الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة النور
(من آية 58 – 61)
(أحكام الاستئذان -والقواعد من النساء -والأكل من بيوت الأقارب)
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه:
قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قال العلماء: هذه الآية خاصة، والتي قبلها عامة؛ لأنه قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [(27) سورة النور].
هذه الآية عامة في جميع من يتجه إليه الخطاب، يمكن أن يوجه إليه من الذكور والإناث، والأحرار والأرقاء، وهذه الآية التي معنا خاصة باستئذان ملك اليمين، والخطاب موجه للرجال والنساء خلافاً لمن قال أنه للرجال؛ لأن (الذين) موصول للذكور لكن الخطاب للرجال يدخل فيه خطاب النساء، خلافاً لمن يقول أن الخطاب خاص بالنساء؛ لأن (الذين) لم يوضع للنساء إنما يدخل فيه النساء تبعاً للرجال وإلا فالأصل أنه للرجال، فمن أهل العلم من يقول: أن المخاطب بهذه الآية النساء دون الرجال، فلا بد من استئذان ملك اليمين على سيدته، والآية الأصل فيها أنها للرجال، وعرف من جميع نصوص الشرع -إلا ما دل الدليل على تخصيصه- أنه إذا وجه الخطاب للرجال دخل فيه النساء.
ثم خص هنا فقال: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
اللام هنا لام الأمر، فالاستئذان هنا لا بد منه؛ لأنه مأمورون به، ففي هذه الأوقات الثلاثة لا بد من الاستئذان، وهذا حينما كان الناس جارين على سنن السنة الإلهية في كون الليل سكن والنهار معاش، بمعنى أنه في العصر مثلاً لا يحتاج إلى استئذان؛ لأنه وقت المعاش، والناس مستيقظون ومنتبهون أو الضحى مثلاً، يدخل الساعة تسع وعشر ما في حاجة للاستئذان؛ لأن الناس مستيقظون، وكان هذا قبل أن توجد الأبواب والأغلاق التي يلزم من خلالها قرع هذه الأبواب وطرقها من أجل أن يعلم من في البيت من الداخل، أما بعد وجود هذه الأبواب فلا بد من الاستئذان على كل حال، لكن لما لم تكن الأبواب موجودة والأغلاق إنما هي مجرد ستور يمكن أن يدخل من غير استئذان ففي غير الأوقات الثلاثة لا داعي للاستئذان حينما كان الناس جارين على السنة الإلهية في كون النهار معاش والليل سكن، ووقت القيلولة معروفة –أوقات النوم معروفة- لكن الآن اضطربت أحوال الناس ولو قيل: أنه يستأذن في الضحى وأن الاستئذان في هذا الوقت أهم من الاستئذان في الليل؛ لأن الناس في الليل مستيقظون، أما في النهار فلا شك أن الساعة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة أحياناً في بعض البيوت مثل نصف الليل فيما تقدم؛ لأن الناس قلبوا هذه الفطرة وهذه السنة الإلهية.
فخص في هذه الآية بعض المستأذنين، وكذلك أيضاً يتأول القول في الأولى في جميع الأوقات عموماً، وخص في هذه الآية بعض الأوقات فلا يدخل فيها عبد ولا أمة، وغداً كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان.
يعني وغداً لا يفهم شيئاً، لا يفهم ولم يطلع على العورات، ولا ذا منظر يعني صاحب نظر في النساء بحيث يفهم، أو مطلع على العورات سواء كانت بالنسبة للرجال أو النساء.
قال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد دخل عليها غلام لها كبير فاشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه الآية، وقيل: سبب نزولها دخول مدلج على عمر، وسيأتي.
الثانية: اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} على ستة أقوال:
الأول: أنها منسوخة، قاله ابن المسيب وابن جبير.
الثاني: أنها ندب غير واجبة، قاله أبو قلابة، قال: إنما أمروا بهذا نظراً لهم.
نظراً لهم ورعايةً لمصالحهم، وما كان من هذا الباب فإنه لا يصل إلى حد الوجوب عند بعضهم، لكن المقرر عند أهل العلم أن الأمر الأصل فيه الوجوب، واللام لام الأمر، فلا محيد عن القول بوجوبه.
الثالث: عنى بها النساء، قاله أبو عبد الرحمن السلمي.
نعم، وهذا مردود حقيقة، يعني به النساء؛ لأن (الذين) إنما وضعت في الأصل للذكور لا للنساء.
وقال ابن عمر: هي في الرجال دون النساء، وهو القول الرابع.
الخامس: كان ذلك واجباً إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس.
يعني هل هو حكم معلق بعلةٍ يدور معها وجوداً وعدماً؟ أو هو حكم سابق رُفع بحكمٍ متأخر، بمعنى أنه لا يعود ولو عادت العلة؟ يعني فرق بين قولنا: أنه منسوخ وبين قولنا: أنه كان واجباً إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب ولو عاد الحال لعاد الوجوب، على القول الأول أنه لا يعود هذا الحكم إطلاقاً، خلاص رفع الحكم، رفع حكم المنسوخ بالناسخ، وعلى القول الخامس: يدور مع علته، إذا ألغيت الأبواب واكتفى الناس بالستور عاد الحكم وإلا لا داعي له مع وجود هذه الأبواب.
السادس: أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم القاسم وجابر بن زيد والشعبي، وأضعفها قول السلمي؛ لأن {الَّذِينَ} لا يكون للنساء في كلام العرب ..
قول أبي عبد الرحمن السلمي أنها خاصة بالنساء، وهو القول الثالث الذي تقدم.
لأن {الَّذِينَ} لا يكون للنساء في كلام العرب ..
يعني على سبيل الاستقلال، أما دخولهن تبعاً للرجال في (الذين) فهذا مطّرد.
إنما يكون للنساء (اللاتي واللواتي)، وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر؛ لأن {الَّذِينَ} للرجال في كلام العرب، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل، والكلام على ظاهره غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم.
وضعفه معروف مقرر عند أهل العلم، وهو من الطبقة الدنيا بالنسبة لمسلم الذين قد يحتاج إليهم عند فقد أحاديث الطبقات العليا ينتقي من أحاديثهم.
وأما قول ابن عباس فروى أبو داود عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: آية لم يؤمر بها أكثر الناس، آية الاستئذان وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن عليّ.
يعني لم يؤمر بها من ليس عنده ملك يمين، لا يتجه أمره بها {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} لأن الإذن أو الاستئذان مربوط بملك اليمين، (ملكت أيمانكم) فالذي ليس عنده ملك يمين لا خادم ولا خادمة، يعني لا عبد ولا أمة ما يحتاجون يستأذنون، ما يتجه إليهم الخطاب في هذا.
قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به، وروى عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس كيف ترى ..
هنا آية لم يؤمر بها أكثر الناس، والرواية الثانية: يأمر به أكثر الناس.
وروى عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد قوله الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم} [(58) سورة النور] قال أبو داود: قرأ القعنبي إلى: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، أمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد.
وهذا ماشي على القول الخامس، وأن الاستئذان كان واجباً، إذ كانوا لا غلاق لهم ولا أبواب، ما في إلا ستور، لكن لما وجدت الأبواب والأغلاق، الأبواب توصد وترتج فحينئذٍ لا بد من طرق هذه الأبواب.
قلت: هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير، فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية.
وعرفنا القول بين القولين، الأول والخامس.
وعلى أنها كانت على حالٍ ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها.
لأنهم لا غلاق لهم ولا أبواب، يعني بيوت من الشعر أو من المدر يتجاوزون ويتسمحون فيها كبيوت بعض القرى والأرياف والبوادي في الصحاري فلا يوجد لهم أبواب محكمة تمنع من الدخول.
وروى وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [(58) سورة النور] قال: ليست بمنسوخة، قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله عز وجل المستعان.
نعم لو أجمع الناس واتفق أهل العلم على عدم العمل بها لقلنا: أنها منسوخة، ودل الإجماع على وجود نسخ ولو لم نطلع عليه.
