الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 931
- بتاريخ: 07 - 05 - 1951
الربيع في الشعر المصري
اقترحت على الإذاعة أن أتحدث الليلة عن الربيع في الشعر المصري؛ وفي هذا الاقتراح وئام وانسجام مع (شم النسيم)؛ فأن الذين قضوا يومه البهيج المرح على بساط الربيع، يجتلون جمال الطبيعة المتبرجة في الزهر والنهر، ويستوعبون أسرار الحياة المنبثة في السماء والأرض، يسرهم أن يسمعوا تعبير الشعر عما شهدوه من جمال النيل، وأحسوه من فتنة واديه، ولم يستطيعوا الهتاف به ولا التعبير عنه. وما كان أحب إلى نفسي أن أهيئ لهم هذا السرور لو وجدت السبيل إليه؛ فإني قرأت ما نظم الشعراء المصريون قدماؤهم ومحدثوهم في الربيع المصري، فلم أجد فيه على قلته وتبعيته صدقا في الشعور ولا مطابقة للواقع. قرأت ما قال أبن وكيع التنيسي، وابن سناء الملك، وأبن الساعاتي، وأبن نباته، والشاب الظريف، وأبن مطروح، والبهاء زهير، من نوابغ المتقدمين؛ ثم قرأت ما قال شيوخ الشعر وشبابه من صفوة المتأخرين، فلم أجد إلا كلاما عاما يقال في كل ربيع، ووصفا مجملا يصدق على كل روضة! تعبيرات محفوظة من لغة الشعر، وتشبيهات منقولة من موروث البيان، صاغها كل شاعر على حسب طاقته وآلته، فجاءت وصفا لربيع مجهول لا حقيقة له في الخارج، ولا أثر له في الذهن. أما الشعور النفسي الذي يدرك الشاعر الأصيل في جو معين ومنظر محدود وزهرة خاصة، فيصل به بين النفس والطبيعة، وبين الفكر والصورة، وبين الفن والواقع فذلك ما لا أثر له فيه. ولعلك إذا استثنيت من أشعار العرب في الربيع، شعر أبن الرومي في العراق، وشعر البحتري في الشام، وشعر أبن خفاجة في الأندلس، وجدت سائرها من هذا النمط المصري الذي تجد فيه الألفاظ المبهمة، ولا تجد فيه المعاني الملهمة. فأشعارهم في الربيع أشبه بأشعارهم في الغزل، أقلها نفسي صادق يصدر عن القلب وينقل عن الوجدان؛ وأكثرها حسي كاذب يصدر عن الحافظة وينقل عن الكتاب. والمصريون أولى من غيرهم بالعذر إذا خلا شعرهم من وحي الربيع؛ لأن الربيع الذي يزور الأرض في أبريل ومايو، لا يزور مصر إلا في أكتوبر ونوفمبر. فالخريف في مصر هو الربيع الحق في نضرته وزينته وعطره. فأينما تدر بصرك في حقول الذرة وقصب السكر والبرسيم، لا تجد إلا رياضاً شجرا من شراب وحب، ومروجا فيحاء من زهور وكلأ. ثم ترى النيل في أعقاب فيضانه كذوب التبر ينساب هادرا في الترع والقنوات، فيجعل من ضفاف الجداول، وحفافي الطرق،
وحواشي الغيطان، سلاسل زبرجدية من الريحان والعشب. لذلك أمكن شعراء الريف في وصف الخريف وأبدعوا. وأما ذلك الربيع الجغرافي الذي يقبل على مصر مع الرياح الخمسينية والعواصف الرملية والتقلبات الجوية فإنه أرادا فصول العام. يطرد النسيم بالسموم، ويخنق العطر بالغبار، ويذبل الزهر باللهيب، ويرمي الطير بالبكم، وفسد المزاج بالوخومة. ثم يكون حلوله بعد رحيل شتاء هادئ جميل، في هوائه الدفء، وفي جوه الصحو، وفي سمائه الإشراق، وفي أيامه النشاط، وفي لياليه الأنس. فإذا رأيت الريف في الشتاء، رأيت الأرض على مدى البصر قد غطاها بساط من السندس الأخضر، تخف خضرته في حقول القمح فتكون كالزمرد، وتثقل في حقول البرسيم فتكون كالفيروز؛ فلا يجد الشاعر المصري وقد أنتقل من رقة هذا الشتاء إلى قسوة ذلك الربيع ما يجده الشاعر الأوربي من الحياة والمرح والبهجة والنشوة والطلاقة حين ينتقل من شتائه المكفن بالثلوج إلى ربيعه المكسو بالورود
للربع في الشعر الأوربي أرخم الأوتار وأعذب الألحان من موسيقى
الشاعر؛ لأن الشتاء في أوربا عناد طويل وهم ثقيل: ظلام متكاثف
يحجب السماء، ومطر واكف يغمر الأرض، وبرد قارص يهرأ
الأجساد، وغمام متراكم بسد الأفق فلا ترى شعاع شمس ولا خفقة
طائر؛ وثلج متراكب يطمر الثرى فلا تجد عشبة في مرج ولا زهرة
في حديقة. والناس هناك في حنين دائم إلى الربيع، لأنه في دنياهم
حياة بعد موت، وابتهاج بعد كآبة. ولشعرائهم فيما يبشرهم بمقدمة
رقائق من الشعر الشاعر، تقرأها في البشريات الأولى، كشيوع الدفء
في النسيم، ودبيب الحياة في الشجر، وعودة العصفور المهاجر إلى
عشه، وخرير الجدول الجامد بعد صمته. فإذا أقبل الربيع متعهم بما
حرموه طويلا من جلوت الطبيعة في الأفق المشرق، والروض البهيج،
والجو المعطر، والطير الصادحة، والضواحي الأنيقة، والغابات
الوريفة، والمتنزهات اللاعبة. والربيع الأوربي على الجملة تغيير في
النفس وتجديد في الحياة. والتغير والتجدد يلهمان القرائح الخلاقة شعرا
يمتزج فيه الوجدان بالوجود، ويتصل به الخيال بالحقيقة.
أما شعراءنا المصريون فأي جديد يأتيهم به الربيع في آفاقهم وفي أنفسهم؟ إن الشمس والدفء والصحو والطير والزهر والزرع والماء من خصائص مصر الطبيعية، لا تنفك عنها طيلة العام، حتى ألفتها المشاعر والنفوس، فلا تشتاقها لأنها لا تغيب، ولا تحتاجها لأنها لا تنقطع. ومن هنا تشابهت الفصول الأربعة في حس الشاعر، فلا يكاد يرى اختلافا بينها إلا في حيوية الشتاء وشاعرية الخريف. ولذلك لم يجد الشعراء ما يقولونه في الربيع. فإذا قالوا مدفوعين بغريزة المحاكاة أو بشهوة المعارضة، قالوا كلاما قد يكون منضد الألفاظ، مجود التشابيه، ملون الصور؛ ولكن الفرق بينه وبين الشعر الصحيح يكون كالفرق بين الجماد والحي، أو بين الدمية والمرأة
ولقد نظرت في شعرنا القديم والجديد فلم أر شاعرا قبل شوقي ولا بعده خص الربيع بقصيدتين من محكم الشعر وجيده، إحداهما طويلة مستقلة، أهداها إلى الكاتب القصصي هول كين، والأخرى قصيدة تابعة جعلها صدرا لقصيدته التي نظمها في المهرجان الذي أقيم لتكريمه، يقول في الأولى:
آذار أقبل قم بنا يا صاح
…
حي الربيع حديقة الأرواح
وأجمع ندامى الظرف تحت لوائه
…
وأنشر بساحته بساط الراح
صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها
…
فالصفو ليس على المدى بمتاح
واجلس بضاحكة الرياض مصفقا
…
لتجاوب الأوتار والأقداح
إلى أن يقول:
ملك النبات فكل أرض داره
…
تلقاء بالأعراس والأفراح
منشورة أعلامه من أحمر
…
قان وأبيض في الربى لماح
لبست لمفدمه الخمائل وشيها
…
ومرحن في كنف له وجناح
الورد في سرر الغصون مفتح
…
متقابل يثني على الفتاح
ضاحي المواكب في الرياض مميز
…
دون الزهور بشوكة وسلاح
مر النسيم بصفحتيه مقبِّلا
…
مر الشفاه على خدود ملاح
هنك الردى من حسنه وبهائه
…
بالليل ما نسجت يد الأصباح
ينيبك مصرعه وكل زائل
…
أن الحياة كغدوة ورواح
ويقائق النسرين في أغصانها
…
كالدر ركب في صدور رماح
والياسمين لطيفة ونقيه
…
كسريرة المتنزه المسماح
متألق خلل الغصون كأنه
…
في بلجة الاصباح ضوء صباح
ثم يقول في الأخرى:
مرحباً بالربيع في ريعانه
…
وبأنواره، وطيب زمانه
زفت الأرض في مواكب (آزا
…
ر) وشب الزمان في مِهرجانه
نزل السهلَ ضاحك البشر؛ يمشي
…
فيه مشي الأمير في بستانه
عاد حَلياً براحتيه ووشياً
…
طول أنهاره، وعرض جنانه
لف في طيلسانه طور الأ
…
ض فطاب الأديم من طيلسانه
ساحر، فتنة العيون، مبين
…
فصَّل الماء في الربا بجمانه
عبقري الخيال، زاد على الطيف، وأربى عليه في ألوانه
صبغة الله، أين منها رفائيل، ومنقاشه وسحر بنانه؟
رَّنم الروض جدولا ونسيما
…
وتلا طيرَ أيكه غصن بانه
وشدت في الربا الرياحين همساً
…
كتغني الطروب في وجدانه
كل ريحانة بلحن؛ كعرس
…
أُلفت للغناء شتى قيانه
نغم في السماء والأرض شتى
…
من معاني الربيع، أو ألحانه
هذه وتلك أيها السادة أبيات من قصيدتي شوقي في الربيع؛ وهما كما علمتم مما سمعتم مثالان من الشعر العالي الطبقة الرفيع النسق إذا وازناهما بالمأثور من الشعر المصري في هذا الباب، وربما انقطع نظيرهما أو ندر في الشعر العربي كله! ولكننا إذا وازناهما بما قرأنا في موضوعهما من الشعر الأوربي شالت كفتهما في هذه الموازنة. فإن شوقي رحمه
الله جرى على مذهب من سبقوه، فلم يصف فيهما ربيعا بعينه، في إقليم بعينه، يصح أن يخلط به نفسه، ويضيف إليه شعوره، ويعرض ما يرى فيه من شجر وطير وعطر وفتون، على ما يجد في نفسه من حب وذكرى ونشوة وصبابة، فيأتلف المنظر والناظر، ويتحد الشعور والشاعر؛ إنما وصف شوقي ربيعا عاما كما تخيله لا كما رآه، وكما تمثله لا كما أحسه، فجاء الوصف معجما مبهما قد يعجب ويطرب بألفاظه، ولكنه لا يؤثر ولا يعرب بمعانيه. والقصيدتان على أي اعتبار مشاركة جميلة من الشعر المصري للشعر العالمي في تمجيد ذلك السر الذي يبثه الله كل سنة في الربيع، فيعيد الحياة، ويرجع الشباب، ويجدد الأمل، وينشر الجمال، وينشأ عنه في الدنيا هذا البعث العجيب!
أحمد حسن الزيات
3 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
الكذب على رسول الله:
شر الرذائل كلها الكذب، لا يختلف في ذلك أحد، وليس في خلال الإنسان أسوأ من خلة الافتراء، ولا في أدواء الجماعات أعضل من داء البهتان.
ولئن كان الكذب بين الأفراد والجماعات مما يمكن تداركه والقضاء عليه، فإن بلاءه ولا ريب يكون عميما وضرره يكون عظيما إذا كان على مثل رسول الله (ص) فإن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، إذ هو رسول دين عام، وصاحب شريعة للناس كافة. وقد أخرج البزار وأبو يعلى والدارقطني والحاكم في المدخل عن سعيد بن عمرو بن نفيل قال:
قال رسول الله (إن كذبا علي ليس ككذب على أحد)
وقد أتت الرسالة المحمدية بأصول في العقائد ليس لإنسان مهما بلغ من العلم أن يغير أصلا من أصولها، وجاءت بأحكام للعبادات لا يجوز لأحد أن يزيد فيها، أو ينقص منها، أو يعدل شيئا من صورها أو أزمانها؛ لأن الدين كما هو معلوم للدارسين مبني على أصلين (1) لا يعبد إلا الله (2) ولا يعبد بما أمر. وما عدا ذلك من نظم العمران، وقواعد الاجتماع، فقد وضع له الدين أسساً عامة من العدل والرحمة وعدم الضرر والصدق والأمانة والإحسان وما إليها من الفضائل، وهذه الأسس العامة قد وضعت ليهتدي بها الناس في كل زمان، وتشرق بضيائها على كل مكان
فهذا الذي جاءت به الرسالة المحمدية وبخاصة ما نطق به الرسول، لا يصح أن يشوبه ما ليس منه، ولا يخالطه ما يغايره، ومن أجل ذلك كان أشد ما يخشاه صلوات الله عليه أن يكذب أحد عليه، وقد شدد في هذا الأمر تشديداً عظيماً حتى جعل جزاءه القتل في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة
روى البخاري وغيره عن ربعي بن خراش قال: سمعت عليا يقول، قال النبي:(لا تكذبوا علي فإن من كذب علي فليلج النار)
قال الحافظ أبن حجر في شرح هذا الحديث: يؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ (يلج النار) وفي رواية يولج. وروى البخاري عن أنس وأبي هريرة وفيهما زيادة لفظ
(متعمداً) ورويت كذلك أحاديث في غير البخاري بهذه الزيادة، ولكن من حقق النظر وأبعد النجمة في مطارح البحث يجد أن الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة - ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين - تدل على أن هذا الحديث لم تكن فيه تلك الزيادة، وكل ذي لب يستبعد أن يكون النبي (ص) قد نطق بها لمنافاة ذلك للعقل والخلق اللذين كان الرسول متصفا بالكمال فيهما
وأقطع دليل في هذا الأمر الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن الزبير الذي جاء فيه، قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما أني لم أفارقه ولكني سمعته يقول: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) ورواه الدارقطني بهذه الزيادة (والله ما قال متعمداً وأنتم تقولون متعمداً!)
ورواية أبن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) - وقال - أراهم يزيدون فيه متعمداً، والله ما سمعته قال متعمداً: وفي نسخة (أنهم) يزيدون.
وقال الحافظ أبن حجر في شرح هذا الحديث (وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه في اختبار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء أكان عمدا أم خطأ. . . إذ الإكثار مظنة الخطأ. .)
