا الرجل الذي شهدت جنازته اليوم؟ قال محمد بن نصر: فان هذا الرجل الذي شهدت جنازته منذ اليوم هو وحشي نفسه. قال عمير: ليتني عرفت مكانه من هذه المدينة حين أقبلت إليها إذن لسعيت إليه، ولسمعت منه، ولسألته عن بلائه ذلك المنكر. قال محمد بن نصر: وكذلك قلت لنفسي أنا منذ حين، ولكني رأيت من رآه، وسمعت ممن سمع منه، ولقد رأى من رآه رجلا
كان خليقاً أن يرى، وأن الذين سمعوا ليتحدثون من أمره بالأعاجيب. قال له سيده حين أجمعت قريش أمرها: إني أرى شوقاً إلى الحرية وكلفك بها، وإسرافك في الجموح، وامتناعك عما لا ينبغي لمثلك أن يمتنع عنه من الطاعة والإذعان لمواليه، وإني أعرض عليك هذه الحرية التي تهواها، فان شئت فأد ثمنها، وما أظنك تفعل. قال العبد: فقد شئت أن أؤدي إليك ثمن هذه الحرية لو أني أستطيع أن أبلغه في جو السماء أو أقصى الأرض. قال جبير: فإنه أدنى إليك من ذلك، إنه في يثرب، فاذهب مع قريش في حربها هذه التي تتجهز لها، ثم عد إلي بمقتل حمزة وأنت بعد ذلك طليق.
قال العبد: أما إني ذاهب مع قريش فعائد إليك بمقتل صاحبك أو لاق من دون ذلك الموت فهو أهون على وآثر عندي من حياة الرقيق.
ولقد سمع الناس منه حديثه عن ذلك البلاء المنكر الذي أبلاه يوم أحد، وما أرى أنك تعرف كما أعرفه، فقد أخذ يرقب حمزة، وهو يقوم من المسلمين مقام الأسد يذود عن أشباله، يهز الجيش بسيفه هزاً، والناس يرونه من بعيد كأنه الجمل الأورق، فتمتلئ قلوبهم لمنظره رعباً، وينصرفون عن موقفه انصرافاً، وهو يتحداهم ويدعو فرسانهم ومغاويرهم. والعبد قائم قد استتر عنه بشجرة ينظر إليه ويرتقب غفلته، وحمزة لا يراه ولا يحس بمكانه. فلما أمكنته الفرصة هز حربته حتى رضي عنها، ولم يكن له بغير الحربة من السلاح علم، فلما تهيأت له الرمية رمي، وإذا الحربة تصيب حمزة في مقتل فيخر صريعاً، والعبد قائم مكانه لا يريم، يرقب أسد الله صريعاً بعد أن كان يرقبه جائلاً في الميدان؛ فلما استوثق من أن صريعه قد قضي عليه أقبل يسعى إليه، فانتزع حربته ثم عاد إلى المعسكر فأقام فيه. لم يصنع قبل مقتل حمزة شيئاً، وما يعنيه هذه الحرب بين قريش والأنصار، وإنما أقبل يشتري حريته بمقتل هذا الرجل العظيم، وقد ظفربما أراد، فانتظر قفول قريش إلى مكة، ولم يشهد ما كان تمثيل هند وصاحباتها بعم النبي، ولم يشهد ما كان من حزن النبي حين رأى عمه في منظر لم ير صلى الله عليه وسلم قط منظرا أوجع له وأثقل عليه منه. ولم يسمع العبد نذير النبي حين أقسم لأن أظفره الله على قريش ليمثلن منهم بسبعين مثله لم تعرفها العرب قط، ولم يعلم العبد أن النبي قد رد عن ذلك رداً، وأن الله قد أنزل في ذلك قرآنا، وإن النبي قد تلا قول الله عز وجل (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن
صبرتم لهو خير للصابرين. واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون. إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
ولم يعلم العبد أن النبي فد اضطر إلى أن يكفر عن يمينه، ثم لم يعلم العبد أن النبي قد عاد إلى المدينة محزوناً أسفاً، فلما سمع نساء بني الأشهل يبكين قتلاهن قال: ولكن حمزة لا بواكي له! وسمع ذلك منه الأنصار، فأرسلوا نساءهم يبكين حمزة عند بيت النبي، وخرج نساء النبي فبكين معهن حتى ردهن النبي داعياً لهن، ثم أصبح فنهى عن البكاء.
لم يعلم العبد من هذا شيئاً، وماذا يعنيه من هذا، إنما كان يريد حريته وقد بلغها، وماذا صنع البائس بحريته؟ لم يعد إلى بلده، وكيف سبيل العودة إليها؟ ولم يسد في مكة، وكيف إلى السيادة فيها؟ إنما عاش بين قريش حراً كالعبد، وطليقا كالأسير. نعم لم يعد العبد بشيء من هذا، ولكنه علم ذات يوم أن جيوش المسلمين مقبلة على مكة، ورأى ذات صباح جيوش المسلمين تدخل مكة، واستيقن العبد أنه مقتول إن ظفر به المسلمون، ففر وانطلق في الأرض يلتمس لنفسه مأمناً فلا يجده. هؤلاء المسلمون ينتصرون على العرب يوم حنين، وهذه أرض العرب كلها تذعن للنبي، فأين الملجأ من الله؟ لقد آوى العبد إلى الطائف يتهيأ للسفر إلى المدينة، وما هي إلا أيام حتى تذعن الطائف لما أذعنت له مكة. والآن يفكر العبد في مهاجرة البلاد العربية كلها. ولكن كيف السبيل إلى الهجرة؟ لقد أُخذت عليه سبيل الحبشة، وأُخذت عليه سبيل الروم، وانبسط سلطان النبي على الشمال والجنوب. لقد كانت الهجرة ميسورة قبل الآن. فأما الآن فقد تقطعت من دونها الأسباب.
هنالك يلقي بعض الناس في نفس العبد أن النبي لم يقتل قط رجلاً جاء مسلماً؛ وأن النبي ذات يوم لجالس بين أصحابه، وإذا رجل قائم على رأسه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ وينظر النبي فيرى العبد فيعرفه، ولكن الله قد عصم دمه بالإسلام، وما قتل النبي قط رجلا جاءه مسلماً، وان كان قد قتل عمه حمزة. فيأمر النبي ذلك العبد أن يجلس ويحدثه كيف قتل عمه؛ وهذا العبد قد جلس وهو يعيد على النبي بلاءه المنكر، وحديثه يملأ قلب النبي حزناً ولوعة وأسى؛ والعبد بين يديه، لو أراد لأرضى حزنه ولوعته بمصرعه، ولكن أنّى له ذلك وقد أعتصم العبد بالإسلام؟
وقد آثر النبي أن يعفو، وآثر أن يصبر. أليس قد عفا عن هند وقد مثلت بعمه ولاكت كبده،
وجدعت أنفه وأذنيه؟ فما له لا يعفو عن عبد مأمور؟ ولكنه قال للعبد: غيب وجهك عني، فجعل العبد لا يرى رسول الله إلا تنكب طريقه واجتنب لقاءه.
وعاش وحشي في المدينة حراً كالعبد، وطليقا كالأسير، وجعل الندم يحز في قلبه حزاً، ويمزق فؤاده تمزيقا، يؤرقه إذا دنا الليل، ويعذبه إذا أقبل النهار.
ولكن العرب يرتدون، ويذهب خالد بن الوليد لقتال مسيلمة، وهذا العبد يذهب معه ليقاتل في سبيل الله بعد أن كان يصد عن سبيل الله.
وهذا العبد يهز حربته ذات يوم كما هزها يوم أُحد، ويتهيأ ليرميها كما تهيأ يوم أُحد، وإذا هي تصيب رجلا فتصرعه، وإذا الحربة التي قتلت حمزة قد شاركت في قتل مسيلمة، وإذا وحشي قد قتل خير الناس، وقتل شر الناس. وقد عفا النبي عن قاتل عمه، وعفا الناس عن قاتل أسد الإسلام، ولكن نفس وحشي لم تعف عن وحشي، ولكن دم مسيلمة لم يغسل من نفسه دم حمزة. وهذا العبد الحر يمضي مع جيوش المسلمين غازياً فيقاتل الروم وينتصر مع المنتصرين، ويستقر مع المستقرين في مدينة حمص هذه. ولكن بلاءه أيام الردة وبلاءه أيام الفتح، وما أحتمل هذا كله من جهد، وما ناضل في هذا كله عن الإسلام، لم تغسل عن نفسه دم حمزة، ولم تبرئ نفسه من الندم لمقتل حمزة؛ ولم يبلغ الإسلام من قلب هذا الرجل ما بلغ من قلوب كثير من الناس فيمحو من قلبه ما قدم في جاهليته، وإذا هو يستعين على الندم بالخمر، وإذا هو يشرب ويسرف في الشرب، وإذا هو يضرب في الشراب فلا يمنعه الحد من معاودة الشراب، وإذا هو معروف في أهل حمص بما قدم من خير وشر، وإذا هو معروف في أهل حمص بسكره إذا سكر، وبصحوه إذا صحا، وإذا هو يسكر حتى يصبح مخوفاً على من يدنو منه، حتى يصبح عاقلاً حلو الحديث. والندم يلح عليه حتى يبغضه إلى نفسه تبغيضاً، ويصرفه عن الصحو صرفاً، وكلما مضت الأيام ازداد إمعاناً في الشراب، والسن تتقدم به، وجسمه يضعف شيئاً فشيئاً، وعقله يذهب قليلاً قليلاً، والندم ماثل مع ذلك في نفسه، ملم بداره، يأخذه من كل وجه، وهو لا يجد سبيلاً إلى الفرار منه إلا إلى الشراب، وهو يُضرب في الشراب، وقد ضعف وفني فلا يحتمل الضرب فيموت. ونشهد جنازته اليوم.
أرأيت أني لم أكن ملمحاً ولا مؤثراً للغموض حين كنت أحدثك بما كنت أحدثك به من هذّه
العواطف المختلفة التي كانت تثيرها جنازته في نفوس الناس. قال عمير: أشهد أن حكمة الله بالغة، وأن الرجل الرشيد خليق أن يتعظ بما فهم من قضاء الله، وأن يطمئن إلى عدل الله وعفوه إذا أشكلت عليه الأمور. قال محمد بن نصر: فإني لا أعرف شيئا يغسل عن النفس إثمها وينقيها من السيئات كهذا الذي نحن فيه من جهاد عدو الله ما وجدنا إلى هذا الجهاد سبيلاً.
