المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 930 - بتاريخ: 30 - 04 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٣٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 930

- بتاريخ: 30 - 04 - 1951

ص: -1

‌قاسم أمين

أول ديسمبر سنة 1863ـ23 أبريل سنة 1908

بمناسبة ذكراه السنوية

في مثل هذا اليوم من عام ثمانية وتسعمائة ألف انتقل إلى دار البقاء المصلح العظيم قاسم أمين بعد أن قضى في هذه الحياة أربعا وأربعين سنة يستعد للكمال النفسي الذي تهيأ له بفطرته، ويدعو إلى الكمال الإنساني الذي اتجه إليه بفكرته. وكانت الفترة التي نشأ فيها بعد هزيمة المصريين وانتصار المحتلين أشبه شيء بالفترة التي تأخذ من أواخر الشتاء وأوائل الربيع، فيها الخدر والبرد والجدب، ولكن فيها أطرافا من الحس والدفء والخصوبة؛ فالشعب كان يعاني من عواقب الأزمان السود التي أتت عليه، ومن رواسب الأجناس السوء التي عاثت فيه، ألونا من الجهل والذل والفوضى جعلته يستكين لعوامل الفساد في الخلق والعقيدة والثقافة والمجتمع. فالحكم أهواء وشيع، والدين أوهام وبدع، والعلم قشور ومسخ، الأدب تقليد وزخرف، والرجال آلات للعمل والإنتاج، والنساء إماء للخدمة والمتاع، والسلطان المحتل يصرّف أمورنا على مشيئته، والمال الأجنبي يستغل مواردنا لمنفعته. وكانت البراعم التي بكرت إليها حياة الربيع فتفتحت عن الشعور والوعي تتمثل في الرواد الأولين: جمال الدين، محمد عبده، ومصطفى كامل، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ولطفي السيد، وعبد العزيز فهمي، فشعروا أول الناس بالأدواء التي قعدت بالأمة عن النهوض، فجاهد كل منهم وقاد في الميدان الذي خلق له وظهر فيه.

ومما عمق فيهم هذا الشعور وقواه، نبوغ أكثرهم في القانون والأدب، وتفوق بعضهم في الدين والفلسفة، وأخذهم بنصبه من ثقافة الغرب، واتصالهم بأقطاب الفكر في فرنسا وإنجلترا، ووقوفهم على تلك الحملة المنكرة التي شنها أبالسة الاستعمار على مصر والعرب وإسلام، فنهض جمال الدين لإرنست رينان، ومحمد عبده لهانوتو، وقاسم أمين لدوق داركور، فدافعوا بالحجج الملزمة ما لفقوا من أباطيل أنكروا من حقائق. فلما بلغوا المآخذ التي أخذها الخصوم علينا بالحق، حملهم الإباء القومي على أن يأخذوا عليهم أشباهها في مجتمعاتهم ومعتقداتهم، كالمقابلة بين تعدد الزوجات هنا، وتعدد الخليلات هناك. ولكن هذا الإباء القومي نفسه حملهم كذلك على النظر في تطهير الشرق من هذه المآخذ، بتصحيح

ص: 1

الزائف، وتقويم المعوج، وتقيد المطلق، فمضى كل زعيم يتحرى وجوه الإصلاح والتحرير في الوطن، أو في الدين، أو في الفكر، أو في الأدب، أو في القضاء، أو في الرجل، أو في المرآة، على حسب استعداده وطبيعة نفسه.

كانت رسالة قاسم إصلاح المجتمع في نواحيه المختلفة. وما كان في خلقه ولا في طوقه أن تكون رسالته غير ذلك. كان حي الوجه، يحتشم إذا لاقى، ويفضي إذا حدّث، ويعفو إذا جادل. وكان عطوف القلب، يدين بالصداقة، ويتخلق بالرحمة، ويواصل بالمودة. وكان رقيق الشعور، يكلف بالأدب، ويطرب للغناء، ويعجب بالجمال. وكان عصبي المزاج، ينفعل انفعال الفنان، وينبسط انبساط المؤمن، وينقبض انقباض الناسك، وكان محببا إليه العشرة، يخالط كل طبقة، ويسبر كل حالة، ويرقب كل حادث. وكان واسع المعرفة والخبرة؛ يتقصى طبائع الشعوب، ويدرس أحوال الأمم، ويتعرف دخائل النفوس. وهذه هي جل الصفات التي يجب أن تكون في المصلح الاجتماعي ليكون بينه وبين مجتمعه تجاوب في الشعور والفكر.

عني قاسم رضوان الله عليه بإصلاح المجتمع المصري وهو في سن العشرين منذ قرأ كتاب داركور ورد عليه في عام 1894، فكتب في جريدة المؤيد تسع عشر مقالة أكثرها بعنوان (أسباب ونتائج) وبعضها بعنوان (حكم ومواعظ) عالج فيها أدواء المصريين في الاقتصاد والوقف والتربية والتعليم والأسرة والوظيفة علاجا لا يزال المصلحون يصفونه ويكررونه، لأنه جمع أكثر العناصر الفعالة في حسم الداء وبرء المرض. وقلما نجد كاتبا يعرض اليوم لهذه المسائل ولا يقع على خطاه، أو يوافق على ما أرتاه.

كان هذا المفكر العظيم يكتب عن إيمان وصدق. لا يكتب رغبة في الكتابة، ولا ينشر طمعا في الشهرة؛ إنما كان ينشر مقالته في الصحف من غير إمضاء، ويرسل فكرته في الناس من غير ضوضاء، ثم لا يعنيه إلا أن يراها تصيب الغرض الذي قصده، وتحدث الأثر الذي أراده.

وكان صاحب رأي وعزيمة، يقول ويفعل، ويفكر ويدبر. فإذا قرأنا رأيه في كتابين قيمين: تحرير المرأة والمرأة الجديدة، فقد رأينا عزمه في عملين عظيمين: الجمعية الخيرية الإسلامية، والجامعة المصرية.

ص: 2

وكان ينفذ ببصره وفكره إلى طوايا المجتمع فيرى بقوة لحظة وحدة ذهنه دقائق وتفاصيل لا يدركها النظر العادي. ومزية الكاتب الموهوب أن يرينا ما لم نر، ويقفنا على ما لم نعلم، ويصور لنا ما لم نتصور، وفي كلمات قاسم أمين المنشورة آيات من الحوار والتصوير مثل بهما طرفا من نقائص العصر تمثيلا دل على ملكه أصيلة في الأدب، وقريحة سخية في الكتابة. نقرأ له مثلا هذا الحوار القصير:

سئل ح. بك: ما رأيك في كتاب تحرير المرأة؟

فأجاب: رديء!

- هل قرأته؟

- لا!

- أما يجب أن تقرأه قبل أن تحكم عليه؟

- ما قرأت ولا أقرأ كتابا يخالف رأيي!

وتقرأ له هذه الصورة الناطقة لجنازة من جنائز العامة:

(هؤلاء الفقهاء الذين يجرّ بعضهم بعضا، وليس فيهم إلا الأعمى والأعرج والأعور، يمشون بسرعة غير منتظمة، لابسين ثياب قذرة، صائحين بأصوات مزعجة، كلمات تخرج من حناجر مختلفة بنغمات شنيعة؛ وهذا النعش المحمول يتخبط فيه الميت، ويلتفت تارة إلى جهة اليمين، وتارة إلى جهة الشمال؛ وهؤلاء النسوة اللاتي صبغن أيديهن ووجوههن، وعفرن بالتراب روؤسهن، يمشين وراء النعش مشيرات بالمناديل إليه إشارات مروعة مصحوبة بألفاظ مرتلة! ما هذا كله؟ أمجمع مجانين، أم نفر بهم مس من الشياطين؟ ألعوبة أطفال، أم معرض كرنفال؟).

نقرأ ذلك الحوار، ثم نقرأ هذه الصورة، فنعتقد أن لو مدّ الله في أجل قاسم لعالج عيوب المجتمع بالرواية كما فعل (مولير)، أو بالصورة كما صنع (لابرويير). والأدب العالي والأسلوب البليغ أخص صفات المصلح وأقوى أدوات الإصلاح؛ وحظ قاسم منهما كان موفورا. وكما يتعهد الجندي سلاحه، كان قاسم يتعهد اللغة والأدب، فرأى في أصالة الأسلوب، واستعمال المترادف، ومعضلة الكتابة العربية، ومشكلة اللغة العامية، وصعوبة الإعراب، وفتح باب الاجتهاد في اللغة، آراء لم تجري على بالنا إلا اليوم! والصفحات

ص: 3

الستون التي جمعت (كلمات قاسم أمين) الموجزة في الأدب والاجتماع، أمثلة خالدة من عمق التصور ودقة التصوير.

نعم! عني قاسم أمين بإصلاح المجتمع المصري في خلقه وعاداته، ونظمه واقتصادياته، وتربيته وتعليمه، ولغته وأدبه، ولكنه رأى أن علة العلل في فساده هي حال المرأة. والمرأة قوام الأسرة، والأسرة نواة الأمة؛ فإذا صلحت المرأة صلح الرجل، وإذا صلح الرجل صلح المجتمع. والنساء نصف الشعب الذي يربي نصفه الآخر؛ فإذا ظللن محجوبات جاهلات متعطلات، ظل المجتمع ريضا لفقدانه تثقيف الأمومة، غليظا لحرمانه تلطيف الأنوثة. يعمل بيد واحدة لأن الأخرى شلاء، ويمشى على قدم واحدة لأن الأخرى عرجاء. وكانت المرأة في عهد قاسم شيء لا يذكر، وإذا ذكر لا ينظر؛ إنما كانت حبيسة المنزل، تضرب عليها الحجب، وتبث حولها العيون، وتقضى من دونها الأمور، وينظر إليها الزوج نظرة إلى الفراش الملقى، فلا يؤكلها على مائدة، ولا يجالسها في بهو، ولا يماشيها في شارع، ولا يشاورها في شأن، ولا يذكر اسمها إلا مكنيا عنه بالبيت أو الأولاد أو الجماعة. وكان من جريرة ذلك عليها أن وهن جسمها لقلة العمل، وساء خلقها لفقد الحرية، وضعف تفكيرها لترك التدبير، وغفل ضميرها لعدم المسؤولية، فلم تفكر إلا في حللها وحليها، ومدافعة الضرائر والجواري عن نصيبها من زوجها. لقد كانت خارجة عن دنيا الناس، (فلم يبقى لها من الكون - كما قال قاسم في كتابه (تحرير المرأة) - إلا ما استتر من زوايا المنازل. واختصت بالجهل والتحجب بأستار الظلمات، واستعملها الرجل متاعا للذة، يلهو بها متى أراد، ويقذف بها في الطريق متى شاء. له الحرية ولها الرق. له العلم ولها الجهل. له العقل ولها البله. له الضياء والفضاء ولها الظلمة والسجن. له الأمر والنهي وعليها الطاعة والصبر. له كل شيء في الوجود، وهي بعض ذلك الكل الذي استولى عليه).

بذلك تأثر قاسم، وفي ذلك جاهد قاسم. فعرض القضية على وجوه المعقول والمنقول، فلم يجد لاستعباد المرأة حجة إلا استبداد الرجل، فجاءه من طريق الدين والمروءة والمصلحة وفي يديه كتاباه: تحرير المرأة، والمرأة الجديدة، يزيف بها حجته، ويخفف غروره. وكان لابد لمن يخالف المألوف ويعارض الموروث ويصادم الواقع أن يلقى ملقيه المرسلون والمصلحون من عنت الجدل ولدد الخصومة. ولكن محرر المرأة كان قوي الإيمان برأيه،

ص: 4

شديد الإخلاص في سعيه، فلم يهن لما أصابه في سبيل الحق ولم يستكن. وإنما بذرة البزرة في وسط العواصف الهوج والسحب المرعدة، ثم تركها في ذمة الطبيعة والزمن، وظن الرجل العنيد على هذه البزرة بالغذاء والري، حتى أدركها غوث الله، فانتشر التعليم، وانتعشت الحرية، واتصل الجيل الجديد بالمدنية الغربية، فرأى فيما رأى أن المرأة في المجتمع الأوربي هي روحه ونشاطه وجماله وصقاله ووحيه، فاستشعر للمصرية الاحترام، عن تقليد في الأكثر، وعن اعتقاد في الأقل؛ ولكنه وقف من قضيتها موقف المشاهد المحايد لا يمر ولا يحلي. وكانت صفوة من كرائم السيدات قد تحررن، بكرم النسب، أو بسلطان المال، أو بقوة العلم، فأقبلن على بزرة قاسم يتعهدنها بالسقي حتى أزهرت، وعلى شعلته يمددنها بالزيت حتى أسفرت. وفي ظل هذه الشجرة، وعلى ضوء هذه الشعلة، تألف (الاتحاد النسائي)، فكان في النهضة الحديثة قوة عاملة ظهر أثرها في التشريع والتعليم والمواساة.

وقويت المرأة المصرية بتقدم المدنية وشيوع الثقافة، فحلت قضيتها بنفسها على الرغم من معارضة الرجل.

كان الرجل يأنف أن يشرك امرأته أو يشاورها في شأن من شؤون عمله أو منزله؛ فأصبحت اليوم ولها من القوة ما تسيطر به عليه: فهي تدبر له العيش، وتحدد له السلوك، وتختار له الصديق، وتنتقي له الثوب، وهو لا يسعه إلا أن يلازم ويتابع، فلا ينفرد إلا بأذنها، ولا يغيب الابعلمها، ولا يتقدم عليها في ترتيب، ولا يفصل من دونها في خلاف، ولا يتعدى في مناقشة الميزانية المنزلية حدود الإيراد.

وكان الرجل يمنع امرأته من أن تخرج، فأصبحت اليوم ولها من السلطان ما تمنعه به إذا شاءت من أن يدخل.

وكان الرجل يرفض أن تتعلم المرأة الكتابة مخافة أن تتصل عن طريقها بالخارج، فأصبحت اليوم ولها من الثقافة ما تنافس به الرجل في المحاماة والطب والأدب والصحافة.

وكان الرجل يأبى على زوجته أن تسفر عن وجهها في الطريق، فأصبحت اليوم ولها من الحرية ما تسفر به عن جسمها على الشاطئ.

وكان الرجل يكره المرأة أن تقرع باب الصالون على ضيوفه، فأصبحت اليوم ولها من

ص: 5

الجرأة ما تقتحم به سور البرلمان على نوابه!

وهكذا ترعرع غرس قاسم، وأضاءت شعلة قاسم: ولكن دعوته أسرعت في طريق وأبطأت في طريق: أسرعت في الحرية والسفور حتى كادت تخرج عن الحد، وأبطأت في تضييق الزواج وتقييد الطلاق حتى كادت تنقطع عن السير. والعجيب أن المطلبين اللذين نجحا كانا مثار الخلاف والسخط، والمطلبين اللذين فشلا كانا موضع الوفاق والرضا. والعلة في السرعة أو النجاح هنا، وفي البطء أو الفشل هناك، أن الحرية والسفور أمرهما بيد المرأة، وأن تضيق الزواج وتقييد الطلاق أمرهما بيد الرجل!

سيداتي أعضاء الاتحاد النسائي!