الثالثة: قال بعض أهل العلم: إن الاستئذان ثلاثاً مأخوذ من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [(58) سورة النور] قال: يريد ثلاث دفعات.
في ثلاثة أوقات، ثلاث مرات يعني في ثلاثة أوقات، أما الاستئذان ثلاثاً فمأخوذ من السنة الصحيحة، كان إذا استأذن استأذن ثلاثاً، فإذا استأذن أحدكم فليقل: السلام عليكم أأدخل؟ ثلاثاً، المقصود أن الاستئذان ثلاثاً مأخوذ من السنة، وهنا الاستئذان في ثلاثة أوقات.
طالب: ما تكون السنة تفسير للآية؟
السنة الاستئذان ثلاث غير الوارد في الآية، الآية ثلاثة أوقات، منصوص عليها في الآية وكل وقت من هذه الثلاث يحتاج إلى استئذان ثلاث مرات، هذا الذي تفسيره السنة، أما مجمل الأوقات الثلاثة فلا دلالة للحديث عليها.
قال: فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجميع، قال ابن عبد البر: ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها، والذي عليه جمهورهم في قوله:{ثلاث مَرَّاتٍ} أي في ثلاث أوقات، ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها:{مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} [(58) سورة النور].
الرابعة: أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها.
يعني ظهروا واطلعوا على عورات النساء ويمكن أن يصفوها لغيرهم فمثل هؤلاء يمنعون ويحجبون لا بد من الاستئذان.
يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة.
لأنها وقت النوم والراحة، والعادة جرت بأن هذه الأوقات هي أوقات النوم، والناس يتخففون من الملابس فيها وينامون بالشيء الخفيف، فقد يطلع على شيءٍ من عوراتهم.
وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري، فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار، ووقت القائلة وقت التجرد أيضاً وهي الظهيرة؛ لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره، وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم، فالتكشف غالب في هذه الأوقات.
يُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له: مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه فوجده نائماً قد أغلق عليه الباب فدق عليه الغلام الباب فناداه، ودخل فاستيقظ عمر وجلس، فانكشف منه شيء، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت فخر ساجداً شكراً لله، وهي مكية.
مخرج؟
طالب: قال: ذكره الواحدي عن ابن عباس بدون إسناد فلا حجة فيه.
فقط؟ إذاً قال هنا: يُروى أن رسول الله، مع أنه لا يفرق بين الصيغ، المؤلف رحمه الله لا يفرق، قد يأتي بحديثٍ في الصحيحين ويقول فيه: يروى، لا يراعي الاصطلاح في مثل هذا.
طالب: المعلق قال: السورة مدنية بإجماع كما نقل القرطبي في أولها فلا أدري ما وجه قوله: وهي مكية؟
طالب آخر: الغلام أنصاري فكيف يقول: السورة مكية؟
مدلج؟
طالب: هذا يدل أنها مدنية.
هي السورة مدنية، لكن الخبر فيه ما فيه، الخبر لا يعتمد عليه، وموافقات عمر معروفة، موافقات عمر أكثر من عشرين.
الخامسة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ} أي الذين لم يحتلموا من أحراركم قاله مجاهد، وذكر إسماعيل بن إسحاق كان يقول: ليستأذنكم ..
إسماعيل بن إسحاق القاضي.
وذكر إسماعيلَ بن إسحاق كان يقول: ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم على التقديم والتأخير، وأن الآية في الإماء، وقرأ الجمهور بضم اللام وسكنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة، وكان أبو عمرو يستحسنها و {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} نصب على الظرف؛ لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثاً، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، والظرفية في {ثَلَاثَ} بينة.
{مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} وقد مضى معناه، ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت، {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} قرأ جمهور السبعة {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} برفع {ثَلَاثُ} وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {ثَلَاثَ} بالنصب على البدل من الظرف في قوله:{ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود، وقال الفراء: الرفع أحب إلي، قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى: هذه الخصال ثلاث عورات، والرفع عند الكسائي بالابتداء والخبر عنده ما بعده، ولم يقل بالعائد، وقال نصاً بالابتداء، قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة إلا أنه قرأ بالنصب، والنصب فيه قولان: أحدهما: أنه مردود على قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} ولهذا استبعده الفراء، وقال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
و {عَوْرَاتٍ} جمع عورة، وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات (بفتح العين) كجفنة وجفنات ونحو ذلك، وسكَّنوا العين في المعتل كبيضةٍ وبيضات؛ لأن فتحه داعٍ إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك، فأما قول الشاعر:
أبو بيضات رائح متأوب
…
رفيق بمسح المنكبين سبوحُ
فشاذ.
لأن فتحه داعٍ إلى اعتلاله، ما معنى هذا؟. . . . . . . . . هنا يقول: وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات، هنا قال:{عَوْرَاتٍ} ما قال: عوَرات، أن يجيء على فعلات كجفنةٍ وجفنات، وسكّنوا العين في المعتل كبيضةٍ وبيضات مثل: عورة وعوْرات؛ لأن فتحه داعٍ إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك؛ لأنه تنطبق عليه القاعدة، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، تصير (عارات) ما تصير (عورات)؛ لأنه لو فتحت الواو في الصحيح تفتح، لكن في المعتل ما تفتح؛ لأنه يلزم قلبها ألف، لو قلنا تحركت الواو، القاعدة أنها إذا تحركت الواو وانفتح ما قبلها تقلب ألفاً، وهم أحياناً ولو لم تنفتح الواو يتوهمون انفتاحها إذا أرادوا قلبها، فمثلاً: إقامة وإجازة، القاف الأصل: إقوامة، وإجوازة، يقول: تحركت الواو وتوهّم انفتاح ما قبلها فقلبت ألفاً، وهنا سكّنوها لئلا تنقلب، لماذا؟ لأنهم يمشون على السماع، ما سمع (عارات) من أجل أن يقال: تحركت الواو فتحمل ما قبلها فقلبت ألفاً.
السادسة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي في الدخول من غير أن يستأذنوا.
خطوة وخطُوات، تقلب هنا ألف وإلا ما تقلب؟ لأن بعضهم أجمعوا على (خطَوات)؟ الواو متحركة، وخطَوات على هذا الجمع على القائل تقلب الواو ألف، لكن الذي تلاه في الأمثال، ألف مع ألف لا يمكن النطق بها فلا تقلب، وأيضاً الجمع الصحيح (خطُوات).
السادسة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي في الدخول من غير أن يستأذنوا، وإن كنتم متبذلين، {طَوَّافُونَ} بمعنى: هم طوافون، قال الفراء: كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم وأجاز الفراء نصب طوافين؛ لأنه نكرة والمضمر في {عَلَيْكُمْ} معرفة، ولا يجوز البصريون أن يكون حالاً من المضمرين اللذين في {عَلَيْكُمْ} وفي {بَعْضُكُمْ} لاختلاف العاملين، ولا يجوز مررت بزيد ونزلت على عمرو العاقلين على النعت لهما فمعنى {طَوَّافُونَ عَلَيْكُم} أي: يطوفون عليكم وتطوفون عليهم، ومنه الحديث في الهرة:((إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات)) فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا؛ لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه، ومنه قوله:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [(13) سورة الأحزاب] أي سهلة للمدخل، فبيَّن العلة الموجبة للإذن وهي الخلوة في حال العورة، فتعين امتثاله، وتعذر نسخه.
لأن العلة قائمة، ما دامت العلة قائمةً فلا نسخ، إذا كانت العلة قائمة فلا نسخ.
ثم رفع الجناح بقوله: ..
يعني بعض الناس الآن يشاهد من بعض الناس أنهم إذا بنوا البيوت وجعلوا الأبواب من زجاج، بحيث يُرى من ورائها، فهل نقول أن هذا في حكم الستور لا في حكم الأبواب؟ أو نقول: هذه أبواب تغلق لا يمكن الولوج من ورائها، وكونهم يضعونها بهذه الطريقة لا شك أنه تفريط كغيره من أنواع التساهل، يعني يفترض أن هذا الشخص وضع باباً ثم استأذن الداخل ثم بعد ذلك النساء ما احتجبن عن الداخل، هذا تفريط من صاحب البيت وقل مثل هذا في الباب الذي يكشف ما وراءه، هذا تفريط ولا يؤخذ حكم الستور الذي لا تمنع من أراد الدخول؛ لأن هذه تمنع من أراد الدخول.