طه حسين
حول الهجرة
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
تحتفل (الرسالة) اليوم بذكرى حادث كريم لم يكن بعد النبوة أعظم ولا أبعد أثراً منه في تاريخ الإسلام بل في تاريخ الإنسانية. فلولا الهجرة ما ظهر الإسلام ولا غلب على جزيرة العرب، ثم على أهم مواطن نصف الكرة الشمالي من الأرض. ولولا ظهور الإسلام، وما استلزمه من جهاد في سبيل الله، وما أنزله الله من هدى يهدي به المجاهدين سبله، لحُرم الإنسان ذلك الهدى، ولظل في أموره موكلاً إلى نفسه، لا يكاد في السلم يقف عند حد في طلب اللذة، ولا يكاد في الحرب، كما تشهد الحرب العظمى، يقف عند حد في إتيان ما يظن أنه يكفل له النصر. فالعهد الذي كان في الإسلام قبل الهجرة إنما هيأه الله ليؤدي بقدر منه إلى الهجرة، ثم إلى ما كان في حياة الرسول بعد الهجرة. وهو إلى ذلك كان عهد تشريع من الله على يدي رسوله للناس فيما ينبغي أن يفعلوه إذا كانوا في حالة من الضعف لا يملكون معها من أمورهم إلا القليل: يصابرون في سبيل الله ويصبرون ما استطاعوا، ويهاجرون إن استطاعوا بدينهم في سبيل الله إلى حيث يمكنهم أن يقيموا دينهم آمنين، فإن أمكنتهم بعد ذلك قوة يستطيعون بها الدفاع عن دينهم ولو بالسلاح، فقد وجب الدفاع. إنما عليهم في كل ذلك، مهما يكن الحال، أن يستمسكوا بدينهم كما يتمسك الغريق بحبل النجاة.
والعهد الذي كان في النبوة بعد الهجرة كان، فيما كان، عهد تشريع من الله على يدي رسوله للناس فيما يجب عليهم وما ينبغي لهم في حال القوة، سواء أكانت قوة ناشئة قد حيا لها الأعداء أم كانت قوة غالبة قد مكن الله لأهلها في الأرض، فلم تبق يد أعلى من أيديهم، ولا كلمة تنافس كلمتهم في الرفعة والسلطان. وفيما بين هذين الحالين أحوال تنقلب فيها الأمم الناشئة، لولا الهجرة ما عرف الإنسان سنن الله في مثلها ولا طريق الفلاح فيها.
فالهجرة إذا شئت هي نقطة الانقلاب من الضعف إلى القوة لا في تاريخ شعب فحسب، ولكن في تاريخ دين شاءت رحمة الله بالبشر أن يمن عليهم به ليعرفوا ما لم يكونوا لولاه ليعرفوه من سنن الله في الإنسانية بحذافيرها، ولا فيما يتعلق بالفرد فقط، فقد كان فيما أنزل الله قبل الإسلام من دين ما يكفي لأن ينجو به الفرد مما يتهدد نفس الفرد من أخطار، ولكن فيما يتعلق بالمجموع على الأخص، أي فيما يتعلق بالإنسان من حيث هو أمم وشعوب، ثم
من حيث هو جنس واحد، أبدعه إله واحد، وجعل طريق بلوغه أعلى غاياته التي قدرت له في التعاون في الله والاجتماع، لا في العزلة والافتراق.
ولعل هذه الناحية هي الفرق الأكبر بين الإسلام وبين ما قبله من الأديان التي أنزلها الله. بالأديان قبل الإسلام هدى الله الإنسان من حيث هو فرد ومن حيث هو جماعة منعزلة؛ وبالإسلام هدى الله الإنسان من حيث هو فرد ومن حيث هو جماعة منتشرة متصلة، ثم من حيث هو جنس حياته ورقيه في اتباع سنن الفطرة التي فطر الله الناس عليها وفطر الكون. وكان عهد التشريع الإلهي للجماعة العامة هو ما بعد الهجرة، وعهد التشريع للفرد كان فيما قبل الهجرة، ثم فيما بعد الهجرة ضمن دائرة الجماعة. فكأن الله سبحانه أراد أن يكمل للإنسانية دينها في الإسلام، ويجمع لها فيه الدين كله، جعل الإسلام عهدين يكادان يتساويان: عهد الفرد قبيل الهجرة، وعهد الجماعة بعد الهجرة. فقبل الهجرة كان عهد التضحية في سبيل الله من الناحية الفردية البحتة كما كان يحدث في الأديان التي قبل، كالنصرانية. وبعد الهجرة كان عهد تكون الجماعة وتطورها إلى جماعة كاملة تسير في الاجتماعات طبق الفطرة: قانونها كتاب الله، ولا حكم فيها ولا سلطان عليها إلا الله. فتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم يمثل تاريخ الأنبياء قبله في شطره، ويختص ويمتاز في الشطر الآخر، وبالشطر الآخر. فهو مبدئه إلى منتهاه يمثل تاريخ ترقي الله بالإنسان في الدين، كما يقولون إن تاريخ خلق الله الإنسان يتمثل في خلق الجنين.
إن الإنسان خارج دائرة الدين لا يزال يتخبط في الاجتماعيات إلى الآن. قد استطاع في عهده الحديث أن يتوصل إلى كثير من سنن الله فيما ليس بإنسان، أما سنن الله في الإنسان خصوصاً من الناحية الاجتماعية فلا يكاد يعرف منها شيئاً يقينياً، وما يسميه علم الاجتماع، على ضيق مداه، أكثره آراء ولا تزال تنتظر التمحيص. ومن عجب لطف الله بالإنسان أن وكله إلى نفسه فيما لا يتعلق بالروح، ولم يكله إلى نفسه فيما يتعلق بالروح. وكله إلى نفسه في العلوم الطبيعية فلم يرسل رسولاً يعلم الناس حقائق العلم، وإن لهم على طريق التوصل إلى ذلك بأنفسهم في كثير من آيات القرآن في معرض التذكير والتعريف به سبحانه. لكنه لم يكله في أمر الروح إلى نفسه، وإلا لقضي على أجيال كثيرة من الأرواح، إن لم يكن على جميع أجيالها، بالهلاك. ترك الإنسان يتواصل بمجهوده وتجاربه إلى سنن الله في كل
محسوس تستطيع أن تتناوله تجارب الإنسان، لكن ما لا تستطيع أن تتناوله التجارب مما يتعلق بنفس إنسانية الإنسان فقد اقتضت حكمة الله سبحانه ورحمته أن يتولاه هو من الإنسان، لا بتعريفه بتلك السنن كما نعرف أمثالها في العلوم، ولكن بتيسيره للإنسان الاستفادة من تلك السنن كما لو كان محيطاً بها، خبيراً بطرق تطبيقها على نفسه وعلى مجتمعه. وما الدين إلا النظام العملي الكامل لحياة الإنسان طبق الفطرة التي فطرها سبحانه عليها. والفرصة بعد فسيحة أمام الإنسان ليعرف قوانين تلك الفطرة بالبحث والنظر إذا شاء وإذا سلك إليها الطريق. ولكن سبيل ذلك التجارب يجريها الفرد في معمله، لأنه إن استطاع أن يخضع المادة والطاقة بل والخلية الحية في معمله للتجربة فلن يستطيع أن يخضع الروح لمثل ذلك. وإن استطاع ذلك إلى حد لا يكاد يذكر في امتحان الفرد، فلن يستطيع ذلك إلى حد ما في الجماعة. لا. ليس طريق الوصول إلى سنن الله في الاجتماعيات التجربة العلمية، إنما سبيل ذلك النظر العلمي في تاريخ الأنبياء، وفي شرع الله بواسطة الأنبياء للناس. حوادث ذلك التاريخ وأحكام الله كما تبينها أفعال أنبيائه، وكما تنطق بها كتبه المنزلة، هي المادة التي يجب أن يستخلص منها سنن الله في الناس، كما إن نتائج التجارب العلمية هي المادة التي يستخلص منها سنن الله في غير الإنسان. وكل الذي يتطلبه العلم في هذا، إذا قدر أن يتجه العلم هذا الاتجاه، هو صدق المادة؛ هو صحة حوادث التاريخ وصحة نسبة الأحكام. ولا أدري إلى أي حد ممكن الاعتماد الآن على ما كان قبل الإسلام من ذلك، إنما الذي أدريه أن ما كان في الإسلام من ذلك ممكن الاعتماد عليه كل الاعتماد. ممكن الاعتماد على ما ضبط وصحح من حوادث النبوة وأفعال الرسول وهو شيء كثير، أما القرآن فهو المعين الذي لا يغيض، والكنز الذي لا يفنى، والكتاب الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).
لكن العلم لن يستطيع الانتفاع بذلك أو يؤمن، وأظن العلم يقترب شيئاً فشيئاً من الإيمان.
محمد أحمد الغمراوي
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور غزاة المكروب
مات اسبلزاني، وجاء ثلث قرن من بعد وفاته وقف فيه البحث عن المكروب وقوفاً تاماً، ونسى الناس تلك الأحياء واستصغروا أمرها، واتجهوا بهمهم إلى علوم أخرى كانت تخطو في طريق التقدم خطوات سريعة وكانت القطر البخارية قد أخذت تشق طريقها في البلاد، ضخمة دميمة، تسعل كالمصدور فتفرغ الخيل والبقر في أوروبا وأمريكا. والتلغراف كاد يهم بالظهور. واخترعت مكرسكوبات عجيبة، ولكن لم يتقدم رجل للتحديق فيها ليثبت للدنيا أن هذه المكروبات الضئيلة تستطيع أن تقوم من العمل النافع المجدي ما لا تستطيعه تلك القاطرات المعقدة الفظيعة - لم يتقدم أحد ليقول للناس، ولو إيحاء وتلميحاً، إن هذه الخلائق تستطيع قتل الملايين من البشر في خفاء وسكون، وأنها في قتلها أكثر حصاداً من الجيلوتين، وأبعد مدى من مدافع واترلو
في يوم من أيام أكتوبر عام 1831، بقرية من قرى الجبال بشرق فرنسا، تجمهر نفر من أهل القرية على دكان حداد. وكان الفزع يبدو على وجوههم الشاحبة، وكان الهلع يستبين في أحاديثهم الخافتة، وقد حولوا جميعا وجوههم شطر الحداد بداخل المكان. وإذا بطشيش يسمع كطشيش الشواء، وإذا بصراخ يعقبه من تباريح الألم مكظوم، وإذا بطفل في التاسعة يخرج من حافة الزحام هارباً إلى بيت أبويه وقد أخذ منه الرعب ما أخذ. أما الرجل المسكين الذي أنضج الحديد لحمه ففلاح يدعى نقولا لقيه في الطريق ذئب هائج مسعور، نزل على القرية يعوي عواء المجنون، ويزبد فاه برغاء مسموم، فهجم على صاحبنا فمزقه تمزيقاً. وأما الطفل الهارب فكان اسمه لويس بستور ابن دباغ في أربوا وحفيد خادم عبد لكونت أدريسييه
ومضى على هذا المشهد أسابيع سقط فيها ثمانية رجال فريسة لداء الكلب، وعانوا ما عانوا من جفاف الحلق، وضيق الخناق، وجنون النفس، وصرخوا طويلا فترددت أصداؤهم في أذن صاحبنا الطفل، فارتاع فأسماه بعض القوم جباناً، وانطبع في ذاكرته أثر الكي الذي رآه وسمعه في دكان الحداد انطباع الحديد في لحم ذلك الفلاح البائس.
وسأل لويس أباه: (ما الذي يصيب الكلاب والذئاب بالجنون؟ ولم يموت الناس بعضة منه؟). وكان أبوه في زمان مضى جاويشاً قديماً في جيش نابليون، فرأى عشرات الألوف من الناس تمون من الرصاص، ولكنه لم يدر لم يموت الناس من الأمراض.