إنكن تحتفلن اليوم بذكرى وفاة قاسم أمين، وإنه لوفاء منكن أن تمجدن ذكرى رجل قضي خمسا وعشرين سنة من عمره القصير، يسعى لكن، ويدافع عنكن، ويحتمل الأذى في سبيل أن يعترف الرجال بحقكن في الحياة ومكانكن من الوجود. ولم ينصرف إلى جوار الله إلا بعد أن رسم لكن خطة الجهاد، ووضع لكن دستور هذا الاتحاد. ولكن أجمل الوفاء أن تتبعن الطريق الذي نهجه، وتنفذون الدستور الذي وضعه. كان قاسم يطلب لكن الحرية من غير شطط، والسفور من غير تبرج، والاختلاط من غير ريبة، وممارسة الحقوق في نطاق الواجب، ومزاولة الأعمال في حدود التخصص. وإن كتبه لتشهد على أنه لم يطلب لكن شيئا يناقض الدين، أو يعارض الخلق، أو يجافي التقاليد، والسيدة زوجه، وهي من أفهم الناس لدعوته، وأعلمهم بنيته، تقول في حديث لها: إن فتيات هذا الجيل قد أسأن فهم هذه الدعوة وتجاوزن مداها؛ فإن قاسما لم يدع إلا إلى السفور الشرعي والاختلاط المقيد. وإنه ليحزنني أن يحمله الناس أوزار هذه الحال. وأعتقد أنه لو كان حيا لرأى في تبرج الفتاة فسوقا عن دعوته وزيغا عن سبيله.

فأنتن يا سيداتي خليقات أن تنقين مبادئ قاسم من شوائب الهوى والغي. وإنكن لتعلمن أن جوهر هذه المبادئ قيام الأمر بين الزوجين على المودة والرحمة، وبين المتعاملين على الصداقة والتعاون، وبين المواطنين على الدين والخلق؛ وأن التربية والتعليم والسياسة والحكم يجب أن تصدر عن هذا المبدأ وتتوافى عند هذه الغاية. والناس يقولون إن المرأة وهي معنى الوئام والحب في الأمة، أصبحت عاملا من عوامل التنافر والفرقة في الأسرة؛

ص: 6

وإن أسباب الطلاق بعد أن كانت تعزى إلى استبداد الزوج، أصبحت تعزى في الغالب إلى استهتار الزوجة. وقد زعم المحصون أن عدد المطلقات بلغ في بعض السنين الأخيرة خمسة وسبعين ألفا خرجن من دار الزوجية لأسباب يسأل الرجل عن أكثرها في بيئة العامة، وتسأل المرأة عنها كلها في بيئة الأوساط والخاصة. فعالجن يا سيداتي الزعيمات جموح الفتاة كما عالج زعيمكن العظيم عناد الفتى. واحملن المرأة الجديدة على أن تذكر الواجب حين تذكر الحق، وأن تفكر في الكون العام حين تفكر في الكون الخاص. سدد الله خطاكن في الطريق القويم، وأكرم مثوى المصلح العظيم في دار النعيم!

أحمد حسن الزيات

ص: 7

‌في الحديث المحمدي

للأستاذ محمود أبو رية

تشديد الصحابة في قبول الأخبار:

كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفتيا منهم يتقون - كما علمت - كثرة الحديث عن النبي (ص) بل كانوا يرغبون عن رواية أحاديثه، إذ كانوا يعلمون أن النبي (ص) قد نهى عن كتابة حديثه وأنهم لا يستطيعون أن يؤدوا كل ما سمعوه عن النبي على وجهه الصحيح، لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسمع، ولا تستطيع أن تحافظ على ما يبقى منه فيها على أصله، - مهما تحرى الإنسان الضبط - وأنهم إذا حدثوا بما سمعوا على وجهه، وكانت الذاكرة قد أمسكته وحافظت عليه كما هو، لم يأمنوا من يسمع منهم أن يغير فيما سمعه بالزيادة أو النقص، أو الغلط أو التبديل أو التحريف، إما لعدم ضبط الذاكرة أو لسوء الفهم أو لغير ذلك، وهم بما حملوا من أصول الدين وفروعه كاملا عن رسول الله ما كانوا ليرضوا بما رضى به بعضهم ومن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم من (رواية الحديث بالمعنى) لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ قد يغير المعنى، وأحاديث الرسول ليست كأحاديث غيره، وإنما هي أحكام أو بيان للأحكام. والحكم - وبخاصة في الحلال والحرام إنما يكون بنص قاطع وخبر متوارد قد جاء على حقيقته بلفظه ومعناه.

وقد بلغ من تحرجهم في رواية الحديث أنهم كانوا يتشددون في قبول الرواية من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم، ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط، حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثا إلا بشهادة على انه سمعه من الرسول (ص) وقد وضع بعمله هذا - أول شروط علم الرواية - وهو شرط الإسناد الصحيح، قال الذهبي في ترجمته (إنه أول من احتاط في قبول الأخبار).

روى ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئا؛ ثم سأل الناس. فقام المغيرة فقال: كان رسول الله يعطيهم السدس. فقال: هل معك أحد يشهد! فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر. هذا هو عمل أبي بكر، أما عمر فقد كان أشد من ذلك احتياطا وتثبتا.

قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (وكان عمر شديدا على من أكثر الرواية أو أتى

ص: 8

بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلّوا الرواية يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب في المنافق والفاجر والأعرابي).

وقال الذهبي في طبقات الحفاظ في ترجمته:

(وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب)

وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور! فقال استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت! قال (عمر) ما منعك؟ قلت استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت! وقال رسول الله (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع. فقال: والله لتقيمن عليه بينة - زاد مسلم - وإلا أرجعتك - وفي رواية ثالثة فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا! أمنكم أحد سمعه من النبي؟ فقال أبي ابن كعب والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك، فانظر كيف عمر تشدد في أمر ليس فيه حلال ولا حرام، وقدر ماذا يكون الأمر لو كان الحديث في حلال أو حرام! أو في أي شيء في أصول الدين أو فروعه.

وقد استند إلى هذه القضية من يقولون: إن عمر كان لا يقبل خبر الواحد، واستدل بها من قال: إن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره - كما في الشهادة.

وقال ابن بطال: يؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه في السهو وغيره.

وقد رأيت من قبل ما فعله عمر مع أبي هريرة وغيره. ولم تكثر أحاديث أبي هريرة إلا بعد وفاة عمر، فقد روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة - وقلت له - أكنت تحدث - في زمان عمر هكذا؟ قال:

لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته، وفي رواية: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر - أو عند عمر - لشج رأسي!

وعن أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله، حتى قبض عمر.

وعن الزهري: أن أبا هريرة كان يقول: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي! أما والله إذا لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن

ص: 9

كلام الله.

ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له:

إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث وأنا شريكك في ذلك.

ولم يتمكن أبو هريرة من الاتساع في الرواية إلا لأن الخلفاء الذين جاءوا بعد عمر لم يتشددوا كما تشدد عمر، ومن ثم استفاضت الرواية وتوسع الناس فيها، ودخلها ما دخلها مما لا تزال - ولن تزال - باقية باستمساك الحشوية بها.

المنصورة

(للكلام صلة)

محمود أبو رية

ص: 10

‌مصر واليونان

(مهداة إلى معالي الدكتور طه حسين باشا)

للأستاذ إبراهيم الترزي

كان لتلك الدعوة الكريمة التي وجهتها اليونان إلى معالي الدكتور طه حسين باشا لمنحه الدكتوراه الفخرية من جامعة (أثينا)، وكان للحفاوة البالغة التي استقبلته بها ملكا وحكومة وشعبا، أثر جميل خفق له قلب مصر، وجدد لها ذكرى صلتها الثقافية القديمة باليونان. . .

وكان ذلك التكريم الرائع الذي أحاط بمعالي الدكتور العظيم، شعورا نبيلا بجميل مصر على اليونان، وحنينا إلى تلك الصلة القوية التي ربطة هاتين الأمتين العظيمتين في غابر الأزمان!

ويحسن بنا - في هذه المناسبة - أن نذكر شيئا عن هذه الصلة الثقافية العريقة، وأن نشير إلى آثار مصر في نهضة اليونان الفكرية قديما. . . فقد تمخضت هذه الصلة عن مدينة عظيمة أيقظت الفكر الإنساني، ومنحته تراثا لا يزال حيا زاهرا إلى اليوم.

مما لا شك فيه أن صلة مصر باليونان قديمة ترجع تقريبا إلى الألف الثالث قبل الميلاد، فقد كانت مصر على أوثق اتصال بجزيرة (كريت) في ذلك العهد القديم، وقد تأثرت هذه بحضارة مصر وأخذت عنها الكثير من فنونها التي انتقلت فيما بعد إلى داخل بلاد اليونان. والتاريخ يذكر لنا أن الكريتيين خضعوا قديما للسيادة المصرية، وقد تأيد هذا بالعثور على طبق من الذهب محلى بالنقوش كان (تحتمس الثالث) قد أهداه إلى قائد من قواده عينه حاكما على (كريت) وغيرها من الجزر المجاورة لها.

وها هو ذا الأستاذ (ماسون أورسيل) يقرر تلك الصلة القديمة قائلا: (عندما انتقل أثر كريت إلى بلاد اليونان الداخلية في خلال النصف الأول من الألف الثاني ق. م أدخل معه ثمرات دلتا النيل، إذ كانت جزيرة كريت متصل اتصالا وثيقا بمصر منذ الألف الثالث ق. م. . ولقد اشترك الكريتيون بالثقافة المصرية كما يستدل من خطهم المؤلف إلى حد كبير من حروف هيروغليفية، وهذا جعلهم يصطبغون بصبغة الثقافة المصرية سواء في ميسين أم أيونيا).

وإن التأريخ يذكر لنا أنه كانت لليونانيين بمصر - في الزمن القديم - منطقة خاصة بهم

ص: 11

في شمال الدلتا، وكانوا يتمتعون بامتيازات كثيرة تحبب لهم البقاء في مصر.

ومما لا شك فيه أيضا أن اليونان قد استفادت أجل الفوائد من هذه الصلة التي أحيت فكرها، وغذته بلبان المعرفة، وربته حتى شب، وتحرر وانطلق إلى سماء المعرفة يحلق في آفاقها الفسيحة الممتدة، ويتجاوب مع أسرار الكون، ويفيض بنوره على العالمين.

والواقع أن اليونان قد حملت من مصر اللبنات التي أسست بها صرح مدنيتها الشاهقة، وإن الآثار التي يكتشفها الباحثون في أرض مصر الخصبة بالأفكار والحضارة تؤكد هذا. . . فليس خافيا أن مصر أعرق حضارة، وأقدم مدينة من اليونان. . . وقد اكتشف عالم فرنسي خلف الهرم الغربي جثة موظف من عهد الدولة الأولى وجدت على تابوته تلك العبارة (هذه جثة الحارس الأكبر لدار الكتب الملكية) وقد علق الأستاذ (ماسبيرو) على هذا بقوله: إن هذه المكتبة التي كان هذا الموظف الكبير مديرها أو حارسها كانت تحوي بين جدرانها كثيراً من الكتب في الأدب والفلسفة والأخلاق والتأريخ والاجتماع والقانون والسياسة والطب والحساب والهندسة والفلك والسحر والتنجيم. وإن هذا يؤكد لنا أنه قد سبقت هذه الدولة الفرعونية الأولى بأمد طويل حياة حافلة بشتى المعارف والعلوم. . . وإن هذا أيضا يجعلنا نستحث علماء الآثار والباحثين لكي يستجيبوا للنداء الحار المنبعث من أوراق البردي وغيرها من الآثار الراقدة في المتاحف وفي جوف الثرى. . ذلك النداء الملح الذي يدعوهم لبعثتها وإحياء ما فيها من أفكار ومعارف وليس أدلة على قوة الروح العلمية التي كانت سائدة في مصر من هذه المدارس التي كانت منتشرة في أنحائها، تحفل بشتى المعارف والعلوم) فقد كان المصريون يحبون العلم، ويحضون أبناءهم عليه، ويرونه أشرف مطلب للإنسان في الحياة. . . وكانت لهم مدارس تعلم القراءة والكتابة والحساب والهندسة والطب والفلك والنحت والتصوير والموسيقى وغير ذلك من العلوم والفنون، وكانت مدارسهم هذه منتشرة في كل إقليم، وكانت في الغالب ملحقة بالمعابد. ومن مدارسهم الكبيرة التي اشتهر ذكرها، والتي يمكن أن تسمى في التعبير الحديث جامعات، مدرسة هليوبوليس (أون)، ومدرسة ساييس (ضا الحجر) ومدرسة هرموبوليس (خمينو أو أشمون) ومدرسة طيبة، ومدرسة أبيدوس (العرابة المدفونة) ومدارس أخرى مختلفة.

ولا شك أن كثيرا من مفكري اليونان قد تتلمذ في هذه المدارس على أساتذة مصريين ونهل

ص: 12

من معارفهم مما كان له أكبر الأثر في علومهم وفلسفاتهم التي غزت العالم أجمع. يؤكد هذا المؤلفون اليونانيون أنفسهم إذ يقولون: (إن العلوم كانت مجهولة كل الجهل لدى اليونانيين حتى ملك أبسمانيك عرش مصر وفتح أبواب بلاده للأجانب بعد طول إقفالها، فتقاطر إلى وادي النيل الملاحون والتجار والسياح من اليونان، فبهرتهم المدنية المصرية، وكانوا على كثير من البربرية فاعتزم أولو الفهم منهم تعلم ما ينقصهم في مدارس الكهنة بمصر. . . وكذلك جاء طاليس وسولون وأفلاطون وفيثاغورس فحصلوا ما خلد أسماءهم في بطون التواريخ، ومعروف أن فيثاغورس وحده قضى بمدارس ممفيس وطيبة عشرين سنة).

إن أول فيلسوف يوناني - وهو طاليس - قد حج إلى مصر وبهرته حضارتها ومعارفها لدرجة أنه أوصى (فيثاغورس) بزيارتها! وأثر مصر في (طاليس) واضح بين يظهر في مذهبه القائل بأن أصل الكون هو الماء، فقد تأثر فيه بأسطورة مصرية تقول إن الماء قد وجد قبل أن يوجد شيء في الكون لأنه العنصر الأول المشتمل على جميع عناصر الموجودات.

وفيثاغورس صاحب الفلسفة العريضة العميقة قد تأثر أيضا بمصر فقد قضى فيها - كما يذكر المؤرخون - عشرين عاما ينهل من معارفها وعلومها، وأخذ عنها نظريتي خلود الروح وتناسخ الأرواح كما يشير إلى ذلك الأستاذ (ليجران) في تعليقه على (هيرودوت) حينما ذكر الأخير في الفقرة رقم 123 أن المصريين أول من قالوا بخلود الروح، ثم أشار إلى قولهم بتناسخ الأرواح وقال:(ومن اليونانيين من نقلوا هذه النظرية بعضهم قديما وبعضهم حديثا وظهروا بها في اليونان كأنها نظريتهم وكأنهم هم الذين وضعوها، وأنا أعرف أسماء هؤلاء الذين فعلوا هذا ولكني لا أذكرها). يعلق (ليجران) مترجم هيرودوت على هذا بقوله: وهؤلاء الذين أبى هيرودوت أن يذكر أسماءهم هم الأورفيون وفيريسيد وفيثاغورس وأمبيدوكل). ويطيب لي هنا أن أذكر تعليق المرحوم عبد القادر حمزة باشا على قول هيرودوت هذا إذ يقول: وهذا هو الذي يفسر لنا هذه الظاهرة الغريبة. . . وهي أن كثير من العلماء اليونانيين الذين أقاموا في مصر واتصلوا بمدارسها ثم عادوا إلى بلادهم وكتبوا مؤلفاتهم لم يقل واحد منهم إنه اقتبس منها علما أو فنا). والواقع أن قول هيرودوت قد كشف لنا عن حقيقة هامة يجب أن يوليها الباحثون عناية فائقة، فإنه من

ص: 13

الجائز أن يفعل مفكرون يونانيون غير من عرفهم هيرودوت هذه الفعلة إزاء نظريات أخرى، فعليهم أن يعنوا بالكشف عن الآثار ودراستها، فلعلهم واصلون إلى أدلة أقوى من التي بأيدينا. الآن مما يزيدنا يقينا بقوة الصلة بين مصر واليونان، فإن المؤلفين الغربيين والشرقيين لم يتأكدوا من آثار مصر في اليونان، بل إن بعضهم لم يذكرها ولم يشر إليها إلا بعد أن ظهرت هذه المكتشفات العظيمة التي أكدت قوة هذه الصلة وعمقها.