ثم رفع الجناح بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي يطوف بعضكم على بعض. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الكاف في موضع نصب: أي يبين الله لكم آياته الدالة على متعبداته بياناً مثل ما يبيّن لكم هذه الأشياء، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تقدم.
السابعة: قوله تعالى: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} يريد العتمة، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل)) وفي رواية: ((فإنها في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل)) وفي البخاري عن أبي برزة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء، وقال أنس: أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وهذا يدل على العشاء الأولى، وفي الصحيح:(فصلاها) -يعني العصر- بين العشاءين المغرب والعشاء، وفي الموطأ وغيره:((ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً)).
فدل على أن النهي في الأحاديث السابقة للكراهة، والصارف ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام:((لو يعلمون ما في العتمة)) والمقصود بها العشاء، ولو كان النهي التحريم لما قاله عليه الصلاة والسلام.
وفي مسلم عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات نحواً من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئاً، وكان يخف الصلاة، قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذه أخبار متعارضة لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ، ونهيه عليه السلام عن تسمية المغرب عشاء، وعن تسمية العشاء عتمة ثابت، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلاً عمن عداهم، وقد كان ابن عمر يقول: من قال: صلاة العتمة فقد أثم، وقال ابن القاسم قال مالك:{وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} فالله سماها صلاة العشاء، فأحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمى بما سماها الله تعالى به، ويعلمها الإنسان أهله وولده، ولا يقال: عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم.
من لا يفهم الاصطلاح الشرعي، الذي لا يفهم الاصطلاح الشرعي وإنما يفهم الاصطلاح العرفي الذي درجوا عليه وهكذا عوام المسلمين يخاطبون بأعرافهم وعاداتهم التي جروا عليها، فإذا درجوا على تسمية شيء لا يعدل بهم عنه إلا بعد إفهامهم الاصطلاح الشرعي.
أما لو قلت لشخص: أعطِ زكاتك، ابحث عن شخص محروم وأعطه زكاتك فإنه أفضل من السائل، ثم يذهب إلى شخصٍ عنده الأرصدة في البنوك لكنه لا ينفق منها، يقول: هذا المحروم في عرفنا؟ يخاطب في عرفه وإلا بالعرف بالشرعي؟ لا بد أن يبيّن له العرف الشرعي والاصطلاح الشرعي، وحينئذٍ يقال له: لا تعط المحروم، والله -جل وعلا- يقول:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [(24 - 25) سورة المعارج] فأنت نهيت عمّن أمر الله بإعطائه مراعاة لاصطلاح هذا العامي الذي لا يعرف الحقيقة الشرعية، وإنما يعرف الحقيقة العرفية؛ لأنك لو قلت له: أعطِ المحروم وهو أفضل من السائل لذهب إلى شخص يملك الملايين والأرصدة الطائلة في البنوك لكنه مقتر على نفسه وعلى من يمون ويقول: هذا المحروم، صحيح هذا المحروم في عرف الناس لكن ليس هذا هو المقصود في الآية، فلا بد من ملاحظة هذا لا سيما عند مخاطبة من لا يفهم، لا بد من إفهامه.
وقد قال حسان:
وكانت لا يزال بها أنيس
…
خلال مروجها نعم وشاءُ
فدع هذا ولكن من لطيف
…
يؤرقني إذا ذهب العشاءُ
وقد قيل: إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة إنما كان لئلا يعدل بهما عما سماها الله تعالى في كتابه إذ قال: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} .
بمعنى أنه لا يطغى الاسم الأعرابي على الاسم الشرعي، لا يطغى بحيث لا تعرف إلا بهذا –العتمة- ولهذا جاء في الحديث:((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم)) بمعنى أنكم تنسوا الاسم الشرعي، لا أنه لا يجوز أن يطلق بالكلية، وإنما لا يغلب عليه هذا الاسم بحيث تُنسى التسمية الشرعية.
فكأنه نهي إرشاد إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز، ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما-وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيهاً لهذه العبادة الشريفة الدينية على أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلةٍ دنيوية وهي الحلبة التي كانوا يحتلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة، ويشهد لهذا قوله:((فإنها تعتم بحلاب الإبل)).
الثامنة: روى ابن ماجة في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((من صلى في جماعةٍ أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عتقاً من النار)).
حديث ابن ماجة ماذا قال عنه؟
طالب: قال: أخرجه ابن ماجة من حديث أنس عن عمر مرفوعاً، وقال البصيري: فيه إرسال وضعف، قال الترمذي والدارقطني: لم يدرك عمارةً أنساً ولم يلقه، وإسماعيل بن عياش كان يدلس. انتهى كلامه، وأخرجه الترمذي من حديث أنس مع اختلافٍ يسير فيه وصوب وقفه، وقال الألباني في ضعيف ابن ماجة: هو حسن دون قوله: ((لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء)) وانظر الصحيحة والضعيفة.
وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)).
وروى الدارقطني في سننه عن سبيع أو تبيع عن كعب قال: من توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة، وصلى بعدها أربع ركعات فأتمَّ ركوعهن وسجودهن ويعلم ما يقترئ فيهن كنّ له بمنزلة ليلة القدر.
ما يقترئ يعني يقرأ، يعلم ما يقترئ يعني يعلم ما يقرأ، ينتبه لما يقرأ ويتدبر ما يقرأ، لا أنه يقرأ شيئاً لا يدري ما يقول، ولا يتدبر ما في كلام الله.
قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [(59) سورة النور].
قرأ الحسن {الحلْم} فحذف الضمة لثقلها والمعنى: أن الأطفال أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة، وأبيح لهم الأمر في غير ذلك كما ذكرنا، ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت، وهذا بيان من الله عز وجل لأحكامه، وإيضاح حلاله وحرامه. وقال:{فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ولم يقل فليستأذنوكم، وقال في الأولى:{لِيَسْتَأْذِنكُمُ} لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين، وقال ابن جريج: قلت لعطاء {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} .
يعني الأطفال غير مخاطبين ولذا لم يوجه لهم الخطاب، ما قيل: يا أيها الأطفال استأذنوا، وجه لمن يعقل الخطاب، ولمن يمتثل الخطاب، ولم يلتزم بالخطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهذا أمر للذين آمنوا بأمر هؤلاء وإلزامهم بالاستئذان، وإلا فالأصل أن الطفل لا يتجه إليه الخطاب؛ لأنه غير مخاطب ولا متعبد.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} قال: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحراراً كانوا أو عبيداً، وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي: ما حد الطفل الذي يستأذن؟ قال: أربع سنين قال: لا يدخل على امرأة حتى يستأذن، وقاله الزهري: أي يستأذن الرجل على أمه، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية.
أما التحديد بأربع سنين لا شك أن الأطفال يتفاوتون في مثل هذا، بعض الأطفال وهو ابن ثلاث سنين يعقل وينتبه لأمور لا ينتبه لها من هو أكبر منه في الرابعة والخامسة وأحياناً في السادسة، وبعض الأطفال يناهز الحلم ولما يعقل بعد، فهم يتفاوتون والتمييز متفاوت عند الأطفال، منهم من يتقدم تمييزه ومنهم من يتأخر، وأهل الحديث حينما حدّوا صحة السماع بالخمس اعتمدوا على حديث محمود بن الربيع الذي عقل المجة وهو ما يتجاوز خمس سنين وفي روايةٍ: أربع سنين، فلعلها هي معوّل بن جريج حينما حدد بالأربع، لكن الذي في الصحيح: ابن خمس سنين.
قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [(60) سورة النور].