فكنت تسمع هذا الدباغ التقي يجيب ابنه السائل فيقول: (من الجائز يا بني أن شيطاناً من الشياطين دخل جلد الذئب، وإذا قضى الله لك بالموت فلا مرد لقضائه). هذا جواب، لو تأملته لوجدته على بساطته كأحسن ما يجيب به أكثر العلماء حكمة، وأغلى الأطباء أجوراً. ولم يكن أحد يعرف في عام 1831 لم يموت الناس من عضة الكلب المسعور، فأسباب هذا المرض كانت غامضة مجهولة.
أنا لا أحاول أن أدخل في روعك أن هذا الحادث الذي وقع لـ (بستور) في صباه كان السبب الذي حدا به في رجولته إلى كشف سبب هذا الداء وكشف علاجه. إذن لزاد هذا في جمال قصتنا، وكان كذباً وبهتاناً. ولكن الحق أن هذا الحادث راعه طويلاً، ولزمته ذكراه الأليمة طويلاً، وتفكر فيه طويلاً. والحق أنه أحس ريح الشواء تصعد من لحم الفلاح إلى أنفه إحساساً أشد ألف مرة ممن أحسوها، وأنه سمع صراخه فنفذ في نفسه إلى أغوار أبعد من أغوار الآخرين ممن سمعوها، واختصارا أريد أن أقول إن هذا الصبي كان مجبولاً من تلك الطينة التي يجبل منها الفنانون، وان ذلك الفن فيه عاون علمه يداً بيد في إخراج تلك المكروبات إلى الوجود بعد انزوائها مرة أخرى بوفاة (اسبلنزاني). ولا أحجم عن القول إن (بستور) في السنوات العشرين الأولى من حياته لم تظهر عليه شارة تنبئ بمصيره بحاثاً كبيراً، فإنه قضاها طفلاً جلداً 0على الشغل، ذا عناية بما يعمل، ولكن عين الناظر المتفقد لم تكن تقف عنده طويلاً. وكان يقضي فراغه في التصوير، فكان يصور النهر الذي يجري بجوار المدبغة، وكان يصور أختيه فيثبتان له ساعات حتى تتصلب أعناقهما، وتتوجع ظهورهما. وصور أمه صورا قاسية، ليس فيها من الملق شيء، وليس فيها من الجمال شيء، ولكنها أشبهت أمه.
وفي هذه الأثناء أهمل الناس حيوانات (اسبلنزاني) الصغيرة حتى نسوها، وقام العالم السويدي (لينيأس) يقسم الأحياء ويبوب أجناسها، فيجعل لكل جنس جذاذة، ويجعل من الجذاذات فهرساً عظيماً، حتى إذا جاء إلى تلك الأحياء الصغيرة، رفع يديه يأساً منها، قال:
(إنها أحياء شديد صغرها، مختلط أمرها، وستظل على إنبهامها، وإذن فلأضعها في باب الأشتات الغامضة). ولم تجد تلك الأحياء من يدفع عنها، ويتحدث بالحسنى عنها، غير ايرنبرج ذلك الألماني الشهير، ذو الوجه البض المليء، فانه في الوقت الذي لم يكن فيه يقطع المحيطات أو يمنح الأوسمة والمكافآت، كان يشتبك في مجادلات عقيمة عن هذه الحيوانات: ألها أمعاء كسائر الحيوان؟ أهي حيوان كامل الأعضاء، أم هي بعض صغير من كل كبير؟ أم هي ليست بحيوان قط، بل نبات؟
ظل (بستور) يكد في الدراسة ويكب على القراءة، وبدأت تظهر عليه وهو في كلية (أربو) سمات، وتتراءى في خلقه صفات، بعضها حسن وبعضها قبيح، ولكنها جميعاً خلقت منه شخصا التقت فيه المتناقضات بقدر لم تلتق على مثله في سواه. فقد كان أصغر التلاميذ في المدرسة، ومع ذلك أراد أن ينصب نفسه عليهم قيماً. كانت به رغبة شديدة في تعليم غيره من الأولاد، وعلى الأخص في حكمهم والسيطرة عليهم. ونال أمنيته فنصبوه قيماً. وقبل بلوغه العشرين ارتقى إلى منصب أشبه بمساعد في كلية بيزانسون وأجهد نفسه في العمل إجهاداً مريعاً. وأراد كل من حوله على أن يعملوا بمقدار ما يعمل. وكتب إلى أختيه المسكنتين كتباً شديدة اللهجة، بارعة الأسلوب، يحضهما فيها على العمل، وقد كانتا - طيب الله ثراهما - تبذلان كل ما في وسعهما من مجهود.
كتب إليهما يقول: (أختي العزيزتين، إن العزيمة شيء عظيم، لأن العزيمة يتبعها العمل، والعمل يتبعه النجاح دائماً، إلا في القليل النادر. وهذه الأمور الثلاثة - الإرادة، والعمل، والنجاح - تملأ الوجود الإنساني. فالعزيمة العزيمة، والعمل العمل، فسيفتحان لكما أبواب السعادة والمجد. إن الطريق الطويل المجهد في آخره خير الجزاء عما صب الإنسان على ترابه من عرق، وأحفى فيه من قدم).
تلك عظاته الأولى في شبابه، وهي من عظاته الأخيرة عند ما بلغ السبعين - عظات بسيطة، ولكنها كانت تخرج من قلبه.
وبعث به أباه إلى باريس، إلى مدرسة النرمال، فاعتزم أن يقوم هناك بأعمال كبيرة، ولكنه أحس حنيناً أليماً إلى وطنه، وإلى روائح المدبغة التي خلف في بلده، فعاد إليها تاركاً في باريس آماله وأحلامه. . . ولكنه لم يغيب عنها طويلاً، فإنه رجع إلى باريس بعد عام، إلى
نفس المدرسة، وفي هذه المرة أطاق الإقامة فيها بعيدا عن بلده وأهله. وذات مرة خرج من محاضرة دوماس مغتمر الحس، فائض النفس، مغروق العين، يتمتم لنفسه، (ما أجل الكيمياء علماً! ودوماس، ما أمجده وأوفر حظه من محبة الناس!). عرف (بستور) حينئذ أنه سيكون كيميائياً كذلك عظيماً. ونظر إلى الحي اللاتيني بشوارعه القاتمة، وهوائه الغبيش، وإلى عيشة الخلاعة والتخليط التي يعيشها الناس فيها، فقال لا يرفع هذا الحي من وهدته إلا الكيمياء. كان (بستور) قد ترك الرسم والتصوير، ولكنه حفظ في قلبه روح الفنان الشاعر.
ولم يلبث أن بدأ أبحاثه، بين قوارير من كل رائحة كريهة، وأنابيب من كل سائل ذي لون بهيج، فاشتغل بها وتعثر فيها. وكان يحاضر صديقه الطبيب شبيوس ساعات عن بلورات حامض الدردي، ولم يكن إلا طالب فلسفة، فكان المسكين لا يجد مندوحه عن الإنصات كل تلك الساعات. وكان (بستور) يقول له:(إن من المحزن ألا تكون كيميائياً مثلي). كان يريد كل الناس على أن يكونوا كيميائيين، كما أراد كل الأطباء بعد أربعين عاماً أن ينقلبوا بحاثاً للمكروب.
وبينا كان يكب بأنفه الأفطس، وجبينه العريض، على كومات البلورات يمتحنها، كان رجلان، أحدهما فرنسي، والآخر ألماني، قد أخذ على انفراد يوجهان همهما إلى تلك الحيوانات الصغيرة الحية التي تدعى بالمكروبات، يعتقدان أنها حيوانات على صغرها خطيرة نافعة كالخيول والأفيال. أما الأول فكان اسمه كبنارد دي لا تور وكان رجلا متواضعاً متخاشعاً، إلا أنه كان يعرف كيف يكشف من الحقائق عن إبكارها. فذات يوم كان يدور خلال الجعة المختمرة في أحواضها، فأخرج من حوض قطرتين يعلوهما الرغوة، ونظر إليهما بمجهره فوجد أن حبات الخميرة قد نتأت على جوانبها نتواءت كما تتنبت البذور. فقال لنفسه:(إذن هذه الخمائر حية، لأنها تتكاثر كغيرها من الخلائق). وتابع أبحاثه فعرف أن الشعير لا يستحيل إلى (البيرة) إلا حيثما وجدت فيه هذه الخمائر الحية المتزايدة. (إذن فهذه الخمائر، وهي تمارس العيش، تخلق من هذا الشعير كحولاً). ونشر مقالاً صغيراً عما وجد، ولكن الدنيا رفضت أن تستمع إلى هذا الكشف المجيد. وكان (كنيارد) حيا، ولم يكن دعاء لنفسه، ولم تكن له صلة بالصحافة. ٍ
وفي نفس العام نشر دكتور ألماني يدعى إشفان مقالاً قصيراً، في جمله طول، وفيها إبهام، يقص على الناس فيه خبراً عجيباً، خال أنه سيقيمهم ويقعدهم، فإذا بهم يستمعون له بصدور ضيقة وأمزجة فاترة. قال:(أغل اللحم إغلاء طيباً، وضعه في قارورة نظيفة، ثم أدخل إلى القارورة هواء بعد إمراره في أنبوبة حمراء بما حولها من النار، يبق اللحم صالحاً عدة أشهر. ولكنك إذا نزعت القارورة سدادها، فأدخلت إليها الهواء العادي بما فيه من جراثيم، فلن يلبث اللحم أن تخبث ريحه، ويتنغش بأحياء أصغر ألف مرة من رأس الدبوس، هي التي تعيث فيه بالفساد).
لو أن (لوفن هوك) سمع بهذا لفتح عينيه وسعها لما سمع، ولو أن (اسبلنزاني) جاءه هذا الخبر وهو يصلي بالناس في الكنيسة لفض جمعهم وهرع إلى معمله. أما أوربا فلم تحرك ساكناً. وقرأت الخبر في الصحف فكان كبعض الأخبار. وكان (بستور) في تلك الساعة على وشك أن يكتشف أول كشف خطير كشفه في الكيمياء.
كشف بستور كشفه الخطير الأول وهو ابن ست وعشرين فبعد نظرات قريبة عديدة إلى بلورات صغيرة دقيقة، خرج على أن حامض الدردي يوجد على صور أربع لا على صورتين، وخرج على أن المواد الكيمياوية منها مركبات تتساوى جزيئاتها في كل شيء، في عدد ذراتها، وفي الحال التي تترابط عليها هذه الذرات يكاد المركبان يكونان مركبا واحداً، لولا اختلاف بسيط في وضع ذراتهما، وخرج على هذين الوضعين يختلفان كاختلاف الشيء وصورته في المرآة.
تمطى (بستور) فاستقام ما انحنى من ظهره الوجيع، واستبان قدر الكشف الذي أتاه، فخرج مسرعاً من معمله الصغير المظلم القذر، فبلغ البهو الكبير، فالتقى بشاب فيزيائي لم يكنيعرفه إلا لماماً، فإذا به يطوقه بذراعيه، ويقوده خارج المعهد إلى حدائق لكسمبرج وتحت ظلال أشجارها الوريفة، أخذ يصب على صاحبنا الكلم صباً، ويغمره بالشرح والتفسير غمراً. لم يكن له مندوحة من هذا. ملأه الحديث فلم يستطيع كظمه. لابد أن يفيض به إلى أحد. لا بد أن يخبر الدنيا بالذي وجد.