نعود إلى فيثاغورس وجماعته فنقول إن الفيثاغوريين قد تأثروا أيضا بكتاب الموتى فقد اكتشف الباحثون أنهم كانوا يضعون في قبور موتاهم صفائح ذهبية رسمت عليها الطرق التي يجب على الروح أن تسلكها بعد الموت وكتبت عليها الصلوات التي تتلوها. . مما يشبه ما جاء في كتاب الموتى!

أما (ديمو كريت) فيلسوف الذرة (فقد كان من أهم الأسفار التي أثرت في حياته العلمية إقامته بمصر التي يحدثنا هو أنها استغرقت خمسة أعوام كاملة قضاها كلها في تلقي علم الهندسة على علماء وادي النيل) كما يصرح بذلك الأستاذ (جانيه).

(وأفلاطون) أيضا قد زار مصر، واتصل بعلمائها، وتأثر بهم، فقد قال العالم شمبوليون:(تعلم فيثاغورس بمصر كل ما استطاع معرفته، وتعلم بها أيضا سولون وطاليس كل ما علماه لليونانيين، ومعروفة لدينا أسماء الأساتذة الذين تلقى عنهم أفلاطون علمه بمصر في مدرسة هليوبوليس).

أما الأستاذ (جول بابي) فإنه بعد أن يذكر أن فيثاغورس قد وضع نظريته في تناسخ الأرواح اقتباسا من مصر، يحدثنا بأن أفلاطون أيضا قد أخذ كثيرا من مصر، ثم بعد أن يعدد ما أخذه ذلك الفيلسوف العظيم عنها ويبين أثر ذلك في فلسفته يختتم كلمته قائلا:(وهذا كله مأخوذ من مصر، وكان من الضروري أن تجد الفلسفة الأفلاطونية - والأفلاطونية الحديثة - تربة صالحة لهما في مصر لأن جذورهما مصرية). ويذكر أيضا (جول بابي) أن كثير من مفكري اليونان قد زار مصر وتأثر بمعارفها، فإنه بعد أن يشير إلى ما اقتبسه اليونانيون من المصريين في مصير الإنسان بعد موته، وبعد أن يقرر أن المصريين هم أساتذة العالم في هذا الموضوع يقول: (وكان كثير من اليونانيين المشهورين يفتخرون بأنهم ساحوا في مصر، وكان تلاميذ هؤلاء العلماء والمعجبون بهم يرون شرفا لهم أن يكونوا قد

ص: 14

تنقلوا في مصر، فمن الشعراء مثلا هومير وأورفي وموزي وميلامب، ومن المشرعين ليكورج وصولون، ومن المؤرخين هيكاتي وهيرودوت وهيلانيكوس، ومن الفلاسفة والعلماء طاليس وفيثاغورس وكزينوفون وديموقريت وإيدوكس وإبنوبيد وأفلاطون).

وإن الأستاذ (ماسون أورسيل) قد قرر بعض آثار مصر في اليونان حين عرض للصلة التي كانت قائمة بينهما بقوله: (وأهم ما أخذته العقلية الإغريقية عن مصر هو الهندسة التي تعد النموذج الأصيل للمعرفة حسب مذهب أفلاطون) ثم يذكر أن مقاييس المسطحات والمكعبات كانت دقيقة إلى أقصى حد عند قدماء المصريين، ويشير إلى نضوج علم الحساب لديهم ذاكرا أن حساب الكسور كان يعد أهم شيء في هذا العلم، ويذكر أيضا أن حل المعادلات الرياضية كان من الأمور اليسيرة عندهم إلى أن يقول:(وكل هذه المعارف والعلوم قد أخذها اليونانيون عن قدماء المصريين بما في ذلك خيط البناء والساعة الشمسية وساعة الماء ثم يستطرد قائلا: (وكان علم الفلك موضع ملاحظات منظمة ومتوالية فقد جعلت السنة 365 يوما وربع يوم مقسمة إلى اثني عشر شهرا، وكان الأسبوع سبعة أيام مسماة بأسماء الكواكب السيارة السبعة، واليوم مكونا من اثنتي عشرة ساعة نهارية ومثلها ليلية. . . وفكرة البروج وشكل الكون الكروي، وكروية الشمس والقمر لا الأرض التي كانت تعد حلقة مستوية ممنطقة بالمحيط، وطبيعة النجوم النارية، وشرح الخسوف والكسوف. . .) الخ (وكل هذه المعارف والأفكار قد أخذه اليونانيون - إما قضية مسلمة وإما موضعا للنظر والبحث - عن قدماء المصريين. . . وإليهم أيضا يمكن أن تنسب نظرية العناصر الأربعة في الطبيعة مع فكرة أن الماء هو العامل الأساسي).

ولقد تأثرت اليونان أيضا بالديانة المصرية القديمة التي يجمع الباحثون على أنها أول ديانة بشرية في الوجود، وأكبر مثل على هذا التأثير انتشار عبادة (إيزيس) في اليونان، وتشييد معابدها على الطراز المصري، والتعبد فيها بطقوس شبيهة بالطقوس المصرية، حتى أن بلوطرك اليوناني ألف كتابا عن (إيزيس وأوزريس)، ومما جاء فيه قوله: إن (هذا الشعب (يريد الشعب المصري) لم يكن كما يتوهمه بعضهم يدخل في حفلاته الدينية أي مبدأ غير معقول ولا أي عنصر يوعز به الوهم أو توعز فيه الوسوسة، وإنما كانت عاداته تقوم على ما في إتباع هذه العادات نفسها من الفوائد أو على الافتتان في تسجيل ذكريات تاريخية

ص: 15

قديمة أو على إيضاح نواميس طبيعية). (الفقرة 8 من كتاب من الترجمة الفرنسية المطبوعة سنة 1924) ثم يستطرد بلوطرك بعد ذلك إلى أسطورة (إبزيس وأوزريس) فيقول: (إنها إحدى العقائد المستورة تحت ستار قصص وكتابات لا يظهر من خلالها إلا أثر قليل من الحقيقة المقصودة).

ومما لاشك فيه أن القوانين المصرية قد أثرت في القوانين اليونانية، بل امتدت إلى آثارها إلى القوانين الرومانية وبخاصة قانونها المسمى (قانون الألواح الأثنى عشر)(والقانون الروماني) الذي اقتبست منه أوربا قوانينها الحديثة.

ومن الواضح الجلي أيضا أن اليونان قد تأثرت في فنونها إلى حد كبير بالفنون المصرية، فإن الباحث يرى كثيرا من الملامح المصرية فيما خلفته اليونان من تراث فني خالد!

وجميع ما تقدم يكشف لنا عن الجذور المتأصلة القوية التي ربطت الثقافة اليونانية بالثقافة المصرية في الزمن القديم، ويبين مدى عمق هذه الصلة العريقة التي تفاعلت فيها الثقافتان إلى حد جعل الدكتور (غوستاف لوبون) يقول:(ولا نعلم تفصيلات ما تلقاه الإغريق عن المصريين ولكننا ندرك أنها معظم المعارف التي تضمنتها كتبهم، إذ لم يكن لهم من قبل كتب ولا علوم ذات شأن. . وما تقدم يدلنا أيضا على أن أصول العلم نهاية في القدم، فليس الإغريق هم الأصل ما داموا قد تلقوا العلم عن المصريين وتقدمهم هؤلاء بآلاف السنين، وعلى هذا يصح لنا القول بأن العلم كالمدنية صرح واحد تعمل في بنائه الأمم على التوالي، واحدة وراء أخرى، فإذا تقرر هذا صح أيضا أن نبحث عن مبلغ علوم المصريين في تأليف الإغريق الذين عاصرهم مثل فيثاغورس وأفلاطون).

حقيقة أن الفكر اليوناني قد تتلمذ على الفكر المصري، ولكن من الواضح البين أنه بعد ذلك فاق أستاذه كثيرا وبزه في كل مجال، وتسلم منه مقاليد الفن والفكر، واستوى على عرشه المقدس، ومنح العالم تراثا حيا ناضجا من الفلسفات والعلوم والفنون، وحرك عجلة الإنسانية فقطعت أشواطا جبارة في طريق المدنية والحضارة.

ثم بعد أن دب الوهن والضعف في حضرة اليونان الفكرية جاءت إلى مصر فبعثتها، وجددت فلسفاتها وتشربتها، وتأثرت بها، ونشرت أضواءها الوهاجة على العالمين. فقد استقبلت مصر كثيرا من المفكرين اليونانيين واحتضنتهم، ونشأت فيها (الأفلاطونية

ص: 16

الحديثة) وترعرعت، وحلت الإسكندرية محل (أثينا) في زعامة العالم الفكرية، وكانت مكتبتها الضخمة المشهورة متخمة بالمؤلفات الإغريقية وغيرها. .

هكذا كانت صلة مصر باليونان في الزمن القديم حية زاهرة جنى العالم منها أطيب الثمرات. .

وهكذا حافظت مصر على تراث اليونان الفكري ورعت صلتها الثقافية بها. .

وهكذا تعود هذه الصلة الآن بينهما بعد أن لوعهما الحنين، واستفاض بهما الشوق!!. وقد تجلت هذه العودة المباركة في تلك الدعوة الكريمة التي وجهتها اليونان إلى معالي وزيرنا العالم الأديب الدكتور طه حسين باشا لمنحه الدكتوراه الفخرية من جامعة أثينا العتيدة. . . وكم أسعدنا ذلك الحديث التي طلعت علينا به (الأهرام) إذ يقول معاليه بعد عودته (وقد أنشأت مصر في جامعة أثينا كرسي فاروق الأول للغة العربية وآدابها، وأنشأت اليونان في جامعة فاروق بالإسكندرية كرسي للغة اليونانية الحديثة وآدابها، وستنشئ معهدا للدراسات اليونانية القديمة في الإسكندرية. . وقد كانت الحكومة اليونانية رقيقة إلى أقصى حدود الرقة حين قررت أن ترد إلى الإسلام (مسجد أثينا) الذي كان معطلا منذ استقلال اليونان سنة 1821).

وأخيرا فإننا نرجو أن تتوطد هذه الصلة الثقافية من جديد، وتتسع وتعمق، فلعلها تكون بعثا فكريا جديدا للأمتين العريقتين، فتستعيدا مكانتهما القديمة السامية بين أمم العالم الحديث.

إبراهيم الترزي

ص: 17

‌مع أبي تمام في آفاقه

قصيدة النار

- 3 -

للأستاذ محمود عزت عرفة.

قصيدة النار

. . وقصيدة النار التي عقدنا لها هذا الحديث هي ما أنشده أبو تمام في حادث مقتل الأفشين وصلبه؛ وقد كان معبرا فيها ولاشك عن الشعور الذي ساد عاصمة الخلافة وقتذاك. ولعل القارئ فهم مما قدمناه عن محاكمة الأفشين أننا أميل إلى الانتصار له - ولكن الواقع تحقيق تلك القضية والبت فيها برأي حاسم يحتاج إلى أن يفرد له كتاب معدود الصفحات لا مقال محدود السطور. والذي يعنينا أن نذكره في هذا المقام هو أن أبا تمام كان صدى في قصيدته هذه للشعور العام، وخاصة الشعور العربي الذي ضاق ذرعا بنفوذ الموالي من العجم، وأرمضه ما تمكن لهم من النفوذ في مناصب السياسة والجيش. ندرك هذه الحقيقة من أشخاص الذين اختيروا لمحاكمة الأفشين، ومن الطريقة التي أعدوا بها الشهود ورتبوا مواقفهم. . . وندركه من بعض التهم نفسها في تلونها بروح الشماتة وتحامل العصبية، مع شيء غير قليل من التكلف والإسفاف. . . وندركه أكثر من ذلك، في هذه القصة التي يحكيها أسحق ابن إبراهيم المصبعي - أحد أعضاء هيئة المحاكمة - عن حديث جرى بينه وبين المعتصم بعد مقتل الأفشين قال له فيه: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة فأفلحوا، واصطنعت أربعة فلم يفلح أحد منهم. قال أسحق: ومن الذين اصطنعهم أخوك المأمون؟ قال: طاهر ابن الحسين فقد رأيت وسمعت، وابنه عبد الله بن طاهر فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت فأنت والله الرجل الذي لا يعتاض السلطان منك أبدا، وأخوك محمد بن إبراهيم وأين مثل محمد؟ وأنا فاصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل أيه، وإيتاخ فلا شيء، ووصيف فلا مغنى فيه. فقلت: أجيب على أمان من غضبك؟ قال: نعم. قلت له: يا أمير المؤمنين، نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها؛ واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها. فقال: يا أسحق، لمقاساة ما مر

ص: 18

بي في طول هذه المدة أيسر علي من هذا الجواب.

لقد كان يتجاذب النفوذ في بلاط المعتصم حزبان كبيران: العرب ومن يعتصب لهم، والأعاجم ومن ينتمون إليهم. وكان رأس الحزب العربي القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وهو أحد من حاكموا ألأفشين. وقد عاش في كنف المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل على التوالي فلقي منهم الإكرام والتبجيل جميعا. وكان ركن العرب عندهم وملاذهم الحصين، يشفع في مسيئهم فيشفع، ويلتمس الثواب لمحسنهم فيثاب.

وهو الذي استخلص أبا دلف العجلي من براثن الأفشين حين اعتل عليه ورام قتله، وكشف الغمة عن خالد بن يزيد الشيباني حين علقت به حبائل الدسائس وأمر المعتصم بنفيه إلى الحجاز وقد انضوى أبو تمام تحت راية هذا الحزب العربي بحكم طبيعته ونشأته وبتأثير من أدبه وثقافته. . وحسبك للتحقق من ذلك أن تسمع قوله لابن أبي دؤاد في بعض مدائحه:

أخذت بأعضاد العريب وقد خوت

عيون كليلات وذات جماجم

فأضحوا لو اسطاعوا لفرط محبة

لقد علقت خوفاً عليك التمائم

ولو علم الشيخان: أد ويعرب

لسرت إذاً تلك العظام الرمائم

تلاقي بك الحيان في كل محفل

جليل، وعاشت في ذراك العمائم!