وقال الحاكم في المدخل (إن موعد الكاذب عليه في النار) وقد شدد (ص) في ذلك وبين أن الكاذب عليه في النار؛ تعمد الكذب أم لم يتعمد، في قوله (ص) فيما رواه أبن عمر (إن الذي يكذب علي يبنى له بيت في النار) وقد زاد تشددا بقوله فيما رواه عثمان بن عفان (من قال علي ما لم أقل) فإنه إذا نقله غير متعمد للكذب استوجب هذا الوعيد من المصطفى
ومن روايات هذا الحديث (من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار) قالوا وهذا أصعب ألفاظه وأشقها لشموله للمصحف واللحان والمحرف
الكذب على النبي قبل وفاته:
لقد كذب على النبي صلوات الله عليه وهو حي، فقد جاء في كتاب أصول الأحكام لأبن حزم الظاهري أنه كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة، فجاءهم وعليه حلة! فقال إن رسول الله كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى. وكان قد خطب منهم امرأة فلم يزوجوه. فأنطلق على تلك المرأة، فأرسلوا إلى رسول الله فقال:
(كذب عدو الله) ثم أرسل رجلا فقال: (إن وجدته حيا فاضرب عنقه وإن وجدته ميتا فحرقه بالنار)
وأخرج أبن سعد في الطبقات والطبراني عن المقنع التميمي قال: (أتيت للنبي بصدقة إبلنا فأمر بها فقبضت. فقلت إن فيها ناقتين هدية لك، فأمر بعزل الهدية عن الصدقة، فمكث أياماً وخاض الناس أن رسول الله باعث خالد بن الوليد إلى رفيق مضر فمصدقهم، فقلت والله ما عند أهلنا من مال! فأتيت النبي (ص) فقلت له: إن الناس خاضوا في كذا وكذا!! فرفع النبي يديه حتى نظرت إلى بياض إبطه وقال. (اللهم لا أحل لهم أن يكذبوا علي) قال المقنع: فلم أحدث بحديث عن النبي إلا حديثاً نطق به كتاب أو جرت به سنة يكذب عليه في حياته فكيف بعد موته؟)
وفي هذا الكلام فوائد كثيرة لا نطل ببيانها
الكذب على النبي بعد وفاته:
وإذا كان قد كذب عليه في حياته، فإن الكذب قد كثر عليه بعد وفاته صلوات الله عليه وكبار الصحابة متوافرون. وقد استفاض هذا الكذب بعد وفاة عمر لأنه كان - كما علمت - يخيف الناس حتى أفزعت كثرة الأحاديث على رسول الله كبار الصحابة وأمضتهم
فقد روى مسلم في مقدمة صحيحة بسنده عن طاووس قال: جاء هذا إلى أبن عباس (يعنى بشر بن كعب) فجعل يحدثه فقال له أبن عباس: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له. فقال: ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟ أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا؟
فقال أبن عباس: (إنا كنا نحدث عن رسول الله إذا لم يكن يكذب عليه! فلما ركب الناس الصعبة والذلول تركت الحديث عنه)
وجاء بشر العدوي إلى أبن عباس فجعل يحدث ويقول، قال رسول الله! قال رسول الله! قال. فجعل أبن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه! فقال. يا أبن عباس، مالي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع؟ قال أبن عباس إنا كنا مدة إذا سمعنا رجلا يقول، قال رسول الله ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف
وأخرج مسلم عن أبن سيرين قال: لقد أتى على الناس زمان وما يسأل عن إسناد حديث،
فلما وقعت الفتنة سئل عن إسناد الحديث؛ فنظر من كان من أهل السنة أخذ من حديثه، ومن كان من أهل البدع ترك حديثه
نجتزئ بهذه النصوص التي تدل على أن الرسول (ص) قد كذب عليه في حياته وبعد مماته، ولم يكن ذلك من أصحاب البدع والأهواء فحسب، ولكن كان من الصالحين - كما سنبين ذلك في فصل (الوضاع الصالحون) إن شاء الله
المنصورة
محمود أبو رية
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
سودي يا بريطانيا
…
وأحكي
هذا هو نشيد القوم وحداؤهم، ولكنه ليس هتافا تردده الألسنة والحناجر، وتقعد عن تحقيقه الهمم والعزائم، وإنما هو دينهم الذي ارتضوه، ومذهبهم الذي اعتنقوه، يقدمون أرواحهم فداء له، ويستعذبون الردى في سبيله، ولا عجب فإنهم يقولون (إذا ذهبنا فإنجلترا باقية
وبريطانيا التي أحدثك اليوم عنها أيها الصديق الكريم هي سيدة البحار، وحاملة لواء الاستعمار، زعيمة الديمقراطية، و (دينامو) السياسة الدولية، وهي تجثم على صدر العالم وتتحكم فيه، ولعلك تلمس في جميع المشاكل القائمة الأصابع البريطانية
ومن واجبنا نحن الشرقيين أن نعرف مواطن الضعف في أنفسنا فنعمل على إزالتها، يدفعنا إلى ذلك عاملان: أولهما حبنا لأوطاننا ولحرياتنا، ونحن إذ نفعل ذلك لا نبغي إثما ولا عدوانا؛ وإنما نريد أن نعيش أحرارا كراما. . وثانيهما أن ديننا يأمرنا بذلك، فهو يطلب إلينا أن نكون أعزة في بلادنا، وقد وعد الله المجاهدين منا إحدى الحسنيين، فإما نصر في الدنيا وعزة وكرامة، وإما استشهاد وقد كرم الله الشهداء حيث قال (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) ووعدهم جنات تجري من تحتها الأنهار. . لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما
وعندي أنه لكي تحقق الأمة آمالها وأهدافها لا بد لها من أمرين: أولهما إيمانها بقضيتها، ذلك أنه لا انتصار لأمة لا تؤمن بحقوقها ويختلف أفرادها في حقيقة مطالبها، فإن هذا الخلاف يستغله الغاضب الأجنبي لإيقاع الفرقة في صفوف أبنائها مما يؤدي إلى انحلالها، وهذه السياسة هي ما اتفق على تسميته بسياسة (فرق تسد)
والأمر الثاني أن تعمل الأمة على إعداد أفراد شعبها من الناحيتين الروحية والعسكرية: فالجندي الذي لا يؤمن بالقضية التي يحارب من أجلها يكون قلبه هواء؛ وسرعان ما يولي الأدبار حين ينزل في ساحة الوغى والقتال. وكذلك ليس من العدل أن نرسل الأفراد العزل، إلى ميادين النزال حيث تلتهمهم المدافع والقنابل
إذا تحقق هذان الأمران، وعرف كل فرد من أفراد الأمة قضية بلاده وحقوقه المهضومة،
وعمل على استخلاصها من يد الممثل الأجنبي، فتأكد يا صديقي أن أمة هذا شأنها لا بد واصلة إلى تحقيق أهدافها وغاياتها
واجب علينا إذن أن نعرف مواطن الضعف في أنفسنا فنقومها؛ وواجب علينا أيضا أن نعرف مواطن القوة في غيرنا فنعمل على الأخذ بأسبابها في بلادنا؛ وبريطانيا هي المحرك الأول لسياسة الدنيا في هذا العصر، ولعل من الخير لنا أن نحاول فهم الأسباب الرئيسية لقوتها وعظمتها
الأسد البريطاني:
حاول أيها الصديق الكريم أن تنظر إلى خريطة سياسية للدنيا، وسيسترعي انتباهك حتما سعة أملاك بريطانيا مما جعل البريطانيون على حق فيما يذهبون إليه من (أن أملاكهم لا تغرب الشمس عنها أبدا). ويذكرنا ذلك باتساع الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الزاهر مما دفع الخليفة هارون الرشيد أن يخاطب سحابة كانت تمر به قائلا:(أمطري حيث شئت يأتني خراجك)
تمتاز الأملاك البريطانية باتساعها، ولا عجب، فإن بريطانيا تحكم ثلث اليابس، إذ تملك أستراليا وتجثم على صدر معظم أفريقيا، وتتحكم في معظم آسيا، ولها ممتلكات واسعة في أمريكا
ولعل مما يثير اهتمامك وانتباهك أيضا أن بريطانيا شديدة أشد الحرص على أن تكون مفاتيح البحار في يدها، فلها في كل بحر من البحار، ومحيط من المحيطات، جزائر متناثرة، ولكن أهميتها عظيمة لأنها مأوى الأسطول البريطاني الذي تسود به بريطانيا على الدنيا
الأسطول البريطاني:
بريطانيا سيدة البحار، هذا هو ما تزعمه وهو صحيح من غير شك، فما يزال الأسطول البريطاني (الدرع الواقي) لإنجلترا حتى أيامنا هذه؛ بل إنني أعتقد بحق أن الجندي المجهول الذي كسب لبريطانيا الحرب الأخيرة، مع أن الناس لم يشعروا بقيمة الحرب البحرية في الحرب الأخيرة ولم يقدروها حق قدرها
ولعلنا نذكر أن ألمانيا قد استطاعت أن تكتسح أوربا في فترة وجيزة حتى بلغ بها الأمر أن استولت في ليلة واحدة على دولتين: هما النرويج والدانمارك، وفي مدى أسبوع سقطت فرنسا تحت أقدامها، وأصبحت ألمانيا سيدة أوربا ولم يبق أمامها سوى إنجلترا
وقد وجهت ألمانيا إلى بريطانيا طائراتها فأخذت تقذف عاصمتها بوابل من قنابلها ليلا ونهارا، وكانت تبغي من غير شك إضعاف نفسية الشعب الإنجليزي حتى تضطر حكومته إلى طلب الصلح. ولكن الخلق الإنجليزي لا يبدو واضحا جليا إلا في أوقات الأزمات؛ فقد صمد الشعب الإنجليزي وخاب فأل الألمان
ولعلك تسألني لم لم ترسل ألمانيا قواتها فتحتل أرض بريطانيا كما فعلت مع فرنسا وأنا أجيبك بأن ألمانيا قد فكرت في ذلك من غير شك، فلما تحققت أن الأسطول البريطاني واقف لها بالمرصاد نكصت على عقبيها وارتدت عن فكرتها ولجأت إلى الحرب الجوية وانتهى الأمر بفشلها، وظلت ألمانيا حبيسة في داخل القارة. ولما تمكنت إنجلترا من جمع حلفاء حولها نظمت قواتها وقوات حلفائها وعمدت إلى إثارة الشعوب الأوربية ضد ألمانيا ثم نزلت قواتها إلى البر في أرض حليفتها بالأمس فرنسا، وظلت تحارب حتى تم لها النصر، وكان الأسطول يحاصر ألمانيا وأملاكها وينقل العتاد والذخائر والمؤن إلى بريطانيا وحلفائها
لعلك قد تبينت أيها القارئ الكريم أهمية الدور الذي لعبه الأسطول البريطاني في الحرب الأخيرة، وأنا الآن أنتقل بك إلى موضوع آخر هو: كيف أصبحت بريطانيا أمة بحرية، وكيف تمكنت من إحراز السيادة العالمية البحرية؟
وأحب أن أحدثك قليلا عن بريطانيا قبل أن أجيبك عن هذا السؤال. إن تلك الدولة العتيدة تتكون من عدة جزائر أهمها جزيرتان: الجزيرة الكبرى وهي تضم إنجلترا وويلز واسكتلندا، والجزيرة الثانية وتشمل أيرلندا، وهناك عدة جزائر أخرى متناثرة حول هاتين الجزيرتين
وتقع الجزائر البريطانية في شمال غرب أوربا، ويفصلها عن القارة بحر المانش وبحر الشمال وقد كان لهذا الموقع أهمية كبرى في تاريخ بريطانيا، ذلك أنه جعلها بعيدة عن التأثر بالتيارات السياسية، والانقلابات التي تتعرض لها القارة الأوربية، وجعلها بمنجاة من
الغزو الأوربي
كيف أصبحت بريطانيا أمة بحرية وكيف أصبحت سيدة البحار؟ لقد رأينا فيما سبق أن بريطانيا تتكون من عدة جزائر تحيط بها البحار والمحيطات، ومن طبيعة أهل السواحل أن يلجئوا إلى البحر المجاور التماسا للرزق وسعيا وراء السمك، وقد ساعد الإنجليز على ركوب البحر توفر الغابات والأخشاب اللازمة لصناعة السفن في بلادهم، ثم إن الإنتاج الزراعي لا يكفي حاجة السكان مما جعلهم يلجئون إلى البحر. هكذا تعلم البريطانيون الملاحة
وفي عصر النهضة والاستكشافات راع الإنجليز ما أحرزته إسبانيا من ممتلكات في أمريكا، وما استولت عليه من ثروات ضخمة، فبدأ ملاحوها المعروفون باسم قراصنة البحر بزعامة سير فرنسيس دريك يهاجمون السفن الإسبانية، وانضمت إنجلترا إلى جانب هولندا التي ثارت ضد إسبانيا وقدمت لها مساعدات قيمة. الأمر الذي أثار ثائرة فيليب الثاني ملك إسبانيا وبلغ النزاع أشده بين دولتين: إحداهما تتزعم المذهب البروتستانتي وهي إنجلترا، والثانية تتزعم المذهب الكاثوليكي وهي إسبانيا، فأعد فيليب أسطولا عظيما عرف باسم (الأرمادا) ليغزو به بريطانيا في بلادها، وهنا واجهت إنجلترا أزمة خانقة ولكنها وقفت ملكة (اليصابات) وشعبا في وجه الأسبان، وحطم البحارة الإنجليز الأسطول الإسباني الكبير في يوليو 1588 وهكذا بدأت بريطانيا زعامتها البحرية
على أن بريطانيا لم تلبث أن وجدت نفسها أمام دولة أخرى تنافسها في ميدان الاستعمار والسيادة على البحار وهي فرنسا، ولكن بريطانيا أخذت تنازل عدوتها، وفي خلال حرب السنين السبع 1756 - 1763 تمكنت من الاستيلاء على ممتلكات فرنسا في أمريكا والهند
وجاء عصر الثورة ونابليون، واستطاع نابليون أن يفرض - كما فعل هتلر - سلطانه على أوربا، وبقيت إنجلترا وفكر في غزوها، ولكن قوتها البحرية ردته إلى صوابه ففكر في طريقة أخرى ليضرب بها إنجلترا، ورأى أن خير طريقة، لتحقيق ذلك تكون بالقضاء عليها في مستعمراتها، ومن هنا جاء نابليون في حملته المشهورة إلى مصر 1798
وعرفت بريطانيا أن نابليون قد جاء إلى مصر ليقضي على إمبراطوريتها في الهند فوقفت له بالمرصاد، وحطم بطلها العظيم نلسن الأسطول الفرنسي في موقعة أبي قير البحرية في
أول أغسطس 1798 وكذلك وقف السير سدني سمث يساعد الجزار باشا في عكا مما اضطر نابليون أن يعود أدراجه من حملته على الشام إلى مصر ومنها إلى أوربا
واستمر العداء مستحكما بين فرنسا زعيمة أوربا وبين إنجلترا سيدة البحار، وجدت إنجلترا في القضاء على البحرية الفرنسية قضاء تاما، وقد استطاع نلسن أن يحقق لها ذلك في موقعة الطرف الأغر في أكتوبر 1805 إذ حطم قوات فرنسا البحرية وكذلك قوات حليفتها إسبانيا، وكتب للبحرية الإنجليزية نصرا رائعا دفع لها ثمنا حياته، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت إنجلترا زعيمة البحار غير منازعة. وما يزال الإنجليز إذا ذكروا نلسن ذكروا بطلا ضحى بحياته في سبيل مجد إنجلترا وإن أنس لا أنس منظرا شهدته بعيني: فقد كان المرحوم المستر جريفث يقوم بتدريس الأدب الإنجليزي لنا وكان يقرأ (حياة نلسن) فلما وصل إلى نهاية الرواية وفيها وصف مؤثر لسقوط نلسن في ساحة الشرف وميدان القتال؛ بكى الرجل ودمعت عيناه رغم أن نلسن كان قد مات منذ أكثر من قرن وربع من الزمان
وما تزال كلمات نلسن التي وجهها إلى بحارة الأسطول قبيل المعركة دستورا للإنجليز: (إن إنجلترا تتوقع أن يقوم كل فرد بواجبه)
وقد قام كل فرد بواجبه فتحقق النصر لبريطانيا، وقام نلسن بواجبه واستشهد في المعركة، وكان أخر عبارة فاه بها:(حمدا لله وشكرا، لقد أديت واجبي)
وقد كان من نتائج هذه المعركة أن ظل نابليون محبوسا في أوربا لا يستطيع عنها حولا، وظلت إنجلترا تقاومه حتى سلم نفسه إليها فنفته إلى جزيرة سانت هيلانة حيث قضى بقية حياته
وجدير بي أن أذكر قبل اختتام حديثي أنه في 1912 قرر قيصر ألمانيا إنشاء ست بوارج حربية، فقررت إنجلترا إنشاء 12 بارجة واحتج القيصر، ولكن بريطانيا ردت عليه قائلة، إن الأسطول البريطاني يجب أن يكون في تعداده وقوته مماثلا لأساطيل الدولة مجتمعة
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية
مع أبي تمام في آفاقه:
قصيدة النار
- 4 -
للأستاذ محمود عزت عرفة
تتمة
. . . وثالثة القصائد التي أنشأها أبو تمام في الأفشين هي هذه لرائية الهاجية الشامتة التي لا تزال موضوع حديثنا. ولقد كانت أبياتها في وصف النار والمصلبين موضع العجب والإعجاب - كما رأينا - لدى القدماء والمحدثين جميعا. ذلك أنها تصوير مبتكر دقيق، لمنظر لنا أن نعده مبتكرا دقيقا أيضا، بما لابسه من هول المشهد وروعته، مشوبا بفرحة النفوس لهذا النصر المتتابع يمثله الخليفة لأبناء سامرا في جثث أربع، لأربعة من رؤوس الكفر والخلاف وأهل العداوة للإسلام هم: بابك الخرمي، والمازيار بن قارن، وناطس الرومي نائب عمورية، وحيدر الأفشين. إنه المشهد الذي قرت العيون بما تنظر منه، وهشت الأسماع لما تسمع عنه، وتلقت القلوب منه البشرى تبهجها فتطغيها، وأعلنت له الشماتة التي كانت في شرعة الفضيلة عاراً، فأصبحت بعد مما يرحض به العار. . .