لم يمض شهر حتى أثنى عليه الأشياخ من الكيميائيين، وحتى اصطحبه علماء أعمارهم ثلاثة أضعاف عمره. وتعين أستاذاً بجامعة استراسبورج وفي فترات ما بين أبحاثه وقر
في نفسه أن يتزوج من ابنة العميد. ولم يكن موقناً من حبها، ولكنه جلس فكتب لها كتاباً وثق أنها لن تقرأه حتى تحبه. كتب لها. (ليس في ما يجذب فتاة صغيرة مثلك، ولكن ذاكرتي تطمئنني إلى أن الذين عرفوني حق المعرفة، أحبوني أصدق الحب).
وتزوجته، فصارت بذلك أشهر الزوجات في التاريخ، ومن أكثرهن مكابدة ومقاساة، من أكثرهن هناءة وسعادة من بعض الوجوه - وسنذكر في هذه القصة الكثير عنها.
ولما أصبح رب أسرة، زاد بذله من نفسه للعمل، فنسى ما تفرضه الزيجة الحديثة على الزوج من واجبات، وما تنتظره من محاسنات وملاطفات. وغلا فقلب ليله بالعمل نهاراً. كتب في ذلك يقول:(أنا على وشك أن أرفع الحجاب عن خبايا غامضة. وأرى هذا الحجاب يشف كل يوم عنها، ثم يشف، ثم يزداد شفوفاً. وتطول الليالي عليّ في انتظار الصباح. وزوجي كثيراً ما تؤنبني للسهر، فأقول لها: (إنني بذلك إنما آخذ بيمينها إلى حظيرة الخالدين) واستمر ببحث البلورات، ويسلك لاكتنانها طرائق لا تلبث أن تنسد في وجهه فيرتد عنها خائبا، ويدبر التجارب كل سخيف مستحيل، تجارب لا تصدر إلا عن عقل مخبول، ولكنها كانت من ذلك النوع الذي لو صادف نجاحا لصير هذا المخبول عبقريا يدوي اسمه في الآفاق؛ فوضع الأشياء الحية بين مغناطيسيين كبيرين رجاء أن يغير بذلك كيمياء الحياة فيها. واخترع مكنات كمكنات الساعات، وعلق بها النباتات فأخذت تهتز كالبندول روحة وجيئة، وحسب بذلك أنه يهز ذراتها في جزيئاتها، وحسب أنها تحول عن أوضاعها القديمة إلى أوضاع جديدة تنتسب إلى الأولى انتساب الشيء إلى خياله في المرآة، أو كما ينتسب من حامض الدّردي جزئيه الأيمن بجزيئه الأشول. . وأراد أن يقلد الله فحاول أن يغير فصائل الأحياء
وكانت زوجه تسهر الليالي إلى جانبه، وتعجب بما يصنع، وتثق به، وتؤمن بكل الذي يأتيه. كتبت إلى أبيه تقول:(يجب أن تعلم أن التجارب التي هو قائم بها الآن، لو نجحت، فستخلق منه رجلاً يناهض في الذكر (نيوتن)، ويطاول في المجد (جاليلو)). لسنا نستطيع اليوم أن نؤكد أن مدام (بستور) كانت تقول ذلك فهماً لما يقوم به زوجها، أم هو إعجاب المرأة ببعلها، وعلى كل حال فلم تتحقق آمالها هذه المرة فإن تجارب (بستور) هذه كان نصيبها الخيبة.
أحمد زكي
قصة
ومن يرقيه؟
للآنسة سهير القلماوي
في أيام عاشوراء كان قد اعتاد أن يجوب الطرق صباحاً منذ مطلع الفجر مناديا بصوته العذب العميق: (عاشورا المبارك. . . حليمة رقت نبينا محمد من العين. . .) وكان يحمل فوق رأسه مقداراً من مساحيق مختلفة الألوان والأصناف. كان الرجل فوق الأربعين، وسيم الطلعة، قوي البنية،؛ وكان أعذب ما فيه الصوت الحنون العميق المؤثر الذي يرسله كل صباح فيمتزج بنسيم الفجر ونور الشمس الباهت الرفيق، فيوقظ النيام أجمل يقظة وألذها. لم تكن هذه حرفته بالطبع، فقد طول العام يبيع الفواكه، إما في محل لقريب له، وإما سائرا هكذا في شوارع القاهرة؛ ولكنه اعتاد منذ أعوام عديدة أن يطوف هذه العشرة الأيام الأولى من العام الهجري وعلى رأسه هذه المساحيق ليرقي بها من يخاف شر العين والحسد.
كان الرجل يؤمن أشد الإيمان بالحسد وشر الحسد، أليس قد ذكره الله تعالى في قرآنه الكريم؟ ألم يأمر الله نبيه الكريم أن يقول (أعوذ برب الفلق. . . ومن شر حاسدٍ إذا حسد) ألم يرو لنا كيف رقت حليمة النبي محمداً من (أعين) الحساد؟ أليس في الحياة اليومية ما يثبت لنا شر هذا الحسد؟ كانت لأخته طفلة جميلة، وكانت تتركها دائما قذرة الملابس وسخة الوجه لا يكاد يبين منها إلا أحجية وتمائم وتعاويذ، ولكنها لأمر ما نزعت هذه الأحجية يوماً، فإذا بها تمرض، وإذا المرض يشتد بها يوما بعد يوم، ولم يعد بخور ينفع، ولم تعد تمائم تصد إصابة (العين)، وإذا (العين) أصابت فليس لأصابتها مرد. وبعد أيام جاهدت الطفلة فيها جاهدت الطفلة فيها جهادا لا تحتمله إلا تلك الأجسام التي زودت حديثاً بالحياة، فهي حارة قوية بنيانهم؛ بعد أيام توفيت الطفلة الجميلة فتوفيت معها أفراح الأسرة ومباهجها إلى زمن طويل. أبعد هذا لا يعتقد (بالعين)؟
وفي ثاني يوم هذا العام كان الرجل يسير في الطريق كالمعتاد يرسل صوته الجميل وهو متلذذ بسماعه مرات ومرات بهذا النداء المستحب وتلك النغمة الساذجة البديعة: (عاشورا المبارك. . . حليمة رقت نبينا من العين)؛ وأطلت من النافذة فتاة في نحو العشرين، جميلة الصورة نجلاء العينين. وكانت عيناها أول ما يبدؤك منها لسوادهما وجمالهما. كانتا عينين
تجذبان النظر إليهما جذبا كما يجذب الحديد الحديد بفعل الجاذبية الطبيعية.
رفع الرجل بصره إلى النافذة فإذا بالعينين النجلاوين تنظران إليه في احتجاب غير خاف. فأرسل صوته العذب الجميل بندائه العذب كأنما يعلن إليها عمله. فابتسمت ثم أسرعت وتركت النافذة عاطلة من أجمل ما يمكن أن يزينها.
واستمر الرجل ينادي نداءه، ويكرر ويطيل النداء، ويتقن الغناء، ولكن الفتاة لم تعد؛ وأخيرا قال لنفسه: غدا تراها، أ، ك ستمر لثمانية أيام أخر. صبرا ففي الغد الفرج.
وفي الغد ما كاد يقترب من باب هذا المنزل حتى سمع صوتا يناديه: (يا عم يا بتاع عاشورا!) فالتفت صوب الصوت، فإذا العينان، عينا أمس تنظران إليه من جديد.
جلست الفتاة على حافة السلم، وقالت له في صوت خافت إن سيدتها نائمة، وإنها تخاف أن تصحو فتراها على تلك الحال فتطردها شر طردة. كل ما تريده منه هو أن يرقيها من عين خادم الجيران لأن هذه تغار منها لجمالها، وتنظر إليها نظرات شريرة. ولقد زاد في شر هذه النظرات أن خدم الجيران جميعاً لا يعبأون ولا يقتربون إلا من فتاتنا هذه، فزاد ذلك في نيران الغيرة، ومتى اشتدت الغيرة، فالحسد وشرور الحسد متوقعة منتظرة.
سمع الرجل هذه الاعترافات الساذجة فوجدها عادية، وأخذ يقوم بعملية الرقية خالطاً بعض المساحيق متمتماً كثيراً، وموصياً وصايا عدة، وكان بوده أن يطيل ويطيل لولا أن نبهته تلك بأن سيدتها قد تصحو، وفي تلك الصحوة عقاب لها أليم.
سار الرجل مبتعداً عن البيت مكرها، يحس في نفسه ألما لا يرى له مبرراً ولا سبباً؛ إنه كان في حلم، كان في سعادة ما بعدها سعادة، كان في سماء ثم هبط إلى الأرض، ثم صحا من الحلم اللذيذ فكانت صحوة أليمة بغيضة.
وأخذ ينادي فإذا صوته كأنما هو صوت إنسان آخر لا عهد له به. تبدل الصوت ولم يعد فيه الجمال الذي كان يلذه ويستمتع به. وعبثا حاول الرجل أن يقنع نفسه بأن هذه خيالات تتراءى له وحده، وعبثا حاول أن يقنع نفسه بأن الناس كلهم لم يشعروا بما طرأ على نفسه من تغير أثر في صوته.
عاد الرجل إلى أهله كئيباً ملولًا برماً بكل شيء، وأمضى ليله والعينان السوداوان النجلاوان تنظران إليه وتطيلان النظر، فيحاول الفرار منهما فلا تلبثان أن تعودا من جديد أقوى
تحديقاً وأعمق أثراً في النفس.
وفي الصباح عاد الرجل يجوب الطرقات منادياً كعادته. دار حول البيت المعهود مرة ومرات فلم ير إلا نوافذ مفتوحة كأنها فتحات القبور. لم ير العينين! وأخذ طريقه كالمعتاد، فسار وسار ينادي، ولكن في غير لذة وفي غير نشوة، وإذا به يسمع من بيت قريب:(الله! ما لصوت الرجل تغير؟ يا خسارة! كان صوته جميلاً وحلواً! لا بد أنه مريض!).
لم يعد مجال للشك. لقد فقد هذا الصوت الذي كان له ذخراً وأي ذخر: أصابته العين ولم يصبه إلا هاتان العينان السوداوان الواسعتان، حُسِد وجازت فيه عين الحسود!