والعمائم تيجان العرب كما قالوا، والشاعر هنا يكنى بها عنهم. . وندع الآن البحث في موقف الأفشين، مبغيا عليه أو باغيا، لنتحدث عن قصيدة أبي تمام التي نكرر أنه إنما أنشأها معبرا فيها عن شعوره وشعور عامة المسلمين في وقته؛ فهي من هذه الوجهة كلمة صادقة تفيض بالأحاسيس القوية، وآية من آيات الطائي لها على الأدب حق التسجيل.

الحق أبلج والسيوف عوار

فحذار من أسد العرين حذار

ملك غدا جار الخلافة منكمو

والله قد أوصى بحفظ الجار

يا رب فتنة أمة قد بزها

جبارها، في طاعة الجبار

بمثل هذا الإنذار القوي العنيف يبدأ أبو تمام قصيدته. وكأنما هو يحاول أن يصك به آذان هؤلاء الموالي جميعا ممن ركبوا رءوسهم فتطاولوا على الانتقاص من كرامة العرب، بل حاولوا أن ينالوا بالأذى ولي نعمتهم المعتصم وهو الكفيل أن يهلك كل متجبر فيهم، امتثالا لأمر الجبار سبحانه في أمثالهم من أهل البغي.

ص: 19

ثم ما أسرع ما ينفذ أبو تمام إلى أول المعاني الخطيرة التي أعدها لهذا المقام، فالأفشين قد أوتي نعمة لم يبرها ولم يحسن القيام عليها لأنه غير كفء لها. فهو حري إذا أن يسلب هذه النعمة ولا كرامة، وأن يلقى بعدها الخسران والبوار جزاء وفاقا:

جالت بحيدر جولة المقدار

فأحله الطغيان دار بوار

كم نعمة لله كانت عنده

فكأنها في غربة وإسار!

كسيت سبائب لومة فتضاءلت

كتضاؤل الحسناء في الأطمار

وتكرير التصريع في البيت الرابع من القصيدة (جالت بحيدر جولة المقدار) ينم على تدفق القريحة بالشعر، وانطلاق السجية فيه إلى مداها. فالمعاني تترافد على نفس الشاعر، والقوافي تقتتل في سبيل احتلال مواضعها من أبيات القصيدة. . وما بقى على السامع إلا أن ينتظر الروعة والجمال، والإبداع والافتتان.

وبعد أن يسجل أبو تمام مخادعة الأفشين لأمير المؤمنين، وكيده الذي ارتد إليه فأوبقه، وما كان يبيته لهذا الدين من شر ألبسه الله خزيه وعاره - يعود فيسجل العذر البين للمعتصم في اصطناع هذا الخائن، وفي غفلته سنين عما يبطن من النفاق، ويعتقد من الكفر والخلاف. فمثل هذا أمر قد تعرض له الرسول عليه الصلوات من قبل، وهو المعان من ربه ومن رأيه ومن مشورة صحبه بأعظم العون. وتعرض له أيضا الكرام الخيرة من آل هاشم:

هذا النبي وكان صفوة ربه

من بين باد في الأنام وقار

قد خص من أهل النفاق عصابة

وهمو أشد أذى من الكفار

واختار من سعد لعين بني أبي

سرح، لوحي، الله، غير خيار

حتى استضاء بشعلة السور التي

رفعت له سجفاً عن الأسرار

والهاشميون استقلت عيرهم

من كربلاء بأوثق الأوتار

فشفاهم (المختار) منه ولم يكن

في دينه المختار، بالمختار

حتى إذا انكشفت سرائره اغتدوا

منه براء السمع والأبصار

وهذا توجيه بارع لموقف المعتصم، وتعزية جميلة له في خطبه، فالأفشين صنيعته، ومجده صنع يديه. وهذه الخيانة إن دلت على شيء فإنما تدل على سوء الاختيار وخطأ التقدير،

ص: 20

وعلى أن المعتصم لغفلته (قد استعمل فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها) كما قال أسحق بن إبراهيم. وأبو تمام حين يلتمس الأعذار اللطيفة أو يتنقر البراهين القوية، لا يجد أرحب من التاريخ سجلا للحوادث، ولا موردا للأسى والعبر. . فليكن للمعتصم في انخداعه أسوة بالرسول وآل بيته، خدعوا في اختيارهم، ولم يصيبوا في بعض تقديرهم، فما نقصهم ذلك فضلا، ولا أعلق بهم مذمة.

والمشار إليه في قصة الرسول عليه الصلوات هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح. صحابي أسلم قبل الفتح واستكتبه النبي عليه السلام، فكان يكتب موضع الغفور الرحيم، العزيز الحكيم. . وأشباه ذلك. فأطلع الله عليه النبي عليه السلام فهرب إلى مكة مرتدا، وفيه نزل قوله تعالى:(ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه، ثم استأمن له عثمان، فأمنه الرسول.

وفي أخبار أبي العيناء أنه دخل على عبيد الله بن سليمان فشكا إليه حاله فقال: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبر؟ فقال: كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة محن الدهر، فأخفقته في طلبتي. قال: أنت اخترته. قال: وما علي أعز الله الوزير في ذلك؟ قد اختار موسى قومه سبعين رجلا فما كان منهم رشيد، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتبا فرجع إلى المشركين مرتدا؛ واختار علي ابن أبي طالب أبا موسى حاكما له فحكم عليه!

وأما (مختار) بني هاشم الذي يشير إليه أبو تمام فهو المختار ابن أبي عبيد بن مسعود الثقفي. كانت لأبيه في الإسلام آثار جميلة. والمختار هو كذاب ثقيف الذي جاء فيه الحديث. وكان يزعم أنه يوحي إليه في قتلة الحسين فقتلهم بكل موضع. وقتل عبيد الله ابن زياد. وله أسجاع يصنعها وألفاظ يبتدعها، ويزعم أنها تنزل عليه وتوحي إليه.

وإشارة أبي تمام إلى المختار الثقفي تنطوي على معنى دقيق، فهو رجل على خبث طويته وانحراف مذهبه قد خدم آل البيت، بما أبلى في الدفاع عنهم، وبما أراق من دم أعدائهم. ثم تمادى به طغيانه فزايل الحق وتنكب عن نهج الدين، فكان أن قاتله مصعب بن الزبير حتى قتله (في رمضان سنة 67هـ). وهكذا عفى بما أحدث من شر على كل ما سلف له من خير. ومثل هذا صنع الأفشين حين أبلى في الجهاد السنين ذوات العدد، ونصر الدين بسيفه

ص: 21

كما لم ينصره قائد؛ ثم محا ذلك كله بما تكشف من غدره واستبان من كفره.

ويخلص أبو تمام من احتجاجه للمعتصم، هذا الاحتجاج الذي حشد له عقله وعلمه ليعود إلى ذكر غدر الأفشين فيقول:

ما كان لولا فحش فجرة حيدر

ليكون في الإسلام عام فجار

ما زال سر الكفر بين ضلوعه

حتى اصطلى سر الزناد الواري

قال أبو العيناء: انصرفت يوما من عند ابن أبي دؤاد، فدخلت إلى محمد بن منصور، فوجدت عنده عمارة بن عقيل، وكان خلا له، وهو ينشده قصيدة له في الواثق، أولها:

عفت الديار رسومها قفر

لعبت بها الأرواح والقطر

فلما فرغ منها قلنا له: ما سمعنا أحسن من هذه الرائية، أحسن الله إليك يا أبا عقيل. فقال: والله لقد عصفت رائية طائيكم هذا بكل شعر في لحنها. قلنا له: وما هي؟ قال: كلمته التي هجا بها الأفشين. فقال محمد بن يحيى بن الجهم: أنا أحفظها! فقال: هاتها. فأنشده:

الحق أبلج والسيوف عوار

فحذار من أسد العرين حذار

فقال له عمارة: أنشدنا ذكر النار، فأنشد:

مازال سر الكفر بين ضلوعه

حتى اصطلى سر الزناد الواري

ناراً يساور جسمه من حرها

لهب، كما عصفرت نصف إزار

طارت لها شعل يهدم لفحها

أركانه هدماً بغير غبار

ففصلن منه كل مجمع مفصل

وفعلن فاقرة بكل فقار

. . . قال راوي الحديث: ثم ذكر المصلبين فقال:

سود اللباس كأنما نسجت لهم

أيدي السموم مدرعاً من قار

بكروا وأسروا في متون ضوامر

قيدت لهم من مربط النجار

لا يبرحون، ومن رآهم خالهم

أبداً على سفر من الأسفار

فقال عمارة: لله دره! لقد وجد ما أضلته الشعراء، حتى كأنه كان مخبوءا له. قال أبو العيناء: فاعتقدت في أبي تمام من ذلك اليوم أنه أشعر الناس، وما كان ذا رأي من قبل!.

لقد نالت هذه القصيدة إذا غاية الإعجاب منذ إنشادها، وبلغت من ذلك حظا لم تنافسه فيه إلا قصائد لأبي تمام معدودة. منها - فيما نرى - قصيدتاه اللامية والنونية في الأفشين أيضا.

ص: 22

وهما مدح له وتنويه في إبان تألق مجده وهكذا يتفوق أبو تمام في الحديث عن ألأفشين مادحا له في حياته أو قادحا فيه بعد موته.

ويبدو لنا أنه كان صادق التأثر مطبوع المعاني في كلتا الحالتين. أما اللامية فقد اقترح عليه إنشاءها عبد الله بن طاهر والي خراسان وهو على بابه بنيسابور، وقت أن كان الأفشين يعصف بقوى البابكية في أرشق. ومطلع هذه القصيدة:(غدا الملك معمور الحرى والمنازل)

روى أبو بكر الصولي قال: استنشد خالد بن يزيد أبا تمام قصيدته في الأفشين التي ذكر فيها المعتصم، وأولها:

غدا الملك معمور الحرى والمنازل

منور وحف الروض عذب المناهل

فلما بلغ إلى قوله:

تسربل سربالاً من الصبر وارتدى

عليه بعضب في الكريهة قاصل

وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى

بعقبان طير في الدماء نواهل

أقامت مع الرايات حتى كأنها

من الجيش إلا أنها لم تقاتل

قال له خالد: كم أخذت بهذه القصيدة؟ قال: ما لم يرو الغلة، ولم يسد الخلة. قال: فإني أثيبك عنها. قال: ولم ذاك، وأنا أبلغ الأمل بمدحك؟ قال: لأني آليت لا أسمع شعرا حسنا مدح به رجل فقصر عن الحق فيه، إلا نبت عنه. قال: فإن كان شعرا قبيحا؟ قال: أنظر فإن كان أخذ شيئا استرجعته منه!

فهذا نصيب اللامية وحظها من التقدير، أما النونية التي مطلعها (بذ الجلاد (البذ) فهو دفين) فقد مدح بها أبو تمام الأفشين عندما قدم ببابك إلى سر من رأى، فأمر الخليفة باستقباله وأفاض من نعمته عليه. يقول الطبري: توج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم منها عشرة آلاف ألف صلة، وعشرة آلاف ألف يفرقها في أهل عسكره، وعقد له على السند، وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، وأمر للشعراء بصلات، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر (223هـ). وكان مما قيل فيه قول أبي تمام الطائي:

بذ الجلاد البذ فهو دفين

ما إن به إلا الوحوش قطين

ص: 23

ثم أورد من القصيدة أبياتا. ويبدو أن أبي تمام لم ينصف في هذه القصيدة أيضا، فقد ذكر صاحب معاهد التنصيص أن المعتصم (أمر للشعراء الذين مدحوا الأفشين بثلثمائة ألف درهم، جرت تفرقتها على يد ابن أبي دؤاد. فأعطى منها محمد بن وهيب ثلاثين ألفا، وأعطى أبا تمام عشرة آلاف). وقصيدة محمد بن وهيب مطلعها:

طلول ومغانيها

تناجيها وتبكيها

ومنها قوله:

بعثت الخيل، والخير

عقيد بنواصيها

قال أحمد بن أبي كامل: قلت لعلي بن يحيى بن المنجم: أولا تعجب من هذا الحظ، يعطي أبو تمام عشرة آلاف درهم وأبن وهيب ثلاثين ألفا، وبينهما كما بين السماء والأرض، فقال: لذلك علة لا تعرفها؛ كان ابن وهيب مؤدب الفتح بن خاقان، فلذلك وصل إلى هذه الحال.

(للكلام بقية)

محمود عزت عرفة

ص: 24

‌2 - الحاج خواجة كمال الدين

(1870 - 1932)

للأستاذ أرسلان بوهدانووكز

بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي

مسجد وكنج:

لقد اتصل به وبصديقه ورفيقه الشيخ نور أحمد، أن في ضاحية وكنج التي تبعد خمسين ميلا عن لندن، مسجدا لا يشغله أحد ويكاد يصبح أنقاضا لقلة العناية به. ولقد بنت هذا المسجد صاحبة العظمة أميرة بيهوبال بناء على رغبة المرحوم الطيب الذكر الدكتور هنري ليمر، المستشرق الذي شغل في بعض أوقاته في الهند منصب المسجل في جامعة البنجاب، وبعد موته لم يعن أحد من ورثته بالمسجد فآل إلى الخراب عام 1912، فاغتنم الشيخ أحمد نور وخواجة كمال الدين الفرصة واحتلا المسجد ولكن ورثة الدكتور ليمر طلبا إليهما إخلاءه فاستجار المسلمان المجاهدان بالسير عباس الذي كان في ذلك الوقت يشغل منصب العضو المسلم في مجلس سكرتيرة حكومة الهند، فأوجد لهما التبرعات والمساعدات التي أرضت ورثة الدكتور ليمر، ولما أقبلت سنة 1913 كان خواجة كمال الدين إمام المسجد المسؤول عن إدارته، واستقر على مقربة منه في سكينة وسلام بقية الأيام التي عاشها في بريطانيا، ونقل مركز نشاطه إليه وسماه مسجد الشاه نسبة إلى جده حاكم بهوبال الحالي، وافتتح للمرة الأولى منذ تشييده للمصلين.

مجلة إسلامك ريفيو:

أبتدأ منذ سنة 1912 ينشر على نفقته الخاصة مجلة شهرية سماها (إسلامك ريفيو)، ما لبثت أن لاقت انتشارا واسعا في جميع بلاد المسلمين، حتى في النائية جدا منها. لقد بلغنا أن هذه المجلة الإسلامية واسعة الانتشار في الشمال الشرقي من التركستان الصينية. وفي السنة التالية أصدر مجلة باللغة الأردية ليقرأها المسلمون في الهند سماها (رسالة لإشاعة الإسلام) وظل يشرف على تحريرهما حتى لبى نداء ربه عام 1932.

نشاطه

ص: 25

قال الدكتور يميني رئيس الجمعية الإسلامية في زانغون في بورما من خطاب ألقاه في مسجد وكنج أثناء حياة خواجة كمال الدين (لقد جذب محاضراته المتعددة، ومواعظه التي تحرك العواطف، قلوبا مستعمية، وراحت تلك الخطب والمواعظ تصل إلى كل جزء من الجزيرة البريطانية، في صور متنوعة من الكتب الصغيرة)

ولم يمض وقت طويل على نشاطه الجبار، حتى اعتنق الإسلام أكثر من ألف رجل وامرأة من الإنجليز، ومن بين هؤلاء المسلمين شخصيات مشهورة كاللورد هدلي، بدأ حملته التي كانت تهدف إلى بناء مسجد (نيزاميا) في لندن؛ فتألفت لجنة برآسة اللورد هدلي كانت سببا مباشرا في تأسيس الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى في لندن، وافتتحت أبوابها للمسلمين من أنحاء الأرض وبقى اللورد هدلي رئيسا لها حتى توفاه الله إلى رحمته عام 1935.