يا مشهدا صدرت بفرحته إلى
…
أمصارها القصوى بنو الأمصار
رمقوا أعالي جذعه فكأنما
…
وجدوا الهلال عشية الإفطار
واستنشقوا منه قتاراً نشره
…
من عنبر ذفر ومسك (داري)
وتحدثوا عن هلكه كحديث من
…
بالبدو عن متتابع الأمطار
وتباشروا كتباشر الحرمين في
…
قحم السنين بأرخص الأسعار
كانت شماتة شامت عاراً فقد
…
صارت به تنضو ثياب العار
ثم يعود أبو تمام فيستعرض وجوه النعم التي حظي بها الأفشين في ظل المعتصم، فهو قد أحله من قلبه مكانة لا تنفذ إليها مؤثرات الأحداث، وأرتعه من العيش الهنيء في أطيب مرتع، وبوأه جانب الأمن والسلامة من أن يتقلب عليه قلبه، أو تأخذه بوقيعة يده؛ لأنه كان يطمئن إليه أكثر مما يطمئن الأب الكريم إلى أبنه البار. ثم ماذا؟ ثم تكشف الأفشين فجأة
عن طوية خبيثة، فإذا هو يسر الكفر إسرارا، ويصر على اعتقاده إصرارا؛ بل هو يحن إلى سالف عهده فيه حنيناً لا يخرجه منه إلا أن يرتد إليه، ويبكي مجد مجوسيته الذاهب بكاء من فقد آثر الأشياء عنده وأعزها إليه:
قد كان بوأه الخليفة جانباً
…
من قلبه حرماً على الأقدار
فسقاه ماء الخفض غير مصرد
…
وأنامه في الأمن غير غرار
ورأى به ما لم يكن يوما رأى
…
عمر بن شأس قلبه بعرار
فإذا أبن كافرة، يسر بكفره
…
وجداً كوجد فرزدق بنوار
وإذا تذكره بكاه كما بكى
…
كعب زمان رثى آبا المغوار
وحديث عمرو بن شأس الأسدي مع زوجته وولده مشهور كانت له امرأة من رهطه يقال لها أم حسان بنت الحارث، وكان له أبن يقال له عرار من أمة له سوداء، فكانت تعيره به وتؤذي عرارا ويؤذيها، وتشتمه ويشتمها. فلما أعيت عمراً بالأذى والمكروه في أبنه، قال الكلمة التي فيها هذه الأبيات:
ألم يأتها أني صحوت وأنني
…
تحلمت حتى ما أعارم من عرم
وأطرقت إطراق الشجاع ولو رأى
…
مساغا لنابيه الشجاع لقد أزم
فإن عراراً إن يكن غير واضح
…
فإني أحب الجون ذا المنكب العمم
وإن عراراً إن يكن ذا شكيمة
…
تقاسينها منه، فما أملك الشيم
أردت عراراً بالهوان ومن يرد
…
عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم!
أما وجد الفرزدق بزوجته (نوار) وندمه على تطليقها، فليس يعد لهما وجد ولا ندم. وهو القائل في ذلك
ندمت ندامة الكسعي لما
…
غدت مني مطلقة نوار
والذي يشير إليه أبو تمام من وثاء كعب لأبي المغوار، هو البائية التي أنشدها كعب بن سعد الغنوي في رثاء أبي المغوار واسمه هرم أو شبيب، وفيها يقول:
ودع دعا: يا من يجيب إلى الندى
…
فلم يستجيبه عند ذاك مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة
…
لعل أبا المغوار منك قريب
يجبك كما قد كان يفعل، إنه
…
مجيب لأبواب العلاء طلوب
فإني لباكيه، وإني لصادق
…
عليه، وبعض القائلين كذوب
وكان في آل كاوس جماعة من ذوي النفوذ والجاه كالفضل أبن كاوس أخي الأفشين الذي أبلى معه في حرب الخرمية بلاء عظيما. والحسن بن الأفشين زوج أترنجة أبنة القائد أشناس وكان يطمع في بعض مناصب الولاية في خراسان. فكان مقتل الأفشين مما يستوجب الضرب على أيدي أمثال هؤلاء ممن لا تؤمن بادرتهم، وقد نجحت خطة المعتصم في ذلك بمعونة عبد الله بن طاهر ولم يكن ليغيب عن أبي تمام لزوم هذا الإجراء الحاسم، فهو يذكره للمعتصم ويشير به عليه؛ ويذكر الأحرج في إلحاق أعيان آل كاوس بمصير سيدهم، لأنهم جميعا أهل فتنة وخلاف. ولئن كان الأفشين قد لقي من بينهم جزاء ما أظهر من خيانة، فكل منهم في خبيئة نفسه وباطن أمره (أفشين). فحقهم أن يلقوا ما لقي، وأن يذوقوا الكأس التي ذاق
ولا يفوت أبا تمام كعادته أن يستشهد على هذه الحقيقة بحوادث الغابرين، وأن يستنبط لها الأمثال من سير الماضين. فهو يذك لنا السامري صاحب موسى، وقدارا أشأم ثمود. وعنده أنهما لم يركبا من الشر ما ركبا إلا وكل منهما مؤيد من قومه بما طبعت عليه نفوسهم من الشر. وكأنما كان الله - سبحانه - ينظر إليهم بهذه العين حين شملهم بسخطه وعذابه جميعا وإذاً فليس أمام المعتصم إن تحرى الحزم والسداد إلا أن يأخذ جميع آل كاوس بجريرة صاحبهم الأفشين:
يا قابضا يد آل كاوس عادلا
…
أتبع يميناً منهمو بيسار
ألحق جبيناً دامياً رملته
…
بقفا، وصدرا خائنا بصدار
واعلم بأنك إنما تلقبهمو
…
في بعض ما حفروا من الآبار
لو لم يكد للسامري قبيله
…
ما خار عجلهمو بغير خوار
وثمود لو لم يوغلوا في ربهم
…
لم ترم ناقته بسهم قدار
ثم يختم الشاعر الموضوع الأصيل من قصيدته بإعادة ذكر المصلبين وقد لبست أجسادهم من لفح النار سوادا كالقار. ثم عبثت بها أيدي النسائم فانعطف بعضها إلى بعض كأنها في سرار ومناجاة.
ويذكر بعد ذلك أنهم ركبوا مطايا ضوامر ليست كالجياد من لحم وعصب، ولكنها من حديد
وخشب، وأنهم في امتطائهم إياها كانوا أشبه شيء بالسفر المغذين وهم مع ذلك لا ينقلون قدما أو يبرحون موضعا. وقد ذكرنا ثلاثا من هذه الأبيات أنشدت في مجلس محمد بن منصور، ونحن نعيد الأبيات هنا بجملتها، وهي ستة:
ولقد شفى الأحشاء من برحائها
…
أن صار بابك جار مازيار
ثانيه في كبد السماء، ولم يكن
…
لاثنين ثانيا إذ هما في الغار
وكأنما ابتدرا لكيما يطويا
…
عن ناطس خبرا من الأخبار
سود اللباس كأنما نسجت لهم
…
أيدي السموم مدارعا من قار
بكروا وأسروا في متون ضوامر
…
قيدت لهم من مربط النجار
لا يبرحون ومن رآهم خالهم
…
أبدا على سفر من الأسفار
وفي البيت الأول (ولقد شفى الأحشاء. . . الخ) إشارة إلى أولى التهم التي أخذ بها الأفشين، وهي حضه مازيار بن قارن على الخلاف في طبرستان. وفي الحق إنها كانت أخطر هذه التهم كذلك، ومن أجلها وحدها تقرر مصير الأفشين وصحت نية الخليفة على الإيقاع به. . .
ويكفي للتدليل على ذلك أن نقول إن القبض على الأفشين وقع قبل الدخول بمازيار إلى سر من رأى بيوم واحد. حكي ذلك الطبري فقال: (جلس المعتصم في دار العامة لخمس ليال خلون من ذي القعدة (225هـ) وأمر فجمع بينه - يعني مازيار - وبين الأفشين. وقد كان قبل ذلك بيوم. .) وإذاً فلم يكون سائر ما ألصق بالأفشين من تهم - إلى جانب تحريضه مازيار - إلا نوعا من الاستقصاء، وتلمسا لما يبرر الانقلاب عليه، وإخلاء موضعه منه. أو قل إن ضعف هذه التهمة. وقد أشرنا قبل إلى اضطراب الروايات حولها - استدعي أن يضاف إليها ما يعززها، ويضاعف من نسجها _
أما البيت الذي قال فيه:
وكأنما ابتدرا لكيما يطويا
…
عن ناطس خبراً من الأخبار
فقد كان يند عني فهم المراد منه، حتى وقعت على تفسير له في تاريخ المسعودي. قال: ومالت خشبة مازيار إلى خشبة بابك فتدانت أجسامها، وكان قد صلب في ذلك الموضع ناطس بطريق عمورية، وقد انحنت نحوهما خشبته، ففي ذلك يقول أبو تمام: ولقد شفي
الأحشاء. . . الأبيات
ولقد تجنى صاحب (الموازنة) على أثنين من هذه الأبيات، أولهما قوله:
ثانيه في كبد السماء ولم يكن
…
لاثنين ثانياً إذ هما في الغار
أورده (ولم يكن لأثنين ثان) ثم قال: كان يجب أن يقول (ثانيا) لأنه خبر يكن، واسمها هم اسم بابك مضمر فيها. فليس إلى غير النصب سبيل في البيت وإلا بطل المعنى وفسد. ونقول: إن المعنى يبطل حقا بالرفع ويفسد؛ ولكن رواية النصب هي المأثورة، وقد وردت في الديوان، ويستلزم ذلك وصل الهمزة المنقطعة في (إذ) وتلك ضرورة شعرية يبررها استقامة البيت معها إعرابا ومعنى
أما البيت الثاني فقوله:
لا يبرحون ومن رآهم خالهم
…
أبداً على سفر من الأسفار
يقول الآمدي: قال بعض الأعراب يصف المصلوب، وأنشد ثعلب:
قام ولما يستعن بساقه
…
آلف مثواه على فراقه
كأنما يضحك في إشراقه
أخذ أبو تمام قوله: آلف مثواه على فراقه فقال: لا يبرحون. . البيت. وهكذا يعتد الآمدي هذا البيت من سرقات أبي تمام على وجه من التكلف بغيض، يكاد يطالعنا في كل ما عقده القدماء تحت عنوان (السرقات الشعرية)
وإلى هنا يفرغ أبو تمام من المعاني التي حشد لها فكره مما يتصل بحياة الأفشين وموته؛ وهو كما يرى القارئ، وكما شهد له معاصره، كان كثير الاتكاء على نفسه، حفيا بكل معنى مبتكر، يعني باستنباطه نفسه، ويشحذ له جد ذهنه، لا يحس في ذلك كلالا ولا يستشعر وهنا؛ حتى لكأنه يأخذ نفسه دائماً بما وصف به بعض شعره حين قال:
أما المعاني فهي أبكار إذا
…
نصت، ولكن القوافي عون
ولا يختم أبو تمام قصيدته قبل أن يشيد باستحسان ما أقره المعتصم من ولاية العهد لأبنه هارون (الواثق بالله) ففي ذلك جمع لشمل المسلمين، وتحر لمصلحتهم. مع قمع شياطين الفتنة، وتوطيد دعائم الحكم العادل، وضمان صيانة هذه الملك العريض أن يفرط عقد أقطاره، أو يتعطل معصمه من سواره، وفي ذلك يقول أبو تمام:
فاشدد بهارون الخلافة إنه
…
سكن لوحشتها ودار قرار
بفتى بني العباس والقمر الذي
…
حفته أنجم يعرب ونزار
ثم يقول:
فاقمع شياطين النفاق بمهتد
…
ترضي البرية هديه، والباري
ليسير في الآفاق سيرة رأفة
…
ويسوسها بسكينة ووقار
فالصين منظوم بأندلسي إلى
…
حيطان رومية فملك ذمار
ولقد علمت بأن ذلك معصم
…
ما كنت تتركه بغير سوار!
ويختم أبو تمام قصيدته بهذا المقطع الذي يرتقي به إلى أعلى ذروة المديح، ويسجل لبني العباس - بل لآل هاشم جميعا - مجدي الدين والدنيا، وعزتي النبوة والخلافة، وليس فوق هذين غاية تطلب ولا مقصد يرام:
فالأرض دار (أقفزت ما لم يكن
…
من هاشم رب لتلك الدار
سور القرآن الغر فيكم أنزلت
…
ولكم تصاغ محاسن الأشعار
وبعد، فهذا أبو تمام (الشاعر) عرضنا في قصيدة واحدة من قصائده. ونحن نرجو أن نكون قد جلونا للقارئ صفحة من روعة فنه، وعبقرية شعره، وتجنيح خياله، وتألق ديباجته، وأريناه إياه ملحقا في سماء القريض الفذ إلى الغاية التي يقصر دونها كل شاعر.
أما أبو تمام (الحكيم)، أبو تمام المفكر الفيلسوف، فذلك إنسان تسامع به أهل الأدب جميعا - وإن كنا نشك في أنهم عرفوه حق معرفته - منذ ما أومأ إلى هذه الحقيقة أبو العلاء في عبارته المقتضبة العابرة: المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر البحتري!
(تم البحث)
محمود عزت عرفة
المدرس بمعلمات شبرا
صحبة العبقرية
للأستاذ خليفة التونسي
مجال العبقرية (الخالقة) هي السريرة الإنسانية.