عاد إلى أهله ورقى في نفسه ورقاه أهله، ولكن الرقية ضاعت سدى. ولم يكن من يتقن الرقية إى هو، ولا يمكن أن يقوم بها لنفسه كما يقوم بها لغيره. فالرقية فن له حركاته وأعماله ومراسيمه، واليوم أصابته هو العين، فيا ترى من يرقيه؟
سهير القلماوي
بين الشرق والغرب
للأستاذ محمود الخفيف
غَنَّ يا شِعرُ فقد طالَ البكاءُ
…
وَتَطَلَّعْناَ إلى بعض العَزاءْ
غَنَّ بالشرق وماضي عِزَّه
…
حان أن يُطرِبَنَا هذا الغِناءْ
ًصُغْ من اللَّحْنِ نشيدَ الأمَلِ
…
وأهازيجَ الضُّحى المُقْتَبَلِ
هات يا شعرُ أَحاديثَ العلىَ
…
لا تَقِفْ عند حَدِثِ الأُوَلِ
عَلِّمِ الأَشبالَ في وثبتِهمْ
…
كيف يرقون إلى أوج العلاء
أنشِد الألحانَ للِصُّبح الوليدْ
…
واملأ الآفاقَ من هذا النشيدْ
أيقِظِ النوَّامَ من غَفْوَتِهمْ
…
وتَرنَّمْ بالأماني من جديد
رَفَّ نورُ الصبح في هام الشجَرْ
…
وانجلتْ آياتُه ملء البَصَرْ
وسَرَت في الكون من أنفاسه
…
نَفْحَةٌ نمَّتْ بأحلام الزَّهَر
عَرَفتْ رُوحي شَذَا فانْتشَتْ
…
ورأى قلبي بها معنى الرَّجاءْ
هِيهِ ما أجمل أطياف الشّفَقْ
…
تَتَراءى بَعدَ أن طال الغَسقْ
صورٌ ضاحِكةٌ خافِقَةٌ
…
ضَحِكَ القَلبُ إليها وخَفَقْ
لُمَعٌ توحي أحاديثَ الخلودْ
…
عن جلال الشرق في صُبح الوجودْ
وعن العِزَّةِ إبَّان الضُّحى
…
وبنو الغرب على الذُّل قعودْ
شَدَّ ما تبْهجُني تلك الرُّؤى
…
وسَناَ أيامِهاَ الغُرِّ الوضاٍء
هِمْتُ بالشَّرقِ نورِهِ
…
وَهَفَتْ نَفْسي لخافي سره
كم ملأتُ العينَ من ألوانه
…
واجْتَلَى قلبي الرُّؤَى من سِحْرِهِ
ولكم كان لفكري مَسْرَحاَ
…
كلما أَوْحى لشعري أفْصَحاَ
أبعَثُ الغابِرَ من أخبارِه
…
نَسَماَتٍ كالصَّباَ أو أرْوَحا
نسماتٍ يهمسُ المجدُ بها
…
تلهم الأبناء معنى الكبرياء
خُذْ من النيل حديثَ الغابرينْ
…
وتأمَّلْ في القرون الأرْبعينْ
واستَزِدْ دِجْلَةَ من أخبارِه
…
عن بنيهِ النابهينَ الأوَّلينْ
ورِدِ الهندَ ففي غاباتها
…
وُلِدَ الساحرُِ من آياتها
واهبط الصينَ وَزُرْ مُستْلَهِماً
…
مَهْدَ (كوْ نقُشيوس) في جنَّاتِها
سوف تلقي الشَّرْق إما جئته
…
مَنبتَ الحكمةِ أرْض الحكماء
نشأَ الإيمان في أحضانهِ
…
حسبُه ما فاض من إيمانهِ
حسبُه النورُ الذي أطْلعَهُ
…
فوق ما قدَّمَ من إحسانهِ
أطلعَ الله الشموسَ النيراتْ
…
فجلوا فيه ظلامَ الشُّبُهاَتْ
بلغ الإنسان في أرجائه
…
بهدى الخالق أعلى الدَّرَجات
شدَّ ما يبعثُ في نفسي الهدى
…
مَهْبطُ الوحي ومهد الأنبياء
آنس النارَ بواديهِ الكليم
…
قبساً من جانب الطورِ القديم!
فأراه الله من آياتهِ
…
وحباه العلم والرأيَ القويمْ
واجتبي عيسى من الشرق نبياَّ
…
فروَى الآياتِ في المهد صبيَّا!
بشَّرَ الناسَ فتيَّا برسولٍ
…
يحملُ الحق كتاباً عربيَّا
فَطنَ الدَّهْرُ إلى مقْدمِهِ
…
يوم هزَّ الكونَ صوتٌ من حِراءْ!
يا بني الغرب لنا العزُّ التليدْ
…
والمعاني الغُرُّ والماضي المجيدْ
لا تقولوا أدبَرَتْ أيامُناَ
…
وتباهُونا بناَرٍ وحديدْ
كم رَأينا بينكم من أثَرَهْ
…
وشهدنا نارَكم مُستعرةْ
ضَربَ الحرصُ على آذانكم
…
وأذاع الشرُّ فيكم نُذرَهْ
كل يوم خبرٌ عن فِتْتنَهٍ
…
ينذِرُ الأرضَ جميعاً بالفناءْ!
كم تفاخرتم بعلمٍ وذكاءْ
…
وسَخِرتُم من خيال الشعراءْ؟
ضاق وجهُ الأرض عن همتكم
…
فتلاقيتم على متن الهواءْ!
ليت شعري هل تبادلتم سلاما
…
أم ملأتم جانبَ الجوَّ خصاماً؟
هل أفادَ العِلمُ إلا فِتنهً
…
وغروراً يبعث الموت الزؤاماَ؟
حسبكم في الفخر ما أجريتمو
…
من دُموع وأرقم من دماءْ!
خبِّروني كم لديكم من أجيرْ
…
بات يبكي مثلما يبكي الأسيرْ؟
كم فقير بات يشكو ذِلةً
…
وهوانا وهْو بالرفق جدير!
لا ترون العيش إلا نهَمَاَ
…
هل عفَفتم أو عرفتم ندَماَ؟
قد تَمشّى السُّقم في وجدانكم
…
فرأيتم كل عطفٍ حُلُماَ
أين هذا البغيُ من حرِّيةً
…
طالما غازلتموها وإخاءْ!
كم بلونا من أفانين العذابْ
…
ورأينا منكمو فتْكَ الذئابْ
كم فضحْنا من طِلاءِ خادع
…
فوق ما تخفون من ظفْرٍ ونابْ!
تلك أعراض البلاءِ القاتلِ
…
وعلاماتُ الفناءِ العاجلِ
قد ذَهِلتم من مزايا جنسكم
…
واغتررتم بحطامٍ زائلِ
يوبِقُ الرُّوحَ لديكم جَشَعْ
…
هل عَرَفتم غير رُوح الكهرُباءْ
مالت الشمس إلى أفق المغيب
…
وسيغشي أرضَكم ليل قريبْ
قد تلفتتم إلى الخلف كما
…
لو رأيتم شبحَ الليل الكئيب
هل فزعتم من دنوَّ المنحدَرْ
…
فخننتُم للصباح المنتظر؟
أم ترى آمنتمو بعد الجحود
…
تؤمن النفس إذا الموتُ حضر
مالكم عدتم إلى الروح وما
…
شاع عنها من ظهور وخفاء؟
هو ذا الصبح بدا في (يوكهامه)
…
هل تبينتم على الأفق ابتسامَهْ؟
عادت الشمس إلى مطلعها
…
أبداً لن يُخْلِفَ الكون نظامَه
نهض المشرق من غفوتِه
…
واهتدى بالحق في نهضته
جعَلَ الماضِي وحياً وهدى
…
ومضى يسعى إلى غايته
انظروا تلقوه في إقدامه
…
ظافرَ الأيام خَفَّاقَ اللواء
محمود الخفيف
ابن ماجد أسد البحر الهائج
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لا يظنن القارئ أننا نستطيع أن نوفي ابن ماجد حقه بمقالنا هذا، فذلك ما لا ندعيه وما لا يمكن أن نقول به، ولا سيما أن ناحية الملاحة عند العرب لا تزال غامضة لم تعط حقها من البحث. والتنقيب عدا أنها لا تدخل في دائرة اختصاصنا. وجل ما أقصده من هذه العجالة إعطاء فكرة عن ابن ماجد عسى أن يكون في ذلك حفز الهمم للعناية بالمآثر والإسلامية والآثار العربية في شتى النواحي، وعسى أن يكون في ذلك إثارة العزائم للكشف عن آثار أحاطها إهمالنا بالغموض والإبهام. إن حياة ابن ماجد حافلة بالأعمال، وقد تركت آثارا جليلة، وهي صفحة لامعة في التراث الإسلامي، يحق لنا أن نباهي أمم الأرض بها كما يباهي البرتغاليون بصفحة فاسكو دي غاما الذي طاف حول الأرض. وجدير بالمنقبين من أبناء هذه الأمة أن يخرجوها للنشء حتى تثير فيه ما يحي خصائصه الممتازة. نريد بل نطلب من أحد المتخصصين في التاريخ الإسلامي أن يتخصص في ناحية الملاحة عند العرب والمسلمين، وفي تاريخ إنشاء الأساطيل عندهم، ونريد منه أن يبحث ويدقق، حتى يخرج من ذلك بسفر جامع يكون جزءاً من الثقافة الحديثة يمكن للخاص والعام أن يستفيد منه، وإن في تلك الاستفادة ما يخلق في النفوس روح الإقدام وروح الاعتقاد بالقابلية والنبوغ، ولا يخفى ما في هذا كله من قوى تدفع بالأمة إلى المجد والسؤدد.
كان العرب في بدء فتوحهم يخافون البحر ويهابونه، وكيف لا يخافونه ويهابونه، وهم أهل صحراء منقطعون عنه لم يتعودوا رؤيته فكيف بركوبه. . . ولم يكن الخلفاء الراشدون يشجعون على ركوب البحار لخوفهم على أرواح المسلمين؛ وقد جاء أن الخليفة عمر بن الخطاب كان لا يشجع على ركوب البحر، وكثيراً ما عاقب الذين يخوضون عبابه، ويقال إنه عنف عرفجة بن هرثمة الأزدي لركوبه البحر حين غزوه عمان. وقد يكون السبب في منع الخلفاء هو خوفهم على المسلمين لنهم لم يكونوا أهل بحر ولم يتعودوا السير على أعواده. وبقى الأمر على هذه الحال إلى أن اتسعت الفتوح الإسلامية والعربية، وأصبح من العسير بل من المستحيل حماية بعض البلاد، ولا سيما وقد أصبح المسلمون مجاورين الرومان وقد رأوا أن الحاجة ماسة لحماية الشواطئ، ولقد اتخذوا في إنشاء السفن مثال
الرومان؛ ومن الغريب أنك تجدهم في مدة وجيزة قد صارت لهم دراية وخبرة بالبحار وبركوبها، وقد طافوا أشهرها وقهروا محيطات العالم، واتصلوا بالبلاد البعيدة وعرفوا عنها الشيء الكثير، مهروا في صناعة السفائن، وأنشئوا لذلك دورا عظيمة، وصار لهم أيضا في مختلف الأنحاء أساطيل أصبحت عرائس البحار وزينة الشواطئ، متقنة الصنع كثيرة العدد تفننوا في عملها، وأدخلوا تحسينات جمة على آلاتها، وضعوا لها الخرائط والمصورات البحرية، كانوا على علم بالأوقات الملائمة لخوض البحار وعلى معرفة تامة بأوقات هبوب الرياح، اتخذوا المنائر في المرافئ وفي المواضع الخطرة لهداية السفن، واستعملوا الإبرة المغناطيسية لتعيين الجهات، ولقد وصل الأسطول الأندلسي في عصر عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب، وكذلك كان أسطول أفريقيا إذ وصلت أساطيل المسلمين في دولة الموحدين من العظمة والفخامة ما لم تصله في أي عصر آخر، وبلغت المراكب في أيام المعز لدين الله بمصر ستمائة قطعة. ولسنا الآن في موقف نستطيع معه تعداد أمجاد العرب والمسلمين في الملاحة، ولسنا أيضا في موقف نتمكن معه من سرد مواقع المسلمين البحرية وبراعتهم في ذلك. فهذا كله لا يزال محاطا بسحب الإبهام، ولم ينفض عنه بعد غبار الإهمال؛ ومما يؤلمنا أننا إلى الآن لم نسمع عن جماعات علمية أو منقبين أقاموا أنفسهم لهذه البحوث وصرفوا أوقاتهم في تهيئتها، وعلى كل حال يمكننا القول من مطالعة كتب التاريخ التي بين أيدينا أن العرب وصلوا في الملاحة إلى درجة لم يصلها غيرهم من قبلهم. إذ جعلتهم سلاطين البحار وغزاة المحيطات، وكان لذلك تأثيرا كبير على فتوحاتهم، فلقد تمكنوا بأساطيلهم من فتح سردينيا وصقلية وقبرص ومالطة وأقريطش، وكذلك فتحوا بها كثيرا من شواطئ البحر الأبيض المتوسط مما يلي أوروبا إلى بريطانيا في الشمال. وقد بقي العرب أسياد العالم في البحار إلى أن قامت عليهم قيامة الغرب بحروبه الصليبية، وإلى أن قامت عليهم أيضا المغول والتتار، وهبت عليهم عواصف الفتن والقلاقل من كل جانب، فضعف شأنهم وأضاعوا عزهم ومجدهم، واستولت عليهم غفلة طويلة وجمود مروع كما كاد يذهب بالكيان والخصائص التي يمتاز بها العرب على غيرهم، وكاد يستحيل كل هذا إلى موت أكيد. . .