إن نجاحه العظيم في مثل هذا الوقت القصير ليدعو إلى الدهشة والإعجاب. ففي عام 1925 رافقه اللورد هدلي في حجه الثاني إلى مكة. والآن وبعد سبعة وثلاثين عاما من هذا الجهاد المقدس، قد لا نستطيع أيضا إدراك المتاعب التي كان يلاقيها من يدعو للإسلام في إنجلترا قبل الحرب العالمية الأولى. ولعل مولانا محمد علي - مترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية ورئيس الجمعية الإسلامية في لاهور بالباكستان - استطاع في ذلك الوقت وصف هذه المصاعب حين قال:(هنا كان إنسان من شعب محكوم في طريقه إلى الأمة التي حكمت بلاده، يتجه من بلاد مازالت تعد في أسفل درجات سلم الحضارة إلى بلاد تقف على قمة ذلك السلم، ليحول سكان هذه البلاد الراقية، إلى دين قومه؛ يحول الناس عن الديانة التي تعتبر عاملا أساسيا في تقدم أوربا في الناحية العلمية والمادية والسيطرة على الدنيا، إلى ديانة أصبحت لديهم مرادفة للانحطاط والجهل والذل).

نشاطه الأدبي:

لقد كان بعيد النظر حين بقى بعيدا عن السياسة، ولم يرفع عقيرته حتى رأى الخطر يقترب من الإسلام، ولكنه كان لا يسكت إذا مس إنسان الإسلام من قريب أو من بعيد. ولذلك ألف كتابين في الرد على بعض الجماعات الإنجليزية حين تعرضت للإسلام وهما: (الهند في

ص: 26

الميزان) و (البيت المقسم).

وفي سنة 1917 اتخذ العدة لطبع ترجمة محمد علي للقرآن - في وكنج، وهو عمل له خطورته البالغة في ذلك الوقت. أما آثاره الأدبية فتزيد على مائة كتاب معظمها عن الإسلام والأمور الدينية الأخرى ومن خير مؤلفاته:

(1)

مصادر الديانة المسيحية (2) النبي المثالي (3) نحو الإسلام (4) إنجيل العمل

نعمته في دراسة القرآن الكريم:

وزيادة على ما ألف، فقد كان يعد كتابا ضخما سماه (تعليقات على القرآن الكريم) الذي لم يتمه، وكانت سعة إطلاعه على القرآن موضع إعجاب معاصريه وتقديرهم. فلقد قال عنه الشيخ حسن مشير كداوي:(إن قوة خواجة كمال الدين كانت تنبعث من الكتاب المعجز - القرآن الكريم، لقد درس القرآن دراسة عميقة على الرغم من أنه من غير العرب، وكل أحاديثه كانت مستمدة منه) وقال عنه اللورد هدلي: (لم يسبق لي أن رأيت إنسانا قبله، في مقدوره التعبير عن آيات الله المعجزات في سهولة لم يتحها إلا للأنبياء والمرسلين).

محاربة الطائفية:

وميزة كبرى من ميزات خواجة كمال الدين هي أنه - وهو يدعو لنشر الإسلام - قد نجح إلى حد بعيد في إزالة النعرات الطائفية من نفوس المسلمين الذين كان يتصل بهم، وقد وصف هذا العمل تلميذه ومساعده المستر يعقوب خان، رئيس تحرير صحيفة (ليت) التي تصدر الآن في الباكستان باللغة الإنجليزية بقوله:(لا طائفية في الإسلام)، كانت هذه الجملة شعاره في الحملة التي قام بها خواجة كمال الدين، فأصبحت وكنج ملتقى الطوائف من المسلمين من السنيين، والشيعة، والوهابيين، والأحمديين؛ يجتمع كل أولئك إخوانا على سرر متقابلين، فكان منظر هذه الوحدة موضع إعجاب الإنجليز، وهو بعمله هذا قد ضرب مثلا رائعا للمسلمين فمهد بذلك الطريق إلى نهضة الإسلام التي تأخذ طريقها إلى عالم الوجود.

نشاطه في أوربا:

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أخذ تأثيره يمتد إلى ما وراء الجزيرة البريطانية؛ حتى

ص: 27

عم جميع أوربا، فكان معروفا في فرنسا، وألمانيا، وبلجيكا التي زارها عدة مرات. وكان من أثر الدعوة إلى الإسلام باللغة الإنجليزية في بريطانية أن تأسيس مركز في برلين للجمعية الإسلامية الباكستانية، ولم تمض نهاية سنة 1920 حتى شيد مسجد في عاصمة الألمان على نفقة تلك الجمعية، وتأسس في باريس مسجد آخر من تأثير خواجة كمال الدين، لأن فرنسا - وهي دولة استعمارية تحكم عددا من المسلمين - لا تحب أن تسبقها بريطانيا وألمانيا في هذا المضمار. أما أقطار أوربا الأخرى، فنعرف أن تأثيره أمتد حتى شمل بولندا، فترجم أحد مؤلفاته عن الإسلام إلى اللغة البولندية في نهاية عام 1930.

نشاطه في بلاد الإسلام:

لقد امتدت جذور نشاطه في بلاد الإسلام أكثر من امتدادها في أوروبا، وخاصة في أفريقيا وآسيا، القارتين اللتين تعرضتا لتيار عنيف من الثقافة البريطانية، فكانت مجلته إسلامك ريفيو تلاقي انتشارا واسعا بين المسلمين. وقد زار عدة مرات بلاد الإسلام وخاصة في مواسم الحج حيث زار الأماكن المقدسة حاجا مرتين، عام1910، و1923. ثم قام برحلة طويلة وصل بها إلى سنغافورة وجاوا، وكان يقابل بالترحاب في كل دولة وخاصة في مصر المضيافة العظيمة، إذ استقبل فيها استقبالا حارا، واستمعت إلى فصاحته جماهير غفيرة من المسلمين وهو يتدفق كالسيل عن الدين الحنيف.

أيامه الأخيرة

أخذت صحته تنهار حوالي سنة 1927 من جراء نشاطه الجبار، وعمله المضني، فترك إنجلترا راجعا إلى مسقط رأسه في بلاد الهند. وقبل أن يغادر بريطانيا ألف مجلس أمناء لرعاية المسجد، ووقف جميع ما يملك، وتقدر قيمته بمائة وخمسين ألف روبية، على الجمعية الإسلامية في وكنج، وحول إلى هذه الجمعية كافة الحقوق المتعلقة بطبع مؤلفاته أو ترجمتها، وكذلك مجلة إسلامك ريفيو.

وزاد عليه المرض وألح، فانحطت قواه، وراح يعاني آلاما مبرحة من أمراض صدرية احتملها بصبر عجيب وجلد نادر، مدة خمس سنوات. وعلى الرغم من تعاليم الأطباء المشددة بوجوب الإخلاد إلى السكينة، فإنه لم يرتح دقيقة واحدة، وعلى الرغم من عدم

ص: 28

استطاعته حمل اليراع، فقد كان يملي البحوث الضافية، والمقالات الرائعة، حتى الكتب، عن إسلام. وقبل موته بساعات في مدينة لاهور بالباكستان في الثامن والعشرين من ديسمبر سنة 1922 الموفق أول رمضان عام 1351 هجرية أملى آخر فقرة من تعليقه على القرآن الكريم، وقد نشر ذلك التعليق في عدد إسلامك ريفيو الصادر - في إبريل - عام 1933. وحتى النفس الأخيرة من تلك الحياة المجيدة، عمل جاهدا في سبيل الإسلام ومات وكان آخر الكلمات التي ودع بها الدنيا تدور حول الجهاد العظيم في مسجد وكنج تحت راية الإسلام. رحمه الله رحمة واسعة.

للكلام صلة

علي محمد سرطاوي

ص: 29

‌رسالة شعر

شيخ القضاة

للأستاذ محمود غنيم

نضو السهاد أطال من إغفائه

وشفاه شافي الموت من برحائه

ألقى عصاه واستراح بمرفأ

يلقى المجاهد فيه حسن جزائه

مات الذي لم ينس مصراً والردى

يمشي بطيء الخطو في أعضائه

ما زال في الميدان يحمل سيفه

ويصول حتى خر من إعيائه

كان الهتاف لمصر كل أنينه

فوق الفراش وكان بعض دوائه

عبد العزيز خلا بمصر مكانه

في طول ساحته وعرض فضائه

كون برمته خلا من أهله

يا من لهذا الكون بعد خلائه

هبة الهبات سخا الزمان بها على

هذا الوجود وضن بعد سخائه

لهفي عليه وألف لهفي ما خبت

شمس الضحى وخبا شعاع ذكائه

الموت أطفأ ذلك الذهن الذي

عجز الضفا والشيب عن إطفائه

جسم نحيل غير أن وراءه

أفقاً يتيه الظن في أرجائه

وقريحة نفاذة لو وكلت

بالغيب ما عيت بكشف غطائه

قالوا السياسة قلت كان إمامها

أما القضاء فكان بدر سمائه

كم جولة في مجمع الفصحى له

بين النجوم الزهر من علمائه

والعبقرية أينما وجهتها

تسمو بصاحبها على نظرائه

لما نعى شيخا القضاة نعاته

قلنا قضاة الله فوق قضائه

حكم مضى كالسهم فيمن حكمه

قد كان مثل السهم عند مضائه

بكت العدالة يوم مات كأنه

صخر بكته مقلتا خنسائه

عرفتة يفني في سبيل حياتها

ويقيم حائطها على أشلائه

دستورها ما خط من أحكامه

وتناقل الفقهاء من آرائه

مات الذي اشترك الأحبة والعدا

بقلوبهم في نعيه وبكائه

لا تنثروا الأزهار حول ضريحه

فخلاله ينفحن في أنحائه

ص: 30

هتفت شمائله بملء لهاتها

ترثيه قبل هتافنا برثائه

والله ما نظم الرثاء لراحل

كلسان ما أسداه من آلائه

ومن الثناء ممحض ومموه

لكن صدق القول غير ريائه

هذا الذي ولى نقي الثوب ما

من شبيهة علقت بذيل ردائه

قد كان أرفع قيمة من دهره

وأجل من حرمانه وعطائه

النفي لم يقدر على إخضاعه

والحكم لم يقدر على إغرائه

من أجل مصر ما يجيش بصدره

من حبه للناس أو بغضائه

وإذا أحب فلن نراه محابيا

شتان بين حبيبه وحبائه

يهوي ويقلي وهو في كلتيهما

بالعقل مغلوب على أهوائه

وينال بالإسفاف منه غريمه

وبغير ذلك ينال من غرمائه

خصم شريف إذ يصول وربما

أغضى فكان القتل في إغضائه

حر حمى الأنف إن سيم الأذى

فالموت دون رضائه

أنف لو أن الخلد شيب هواؤه

بغبار ضيم عاف شم هوائه

وصراحة في الرأي يبديه وإن

لم يرض ذو الجبروت عن إبدائه

عجبي كيف استطاع الصدق في

لغة السياسة وهي من أعدائه

قد كان في هذا الزمان وأهله

معنى جميلا في كتاب شائه

لو كان صادف مثله (دوجين) لم

يبحث عن الرجل الشريف التائه

هذا الرفات سجل أكبر ثورة

بالله لا تطووه عن قرائه

خطو على مرآي العيون ضريحه

ثم أكتبوا التاريخ من إملائه

وخذوا الحقائق عنه بعد مماته

والميت مؤتمن على أنبائه

هذا بقية معشر قد خط فيه

صحف الجهاد كتابه بدمائه

اليوم نفقد صاحبيه بفقده

فنى الثلاثة جملة بفنائه

لما أهاب النيل في الجلي بهم

لبوه أطهر أنفسا من مائه

فتحوا على المعتل باب عرينه

ولقوه وهو يتيه في غلوائه

وسلاحه بدم العدو مخضب

والنصر معقود بظل لوائه

ص: 31

كي ينزعوا من بين فكيه لهم

حقا صراحا حان يوم قضائه

ما كافأوه قوة لكنهم

بالحق والأيمان من أكفائه

رحماك يا عبد العزيز أفلت في

ليل يضل النجم في ظلمائه

رحماك ما زال الدخيل يجوس في

أرض الحمى ويطير في أجوائه

ليت المنية أمهلتك هنيهة

حتى ترى عيناك يوم جلائه

هيهات لا طاحت به حرب ولا

نجحت عهود السلم في إقصائه

في كل يوم علة لبقائهم

تبدو بوجه غاض ماء حيائه

أديت للأوطان كامل حقها

لكن حقك لم تقوم بأدائه

لو كان أنصفك الحمى حيا لما

قاسيت ما قاسيت من إيذائه

أو كان أنصفك الحمى ميت غدا

مثواك فيه يطاف حول بنائه

لكنه وطن يحط الشوك في

طرقات من يسعى إلى إعلائه

يا رب دستور نظمت بنوده

نظم الجمان وكنت كبش فدائه

يا كابر الأحرار حزبك ريع في

حر أبي النفس من خلفائه

جددت أحزان الحمى في معشر

إن يشك داه كان بلسم دائه

عدلي ومن عدلي وثروت وهو من

هو في أصالة رأيه ودهائه

(ومحمد) ولي ومن كمحمد

من مثله في نبله وآبائه

نفر إذا الدستور في مصر أنتعى

فهم الكرام الصيد من إبائه

حكموا فما عبثوا بأموال الحمى

وشروا سعادتهم بطول شقائه

أو خاصموا المحتل خارج حكمهم

فإذا تولوا بادروا بولائه

يا وافيا بعهوده لبلاده

ولكل من عرفوه من خلطائه

ولوردة عاشت حياة الورد ما

راع ابنها أو راعها ببنائه

لله درك تتصف الأموات في

زمن تفشى الجور في أحيائه

أقسمت أن في وفائك منة

لرجال عصرك في رقاب نسائه

قالوا السموءل قلت لو أدركته

لم يضربوا أمثاله بوفائه

عبد العزيز ولا أزيدك خبرة

بالموت كل شارب بانائه

ص: 32

قد كنت تبقى لو تكفلت العلا

والمكرمات لربها ببقائه

لكن عدوي الموت عدوي لم تزل

من آدم تسري إلى أبنائه

يهني سماء الله أنك جارها

والخلد أنك نازل بفنائه

أقسمت لو جزع الصباح على امرئ

ما لاح بعدك مشرقا بضيائه

غنيم محمود

ص: 33

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

نحن المساكين من سامعي الإذاعة

كنا نسكن في إحدى ضواحي القاهرة، ونعمنا فيها زمانا بالهدوء والجمال، ثم أغارت علينا أسراب البعوض فنغصتنا وكدرت صفونا، وأخرجتنا من ذلك العش الهادئ، كما أخرج الشيطان أبوينا آدم وحواء من الجنة. . ولجأنا إلى شقة بحي من أحياء القاهرة الزاخرة العامرة. وتنفسنا الصعداء، إذ صرنا بنجوة من ذلك الذي كان يلدغ أجسادنا فيعكر دماءنا، ولكن سرعان ما تبين لنا أن صروف الدهر لا تزال تترصدنا، فلقد أبدلتنا بالبعوض الإذاعة. . ورأينا برامج الثانية أشد تبريحا من زباني الأول، هذا ينال من الجسد، وتلك تنكل بالذوق السليم. وقد كنا نحاول أن نتقي البعوض بغلق النوافذ ورش السوائل المبيدة، ولكن لا بد لنا من الهواء، فإذا فتحنا له دخل العدو المهاجم معه. ولم يكن البعوض بمنزلنا فقط حتى نستطيع حصاره فيه وإبادته، وغنما هو يأتينا من كل مكان في الضاحية، فأن قتلنا منه رسلا أقبلت أرسال. وكذلك صار حالنا مع الإذاعة، نقفل مذياعنا، فتهاجمنا أصواتها من مذياع الجيران، وبكل شقة مذياع، ولكن هذه الشقة التي تقع تحتنا يسكنها (فسخاني) الحي، وهو رجل عريض القدر كبير المقام، لأنه (فسخاني) الحي كله. . ومذياعه على قدر مقامه وعلو قدره، فلا بد أن يعلو صوته حتى سمع من لا يحب أن يسمع. . والرجل يحب ألوان الغناء التي لا أسيغها بل لا أطيقها، وخاصة (التواشيح) التي يتغنى بها (الفقهاء) في الموالد، التي تنقلها الإذاعة المصرية بعجرها وبجرها، فتصك الأسماع وتؤذي الأذواق السليمة بما تجلجل أصوات المنشدين وما تطلقه حناجر المستمعين.