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء} القواعد: واحدتها قاعد، بلا هاء؛ ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا:
لا أنه ضد القيام، إذا قيل في المرأة إذا أريدت أن تصوف بالقعود الذي هو ضد القيام قيل: قاعدة، أما إذا كان من قعود الكبر، الكبر الذي أقعدها عن النظر إلى الزواج وكونها لا تريد النكاح يقال: قاعد؛ لأن هذا خاص بالنساء، كما يقال: امرأة حامل ما يقال: حاملة، وامرأة حائض؛ لأن هذا من خواصها ما تحتاج إلى تمييز بينها وبين الرجال، لكن إذا بلغ الرجل مبلغاً بحيث يتعبه العمل هل يوصف أنه قاعد أو متقاعد؟ يعني هل التسمية بمن ترك العمل أو تركه العمل لكبر سنه كونه متقاعد –يعني عاجز عن العمل- هذه مظنة يعني مظنة أنه إذا بلغ هذا السن أنه قد يكون العمل يشق عليه فيتقاعد، فهل هو من هذا الباب أو من غيره؟ المرأة التي تأنف ولا ترغب في الزواج لتبعاته وتعجز عن حقوق الزوج مثلاً يقال لها: قاعد، اللواتي لا يرجون نكاحاً فهذه قاعد، والرجل الذي بلغ من السن مبلغاً وعمل عملاً طال به العمل وأراد أن يرتاح ويتجه لآخرته أو لأي عملٍ من الأعمال، المقصود أن هذا العمل الذي أفنى فيه جلّ عمره يتركه ويسمونه متقاعد، لكنهم لا يفرقون بين المتقاعد وبين مقاعد؛ لأنه إذا تقاعد باختياره وطوعه قيل: متقاعد، وإذا تقاعد بقوة النظام يعني ما يحق له أن يستمر في العمل يقال له: مقاعد، هذا الأصل.
لكن هل هناك ارتباط بين القواعد والمتقاعد والمتقاعدة؟ وهل نفرق بين المتقاعد والمتقاعدة؟ لا بد؛ لأن هذا أمر مشترك بين الرجال والنساء فلا بد من التفريق، ولو قدّر أن العمل خاص بالرجال كما هو الأصل دون إقحامٍ للنساء في ما لا يعنيهنّ؛ لأن الأعمال في الأصل للرجال ليست للنساء فيكون من خواصّ الرجال، كما أن القواعد من خواص النساء، والتقاعد لأن العمل خاص بالرجال يكون خاص بالرجال، فلا نحتاج حينئذٍ إلى التفريق بين متقاعد ومتقاعدة، الآن هم في بعض الألفاظ يجرون على النساء على سبيل الاستقلال ما هو في الأصل للرجال، فيقال: الدكتورة فلانة بنت فلان آل فلاني أستاذ في جامعة كذا، ما يقولون أستاذة، هذا اصطلاحهم، ولا شك أنه اصطلاح خاطئ، يعني هذا من الإيغال في تشبه الرجال بالنساء، وأنه لا فرق بين المرأة والرجل، فعلى كل حال هذه الأمور مرتبة على أمورٍ يريدونها.
كما قالوا: امرأة حامل ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل، قال الشاعر:
فلو أن ما في بطنه بين نسوة
…
حبلن وإن كن القواعد عقرا
وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها بالهاء، والقواعد أيضاً: أساس البيت واحده: قاعدة بالهاء.
الثانية: القواعد العجَّز اللواتي قعدن عن التصرف من السن، وقعدن عن الولد والمحيض، هذا قول أكثر العلماء، قال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها، وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد وليس ذلك بمستقيم؛ لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، قاله المهدوي.
لأن الناس يتفاوتون بعض الناس يستمتع بالمرأة أياً كان سنها، وبعض الناس يأنف منها، وفي كتب أهل العلم يتسامح في أمر العجوز التي لا تشتهى، وقرأ بعضهم على بعض المشايخ لا تشتهي قال: العجوز تشتهي، لكن كونها تشتهي ما هو هذا الحل، كونها لا تشتهى، فالمرأة بعض الناس لا يستنكف عن الاستمتاع بها ولو كانت كبيرة وبعض الناس يستمتع بها على أي وجهٍ كان، يقول: لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، والقعود عن الولد حقيقةً لا ارتباط له بالاستمتاع؛ لأنها تقعد عن الولد في سنٍ مبكرة، في الخمسين، وفيها مستمتع لبعض الناس إلى أن تصل إلى حدٍ بحيث لا تشتهى.
الثالثة: قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا مذهب للرجال فيهن فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب لهن.
الرابعة: قرأ ابن مسعود وأبي وابن عباس: أن يضعن من ثيابهن بزيادة (من) قال ابن عباس: وهو الجلباب، وروي عن ابن مسعود أيضاً: من جلابيبهن، والعرب تقول: امرأة واضع للتي كبرت فوضعت خمارها، وقال قوم: الكبيرة التي أيست من النكاح لو بدا شعرها فلا بأس، فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار.
والصحيح أنها كالشابة في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله ابن مسعود وابن جبيرة وغيرهما.
لا يجوز للمرأة وإن كبر سنها أن تتنازل عن شيءٍ مجمع متفق عليه، كالشعر ونحوه، لكن الوجه المختلف فيه أو نصف الوجه مثلاً، إذا كانت عجوز لا تشتهى وكان محافظتها على حجابها التي كانت تتشدد فيه لما كانت شابة يشق عليها لا شك أن الأمر بالنسبة لها أسمح من الشواب التي تقع بهن أو عليهن الفتنة.
الخامسة: قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق، والتبرج: التكشف والظهور للعيون ومنه: بروج مشيدة، وبروج السماء والأسوار: أي لا حائل دونها يسترها، وقيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرماً.
وقال عطاء: هذا في بيوتهن فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب، وعلى هذا {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ} غير خارجات من بيوتهن وعلى هذا يلزم أن يقال: إذا كانت في بيتها فلا بد لها من جلباب فوق الدرع، وهذا بعيد، إلا إذا دخل عليها أجنبي ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن واستعفافهن عن وضع الثياب، والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير، وقرأ ابن مسعود وأن يتعففن بغير سين، ثم قيل: من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها.
روى الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) قال ابن العربي: وإنما جعلهن كاسيات؛ لأن الثياب عليهن، وإنما وصفهن بأنهن عاريات؛ لأن الثوب إذا رقّ يصفهن ويبدي محاسنهن، وذلك حرام. قلت: هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى، والثاني: أنهن كاسيات من الثياب، عاريات من لباس التقوى، الذي قال الله تعالى فيه:{وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [(26) سورة الأعراف] وأنشدوا:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى
…
تقلب عرياناً وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه
…
ولا خير فيمن كان لله عاصي ا
لا شك، وفي معنى قول بعضهم في معنى الحديث: أنهن كاسيات من النعم عاريات عن الشكر، لكن السياق سياق لباس، كاسيات هذا الأصل أن الكساء حسي، الأصل فيه أن الكساء حسي فهن كاسيات عليهن ثياب، لكنهن في حكم العاريات؛ لأن هذه الثياب التي اكتسين بها لا يسترنهن ولا يسقطن ما أوجب الله عليهن من الستر.
طالب: كونه يشف وهو يستر الأعضاء يا شيخ هل يدخل في التحريم؟
كذلك نعم.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ومرَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)) فتأويله صلى الله عليه وسلم القميص بالدين مأخوذ من قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [(26) سورة الأعراف].
هو في البخاري الحديث؟
طالب: نعم، قال: صحيح أخرجه البخاري ومسلم.
الحديث في البخاري، لكن عناية المغاربة وأهل الأندلس بمسلم أكثر من عنايتهم بالبخاري، ولذلك يعزون لصحيح مسلم والحديث في البخاري، هذا كثير عندهم.
والعرب تكني عن الفضل والعفاف بالثياب، كما قال شاعرهم:
ثياب بني عوفٍ طهارى نقيةٌ.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعثمان: ((إن الله سيلبسك قميصاً، فإن أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه)) فعبر عن الخلافة بالقميص، وهي استعارة حسنة معروفة.