فالعبقرية إنما تتوجه برسالتها واعية وغير واعية إلى هذه السريرة التي لا مجال لها تعمل فيه عملها سواها، وهي تعدي بإيمانها من يقدر له الاتصال بها (شخصيا)(من المستعدين) لتقبل فيوضها، والتشبع بها إلى درجة الامتلاء
ويبلغ من تأثير هذه (العدوى) أن تستجيش في سريرة المستعد لها كل بواعث الحياة والوعي والشعور بالواجب حتى ليبدو بعدئذ كأنه قد خلق في (صحبتها) خلقا جديدا، ويبلغ من تأثيرها أن ترفعه حتى يبلغ مرتبة (الاجتهاد) في رسالة العبقري، بل في غيرها من وجوه النشاط البشري، حتى يظهر كأنه هو أيضا (ملهم) كالعبقري، وذو رسالة كرسالته
وهذه ظاهرة تلازم كل عبقرية (خالقة) في الوجود، من خلال صلاتها بأتباعها الذين (صحبوها)
وقد أشرنا إلى هذه الملاحظة في مقال سابق نشر بهذه المجلة (الرسالة 883) عنوانه (مجال العبقرية)، وضربنا هناك مثلا لهذه الظاهرة حواريي السيد المسيح الذين (صحبوه) في حياته التبشيرية القصيرة ثم استطاعوا أن ينهضوا بحمل رسالته من بعده، وما كانوا أولا غير طائفة من صيادي السمك وأشباههم سذاجة وعامية، ومع ذلك استطاعوا أن يثبتوا في الجدل والكفاح لأساطين كهنة اليهود وأحبارهم (الذين كانوا قد فقهوا حق الفقه صفوة الثقافات الدينية والعلمية والفلسفية التي كانت معروفة في عهدهم، وانتصروا عليهم حتى في تفسير الشريعة الموسوية التي هم كهنتها وأحبارها، وكانوا إذا خطبوا أو تحدثوا - وهم العوام - نطقوا بالبيان الساحر الذي يزلزل القلوب ويهز العقول، فلا تملك حيال بلاغته العارمة ما يدفعها، فإما أن تؤمن بها، وإما أن تنحرف عن طريق سيلها الغامر) كما مثلنا لهذه الظاهرة أيضا ببعض صحابة النبي الأقربين، وفيهم باري النبال والجزار والحداد وراعي الغنم والعبد المسخر المستضعف، وقد بلغوا ما بلغوا من الاقتدار والأستاذية في التشريع، والحكم، والنصح للخلفاء وعامة المسلمين، وتسكين الهزاهز التي نجمت أمامهم من كل أفق، فأبلوا فيها كأعظم ما ينبغي البلاء، مع أنهم كانوا (رواد) مجاهل لا عهد لهم
بمثلها، ولم تكن لديهم سوابق كافية يستأنسون بها في توسم تلك المشكلات الضخمة الكثيرة، وفي الطب لها
وإذا صحت هذه الملاحظة تكشف لنا مدى ما تغدقه العبقرية الهادية على (صحابتها) المستعدين لها من فضل في تصفية سرائرهم، وتصحيح ضمائرهم وأذواقهم وعقولهم، كي يتوجه كل منهم الاتجاه الذي ينبغي له في الحياة حينما يتيسر له، وحيثما يتيسر، وهذا الاتجاه لا يظهر إلا متى نضجت ملكات (الصاحب) وتهيأ لها المجال الذي يناسبها، فتتمرس فيه بالتجارب التي تثير دفائنها، وتشحذها وتصقلها، وقد يتأخر ظهور اتجاه (الصاحب) إما لعدم تمام نضوج ملكاته، وإما لأن المجال المناسب لها لم يتهيأ لها
والمجالات الكثيرة المتنوعة التي تناسب كل (أصحاب) العبقري قد لا تتهيأ له ولهم غالبا في حياته كي يوجه فيها أصحابه، بل تتهيأ بعد ذهابه على يد (أصحابه) أنفسهم إذا كتب لمبدإه الاستمرار بعده، وظلوا معتصمين به
والعبقرية تستعمل أصحابها على طريقتين نستطيع أن نصطلح على تسميتهما بالطريقة (الكمية) أو (الجمعية) أو (الكتلية) والطريقة (الكيفية) أو (الفردية) أو (الذرية)
ونعني بالأولى الطريقة العادية التي تسخر بها الجماعات العامية في الحياة اليومية، فنرى الفرد في الجماعة العامة - مهما يكن ممتازا - لا بعدو أن يكون (رقما) صغيرا ضمن عملية جمع حسابية كبيرة أو صغيرة، وهذه الطريقة لا يمكن أن تظهر (كل امتياز) الفرد إذا كان ممتازا
وإنما يلجأ العبقري إلى استعمال أصحابه على هذه الطريقة إذا ذاق أمامه أو توحد المجال الذي يوجههم فيه، ولم تتح له المجالات المتعددة المتنوعة ليختار لكل صاحب منهم المجال الذي يناسب كفايته. فاستعمالهم على هذه الطريقة المسرفة التي يبتذلون فيها آية فقر من المجالات، ولا مسوغ لهذا الإسراف وهذا الابتذال إلا الضرورة، و (من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)
وموقف العبقري في هذا الحرج يذكرني بالقصة الآتية:
أرسلني أبي - وأنا غلام - إلى حقل لنا، لأشرف على أجراء يعملون لنا فيه، ولمحت هناك فلاحاً كنت أعرفه ميسور الحال، كان هو صاحب الحقل المجاور لحقلنا وعجبت له
إذ كان يلبس جبة وقباء أثناء عمله في حقله، والمقام مقام ابتذال لا تناسبه هذه البزة القيمة، بل يتناسبه لبس جلباب أو نحوه، فملت إلى شيخ كان يقوم بخدمتنا خاصة - وكنت أعجب بعقله ودعته - وهمست في أذنه:(ألا ترى يا عم جارنا فلانا وما يلبس، يا لإسرافه وكبريائه!) وما أسرع أن همس الشيخ الأديب في أذني: (لا إسراف يا بني ولا كبرياء، بل هو الفقر) فكان عجبي لقوله أشد من عجبي لما يلبس جارنا، فسألته دهشا:(وكيف يا عم) فأجابني مبادرا: (لو كان فلان - يعني جارنا - يملك جلبابا صالحا يبتذله في الحقل للبسه، أفكان يظل قعيد بيته ويترك العمل في حقله، أم يخرج إليه عريان، أم يلبس ثوبا ممزقا قد يجده ولكنه يفضحه، إن هذا كله غير ممكن، فلم يبقى أمامه صالحا له إلا جبته وقباؤه فابتذلهما توقيا للزوم البيت وإهمال الحقل والفضيحة أمام الناس في الخروج، ولكنه مع هذا الزي وقع في فضيحة لا يفهمها إلا قليل، وشر أهون من شر) وأبي الشيخ رحمه الله وغفر له - إلا أن يدل بمعرفته على الغلام المعتز بما وعى على أيدي معلمه وأبيه، وبما درس من كتب كان يعكف على قراءتها عكوف الوثني المخلص على وثنه، وأبى إلا أن يصدم غروره وما كان بغرور، فعقب على ذلك بقوله:(أفهمت أيها التلميذ النجيب؟ هذا علم ليس من الكتب يا بني) فأجاب الغلام (فهمت يا عمي، وصدقت فما تغني الكتب عن تجارب مثلك) وشغلته فراسة الشيخ عن الوقوف عند تبكيته وإدلاله، وكانت هذه الملاحظة من أول ما شكك الوثني في وثنه، وزعزع إيمانه به
والحق أنها ملاحظة صادقة تنطبق على جارنا الفلاح كما تنطبق على كل عبقري صاحب مذهب إصلاحي جديد حين يبتذل أصحابه فيستعملهم فيما هو دون كفايتهم وفضلهم مضطرا، إذ لا تتوفر الأعمال المناسبة لكل كفاية وفضل
ونحن نشير إلى هذا السبب لأنه أكثر شيوعا في حداثة الدعوة عند الضرورة، ولسنا غافلين عن غيره من الأسباب، فمثلا قد يحول العبقري مختاراً كمكره بين ممتاز من أصحابه والعمل الذي يناسبه، لأن إسناده إليه غير مأمون العواقب عليه وعلى العمل معا، إذ لا يزال العبقري غير واثق كل الثقة من القوى الكابحة في نفس صاحبه، ولا أمان لامتياز الممتاز إلا بهذه الكوابح الذاتية التي تحول بينه وبين الطغيان، فلو ضعف وطغى الممتاز لأفسده طغيانه وقد يفسد معه غيره، ولا احتمال لذلك والمذهب لم يستقر في السرائر
كل الاستقرار، وهناك أسباب غير ذلك سنشير إلى بعضها بعد حين
والطريقة الثانية هي الطريقة التي يرعى فيها امتياز كل ممتاز أو خصائص كل ذي اختصاص، وتوجيهه الوجهة التي تلائم اختصاصه، فيسند إليه العمل الذي يستجيش ملكاته ويجليها ويصقلها، ويحفظ عليه ثقته بمبدإه حتى تبدو شخصيته على أوضح ما يمكن أن تكون. فما من قوة ولا استعداد في الإنسان قد خلقه الله عبثا، بل خلقه لوظيفة في الكون، فكل مواهبه إنسانية لها مجال نشاط في الحياة يقابلها، فإذا أطلقت فيه وتمرست بتجاربه تفتحت ونضجت وازدهرت
ومجالات النشاط في الحياة متعددة، والمهم أنها - مع تعددها - متنوعة، فكل مجال منها يختلف قليلا أو كثيرا عن المجالات الأخرى، فالكفاية التي يحتاج إليها تختلف قليلا أو كثيرا عن الكفاية التي يحتاج إليها غيره من المجالات
والسير على هذه الطريقة هو السير العادل الذي يعطي فيه كل ذي حق حقه، ويضعه حيث تضعه كفايته، فيتاح لكل (ممتاز) المجال الذي يزدهر فيه (امتياز) ويترك غير الممتاز في دركه الخامل حيث يمسكه قصوره الذاتي متخلفا عن الممتازين دون خطأ أو إجحاف
غير أن السير على هذه الطريقة - مع عدله - ليس ميسورا للعبقري في كل أحواله ولا سيما في أول ظهوره، وقد ألمعنا منذ سطور إلى أهم الأسباب وهو ضيق المجالات وقلبناها أمامه، كما ألمعنا إلى سبب آخر هو تخوفه من طغيان الممتاز إذا أعجبته نفسه وأخرجه الغرور عن حده، وهناك أسباب غير ذلك، على أن كل الأسباب التي تحمل العبقري على تجنب الاستقامة على هذه الطريقة العادلة، منها الضرورية الخارجة عن إرادة العبقري فلا اختيار له فيها، ومنها الاختيارية التي تستلزمها السياسة العليا للمبدأ، في هذه الأحوال لا يبدو العبقري في حيفه مختارا كل الاختيار، بل مختارا كمضطر أشد الاضطرار
فالعبقري - وهو يعرف لكل ذي فضل فضله - قد يلجأ مثلا إلى تأخير الفاضل وتقديم المفضول اعتمادا على الثقة بالفاضل دون المفضول، استرضاء لغرور المفضول أو ضعفه، أو لأن الفاضل لا يضيره تقديم المفضول عليه، أو لأن تقديم المفضول على الفاضل هو الذي يكفل للعمل الجمع بين كفايتهما معا، أو لأنه بقى الناس الأخطار التي تتهددهم من تقديم الفاضل، إذ يحمل عليهم فيض امتيازه دون ضابط يكبحه عن الطغيان إذا
حاوله، أو بقى الناس الفتنة به، فمن وراء فتنة الناس (بالصاحب) الفاضل دون المبدأ نسيانهم المبدأ الذي فتح إيمانهم به سبل النمو والازدهار لمواهبهم، وبلغهم ما بلغوا من الفضل والكفاية، وفي ذلك ما فيه من خسران كل جهاد في سبيل استقرار المبدأ وانتشاره، فإن الناس إذا تحولوا عن الإيمان بالمبدأ إلى الإيمان بتابعه الذي لم يكن فاضلا إلا به خسروا كل قوى الإيمان الدافعة التي استجاشها المبدأ في سرائرهم، وفقدوا الإحساس بكل الصلات التي تربطهم بالوجود، وما كانوا ليحسوا بها دون الإيمان بهذا المبدأ، وبذلك يفسد إيمانهم ذاته وتفسد معه كل آثاره، وفي ذلك فساد الفاضل الذي هم مناط فتنتهم، وفسادهم هم لكل أسباب الفساد التي ذكرنا. وقد لا تفسد فتنة الناس بالفاضل فضله، فلا يفسدون طول حياته مع فساد إيمانهم بالمبدأ، ولكنهم خليقون بعد موته أن يخسروا أنفسهم بذهابه بعد أن خسروا في حياته إيمانهم بالمبدأ، وخسروا كل قوى الدفع والتماسك التي ابتعثها الإيمان بالمبدأ في نفوسهم، على أن خسران الإيمان بالمبدأ وخسران آثاره لا بد أن تظهر بعض عواقبه الوخيمة في حياة الفاضل، ولا بد أن تظهر كلها بعد موته. هذا إلى أن عمر الفاضل - مهما يطل - قصير، أو هو على الأقل غير قابل للامتداد كعمر لمبدأ. ومن أجل ذلك كان هم المصلحين في كل زمان ومكان أن يثبتوا في نفوس الناس الإيمان بالمبادئ دون الأشخاص ولو كانوا هم عباقرتها، لأن أعمار الأشخاص قصيرة، وأعمار المبادئ قابلة للامتداد، ولقد أصاب أبو بكر إذ قال بعد موت النبي (ص) وهو يخطب الصحابة (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)
وإذا كنا قد أشرنا قبل إلى أن الممتاز في استعمال العبقري على الطريقة الأولى لا يعدو أن يكون (رقما) في عملية جمع حسابية كبيرة أو صغيرة، فما أحرانا أن نشير إلى أنه يبدو في استعماله على الطريقة الثانية (رقما) في عملية ضرب حسابية سواء أكان المضروب فيه كبيرا أم صغيرا، فكل رقم في المضروب فيه الرقم الممتاز يبدو أعظم من حقيقته، وحسبنا لفهم ذلك أن نقارن بين حالين لجماعة من الجماعات سواء كانت أمة أم قبيلة أم حزبا أم نقابة أم جيشا: حالها وقد ولى أمرها رئيس عاجز، وحالها والمدبر لأمرها رئيس كفء، إن الجماعة في حالها الأولى تبدو مختلفة اختلافا كثيرا عنها في الحالة الثانية، وقد تبدو في الحالتين وكأنها جماعتان مختلفتان كل الاختلاف، لا جماعة واحدة في حالين لا اختلاف
فيهما عليها إلا استبدال رئيس فرد برئيس فرد. والبيانات من التاريخ على ذلك ولا سيما تاريخ الحروب، فكثيرا ما فشل جيش في مهمته بعد أن حاول النجاح فيها طويلا، فلم يكن من الحاكم إلا أن استبدل قائدا بغيره، فنجح هذا الجيش في مهمته، كأنما أمده الحاكم بالألوف من الجنود والمعدات ولم يمده بقائد فرد. إذ يبدو كل مقاتل تحت لواء القائد الممتاز وكأنه شريك قائده في امتيازه، وله منه مثل ماله. فالقائد هنا ليس رقماً جمع إلى أرقام، بل رقماً يضاعف الأرقام التي تسند به أضعافاً بمقدار امتيازه. ولا تقل البينات على ذلك في تاريخ الإدارة عنها في تاريخ الحروب
وما أشبه استعمال العبقري أصحابه على الطريقة الأولى بإحراقنا عدة أرطال من الفحم تحت قدر لإنضاج ما فيها من الطبيخ واستعمالنا المراد بكميات كبيرة في أغراض كثيرة كهذا الغرض، بينما هباءات من الفحم تفنى في إنضاج ملء مئات من القدور لو فجرت قواها تفجيراً ذريا، وكذلك لو استعملنا تفجير الذرات في نحو هذا الغرض كتسيير القطر والسفن وإدارة الآلات المختلفة لأغني عن الكميات الكبيرة التي نستعملها من المواد في هذه الأغراض، معشارها أو أقل منه، واستعمال العبقري صحابته على الطريقة الثانية يشبه استعمالا ذريا كما أشرنا هنا، فقد يفنى الممتاز وحده في موضع امتيازه ما لا تفنى أمة كاملة من غير الممتازين.
للكلام بقية
محمد خليفة التونسي
3 - الحاج خواجة كمال الدين
(187 - 1932)
للأستاذ أرسلان بوهانووكز
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
ذكريات حزينة
شاع الحزن في البلاد الإسلامية عندما وصل النبأ المفزع - مات خواجة كمال الدين - والحملة العنيفة المركزة التي كانت عليه في إنجلترا قد هدأت، وأخذ الناس في جميع بلاد الإسلام. ينظرون إليه نظرة الإكبار والإجلال، وكان الشعور بالحزن بالغا عليه أقصى مداه في تلك البلاد. . . فتلقت أسرته وإمامة المسجد في وكنج سيلا من الرسائل التي تفيض بالحزن العميق، وتعبر عن الخسارة الفادحة التي أصابت المسلمين
أما في لاهور، فقد احتشد جم غفير من المسلمين في قاعة الكلية الإسلامية في الثامن من كانون الثاني 1933، ورأس ذلك الاجتماع السر شهاب الدين صاحب، رئيس الجمعية التشريعية في البنجاب. وقد أجمع الخطباء في ثنائهم على السياسة الحكيمة التي سار عليها في وكنج، وأشادوا بالأعمال التي أداها في ديار الغرب للإسلام، وأهابوا بالناس أن يثابروا على العمل العظيم الذي بدأه في بلاد الإنجليز
وفي اليوم السابع عشر من آذار 1933 جرى احتفال رائع بافتتاح المكتبة التذكارية وقاعة المطالعة الملحقة بها، وقد أطلق عليها اسمه، وقد أقيم لهما بناء ضخم، آية في الجمال، وألحقتا بمسجد بيجام شاند بورتيرا في البنغال. وقد كانت هذه المؤسسة الأولى من نوعها في ذلك الوقت، وسن لها نظام يشابه نظام وكنج للسير بموجبه في أعمالها ومناهجها
وعقدت عشرات من الاجتماعات في البلاد الإسلامية بعد عام 1932 للاحتفال بذكرى وفاته، ونشرت الصحف عشرات المقالات في هذه الذكرى، وقد جمع عدد كبير من هذه المقالات، ووصفت تلك الاحتفالات في عدد تذكاري من إسلامك ريفيو صدر في أبريل - أيار 1933، ومما ورد في ذلك العدد ملخص لمقال نشرته مجلة (ليث) قالت فيه:
لقد عودنا القراء في مطلع كل سنة جديدة أن نقدم لهم رسالة ترفع أعينهم إلى النور،
ونحسب أننا في هذه السنة لا نجد رسالة أروع من قصة موت جندي الإسلام الشهيد العظيم خواجة كمال الدين. إن قصة حياته لأبناء وبنات المسلمين أروع أمثلة البطولة، ولكم نرجو لو أن كل نقطة من دم الراحل الذي سقط شهيدا تحت راية الجهاد، تتحول إلى ينبوع في القلوب يملؤها بحب الإسلام وإعلاء كلمته، والتفاني في خدمته
سجاياه العالية
كل ما ذكرناه عن شخصية خواجة كمال الدين لم يكن غير المظهر الخارجي الذي نستطيع أن نلمحه من وراء آثاره المكتوبة ومن النتائج الخطيرة التي انتهت إليها تلك الأعمال. وهذه الشخصية الجبارة لم يستطع النفوذ إلى بعض أسرار العظمة فيها غير اؤلئك الذين كانت لهم صلات مباشرة معه في حياته وأعماله ولكي نفتح الباب الذي يؤدي إلى هذه الشخصية نقبس بعض الفقرات التي كتبها عنه أصدقاؤه المقربون. كتب المحامي الإنجليزي الشهير المستر بكتال في سبيل التحدث عن رقته، وجلده، وحنانه، وإنسانيته، يقول:(لقد ولد بالفطرة محاربا من الطراز النادر في سبيل القضية التي وقف عليها حياته، ولم يعترف بالهزيمة أبدا، وكانت الابتسامة لا تفارق شفتيه، وكان لا يرى غير الناحية المشرفة من الأشياء والناس، سائرا في طريقه قدما لا يلتفت وراءه، يقابل كل خيبة أو فشل بإعادة آية من كلام الله. . لقد كان وفيا في صداقته إلى أبعد حدود الوفاء، لبقا، كريم السجايا، وفوق كل شيء كان متزنا جداً)
وكتب عنه زميله في العمل الدكتور جيلان محمد من لاهور بالباكستان يقول: (وحتى وهو تحت وطأة المرض الشديد، لا يستطيع الحراك من فراشه، لم يتحلل من العمل المضني الذي فرضه على نفسه. لقد كان صورة رائعة للجلد والاحتمال والصبر - وكأنه عمود من القوة والجبروت، أو برج شاهق من النور يشع على ما حوله. . . كان وديعا، رائعا، يفيض قلبه بالحب، وكان الإحساس يتدفق من طبيعة عميقة. . . .)