قلنا أن الأمة العربية وصلت إلى درجة في البحرية لم يصلها غيرها من الأمم التي سبقتهم،
أخضعوا البحار لأساطيلهم، ولم يعبأوا بمدها وجزرها، وساحوا بسفنهم المحيطين الهندي والهادي، وأصبح لهم دراية وخبرة في الملاحة، وإن أمة كان هذا شأنها، وكانت هذه درجتها لمن الطبيعي أن يظهر فيها من مهر في الملاحة وبرع في البحرية واطلع على أسرارهما ووقف على دقائقهما، ومن الطبيعي أيضا أن يظهر فيها من ألف المؤلفات العديدة، ووضع الكتب الكثيرة في علم البحار، ولا عجب إذن إذا كانت هذه المؤلفات وتلك الكتب منهلا نهل منه كثير من ملاحي الغرب، ولا عجب إذن إذا استعانوا بها في تسيير سفائنهم ورسم الخرائط والمصورات البحرية، وفي معرفة المواقع والمرافئ والخلجان. ومن هؤلاء الذين نبغوا في الملاحة ووقفوا على دخائلها وعرفوا أسرارها ابن ماجد الذي ظهر في القرن التاسع للهجرة؛ وهو شهاب الدين أحمد بن ماجد بن محمد بن معلق السعدي بن أبي الركائب النجدي، كان يلقب نفسه بشاعر القبلتين، وقد حج إلى الحرمين الشريفين ويعرف بسليل الأسود، وكان أبوه ومن قبله جده من الذين اشتهروا في الملاحة، حتى أن جده كتب رسالة في الملاحة في البحر الأحمر خدمة للسفن التي تقل الحجاج، ولقد زاد ابن ماجد على هذه الرسالة نتيجة اختباراته الشخصية. من هنا يظهر أن ابن ماجد منحدر من عائلة اشتهرت بالشئون البحرية والاعتناء بالملاحة، فلا غرابة إذا نبغ هو في ذلك، ولا عجب أيضا إذا فاق أجداده في هذا كله. وقد اعترف بعض المنصفين من علماء الإفرنج بفضل العرب (وخصوصا ابن ماجد) على الملاحة البرتغالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر للميلاد. وقد قال الأستاذ فران الفرنسي إن الفضل في تفوق الملاحة البرتغالية يعود إلى العرب والأستاذ فران هذا هو الذي ترجم كثيرا من مؤلفات ابن ماجد وقد علق عليها، وقد صدرها بعنوان (مؤلفات ابن ماجد الملقب بأسد البحر الهائج ربان فاسكو دي غاما الذي طاف حول الأرض.) وثبت لبعض علماء أوربا أن فاسكو دي غاما استعان بابن ماجد في تسيير أسطوله حول الأرض من مالندى على ساحل أفريقيا الشرقية إلى قاليقوت في الهند. ووضع ابن ماجد مؤلفات عديدة ورسائل كثيرو في علم البحار وكيفية تسيير السفن، هي من الأهمية العلمية والتاريخية بمكان عظيم. ومن مؤلفاته القيمة المعروفة كتاب اقتناه المجمع العلمي العربي بدمشق وهو موجود الآن في دار الكتب العربية الظاهرية. واسم هذا الكتاب (كتاب الفوائد في معرفة علم البحر والقواعد)، وقد
كتب عنه المرحوم العلامة الشيخ سعيد الكرمي في الجزء الثاني من المجلد الأول من مجلة المجمع مقالا جاء فيه: (والكتاب عبارة عن مائتي صفحة كل صفحة 23 سطرا يتضمن معرفة سير السفن في البحر بمعرفة منازل القمر ومهب الرياح ومعرفة القبلة. . .) ونجد في هذا الكتاب كيفية الاستدلال بمنازل القمر والروج على البلاد التي يقصدها المسافر، ويتبين منه أيضا أن المؤلف اتخذ بنات نعش وسهبلاً والناقة والحمارين والعيوق والعقرب والنسر الواقع والأكليل والسماكين والتير من جملة الأدلة التي تساعد المسافرين في الأسفار، وقال إنه علم ذلك بالاختبار، واعترف بأن ثلاثة من مشاهير الربابين سبقوه إلى ذلك، وأن الفرق بينه وبينهم (أن ما ذكره هو صحيح مجرب، وما ذكره أولئك ليس على التجريب منه شيء. . . .) ويوجد أيضاً في هذا الكتاب عرض بعض الثغور على الأقيانوس الهندي والبحر الصيني وشكل البرور ومراسي ساحل الهند الغربية والجزر العشر الكبرى المشهورة، وفيه وصف تفصيلي للبحر الأحمر بما فيه مراسيه وأعماقه وصخوره الظاهرة والخفية، وفيه أيضا بعض أسعار تتعلق بالملاحة والبحار، ويتبين من قراءة بعضها أنه كان معجبا بنفسه وبما استنبطه في علم الملاحة إذ قال:
يفوتك غفلة نظمي ونثري
…
وتزعم أن ليلك ذو نهار
فوالحرمين لم تظفر بعلم
…
يسرك في البحار وفي البراري
إذا ما الراميات رمتك فاعلق
…
بتصنيفي وحكمي في المجاري
ويجد القارئ في هذا الكتاب بعض أشعار تعلي من شأن العلم وتحببه للناس ويقول ناظمها إن طالبه والساعي إليه يزداد رفعة، وإن الذي لا يسعى إليه ولا يهمه منه شيء يورثه الله الذل والهوان. . .
العلم لا يعرف مقداره
…
إلا ذوو الإحسان عند الكمال
من ناله منهم ترقى به
…
ما بين أعيان الملا واستطال
ومن تراخى عنه هوناً به
…
أحوجه الله لذل السؤال
فذاك بين العلي أخرس
…
أقعده الجهل بصف النعال
ولابن ماجد رسائل عديدة أكثرها منظوم رجزا كرسالة (حاوية الاختصار في علم البحار) ففيها بحث عن العلامات التي يجب على الربابين معرفتها استدلالا على قرب البر وعن
منازل القمر ومهاب الرياح وعن السنة الهجرية والرومية والقبطية والفارسية وعن طريق السفن على ساحل العربية والحجاز وسيام وشبه جزيرة ملقا وأطراف بلاد الزنوج وعلى سواحل الهند الغربية، وسواحل القرومندل والناط والبنغال وسيام حتى جزيرة بليطون وجاوة والصين وفرموزة، وعن سير السفن على سواحل جزر جاوه وسومطرة والغال ومدغشكر واليمن والحبش والصومال وجنوبي العربية والمقران، وعن المسافات بين الثغور العربية والثغور الهندية، وعن عرض الثغور على البحر الهندي. وله أيضا رسالة (المعرية) وفيها بحث عن الخليج البربري، ورسالة تبحث في معرفة القبلة في جميع الأقطار يقول في أولها:(لما رأيت الناس يميلون عن معرفة القبلة وليس لهم أصل علم يعرفونها به خصوصا في المدن اللواتي بقرب البحر وجزره التي يمر بها المسافر، نظمت هذه الأرجوزة وأقمتها بأوضح الأدلة وأساسها بأربعة وجوه: الوجه الأول بطول مكة المشرفة وعرضها وطول البلد الذي فيه الإنسان وعرضه، الوجه الثاني على الجدي، الوجه الثالث على بيت الإبرة، الوجه الرابع جهات الكعبة الأربع. . . .) وله أيضا أرجوزة بر العرب في خليج فارس، وأرجوزة السير في البحر على بنات نعش، وقصيدة تبحث في علم المجهولات في البحر والنجوم والبروج وأسمائها وأقطابها، وأرجوزة في بيان بر الهند والعرب؛ وله أيضاً قصائد أخرى بعضها يبحث في معرفة الجهات من الشعري والنسري ومن سهيل والسماكين، وله أراجيز غير التي مر ذكرها تتضمن ذكر المراسي على ساحل الهندي الغربية، وعلى ساحل العربية، وتبحث في فائدة بعض النجوم الشمالية في سير السفن، ويذكر فيها أيضا بعض الكواكب المفيدة للملاحة، ومنها ما يبحث في الطرق البحرية من جدة إلى جنوبي بلاد العرب فبعض بلدان وسواحل أخرى، ومنها ما يبحث عن الصخور البحرية والأعماق وعلامات البر وعن الحيوانات التي تعيش في الماء كالضفادع والأسماك والحيتان، وعن علم الفلك والملاحة. . . الخ.
هذه بعض مؤلفات ورسائل ابن ماجد أتينا على ذكرها ليتبن للقارئ الكريم أنه وجد في الأمة العربية من برع في الملاحة ومهر في تسيير السفن ومن ألف في ذلك المؤلفات القيمة والرسائل الطريفة. ومن الغريب أن يجد المرء في هذه المؤلفات وتلك الرسائل ابتكارات ونظريات في علم البحار ما كنت لتخطر على بال المتقدمين، وقد يعجب البعض إذا قيل له
إن أكثر هذه المؤلفات ضاع وراح ضحية الإهمال وعدم الاعتناء وأن الموجود منها (وهو القليل) الذي عثر عليه بعض المنقبين والباحثين من الفرنجة بقي سنين عديدة المرجح الوحيد الذي يرجع إليه الملاحون في أوروبا. ولقد بقيت القواعد التي وضعها ابن ماجد من القرن الخامس عشر للميلاد إلى منتصف القرن التاسع عشر منهلا عاما لملاحي الشرق والغرب. وذكر برتن الإنجليزي أن بحارة عدن في سنة 1854 كانوا قبل السفر يتلون الفاتحة إكراما لابن ماجد مخترع الإبرة المغناطيسية. ومما لا ريب فيه أن نسبة اختراع بيت الإبرة إلى ابن ماجد خطأ وليس فيه شيء من صحة، فقد ثبت لدى العلماء والباحثين أن استعمال الإبرة كان معروفا في أواخر القرن التاسع للهجرة أو الخامس عشر للميلاد، فالقول بأنه هو مخترع الإبرة غلط، وقد تكون النسبة آتية من مهارته في تسير السفن وبراعته في فن الملاحة ووقوفه على أصول الإبرة وكيفية استعمالها وفهمه المبادئ المنطوي عليها عملها وتأليفه الرسائل فيها.