مخرج؟
طالب: قال: أخرجه الحاكم من حديث عائشة وصححه، وتعقّبه الذهبي فقال: أنّى له الصحة، وفيه فرج بن فضالة مداره عليه. انتهى كلامه، وله شواهد منها: حديث عائشة أخرجه ابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة، وصححه أيضاً في تخريجه لابن أبي عاصم، وعزاه لأحمد والترمذي وابن حبان وغيره.
قلت: هذا التأويل أصحّ التأويلين وهو اللائق بهن في هذه الأزمان وخاصةً الشباب، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة، ظاهراً وباطناً حيث تبدي زينتها ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك.
من الغرائب اجتماع المتناقضات، يعني في المطاف وهذه ما هي بضرب من الخيال أو بالنقل يعني شيء ثابت مؤكد، وجد امرأتان في غاية التبرج وهما تطوفان وإحداهما ممسكة بالمصحف والقراءة أظن في سورة الأعراف أو التوبة، والثانية تقرأ من حفظها في المطاف، والأخرى ممسكة تفتح عليها إذا أخطأت، وهما في غاية التبرج.
وهنا يقول: فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، يعني هذا التبرج، ولا شك أن العادات وما جرى عليه الناس في بيوتهم وأعرافهم قد يدرجون على أشياء يتساهلون فيها ويرونها كلا شيء ويهتمون بأمور، وهذا يختلف من بلد إلى بلد، تجد هذا البلد عندهم محافظة على جهة، مثلاً على الستر، بينما هم مفرطون في أمور كثيرة، يعني هذه متسترة وتسألها عن أقصر السور يمكن ما تقرأ عليك قراءة صحيحة، والأخرى تجدها تقرأ قراءة متقنة من طوال السور، ومع ذلك تجد عليها ملاحظات، والبلدان يختلفون في محافظتهم على بعض الشعائر دون بعض، واهتمامهم ببعضها دون بعض، فتجد في بعض الآفاق من عظائم الأمور مسألة الغيبة مثلاً، وعندهم أمور يتساهلون فيها، وفي بعض البلدان تجد يهتمون بأمورٍ هي أقل بكثير من الغيبة وتجد في مجالسهم الغيبة وهم أخيار منتشرة، فلا شك أن هذا له أثر –يعني البيئة لها أثر- ومع ذلك الدين واحد نزل من الرب -جل وعلا- على جميع المكلفين، فالذي يحرم على هذه يحرم على هذه، والذي يطلب من هذه يطلب من هذه، لكن قد يكون البيئة التي أثرت عليها وغطت على عقلها بحيث جهلت الحكم الشرعي في هذه المسألة أو رأت الناس يعملون هذا ويستمرونه ولا ينكرونه بينهم فظنته جائزاً، وإلا منظر حقيقةً مؤثر جداً يعني كيف التبرج هذا الموجود ومعه أيضاً العطر والروائح ومدري إيش؟ وتحفظ -نسيت الآن هل هي الأعراف أو التوبة؟ - وأختها ممسكة بالمصحف لتفتح عليها، يعني العقل السوي ما يستطيع يجمع مثل هذه الأمور، والمؤلف رحمه الله في بلاد الأندلس بلاد ترف معروف لا سيما في عصره وبعد أن جاء إلى مصر في القرن السابع يقول:"حيث تبدي زينتها ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك .. " الخ.
ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله: ((رؤوسهن كأسنمة البخت)) والبخت ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الأسنمة، شبّه رؤوسهن بها لما لرفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن.
يعني هذا موجود، يعني التسريحات الموجودة الآن موجودة عندهم.
وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهن ملوم، قال صلى الله عليه وسلم:((ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء)) خرجه البخاري.
طالب:. . . . . . . . .
اللاتي لا يرجون نكاحاً، يعني كونها لا تشتهى فقط لا بد أن يكون من الطرفين يعني هي لا ترجو نكاح وأيضاً هيئتها لا تغري بها.
طالب: لو توفّر حدود .... يعني مثلاً لو كانت متسترة -يا شيخ- كاسية ما فيها شيء من التعري لكن تفعل مثل هذه التسريحات؟
يُنكر عليها.
فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على أقوالٍ ثمانية أقربها هل هي منسوخة أو ناسخة أو محكمة؟ فهذه ثلاثة أقوال:
الأول: أنها منسوخة من قوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ} إلى آخر الآية، قاله عبد الرحمن بن زيد قال: هذا شيء قد انقطع، كانوا في أول الإسلام ليس على أبوابهم أغلاق، وكانت الستور مرخاة، فربما جاء الرجل فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد فسوَّغ الله عز وجل أن يأكل منه، ثم صارت الأغلاق على البيوت فلا يحل لأحدٍ أن يفتحها فذهب هذا وانقطع، قال صلى الله عليه وسلم:((لا يَحْتلبَنَّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه)) الحديث خرجه الأئمة.
ولا يحل مال امرئ إلا بطيبة نفسٍ منه، فأموال الناس محرمة ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) فلا يتصرف في مال أحد إلا بإذنه.
الحديث خرجه الأئمة.
الثاني: أنها ناسخة قاله جماعة، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما أنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [(29) سورة النساء] قال المسلمون: إن الله عز وجل قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن الطعام من أفضل الأموال فلا يحل لأحدٍ منا أن يأكل عند أحد فكفَّ الناس عن ذلك، فأنزل الله عز وجل:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} إلى {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} قال: هو الرجل يؤكل الرجل بضيعته. قلت: علي بن أبي طلحة هذا هو مولى بني هاشم، سكن الشام يكنى أبا الحسن، ويقال: أبا محمد، واسم أبيه أبي طلحة سالم تُكلم في تفسيره فقيل: إنه لم ير ابن عباس، والله أعلم.
يعني منقطع، يكون السند حينئذٍ منقطع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس، لكن مرويات علي بن أبي طلحة عن ابن عباس إذا صحّ السند إليه تداولها الأئمة وخرجوها في كتبهم واعتمدوا عليها وعوّلوا عليها؛ ويرونها من أقوى ما يروى عن الصحابة، لكن مع ذلك الانقطاع ظاهر.
الثالث: أنها محكمة، قاله جماعة من أهل العلم ممن يُقتدى بقولهم، منهم سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون: إن احتجتم فكلوا، فكانوا يقولون: إنما أحلوه لنا من غير طيب نفس.
يعني في مقابل الحفظ والرعاية وإلا فلولا هذا الحفظ والرعاية لبيوتهم لما أباحوا لنا أن نأكل منها، فكأنه بغير طيب نفسٍ منهم، أجرة.
فأنزل الله عز وجل: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إلى آخر الآية، قال النحاس: يوعبون: أي يخرجون بأجمعهم في المغازي، يقال: أوعب بنو فلان لبني فلان، إذا جاؤوهم بأجمعهم، وقال ابن السكيت: يقال: أوعب بنو فلان جلاء فلم يبق ببلدهم منهم أحد، وجاء الفرس بركض وعِيب: أي بأقصى ما عنده، وفي الحديث:((في الأنف إذا استوعب جدعه الدية)).
واستيعاب الشيء الإتيان على آخره، يعني إذا قيل: استوعب الكتاب معناه أنه قرأه كاملاً.
وفي الحديث: ((في الأنف إذا استوعب جدعه الدية)) إذا لم يترك منه شيء، واستيعاب الشيء استئصاله، ويقال: بيت وعِيب: إذا كان واسعاً يستوعب كل ما جعل فيه، والضمنى هم الزمنى، واحدهم ضمن مثل زمن قال النحاس: وهذا القول من أجلّ ما روي في الآية لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوقيف، أن الآية نزلت في شيء بعينه، قال ابن العربي: وهذا كلام منتظم؛ لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد، وبقاء أموالهم بأيديهم، لكن قوله:{أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} قد اقتضاه، فكان هذا القول بعيداً جداً، لكن المختار أن يقال: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة وأركانها والجهاد ونحو ذلك.