ولعل اللورد هدلي قد وفق في التعبير عن عواطف الحزن العميقة حين فجعه الموت في صديقه الحميم؛ فعبر عن كل ذلك الحزن أو بعضه بكلمات تنفذ إلى مواطن الشعور من النفس الإنسانية، فيها بساطة التعبير وعمق الإحساس. (نحن نبكي اليوم لفقد مسلم لا مثيل له في العصر الذي نعيش فيه. . . فلقد ترك أخونا العزيز وراءه مثلا جميلا لحياة طاهرة،
قضاها في منفعة الآخرين فإن روح الإسلام قد أشرقت على جوانب تلك الشخصية العظيمة فغدت فوق الأرض نموذجا رائعا في حياتها اليومية، في خشوعها نحو الخالق. . . لقد تلاقى في تلك الشخصية النادرة، قلب رحيم وعقل عبقري. . . لا أذكر أنني سمعته مرة يتفوه بكلمة تمس شعور أي إنسان. . . وأولئك الذين كانت الظروف تسعدني بتقديمه إليهم؛ لم يلمسوا في حديثه أو سلوكه أي شيء من التعب). . . وبعد أن يحدث اللورد هدلي عن المجهود الجبار الذي بذله في التعليق على آي الكتاب الكريم؛ ختم ذلك الحديث الرائع بهذه الكلمات. . . (لقد واتتني الظروف فاطلعت على طريقته في تفسير كلام الله، وكيف كانت حياته صورة حية لتلك المعاني الألمعية)
جهاده في سبيل الإسلام
إن ما تركه اللورد هدلي في آخر حديثه لينطبق تمام الانطباق على الطريقة التي سار عليها خواجة كمال الدين في الخدمات الجلي التي قام بها لرفع لواء الإسلام. لقد أدرك جيدا أن نجاح أجدادنا في صدر الإسلام لم ينبعث إلا من السير وراء تعاليم الدين، وإن الأحفاد حينما استظلوا بغير لواء هذا الدين انقلبوا من غزاة تهتز الدنيا رعبا وهلعا من سيوفهم، إلى جيل من العبيد، لا يقام لهم وزن في حساب الكرامة بين البشر، وغدوا مجموعة من الجهلة المتأخرين، بعد أن كانوا ينيرون ظلام العالم بمشعل العلم والعرفان. . .
ولكن الخدمة التي أداها خواجة كمال الدين للإسلام لم تقتصر على فتحه الطريق المغلق إلى مرضاة الله في وجوهنا، وإنما دفعنا بسرعة فوق هذا الطريق بما بذل من جهود جبارة مستمرة جعلت هذا الطريق صالحا للسير، وبما وضع في بصائرنا من زاد التقوى. والوسائل التي مهد بها ذلك الطريق الوعر لم تكن غير آثاره الفكرية الرائعة التي لم نعرف عنها حتى الآن إلا القليل، ومن أبرز تلك الآثار الحية مجلة إسلامك ريفيو، والجمعية الإسلامية لإشاعة الإسلام في وكنج
لقد حاول آخرون قبله نشر الإسلام في أوروبا، ولكن الله أراد أن لا يتم النجاح إلا على يد خواجة كمال الدين. وعلى الرغم من مرور سبعة عشر عاما على وفاته فإن ثمرة ذلك العمل ما تزال في جدتها، وكأنها من عمل الحاضر تتجدد على مرور الزمان ماثلة أمام أعيننا
لقد ذكر المستر مارما دوك بكتال مترجم القرآن إلى الإنجليزية وهو يتحدث عن هذا الأمر فيما يتصل ببلاد الهند. . . (أن أعماله في إنجلترا ليست غير جزء من عمله العظيم، ولم أستطع إدراك ذلك حتى أتيت إلى الهند فلمست الأثر المباشر لكتاباته عن مبادئ الدين، وعملها في بعث الحياة في العالم الإسلامي الذي يغط في سبات الغفلة، ليس في الهند فحسب وإنما في كل جزء من أجزاء العالم الإسلامي، حيث أخذت الحمية والحماسة والوعي تأخذ طريقها إلى قلوب الأجيال الجديدة من المسلمين. . .)
وقال المستر يعقوب خان (إن الأجيال الجديدة من المسلمين الذين تتلمذوا على الحضارة الغربية، وقفوا مندهشين وهم يرون مبادئ الإسلام تنحني لها رقاب الطبقات التي تحكمهم خشوعاً وإكباراً، وتدخل في دين الله أفواجا، فراحت تذوب من نفوسها رذائل الشعور بالنقص، وأخذت تدرك أن الإسلام ليس الدين الذي يخجل الإنسان من اعتناقه. هذا هو العامل الأساسي الذي حفظ للإسلام شبابه من التدهور في مادية الغرب الإلحادية، وأعادهم إلى حظيرة الدين الحنيف. . .)
أما في بلاد الإنجليز. فقد أتم الله على يدي خواجة كمال الدين نصر الإسلام، وأضحى دين الإنسانية الذي يعتز الناس بالانتساب إليه، وجعل الإنجليز يدركون في سهولة ويسر المشاكل التي يتعرض لها العالم الإسلامي في علاقاته معهم
والباكستان - مسقط رأس خواجة كمال الدين - الدولة الإسلامية الفتية التي تسير في الطليعة رافعة علم الإسلام عاليا أمام العالم الإسلامي، ليس لأنها أكبر دولة إسلامية، بل لأن المسلمين فيها تدفعهم جميعا رغبة عنيفة ملحة لخدمة مبادئ الدين بأوسع ما في الخدمة من معنى، والباكستان نفسها مدينة بما يضطرم في نفوس أبنائها المسلمين من الحماس الديني - إلى حد بعيد - إلى خواجة كمال الدين
لقد قدر لبعض الناس في سير الحياة أن يؤسسوا الممالك ويشيدوا أمجادا طواها التاريخ وألقاها في نهر الحياة المتدفق ليحملها إلى ما وراء الحياة مع أصحابها، ولكن الله أراد أن يكون خواجة كمال الدين الدعامة التي قامت عليها نهضة الدين الحنيف، ذلك الدين الذي يدعونا إلى محبة الذين حولنا، وهذا الشعور هو أثمن ما ربحته الإنسانية في مسيرها الطويل من تراث خالد عظيم. .
رحم الله خواجة كمال الدين رحمة واسعة. بما قدم للإسلام من خدمات ستبقى ما بقي الدين مشرقة مع الشمس والقمر. ذلك المجاهد الذي كان يقنع من دنياه بمائدة يستعملها في النهار للكتابة والطعام، وينام عليها إذا أقبل الليل في وكنج
وحيا الله الأمة الباكستانية العظيمة التي أنجبت خواجة كمال الدين، ومكن لها في دنياها ودينها، ونصر بها الحق، وأمدها بروح من عنده
بغداد - أعظمية
علي محمد سرطاوي
5 - الفارابي في العالم الإسلامي وفي أوربا
بمناسبة مرور ألف عام على وفاته
للأستاذ ضياء الدخيلي
ويحدثنا أبن خلكان عن أسلوب الفارابي في التأليف فيقول (وكان أكثر تصنيفه في الرقاع ولم يصنف في الكراريس إلا القليل؛ فلذلك جاءت أكثر تصانيفه فصولا وتعاليق، ويوجد بعضها ناقصا منثورا) ولعل هذا الذي ذكره أبن خلكان هو علة ما وجده صاحب (التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) من غموض واضطراب في بعض الأحايين
وهذا أندلسي من القرن السادس الهجري يثني على الفارابي ويفضله على أبن سينا والغزالي، فقد جاء في عيون الأنباء في ترجمة أبن باجة أن أبا الحسن عليا بن عبد العزيز بن الإمام من غرناطة وكان كاتبا فاضلا متميزا في العلوم وصحب أبن باجة مدة واشتغل عليه - إن أبا الحسن هذا قال في صدر المجموع الذي نقله من أقوال أبن باجة الفيلسوف الأندلسي - في العلوم الفلسفية - قال ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم، فإنه إذا قرنت أقاويله بأقاويل أبن سينا والغزالي وهما اللذان فتح عليهما بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم ودونا فيها - بان لك الرجحان في أقاويله وفي حسن فهمه لأقاويل أرسطو، والثلاثة أئمة بلا ريب
وكان أبن باجة السرقسطي من رجال القرن السادس الهجري وقد توفى شاباً بمدينة فاس ودفن بها، وكان من جملة تلاميذه أبن رشد. وذكروا في مؤلفات محمد بن باجة تعاليق على كتاب أبي نصر في الصناعة الذهنية (أي علم المنطق)
فها أنت ترى كيف أن شهرة الفارابي كانت قد طبقت العالم الإسلامي وعبرت البحر إلى الأندلس. وقد ذكر أبن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في جملة مؤلفات أبي الوليد بن رشد كتابا فيما خالف فيه أبو نصر الفارابي أرسطوطاليس في كتاب البرهان من ترتيبه وقوانين البراهين والحدود
ومن مصر الطبيب أبن رضوان عام 459هـ وكان في عهد الحاكم - تحدث عن كتب العارفين التي يشهد بفضلها ويعتز بها، فذكر كتب أفلاطون وأرسطوطاليس والإسكندر وثامطيوس ومحمد الفارابي، قال وما انتفع موجود به فيها وما سوى ذلك إما أبيعه بأي ثمن
اتفق، وإما أن أخزنه في صناديق، وبيعه أجود من خزنه
وهذا الشيخ موفق الدين عدنان بن العين زربي كان من أهل عين زرية وأقام ببغداد مدة، واشتغل بصناعة الطب والعلوم الحكمية ومهر فيها وخصوصا في علم النجوم، ثم بعد ذلك انتقل من بغداد إلى الديار المصرية وتميز في دولتهم، وكان من أجل المشايخ وأكثرهم علما في صناعة الطب فيما يقوله ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء - ولقد ذكر له الرسالة المقنعة في المنطق وبين أنه ألفها من كلام أبي نصر الفارابي والرئيس ابن سينا، وقد توفى ابن العين زربي سنة 548هـ بالقاهرة، فهو من القرن السادس الهجري
ولنقفز الآن قفزة عريضة إلى أوربا فنسمع دي بوير في جامعة أمستردام في هولندا يقول في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) كان الفارابي رجلا ممن يخلدون إلى السكينة والهدوء وقد وقف حياته على التأمل الفلسفي يظله الملوك بسلطانهم، ولد في (وسيج) وهي قرية صغيرة حصينة تقع في ولاية فاراب من بلاد الترك فيما وراء النهر، وقد حصل على علومه في بغداد وقرأ بعضها على معلم مسيحي وهو يوحنا بن جيلان الذي توفى بمدينة السلام في أيام المقتدر، وقد ألم الفارابي في دراسته بالأدب والرياضيات، ويدلنا بعض مؤلفاته ولا سيما في الموسيقى على أنه درس الرياضيات، وتقول الأساطير إنه كان يتكلم بلغات العالم كلها (سبعين لغة) وقالوا أنه من براعته في الموسيقى أضحك الجالسين ثم أبكاهم ثم أنامهم وانصرف. ويرى (دي بوير) أن الفلسفة التي تدرب عليها الفارابي يرجع أصلها إلى مدرسة مرو، والظاهر أن أعضاء هذه المدرسة كانوا يعنون بمسائل الإلاهيات أكثر مما عني بها أهل حران والبصرة، فقد كان ميل هؤلاء متجها إلى الفلسفة الطبيعية
وكل حديثنا السابق أو جله كان يدور حول فلسفة الفارابي، ولكن كم لهذا الرجل الفاضل من مزايا أخرى يجدر بنا الوقوف عندها، فمنها عبقريته في الموسيقى التي أشار إليها (دي بوير) وقد قال أبن أبي أصيبعة في عيون الأنباء إن الفارابي كان في علم صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غاياتها وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه، ويذكر أنه صنع آلة غريبة يسمع منها ألحانا بديعة يحرك بها الانفعالات. وقال (كارادفو في دائرة المعارف الإسلامية: وكان الفارابي موسيقاراُ معروفاً ونحن مدينون لقلمه في تدبيجه رسالة ذات أهمية بالغة في الناحية النظرية من الموسيقى الشرقية، وكان هو بنفسه موسيقاراً فنانا
هاويا وفنانا مؤلفا، وأن نبوغه أثار إعجاب سيف الدولة الحمداني، وأن الدراويش المولوية لا يزالون يرتلون الأغاني القديمة المنسوبة إلى الفارابي (راجع مادة من دائرة المعارف الإسلامية) ويقول زكي علي تحت عنوان (أوربا مدينة للحضارة الإسلامية) من رسالة نشرتها دار المكشوف في بيروت باسم (أوربا والإسلام) - وساهم المطربون والموسيقيون العرب في تقدم الفن الغنائي وتحسين آلة الطرب. ويعود الفضل إلى الفارابي (من القرن العاشر الميلادي) في القضاء على النظريات الموسيقية القديمة، وفي تفسير الإيقاع وكيفية حصول الأنغام. وقد اخترع الموسيقيون العرب الموسيقى الموقعة. وعنهم أخذت شبه الجزيرة الأيبرية وبالتالي أوربا كلها آلات الطرب؛ ومنها العود والرباب والقيثارة والطبل. ويظهر أن بعض فلاسفة العرب كان يملك اطلاعا واسعا وغريبا على الموسيقى وأثرها في الإنسان. وقد كانوا يستخدمونها في الطب وتنقل عنهم في هذا الباب قصص نقف بين يديها حائرين، فقد نقل القفطي في أخبار الحكماء في ترجمة يعقوب بن اسحق الكندي الفيلسوف العربي الشهير أنه استدعاه جاره للنظر في أبنه الذي اعترته سكتة فجأة فأجاب وصار إلى منزل التاجر، فلما رأى أبنه وأخذ مجسه أمر بأن يحضر إليه من تلامذته في علم الموسيقى من قد أنعم الحذق بضرب العود، وعن الطرائق المخزنة والمزعجة والمقوية للقلوب والنفوس، فحضر إليه منهم أربعة فأمرهم أن يديموا الضرب عند رأسه وأن يأخذوا في طريقة أوقفهم عليها، وأراهم مواقع النغم بها من أصابعهم على الدسانين ونقلها، فلم يزالوا يضربون في تلك الطريقة والكندي آخذ مجس (نبض) الغلام، وهو في خلال ذلك يمتد نفسه ويقوى نبضه، ويراجع إليه نفسه شيئا بعد شيء إلى أن تحرك ثم جلس وتكلم، وأولئك يضربون في تلك الطريقة دائما لا يفترون، فقال الكندي لأبي الولد: سل أبنك عن علم ما تحتاج إلى علمه، فجعل الرجل يسأل وهو يخبره، ويكتب شيئا بعد شيء فلما أتى على جميع ما يحتاج إليه غفل الضاربون عن تلك الطريقة التي كانوا يضربونها وفتروا، فعاد الصبي إلى الحالة الأولى وغشيه السكوت فسأله أبوه أن يأمرهم بمعاودة ما كانوا يضربون به، فقال هيهات، إنما كانت صبابة قد بقيت من حياته. ولا سبيل لي ولا لأحد من البشر إلى الزيادة في مدة من قد انقطعت مدته، وقد كان ذلك التاجر من كبار التجار موسعا عليه في تجارته وكان أبنه هذا قد كفاه أمر بيعه وشرائه، وضبط دخله وخرجه،
فعرضت لأبنه السكتة فجأة فورد عليه من ذلك ما أدهله وبقي لا يدري ما الذي في أيدي الناس وما لهم عليه، مع ما دخله من الجزع على أبنه فلم يدع بمدينة السلام طبيبا إلا ركب إليه واستركبه لينظر أبنه ويشير عليه من أمره بعلاج، فلم يجبه كثير من الأطباء - لكبر العلة وخطرها - إلى الحضور معه، ومن أجابه منهم فلم يجد عنده كبير غناه، فقيل له أنت في جوار فيلسوف زمانه، وأعلم الناس بعلاج هذه العلة فلو قصدته لوجدت عنده ما تحب، فدعته الضرورة إلى أن تحمل علي الكندي بأحد إخوانه، فأجاب وصار إلى منزل التاجر بالرغم من أنه كان كثير الازدراء بالكندي والطعن عليه، مدمنا لتعكيره والإغراء به وقد أسعف الكندي طلبه وقام بما تقدم ذكره استجابة لداعي الإنسانية، وما تحتمه آداب مهنة الطب المقدسة. وتنقل عن الفارابي قصص مماثلة في الموسيقى معروفة
وبعد فقد أطلنا الحديث عن أبي الفلسفة الإسلامية ومؤسسها ومشيد مدرستها الأول (المعلم الثاني) وأرى أن نقطع الحديث مؤقتا، وإن بقيت لدي صبابة في الكأس وثمالة نرجئ عرضها إلى عودة ثانية للموضوع فإلى الملتقى
بغداد
تم البحث
ضياء الدخيلي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
براعم الفصحى:
ذهبت إلى مدرسة محمود فهمي النقراشي باشا النموذجية الابتدائية بحدائق القبة، وبي شوق إلى رؤية تلاميذها وسماعهم يتحدثون باللغة العربية الفصحى؛ وكان هذا هو الداعي إلى زيارتي للمدرسة، وكأني يئست أن أسمع العربية في التخاطب بين الكبار وفيهم من تلقى من خواص المتعلمين والمثقفين، فشاقني أن أجد طلبتي لدى أولئك الصغار الفصحاء. . .