ولقد ظهر في الأمة العربية كثيرون أمثال ابن ماجد من الذين أتقنوا الملاحة وتسيير السفن وعرفوا عنها شيئا كثيرا، وظهر فيها أيضا من ألف في ذلكالتأليف القيمة التي بقيت قرونا عديدة منبعا يستقي منه الأوربيون، وقد عرفوا كيف يستفيدون منها ويستغلون محتوياتها لما يعود عليهم بالتقدم والرقي، ولو جئنا نعددهم ونذكر خصائص كل منهم لطال بنا المطال، ولخرجنا عن موضوع هذا المقال، ولكنا نكتفي بسرد بعض الربانين والملاحين الذين قطعوا أشواطا بعيدة في علوم البحار وفي وضع الكتب الممتعة عن ذلك. من هؤلاء محمد بن شاذان وسهيل بن أبان وليث بن كهلان وسليمان المهري وعبد العزيز بن أحمد المغربي وموسى القندراني وميمون بن خليل وغيرهم. . .
. . . . . هذه ترجمة موجزة لملاح عربي مهر في الملاحة ونبغ في التأليف وترك آثارا جليلة كانت خير معين للذين أتوا بعده من رباني الشرق والغرب، إذ كانت لهم حلولا لألغاز علم البحار ومفتاحا للاطلاع على أسراره والوقف على دقائقه. ولا ندعي أننا في هذا المقال قمنا بشيء من الواجب نحو ابن ماجد فقد قام بواجبه غيرنا من الفرنجة وقد عرفوا قدره أكثر منا ولم نكن نحن في هذا المقال إلا عالة على بحثوهم ونتاج قرائحهم، وجل قصدنا من هذه الترجمة أن تثير في بعض الذين يعنون بالتاريخ الإسلامي اهتماما يجعلهم يوجهون
بعض عنايتهم لناحية الملاحة عند العرب لينفضوا عنها غبار الإهمال ويظهروها على حقيقتها واضحة جلية لا تشوبها غموض، إذ الوقوف على هذه النواحي والتعرف على مآثر السلف في العلوم والآداب والفنون والاطلاع على سير رجالهم وما أدوه من جليل الخدمات للحضارة يخلق في النشء العربي روح الاقتداء بهم وروح اقتفاء آثارهم، وما يذكي فيهم الشهامة وحب ركوب المخاطر، وإن في هذا كله ما يخلق أيضا روح الإقدام وروح المغامرة، وهذا هو الذي يوصلهم إلى ما يصبون إليه من عز لأمتهم ورفعة لقوميتهم وإعلاء لشأن حضارتهم.
نابلس
قدري حافظ طوقان
كتاب حياة محمد
تأليف الدكتور محمد حسين هيكل
بقلم الأستاذ م. ف. ا
حل العام الهجري الجديد، ونرجو أن يكون حلوله مباركاً على العالم أجمع، وأن يشمل العالم من نعمة دين الهجرة في العام الجديد أكثر مما ناله في العام المنصرم. إذا تطلب الإنسان مثلاً على في الحياة تطلع إلى دين محمد، وإذا تطلب الطمأنينة لجأ إلى كنف دين محمد، وإذا اشتدت به الحياة المادية جنح إلى روحانية دين محمد، فأي شيء أشهى إلى النفس من أن تقرأ شيئا عن محمد في مستهل العام الهجري الجديد؟
هكذا قد قرأت كتاب الأستاذ المفضل الدكتور محمد حسين هيكل (حياة محمد) عند ميلاد هلال العام الجديد، فكانت بشرى، وكانت مسرة، وكانت عظة. والدكتور هيكل شاعر النفس، وإن لم يقل الشعر. لم يكن لي عهد بقراءة شعر له، حتى أعرف فيه هذه الصفة. غير أني قرأت له الكتاب، فإذا به في بعض نواحيه شعر يملأ النفس ويثير أشجانها. ولئن كانت كتب السيرة كثيرة، فإن كتاب الدكتور هيكل له ميزة على سائر السير بأنه قد انعكست فيه مشاعر الكاتب وخلجات نفس الإنسان، فإذا قرأه القارئ وجده يصور صورة حية تامة ناطقة في ثنايا ذكر الحوادث ووصف الحالات.
يبلغ الكاتب زيارة الرسول مع أمه آمنة. ثم عودتها منها وموتها في الطريق، فلم يشأ أن يذكر تلك الحادثة وحدها، بل لها صورة ظاهرة الألوان، حية تفيض عطفا وقوة فيقول: (فلما كانوا بالمدينة أرت الغلام البيت الذي مات أبوه فيه، والمكان الذي دفن به، فكان ذلك أول معنى لليتيم انطبع في نفس الصبي، ولعل أمه حدثته طويلا عن هذا الأب المحبوب الذي غادرها بعد مقامه معها أياما معدودة ليجيئه بين أخواله أجله.
ولما تم مكثهم بيثرب شهراً اعتزمت آمنة العودة، فركبت وركب من معها بعيريهما اللذين حملاهما إلى مكة، فلما كانوا في منتصف الطريق مرضت آمنة بالأبواء وماتت ودفنت بها، وعادت أم أيمن بالطفل إلى مكة منتحباً وحيداً يشعر بيتم ضاعفه عليه القدر فيزداد وحدة وألما. لقد كان منذ أيام يسمع من أمه أنات الألم لفقد أبيه وهو جنين ما يزال، وهاهو ذاقد رأى بعينيه أمه تذهب كما يذهب أبوه، وتدع جسمه الصغير يحمل هم اليتم كاملاً).
ولو شئنا أن نضاعف ضرب الأمثلة لضاق مجال الكلمة عن إيرادها، فالحق أن الكاتب قد أبرز في الكتاب عاطفة تكسو ما بين سطور السنين، وتحي جسد الحوادث إحياء
ولقد وفق الكاتب في معالجة السيرة مراعاة التناسب بين أجزائها، فكان يطيل الوقفة عندما يجمل به الوقوف عنده، وكان يمر سريعاً عندما يجمل الإسراع في ذكر الحادثة. ونذكر على سبيل التمثيل وقفتين له أحسن في التريث عليهما من الدلس: أعني مسألة إسماعيل ونسبة العرب إليه، ومسألة الغرانيق العلا. فأنه في الوقفة الأولى كشف عن تلك البدعة المضلة التي يقصد بها إلى التشكيك في أمر يكاد يكون من العقائد، فأبان عن الوهن في حجة المشككين إبانة لا تدع مجالاً للريب؛ وفي الوقفة الثانية عرض لحجج الخائضين فانتظمها جميعا في طعنة قاضية. ولست أستطيع أن أذكر شيئا من تلك الحجة، فإن المجال هنا لا يتسع لها ولا يصلح إيراد قطعة من حجة لا تكون مجزئة.
على أن وقفاته التي من هذا القبيل كثيرة، بل هي تتخلل الكتاب في كل الفصول وفي كل وجوه البحث.
غير أننا مع إعجابنا بالكتاب وأسلوبه، ونقده وطريقته، لا يسعنا إلا أن ننكر منه أشياء إلا تكن في صميمه فهي في حواشيه، نعني بذلك أولا عنايته بقول من قال السوء من أعداء الإسلام، فقد أورد من أقوال بعض الأفاكين من أهل الضلال والتضليل ما يجرح الأذن سماعه، على حين لم يكن ذكره في صميم الموضوع ولا في عرض الحجة. فأي شيء يجديه علينا ذكر سباب شنيع للرسول الكريم ورد على ألسنة بعض أهل الحقد والزيغ؟ ولقد قيل شيء من أمثال ذلك في أيام الجاهلية، فتعفف أهل السير عن إيراده، وخيراً ما فعلوه، فإن المؤمن إنما يتعرض لحجة خصمه، لا لسبابه ولا لفحشه، وما كان أغنانا أن نُسمع الناس بعض ما نز من قلوب هؤلاء الأنجاس.
وأمر آخر نذكره عرضاً وننبه إليه الأستاذ الكبير، وهو بعض ما سها فيه عند ذكر السنين، ولعل ذلك كان خطأ في الطبع أو المراجعة، وذلك مثل قوله في حوادث اليمن؛ وما كان فيها من الحرب في أيام جوستنيان أنها وقعت في القرن الخامس الميلادي والمقصود هو القرن السادس، لأن حكم جستنيان يقع فيما بين سنتي 527، 565 بعد الميلاد؛ وكذلك قوله بعد ذلك هذا النزاع الذي كانت اليمن مسرحه منذ القرن الرابع المسيحي، كما ننبهه إلى
قوله عند ذكر الأوس والخزرج إن الخزرج كانت على وشك أن تختار أحد زعمائها ملكاً وهو (عبد الله بن محمد)، يقصد به عبد الله بن أُبي.
ومن هذا القبيل قوله في فارس قبيل الإسلام (على أن فارس رغم انصراف شيرويه إلى مسراته كانت ما تزال في قمة مجدها). والحق لقد كانت إنما تتعلل بماض مجدها، على حين كانت نهب الفتن ومعترك الأطماع وميدان الخطط الحربية التي تدبرها جارتها الدولة الرومانية.
ولا يفوتنا أن ننبه إلى شيء من التجوز في سياق القول قد يؤدي إلى شيء من سوء الفهم، نعني ما جاء في وصف شباب الرسول وما مالت نفسه من لهو الشباب، فقد أورد المؤلف الخبر عن الرسول إذا كان صبياً تحدثه نفسه أن يلهو كما يلهو الشباب، فأفضى إلى زميله ذات مساء أنه يود أن يهبط إلى مكة يلهو ويعبث عبث الشباب في جنح الليل، وطلب لذلك إليه أن يقوم على حراسة أغنامه إلى آخر ما قال:
وذكر القصة على هذا النحو مخالف لما هو وارد في السير، لأنه قد يلقي في ذهن القارئ الخالي الذهن أن الرسول المعصوم قد كان في نفسه في شبابه ذلك الميل المضطرم إلى العبث واللهو. فليس في الأمر أكثر من أن الرسول عليه الصلاة والسلام طلب إلى زميله أن يحرس غنمه حتى ينزل إلى مكة ليسمر فيها كما يسمر الفتيان، فلما بلغ أعلى مكة سمع صوت غناء ومزامير، فسأل عنها فقيل له عرس فلان وفلانة، فعرج على العرس يلتمس السمر، ولكنه لم ينشط إلى ذلك الطرب، بل ضرب الله على أذنه فنام، وبذلك حفظه الله من أن يرد أقل موارد اللهو، إذ لقد كان قلبه منصرفاً منذ نشأ إلى الجليل وإلى الجد. ولا يخفى ما في إيراد القصة على الصورة الثانية من فرق عما في التصوير السالف. فالرسول عليه الصلاة والسلام منذ طفولته عظيم النفس لا يميل إلا إلى الوقار والجد. ولقد كان جده عبد المطلب يراه وهو صبي يجلس على البساط الذي يفرش له بجوار الكعبة، لا يجرؤ أحد على أن يقترب من كبير قريش إلا ذلك الصبي الصغير، فكان عبد المطلب يقول عنه في كثير من الإعجاب:(إنه يأنس ملكاً) ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في وصف حاله العامة: (لست من ددٍ ولا ددٌ مني) أي أنه كان لا يميل بطبعه إلى اللهو فلقد تنزه مقام الرسول عن أن تسول له نفسه الهبوط إلى مكة ليصيب من لهوها ويعبث فيها عبث
الشباب في جنح الليل؛ فلكم كان بمكة من فجور ما أبعد الرسول في صباه عن أن تحدثه نفسه بشيء منه، وما أبعد الفرق بين عبث الشباب ولهوه وبين السمر البريء الذي يسمر به الفتيان. ولقد وصف المؤلف في عرض حديثه حياة الجاهلية وعلاقة الرجل بالمرأة فيها، ونرى أنه في حكمه على تلك الحياة كان دائما يميل إلى أن يتخذ من الجزئيات أحكاماً كلية، ولم يكن في هذا مقتصرا على تعميمنوع واحد من الأحكام، بل كان أحيانا يعمم فضيلة لم تكن عامة، وأحياناً يعمم رذيلة لم تكن عامة. فقال مثلاً في موضع: أن العرب كانوا قبل الإسلام تجتمع فيهم (خلال الكرم والشجاعة والنجدة وحماية الجار والعفو عند المقدرة، وما إلى ذلك من خلال تقوى في النفس كلما قاربت حياة البادية الخ).