وما زلت أعاني عقابيل (السهرة) الأخيرة التي احتفل فيها بمولد سيدي مرزوق الأحمدي في مسجده بالجمالية، ولم تفت الفرصة إذاعتنا الهمامة، فشمرت عن ساعد (الميكرفون) وراحت تبحث في تلك الأزقة حتى بلغت ضريح (سيدي مرزوق الأحمدي) ومن الإنصاف أن نسجل لها ذلك الجهد الكبير الذي كشفت به ذاك الضريح فبزت بهذا الكشف (كولمبس) وغيره من كبار المستكشفين. . فما كنا نعرف (سيدي مرزوق الأحمدي) قبل اليوم وما كنا نسمع له ذكرا. .

ص: 34

في تلك (السهرة) سمعنا عجبا. . بدأ المذيع نحن الآن في مسجد سيدي مرزوق الأحمدي - ووصف موقعه بالضبط - لنذيع عليكم الاحتفال بمولده. . . يالها من همة. . يزيدها شأنا علو مذياع جارنا (الفسخاني) المفروض علينا سماعه فرضا! ثم غنى (الفقي) ومعه (تخته) يردد ما ينشده ويحكي عبثه وتكسره. . وكلما ارتفعت أصوات الاستحسان تمادى في تقطيع أوصال الكلمات وتشويه نطقها بمختلف الأفانين، كأن يقول:

(نابي (نبي) ألبس الدنيا جمالا) ويمد الرجل نون (نبي) ما ساعده نفسه وهو طويل. . . وهو يخلط ما ينشد، يأتي ببيت من منظومة وآخر من أخرى، ثم يسترسل في نثر مسجوع، ويتضمن كل ذلك معاني سخيفة وخيالا سقيما، ومما علق بالذاكرة

يا أل بيت النبي عبيدكم غلبت

عليه شقوته والساعة اقتربت

منوا على من به أيدي النوى لعبت

ومنه:

(في يوم موته أهتز العرش طربا، ومال الكرسي عجبا) ويستمر في كلام غث يتحدث به عما يزعم أنه وقع يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الكلام أن الحيتان في قعر البحار. . لست أدري ماذا فعلت!

ويدرك كل ذي ثقافة إسلامية صحيحة ما في ذلك الكلام كله من انحراف عن جادة الفكر الإسلامي السليم. ولكن الإذاعة المصرية لا تدرك ذلك، لأنها جاهلة، وجهلها مركب، إذ تضيف إلى جهلها أن تذيع هذه الحفلات على أنها حفلات دينيه وتجترم تشويه الدين بإذاعة هذا السخف باعتباره من مظاهر الدين!

ذلك قليل من كثير، مما تصيبنا به الإذاعة التي نسمعها على كره. وهو مثل من المهزلة الإذاعية التي تمثل في هذه البلاد المسكينة.

إلى معالي وزير المعارف

مسكينة بنيتي الصغيرة! كانت ناعمة بطفولتها، تغدو إلى (الروضة) في شوق وإقبال، وتروح إلى البيت في مراح ونشاط، تحصل ما يلقى إليها في أثناء المرح واللعب، بل تلتقطه كما يلتقط الطير الحب، شهيا مريئا. ثم تبدل الحال، إذ أصبحت تنوء بالواجب المدرسي ولما تزل في الروضة! هذه عمليات حسابية، وتلك قطع إملائية، وغير ذلك، مما

ص: 35

لا يناسب عقلها الصغير ولا يلائم طورها في التعليم.

ومسكين أنا! لقد كنت سعيدا مغتبطا بما كنت ألحظه في بنيتي من شدة الرغبة في التعليم، وهأنذا أرى الجذرة المتقدة في قلبها تكاد تخبو! وقد علمنا أن لا شيء أخطر على مستقبل الناشئ من إرهاقه وتبغيض التعليم إليه، ولهذا لم يكن يهمن مقدار ما تحصله ابنتي بقد ما يهمني أن تظل جذوة الرغبة في العلم متقدة بقلبها.

لذلك رحت أتقصى الأمر وقد تبادر إلى ذهني أولا أن هذه الروضة التي انتقلت إليها الطفلة هذا العام تسير في نهج غير الروضة التي قضت فيها العامين الماضيين، ولكن علمت بعد، أن أطفال الرياض سيمتحنون آخر العام امتحانا عاما! وعلى ذلك راحت المدرسة التي كانت روضة، ترسل إلي كل شهر تقريرات عن الطفلة تثير العجب، فليس بها أية ملاحظات تربوية، بل تكاد كلها تكون صورة واحدة مضمونها أن الطفلة في حاجة إلى عناية! أية عناية بالله؟! هل أستأجر لها معلما خصوصيا؟ وهل أنا أرسل ابنتي إلى روضة أطفال تعالج فيها بوسائل التربية الحديثة التي تقوم على التشويق والمرح، أو أبعث بها إلى مدرسة تلقنها المعلومات وتحشو ذهنا بما لا يقوى على هضمه، وتريد المدرسة أن أعينها على هذا الحشو والتلقين، بل أقول الإفساد والتشويه!

كنت أسمع شكوى بعض من يلي أمر التعليم في المدارس الابتدائية، من ضعف التلاميذ الذين تخرجوا في الرياض بالقياس إلى من تعلموا في المدارس الأولية، وهي شكوى تدل على ضيق الأفق، لأن المعلومات والمهارة التعليمية التي اكتسبها الفريق الثاني إنما جاءت على حساب الإهمال في التربية الفكرية والذوقية والجسمية التي يهتم بها في الرياض، أو المفروض أن يهتم بها فيها، إلى ما في التبكير والإسراع في التزويد بالمعلومات من القسر والإرهاق اللذين لا يتحقق معهما شعور المتعلم بفائدة ما يتعلمه واقتناعه بحاجته إليه.

فهل ذاك الامتحان المزمع، انتصار لشكوى الآلات التي لا تحسن إلا الحشو والضغط كما تحشى عياب القطن وتضغط لتحتوي على أكبر كمية ممكنة؟

وأكبر العجب أن يكون ذلك، وعلى رأس وزارة المعارف الدكتور طه حسين باشا، وفي الوقت الذي يعلن فيه الحرب على الامتحانات. . في الوقت الذي قرأنا فيه كلمة معاليه في اجتماع مجلس التعليم الأعلى، التي يقول فيها:

ص: 36

(أما البرامج فإنها مثقلة إلى حد لا يطاق، وهي على إثقالها لا تثقف كما ينبغي أن يثقف الطالب، والخير كل الخير أن نلقي إلى التلاميذ ما يقبلونه وما ينتفعون به دون إرهاق. أما الامتحانات عندنا فهي كارثة الكوارث لا يكاد الطفل يدخل المدرسة حتى يمتحن من سنة إلى سنة، ونحن في هذا نكاد ننفرد بهذه العلة دون كثير من الأمم المتحضرة).

أكبر الظن أن معاليه لا يعلم بهذه الكارثة التي توشك أن تنقض على هذه القطع الغضة الصغيرة من أكبادنا التي تتناثر في رياض الأطفال. إن هذا السخف لا يمكن أن يتم برضاء ذلك المفكر الكبير الذي يحارب - فيما يحارب - هذا السخف. . ويعمل على إبعاده عن الكبار، فما بالك بالصغار!

يا معالي الباشا، أدرك تلك الزهرات قبل أن تدعكها أيدي الجفاة. .

ذكرى قاسم أمين

احتفل الاتحاد النسائي يوم الاثنين الماضي، بذكرى وفاة نصير المرأة والداعي الأول إلى تحريرها قاسم أمين. وقد ألقت كلمة الاتحاد النسائي السيدة إحسان القوصي فتحدثت عن قاسم أمين من حيث دعوته إلى تحرير المرأة، وأفاضت في الحديث عن النهضة النسوية، وقد أحسنت بقولها أن المرأة ليست زينة المجالس بحليها وزيها، وإنما هي كذلك بما تشعر الرجل به من احترامها واعتبارها، إذ تناقشه في مختلف الشؤون الفكرية والعلمية والأدبية.

وتحدث الشيخ المحترم محمد خطاب بك عن صاحب الذكرى، فنبه إلى أمرين: الأول أن تحرير المرأة في رأي قاسم أمين لم يكن أمرا قائما بذاته، وإنما كان ينظر إليه على أنه الركن الأساسي في نهضة البلاد، والأمر الثاني أنه كان يصدر في دعوته عن إيمان بمطابقتها للدين الإسلامي، فأهتم بتفنيد الطعن الذي وجه إليه من حيث نظره إلى المرأة، ورفض أن يقصر دعوته على الناحية الاجتماعية. وكان خطاب بك يبدو ملما بالنواحي المختلفة لقاسم أمين وهو من قرابته وصحابته - ولكنه كان يرتجل فلم يسعفه الارتجال على إيفاء الموضوع حقه، وكان يقرأ أحيانا من ورقة مكتوبة بالعربية ولكن القراءة غير عربية. . ولجأ كثير إلى العامية، فاضطرب بين هذه وتلك، ولم تستقم له إحداهما! وقد قال في أول كلمته إن وفائه للراحلين أكثر منه للأحياء، وأنه وفي خاصة لقاسم أمين لمكانه منه، وحث في آخر الكلمة على الاهتمام بدراسته. ولو أنه أعد موضوعه كتابة لكان أدنى

ص: 37

إلى الوفاء والدراسة. .

ثم تحدث الأستاذ أحمد حسن الزيات حديثا أشعر أن الصفة المطابقة له هي أنه مغذ. لأنه يمد كلا من العقل والشعور بحاجته من الفائدة والإمتاع. وترى كلمة الأستاذ في صدر هذا العدد من (الرسالة).

وألقت الآنسة منيرة عبد الرزاق كلمة المرأة العراقية في هذه الذكرى، فتحدثت عن صدى دعوة قاسم أمين في العراق، وخصت بالحديث الشاعرين العراقيين الزهاوي والرصافي من حيث تأثيرهما بآراء قاسم أمين.

وقد تعاقب خطيبات أخريات، وكانت كلماتهن - كما كان جل ما قيل في الحفل - يدور حول النهضة النسائية وحقوق المرأة. ولم يكن للمحتفل بذكراه من الاهتمام إلا بما يتعلق بهذه الحقوق وتلك النهضة، فلم تسمع حديثا عن الجوانب الأخرى لقاسم أمين، فيما عدا ما قاله الأستاذ الزيات عن أدبه وعن مكانه من النهضة، وفيما عدا الإلماع الخاطف إلى بعض النقط العامة للبلاد، في كلمة خطاب بك. ولعل في هذه فكرة مصغرة للنهضة النسائية في بلادنا، فالمرأة تبدأ وتعيد في المساواة والحقوق، وتخصص تسعة وتسعين من المائة من جهدها لهذا الميدان، أما الواحد الباقي من المائة فهو للأعمال المنتجة في خدمة المجتمع.

عباس خضر

ص: 38

‌البريد الأدبي

تصحيح واجب

لفت نظري أخيرا بعض الأخوان الأفاضل إلى وجوب تصحيح كلمة

ورد فيها أسمي، وأثارت تعليقا طويلا من الحجاز، ذلك بأن الشاب

النابه محمد إبراهيم الخطيب شكا في الرسالة من بعض ما يلقى في

الأزهر من علم لا يساير العصر، لا يريد كيد بعض الطوائف التي

تبذر الشك في عقيدة المسلمين كالوهابية والإسماعيلية. ثم قال ولست

بأول من جهر بهذا، فقد سبقني إليه أساتذة أجلاء، منهم أستاذي الدكتور

محمد يوسف موسى. . إلى أخر ما قال.

وقد رد على هذا في كلمة طويلة الأستاذ الشيخ محمد الجاسر من الحجاز، يستعظم ويعجب أن يكون هذا الرأي لي قد ألقيته على تلاميذي بالكلية مع ما يعرف من دراساتي وتخصصي في الشؤون الإسلامية.

والواقع أن الباحث المنصف مهما رأى ما يصح بل ما يجب تقده في الحالة التي عليها الحجاز أو البلاد العربية أو بلاد جزيرة العرب من ناحية العدل الاجتماعية وما يتصل بذلك، فإنه لا يمكن أن يزعم أن العقيدة السلفية التي تقوم عليها الدولة العربية السعودية هي عقيدة طائفة من طوائف المسلمين، بله طائفة تنخر في عظام الإسلام كما يتقول تلميذنا الخطيب!

لذلك، أرى من موقف بعض دعاة هذه العقيدة هنا من المصريين، وما هم عليه من الغلو الذي ينفر كثيرا من الناس ويجعلهم حقا يشكون في عقيدتهم، سندا للرأي الذي أشار عليه هذا، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

محمد يوسف موسى

أستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر

ص: 39

نسبة كتاب إلى غير صاحبه

جاء في مقال الأستاذ ضياء الدخيل عن الفارابي بالعدد 929 من الرسالة الزهراء أن للأستاذ العقاد كتابا عن الفارابي من سلسلة أعلام الإسلام. والحق أن الكتاب المشار إليه وهو الحلقة التاسعة من تلك السلسلة التي انقطعت، إنما هو الأستاذ عباس محمود المتخرج في قسم الفلسفة من كلية الآداب بجامعة فؤاد. وإن أستاذنا العقاد غني بنتاجه الأدبي وبكتبه الفلسفية، ولا يعلى من مكانته أن ينسب إليه كتاب لم يكن له.

عبد الرزاق عبد ربه

أجب حبيبك هونا ما

عقب أستاذنا الكبير محمود أبو رية على تعقيبي بشأن حديث أحبب حبيبك هونا ما، وذكر أن الحديث رواه الترمذي وغيره ولكنهم تكلموا في كثير من رجاله، ويبدو أنه من قول على. . وأقول: أن العراقي مخرج الأحاديث في كتاب إحياء علوم الدين ذكرنا نصه:

(حديث أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما الحديث، رواه الترمذي عن حديث أبي هريرة وقال غريب: قلت رجاله ثقات رجال مسلم لكن الراوي تردد في رفعه) انتهى وقد ورد هذا الحديث في كتاب التاج الجامع في للأصول في أحاديث الرسول تأليف الشيخ منصور علي ناصف، وعقب عليه المؤلف بأنه رواه عن أبي هريرة الترمذي والبيهقي والطبراني دون أن يشير إلى ضعفه.