كنت على موعد مع ناظر المدرسة الأستاذ عبد الفتاح المنياوي الذي تفضل فرحب بهذه الزيارة، وأخذت مكاني في حجرة الناظر، وكان هناك الأستاذ عبد الحميد السيد المفتش العام للغة العربية بالمدارس الابتدائية، وبعد قليل دخل الحجرة تلميذ صغير لا يبلغ العاشرة من عمره - دخل هذا التلميذ يقول:
أين حضرة المفتش؟
قالها بنبر عربي جميل، فشغلت بتأمله في إعجاب، وكأنني ألقف أول ثمرة من هذه الدوحة، وهش له المفتش وأجابه:
- أنا. . .
- كلفني الأستاذ. . . أن أحضر لك هذه الكراسات
ودلفت في صحبة الأستاذ أحمد عبيد إلى إحدى حجرات الدراسة، وكان التلاميذ في زئاط، فقال الأستاذ رافعا صوته في لهجة المعلم الحازم الحاني:
ما هذا؟ إني أسمع لغطا يا شريف
قال شريف - وهو (بوليس الفصل) - ٍإن هذا التلميذ يزعق. . فنهض تلميذ آخر ليضبط الشرطي متلبسا بالخطأ. . . قال: إنه أخطأ إذ قال: (يزعق) ويجب أن يقول (يصيح)
والمدرسون يجتهدون في تعريب ما يرد على ألسنة التلاميذ من الكلمات العامية، أو بعبارة أخرى يردونها إلى أصلها العربي فيسيرون على النهج التربوي في الانتقال من المعلوم إلى المجهول، فهذا التلميذ يعمل (غلبة) وبنقاش قليل تقلب الغين جيما فتصير (جلبة) وذاك التلميذ يصر على دعواه قائلا: هذا القلم (بتاعي) ولا بأس أن يكون القلم متاعه. . .
ومهد الأستاذ لأن يتحدث التلاميذ، فوصف أحدهم الاحتفال بـ (سبوع) أخيه المولود، فكان مما قاله: وأمسك أحد المدعوين بالهاون وجعل يدقه ويخاطب الطفل: أسمع كلام أبيك. . . أسمع كلام أمك. . . قال التلميذ: فضحكت لأن هذا كلام ليس له معنى!
وحدثنا آخر عن قضية مراكش حديث الفاهم الواعي، ولحظت حماسة في الكلام فقلت له: وماذا يسيئك من الاعتداء على مراكش؟ لأنها بلاد عربية إسلامية مثل بلادنا يؤلمنا ما يؤلمها. . .
وتحدث تلميذ عن المجتمع المصري وسوء حاله، فحميت أفكار التلاميذ واشتدت المناقشة بينهم. . . سأل أحدهم: أليس الشعب يحكم نفسه؟ قال المتحدث: بلى، ولكن البرلمان يتكون من الأغنياء الذين يشترون أصوات الناخبين. . . وسأل آخر: مادام الأمر بيد الأغنياء الذين لا تهمهم مصالح الناخبين فما العمل؟ قال التلميذ المتحدث: العمل أن يتعلم الشعب ويفهم حقوقه وواجباته، ويستطيع أن يختار من يمثله ويعمل من أجله، ولا شك أن مجانية التعليم تحقق هذا الغرض. . .
دارت هذه الأحاديث بين تلاميذ تقع أعمارهم بين العاشرة والثانية عشرة. . . وأكثر تلك العبارات من نص كلامهم، والعجيب المعجب أن ألسنتهم تنطلق بالعربية في يسر وانطلاق وبعضهم رقباء على بعض، فإذا أخطأ أحدهم أسرع أحد زملائه إلى تصويبه، والعناية بصحة اللغة تصحبها قوة الفكر وانتباه الذهن، يتمثل ذلك في الأسئلة والأجوبة التي يتبادلون في موضوع الحديث. . .
وتسير التربية والدراسة في هذه المدرسة النموذجية على طريقة (المشروع) الأمريكية التي تقوم على تهيئة مجتمع كاملداخل المدرسة، يكون صورة مصغرة للحياة خارجها، وأساس الدراسة في هذه الطريقة أن يشعر التلاميذ بالحاجة إلى دراسة موضوع ما، وليس للمعلم إلا انتهاز الفرصة والإشراف، أي يحس التلاميذ أن الموضوع موضوعهم، وما الملمون إلا معاونون ومرشدون لهم. مثال ذلك أن تلميذا بدت عليه أعراض الألم فجعل ممسك بطنه ويتلوى ويتأوه، فأسرع إليه زملاؤه التلاميذ وأسعفوه بما استطاعوا من العلاج. وسأله المعلم عما أكله في هذا اليوم، فقال: لقد أتت سيارة المدرسة إلى منزلنا في الصباح ولم أكن تناولت الطعام بعد، فأسرعت وركبت السيارة، وعندما نزلت منها قرب باب المدرسة رأيت
بائع شطائر، فاشتريت منه شطيرة وأكلتها. . . هنا عرف الجميع أن الشطيرة هي سبب الألم، وهنا انتهز المعلم الفرصة وناقش التلاميذ فيما يجب عمله حتى لا يتكرر هذا الحادث، ثم اتفق الرأي على القيام ب (مشروع المقصف) ثم أخذوا في إقامة مقصف بالمدرسة يشتمل على كل ما يحتاجون إليه من حلوى وشطائر وما إليها. وراحوا يقيسون الأبعاد ويحسبون النفقات، ويرجعون في ذلك إلى مدرس الهندسة والحساب. . . وأخذ المشروع يتفتق عن حاجة التلاميذ إلى سائر مواد الدراسة، ففرصة اللغة - مثلا - كتابة التقريرات عن نواحي المشروع كتابة عربية سليمة، حتى تحسين الخط وجد فرصته، فقد شعر التلاميذ بالحاجة إلى الإعلان عن المشروع في بيئة المدرسة، فكان الحل أن يكتب مدرس الخط الإعلان بخط نموذجي هكذا (ساهموا في مشروع المقصف) وجعل التلاميذ يحاكون هذا النموذج، حتى كتبوا عشرات منه، ثم قاموا بتوزيعها. . . وهكذا يختارون سائر المشروعات ويفتنون في دراستها
ومجتمع المدرسة - كما سبق - صورة للمجتمع الخارجي، والتلاميذ هم وحدهم أفراد هذا المجتمع، تحت إشراف المشرفين، فهناك فرقة للإسعاف سرعان ما ينشط أفرادها إلى العلاج اليسير بما يستطيعون من وسائل الإسعاف، وهناك شرط يقومون بحفظ النظام ويعملون على استتباب الأمن ويقومون بضبط الحالات التي يخالف فيها المخالفون، ويكتبون تقريرات عنها ترفع إلى (الأسرة) التي تتولى عقاب المخالف. وبالمدرسة أربع أسرات، هي: أسرة أحمس، وأسرة المعز، وأسرة صلاح الدين، وأسرة محمد علي وكلها مكونة من التلاميذ بطبيعة الحال. ويشرف على هذه الحركة مشرف المدرسة وهو الأستاذ محمود رضوان شرف وقد جلست معه في فناء المدرسة نشاهد التلاميذ من بعيد. وقد استرعت نظري حركة (رجال الشرطة) إذ رأيتهم يسرعون إلى كل حالة تستدعي عملهم، وقد رغبت إلى الأستاذ رضوان أن يطلعني على التقريرات التي كتبوها عن هذه الحالات، فرأيت فيها ما يستدعي الإعجاب. كتب أحدهم:(تكرر من التلميذ. . . شراء بعض المأكولات من خارج المدرسة وقد عملنا مراراً على منعه ولكنه أبى، وقد بينا له أضرار هذه المأكولات فلم يستمع إلى كلامنا فاضطررنا إلى تسجيل هذا) وكتب آخر: (بينما كنت أسير في فناء المدرسة بجانب المطعم وجدت التلاميذ. . . و. . . و. . . يلعبون بالكرات
الزجاجية (البلى) فأخذتها منهم ثم سألتهم عن أسمائهم ولكنهم أخذوا يقولون أسماء مستعارة، وبعد قليل وجدت تلميذاً يعرفهم فكتبت أسماءهم) وكتب ثالث:(أثناء مروري في فسحة الصباح رأيت أحد التلاميذ قد دخل حديقة المدرسة وقطف وردة فأمسكته وأخذت أسمه وهو. . .)
ولا شك أن رجال الشرطة الكبار في حاجة إلى أن يطلعوا على هذه (المحاضر) ويحاكوها. . .
وللمدرسة مجلة يحررها كلها التلاميذ، وهي سجل شامل لنواحي النشاط في المدرسة، على ما في هذه النواحي من تنوع واتساع، وهي تدلنا على جانب ثقافي عام تهتم به المدرسة أو يهتم به تلاميذها. . ذلك غير المحاضرات والمناظرات التي تتناول مختلف الشؤون العامة. ويدعى إليها ويحضرها أقرباء التلاميذ وغيرهم، ولا أقول أولياء أمورهم. فما يليق بهؤلاء (الرجال الصغار) إلا أن يكونوا أولياء أنفسهم: يكتب التلاميذ عن هذه المحاضرات والمناظرات في مجلتهم كما أصنع في هذا الباب من (الرسالة) ولا فخر! هذا زميل صغير يكتب عن مناظرة أقيمت بين السنة الرابعة الابتدائية وبين السنة الأولى من المدرسة الثانوية بحدائق القبة، وهي نموذجية أيضا، وكان موضوع المناظرة (هل الأصلح لمصر أن تكون بلدا زراعيا أو صناعيا؟) يعلق التلميذ الكاتب (إسماعيل زكي) على المناظرة فيقول:(وكانت كل الكلمات محل إعجاب المدرسين وناظري المدرستين وخصوصا أيهاب كمال الذي أثر على التلاميذ بإنشائه لا بحججه وهو من مؤيدي رأي الصناعة. وفي النهاية أخذت الأصوات، وفاز فريق مؤيدي الصناعة لإنشاء الطالب أيهاب كمال فقط لا غير. . وانتهت المناظرة)
ويحدثنا (عادل أمام) في المجلة فيذكر كيف اختاروا (مشروع الحشرات) للدراسة، وذلك أن المدرس سأل تلميذا عن حرفة والده، فقال: دكتور في الحشرات، فضحك عادل من هذا الذي ظنه يعالج القمل والصرصور، ولكن المدرس قال له: ليس الأمر كما تظن، فإنه نال الدكتوراه في علم الحشرات فيقترح عادل أن يدرسوا مشروع الحشرات
وما أجمل هذا المقال الصغير لكاتبه الصغير (شريف عمر) وهو كما يلي (في يوم من الأيام قال لنا الأستاذ عبيد نريد أن نعين أميناً للمكتبة، فأجرينا انتخابا ففزت أنا. وبعد ذلك
علمني الأستاذ عبيد كيفية الاستعارة وسرنا بنظام جيد، ثم انتهت كراسة الاستعارة فسطرت غيرها، وخصصت لكل واحد من التلاميذ صحيفة تحمل اسمه ورقمه، وطلبت من المدرس أن يختار أميناً غيري فقال: إن الشخص الذي يحبه الناس يجب أن يدفع ثمن هذا الحب من راحته. فقلت له: إني تعبت جداً فقال لي: لا تتعجل وتحدث في هذا مع زملائك أولا. ولكني ما زلت مصرا على الاستقالة) وعنوان الموضوع (هذا ذنبي) وهو ذنب نرجو أن يكثر الله منه بين كبار الرجال. . .
وقال لي تلميذ إنه كتب في المجلة (العدد الذي تحت الطبع)(مناظر مؤذية) منها (بوليس المدرسة الذي يأتي مثل ما ينهى عنه) وقد داخلني الإشفاق على المدرسين من عيون هؤلاء التلاميذ. . أخشى أن تقع أنظار هؤلاء على أساتذتهم وهم يتخاطبون بالعامية، فلا يكون هناك منظر أشد إيذاء من هذا المنظر!
ولا يخفى علي أن بنفسك سؤالا هو: هل كل المدرسين في المدرسة يتحدثون إلى التلاميذ باللغة العربية؟ الواقع أن مدرسي اللغة العربية يحرصون على ذلك كل الحرص، ويجتهد باقي المدرسين أن يسايروا هذا الجو، ولكن بعضهم - مع الأسف لا يحسن التكلم بالعربية، فقد حدث مرة أن أراد أحدهم أن يبدي للتلميذ استحسانه فقال (لم بطال!) فيا ليت الوزارة تتنبه إلى هذه النقطة عند اختيار المدرسين لمثل هذه المدرسة
وبعد فمن الواضح أن أول ما يلاحظه المرء على أولئك التلاميذ الصغر الواعد. . والرجولة المبكرة. وأرى أن هذا يرجع إلى الطريقة التربوية وهي (طريقة المشروع) التي يسيرون عليها، وإلى اللغة الفصيحة التي تحملهم على التفكير، وكأنها حين تجري على ألسنتهم تستحث القوى المفكرة، ثم هي تكسبهم سمتا يدعو إلى الاحترام والإعجاب
ويا ليت لمصر جبلا من هذا الطراز! لقد اتفقوا على أن خير طريقة لترقية المجتمع المصري أن يتعلم الشعب ويعرف حقوقه وواجباته، فهل يتاح للشعب أن يتعلم مثل ما يتعلمون؛ ويستنير كما يستنيرون؟
إن لهذه المدرسة أختاً واحدة فقط هي مدرسة الأورمان بالجيزة وليس في البلاد كلها من هذا النوع غيرهما، وهما تسيران على تلك الطريقة في السنوات الأولى والثانية والثالثة، فإذا وصل التلاميذ إلى السنة الرابعة ساروا على المنهج العام ليدخلوا امتحان الشهادة الابتدائية،
وقد دلت التجربة على تفوقهم وعلى أنهم يحصلون في دراساتهم للمشروعات معلومات أوفى مما يحصله التلاميذ في المدارس العادية؛ إلى ما في الطريقة نفسها من حسن الهضم والتمثيل
وأستطيع أن أقول أن المسألة بهذا الوضع لا تخرج عن أن المدرستين حقل للتجربة التربوية أكثر منها قصدا إلى إعداد جيل وذلك لضيق الحدود وانحصار الفائدة، حتى التلاميذ الذين تضمهم المدرستان ليس مستقبلهم مضمونا، من حيث السير على هذه الخطة في مراحل تعليمهم المختلفة، ومن حيث ظروف المكان، فقد ينتقل أهل أحدهم إلى بلد آخر فتضيع عليه الفرصة
وأعتقد أننا الآن في الطور الذي يقصد فيه إلى تعميم الفائدة في تكوين المواطنين، وقد نجحت تلك التجربة فلم يبق إلا الأمل في إتاحة الفرصة للجميع كي ينتفعوا بها. وأعتقد أيضا أن الجهود التي تبذل في التعليم الآلي المجهد العقيم يمكن توجيهها إلى تلك الوجهة النافعة.