وهذه الخلال وإن كانت مثلاً عليا عند العرب لا يمكن أن يقال إنها كانت خلالاً عامة للعرب. وقال في موضع أخر: (إن صلات الرجل والمرأة في هذه الجماعة العربية لم تكن تعدو صلات الذكورة والأنوثة) وقال في موضع ثالث (وبلغ من أمر هذه الصلة - أي صلة الإباحة بين المرأة بالرجل - أن لم تأب هند زوج أبي سفيان أن تقول في أشد مواقف الجد والشدة وهي تحث قريشا حين الحرب يوم أحد:
(إن تقبلوا نعانق
…
ونفرش النمارق) الخ
وقال بعد ذلك: (ثم إن المرأة كانت إذا ولدت، ولم يعرف لمولودها أب، لم تأب أن تذر من لامسها من الرجال الخ).
وهذه القطع كلها فيها تعميم لا تبرره الوقائع، يدرك ذلك كل من ألم بتاريخ العرب، ولا يتسع المجال هنا لنقض مثل هذه العبارات العامة، وإنا نجتزئ بذكر كلمة صغيرة قالتها هند عندما جاءت لتسلم عند الفتح إذ قال لها النبي يعلمها قواعد الدين:(وألا تزني) فقالت (وهل تزني الحرة).
على أن المؤلف وهو يصف أحوال الجاهلية قد نسي فزاد التعميم حتى جعله يتناول عهد عمر بن أبي ربيعة، واستدل على ذلك بما يمكن أن نقرأ في شعره من دلائل علاقات المرأة بالرجل
فالحق أننا إذا خرجنا من الوقائع ومنطقها. ومن ذكر السيرة ومواقفها لم نجد في وصف الحالات الاجتماعية ما نستطيع الإعجاب به. فإن الدكتور قد درس السيرة، وأسبل المنطق
على مواقفها. ولكن الذي يتناول السيرة لا يكفيه مثل ذلك الدرس بل يجب أن يكون كذلك قد سبق له حظ عظيم من العلم بتاريخ العرب وأيامها وأحوالها كيما يكون في استطاعته أن يحسن الحكم على عاداتها، وأن يحسن تأويل أخبارها. ولعله قد أدرك أن قوله فيه هذه المبالغة فاتهم القارئ وقال (ربما بدا هذا التصوير للقارئ المعجب بالعرب وحضارتهم وللمعجب حتى بعرب الجاهلية، مشوبا بشيء من الغلو، وللقارئ العذر في ذلك) ولقد صدق المؤلف في هذا الاستدراك.
على أننا وإن أخذنا هذه المآخذ على الكتاب نرى أنه فتح جديد في التأليف الحديث، ونشكر للدكتور الفاضل والمؤلف النابه الهدية الثمينة التي أهداها إلى قراء العربية.
ضحى الإسلام
تأليف الأستاذ أحمد أمين
بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام
أخرج أستاذنا العلامة أحمد الأمين كتابه فجر الإسلام، وهو أحد أجزاء ثلاثة بهذا الاسم، تقسمت بينها تاريخ المسلمين الفكري والأدبي والسياسي في الصدر الأول
ثم تقدم أستاذنا ليبلغ بالبحث نهاية العصر العباسي الأول، فأخرج الجزء الأول من كتابه ضحى الإسلام عام أول، وامتد به البحث فأخرج الجزء الثاني هذا العام، ومضى ليخرج الجزء الثالث والجزء الرابع إن شاء الله
وقد تلقى الناس كتب الأستاذ بالقبول، وأفوه حقه من الثناء، ونالت الكتب من الذيوع والانتشار ما هي جديرة به، ولكن هذا الثناء لا يكفينا ولا يجدي علينا كثيرا. فهذه الكتب تتناول تاريخ الحضارة الإسلامية في أعظم نواحيها أثناء القرنين الأولين، وفيهما كان نشوء الحضارة الإسلامية ونمائها، واختلاف الآراء وتنازعها. ولم تدرس هذه الموضوعات على هذا النسق من قبل، فواجب على كتاب المسلمين، وكل من يعنى بتاريخ الحضارة الإسلامية أن يجعلوا من هذه الكتب مدار بحث ونقد، ويشتقوا منها أبحاثا تبلغ بهم الغاية أو تقاربها، وتكمل ما يكون في الكتاب من إيجاز. وفي ذلك معاونة المؤلف في عمله الشاق. فإنا إذا بحثنا فقلنا للمؤلف أصبت أو أخطأت وأدلينا بالحجة فقد أعناه على بلوغ غايته، وسررناه بالاهتمام بما اهتم به. علينا أن نتلقى هذه الكتب بالبحث المتصل وللنقد المخلص لله والحق، ونجعلها قطبا لطائفة من المناقشات حتى ننير، على قدر الطاقة، ما أظلم من جوانب الحضارة الإسلامية
وقد هممت منذ صدر الجزء الأول من ضحى الإسلام بالكتابة عنه ثم حالت حوائل حتى ظهر الجزء الثاني. ثم لم أفرغ للكتابة عنه في هذا العدد الممتاز من الرسالة، فبادرت بدعوة الناس إلى الكتابة واعدا أن أكتب في الأعداد الآتية ما يتيسر لي في ضحى الإسلام
وقد قلت في كلمتي القصيرة التي قلتها في حفلة تكريم أستاذنا العلامة أني وبعض أصحابي عزمنا أن نقرأ الكتاب ونكتب عنه في دار الأستاذ المؤلف ثم عرفت آسفا أن صفحات الرسالة أقرب إلينا من دار الأستاذ وأوسع فموعدنا الأعداد الآتية
أحاديث جدتي
تأليف الآنسة سهير القلماوي
بقلم الأستاذ محمود الخفيف
تناولت هذا الكتاب الظريف، فما وضعته حتى أتممت قراءته، ولكم تمنيت لو طالت تلك الأحاديث الرقيقة وما زخرت به من الصور الطلية، فشغلت من الصحائف أكثر مما ضمه بين دفتيه ذلك الكتاب، فإن إعجابي بها وشدة تأثري بأخيلتها الهادئة الساحرة قد جعلاني أشعر عند انتهائها بما كنت أشعر به ليالي الطفولة العذبة حين كانت تنتهي الحكاية الشيقة بغتة وأنا أكثر ما أكون استمتاعاً بها.
على أن الشيء الجميل إذا علق بالنفس فإنما هو مبعث سرور دائم، ولقد يتزايد ما يبعثه في النفس من الغبطة بعد أوانه. ذلك ما أحسه بعد قراءة هاتيك الأحاديث الجميلة، وهي سلسلة أحاديث دارت بين الكاتبة وجدتها تصف الحياة المنزلية والحياة الاجتماعية للجيل الذي سبق جيلنا؛ أثارتها الذكريات من نفس الجدة فتحدثت عن الحياة المنزلية، ثم أعاد إلى ذهنها استشهاد فتاها في الحرب ذكر الثورة العربية، فوصفتها معلقة عليها ثورة أفكارها وخواطرها، إلى أن عادت في نهاية الكتاب إلى وصف الحياة الزوجية وما كان يتخللها من عواطف في ذلك الجيل
استطاعت الكاتبة النابهة في غير تكلف أن تقدم بين يدي كتابها جوا خياليا لطيفا، يستهويك فيخيل إليك أنك تسمع ولست تقرأ، وكأنك تعيش في هذا المنزل وتراها تستمع إلى جدتها، وترى ما تصف لها من أماكن وأشخاص. نعم كأنك ترى عائشة لا تعرف كيف تلبس البرقع فتضحك صاحباتها، وكأنك ترى الشيطان يقطع عليها صلاتها بطرطوره الأحمر، وكأنك ترى إسماعيل معلقا في العمود، وصباح تهش عنه البعوض متألمة باكية، بل لكأنك أنت الذي تحس لذعات البعوض، ثم كأنك ترى الحمام وتسمع ما ينبعث منه من أصوات، وكأنك ترى غير هذا من المناظر المؤلمة، فترى الجيش المحتل يخترق شوارع القاهرة، وترى الجدة تأخذ سكين المطبخ تدفع بها كيد الضابط الذي يطرق الباب، وكأنك ترى مذبحة الدراويش في أحراج الأبيض، إلى غير ذلك من المواقف القوية المثيرة.
وتحت تأثير ذلك الخيال توحي إليك (سهير) أحاديث الوفاء والوطنية والبطولة، وتعرض
عليك طرفا من انتقادها وآرائها الصائبة عن حياتنا الاجتماعية بين الماضي والحاضر. وإن أنس من شيء فلست أنسى أبدا ما كان من نبل أنجاس وزوجها، وما بعثه موقفها في قلبي من غبطة وما أثار من عاطفة، ولكن مالي أذكر فصلا بعينه والكتاب كله حديث لا ينسى؟
وإنك لتجد في لأسلوب الكتاب ناحية من نواحي جماله، إذ لا يسعك حين تتذوق تلك السهولة العذبة إلا أن تعترف بما لهذا الأسلوب الرائق من أثر قوي في تحبيب الكتاب إلى نفسك.
لقد آن لنا أن نتجه إلى الأدب الإنشائي الخالد، وننصرف عما أسرفنا فيه من أدب وصفي لا يمت إلى الحياة بصلة قوية، نعم آن لنا أن نخلص من أدب المقالة، ونتجه إلى القصة، آن لنا أن نرفع المرآة لتنعكس فيها طبائعنا وحياتنا؛ وإني لأقرر هنا مع مزيد من الغبطة أن هذه الأحاديث التي أقدمها إلى القراء من البواكير الطيبة في هذه الناحية التي نتوق إليها، وأدعو فتياننا وفتياتنا إلى الاستئناس بتلك الروح اللطيفة، والاستمتاع بذلك النموذج الصادق، فيما ينشدون من نهوض، أو يتوخون من لذة. هذا وإني أقدم إلى الكاتبة النابهة ثنائي وإعجابي.
الخفيف