وقد ورد الحديث أيضا في كتاب مصبح الظلام. . لمؤلفه الجرداني وعقب عليه المؤلف بأنه رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان والطبراني في الكبير، وغيرهم كالدارقطني في الإفراد وابن عدي في الكامل والبخاري في الأدب وهو حديث حسن كما في شرح العزيزي.

محمد عبد الله السمان

الأدب العربي بين الجاهلية والإسلام

كتاب جديد في الأدب العربي في العصر الجاهلي والعصر الإسلامي يقع في نحو ثلاثمائة

ص: 40

صفحة من الحجم الكبير - طبعة المطبعة الفاروقية الحديثة بالناصرية.

من تأليف الأستاذ: حسن جاد، ومحمد عبد المنعم خفاجى، وعبد الحميد المسلوت، المدرسين بكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف.

ودراسات الكتاب جديدة ومنظمة بأسلوب طريف ومناهج مستحدثة في البحث الأدبي ويطلب من المؤلفين.

تحقيق مسألة

بمناسبة التعريف بكتاب (الأدب العربي بين الجاهلية والإسلام) نلاحظ أن مؤلفيه الأفاضل لم يحسنوا النقل فيما نسبوه إلى كتابي (في أصول الأدب) كالعلاقة بين أدب وآدم في اللغة الشومرية مثلا، وأنهم ذكروا في الحاشية من صفحة 36 أن مصادر بحثهم في (العوامل المؤثرة في الأدب) أربعة مصادر ذكروا من بينها (في أصول الأدب). والحق أن الفصل بعنوانه تلخيص لمحاضرة ألقيتها ببغداد في 24 يناير سنة 1930 ثم نشرتها هي وغيرها بعد ذلك في كتابي (في أصول الأدب)، ولا أعلم كتابا طرق هذا الموضوع ولا ذكر هذا العنوان قبل هذا التاريخ. وقد استأذنني صديقي الدكتور عبد الوهاب عزام بك في أن يعتمد على هذه المحاضرة في نصيبه الذي كتبه من كتاب (التوجيه الأدبي) وكان من الإنصاف أن يشار إلى ذلك في هذا الكتاب وفي غيره.

الزيات

مذهب قديم

وردت في بريد الرسالة كلمة من العراق تحمل إشفاق صاحبها على مذهب جديد، هو ما يقول به الآن الأديب (كمال بسيوني) وكنت أحب أن يعلم المشفق النجيب أنه ليس هناك ابتكار ولا تجديد، وإنما هو رأي أعلنه على الناس عميدنا الوزير - طه حسين باشا - محاضرا في قاعة الجمعية الجغرافية منذ عشرين عاما وهذا نصه:

(فالشعر ضرورة من ضرورات الحياة في كل طور من أطوارها، فإذا انقضى هذا الطور أصبح الشعر عاجزا عن أن يقوم بشيء من ذلك، وأصبح النثر خليفته يصور هذه الأشياء الجديدة. والشعر الذي كان ضرورة أولاً في يصبح في الطور الثاني ضربا من الترف

ص: 41

والزينة. والحياة لا تستطيع أن تستغني عن كليهما. وكذلك عندما نلاحظ تاريخ الأمم التي كانت لها حياة أدبية، وكان لها شعر ونثر، نلاحظ أن حياتها قد بدأت شعرا، وأن الشعر وجد فيها قبل أن يوجد النثر بزمن طويل) ويمضي أعزه الله في الحديث إلى أن يقول:(فالأمم التي لها أدب، قبل أن تعبر عن عواطفها وميولها بالنثر، عبرت عن لذاتها وآلامها بالشعر، وكان الشعر هو لسانها الأدبي، فلما تطورت هذه الأمم وارتقى عقلها، نشأ عن ذلك أن وجدت فيها أفكار وآراء عجز الشعر عن أن يعبر عنها.) وذلك قول يشق عن وجه الحقيقة النقاب.

وليس من معنى هذا القول أن نهمل متحدث اليوم فهو كاتب قدير؛ إنما الواجب أن تناقشه على أساس أن للفرع أصلا

بركات

ضر وضرر

رفع عالم جليل بحثا قيما طريفا إلى المجمع اللغوي الموقر فرق فيه بين الضر والضرر، ذاهبا إلى أن لفظ (الضرر) يستعمل في أحوال العاهات فقط، وشكك حضرته في الاستشهاد بالحديث الشريف:(لا ضرر ولا ضرار) مؤيدا رأيه بقوله تعالى:

(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله)

ولكن فات حضرته أن التنزيل الحكيم قد ورد به أيضا: (وأيوب إذ نادى ربه أنى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر). وقد استعمل كلمة (الضر) و (الضرر) بمعنى واحد فإن هذا يدل على أنهما لفظان مترادفان. ولا محل بعد ذلك للتشكيك في الحديث الشريف، ولا للتضييق حيث أراد الله ورسوله التوسيع.

عبد الحميد عمر

الرسالة

الأستاذ صاحب المقال المعقب عليه يقرر أن فعل ضر إذا كان لازما كان معناه صار ضريرا أي أعمى، ومصدره وهو الضرر لا يستعمل إلا في العاهات كالعمى والزمانة. وقول الله تعالى (غير أولي الضرر) إنما يريد به ابن أم مكتوم وكان أعمى. أما الضر

ص: 42

بالضم فهو ما يصيب النفس من مرض أو هزال كالذي أصاب أيوب وكشفه الله عنه، وهو غير العاهة فتعقيب الأستاذ لا وجه له.

رأي الرصافي في مطران

كتب الأستاذ الفاضل منصور جاب الله في العدد 923 من مجلة الرسالة الزاهرة كلمة حول رأيه في شعر خليل مطران، ولم يكن رأي الأستاذ جاب الله بكرا في هذا الموضوع، إذ سبقه الشاعر معروف في ذلك عندما سئل في دمشق هل يضع الأستاذ المطران في مصاف حافظ وشوقي؟ فأجاب (وضع المطران في مصاف حافظ وشوقي، كوضع البحتري في مصاف المتنبي وأبي تمام، أي نوع من ضعف الحكم، هذا ما يلي به القارئون في عصرنا هذا، ولا نسبة أبدا بين طبقة حافظ وشوقي وطبقة مطران، كما لا نسبة بين المتنبي وأبي تمام وبين البحتري، لأن هذا الأخير ليس أكثر من منمق ألفاظ)

بغداد

عبد الخالق عبد الرحمن

ص: 43

‌القصص

قانصوه الغورى

سلطان مصر الشهيد

للأستاذ محمود رزق سليم

مهداة إلى حضرة صاحب العزة الدكتور عبد الوهاب بك عزام

قانصوه الغورى أحد سلاطين مصر في العصر المملوكي، ولي عرشها زهاء ستة عشر عاما بين سنتي 906هـ، 922هـ. وكان يوم ولايته كبير السن متأبيا على السلطنة.

وامتلأت أيامه بالحوادث الكبرى في داخل البلاد وخارجها.

وفي أثنائها بلغ نشاط العثمانيين مبلغا عظيما، واتسعت أطماعهم حتى تطلعوا إلى امتلاك البلاد الشامية والمصرية. وقد خرج هذا السلطان الكبير للقائهم بنفسه، ومعه حملة عظيمة الشان. فاستشهد في سبيل بلاده

ويرى القراء الكرام فيما يلي، وتحت العنوان المتقدم، تاريخ هذا السلطان الشهيد، وتاريخ مصر في أيام حكمه.

نقدمه إليهم في أسلوب قصصي فيه تمثيل وحوار يلطفان من خشونة العرض العلمي السافر. وقد جهدنا ما استطعنا في تصوير نزاعات عصره من دينية أو سياسية أو اجتماعية أو أدبية أو علمية، على مقدار ما تحتمله قصة صغيرة.

ولم يلهنا خيال القصة عن تحري وجه الصواب في حقائق التاريخ. ولعلنا بذلك نقدم عملا متواضعا، يسفر منه تاريخ بلادنا العزيزة في حقبة من أهم حقبة

يوم التولية:

ثار المعسكر في وجه سلطان البلاد الملك العادل في آخر يوم من أيام رمضان عام 906هـ، حتى اضطر إلى الاختفاء. فسرى الخبر هما بين القاهرين، أن بيعة سلطان جديد ستتم الليلة، إذ يجتمع الأمراء للمشاورة والاختيار. ومن ثم يقومون برسوم التولية في صباح الغد، أول يوم من أيام عيد الفطر.

وما كان أحب مجالس البيعة وأخبارها عند القاهرين، وما كان أبهج حفلات التولية

ص: 44

ومواكبها لديهم.

لذلك، ما بزغت شمس الاثنين مستهل شوال، حتى بكر كثير من أهل القاهرة في اليقظة، وأخذوا يعدون العدة لييمموا شطر القلعة، حيث تجري البيعة ويسير موكب السلطان ليمتعوا العين بمرأى هذا السلطان الجديد، وليتبينوه من هو؛ ومن يكون. . . ذلك لأنهم لم يكن لهم من أمر اختيار سلطانهم شيء. . واستبد بالأمر دونهم أمراء السلطنة الجراكسة، واستأثروا بالحكم فيهم، وقصروا على أنفسهم مسئولية اختيار السلطان. درج الشعب على هذا النظام، واستنام إليه، إن طوعا وإن كرها، تلك الحقبة الطويلة من الزمان.

وما هو إلا قليل، حتى امتلأت الطرقات بالوافدين عليها من كل حدب وصوب. واكتظت الميادين بقصادها، واختلطت الجموع بالجموع، وتراصت الصفوف خلف الصفوف، في أزياء فضفاضة، ذات أشكال متعددة، وألوان متباينة.

وأخذ النسوة والعذارى يطرقن الطرق، أو يذرعن المسالك في حللهن البهية، وأثوابهن الطلية. وتوارى بعضهن خلف الكوى والشرفات، يشرفن على الجمع من كثب، ويسترقن السمع والنظر، وتتنقل عيونهن بين الفرج، ليتمتعن كما يتمتع سائر الناس، بما ضرب من زينة عجلة، وما أشيع من حفاوة مرتجلة، أمر بإقامتها التجار والصناع وأصحاب الحوانيت وملاك المنازل وسكانها، هنا وهناك.

وبالقاهرين ومن حولهم من سكان الضواحي، شعور خفي يحفزهم إلى تعجل المسرة، واستدرار اللهو، واقتناص المتعة كلما سنحت فرصة لذلك، أو وجدوا إليه سبيلا. ولذلك عجلوا إلى تلك الزينات السريعة، ريثما يتم أمر التولية، استعدادا للقاء موكب السلطان. لعلهم بتلك المسرة المقتنصة يأسون جراح دهرهم العاسف، أو يطبون حظهم السقيم.

ومهما يكن من شيء فهم على الأقل يودعون سلطانا بادت دولته وذهبت صولته، ويستقبلون آخر أشرقت أيامه وأهلت لياليه. لعل لهم في ظله ما يحقق لهم آمالا جميلة، طالما غمرتهم أطيافها الحسناء في أحلام يقظتهم، ولم يتحقق منها أمل في العصر البائد.

على أنك ترى مرارة الحياة بادية على أحاديثهم، واضحة في محياهم، يغشيها ستار رقيق من الأمل الحالي، والرجاء المعسول. وهم ينفثونها أحيانا في نقدة لاذعة، أو يضمنونها فكاهة مرة، أو تورية بارعة.

ص: 45

لهذا يهرعون إلى الزينات - في مثل هذه المناسبة - فيضربونها، وإلى الرايات فينصبونها.

أنظر إذا إلى الحوانيت ووجوهها، والمنازل وجبهاتها، والمسالك وجوانبها، في أحياء القلعة وما حولها، تر قطع الأقمشة من كل لون زاه، قد تألفت طوائفها، وتألقت طرائفها، والثريات الزيتية منشورة، زينة للنهار الحاشد المنتظر، وعدة لليل الحافل المرتقب. والشعب مجتمع شمله، ملتئمة صفوفه، يسود بين أفراده لغط وضجيج، وهمس وعجيج. بين أقاويل متشعبة، فيها الصدق والكذب، وفيها الحق والباطل، وفيها العدل والجور. وهم ما بين لهج لاه بما هو فيه من نشوة وسرور، سباق إلى اقتناص فرصته وبلوغ غايته، ومتحدث رزين يرسل الحديث في روية وبطء، كأنما يقرأ في سطور الحاضر مخبآت المستقبل، وناقد يمتزج في نفسه وحديثه، النقد السطحي العابر، بالرغبة الواهمة في أن يأخذ من البهجة الماثلة بنصيب؛ وناقد آخر لاذع في نقده، جرئ في لفتاته، شجاع في ملاحظاته.

وبين هذه الجموع الضاجة وقف صديقان يسترقان النقاش، وقد علا وجهيهما الجد، واختلفا طربا وصخبا، وخفة ولجاجة. وتقاتلا شعورا ورأيا؛ واستطردا إلى أشياء في الماضي، وأمور في الحاضر، وآمال في المستقبل.

قال أحدهما لزميله:

- لله ما أبهى اليوم، وما أجمل الساعة! هاهم أولاء المماليك السلطانية قد انتشروا في الطريق وهم شاكو السلاح، ليعصموا اليوم من الفوضى، ويشيعوا في الموكب النظام.

- أعلمت لهؤلاء نظاما؟ أو نسيت عبث الجلبان والقرانصة، وما بين الفريقين من عداوة وشحناء. إن هؤلاء وهم جنود الدولة، مبعث الفوضى، ومصدر السوء، ومثار الفساد. . . هم عباد المال والشهوات. يبذلون للسلطان الطاعة والولاء، ما دامت يداه تفيضان عليهم تبرا وذهبا وهاجا. ويفرق فوقهم شتى منحه وعطاياه، ويفرق عليهم ما لذ من الطعام، وما ثمن من الثياب، وما فره من الخيل، مزودة بما تحتاج إليه من أغذية وأردية. ثم يتنكرون له، ويلبسون جلد النمر، إذا تراخى في عطائه، أو ازورت عنهم دراهمه ودنانيره، أو بدا لهم في أفق السلطنة مانح جديد.

ص: 46

ألم تشهد كيف غدروا بالملك العادل أمس؟ وكيف خاسوا بعهده؟ وكيف كادوا يبطشون به لولا فراره واختفاؤه! إنهم بذلك يمهدون السبيل لأمير آخر من أمراائهم، يسلمونه زمام السلطنة، لقاء ما ينالونه على يديه من حظ جديد! ثم ليتهم يستقيمون في تأييدهم حتى تتم بيعة السلطان المختار بغير شغب أو نزاع. . . لقد بلغني أمس أن الأمراء اجتمعوا للتشاور في منزل الأتابكي قانصوه خمسمائة، الذي لم يظهر من يوم اختفائه. وهذا المنزل في قناطر السباع. وفي مقدمة الأمراء المتشاورين، الأمير قبيت الرجي، وقانصوه الغوري، وطراباي، ومصرباي، ثم انضم إليهم أخيرا الأتابكي تانى بك الجمالي الذي اختفى من وجه الملك العادل، خوفا من أن يفتك به. فظهر أخيرا عندما سنحت له فرصة الظهور، وانضم إلى الأمراء المتشاورين.