عباس خضر
الكتب
ديوان الأعشى الكبير
شرح الدكتور محمد حسين
للأستاذ أحمد بك رمزي
أهدي إلى الدكتور محمد حسين، أستاذ الأدب العربي بجامعة فاروق نسخة من ديوان الأعشى ميمون بن قيس، الذي قام بشرحه والتعليق عليه، وقد وجدت نفسي إزاء هذه اللفتة الكريمة، وأمامي مجلد ضخم من الشعر الجاهلي، تأنق الأستاذ الكريم في إخراجه للناس، بعد أن بذل الجهد في تحقيقه. فهو يقول إن صلته بالأعشى بدأت عام 1934 حينما كان طالبا بقسم اللغة العربية بجامعة فؤاد، فأتخذ العصر الجاهلي ميدانا لدراساته وأبحاثه، وجاء ديوان الأعشى باكورة لعمله العلمي، أرجو أن يتبعها الكثير من تحقيقه، وقد أكبرت فيه همة إخراج هذا العمل العظيم، أقول ذلك وليس الأدب صناعتي، لأني أقر بأن بضاعتي قليلة فيه، أقول هذا من غير تواضع وإنما لأقرر حقيقة واقعة، فأنا أتذوق الأدب العربي وغيره من آداب اللغات الأجنبية، أتذوقه كما أتذوق الموسيقى الحية، ولست من أهل الموسيقى، لأن الأدب في نظري فن رفيع، ولا يمكن للإنسان أن يحيا ويعيش من غير أن يتذوقه، بل أذهب إلى أكثر من هذا فأقول إنني أحب معاشرة الأدباء وأهرع لمجالستهم وترتاح نفسي إليهم، بل أعد كل لحظة أقضيها معهم متعة لي، ويرجع هذا إلى ما ألمسه في الأديب من رقة الإحساس وجمال الطوية، بل إنني أراهم من خيرة الأنام وسط هذا العالم الذي وجدنا أنفسنا ونحن نعيش فيه، فدخلنا في أوساطه وولجنا غمرته، وفيه الحسن والسيء من الناس والأشياء. فهل غريب علينا أن ننعم بما فيه من أطيب الأشياء، والأدب والأدباء هم في الحقيقة من أطيب النعم التي جاء بها هذا الكون على الناس، ولذلك فإني أشكر الأستاذ الدكتور محمد حسين إذ أتاح لي أن أعيش في جو شاعرية الأعشى فترة من الزمن، وسط مشاغل الدنيا ومتاعب الناس. . . أذكر أنني قرأت في كتب الأدب أن الأعشى كان أول من سأل بشعره وانتجع أقاصي البلاد وكان يغني به فسموه (صناجة العرب)
ولست أشك في شاعرية الأعشى، ولا أقلل من قوة ومتانة الشعر الجاهلي وأثره في حياة العرب، بل أن الأمة التي أخرجت هذه الثروة الأدبية وقامت عليها دعامة الإسلام، لا بد أن أراضيها وبقاعها كانت أكثر جمالًا وعمراناً مما هي عليه الآن، ولي في هذا الرأي ما يمكن أن يقنعني ويقنع الناس بصحة ما أقول
ومع هذا فإني قد أنست بقراءة جزء كبير من شعر الأعشى وسأعود إلى شعره من آن لآخر، لأنه مورد لا ينضب، فيه كل الدوافع التي تحتاج إليها النفس، لكي تتريض على مواجهة حوادث هذه الحياة المرة
لقد قرأت له قصيدته التي مطلعها:
ذريني لك الويلات آتى الغوانيا
…
متى كنت زراعا أسوق السوانيا
فما وصلت إلى البيت السابع الذي يقول فيه:
وإن بشر يوما أحال بوجهه
…
عليك فحل عنه وإن كان دانيا
حتى وقفت أمام هذه الفلسفة التي تتمثل في حياتي التي أحياها اليوم، فكأن الأعشى يعبر عن كل ما خالج نفسي وملأ ضميري، وكأنني لم أفقد شيئا من محاسن الدنيا حينما أخذت بهذا الرأي
ويفسر الأستاذ الدكتور هذا البيت بقوله:
(وإن صد عنك رجل من الناس، فاصدد عنه كائنة ما كانت قرابته) كما فسر مطلع القصيدة. يقول:
(ذريني - لك الويل - أمتع نفسي من النساء: فما أنا بصاحب زرع؛ ولا أنا ممن يسوق الجمال)
وأختلف معه في تفسير كلمة زرع هذا التفسير، فأقول أنه يقصد الذرع من باب ذرع، وهو مما يذرع به. أي أنه يسوق الإبل فيقطع بها المسافات البعيدة فيسلمها لأصحابها ويعود ليسوق غيرها، فكأنه ذراع يقيس المسافات ويتلقى أجره عليها، ولا يستقر به مكان، فهو لا يقصد هنا صاحب زرع وقوله (ولعله من ساس الدواب يسوسها سياسة إذا قام عليها وراضها) ويظهر من شعر الأعشى أن المكلفين بإيصال الإبل وقطع الفيافي كانوا يتقاضون أجورا باهظة: ولقد عشت في وقت كانت قطعان الإبل تمر على بلادنا بإقليم الشرقية
جماعات طويلة يقودها رجال من نجد يلهجون بلغة بدوية، ولهم مصطلحات في أنواع الإبل وجماعاتها وسيرها وركبها، ولا يزال تجار الجمال في فاقوس وبلبيس يستوردونها من الشام رغم قيام إسرائيل بين مصر وجزيرة العرب، وهم يجمعون الثروات من ذلك
وأقول أنني معجب بطريقة الدكتور محمد حسين في الشرح والتعليق، وأكثر من ذلك أعجب بحله لأشعار الأعشى نثراً وأمام كل بيت، أن هذا المنهج إذا أتبع مع دواوين الشعر لجعل الأدب العربي تحت متناول الناس جميعا: ولذا فمنهج الأستاذ فتح كبير للأدب العربي، ويذكرني هذا بما قرأته في كتاب المثل السائر حين يقول صاحبه:(ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها. . . فما وجدت أعون الأشياء عليها إلا حل آيات القرآن الكريم والأخبار النبوية وحل الأبيات الشعرية)
ثم ذكر أن حل الأبيات الشعرية ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول - أن يأخذ الناثر بيتا من الشعر فينثره بلفظة من غير زيادة
الثاني - وسط بين الأول والثالث
الثالث - أن يؤخذ المعنى فيصاغ بألفاظ غير ألفاظه، ثم يتبين حذق الصائغ في صياغته، ويعلم مقدار تصرفه في صناعته
ثم ساق أمثلة كثيرة على ما يقول. .
وأكرر قولي بأني أعجبت أيما إعجاب بما قام به الأستاذ الدكتور محمد حسين من حل أبيات ديوان الأعشى. فأي طريقة من الطرق الثلاث اتبع؟ أغلب الظن أنه أخذ بالثلاثة منهاج
ولا أخفي على القارئ أنني بدأت القراءة في شعر الأعشى بنثر الأستاذ الدكتور محمد حسين، ولا أبالغ إذا قلت في أن محاسن شعر الأعشى قد بدت في نثر الأستاذ قبل أن أقرأ النظم، بل أن شاعرية الأعشى تضاعفت في ذهني لدى قراءة شعره بعد أن استحضرت المعاني في نثر الأستاذ الشارح، وهذا ما أقول عنه أنه فتح جديد، وتمهيد لدراسة الأدب العربي، وجعله تحت متناول شعوب العرب، وهم ملايين الناس قد انقطعت الصلة بينهم وبين ماضيهم وتراث أسلافهم، فعمل الدكتور إذا سار فيه وقدر لغيره أن يسير على منهاجه، وأن تطبع دواوين الشعر وما جاء في كتب السلف على هذا النحو، سيهز العربية
هزا، وسيجعل الآلاف من أبنائها يرتشفون محاسنها، ويعودون إلى جمالها، ويحنون إلى أيامها، ويعرفون من ماضي لغتهم ما يجعلهم يعتزون بها ويغارون عليها،، ويتغنون بها ويتمثلون بشعرها
انظر إلى نثره. .
(قالت سميه، إذ لاح لها البرق من فوق الجبال:
يا حبذا وادي النجير، وحبذا قيس، رجل الخير والإفضال. .
القائد الخيل الجياد الضوامر، تمضي في عدوها كالسهام. .
والمتعفف عن الكسب الخبيث إذا تهيأ للقتال)
يبدو الكلام لي هنا، وقد أخذ الشارح بالطريقة الأولى أي أخذ الناثر بيتا من الشعر فنثره بلفظه، وقد جاء الحل هنا من غير زيادة، ولكنه نثر شعري يحمل قوة الأصل ومتانة لفظه واسترساله، ولا عيب بتاتا فيه
والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد تكون هذه الفقرة أسهلها، ولذا أجزم بوجود فقرات وجمل كثيرة تزيد عليها فصاحة وجمالا،
فلله دره وألف شكر على هديته، وعلى ما بذل من جهد في إخراج شعر الأعشى إلى النور
أحمد رمزي
المدير العم لمصلحة الاقتصاد الدولي
طبقات الحنابلة
لابن رجب عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة 795هـ
نشره الدكتور سامي الدهان
للأستاذ إبراهيم الابياري
الطبقات - ولا ضير أن أميل بك نحو اللغة ميلة - جمع طبقة بفتح فسكون، ومعناها ما تعرف. . القوم المتشابهون. ويكاد يكون الناظر في هذا التصنيف بادئ ذي بدء رجال الحديث ومن لفة لفهم. فعن هذه الطبقات المحدثة الرواية نقل إلى المسلمين تراثهم الديني الخالد. ولهذا الأمر خطر. فلا غرو أن تسبق العناية به غيرها في نواحي أخرى، ويسبق المحدثون إلى الرواة يميزونهم على الأسنان واللقيا والسبق إلى الإسلام، أمنا للشبهات وتخلصا من التدليس
ونعرف في الطليعة أبن سعد المتوفى سنة 230 بكتابه الطبقات الكبرى، أو طبقات الرواة كما يقول حاجي خليفة. ثم حذا حذوه أبن عبد البر وأبن منده وأبو نعيم وأبن الأثير وأبن حجر
ونرى الأدب يجري مع الحديث في هذا الميدان. فإن أبن سلام صاحب طبقات الشعراء مات سنة 232 أي بعد أبن سعد بعامين والرجلان بصريا النشأة، جاران في الحياة، وكلاهما له كتاب في الطبقات، هذا في الحديث وذاك في الشعر، وسبق عامين يكاد لا يرجح، ولكن طبيعة الفكرة وما توحي به وتدعو إليه يجعلنا مع ما سبقنا بظن، وهو أن السبق في هذا للمحدثين، وأن هذا العمل بتلك البابة أدنى وأشبه، ومع غيرها محاولة المقلد، وأن أبن سلام مشاكل لا مبدع وأنه ألتقط الفكرة التقاطا ثم أخضع لها ما يملك من تراث الشعراء فصنفهم طبقات
ثم شاع هذا النوع من التأليف فلم يقف عند رجال دون رجال، ولا عصر دون عصر؛ وخرج عن غرضه الأول إلى منهج المؤرخين لولا ما يزيده من ضم المترجم لهم إلى فئات
وتكاد تكون طبقات المذاهب الأربعة من هذا، وإن حملت في سنيها الأولى ظلا من ذلك المعنى الذي حدا المحدثين إلى وضع رجالهم على طبقات. فالمتصلون بأئمة المذهب
والمتتلمذون عليهم الآخذون عنهم محدثون واعون قد ينقلون شيئا يفوت التدوين ويعز على التحرير. ولكن الأمر في غير هذا وبعد أن قيدت الأقلام ما تنطق به الألسنة، وبعد أن أملى الأشياخ وكتبوا، هو من التاريخ لا يقوم إلا على تلك الفكرة الأولى التي عنت المحدثين والتي أسسوا عليها طبقاتهم. وحسبك أن الأمر انقضى عند المحدثين وبقى موصولاً عند غيرهم. ولو شاء مؤرخو اليوم أن يصلوه لوصلوه. ومالي أنسى أن الغزى الحنبلي انتهى في طبقاته إلى 1207هـ وأن الشطي وصلها إلى سنة 1325هـ
والحنبلية والشافعية أسبق من الحنفية والمالكية في جميع طبقاتهم. ويكاد يكون الحنابلة أسبق من الشافعية. فللخلال المتوفى سنة 311 أول جولة في هذا الميدان؛ وأن وفاة أبن حنبل - كما تعلم - سنة 241هـ. ولعل سبب ذلك هو الصراع الذي قام بين المذاهب في نشأته، وبين الرأي المحيط به، وأنه لم يحظ برعاية ذوي الجاه، بل أوذي وأوذي أصحابه، وحورب وحورب رجاله، فكان هذا داعيا لأن يلتفت أصحابه إلى مذهبهم يحفظونه، وإلى رجالهم يترجمون لهم. وقد عرفنا الشدائد مع الأيام حافزة
وتلا الشافعية الحنابلة، فكان أول من صنف في الطبقات منهم محمد بي سليمان المتوفى سنة 404. وبعد الشافعية المالكية، وأحسب ترتيب المدارك ليعارض باكورتهم في هذا. ثم جاء الحنفية بأخرة، فكان القريشي عبد القادر بن محمد المتوفى سنة 775 أول من صنف لهم الجواهر المضيئة
وأبن رجب ذيل لطبقات الحنابلة لأبي يعلى الفراء المتوفى سنة 526هـ. الذي جمع رجال المذهب من لدن عصر الإمام إلى سنة 512، وابتدأ أبن رجب بأصحاب أبي يعلى حتى سنة 751. وفي جمع أبن رجب في ذيله تراجم لنحو قرنين ونصف من الزمن على نحو فيه إفاضة وفيه سعة، فقد ذكر كثرة من الأحاديث بأسانيدها، كما عرض لكثير من المسائل الفقهية وغيرها من الفتاوى. بث ذلك كله خلال التراجم لم يتخفف منه حرصا على أن يفيد وينفع، كما لم يفته أن يروح بما أثر للفقهاء من شعر
والرجل ذو أسلوب متميز فيه وضوح وفيه سلاسة، هذا هو الكاتب الذي شمر له الأستاذان الجليلان هنري لاووست وسامي الدهان. أما أولهما فنعرف له صلته القديمة بالحنابلة ورسالته القديمة في أبن تيمية التي تعد مرجعا في هذا الباب، وأما ثانيهما فقد عددنا له
جولات في النشر موفقة، وكاد أسمه يحفظه كل متصل بالحركة الأدبية. وفي الأمس القريب عرفت بكتابه (زبدة الحلب). وأكاد أمضي أشكر لاحقاً بعد سابق فأجدني غير موف، وتسرع إلي ذاكرتي تلك الأحدوثة التي لقناها صغارا عن عجوز كان يغرس نخلة ورآه الخليفة، وحين أخذ يحاوره راقته إجابته فكافئه على الأولى ثم على الثانية، وما أن أمره وزيره بمنحه الثالثة حتى هم بالانصراف وهو يقول لوزيره سوف تفرغ خزائننا ولا تفرغ أجوبته الحلوة
ألا رفقاً بنا أيها الزميل الكريم فسوف نعيا بوفائك على الخليفة بمكافأة ذلك العجوز الغارس، فلك الله عنا يرزقك العوم والصبر لنرى لك مع كل عام جديدا في النشر
وإنا لنرجو للأستاذين الجليلين توفيقا متصلا في هذا العمل الجليل الذي بدأ به، سائلين الله لهما المديد من العمر، والمزيد من العافية؛ لنرى لهم الجهود الموفقة في هذا الميدان
إبراهيم الأبياري
القصص
إلياس القنوع
عن ليو تولستوي
بقلم الأستاذ رمزي مزيغيت
أفاق إلياس يوما ليجد أن ولده وسنده الأوحد قد أرتحل عنه إلى الدنيا الثانية، تاركاً إياه وزوجته الفتية وحيدين معدمين، لا يملكان من حطام الدنيا إلا رقعة أرض صغيرة لا تكاد تأتيهما بما يسد الرمق
ولكنه تشدد وصبر على الخطب وقال له رابط الجأش. ثم اتكأ على عصا نفسه وسل صارم عزيمته وامتطى جواد الشبيبة ودفع به إلى حلبة الكد والجد. وانقلب إلى أرضه الصغيرة يحرثها وينقي تربتها ويسقي غرسها ويتعهد نبتها. وقضى في ذلك سنوات عدة لم يستبطئ خلالها النتائج أو يستكبر أن تكون. بل ثابر على العمل ووضب على مصادمة الأيام ومغالبة الحوادث، وثبت أمام العقبات يذللها بجد جاد وعزم وقاد حتى أتته منقادة إليه ونال من نتائجها ما يروم. فأصبحت أرضه الصغيرة سهلا شاسعا تؤتيه ثمرا شهيا وأكلا موفرا، وانقلب البيت الصغير الحقير قصرا منيفا يغص بالخدم والحشم. وتحدث الناس وتهامسوا - انظروا -، لقد أصبح إلياس من كبار الأغنياء، وغدت الحياة عنده جنة من جنان الله
وذاع اسم إلياس في كافة الأنحاء وعلت منزلته بين الناس، وتسابق كبار القوم وأشرافهم إلى كسب وده ومرضاته. فكان يرحب بهم ويحسن وفادتهم، فينصرفون وألسنتهم تلهج بشكره وحمده
ولم تمنعه علو منزلته وعظيم نعمته عن مواصلة الجد والاجتهاد ورعاية أملاكه ومواشيه بنفسه دون أن يعتمد على من كان يعمل في خدمته من عمال وأجراء
وكان لإلياس صبيان وصبية، وكان ثلاثتهم يأخذون بيده ويساعدونه في عمله يوم كان فلاحاً بسيطاً فقيراً. فلما أتسع رزقه زوجهم جميعا وأجرى عليهم من نعمه نصيبا كبيرا. ولكن الترف والبحبوحة أفسدا الولدين، فارتديا رداء الرذيلة وأعطيا النفس الصامتة هواها.