يعني وغيرهم من أهل الأعذار الذي لا يتمكنون من أداء بعض العبادات، مثل هؤلاء ليس عليهم حرج، لكن ليس معنى هذا أن الإنسان إذا احتيج إليه في جهادٍ ونحوه تمنى أنه أعرج ليعذر، أو أعمى ليعذر، لا، فالنيات تبلغ أعظم مما تبلغه الأعمال، بعض الناس يتمنى أنه في وقتٍ من الأوقات أعمى على شان ما يكلف، وبعض الناس يتمنى أنه في هذا اليوم مريض ولا يطلع لأداء عبادةٍ وشبهها، فمثل هذا على قدر نيته، والله المستعان، والأمور بمقاصدها.
ثم قال بعد ذلك مبيناً: وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم، فهذا معنى صحيح، وتفسير بين مفيد يعضده الشرع والعقل، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل، قلت: وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، فأما ما قال الناس في هذا الحرج هنا وهي:
الثانية: فقال ابن زيد: وهو الحرج في الغزو: أي لا حرج عليهم في تأخرهم، وقوله تعالى:{وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ} الآية معنى مقطوع من الأول. وقالت فرقة: الآية كلها في معنى المطاعم، قالت: وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار، فبعضهم كان يفعل ذلك تقذراً؛ لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته، وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت الآية مؤذنة، وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجاً من غير أهل الأعذار، إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء في الأكل؛ لعدم الرؤية في الأعمى، وللعجز عن المزاحمة في الأعرج، ولضعف المريض، فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم.
نعم لأن الإنسان إذا بلغ به الورع مبلغه يتحرج أن يأكل مع مثل هؤلاء الذين قد لا يأكلون نصف ما يأكل، ما يأكله الصحيح، الأعمى قد لا تمتد يده إلى أطايب الطعام، بل قد تقصر دونه فيقتصر على الأقل، والأعرج أيضاً قد تضطره رجله التي لا تنثني مثلاً أن لا يقرب من بعض الأطعمة التي تكون هي أفضل من غيرها، وقل مثل هذا في المريض أو مثلها أيضاً الذي لا يستطيع أن يمضغ الطعام مضغاً جيداً بحيث يلحق بركب الأصحاء، بعض الناس إذا كان من أهل الورع ويأكل مع هؤلاء قد يتورع، وقد لا يملك نفسه أن يقتصر على ما اقتصروا عليه، ويأكل بنسبة ما يأكلون، والمسألة مفترضة في النهد –يعني إذا كانت التي يسمونها قَطَّة، يعني كل واحد يبذل من المال بقدر صاحبه، لكن لو بذل ضعف مثلاً ما يبذلون فله أن يأكل أكثر منهم، مع أن هذه الأمور جاء الشرع بالتسامح فيها، وأن مثل هذه الأمور لا يلتفت إليها، والناس يتناهدون من أول الزمن إلى آخره، ولا يتناقشون عن مثل هذه الأمور، ولا يلتفتون إليها، فمثل هذا لا حرج فيه.
لكن إذا أبان الآكل عن شحّ في نفسه، وحرصٍ شديد على استيعاب نصيبه فلا، كما نهي عن اقتران التمر، القرن بين التمرتين مع من يأكل تمرة تمرة، وعند العوام إذا رأوا شخصاً بديناً قالوا له: أنت تأكل مع عميان؛ لأنه أعمى قد يقتصر على غير الجيد من الطعام؛ لأنه ما يشوف، بينما المبصر ينتقي ما ينفعه وما يستفيد منه، وما يفيده، وينتقي من أطايب الطعام على ما يشتهي، والله المستعان.
وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي: إن أهل الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت الآية مبيحةً لهم.
وقيل: كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب به إلى بيوت قرابته فتحرج أهل الأعذار من ذلك، فنزلت الآية.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ} هذا ابتداء كلام: أي ولا عليكم أيها الناس، ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلَّب المخاطب؛ لينتظم الكلام، وذكر بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء، فقال المفسرون: ذلك؛ لأنها داخلة في قوله: {مِن بُيُوتِكُمْ} لأن بيت ابن الرجل بيته، وفي الخبر:((أنت ومالك لأبيك)) ولأنه ذكر الأقرباء بعد ولم يذكر الأولاد.
الأولاد لا يحتاجون إلى ذكر؛ لأن بيت الولد بيت للوالد، فلا يحتاجون إلى ذكر فهم داخلون في بيوتهم.
قال النحاس: وعارض بعضهم هذا القول فقال: هذا تحكم على كتاب الله تعالى، بل الأولى في الظاهر ألا يكون الابن مخالفاً لهؤلاء، وليس الاحتجاج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:((أنت ومالك لأبيك)) بقوي لوهي هذا الحديث، وأنه لو صح لم تكن فيه حجة.
نقول في مثل هذا المقام لا حاجة لمثل هذا الحديث، يعني مجرد عدم ذكر الأولاد دليل على أن بيوت الأولاد بيوت للآباء، لا نحتاج إلى الحديث، الحديث صح أو لم يصح، عدم ذكرهم في الآية يدل على أنهم في حكم النفس.
وأنه لو صح لم تكن فيه حجة، إذ قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أن مال ذلك المخاطب لأبيه، وقد قيل إن المعنى: أنت لأبيك، ومالك مبتدأ أي: ومالك لك، والقاطع لهذا التوارث بين الأب والابن.
يعني لو كان مال الابن هو مال الأب لما حصل توارث، أن كل شيء باقي على أصله، إذا مات الابن ما نقول: يرثه الأب، هو مال الأب من الأصل ما يحتاج إلى إرث، هذه حجته، لكن الحديث له معنى والتوارث له معنى، وما عندنا في الآية له معنى، وكل شيء له ما يخصه من هذه المعاني.
وقال الترمذي الحكيم: ووجه قوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ} كأنه يقول: مساكنكم التي فيها أهاليكم وأولادكم، فيكون للأهل والولد هناك شيء قد أفادهم هذا الرجل الذي له المسكن، فليس عليه حرج أن يأكل معهم من ذلك القوت.
وحينئذٍ لا يكون هذا من الرجوع، ولا يكون هذا من الرجوع.
أو يكونَ للزوجة والولد هناك شيء من ملكهم فليس عليه في ذلك حرج.
يعني ونظير ذلك لو تصدق شخص على آخر وهو من أهل الصدقة، تصدق عليه بشيءٍ من المال أو بشيءٍ من الطعام ثم دعاه المتصدق عليه وأكل عنده، هل نقول: أن هذا رجوع في العطية؟ هذا لا، كل من الطرفين لا يتصور هذا.
الرابعة: قوله تعالى: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ} قال بعض العلماء: هذا إذا أذنوا له في ذلك، وقال آخرون: أذنوا له أو لم يأذنوا فله أن يأكل؛ لأن القرابة التي بينهم هي إذن منهم، وذلك لأن في تلك القرابة عطفاً تسمح النفوس منهم بذلك العطف أن يأكل هذا من شيئهم ويسروا بذلك إذا علموا، قال ابن العربي: أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولاً، فإذا كان محوزاً دونهم لم يكن لهم أخذه.
إذا بذل ووضعت المائدة تأكل، لكن ما تنطلق إلى المستودع وتأخذ منه ما شئت وتفتح ما شئت، من المخزن حق البيت أو المستودع، لا، أنت ما لك إلا ما قدّم لك، مأذون لك فيما قدم لك.
ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول، وإن كان غير محوز عنهم إلا بإذنٍ منهم.
نعم، غير محوز، هذا عندهم في المجلس كتب وإلا تحف وإلا شيء، نقول: هذا بيت صديقنا أو أحد ذكر في هذه الآية ولا جناح علينا ولا بأس أن نأخذ، نقول: لا، هذا خاص بالطعام المبذول، وغير الطعام لا يدخل فيه، والطعام غير المبذول أيضاً لا يدخل.
الخامسة: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} يعني مما اخترتم وصار في قبضتكم، وعُظْم ذلك ..
عُظمه يعني أعظمه.