واعتقادي أنه ما من أمير من هؤلاء إلا وهو يخطب السلطنة لنفسه، ومن ورائه فئة من الجنود يؤيدونه. . . ومع ذلك قيل إنه تم اختيار تاني بك الجمالي للسلطنة، ثم سرعان ما غدر به الجند، ولم يرضوا بسلطنته، فرجع الأمراء عن ترشيحه لها. وهكذا أفلت من يديه زمامها، قبل أن تتم رسومها.

واليوم تتردد الإشاعات أنها ستكون من نصيب الأمير قانصوه الغوري. . وهو على كل حال، أمير طيب القلب بلغ من العمر ستين عاما. ومع ذلك لا يزال فتى النفس، لم يبد في شعر لحيته بياض مشيب.

لكن! أرأيت إلى أي حد يعبث هؤلاء المماليك بمصير مصر وشعبها، بينما الشعب يغط في نوم عميق؟ لقد بلغني منذ قليل أن عددا من أشرار المماليك الجلبان انتهز فرصة عيد الفطر اليوم، وانصراف الناس إلى الراحة والاستجمام،! أو التفرج بالزينة والموكب، وعاثوا في أسواق القاهرة فسادا، وأحرقوا بعض الدور، ونهبوا ما فيها. فهل ترجو من أمثال هؤلاء نظاما أو إصلاحا؟

- صدقت في حديثك. . . ولكنهم - على أية حال - دعامة الدولة وسند السلطان. وهم حقا ضريبة من ضرائب الإهمال يفرضها الزمان علينا. غير أننا لا ننسى أنهم دفعوا العدو عن بلادنا زمنا طويلا. وحسبك ما مر من عشرات السنين كان للفرنجة في بلادنا مآرب لا تنقضي، وكان للتتار مآرب أخرى. فوقف لهم هؤلاء الأبطال، وأوقعوا بهم في مواقع عدة.

ص: 47

ففروا إلى حيث أتوا، مزودين بالهزيمة والاندحار.

- نعم! ولكن لنا القشر ولهم اللباب. لعلك نسيت مسلكهم الشائن معنا نحن أهل القاهرة. إنهم كانوا - وما زالوا - يهتكون فينا ويسلبون منا. ثم هم إنما يمثلون الفتن والقلاقل والدماء المسفوكة، والأشلاء المتطايرة والسجن والتشريد. . .

إن حياتهم ملأى بكل هذا العذاب، ما بين سيد فيهم ومسود، وظالم منهم ومظلوم، وحاقد بينهم ومحقود عليه. . . هذه هي سياستهم وسياسة أمرائهم وكبرائهم. . . ألا تعسا لحياة تمتلئ بكل هذا الشقاء. .!

- ليست هذه الحالة دائمة بينهم، وكأنني أراك تقرأ تاريخهم من حاضرهم فحسب. . لعلك من أولئك الذين وهب لهم حس مرهف ونفس مستوفزة، تطن فيها الأحداث الحاضرة، حتى تملأ أذنيها. فلا تسمع بعد أي صوت من أصوات الماضي. . .

لقد كان الجنود المماليك في عصر المنصور قلاوون يعيشون على خير نظام وفي أجمل هندام. فقد وضع لهم هذا السلطان العظيم قواعد للتربية قويمة، وأخذهم بها دون لين أو هوادة أو مهادنة. فرباهم في طباق القلعة وأبراجها. ووكل أمرهم إلى الحذاق من الزمامين. وفرض عليهم التمرينات العسكرية والرياضية القاسية، وعنى بطعامهم وشرابهم ولباسهم. وكان يشرف على كل أولئك بنفسه، فشبوا رجال خلق كريم، ونفس قوية، ودين سليم. ولم يكن يسمح لهم بالاختلاط بغيرهم من الطوائف حفظا لهم من عدوى الأخلاق.

- حقا لقد رباهم المنصور تربية محمودة، ونشأهم تنشئة حسنة، ولكن سرعان ما عدل السلاطين من بعده عن نهجه، واتباع سبيله، ففتر هذا النظام وقلت تلك العناية، وفرط السلاطين في إعدادهم، حتى أصبحوا من بعد، وليس لهم نظام متسق، ولا تربية محمودة، ولا خلق كريم، ولا نفس طيبة، حتى صاروا:(أرذل الناس وأدنأهم، وأخسهم قدرا، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراض عن الدين. ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب.)

- إنك متجن عليهم أيها الصديق! ألا تدري أنهم لنا حمى، ولحياتنا مجن؟ إننا ننعم بسلام في بيوتنا، وأمن في سربنا، على حساب ما يبذله هؤلاء الشجعان من أرواح. حقا يسرف أمراؤهم وسلاطينهم في فرض الضرائب على الشعب، ويثقلون كاهله بالنفقات إزاء

ص: 48

خدماتهم. ولكنهم إزاء ذلك أراحونا من شر القتال، وأخذوا على عاتقهم حمايتنا من شرور الأعداء.

ثم ما بالك تذكر سيئات أشرارهم وهنات صغارهم، وتنسى حسنات أخيارهم، ومحامد كبارهم؟ إن كثيرا من سلاطينهم وأمرائهم ينقادون للدين، وينطوون تحت أحكامه، ويعظمون أهله، وينشئون المساجد للعبادة، والمدارس للتعليم، ويدرون أخلاف الخير وضروع البر على المحتاجين من طلاب العلم وغيرهم. وذلك كله جدير بأن يطلق الألسنة لهم بالدعاء والثناء.

- إنك يا صاح انحدرت من حديث الرجال إلى أسلوب النساء. . .! ففي معانيك الضعف والضعة، وفي أفكارك الخور والجبن! حسبك عارا أنك تذكر حمايتهم لك من الأعداء. . . وفي الحق أنهم يحمون أنفسهم لا يحمونك أنت، ويدفعون عن ملكهم لا يدفعون عنك أنت. ولننزل على منطقك ونقول إنهم يحمونك. . . ولكن أتدري كيف ذلك، ولماذا؟. إنهم يحمونك كما يحمي الراعي بقرته خوفا على لبنها أن يتضب، وحرصا على جسدها أن يخور ويبلى. وهم قبل ذلك وبعد ذلك، سادتك! لا تقعد منهم إلا مقعد العبد. . . فهل بعد ذلك ذلة للرجال؟ اطلب إليهم أن يتركوا لك حماية نفسك بنفسك. فهل تراهم يجيبونك إلى سؤالك؟ ويجيزون لك أن تحمل السلاح وأن تنخرط في الجيش؟. كلا! وكأنما الجندية هبة اختصهم الله بها دون سائر أفراد الشعب وكأنما الروح العسكرية الحمية الوطنية وقف عليهم، وصفة ما خلقت إلا فيهم، ونزعة ما عرفت إلا لهم. أما أنت وأمثالك فلا تصلحون - في نظرهم - للكر، وإنما تصلحون للحلاب والصر. . . لقد حرمونا دخول الجيش، وحرموه علينا، ولم يتصلوا بنا إلا اتصال السيد بالمسود. وكفى بذلك هوانا. . . فأية عزة ترقبها لبلادك على يد هؤلاء الغرباء المماليك المستبدين الذين لم تجمعهم بالبلاد جامعة جنس ولا نسب ولا لغة ولا ألفة ولا عطف. . ثم هم لا يجمع بعضهم ببعض إلا أخوة في رق، أو اتفاق في ضغينة، أو ائتلاف في فتنة، أو التماس لمكيدة، أو ائتمار على غدر. . . أغلب ظني أن ما بناه أسلافهم من عز وسؤدد، سيهدمه هؤلاء الجلبان وهؤلاء القرانصة، ومن لف لفهم من هذا الخليط الدنس من أوشاب الأمم الذي تعج به بلادنا المنكودة. ألا تبالهم وقبحا وسحقا.!

ص: 49

أما ما تنشدق به من مساجد ودور تعليم فحسبي أن أقول لك إنهم يبذلون في سبيل ذلك، على أنه منحة منهم للشعب وصدقة عليه، لا على أنه حق للشعب قبلهم يؤدونه إليه. . .

ألا دعنا من هرائك وسفسطتك! وقل لي كم رجلا في بلادنا يغار عليها غيرتك، ويخلص لها مثل إخلاصك؟ وكم فتى من فتيانها يحدب عليها كل هذا الحدب، وتتقطع نفسه عليها أسى، وتذهب حسرات، كما تتقطع نفسك وتذهب؟ وكم قلب بين قلوب بنيها يفيض عليها إشفاقا كما يفيض قلبك؟

لشد ما أتألم لأجلك. . لما لك من إحساس مرهف ونفس شاعرة!

اترك المستقبل لأهله، فليس علينا حمل أعبائه وهمومه. وحسبنا ما نحن فيه من حاضر فعم بحوادثه وآلامه. . . ولنخفف عن النفس أحزانها بما نراه من بهجة وزينة. . . انس ما في طواياك من هم. ولمسرح ببصرك في محاسن هذا اليوم، واقبس ما تشاء وتشتهي من مفاتنه. ثم إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. .

انظر إلى أثواب الجند الزاهية الألاقة، وإلى وجوه الناس الباسمة المشرقة، وإلى الحسان الفاتنات يرحن ويغدون في حللهن الأنيقة البراقة. وإلى الأطفال الذاهلين من عيد الفطر، فقد غمرهم عيد التولية بموجة من موجات فرحه، ألا تخبرني من سيكون السلطان؟ ومن سينال شرف السلطنة اليوم؟.

واألماه! تدعوني إلى أن أنسى المستقبل، ولا أفكر فيه. . ألا تعلم أن الدعوة إلى إهمال المستقبل وترك الاهتمام بمصير البلاد هي الأنشودة البائسة الحزينة، التي ترتلها الأمة المنكوبة الخائرة كلما أحست بضعفها. . وأرادت أن تتلهى عنه وتخدع نفسها. . لو اهتم بأمرنا من سبقنا من الآباء والأجداد لاعتدلت لنا ريح حاضرنا ونعمنا فيه بشيء من صفو الحياة. وما دام كل جيل يسلم إلى الأقدار مستقبل بلاده، ويهمله، فستتلقفه الأحداث والغير، وتلقيه بين يدي مستبد، وإلى كف طاغية، وتتنقل به من بؤس، إلى بؤس، حتى تتقلب أجيالا في شقاء الحرمان أمدا طويلا. . .

أما سلطان اليوم فأظنه قانصوه الغوري - كما تردد الألسنة - لقد رشحه للسلطنة، كما ذكرت لك، كبر سنه، وطي نفسه وعيوفه عن السلطنة. . . وهذه وسيلة باعة من وسائل اقتناصها. . . قد قيل إنه رفضها وأباها. ولو ظهر أمس الأتابكي قانصوه خمسمائة، من

ص: 50

اختفائه؛ لكانت السلطنة من نصيبه ولولا فساد قلوب الجند على الأتابكي ثاني بك الجمالي، لظفر بها أمس وتمت بيعته. . .

ألا قبح الله الملك العادل السفاك! من غريب ما يروى عنه أن المنجمين أخبروه أن السلطنة يسلبها منه أمير يبدأ اسمه بحرف (ق) فظنه صديقه (قصروه) فبطش به وقتله ظلما، بعد أن أبلى قصروه البلاد الحسن في معاونته على الحصول إلى السلطنة. . ولم يحسب العادل حسابا لقاف أخرى تبدو في الأفق. ولله! ما أكثر القافات في بلدنا. .!

انقطع الجدل بين الصديقين على إثر موجة جارفة من الضجيج تنتشر باقتراب موكب السلطان.

بدت طلائع الموكب. وكان الأمراء منذ قليل يشتورون في الحراقة بباب السلسلة بالقلعة. فتم رأيهم على اختيار الأمير قانصوه الغوري سلطانا على البلاد بعد فرار الملك العادل وإعلان خلعه.

ولقد تعصب للغوري الأميران: قيت الرجبي، ومصرباي. فبكى الغوري وأبى قبول السلطنة معتذرا بكبر سنه. فاستلانوه إليها بشتى وسائل خداعهم، حتى رضى بها مشفقا منها. وقد أتموا له البيعة، فبايعه الخليفة ووكل إليه - كالمعتاد - أمور السلطنة ثم بايعه القضاة. ولقب بالملك الأشرف. فذاع لقبه بين الجموع الحاشدة، وهيئوا ركبه ليسير من الحراقة إلى باب السر بالقصر الكبير، حيث يقدم له الأمراء واجب الطاعة والولاء.

لبس الغوري شعار السلطنة - ملابسها الرسمية - وهي جبة وعمامة سوداء. وامتطى صهوة فرس مسرج بالذهب. وأخذ في المسير تتقدمه شراذم من الجند في أزيائهم الرسمية وأسلحتهم المجلوة، وتقدم الأمير قيت الرجبي، وحمل بنفسه شعارا آخر للسلطنة، تبجيلا للسلطان وتعظيما لشأنه. ويتألف هذا الشعار من قبة من حرير ثمين تنشر فوق رأس السلطان وقت المسير، كأنها مظلة. وفوقها طائر من الذهب. وركب إلى يمين السلطان، خليفة العصر، وهو المستمسك بالله يعقوب العباسي، وبين يديهم الأمراء يسيرون بشاشهم وقماشهم - أزيائهم الرسمية - في ألوان زاهية وفوق جياد محلاة.

وبدت طلعة السلطان لشعبه، فدوى صوته هاتفا (نصر الله السلطان الأشرف)، (أعز الله الإسلام) وانطلقت من خلف الكوى وصوب الطيقان زغاريد النسوة تشق أطباق الفضاء،

ص: 51

فرحة مستبشرة تؤذن بطلوع عهد جديد. . .

وكان الشعب يلمح بفراسته الساذجة الصادقة على محيا السلطان الجديد، جملة من المعاني المتشادة المتمازجة، فيها الشعور وفيها الإشفاق من المستقبل وما يخبئ من مفاجآت في طياته. وفيها عزيمة حادة جادة وتصميم على المجاهدة والمجالدة، والعمل على رفاهة مصر وشعبها، وإعلاء شأنها عند غيرها من الأمم، والمحافظة على نفوذها الأدبي والسياسي، كل ذلك تغشيه موجة من الفرح العابر، لا تكاد تستر من معالمه شيئا، ولا تخفى من آياته قليلا.

كان أفراد من المشاهدين يرقبون هذه المظاهر، ويلمحون هذه المعاني، فيفاجئ بعضهم بعضا بما يفطن إليه منها. ثم انثنوا بين مثن وناقد. على أن الحوادث كانت تمر بهم ولا أثر لهم في مسلكها، بيد أنها لا تتركهم إلا بمرارة لاذعة تتوطن النفوس وتقتعد غوارب القلوب، وهم لا يملكون لوقعها تخفيفا.

استقر ركب السلطان الغوري بالقلعة، فجلس على سرير الملك، وقبل الأمراء الأرض بين يديه. فأفاض عليهم خلعه ومنحه، من أقمشة نفيسة وأردية غالية، ومناصب سامية. وكلما أفاض على أحدهم شيئا، جأر له بالدعاء. وانصرف حامدا إلى داره في موكب حافل.

تتابعت على هذا النسق مواكب الخليفة والأمراء. وكانت مجالا لمسرة الناس وابتهاجهم. ونودي للسلطان في أرجاء القاهرة، فأقامت المدينة بقية نهارها وعامة ليلها في مرح ساهر وزينة حافلة. وكأن اليوم فيه عيدان لا عيد واحد.

محمود رزق سليم

ص: 52