ولم يلبث الأكبر أن قتل في مشادة، واختلف الأصغر مع والده بتأثير من زوجته الخبيثة وطلب الانفصال عنه. فأعطاه الوالد بيتا وقسما من ماشيته، فقلت بذلك ثروته. ولم تلبث النكبات بعد ذلك أن أخذت تتوالى عليه متعاقبة. فتفشى المرض بين الماشية وقضى على معظمها، وتلا ذلك سنوات عجاف أجدبت فيها مواسم الحصاد، ومات ما تبقى لديه من ماشية. وهكذا أخذت ثروته تذوب شيئا فشيئا بعد أن طوى عهد الشباب والقوة وأعجزه الكبر وجاء يوم وهو على أبواب السبعين من عمره، باع فيه كل ما يملك، ووجد نفسه وجها لوجه أمام الفقر والعوز. وكانت أبنته قد ماتت وأبنه الذي انفصل عنه قد ارتحل إلى بلاد نائية، فلم يكن هناك من يحتضنهما ويدفع عنهما غائلة الجوع، ولم يجدا لكسب معيشتهما سبيلا إلا أن يطرقا باب الخدمة والعمل
وكان لهما جار يدعى محمد شاه، فأخذته الشفقة عليهما وتذكر سابق نعمتهما، فدعاهما إليه وعرض عليهما الخدمة عنده قائلا: تعاليا واسكنا في بيتي، وإن شئتما عملا يمكنكما أن تعملا في حقل البطيخ صيفا، وفي الشتاء ترعيان ماشيتي. وسأقدم لكما مقابل ذلك الغذاء والكساء والمأوى، ولن أمنع عنكما أية حاجة تسألانها
وقبل إلياس وزوجته عرض جارهما الطيب والتحقا بخدمته كعاملين. وشق الأمر عليهما بادئ ذي بدء، ولكنهما تذرعا بالصبر وانصرفا إلى العمل بإخلاص قانعين راضيين. ووجد محمد شاه فيهما خير عاملين إذ كانا يعرفان ما ينتظره السيد من مخدومه من نشاط وإخلاص، فكانا يعملان ما تسمح به قوتهما دون تذمر أو تأفف. ولكن محمد شاه كان يحزنه في الوقت نفسه أن يرى كيف ذل إلياس، بعد عز، وافتقر بعد بحبوحة، واتضع بعد رفعة
وحدث يوما أن هبط على محمد شاه بعض الأقارب قادمين من بلاد بعيدة لزيارته. فرحب بهم وأحسن وفادتهم. وبعد أن أكلوا وشربوا جلسوا يتحدثون ويتسامرون. وبينما هم في حديثهم إذمر إلياس أمام الباب في طريقه إلى غرفته. ووقعت عينا محمد شاه عليه فالتفت إلى ضيوفه وقال لهم - هل رأيتم ذلك الكهل الذي مر الآن من هنا؟ فرد عليه أحدهم بقوله - نعم، وماذا في ذلك؟ قال لاشيء سوى أنه كان أغنى رجل في الجوار وهو يدعى إلياس، ولا بد أنكم سمعتم باسمه. فصاح الضيف: طبعاً، ومن لم يسمع باسمه وقد طبقت شهرته الآفاق؟ فقال محمد شاه - هذا صحيح، ولكنه اليوم لا يملك ثاغية ولا راغية، وها هو ذا
يعيش وزوجته في بيتي عاملين أجيرين. ودهش الضيف لهذا الخبر وهز رأسه قائلا - حقا إن الدهر دولاب يدور، فتارة يرفع هذا إلى أعلى عليين، وتارة يخفض ذاك إلى أسفل سافلين. ولكن قل لي ألا يندب هذا الكهل سالف مجده، ويبكي سابق عزه؟ فقال محمد شاه - علم ذلك عند ربي، ولكن مظهره ومنظره يؤكدان عكس ذلك، فهو إنما يشدو بذكر خالقه، ويترنم بفضل رازقه، فقال الضيف - هل أستطيع أن أتحدث إليه - بودي أن أسأله سؤالا أو سؤالين. . .
فنهض محمد شاه ونادى إلياس ودعا زوجته للانضمام إلى المجلس فدخل إلياس وحيا وجلس بقرب الباب وهو يتمتم بالصلاة. وتبعته الزوجة وجلست وراء الستار مع سيدتها. وبعد أن استتب بهم المقام نظر الضيف إلى إلياس متأملا ثم سأله قائلا - قل لي يا عماه ألا يبعث فيك مرآنا شعورا بالأسى واللوعة؟ لا شك أن هذا المجلس يعيد إلى ذهنك أيامك الخوالي ويذكرك بحالتك الراهنة، وتبسم إلياس ثم قال - لو شئت أن أخبرك ما هي السعادة الحق وما هي التعاسة المرة
لما آمنت بصدق قولي وحسبتني كاذبا مماريا وأرى من الخير أن تسأل عن ذلك زوجتي فهي امرأة وما في قلبها يفضحه لسانها. أسألها ما شئت وستخبرك بالحقيقة غير منقوصة
والتفت الضيف إلى ناحية الستار وقال - حسنا يا أختاه، هلا أخبرتنا عن حقيقة شعورك؟ فردت عليه الزوجة من وراء الستار حبا وكرامة، فأصغ جيداً إلى ما أقوله - (خمسون عام عشتها وزوجي نبحث عن السعادة ونفتش عنها، ولكننا لم نجدها أو نذق لها طعما إلا في هاتين السنتين بعد أن فقدنا كل ما نملك، وزالت عنا أسباب النعمة وبتنا أجيرين فقيرين؛ وهي والله حال لا نبغي أفضل منها ولا أحسن)
ودهش الجميع بهذا القول ومن جملتهم محمد شاه. بل لقد بلغت منه الدهشة أنه تقدم من الستار وأزاحه ليرى وجه الزوجة، فإذا به منتصبة وقد طوت يدها على صدرها، وتعلقت عيناها بعيني زوجها، وعلت شفتيها ابتسامة رضية. . وتابعت الزوجة قولها (نعم أيها السادة نصف قرن قضيته أنا وزوجي بحثا عن السعادة، ولكنها تنكبت طريقنا طيلة أيام عزنا وغنانا. . فلما أن دالت دولتنا وذابت ثروتنا وشمرنا عن ساعد الجد والعمل، إذا بها تنقاد إلينا وتعمر قلبينا، ولسنا نرضي عنها اليوم بديلا).
فسألها الضيف مستغربا - ولكن كيف تفسرين هذه السعادة وأنت على هذه الحال من العوز والإملاق؟؟ فردت عليه قائلة - من الناس من يعتقد أن السعادة في المال والجاه، ولقد دلت التجارب على عكس ذلك، فعندما كنا من الأغنياء والوجهاء كانت لي وزوجي من المشكلات والتبعات ما لا نجد معها وقتا للتحدث أو التفكير في نفسينا والصلاة لخالقنا. فيوما يزورنا زائر، وعلينا أن نفتن في مرضاته كي نسكت لسانه عن الطعن في كرامتنا والحط من قدرنا. ونحن دوما في خصام مع الأجراء والعمال. . هم يتبادلون في عملهم ويطلبون أحسن الطعام، ونحن ننقص من أجرهم ونستغلهم إلى أبعد ما يمكن، وفي هذا خطيئة أية خطيئة. . هذا عدا تخوفنا الدائم من أن تفترس الذئاب ماشيتنا أو يسرق اللصوص خيلنا أو أن ترقد الأغنام على صغارها فتقتلها. . كنا في خوف دائم وقلق مستمر، لا نسوي مشكلة حتى تبرز لنا مشكلة أخرى. وفوق هذا وذاك كنت أنا وزوجي في خلاف مستحكم. . له رأيه ولي رأي نتمسك به ولا نحيد عنه، فنتخاصم ونتباعد، ونتردى في مهاوي الخطيئة من حين لحين. . أما الآن فأنا نستهل يومنا بكلمة حب ووفاء، ونقضي نهارنا في وئام وصفاء. . وليس هناك ما يشغل بالنا سوى مرضاة سيدنا على أحسن وجه، فنعمل قدر طاقتنا بعزيمة وإخلاص، وهدفنا أن نعود على سيدنا بالخير والفائدة. . وإذا ما عدنا من عمل يومنا وجدنا شرابا سائغا وطعاما شهيا، وإذا ما أوينا إلى فراشنا تحدثنا قليلا وصلينا طويلا. .
خمسون عاما قضيناها نبحث عن السعادة وقد وجدنا اليوم في حالتنا الراهنة. إن راحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام. .
وضحك الضيوف وقهقهوا. . فالتفت إلياس إليهم وقال - لا تضحكوا أيها السادة، إذ ليس هناك ما يدعو إلى الضحك، لقد كنت أنا وزوجي أحمقين، فبكينا ضياع ثروتنا وندبنا ذهاب عزنا. أما الآن فقد فتح الله أعيننا على الحقيقة المضاءة، فحسبنا لزفرات وكفكفنا الدمع هذه هي حقيقة الحياة، وقد سقناها إليكم لا عزاء لنفسينا، وإنما عظه لكم أن كنتم تتعظون
فقال أحد الضيوف - هذا لعمري هو الصدق مجردا، ولقد ورد مثل هذا القول الحكيم في الكتب السماوية المنزلة. فأمسك الجميع عن الضحك. وغرقوا في لجة من التفكير العميق
رمزي مزيغيت
البريد الأدبي
أنها طرابلس الشام:
حينما قلت: إن المتنبي يعني طرابلس الشام لا الغرب في بيته:
أكارم حسد الأرض السماء بهم
…
وقصرت كل مصر عن طرابلس
لم أبن رأيي على الحدس والتخمين ولكن بنيته على حقائق لا يتطرق إليها الشك، وإليه البيان:
1 -
منذ خروج المتنبي ببادية السماوة إلى اتصاله بسيف الدولة سنة 337هـ لم يمدح غير رجالات الديار الشامية
2 -
بعد انفصاله عن سيف الدولة انحصرت جولاته بين الفسطاط غربا، وشيراز شرقا، ولم يعرف عنه أنه زار طرابلس الغرب أو مدح أحدا من أهلها ولو بطريق المراسلة، بل لم يعرف عنه أنه مدح أحدا من المغاربة، وهذا ديوانه - وكل قطعة منه جزء من حياته - شاهد بذلك
3 -
حينما مدح المتنبي عبيد الله بن خلكان الأمير الطرابلسي الشامي كان في سن صغيرة، فلم يكن هناك مجال لشاعر ناشئ مغمور أن يتصل بغير الأقربين من أمراء بلده وسرواتهم
جاء في الديوان: (وقال في صباه ارتجالا وقد أهدي إليه عبيد الله بن خلكان هدية فيها سمك من سكر ولوز في عسل)
ومن هذه المقطوعة قوله:
هدية ما رأيت مهديها
…
إلا رأيت العباد في رجل
أقل ما في أقلها سمك
…
يسبح في بركة من العسل
وجاء في الديوان (وقال أيضا يمدحه)
وأورد القصيدة السينية التي منها البيت موضوع الخلاف
ومعنى هذا كله: أن المتنبي عرف آل خلكان صبيا، وأنه زارهم في طرابلس الشام ومدحهم ورآهم رأى عين وصلته هداياهم، وهذه الهدايا - كما يؤخذ من وصفها - مما يحمله الخدم، إذ غير معقول أن هذه الإلطافات الصغيرة الرقيقة الرشيقة التي تؤكل لوقتها وتفسد بعد زمن قصير، ترسل من طرابلس الغرب على متون السفن إلى بحر المشرق
5 -
لم يقل أحد من شراح الديوان بغير هذا القول: فالعكبري يقول: طرابلس: بلدة الممدوح من بلاد الشام
واليازجي: يقول: وطرابلس: بلدة الممدوح، والمراد بها طرابلس الشام
الحق أن ياقوت أورد الأبيات حينما تكلم عن طرابلس الغرب، ولكنه لم يشر إلى الممدوح من قرب أو بعد، بل قال فقط:(وقال أبو الطيب يمدح)
فالممدوح في رأي ياقوت مجهول لا ندري أشامي هو أم مغربي؟
ولكنا إذا سلمنا بعصمة ياقوت من الخطأ - يمكن أن نرجع هذا إلى سهو الناشر أو الطابع، فهذه الأبيات كان من حقها أن تذكر بسبيل طرابلس الشام، ولكن لأمر ما ذكرت في طرابلس الغرب!
هذا وإني أعلن للأستاذ الفاضل أني لم أقصد التعالم فالأمر هين، ولكن أردت بيان الحقيقة التي هي رائدة أيضا. والسلام عليه ورحمة الله
محمد الفاتح الجندي
تصحيح يحتاج إلى تصحيح:
طالما غمطت عجلات المطبعة وهي تغذ السير حقوقا للكاتبين، وطالما أوجدت في الطريق ثغرات، ومن هذا القبيل ما حملته الرسالة الغراء من بيان وجيز لي حول رأي تقوله على أحد طلابي فيما يتعلق بالدعوة الوهابية، ويهمني أن أؤكد هنا أن الرأي المنسوب إلي كما جاء في كلمة الطالب وفي بيان الناقد بعده لم يصدر عني، ولست أدري من أين تطرق إلى قلم الطالب المتوثب. والذي أستطيع تقريره في مثل هذا المجال المحدود أن مبادئ الدعوة الوهابية القائمة على الاهتداء بالكتاب والسنة، الداعية إلى سواء السبيل والتمسك بقواعد الإسلام وأهداب التوحيد الصحيح لا يمكن أن تكون إلا من صميم الإصلاح الذي نرجو أن يأخذ طريقه القويم في ميدان الإصلاح المنزه عن الغلو والانحراف
وإذا كان بعض أتباع هذه الدعوة أو أدعيائها يشوهون جمالها السلفي النقي بما ينزلقون إليه من غلو أو تحريف أو مبالغة أو إسراف، فلن يضير ذلك أبدا صميم المبدأ النابع من منهل الإسلام الطهور؛ ولعل الذين تسبق ألسنتهم أو أقلامهم بالحملة المشبوبة على هذه الدعوة
يتمثلون أمامه حين يكتبون أو ينطقون صورا من شطط هؤلاء الغلاة هنا أو هناك
وكم يتمنى المصلح الغيور لو تجتمع كلمة المسلمين في سائر الأقطار على كلمة الله وهدى كتابه وسنة رسوله الكريم
الدكتور محمد يوسف موسى
مذهب قديم:
جاء في (الرسالة) الكريمة (عدد 930) تحت العنوان السابق، أصلا وتعقيبا:
أن القول بأسبقية الشعر على النثر، رأي يقول به الدكتور طه حسين، والأستاذ الزيات؛ وأن المرحومين: السكندري، والعناني، يقولان بعكسه
والخلاف في أسبقية أحد الفنين على الآخر، خلاف قديم؛ وممن ذكره أبو حيان التوحيدي؛ فإنه في (المقالة الخامسة والعشرون) قرر أن النثر أقدم من الشعر؛ وعلل ذلك بقوله. (لأن الشعر صناعي محصور بالأوزان والعروض والقوافي؛ والإنسان لا ينطق في أول حاله، منذ طفولته، إلى أمد مديد، إلا بالنثر. فإن قيل: إن النظم قد سبق العروض بالذوق، والذوق طباعي؛ قيل في الجواب: الذوق، وإن كان طباعيا، فإنه مخدوم الفكر، والفكر مفتاح الصنائع البشرية؛ كما أن الإلهام مستخدم للفكر، والإلهام مفتاح الأمور الإلهية. الخ. راجع ص 130 ج2. من (الإمتاع والمؤانسة)
وقد عرفنا (الرسالة) بأنها خير من يحمل رسالة الحق، في مذاهب الأدب العربي الكريم
أستاذ في الأزهر الشريف