وعُظْم ذلك ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه، وذلك هو تأويل الضحاك وقتادة ومجاهد، وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء، قال ابن عباس: عنى وكيل الرجل على ضيعته، وخازنه على ماله، فيجوز له أن يأكل مما هو قيم عليه، وذكر معمر عن قتادة عن عكرمة قال: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير، قال ابن العربي: وللخازن أن يأكل مما يخزن إجماعاً، وهذا إذا لم تكن له أجرة، فأما إذا كانت له أجرة على الخزن حرم عليه الأكل.
وقرأ سعيد بن جبير {ملِّكتم} بضم الميم وكسر اللام وشدها، وقرأ أيضاً مفاتيحه بياء بين التاء والحاء: جمع مفتاح، وقد مضى في الأنعام، وقرأ قتادة (مفتاحه) على الإفراد، وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
السادسة: قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} الصديق: بمعنى الجمع وكذلك العدو، قال الله تعالى:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي} [(77) سورة الشعراء] وقال جرير:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا
…
بأسهم أعداء وهن صديقُ
والصديق: من يصدقك في مودته، وتصدقه في مودتك.
يعني قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} يقول: الصديق بمعنى الجمع، لماذا؟ لأنه مفرد مضاف، والمفرد إذا أضيف يفيد العموم، فهو بمعنى الجمع.
والصديق: من يصدقك في مودته، وتصدقه في مودتك ثم قيل: إن هذا منسوخ بقوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [(53) سورة الأحزاب] وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا} [(28) سورة النور] .. الآية.
وقوله عليه السلام: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسٍ منه)) وقيل: هي محكمة وهو أصح.
ذكر محمد بن ثور عن معمر قال: دخلت بيت قتادة فأبصرت فيه رطباً فجعلت آكله، فقال: ما هذا؟ فقلت: أبصرت رطباً.
لأنه أعمى؛ لأن قتادة ولد أكمة، ما يراه وهو يأكل، فسأله ما هذا؟ حسّ بالأكل، وعندهم حساسية، يعني فقدوا البصر لكن يحسون، فقال له: ما هذا؟ فذكر له، قال: أبصرت رطباً في بيتك فأكلت.
فقال: ما هذا؟ فقلت: أبصرت رطباً في بيتك فأكلت قال: أحسنت، قال الله تعالى:{أَوْ صَدِيقِكُمْ} وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} قال: إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته لم يكن بذلك بأس، وقال معمر: قلت لقتادة: ألا أشرب من هذا الحُب؟ قال: أنت لي صديق فما هذا الاستئذان؟!.
وكان صلى الله عليه وسلم يدخل حائط أبي طلحة المسمى ببيرحا ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه على ما قاله علماؤنا.
لأن مثل هذا جرت العادة بالمسامحة فيه لا سيما إذا كان الآكل له محل من قلب المأكول عنده سواء كان صديق أو عزيز عليه أو كبير عنده فضلاً عن أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام.
قالوا: والماء متملك لأهله إذا جاز الشرب من ماء الصديق من غير إذنه، جاز الأكل من ثماره وطعامه إذا علم أن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير مؤونته، أو لما بينهما من المودة، ومن هذا المعنى إطعام أم حرام له صلى الله عليه وسلم إذا نام عندها؛ لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل، وأن يد زوجته في ذلك عارية، وهذا كله ما لم يتخذ الأكل خبنة.
خبنة يخرج معه، يخرج بشيءٍ منه معه، يتخذ منه ما يخرج به ويتحفه به أولاده، إذا أكل مجرد أكل فلا مانع، يمرّ بالبستان ويأكل الشيء اليسير الذي لا يضر بصاحبه غير مفسد ولا متعدي ولا يتخذ خبنة، له ذلك.
ولم يقصد بذلك وقاية ماله، وكان تافهاً يسيراً.
لكن بعض الناس يدخل المحلات التجارية –محلات الأغذية والأطعمة والمكسرات وأنواع ما يؤكل- ثم يأخذ من هذا ويأخذ من هذا ويأخذ من هذا –يعني شيء يسير- يأخذ من هذا شيء، ومن هذا شيء، ثم إذا شبع خرج، هل نقول: أن هذا داخل في الآية أو أن هذا تعدي؟ الكلام أولاً هو في البيوت، لا في محلات البيع والشراء، الآية في البيوت لا في محلات التجارات.
الأمر الثاني: إنه إن كان هذا الأمر يسير من هذا الصنف ويسير من ذلك الصنف لكنها إذا اجتمعت صار كثيراً، قد يقول قائل: أنا لا آخذ شيئاً يضره أنا آخذ حبتين من هذا المحل، وحبتين من المحل الذي يليه، وثلاث من الذي بعده، يأخذ من هذا تفاحة ومن هذا برتقالة، وهذا فستق، وهذا زبيب، وهذا .. يمشي وهو يرعى في طريقه، هو شيء يسير لا يضر بالناس لكن ليست هذه عيشة مسلم متقي ورع، الإنسان يتورع عن الحبة، النبي عليه الصلاة والسلام خشي أن تكون التمرة من الصدقة، ولا يقول: أن هذا محل صديق أو لا يضر به، هذا في البيوت، فيما يعدّ ويهيأ للضيوف، لا ما يدخر في المستودعات والمخازن أو المحلات التجارية.
السابعة: قرن الله عز وجل في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة؛ لأن قرب المودة لصيق.
الأسوأ من ذلك إذا أوهم صاحب المحل أنه يجرب، يريد أن يشتري لكنه يريد أن يجرب الطعام هل هو مناسب أو غير مناسب؟ وهو لا يريد الشراء في الحقيقة، مثل هذا لا شك في منعه.
قال ابن عباس في كتاب النقاش: الصديق أوكد من القرابة، ألا ترى استغاثة الجهنميين {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [(110 - 101) سورة الشعراء] قلت: ولهذا لا تجوز ..
ولذلك ما قالوا: ولا أبٍ ولا عمٍ ولا خال، {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} ما قالوا: فما لنا من آباء ولا أمهات ولا إخوان ولا أخوات ولا أعمام ولا أخوال، فدل على أن الصديق أوكد من القريب، وهذا جرت به العادة أن النفع المتبادل بين الأصدقاء أكثر مما يتبادل بين الأقارب؛ لأن أمور الأقارب مبنية في الغالب على الاحتشام، كل واحد يقدر الثاني، والآخر .. بينما الصديق ترتفع الكلفة فيما بينهم؛ لأنه لو حصل لأن ارتفاع الكلفة أحياناً يصير وسيلة إلى القطيعة، ارتفاع الكلفة أحياناً لأنه لا ينضبط بضابط ثم يتسبب في قطيعة فإذا حصلت القطيعة بين الصديق وصديقه أمره أخفّ من أن تقع هذه القطيعة بين الأقارب، فهم يتساهلون فيها من هذه الحيثية.
الأمر الثاني: أن الإنسان قد يجرؤ على صديقه أكثر مما يجرؤ على قريبه، لا سيما في أمور الأموال؛ لأن مظنة الاستجابة من الصديق أكثر من مظنة الإجابة من القريب، والسبب في ذلك أن الصديق صديق، يعني لو امتنعت من الدفع شكاك، ورفع أمرك إلى المسؤولين، بينما القريب يظنك أن تأكل ما تقترضه منه، وإذا حصل بينكم ما حصل من الشكاوى صارت القطيعة، فيحسم الباب من هذه الحيثية من أول الأمر، هذا في تصور كثير من الناس، يروح يذهب إلى صديقه يكلمه في أمره ويطلب منه ما يطلب أكثر مما يطلب من قريبه.
قلت: ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه، وقد مضى بيان هذا والعلة فيه في (النساء) وفي المثل: أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك؟ قال: أخي إذا كان صديقي.
يعني إذا لم تكن بين الإخوة شحناء ولا بغضاء فهم أقرب الناس إليك.
الثامنة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} قيل: إنها نزلت في بني ليث بن بكر، وهم حي من بني كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده، ويمكث أياماً جائعاً حتى يجد من يؤاكله، ومنه قول بعض الشعراء:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له
…
أكيلاً فإني لست آكله وحدي
قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثة عندهم عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا يأكل وحده، وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه، فنزلت الآية مبينة سنة الأكل ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرماً، نَحَت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد.
يحرّم، بمعنى: يمنع الانفراد، شريطة أن لا يمنع من الانفراد؛ لأن بعض الناس إذا اتخذ على نفسه شيء لا بد أن يحققه ويطبقه، فإذا جرت عادته بأنه لا يأكل وحده إذا صار منفرداً عافت نفسه الطعام، بعض الناس تنفتح نفسه وشهيته مع الأكل مع الإخوان والأصدقاء ثم إذا صار بمفرده عافت نفسه الطعام، وبعض الناس العكس، إذا رأى الناس يأكلون من مائدته انقفلت شهيته، فالناس يتفاوتون في الكرم والبخل والشح، وكتب الأدب مملوءة من القصص في النوعين.
التاسعة: قوله تعالى: {جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} {جَمِيعًا} نصب على الحال، و {أشتاتاً} جمع شت، والشت المصدر بمعنى: التفرق، يقال: شتَّ القوم: أي تفرقوا، وقد ترجم البخاري في صحيحه: باب: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} .. الآية، والنهد والاجتماع.
النهد المقصود به القطَّة، التي يسمونها الناس القطّّه، يعني يدفع كل فرد من أفراد المجموعة مبلغاً من المال ويشترون مجتمعين هذا الطعام ليأكلوه، وهذا لا شيء فيه ولو كان عرف من حال بعضهم أنه يأكل أكثر من بعض، هذا أمر يتسامح فيه.
بينما لو وضع هذا الأمر من أجل التجارة، ووجد التفاوت الكبير بينهم قيل: لا يجوز؛ لأن هذا مقابل عوض، ويراد من وراءه التجارة، مثل ما يقال: البوفية المفتوحة، لك ملئ بطنك حتى تشبع بمبلغ كذا، نقول: هذا ممنوع للجهالة؛ لأن بعضهم يأكل ما قيمته نصف ما يدفع وبعضهم يأكل ما قيمته ضعف ما يدفع، فهذا ممنوع للجهالة؛ لأن المسألة مسألة عقود وبيع وشراء، والجهالة لا بد من زوالها، أما مسألة الناس فهي مبنية على الإرفاق والاتفاق وكل واحد باذل من هذا الشيء لنفسه ولغيره، وليس المراد به العقد.
ومقصوده فما قاله علماؤنا في هذا الباب: إباحة الأكل جميعاً وإن اختلفت أحوالهم في الأكل، وقد سوغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فصارت تلك سنةً في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم، وفي الإملاق في السفر، وما ملكت مفاتحه بأمانةٍ أو قرابةٍ أو صداقةٍ، فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك، والنِّهد: ما يجمعه الرفقاء من مالٍ أو طعام على قدر في النفقة ينفقونه بينهم، وقد تناهدوا عن صاحب العين، وقال ابن دريد: يقال من ذلك
…
وقد تناهدوا يعني المفاعلة من النهد، جاء ذكره عن صاحب العين منسوبة للخليل بن أحمد.
يقال من ذلك: تناهد القوم الشيء بينهم، قال الهروي: وفي حديث الحسن: أخرجوا نِهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم. والنِّهد: ما تخرجه الرفقة عند المناهدة: وهو استقسام النفقة بالسوية في السفر وغيره، والعرب تقول: هات نِهدك بكسر النون، قال المهلب: وطعام النهد لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره، وقد قيل: إن تركها أشبه بالورع، وإن كانت الرفقة تجتمع كل يومٍ على طعام أحدهم، فهو أحسن من النِّهد؛ لأنهم لا يتناهدون إلا ليصيب كل واحد منهم من ماله، ثم لا يدري لعلَّ أحدهم يقصر عن ماله ويأكل غيره أكثر من ماله، وإذا كانوا يوماً عند هذا ويوماً عند هذا بلا شرط فإنما يكونون أضيافاً، والضيف يأكل بطيب نفس مما يقدم إليه.
يعني هذا مثل الدوريات التي تكون بين الأقارب وبين الأصدقاء وبين المعارف، يعني واحد يتكلف، وواحد يقتصد، وواحد يزيد وواحد ينقص، وواحد يقدم أكثر من الثاني، لا شك أن هذا إنما فعله بطيب نفسٍ منه، لكن ليجتنب الإسراف.
وقال أيوب السختياني:
بفتح السين، السَّختياني، أيوب بن أبي تميمة السّختياني.
وقال أيوب السَّختياني: إنما كان النهد أن القوم كانوا يكونون في السفر، فيسبق بعضهم إلى المنزل، فيذبح ويهيئ الطعام ثم يأتيهم، ثم يسبق أيضاً إلى المنزل فيفعل مثل ذلك.
نعم، ليقدم الخدمة لإخوانه، بينما بعض الناس يسبق إلى المنزل ليختار المنزل المناسب الأفضل قبل غيره، والله المستعان.
فقالوا: إن هذا الذي تصنع كلنا نحب أن نصنع مثله، فتعالوا نجعل بيننا شيئاً لا يتفضل بعضنا على بعض فوضعوا النهد بينهم، وكان الصلحاء إذا تناهدوا تحرى أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه أصحابه، وإن لم يرضوا بذلك منه إذا علموه فعله سراً دونهم.
العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} اختلف المتأولون في أي البيوت أراد، فقال إبراهيم النخعي والحسن: أراد المساجد، والمعنى: سلِّموا على من فيها من صنفكم، فإن لم يكن في المساجد أحد، فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول الله، وقيل: يقول: السلام عليكم يريد الملائكة، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} .. الآية، قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقيل: المراد بالبيوت: البيوت المسكونة: أي فسلموا على أنفسكم قاله جابر بن عبد الله وابن عباس أيضاً وعطاء بن أبي رباح، وقالوا: يدخل في ذلك البيوت غير المسكونة، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح.
لأن (بيوتاً) نكرة في سياق الشرط فتعمّ، لكن هل تعمّ المقابر مثلاً التي هي بيوت ومساكن الأموات؟ الصواب: لا، لا تدخل في البيوت؛ لأن السلام مخصوص بأهلها، السلام عليكم أهل الديار، ولا يسلم على النفس فيها.
ولا دليل على التخصيص، وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه فإذا دخل بيتاً لغيره استأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتاً لنفسه سلَّم كما ورد في الخبر يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قاله ابن عمر، وهذا إذا كان فارغاً فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل: السلام عليكم، وإن كان مسجداً فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ.
قال ابن العربي: والذي أختاره إذا كان البيت فارغاً ألا يلزمه السلام، فإنه إن كان المقصود الملائكة، فالملائكة لا تفارق العبد بحال، أما إنه إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر الله بأن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وقد تقدم في سورة (الكهف)، وقال القشيري في قوله:{إذا دَخَلْتُم بُيُوتًا} والأوجه أن يقال: إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال: السلام على من اتبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وهذه التحية تحية غير المسلمين، السلام على من اتبع الهدى، كما كتب النبي عليه الصلاة والسلام لهرقل في كتابه المشهور: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم: السلام على من اتبع الهدى.
وذكر ابن خويزمنداد قال: كتب إلي أبو العباس الأصم قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا جعفر بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أهلها واذكروا اسم الله، فإن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم الله تعالى على طعامه يقول الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم هاهنا ولا عشاء، وإذا لم يسلم أحدكم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على طعامه قال الشيطان لأصحابه: أدركتم المبيت والعشاء)) قلت: هذا الحديث ثبت معناه مرفوعاً من حديث جابر خرجه مسلم، وفي كتاب أبي داود عن أبي مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير الولوج وخير الخروج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله)).
الحادية عشرة: قوله تعالى: {تَحِيَّةً} مصدر؛ لأنه قوله: {فَسَلِّمُوا} معناه: فحيوا، وصفها بالبركة؛ لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم، ووصفها أيضاً بالطيب لأن سامعها يستطيبها، والكاف من قوله {كَذَلِكَ} كاف تشبيه، و {ذَلِكَ} إشارة إلى هذه السنن: أي كما بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك.